*wed*
*wed*
*wed* *wed* :
اهلا ريما ... :26: ساكمل الايات ... (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً"45") الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يوضح المجهول لنا بما علم لدينا. وأهل البلاغة يقولون: في هذه الآية تشبيه تمثيل؛ لأنه سبحانه شبه حال الدنيا في قصرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل من السماء، فارتوت به الأرض، وأنبتت ألواناً من الزروع والثمار، ولكن سرعان ما يذبل هذا النبات ويصير هشيماً متفتتاً تذهب به الريح. وهكذا الدنيا تبدو جميلة مزهرة مثمرة حلوة نضرة، وفجأة لا تجد في يديك منها شيئاً؛ لذلك سماها القرآن دنيا وهو اسم يوحي بالحقارة، وإلا فأي وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن ما يقابلها حياة عليا. وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: كما ضربت لهم مثل الرجلين وما آل إليه أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلب بأهلها، وتتبدل بهم، واضرب لهم مثلاً للدنيا من واقع الدنيا نفسها. ومعنى {فاختلط به نبات الأرض "45"} أي: اختلط بسببه نبات الأرض، وتداخل بعضه في بعض، وتشابكت أغصانه وفروعه، وهذه صورة النبات في الأرض الخصبة، أما إن كانت الأرض مالحة غير خصبة فإنها تخرج النبات مفرداً، عود هنا وعود هناك. لكن، هل ظل النبات على حال خضرته ونضارته؟ لا، بل سرعان ما جف وتكسر وصار هشيماً تطيح به الريح وتذروه ثم يقول تعالى: {وكان الله على كل شيء مقتدراً "45"} لأنه سبحانه القادر دائماً على إخراج الشيء إلى ضده، فقد اقتدر سبحانه على الإيجاد، واقتدر على الإعدام، فلا تنفك عنه صفة القدرة أبداً، أحيا وأمات، وأعز وأذل، وقبض وبسط، وضر ونفع .. ولما كان الكلام السابق عن صاحب الجنة الذي اغتر ب ماله وولده فناسب الحديث عن المال والولد (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46") تلك هي العناصر الأساسية في فتنة الناس في الدنيا: المال والبنون، لكن لماذا قدم المال؟ أهو أغلى عند الناس من البنين؟ نقول: قدم الحق سبحانه المال على البنين، ليس لأنه أعز أو أغلى؛ إنما لأن المال عام في المخاطب على خلاف البنين، فكل إنسان لديه المال وإن قل، أما البنون فهذه خصوصية، ومن الناس من حرم منها. كما أن البنين لا تأتي إلا بالمال؛ لأنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل وينجب، إذن: كل واحد له مال، وليس لكل واحد بنون، والحكم هنا قضية عامة، وهي: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا .. "46"} كلمة (زينة) أي: ليست من ضروريات الحياة، فهو مجرد شكل وزخرف؛ لأن المؤمن الراضي بما قسم له يعيش حياته سعيداً بدون مال، وبدون أولاد؛ لأن الإنسان قد يشقى بماله، أو يشقى بولده، لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يرزق هذا المال أو هذا الولد. وقد باتت مسألة الإنجاب عقدة مشكلة عند كثير من الناس، فترى الرجل كدراً مهموماً؛ لأنه يريد الولد ليكون له عزوة وعزة، وربما يزرق الولد ويرى الذل على يديه، وكم من المشاكل تثار في البيوت؛ لأن الزوجة لا تنجب. ولو أيقن الناس أن الإيجاد من الله نعمة، وأن السلب من الله أيضاً نعمة لاستراح الجميع <وقد حدد لنا النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، فقال: "من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه ـ أي: لا يهدد أمنه أحد ـ وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"> فما زاد عن ذلك فهو من الزينة، فالإنسان ـ إذن ـ يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد، يعيش بقيم تعطي له الخير، ورضاً يرضيه عن خالقه تعالى. ثم يقول تعالى: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46"} لأن المال والبنين لن يدخلا معك القبر، ولن يمنعاك من العذاب، ولن ينفعك إلا الباقيات الصالحات. <والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أهديت إليه شاة، وكانت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تعرف أن رسول الله يحب من الشاة الكتف؛ لأنه لحم رقيق خفيف؛ لذلك احتفظت لرسول الله بالكتف وتصدقت بالباقي، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال: "ماذا صنعت في الشاة"؟ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: "بل بقيت كلها إلا كتفها"> <وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "هل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت"> {والباقيات .. "46"} مادام قال (والباقيات) فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكن من الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا، ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي يخلدون بها في النار. {والباقيات الصالحات خير .. "46"} خير عند من؟ لأن كل مضاف إليه يأتي على قوة المضاف إليه، فخيرك غير خير من هو أغنى منك، غير خير الحاكم، فما بالك بخير عند الله؟ {خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46"} والأمل: ما يتطلع إليه الإنسان مما لم تكن به حالته، فإن كان عنده خير تطلع إلى أعلى منه، فالأمل الأعلى عند الله تبارك وتعالى، كل هذا يبين لنا أن هذه الدنيا زائلة، وأننا ذاهبون إلى يوم باقٍ؛ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً"47") أي: اذكر جيداً يوم نسير الجبال وتنتهي هذه الدنيا، واعمل الباقيات الصالحات لأننا سنسير الجبال التي تراها ثابتة راسخة تتوارث الأجيال حجمها وجرمها، وقوتها وصلابتها، وهي باقية على حالها. ومعنى تسيير الجبال: إزالتها عن أماكنها ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا، وإلا ففي الأرض أشياء أخرى قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب، والشجر الكبير الضخم المعمر وغيرها كثير. فإذا كان الحق سبحانه سينسف هذه للجبال ويزيلها عن أماكنها، فغيرها مما على وجه الأرض زائل من باب أولى. ثم يقول سبحانه: {وترى الأرض بارزة "47"} (سورة الكهف) الأرض: كل ما أقلك من هذه البسيطة التي نعيش عليها، وكل ما يعلوك ويظلك فهو سماء، ومعنى: (بارزة) البراز: هو الفضاء، أي: وترى الأرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال الجبال والمباني والأشجار، حتى البحر الذي يغطي جزءاً كبيراً من الأرض. كل هذه الأشكال ذهبت لا وجود لها، فكأن الأرض برزت بعد أن كانت