
أم عبور
•
موفقه


الجزء الثالث
الفصل الأخير
ابتسمت منى ابتسامة ماكرة .. وهي تبادل النظرات بين فرح وبين الجوال .. الذي كان يصدر رنينه .. وكأنها أجراس الشياطين .. أما فرح .. فقد أحست أنها تكره نفسها .. وتكره اليوم الذي أخرجت فيه جوالاً .. كم تتمنى .. أن تختفي الآن .. أن تكون بعيداً عن منى وعن نظراتها التي كانت تخترق قلبها .. كأنها سكاكين ومناجل ..
ولما هدأ الرنين وتوقف .. ران صمت رهيب .. بين الأختين ..
أغمضت منى عينيها .. وابتسمت .. ثم تقدمت نحو فرح .. ومدت يدها إليها بالجوال .. جمعت فرح ما استطاعت من قوة .. وحاولت أن تتكلم .. ولكن منى قالت لها وهي ترفع خصلة سقطت عن شعرها : لا داعي للكلام ..
ولكن فرح .. التي احمر وجهها وراح العرق يتفصد من جبينها قالت : لا .. إنه ليس كما تظنين .. إنه ..
راحت منى تنظر فيها .. وهي تريد أن تسمع .. وكانت فرح من شدة توترها لا تعرف ماذا تقول .. وراح جسدها يرجف .. وأنفاسها تزداد .. وحالتها النفسية في غاية السوء .. ولكنها راحت تتكلم .. وتشرح .. بقدر ما تستطيع .. أخبر منى .. عن عبير .. وعن علاقتها .. أخبرتها عن سعود الذي يود أن يتعرف بها .. أخبرتها بكل شيء ..
كانت منى صامتة طول هذا الوقت .. وبعد أن انتهت فرح من الكلام .. كانت الدموع تتجمع في عينيها .. ختمت على كلماتها بالصدق .. الكل يعرف فرح .. ويعرف أنها فتاة طيبة .. هادئة .. ليست من هذا الصنف من البشر .. ولذلك كان قلب منى مؤكداً على صدق فرح .. ولكنها قالت : فرح .. أنا لم ألمك .. لقد قلت لك .. بأنه لا داعي للكلام .. فأنت كبيرة الآن .. وتستطيعين .. أن تختاري ما تريدين في حياتك ..
ضاقت عينا فرح من وراء النظارة الطبية .. وراحت تحدق في عيني منى التي كانت تبرقان .. كانت تنظر فيها وكأنها تستفهم .. عما تريد منى أن تقوله ..
ربتت منى على بطنها ثم أشاحت بالنظر بعيداً .. وقالت : فرح .. لا أريدك .. أن تفهميني بشكل خاطئ .. ولكن ..
ثم راحت تطالع فيها بقوة وتقول : أنا متزوجة الآن يا فرح .. منذ حوالي خمس سنوات ..
خمس سنوات يا فرح .. ولكن لم يكن هناك شيء يعني كثيرا .. صحيح أن "ياسر" زوجي يحبني .. ولكن .. أحس أحياناً أن هذا الحب لا يكفي ..
راحت فرح تحدق في منى التي كانت تتكلم بعين مذهولة .. وهي تستمع لأول مرة هذه الاعترافات .. ولكن منى أكملت وقالت بعين حزينة : كنت أتمنى أن يحبني شخص ما بجنون .. كنت أتمنى .. أن تكون لي قصة حب غير عادية .. كنت أريد أن أشعر بحنان واشتياق ..
فقالت فرح : ألا تحبينه ؟
فقالت منى : لا .. إنه ليس كذلك .. إني أحبه .. ولكن .. أحس أن هذا الحب .. هو نوع من الامتنان .. لأنه أول رجل في حياتي ..
ثم ابتسمت في وجه فرح .. وهي تحرك الخصلة التي سقطت مجدداً وهي تقول : لم أكن جميلة للغاية .. ولم أصادق أحداً .. ولكني الآن ربما أقول .. ليتني تعرفت على أحد .. ليتني عرفت ما هو الحب الحقيقي .. ليتني أحسست بلوعاته .. وحرقاته .. وسهرت الليل .. لأني لم أشعر بهذا حقاً .. كما سمعت عن الحب ..
كانت فرح لا تصدق منى وهي تتكلم .. كانت تنظر فيها .. وتكاد تجن .. إذاً .. ما معنى هذا الكلام ؟!
توقفت منى عن الكلام وقالت : سأتركك الآن ..
ولكن فرح قالت لها : منى .. لحظة ..
وراح جسد فرح يرتجف .. إن مثل هذه الكلمات .. قد زلزلت كيانها من أساساته .. إن هذه الكلمات .. تكاد تغير نظرتها في الحياة .. ومفهومها الذي تربت عليه .. وفكرها الذي كانت تعتنق ..