مختبئة: بعضها تحت الجبال، وبعضها تحت الأشجار، وبعضها تحت المباني، وبعضها تحت الماء، فأصبحت فضاء واسعاً، ليس فيه معلم لشيء. {وحشرناهم "47"} أي: جمعناهم ليوم الحساب؛ لأنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لدن آدم عليه السلام، والموت يحصد الأرواح، وقد جاء اليوم الذي يجمع فيه هؤلاء. {فلم نغادر منهم أحداً "47"} أي: لم نترك منهم واحداً، الكل معرض على الله، وكلمة (نغادر) ومادة (غدر) تؤدي جميعها معنى الترك، فالغدر مثلاً ترك الوفاء وخيانة الأمانة، حتى غدير وهو جدول الماء الصغير سمي غديراً؛ لأن المطر حينما ينزل على الأرض يذهب ويترك شيئاً قليلاً في المواطئ. (وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً"48") العرض: أن يستقبل العارض المعروض استقبالاً منظماً يدل على كل هيئاته، كما يستعرض القائد الجنود في العرض العسكري مثلاً، فيرى كل واحد من جنوده (صفاً) أي: صفوفاً منتظمة، حتى الملائكة تأتي صفوفاً، أي: أنها عملية منظمة لا يستطيع فيها أحد التخفي، ولن يكون لأحد منها مفر، وهي صفوف متداخلة بطريقة لا يخفي فيها صف الصف الذي يليه، فالجميع واضح بكل أحواله. ثم يقول تعالى: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرةٍ "48"} (سورة الكهف) أي: على الحال التي نزلت عليها من بطن أمك عرياناً، لا تملك شيئاً حتى ما يستر عورتك وقوله تعالى: {بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً "48"} (سورة الكهف) والخطاب هنا موجه للكفار الذين أنكروا البعث والحساب (زعمتم) والزعم مطية الكذب. (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحداً"49") قوله تعالى: {ووضع الكتاب "49"} أي: وضعته الملائكة بأمر من الله تعالى، فيعطون كل واحد كتابه، فهي ـ إذن ـ صور متعددة، فمن أخذ كتابه بيمينه فرح وقال: {هاؤم اقرءوا كتابيه "19"} (سورة الحاقة) يعرضه على ناس، وهو فخور بما فيه؛ لأنه كتاب مشرف ليس فيه ما يخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته وهذا بخلاف من أوتي كتابه بشماله فإنه يقول: {يا ليتني لم أوت كتابيه "25" ولم أدر ما حسابيه "26" يا ليتها كانت القاضية "27" ما أغنى عني ماليه "28" هلك عني سلطانيه "29"} (سورة الحاقة) إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مخجلة. {فترى المجرمين مشفقين مما فيه "49"} أي: خائفين يرتعدون، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه ليفزع عباده ويحذرهم ويضخم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده. فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته، ثم يأتي نزوع القول: {ويقولون يا ويلتنا "49"} يا: أداة للنداء، كأنهم يقولون: يا حسرتنا يا هلاكنا، هذا أوانك فاحضري. قوله تعالى: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها "49"} أي: لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدها وحسبها. {ووجدوا ما عملوا حاضرا "49"} فكل ما فعلوه مسجل مسطر في كتبهم {ولا يظلم ربك أحداً "49"} لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه. (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً"50") تكررت قصة سجود الملائكة لآدم ـ عليه السلام ـ كثيراً في القرآن الكريم، وفي كل مرة تعطينا الآيات لقطة معينة، والحق سبحانه في هذه الآية يقول لنا: يجب عليكم أن تذكروا جيداً عداوة إبليس لأبيكم آدم، وتذكروا جيداً أنه أخذ العهد على نفسه أمام الله تعالى أن يغويكم أجمعين، فكان يجب عليكم أن تتنبهوا لهذا العداوة، فإذا حدثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم. والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يحذرنا من إبليس فإنه يربي فينا المناعة التي نقاومه بها، والمناعة أن تأتي بالشيء الذي يضر مستقبلاً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب خامد، وهذا هو التطعيم الذي يعود الجسم على مدافعة المرض وتغلب عليه إذا أصابه. فانتبهوا مادمنا سنسير الجبال، ونسوي الأرض، ونحصر لكل كتابه، فاحذروا أن تقفوا موقفاً حرجاً يوم القيامة، ثم تفاجأوا بكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وهاأنا أذكركم من الآن في وقت السعة والتدارك، فحاولوا التوبة إلى الله، وأن تصلحوا ما بينكم وبين ربكم. والأمر هنا جاء للملائكة: {وإذ قلنا للملائكة .. "50"} لأنهم أشرف المخلوقات، حيث لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وحين يأمر الله تعالى الملائكة الذين هذه صفاتهم بالسجود لآدم، فهذا يعني الخضوع، وأن هذا هو الخليفة الذي آمركم أن تكونوا في خدمته. لذلك سماهم: المدبرات أمراً، وقال تعالى عنهم: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله .. "11"} (سورة الرعد) فكأن مهمة هؤلاء الملائكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم. فإذا كان الحق سبحانه قد جند هؤلاء الملائكة وهم أشرف المخلوقات لخدمة الإنسان، وأمرهم بالسجود له إعلاناً للخضوع للإنسان، فمن باب أولى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه، وأن يجعله في خدمته، إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على من دونهم. وقلنا: إن العلماء اختلفوا كثيراً على ماهية إبليس: أهو من الجن أم من الملائكة، وقد قطعت هذه الآية هذا الخلاف وحسمته، فقال تعالى: {إلا إبليس كان من الجن .. "50"} وطالما جاء القرآن بالنص الصريح الذي يوضح جنسيته، فليس لأحد أن يقول: إنه من الملائكة. ومادام كان من الجن، وهم جنس مختار في أن يفعل أو لا يفعل، فقد اختار ألا يفعل: {ففسق عن أمر ربه .. "50"} أي: رجع إلى أصله، وخرج عن الأمر. وقوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو .. "50"} فهذا أمر عجيب، فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه ولياً من دون الله الذي خلقكم ورزقكم، فكان أولى بهذه الولاية. {وذريته .. "50"} تدل على تناسل إبليس، وأن له أولاداً، وأنهم يتزاوجون، ويمكن أن نقول: ذريته: كل من كان على طريقته في الضلال والإغواء، ولو كان من الإنس {بئس للظالمين بدلاً "50"} أي: بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أن يسجد لأبيكم ولياً، وتتركوا ولاية الله الذي أمر الملائكة أن تسجد لأبيكم.
اهلا ريما ... :26: ساكمل الايات ... (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء...


(ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً"51")

إن هذا الشيطان الذي وليتموه من دون الله، وأعطيتموه الميزة، واستمعتم إليه ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض مجرد المشاهدة، لم يحضروها لأن خلق السماوات والأرض كان قبل خلقهم، وكذلك ما شهدوا خلق أنفسهم؛ لأنهم ساعة خلقتهم لم يكونوا موجودين، إنهم لم يشهدوا شيئاً من ذلك لكي يخبروكم.

{وما كنت متخذ المضلين عضداً "51"}
أي: مساعدين ومعاونين ومساندين، فما أشهدتهم الخلق وما عاونوني فيه.
والعضد: هو القوة التي تسعفك وتسندك، وهو مأخوذ من عضد الإنسان، حيث يزاول أغلب أعماله بيده، وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من الأعضاء قبضاً وبسطاً واتجاهاً يميناً وشمالاً، وأعلى وأسفل، وكل هذه الحركات لابد لها من منظم أو موتور هو العضد، وفي حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آيات عظمى تدل على دقة الصنعة.
وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من الآلات الحديثة، تجد سائق البلدوزر مثلاً يقوم بعدة حركات لكي يحرك هذه الآلة، أما أنت فتحرك يدك كما شئت دون أن تعرف ماذا يحدث؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تفكر فيها دون جهد منك أو تدبير؟
فكل أجزائك مسخرة لإرادتك، فإن أردت القيام مثلاً قمت على الفور؛ لذلك إياك أن تظن أنك خلق ميكانيكي، بل أنت صنعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا الآلات، بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن يوقف جزءاً منك أمر المخ أن يقطع صلته به، فيحدث الشلل التام، ولا تستطيع أنت دفعه أو إصلاحه.