أحست أنها كانت حبيسة لأفكارها الغريبة .. أحست أن ما تشربته من والدتها .. ومن المجتمع .. كان مجرد غثاء لا فائدة منه .. فهذه منى التي تكلمها .. أختها الكبيرة .. لا يمكن .. ما الذي يحصل بالضبط ؟
فقالت منى : لا تشغلي بالك بكلامي ..
ثم صرخت منى وأمسكت بطنها بقوة وقالت : أيها الشقي ..
ثم ابتسمت مرة أخرى .. وهي تنظر لفرح وتقول : ربما هذا هو السبب الذي يحبني من أجله ياسر .. هذا الطفل .. لقد كانت أمنيته الكبرى .. حلمه الأوحد في الحياة .. أن يكون له ابن .. ولقد حققت له هذه الأمنية والحمد لله ..
ثم كشفت عن بطنها وراحت تتحسس .. ثم التفتت إلى فرح التي كانت تنظر في بلاهة نحو منى .. وقالت : تعالي ضعي يدك هنا .. وتحسسي يده .. وضعت فرح يدها على بطن منى .. ثم ابتسمت وقالت : يا الله .. حلو ..
وبعد قليل .. اختفى إحساسها باليد ..
غطت منى بطنها .. ونهضت وهي تمسك ظهرها وتقول لولدها : ستخرج .. لا تتعجل .. كلها شهر ونصف على الأكثر وتخرج .. وترى العالم ..
ثم أخذت تضحك ..
كانت فرح لا تزال في غيبوبة فكرية وهي تفكر في هذا الكلام الذي كانت منى تقوله .. لقد أصابتها في مقتل حقاً ..
"فرح " .. التففت فرح إلى منى .. التي قالت : استمعي إلى صوت قلبك .. وانظري إلى أين يقودك ..
ثم خرجت من الغرفة ..
وهنا بدأت فرح في التوغل في أعماق الفكر .. في صراع نفسي غير عادي .. في معركة .. بين ما تربت عليه .. وبين ما أتاها من أخبار جديدة عن الحياة الحقيقية .. عن الواقع .. وعن التجارب التي لابد أن تصدقها .. لأنها من واقع التجربة ..
معقولة ! .. ألا يوجد حب بعد الزواج .. ؟ أيعقل أن يكون الحب قبل الزواج فقط ؟ ولكن .. لا يمكن .. هذا ليس ما أعرفه ..
ولكن هذه منى التي تقول هذا الكلام .. أمن المعقول .. أن أعيش حياتي .. دون أن أحس بذلك الإحساس الذي طالما أفنى الناس حياتهم في محاولة الحصول عليه ..
الحب ؟
أيعقل أن يكون كلام أمي غير صحيح .. والقناعات التي اكتسبتها غير صحيحة ..
لا يمكن ..
كانت دوامة فكرية لفرح .. كانت مرحلة صعبة من التفكير .. وصار شرودها أكثر ..
ولكن ما الذي سوف تستقر عليه ؟
ومضت .. أربعة أيام على ذلك اليوم .. كان سعود .. لا يفتأ .. يتصل على فرح .. ويكيل لها الاتصالات واحدة تلو الأخرى .. في اليوم عشر مرات .. وكان يرسل لها الرسائل .. ويسيل لها من كلام الحب أعذبه .. وتارة من الرسائل التي كانت تجعل فرح تضحك بصوت عالي ..
إن سعود .. نوعية من الشباب التي تقتنع بالمثل القائل : "أكلح تفلح" .. وبالمثل : "كثر الطرق يفك اللحام" .. وهي طريقة تجبر الناس على التصرف فيها لما تسبب من إزعاج .. إما أن ترد عليه .. وتبدأ في نهره بقوة .. وإما أن تكلم أهلها .. وسعود لم يكن يهتم .. ولكنه كان يريد هذه الفتاة .. يريدها .. وهو مصمم على ذلك .. وإذ ما بدأت في نهره بقوة .. فإنها من المؤكد أنها ستسقط في حباله .. وهذا ما يجيده ببراعة .. فن الكلام ..
ولكنها لم تتجرأ على الرد عليه .. لم تتمكن من أن ترد عليه .. ترى .. هل انتصرت قناعاتها .. أم أنها لم تستطع بحكم العادة .. ولأن ما غرس فيها منذ الصغر .. صبغ على هذه الأفعال بلعنة حمراء ؟
أصبحت دفاعات فرح أكثر ضعفاً .. وراحت تتقبل حديث عبير أكثر من ذي قبل .. وكانت كلماتها تدخل في قلبها هذه المرة لتجد لها مكاناً .. وكانت في أحيان أخرى .. تتخيل نفسها مع سعود .. وتنظر فيه على أنه شاب الأحلام .. وتبني لنفسها معه .. القصص والروايات ..
بدأت في مرحلة .. تسمح لخيالها أن يتمادى في هذا الأمر .. بعد أن كانت تقفل الأبواب كلها في السابق على مثل هذه الأفكار .. بعد أن كانت تصور فارس أحلامها بلا ملامح .. وبلا رتوش .. فارساً يشع منه اللون الأبيض .. وفقط ..