***********

(ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً"52")

يعني: واذكر يا محمد، ولتذكر معك أمتك هذا اليوم:
{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم .. "52"}
يقول الحق سبحانه للكفار: ادعوا شركائي الذين اتخذتموهم من دوني. وزعمتم: أي: كذبتم في ادعائكم أنهم آلهة
{فدعوهم فلم يستجيبوا لهم .. "52"}
وهذا ما سماجتهم وتبجحهم وسوء أدبهم مع الحق سبحانه، فكان عليهم أن يخجلوا من الله، ويعودوا إلى الحق، ويعترفوا بما كذبوه، لكنهم تمادوا
{فدعوهم .. "52"}
ويجوز أن من الشركاء أناساً دون التكليف، وأناساً فوق التكليف، فمثلاً منهم من قالوا: عيسى. ومنهم من قالوا: العزيز، وهذا باطل، وهل استجابوا لهم؟
ومنهم من اتخذوا آلهة أخرى، كالشمس والقمر والأصنام وغيرها، ومنهم من عبد ناساً مثلهم وأطاعوهم، وهؤلاء كانوا موجودين معهم، ويصح أنهم دعوهم ونادوهم: تعالوا، جادلوا عنا، وأخرجونا مما نحن فيه، لقد عبدناكم وكنا طوع أمركم، كما قال تعالى عنهم:
{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .. "3"}
(سورة الزمر)
ولكن، أني لهم ما يريدون؟ فقد تقطعت بينهم الصلات، وانقطعت حجتهم

{فلم يستجيبوا لهم .. "52"}
ثم جعل الحق سبحانه بين الداعي والمدعو وادياً سحيقا:

{وجعلنا بينهم موبقاً .. "52"}
والموبق: المكان الذي يحصل فيه الهلاك، وهو واد من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، أو: أن بين الداعي والمدعو مكاناً مهلكاً، فلا الداعي يستطيع أن يلوذ بالمدعو، ولا المدعو يستطيع أن ينتصر للداعي ويسعفه، لأن بينهم منبع هلاك.

*********

(ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً"53")
رأى: الرؤية: وقوع البصر على المرئي، والرؤية هنا ممن سيعذب في النار، وقد تكون الرؤية من النار التي ستعذبهم؛ لأنها تراهم وتنتظرهم وتناديهم، كما قال تعالى:

{يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيدٍ "30"}
(سورة ق)

أي: هاأنا ذا أنتظرهم ومستعدة لملاقاتهم؟
والمجرمون: الذين ارتكبوا الجرائم، وعلى رأسها الكفر بالله. إذن: فالرؤية هنا متبادلة: المعذب والمعذب، كلاهما يرى الآخر ويعرفه. وقوله تعالى:

{فظنوا أنهم مواقعوها .. "53"}
الظن هنا يراد منه اليقين. أي: أيقنوا أنهم واقعون فيها،

{ولم يجدوا عنها مصرفاً "53"}
أي: في حين أن بينهما موبقاً، وأيضاً لا يجدون مفراً يفرون منه، أو ملجأ يلجئون إليه، أو مكاناً ينصرفون إليه بعيداً عن النار، فالموبق موجود، والمصرف مفقود.

*********

(ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً"54")

سبق أن تكلمنا عن تصريف الآيات، وقلنا: إن التصريف معناه تحويل الشيء إلى أشياء متعددة، كما يصرف الله الرياح مثلاً، فلا تأتي من ناحية واحدة، بل تأتي مرة من هنا، ومرة من هناك، كذلك صرف الله الأمثال. أي: أتى بأحوال متعددة وصور شتى منها.
والحق سبحانه يضرب الأمثال كأنه يقرع بها آذان الناس لأمر قد يكون غائباً عنهم، فيمثله بأمر واضح لهم محس ليتفهموه تفهماً دقيقاً.
ومادام أن الحق سبحانه صرف في هذا القرآن من كل مثل، فلا عذر لمن لم يفهم، فالقرآن قد جاء على وجوه شتى ليعلم الناس على اختلاف أفهامهم ومواهبهم؛ لذلك ترى الأمي يسمعه فيأخذ منه على قدر فهمه، والنصف مثقف يسمعه فيأخذ منه على قدر ثقافته، والعالم الكبير يأخذ منه على قدر علمه ويجد فيه بغيته، بل وأكثر من ذلك، فالمتخصص في أي علم من العلوم يجد في كتاب الله أدق التفاصيل؛ لأن الحق سبحانه بين فيه كل شيء.


ثم يقول تعالى:
{وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً "54"}
أي: كثير الخصومة والتنازع في الرأي، والجدل: هو المحاورة ومحاولة كل طرف أن يثبت صدق مذهبه وكلامه، والجدل إما أن يكون بالباطل لتثبيت حجة الأهواء وتراوغ لتبرر مذهبك ولو خطأ، وهذا هو الجدل المعيب القائم على الأهواء. وإما أن يكون الجدل بالحق وهو الجدل البناء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة، وهذا بعيد كل البعد عن التحيز للهوى أو الأغراض.