إلا أن سعود .. لم يقف عند هذا الحد .. كان مصمماً .. أن يصل إلى الفتاة .. كان مصمماً .. أن يعرفها .. لذلك .. انتقل إلى الخطة الثانية ..
صار يذهب كل يوم إلى المدرسة .. ليراها وهي تخرج برفقة عبير .. صار كل يوم .. يذهب إلى هناك .. وينتظر خروجها .. يتابعها بنظراته ..
وكانت عبير تكمل الباقي .. وتحاول أن تلفت نظر فرح إليه .. إلا أن فرح كانت لا تتكلم .. وتكتفي بأن تمشي بسرعة نحو السيارة .. وكان سعود .. يحاول اللحاق بهم بين السيارات .. فتارة يصل .. وتارة أخرى يضيع وسط الزحام الشديد ..
وشيئاُ .. فشيئاً .. كانت فرح تلين .. وقوتها بدأت في التلاشي .. ومعتقداتها .. صارت تهاجمها عندما تختلي بنفسها .. ولكنها لم تستطع أن تقدم على شيء ..
وهذه المرة .. لم يتوقف سعود .. بدأ في المرحلة الثالثة ..
خرجت فرح من المدرسة .. وراحت عينها تبحث خلسة عن سعود .. الذي لم يظهر هذه المرة .. استغربت .. وأحست أنها تفتقد شيئاً تعودت عليه .. نوعاً معيناً من الإحساس في نفسها بأنها مميزة .. وأنها فتاة مختلفة ..
وراحت خطواتها أبطأ في المشي .. حتى وصلت السيارة .. ولكن سعود لم يظهر ..
رجعت إلى المنزل .. وتوقفت الاتصالات أيضاً .. ترى ما الخطب ؟
وراحت تحس بإحساس غريب .. أحست أنها تفتقده .. وفي الحقيقة .. هي افتقدت الإحساس بالمتعة الغريبة في أن يكون هناك شيء غريب في حياتنا .. وأن هناك من يريدنا بشدة .. وبأننا أناس مميزين .. ولكن التفريق كان صعباً على فتاة لم تجرب شيئاً مثل فرح ..
واستمر هذا لبضعة أيام .. إلى درجة .. أحست فيه فرح بالقلق على سعود .. وراحت تنسج في بالها القصص والخيالات .. وراحت قصص الحب .. والأفلام الرومانسية تحاول أن تجد ما يشابهها من قصة فرح مع سعود ..
إلى أن جاءت اللحظة التي استجمعت فيه قواها وسألت عبير عنه .. ابتسمت عبير ابتسامة كبيرة وقالت : أخيراً اعترفت بأنك تحبينه ..
ولا تدري لم دخلت هذه الكلمة في قلب فرح كالسكين الحاد .. وأحست ببرودة في صدرها وهي تسمع هذه الكلمة .. ولكنها لم تعقب ..
فقالت عبير : إنه مريض ..
فقالت فرح في قلق : ما به ؟
فقالت عبير : لن أستطيع أن أقول لك يا فرح ..
بلعت فرح ريقها وقالت : أخبريني أرجوك ..
ولكن عبير قالت : إنه سر .. لقد ائتمنني عليه ..
فقالت فرح بعد لحظة توتر .. نزلت فيها قطرة عرق من جبينها على خدها بسرعة : أخبريني .. ما به ..
تنهدت عبير .. وقالت : إنه .. إنه مصاب باللوكيميا ( سرطان الدم الأبيض ) .. لا بد أنه في الرياض .. حتى يتلقى العلاج في المستشفى التخصصي هناك .. فهناك كما أخبرني طبيبه الخاص ..
فتوقفت فرح .. وأحست أنها أصيبت في مقتل .. أحست أنها تريد أن تبكي .. أحست أنها ظلمت هذا الإنسان كثيراً ..
وهذه هي المشكلة الحقيقية .. عاطفة البنات الكبيرة .. عاطفة البنات الزائدة عن حدها .. التي تجعل البنات يتعاطفن بطريقة غبية مع هؤلاء الناس .. ويصدقوهم .. بكل هذه السخافة .. بكل هذا البساطة .. ويخلطن بين الشعور بين الحب والشعور بالشفقة نحو إنسان ..
نعم .. هذه اللعبة .. لا تصلح إلا للبنات .. اللواتي يصدقن .. حين يتعاطفن كل ما يلقي به الكاذبون .. ويتحول المجرم في نظرهم .. إلى ملاك مسكين .. ويتحول اللئيم السافل .. إلى رجل يستحق الشفقة ..
كم هذه الكذبة شائعة في عالم الأولاد والبنات .. إلى حد ممرض .. إلى حد يجعل تصديقها فلماً هندياً غبياً .. كم هو الشعور بالسخف وبتفاهة هؤلاء المساكين عظيم حين تصدق البنات مثل هذه الكذبة ..
ولكن فرح المسكينة طيبة القلب .. لا تعرف أصول اللعبة ولا قوانينها .. ولا تعرف خباياها .. لا تعرف أن في هذا العالم .. من يريد الوصول إلى مبتغاه .. بكل الوسائل .. وبأقصر الوسائل وأكثرها فعاليه .. استخدام قلبها كوسيلة ضدها .. وتحفيز مشاعر الرحمة .. حتى تصل إلى الهاوية ..
صمتت فرح عن الكلام طوال الطريق .. ولكن قلبها كان يئن بالوجع .. " كم أنت مسكين يا سعود .. كنت تخفي كل هذا الألم " ..
ولكن عقلها بدأ في التفكير وراحت مرة أخرى في غيبوبة فكرية .. بين ملاكها وشيطانها :
- ربما يكون كذاباً ؟
- وربما لا يكون كذلك ..
- ولكن كيف يكون مصاباً باللوكيميا .. ويريد الزواج ؟
- لا بد أن هذه هي الإرادة الحديدية ..
- لقد رأيته وكان يضحك ويتحدث مع عبير وكان على ما يرام ..
- لا تدري أي وجع يخفيه قلبه .. ربما هو يفعل ذلك ليقاوم .. أما سمعت عن تلك المرأة التي كان لديها السرطان .. ثم عاشت حياتها بكل طبيعتها .. وفي النهاية وجدوا أن لا سرطان لديها ..
- ولكن كيف ..
- فرح .. لم كل هذا الشك .. أليس هناك احتمال أن يكون صادقاً .. كيف سيرتاح ضميرك حين توصمين مريضاً بهذه التهم وهذه الأفكار السوداء ..
- ولكن الاحتمال الأكبر أنه كذاب .. أليس بهذا الكذب يضحك الأولاد على البنات؟!
- إذا لا بد أن تتأكدي ..
كانت في غرفتها حين وصلت فرح لهذه النقطة .. ارتاحت قليلاً .. فأخيراً توصلت إلى ما يجب عليها أن تفعله .. أن تعرف حقيقة مرضه .. وإن كان كاذباً .. أو صادقاً .. يا ترى ماذا سوف تفعل ؟
لكن سعود لم يمهلها كثيراً .. فقد اتصل هذه المرة .. وراح جوال فرح يتألق بقوة .. راح جوالها يهتز كثعبان الجرس ..
لم تكن فرح مستعدة هذه المرة .. أمسكت بيدها الجوال .. وراحت أفكارها مرة أخرى تدور .. ولا تعرف كيف تتصرف ..
ولكنها هذه المرة عزمت على الأمر .. إنها تريد أن تعرف الحقيقة .. فقط تريد أن تعرف الحقيقة ..
لقد سقطت أخيراً في الفخ .. وبدأت محاولات سعود تثمر ..
وبأصابع مرتجفة .. ضغطت فرح على الزر الأخضر في جوالها .. ووضعت السماعة في أذنها ..
وهنا انساب صوت سعود وهو يقول : أخيراً رددت ..
أحست فرح .. أنها تدوخ .. أحست أن الدم كله يتجمع في رأسها .. أحست أنها في دوامة مغناطيسية .. وبطنين في رأسها .. ومن قلبها .. اندفعت صرخة كبيرة .. وراح إحساس ساخن يتدفق من صدرها .. لتشتعل يدها .. وتلقي الجوال من يدها بقوة .. وكأنما صارت حية مسمومة ..
وبدأت في عينيها الدموع تتجمع .. ثم راحت تجري نحو الحمام القريب من غرفتها ..
دخلت الحمام .. وأغلقت الباب .. وراحت تنظر في يدها .. وتحس بأنها تريد أن تقطعها .. تلك اليد التي ردت على هذا الشاب .. فتحت الماء في حوض الاستحمام .. وبدأت .. تبكي ..
بقوة .. بغزارة .. راحت تبكي .. بكل ما آتاها الله من قوة .. حتى كادت روحها أن تخرج معها .. بكت بعد أن أحست أنها قد اتسخت .. بكت بعد أن أدركت .. أنها صارت أقرب ما تكون لعبير .. بكت بعد أن أحست أنها بنت قليلة الأدب .. بكت بعد أن أحست أنها واحدة من آلاف البنات اللواتي يكلمن الأولاد .. اللواتي يقبلن بكل بساطة أن يكون لهم بوي فريند .. ويتفاخرن أمام البقية بأن هذا كان my X boy friend ..
أخذت الصابون .. وراحت تغسل به يدها .. بقوة .. وكأن القذارة التي على يدها لا بد أن تزال .. وراحت تغسل أذنها التي استمعت إلى صوت سعود .. وتجرها بكل قوة .. وهي تبكي ..
إنها دموع الطهارة .. إنها دموع تغسل الآثام .. إنها دموع من ندم .. نبكي فيها على أنفسنا .. وعلى احتقارنا لأفعالنا ودناءتها .. إنها دموع تجعل القلب حمامة بيضاء نقية ..