{وجادلهم بالتي هي أحسن .. "125"}
والنبي صلى الله عليه وسلم لما مر على علي وفاطمة ـ رضي الله عنهما ـ ليوقظهما لصلاة الفجر، وطرق عليهما الباب مرة بعد أخرى، ويبدو أنها كانا مستغرقين في نوم عميق، فنادى عليهما صلى الله عليه وسلم "ألا تصلون؟" فرد الإمام علي قائلاً: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله، إن شاء أطلقها وإن شاء أمسكها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
{وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً "54"}
لأن الإنسان له أهواء متعددة وخواطر متباينة، ويحاول أن يدلل على صحة أهوائه وخواطره بالحجة، فيقارع الحق ويغالط ويراوغ ولو دققت في رأيه لوجدت له هوى يسعى إليه ويميل إلى تحقيقه، وترى ذلك واضحاً إذا اخترت أحد الطرق تسلكه أنت وصاحبك مثلاً لأنه أسهلها وأقربها، فإذا به يقترح عليك طريقاً آخر، ويحاول إقناعك به بكل السبل، والحقيقة أن له غرضاً في نفسه وهوى يريد الوصول إليه.

*********

(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً"55")

ما الذي منعهم أن يؤمنوا بعد أن أنزل عليهم القرآن، وصرفنا فيه من الآيات والأمثال، بعد أن جاءهم مطابقاً لكل الأحوال؟

والحق سبحانه وتعالى حينما يأتي بآية طلبها القوم، ثم لم يؤمنوا بها يهلكهم؛ لذلك قال بعدها:

{إلا أن يأتيهم سنة الأولين .. "55"}

فهذه هي الآية التي تنتظرهم: أن تأتيهم سنة الله في إهلاك من كذب الرسل.
فقبل الإسلام، كانت السماء هي التي تتدخل لنصرة العقيدة، فكانت تدك عليهم قراهم ومساكنهم، فالرسول عليه الدعوة والبلاغ، ولم يكن من مهمته دعوة الناس إلى الحرب والجهاد في سبيل نشر دعوته، إلا أمة محمد فقد أمنها على أن تحمل السيف لتؤدب الخارجين عن طاعة الله. وقوله تعالى:

{ويستغفروا ربهم .. "55"}
أي: على ما فات من المهاترات والتعنتات والاستكبار على قبول الحق

{إلا أن يأتيهم سنة الأولين .. "55"}
أي: بهلاك المكذبين

{أو يأتيهم العذاب قبلاً "55"}
أي مقابلاً لهم، وعياناً أمامهم، أو (قبلاً) جمع قبيل، وهي ألوان متعددة من العذاب


*********

(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً"56")

قلنا: إن الجدل قد يكون بالحق، وقد يكون بالباطل كما يفعل الذين كفروا هنا، فيجادلون بالباطل ويستخدمون كل الحيل لدحض الحق أي: ليعطلوه ويزيلوه

{واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً "56"}
أي: الآيات الكونية التي جاءت لتصديق الرسل، وكذلك آيات القرآن، وآيات الأحكام اتخذوها سخرية واستهزاءً، ولم يعبأوا بما فيها من نذارة.

**********

(ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبداً"57")

{ومن أظلم .. "57"}
جاء الخبر على صورة الاستفهام لتأكيد الكلام، كأن يدعي صاحبك أنك لم تصله، ولم تصنع معه معروفاً، فمن الممكن أن تقول له: صنعت معك كذا وكذا على سبيل الخبر منك، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.
إنما لو عرضت المسألة على سبيل الاستفهام فقلت له: ألم أصنع معك كذا؟ فسوف تجتذب منه الإقرار بذلك، وتقيم عليه الحجة من كلامه هو، وأنت لا تستفهم عن شيء من خصم إلا وأنت واثق أن جوابه لا يكون إلا بما تحب. وهكذا أخرج الحق سبحانه الخبر إلى الاستفهام:

{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه .. "57"}
وترك لنا الجواب لنقول نحن: لا أحد أظلم ممن فعل ذلك، والإقرار سيد الأدلة. وقوله

{فأعرض عنها .. "57"}
تركها

{ونسى ما قدمت يداه .. "57"}
نسى السيئات، وكان من الواجب أن ينتبه إلى هذه الآيات فيؤمن بها، فعل الله يتوب عليه بإيمانه، فيبدل سيئاته حسنات. ثم يقول تعالى:

{إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه .. "57"}
أكنة: أغطية جمع كن، فجعل الله على قلوبهم أغطية، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر، وليس هذا اضطهاداً منه تعالى لعباده، تعالى الله عن ذلك، بل استجابة لما طلبوا وتلبية لما أحبوا، فلما أحبوا الكفر وانشرحت به صدورهم زادهم منه؛ لأنه رب يعطي عبده ما يريد.