إنها دموع بنت محترمة .. رباها أهلها على الأخلاق الحسنة .. غرسوا فيها احترامها لنفسها .. واحترامها أن تكون السيجارة التي يدخنها مجموعة من الشباب قبل أن يحرقوها ويدوسوها بالأقدام .. ويقذفوا بها في منتهى الاحتقار لما تبقى منها في سلة المهملات ..
وبعد ربع ساعة خرجت من الحمام .. وحاولت ألا يراها أحد .. حاولت قدر المستطاع .. ولكن منى .. كانت هناك .. ورأتها ..
دخلت فرح الغرفة .. ودخلت ورائها منى .. ثم أغلقت الباب .. وقالت : فرح .. ما الذي حصل ؟
وكأن فرح .. كانت تنتظر هذه اللحظة .. لتقوم بالانفجار في وجه منى .. ولكنه انفجار على طريقة البنات .. انفجار المشاعر والأحاسيس ..
امتلأت عينها بالدموع .. وقالت : أنا لن أتعرف على الأولاد .. أن لن أكون فتاة سيئة ..
فتحت منى عينيها على اتساعهما .. وهي ترى فرح .. وهذه القوة في عينيها .. فرح المسالمة الطيبة الحنونة .. ما الذي غيرها ..
ولكن فرح كانت تتكلم وتقول : إنك لم تشعري بما في قلبي .. لست منهن .. لست بفتاة سيئة .. أنا بنت محترمة .. لا أريد أن أحب .. إن كنت سأكون بنتاً سيئة .. لا أريد ..
ثم جلست فوق سريرها وراحت تبكي .. هنا .. أحست منى .. أنها تود أن تقتل نفسها .. أحست عبير .. أنها السبب في معاناة أختها .. أحست عبير .. أنها كانت بقعة فاسدة في قلب هذه المسكينة الصغيرة .. وراحت تحتضن فرح .. وتضمها .. وهنا .. انسكبت دموعها هي الأخرى .. ثم .. قبلت رأسها .. والدموع تصل إلى شفتيها لتتذوقها مالحة .. وهي تقول : سامحيني يا فرح .. أنا المخطأة .. ولست أنت .. أنا البنت السيئة .. أنت المحترمة ..
وكأنما كانت هذه لحظة التنوير في الفضاء الكالح الذي ألقيت فيه الاثنتين .. كانت ثورة الخير .. وانتصارها الأخير على الشر .. كانت لحظة صادقة .. خرج فيه القلب بضياء غمر الروح كلها بالحياة من جديد .. بعد أن تاه في عتمة الشر ..
وفي الليل .. كانت الساعة وقتها الثانية بعد منتصف الليل ..
كانت فرح تقف .. بعد أن تحجبت إلا من يديها ووجهها .. وراحت تصلي .. وكأنما النور راح ينبعث في هالة وضاءة حول وجهها .. راحت تصلي بقلب خاشع .. تلك هي الصلاة التي يكون فيها القلب عامراً بالأنوار .. تلك هي الصلاة التي يحس فيها الإنسان أنه أقرب إلى الله ألف مرة من قبل .. وبأن الله قريب منه .. وبأنه يحتاج إليه .. وفي سجودها .. راحت تدعي الله كثيراً .. راحت تدعوه .. أن يصرفها عن هذا المدعو سعود .. وأن ينير قلبها بالإيمان .. وأن يغمره بالتقوى .. وأن يغفر لها ..
كان دعاءً حاراً من القلب .. كان دعاءً صادقاً ..
وبعد أن انتهت من الصلاة .. كانت الراحة تغمر قلبها .. وكان الإحساس بتلك القبضة الباردة قد زال .. وأحست بأنها تحلق في سماء الفضيلة .. ما أجمل الشعور بأننا أناس جيدون .. بأننا طاهرون .. بأننا على الصواب .. وبأن الله معنا .. وبأن كل شيء يسير في هذه الدنيا في سلام وفي خير ..
وهنا دق جوال فرح .. التفتت إليه .. وأمسكت به .. وكان حرف الـ S يتألق هذه المرة .. ولكن فرح طالعت فيه .. وهي تحس أنها عملاق كبير .. لم تحس كما هي العادة بالاضطراب والقلق .. لم تحس بالصراع الذي كان يقتلها في كل مرة .. بل أحست أنها أقوى ألف مرة .. أغلقت الجوال .. وبمنتهى الهدوء .. نزعت الشريحة .. وأمسكتها بين يديها الرقيقتين .. ثم ..
" تــــــــــــــــك " ..
كانت الشريحة مكسورة في يدها ..
وبنفس الهدوء .. أغلقت الأضواء .. ووضعت رأسها ونامت هذه المرة .. دون أفكار .. ودون شياطين ..
صارت فرح .. أكثر جدية وأكثر قوة في تعاملها .. وهذه المرة تغيرت كلياً في حديثها مع عبير .. كانت لا تتحدث مع تلك السمينة طوال الوقت .. وفي النهاية .. قالت : عبير .. لا تأتي لي على ذكر سعود هذا ..
تفاجأت عبير .. إزاء هذا التغير المفاجئ ما بين ليلة وضحاها .. وصمتت .. ولكنها أخبرت بذلك سعود ..
وفي هذا اليوم .. رجعت فرح إلى المنزل .. ولكنها لم تجد أحداً .. كانت الفوضى واضحة .. استغربت فرح .. فراحت إلى تلفون المنزل .. وهاتفت أخيها محمد الذي رد عليها وقال : لم لم تردي على جوالك يا فرح ؟
فقالت له : لقد كسرت الشريحة ..
تجاهل محمد هذا الموضوع ولم يسألها وقال : نحن الآن في المستشفى ..
تصاعدت فرح بالقلق وقالت : خيراً ؟
فقال : يبدو أن أختك سوف تلد .. إنها في غرفة العمليات الآن ..
فقالت فرح باستغراب : ولكنها في الشهر الثامن الآن ..
فقالت محمد : أجل .. يبدو أنها سوف تلد مبكراً .. ولكن يبدو أن هناك خطراً عليها ..
فقالت فرح : لماذا ..
رد محمد : إنه الشهر الثامن يا فرح .. إنهم يقولون .. أن الطفل في الشهر الثامن لا يعيش في العادة .. ولكنه يعيش إن ولد في التاسع أو السابع حتى ..
أحست فرح أنها خائفة على أختها .. فقالت له : محمد .. هل تستطيع أن تأتي لتأخذني ..
رد عليها : عندما يأتي أبي .. سوف أتركه وآتي لآخذك ..
وما هي إلا ساعة .. وكانت فرح في المستشفى .. كانت أختها تقوم بعملية قيصرية ..
كانت والدة فرح .. تدعو .. والكل في حالة من القلق .. على أختهم .. ويبدو أن العملية صعبة .. إذ أنها استغرقت الكثير من الوقت ..
مضت أكثر من ساعة بعد قدوم فرح إلى المستشفى .. وبعدها .. كان "ياسر" زوج أختها منى قد وصل .. يبدو أنه استقل أول طائرة من الرياض إلى جدة .. وكانت أمارات القلق بادية على وجهه العريض .. وجسمه الضخم جداً .. وأول ما بدأ به : كيف حالها الآن ؟
كم جميل أن يكون هناك من البشر من يحسون بأنك غالي لديهم شيء ثمين .. للأسف في العادة لدينا لا تظهر هذه الأحاسيس إلا عندما يصاب أحدنا بمكروه .. وكأننا نخجل من أن نظهر مشاعرنا لأخوتنا .. ولأهلينا .. حتى صارت البيوت جافة حطيبة ..
وبعد نصف ساعة أخرى .. خرج الطبيب من غرفة العمليات .. وكانت أمارات القلق جلية في وجهه .. توجه ياسر نحوه بسرعة وهو يتكلم معه .. قال الطبيب : الحالة صعبة .. لا بد أن نضحي بالطفل ..
فرد ياسر بسرعة : وهي ؟
قال الطبيب : للأسف يبدو أنها سوف تفقد إحدى قناتي فالوب ..
فقال ياسر : أهم شيء .. هي هل ستكون بخير ؟
فقال الطبيب : بإذن الله .. ولكن لا بد أن أستلم منك إفادة خطية بهذا الأمر ..
فقال ياسر .. وراحت الدموع تغرغر في عينيه وراح بيديه الضخمتين يمسك بكتفي الدكتور : أرجوك يا دكتور .. إنها كل ما لدي في هذه الدنيا .. أرجوك ..
كان منظراً مؤثراً .. أن يرى أحدنا رجلاً عملاقاً مثل ياسر .. يكاد يبكي على زوجته .. يبدو أن كلام منى عن زوجها لم يكن حقيقياً .. أو بالأصح .. لم يختبر هذا الحب تجربة قوية .. يكون فيها الموت خيطاً فاصلاً .. ليعلم كل منهما ما يعنيه فقد الطرف الآخر .. وذلك ما لم تعلمه منى .. وأخطأت في فهمه ..
وبعد ساعتين .. كانت منى قد خرجت من غرفة العمليات .. كان الجميع في حالة من التعب والإرهاق .. كان الجميع يدعو لمنى .. الأستاذ أيمن العسل .. وعلى يمينه ياسر وعلى يساره محمد .. وعلى سجادة صغيرة في غرفة منى .. كانت أم فرح .. تجلس وتدعو .. وفرح وريم يجلسان في المقعد المجاور .. وهما يدعوان أيضاً ..
وبعد فترة .. كانت منى قد استيقظت .. فراح الجميع من حولها يطمئنون على حالتها .. كان ياسر جوارها .. أمسك بيدها .. وقبلها وقال لها : الحمد لله على السلامة ..
هنا بكت منى وقالت : ولدي ..