{أن يفقهوه .. "57"}
أي: يفهموه، يفهموا آيات الله؛ لأنهم سبق أن ذكروا بها فأعرضوا عنها، فحرمهم الله فقهها وفهمها. وقوله تعالى:

{وفي آذانهم وقراً .. "57"}
أي: صمم فلا يسمعون

{وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً "57"}
وهذا أمر طبيعي، بعد أن ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم، وسد عليهم منافذ العلم والهداية؛ لأن الهدى ناشئ من أن تسمع كلمة الحق، فيستقبلها قلبك بالرضا، فتنفعل لها جوارحك بالالتزام، فتسمع بالأذن، وتقبل بالقلب، وتنفعل بالجوارح طاعة والتزاماً بما أمرت به.
ومادام في الأذن وقر وصمم فلن تسمع، وإن سمعت شيئاً أنكره القلب، والجوارح لا تنفعل إلا بما شحن به القلب من عقائد.

********

(وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً"58")
فمن رحمة الله بالكفار أنه لم يعاجلهم بعذاب يستأصلهم، بل أمهلهم وتركهم؛ لأن لهم موعداً لن يهربوا منه، ولن يفلتوا، ولن يكون لهم ملجأ يحميهم منه، ولاشك أن في إمهالهم في الدنيا حكمة لله بالغة، ولعل الله يخرج من ظهور هؤلاء من يؤمن به، ومن يحمل راية الدين ويدافع عنه، وقد حدث هذا كثيراً في تاريخ الإسلام، فمن ظهر أبي جهل جاء عكرمة، وأمهل الله خالد بن الوليد، فكان أعظم قائد في الإسلام.

**********

(وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً"59")
تلك: أداة إشارة لمؤنث هي القرى، والكاف للخطاب، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته منضوية في خطابه؛ لأن خطاب الرسول خطاب لأمته. لكن الإشارة لا تكون إلا لشيء معلوم موجود محس،

فأين هذه القرى؟ وهل كان لها وجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
نعم، كان لهذه القرى آثار وأطلال تدل عليها ويراها النبي صلى الله عليه وسلم ويراها الناس في رحلاتهم إلى الشام وغيرها مثل: قرى ثمود قوم صالح، وقرى قوم لوط، وقد قال تعالى عنها:

{وإنكم لتمرون عليهم مصبحين "137" وبالليل أفلا تعقلون "138"}
(سورة الصافات)

إذن: فتلك إشارة إلى موجود محس دال بما تبقى منه على ما حاق بهذه القرى من عذاب الله، وما حل بها من بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين.
وكلمة (القرى) جمع قرية، وتطلق على المكان الذي تتوفر فيه مقومات الحياة وضرورياتها، بل بها ما يزيد على الضروريات ومقومات الحياة العادية؛ لأن القرية لا تطلق إلا على مكان تتسع فيه مقومات الحياة اتساعاً يكفي لمن يطرأ عليها من الضيوف فيجد بها قرى. فإن كانت قرية كبيرة يأتيها الرزق الوفير من كل مكان كأنها أم، نسميها (أم القرى).



في الايات السابقة اقتصرت على تفسير الشعراوي دون تفسير القرطبي (حاسة اني زودتها في بداية التفسير :22: )



وباذن الله في الردود الأتية سوف نتكلم عن قصة موسى مع الخضر ثم ذي القرنين ونختم السورة :09:
~*¤®§(*§ ام ريما§*)§®¤*~
الله يعطيك العافيه ما قصرتي علي الموضوع المفيد والمرتب
الله يجعله في موازين اعمالك يوم لاينفع مال ولا بنون..
:)
ام محمد الغوطي
اختي في الله wed

الله يجزيك الخير

والله موضوعك مفيد كتير وانا قراته كله وانا بستنى باقي تفسير السورة
الله يعطيك العافية وان شاء الله ما تطولي علينا

انا استفدت كتي وفي كتير معاني ما كنت عارفاها
وافضل شئ ان نقرا القران ونحن فاهمين معانية فيرسخ في عقولنا اكتر

ونحن بانتضارك

السلام عليكم
*wed*
*wed*
اهلا وسهلا ام محمد وعذرا اختي على تأخري

فــ الذي يجعلني على فترات انزل التفسير

انني انشغلت ومحرجة جدا ممن يتابعني

وايضاً حتى لايضيع مجهودي باذن الله فأستطيع بالردود الجديدة رفعه لان المشاركات قليلة واريد من يقرأ فقط حتى اكسب الاجر باذن الله