وانخرطت في بكاء ..
وراح ياسر يحتضنها وهو يحس بأنتها .. وراحت دموعه هو الآخر تنسكب على وجنته .. ثم قالت له : آسفة يا ياسر .. لم أستطع أن أنجب لك الطفل الذي تريد ..
احتضنها ياسر أكثر وهو يقول : الحمد لله على كل حال .. أنت أهم من مليون طفل يا منى .. أنت كل شيء بالنسبة لي يا منى .. أريدك أنت .. ولا أريد أي طفل ..
ليس هناك أجمل من أن تشعر بأن هناك إنساناً تعني له أنت .. كل شيء في هذه الدنيا .. بل إنه مستعد لأي شيء فقط من أجلك .. ذلك شعور لم تجربه منى من قبل .. لم تختبره .. ولكنها اليوم آمنت به ..
خرج الجميع .. وبقي ياسر معها في المستشفى .. ورجعت فرح وبقية العائلة إلى المنزل .. بعد يوم مرهق .. ولم تذهب فرح ولا ريم في اليوم الثاني إلى المدرسة .. حتى والدها أخذ إجازة من عمله ..
وذهب الجميع بعد صلاة الظهر إلى المستشفى .. يحملون باقات الورد .. كان إحساساً بحميمية أسرية .. تظهر فيها أصدق المشاعر وأنبلها .. وبالطبع كان ياسر في قمة الإرهاق والتعب .. فأخذه محمد إلى المنزل .. ليستحم قليلاً ويرتاح .. على أن يأتي بعد ذلك .. وكذلك والدة فرح التي كانت تريد أن تأخذ بعضاً من ملابسها لقضاء اليوم الأخير لمنى في المستشفى .. فهي لم يهنأ لها جفن البارحة ..
وبقي في الغرفة فرح وريم وأبوهم ..
ولما أذن العشاء .. نزل الأستاذ أيمن ليصلي .. وبقيت كل من فرح وريم في الغرفة ..
هنا قالت منى لريم : حبيبتي .. هل من الممكن أن تذهبي لتشتري لي عصير الأناناس الذي أحبه من البقالة القريبة من هنا ؟
فقالت ريم في شيء من العداء : قولي أنك تريدين أن تكلمي فرح على انفراد .. لم أعد صغيرة .. إني أفهم يا أبله منى ..
ابتسمت منى وقالت : ذكية ما شاء الله عليك ..
خرجت ريم التي كانت في طور تكوين الشخصية .. والاستقلالية في كيانها .. مضت لحظة من الصمت على منى وفرح .. قطعتها أصوات أبواق السيارات القادمة من بعيد ..
أمسكت منى بيد فرح وقالت لها : أنا آسفة يا فرح .. لا بد أن هذا عقاب الله لي ..
قالت فرح : ما الذي تقولينه يا منى ..
نزلت من عيني منى دمعة ثم قالت : كنت مخطأة يا فرح .. كنت مخطأة .. لقد ظلمت ياسر ..
لم أكن أفهم معنى الحب يا فرح .. احتجت إلى كل هذه السنوات .. احتجت إلى أن أفقد طفلي .. حتى أعرف معنى الحب .. معنى .. أن تكون حياتك معلقة بإنسان آخر .. معنى .. أن لا يكون لك في الكون إنسان آخر .. ظننت أن الحب فقط مسلسل مكسيكي .. ظننت أن الحب .. وردة حمراء .. وقبلة .. وشمعة وعشاء ليلي .. لا يجيد ياسر أياً من فنونه .. لم أكن أدرك .. أن الحب هو إحساس حقيقي في القلب .. كل يعبر الحب بطريقته .. كل يعبر الحب بأسلوبه ..
ابتسمت فرح في وجه أختها وأضاء وجهها وقالت : لا حرمك الله منه يا منى ..
ابتسمت منى واحتضنت أختها .. وسالت دموعها .. وهذه المرة كانت دموع الفرح
في اليوم التالي كانت فرح تدخل مدرستها .. وكانت عبير تحاول أن تحادثها ولكن فرح كانت تحافظ على أكبر قدر من الحدود بينهما .. وكأنها تصب لوم ما حصل لأختها عليها ..
وفي نهاية الدوام .. خرجت فرح وعبير .. وعندما دخلتا السيارة .. كانت البي إم ذات الفئة السابعة .. تندفع بسرعة .. لتعترض سيارة فرح .. ويخرج منها سعود .. بجسمه الممتليء .. ووجهه الأحمر .. وسكسوكته .. وراح يصرخ في السائق : ما هذا ؟ ألا تعرف القيادة يا حمار ؟ ..
وراح السائق الماليزي : يصرخ هو الآخر ..
أما سعود ففي خلال كلام السائق .. كان ينظر نحو فرح .. وبكل الوقاحة وعلى شفته ابتسامة لعوب .. إن لهذا الشاب تصميماً غير عادي على التعرف على فرح .. ولكن فرح .. لم تتكلم .. كانت تحس بالخوف .. وراح قلبها ينبض بقوة ..