ووالله فرحت بتواجدك كفرحتي بمتابعة ام ريما الرائعة جدا

انتظري قليلا وسأنزل قصة الخضر العجيبة
*wed*
*wed*
*wed* *wed* :
اهلا وسهلا ام محمد وعذرا اختي على تأخري فــ الذي يجعلني على فترات انزل التفسير انني انشغلت ومحرجة جدا ممن يتابعني وايضاً حتى لايضيع مجهودي باذن الله فأستطيع بالردود الجديدة رفعه لان المشاركات قليلة واريد من يقرأ فقط حتى اكسب الاجر باذن الله ووالله فرحت بتواجدك كفرحتي بمتابعة ام ريما الرائعة جدا انتظري قليلا وسأنزل قصة الخضر العجيبة
اهلا وسهلا ام محمد وعذرا اختي على تأخري فــ الذي يجعلني على فترات انزل التفسير انني انشغلت...
(وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً"60")

قوله تعالى:

{وإذ قال موسى لفتاه .. "60"}
أي: اذكر يا محمد وقت أن قال موسى لفتاه، وفتى موسى هو خادمه يوشع ابن نون، وكان من نسل يوسف ـ عليه السلام ـ وكان يتبعه ويخدمه ليتعلم منه.

{لا أبرح حتى أبلغ مبلغ البحرين .. "60"}
لكن، ما حكاية موسى مع فتاه؟ وما مناسبتها للكلام هنا؟
مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء، فأرادوا رأيهم في محمد: أهو محق أم لا؟ فقال اليهود لوفد مكة: اسألوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم فهو نبي: اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر، والرجل الطواف الذي طاف البلاد، وعن الروح، فما كان منهم إلا أن سألوا رسول الله هذه الأسئلة، فقال لهم: "في الغد أجيبكم".
إذن: إجابة هذه الأسئلة ليست عنده، وهذه تحسب له لا عليه، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يضرب الكلام هكذا دون علم لأجابهم، لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من الله تعالى، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه.
ومرت خمسة عشر يوماً دون أن يوحي لرسول الله في ذلك شيء، حتى شق الأمر عليه، وفرح الكفار والمنافقون؛ لأنهم وجدوا على رسول الله مأخذاً فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول الله، إنما أدب الله لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول الله لن يتكلم في هذه المسألة إلا بوحي من الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يصدر عن رأيه.
ولو كان لهؤلاء القوم عقول لفهموا أن البطء في هذه المسألة دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لترد على مهاترات القوم، وتبين لهم أن النبي لا يعلم كل شيء، وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء؟ وهل يقدح في مكانته أنه لا يعرف مسألة ما؟
جاءت هذه الآيات لتقول لليهود ومن لف لفهم من كفار مكة: أنتم متعصبون لموسى وللتوراة ولليهودية، وهاهو موسى يتعلم ليس من الله، بل يتعلم من عبد مثله، ويسير تابعاً له طلباً للعلم. جاءت الآيات لتقول لهم: يا من لقنتم كفار مكة هذه الأسئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ عليه الوحي، اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمداً لا يقول شيئاً من عند نفسه، فكان من الواجب أن تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته، وما هو على الغيب بضنين.
وسبب قصة موسى عليه السلام ـ يقال: إنه سأل الله ـ وكان له دلال على ربه:

{رب أرني أنظر إليك .. "143"}
(سورة الأعراف)
والذي أطمعه في هذا المطلب أن الله كلمه:
{وما تلك بيمينك يا موسى "17"}
(سورة طه)
فأطال موسى الكلام مع ربه، ومن الذي يكلمه الله ولا يطيل أمد الأنس بكلام الله؟ لذلك قال موسى:
{قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى "18"}
(سورة طه)
وهكذا أطال موسى مدة الأنس بالله والحديث معه سبحانه، لذلك سأله: يا رب، أيوجد في الأرض أعلم مني؟ فأجابه ربه تبارك وتعالى: نعم في الأرض من هو أعلم منك، فاذهب إلى مجمع البحرين، وهناك ستجد عبداً من عبيدي هو أعلم منك، فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مجمع البحرين.
وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى ـ عليه السلام ـ خطب مرة فسئل: من أعلم؟ فقال: أنا ـ يعني من البشر، فأخبره الله تعالى: لا بل في الأرض من هو أعلم منك من البشر حتى لا يغتر موسى ـ عليه السلام ـ بما أعلمه الله.

ثم يقول تعالى:
{لا أبرح حتى أبلغ مبلغ البحرين .. "60"}
لا أبرح: أي لا أترك، والبعض يظن أن لا أبرح تعني: لا أترك مكاني الذي أنا فيه، لكنها تعني: لا أترك ما أنا بصدده، فإن كنت قاعداً لا أترك القعود، وإن كنت ماشياً لا أترك المشي، وقد قال موسى ـ عليه السلام ـ هذا القول وهو يبتغي بين البحرين، ويسير متجهاً إليه، فيكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين.
وقد وردت مادة (برح) في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام:
{فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي .. "80"}
(سورة يوسف)
قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب معهم، فهنا استحى الأخ الأكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أن يأتوا به ويعيدوه إليه.


و"مجمع البحرين" أي: موضع التقائهما، حيث يصيران بحراً واحداً، كما يلتقي مثلاً دجلة والفرات في شط العرب. وقوله:
{أو أمضي حقباً "60"}
الحقب: جمع حقبة، وهي الفترة الطويلة من الزمن، وقد قدروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة، فإذا كان أقل الجمع ثلاثة، فمعنى ذلك أن يسير موسى ـ عليه السلام ـ مائتين وعشرة سنين، على اعتبار أن الحقبة سبعون سنة.
ويكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان ولو سرت مائتين وعشرة سنين؛ لأن موسى عليه السلام كان مشوقاً إلى رؤية هذا الرجل الأعلم منه، كيف وهو النبي الرسول الذي أوحي الله إليه؛ لذلك أخبره ربه أن علم هذا الرجل علم من لدنا، علم من الله لا من البشر.



(فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً"61")

(بلغا) أي: موسى وفتاه (مجمع بينهما) أي: مجمع البحرين (نسيا حوتهما) أي: حدث النسيان منهما معاً، وإن كان حمل الحوت منوطاً بفتى موسى وقد نسيه، فكان على موسى أن يذكره به، فرئيس القوم لابد أن يتنبه لكل جزئية من جزئيات الركب، وكانت العادة أن يكون هو آخر المبارحين للمكان ليتفقده وينظر لعل واحداً نسى شيئاً، إذن: كان على موسى أن يعقب ساعة قيامهم لمتابعة السير، ويذكر فتاه بما معهم من لوازم الرحلة.
والحوت: نوع من السمك معروف، وفي بعض البلاد يطلقون على كل سمك حوتاً، وقد أعدوه للأكل إذا جاعوا أثناء السير، وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل. وقوله تعالى:

{فاتخذ سبيله في البحر سرباً "60"}
خرج الحوت المشوي من المكتل، وتسرب نحو البحر، والسرب: مثل النفق أو السرداب، أو هو المنحدر، كما نقول: تسرب الماء من القربة مثلاً؛ ذلك لأن مستوى الماء في القربة أعلى فيتسرب منها، وهذه من عجائب الآيات أن يقفز الحوت المشوي، وتعود له الحياة، ويتوجه نحو البحر؛ لأنه يعلم أن الماء مسكنه ومكانه.



(فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً"62") أي: جاوزا في سيرهما مجمع البحرين ومكان الموعد، قال موسى ـ عليه السلام ـ لفتاه: أحضر لنا الغداء فقد تعبنا من السفر، والنصب: هو التعب.
فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين، ثم استراحا، فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما الإرهاق والتعب؛ لذلك طلب موسى الطعام. وهنا تذكر الفتى ما كان من نسيان الحوت


(قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً"63")

هذا كلام فتى موسى: أرأيت: أخبرني إذ لجأنا إلى الصخرة عند مجمع البحرين لنستريح

{فإني نسيت الحوت .. "63"}
ونلحظ أنه قال هنا (نسيت) وقال في الآية السابقة

{نسيا .. "61"}
ذلك لأن الأولى إخبار من الله، والثانية كلام فتى موسى. فكلام الله تبارك وتعالى يدلنا على أن رئيساً متبوعاً لا يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لأن تابعه قد لا يهمه أمر المسير في شيء، وقد ينشغل ذهنه بأشياء أخرى تنسيه ما هو منوط به من أمر الرحلة.
ثم يعتذر الفتى عما بدر منه من نسيان الحوت، ويقول:

{وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره .. "63"}
فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه، وأنساه ذكر الحوت. وقوله تعالى:

{واتخذ سبيله في البحر عجباً "63"}
أي: اتخذ الحوت طريقه في البحر عجباً، في الآية السابقة قال:

{سرباً "61"}
وهذه حال الحوت، وهنا يقول (عجباً) لأنه يحكي ما حدث ويتعجب منه، وكيف أن الحوت المشوي تدب فيه الحياة حتى يقفز في المكتل، ويتجه صوب الماء، فهذا حقاً عجيبة من العجائب؛ لأنها خرجت من المألوف.



(قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً"64")

أي: قال موسى ـ عليه السلام
{ذلك ما كنا نبغ .. "64"}
أي: نطلب، فهذا المكان الذي فقد فيه الحوت هو المكان المراد، فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى، وهكذا عرف عنوان المكان، وهو مجمع البحرين، حتى يلتقي البحران فيصيران بحراً واحداً.
وهذه الصورة لا توجد إلا في مسرح بني إسرائيل في سيناء. وهناك خليج العقبة وخليج السويس، ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد. ثم يقول تعالى:

{فارتدا على آثارهما قصصاً "64"}
أي: عادا على أثر الأقدام كما يفعل قصاصو الأثر، ومعنى:

{قصصاً "64"}
أي: بدقة إلى أن وصلا إلى المكان الذي تسرب فيه الحوت، وهو الموعد الذي ضربه الله تعالى لموسى ـ عليه السلام حيث سيجد هناك العبد الصالح.

>>>>>>>>>>>