" ما الموضوع ؟ " ..
دوت هذه الكلمة قوية .. وهبطت على قلب فرح .. إن هذا الصوت .. مألوف ..
التفتت إلى الناحية الأخرى .. وكان هو بالفعل .. كان أخوها محمد .. وهو يقف أمام سعود .. ونظرات يتطاير منها الشرر .. نظر فيه سعود .. وقال : ماذا تريد هنا ؟ اذهب فلا شأن لك بهذا ..
فنظر فيه محمد وقال بقسوة : احفظ أدبك أيها الوقح .. قبل أن أمسح بك الأرض ..
ثم التفت إلى فرح وقال لها : فرح .. اذهبي إلى السيارة ..
خرجت فرح من السيارة .. ولكن سعود ضحك وقال : الله .. الله .. هكذا بدون أي احترام .. تأخذ البنت عيني عينك ..
لم يحس سعود .. إلا ويد محمد تندفع في وجهه بقوة لتلصقه بزجاج السيارة ويقول له بصوت له فحيح : إن اقتربت مرة ثانية من أختي .. أقسم أني سأقتلك ..
صرخ سعود من الألم وقال : اترك يدي يا مجنون .. آآآآآآآآي ..
كان محمد يلوي ذراع سعود بغلظة حتى أحس سعود أنها سوف تتحطم ..
ثم أمسكه محمد بقوة .. ورماه على الأرض بمنتهى العنف .. فسقط سعود .. واتسخ ثوبه .. ولكنه نهض بسرعة وقال : هدئ من روعك .. لقد دخل علي هذا السائق ..
كان يتكلم وهو يرجع إلى الوراء .. ثم ركب السيارة مسرعاً .. وما كانت إلا ثواني وقد اختفى عن الأنظار ..
توجه سعود إلى السيارة التي كانت فيها عبير التي كانت ترتجف من الخوف .. وقال لها : اسمعي يا بنت .. إن أحببت أن تتعرفي على الشباب .. وإن لم يربك أهلك جيداً .. فافعليه بعيداً عن بنات الناس .. وإن رأيتك بالقرب من أختي .. فلا تلومن إلا نفسك ..
ثم صفق الباب بقوة .. وذهب إلى سيارته .. ولما دخل .. كانت أعصابه مشتعلة ..
قاد السيارة بدون أي كلمة .. ثم قال لفرح بعصبية : لم لم تتكلمي من البداية ؟ حتى آتي لألقنه درساً هذا الحيوان ؟
هنا لم تتحمل فرح لهجة أخيها القوية .. وراحت تبكي وهي تقول : أنا لم أفعل شيئاً يا محمد .. والله ..
قاطعها : أنا أعلم .. لم قلت لمنى .. لم لم تكلميني أنا ؟
قالت فرح وهي تبكي : آسفة والله يا محمد .. لم أقصد ..
وراحت دموعها تغرقها من جديد ..
وبعد دقائق .. أوقف محمد السيارة والتفت لها وقال بهدوء : فرح .. فرح .. انظري إلي ..
بدت عيون فرح من الغطوة حمراء كالدم من البكاء .. وهي تنظر في محمد الذي قال : فرح .. أنتي أختي .. ولن أدع إنساناً في هذا الكون يؤذيك .. ومن يهم بذلك .. فسأشرب من دمه .. هل تفهمين ..
لم تتمالك فرح نفسها من الدموع .. وراحت تبكي ولكنها هذه المرة .. بكت وهي سعيدة .. لقد عرفت معنى الحب .. الحب الحقيقي ..
لحد الآن .. لم يظهر الخبير .. لم يظهر قصي ..
فهل وجود فرح العسل في القصة .. أمر عرضي ..
أم سيكون لها دور هام في قصتنا ..
ترى ما العلاقة بين فرح والخبير ..
الفصل الأخير
ابتسمت منى ابتسامة ماكرة .. وهي تبادل النظرات بين فرح وبين الجوال .. الذي كان يصدر رنينه .. وكأنها أجراس الشياطين .. أما فرح .. فقد أحست أنها تكره نفسها .. وتكره اليوم الذي أخرجت فيه جوالاً .. كم تتمنى .. أن تختفي الآن .. أن تكون بعيداً عن منى وعن نظراتها التي كانت تخترق قلبها .. كأنها سكاكين ومناجل ..
ولما هدأ الرنين وتوقف .. ران صمت رهيب .. بين الأختين ..
أغمضت منى عينيها .. وابتسمت .. ثم تقدمت نحو فرح .. ومدت يدها إليها بالجوال .. جمعت فرح ما استطاعت من قوة .. وحاولت أن تتكلم .. ولكن منى قالت لها وهي ترفع خصلة سقطت عن شعرها : لا داعي للكلام ..
ولكن فرح .. التي احمر وجهها وراح العرق يتفصد من جبينها قالت : لا .. إنه ليس كما تظنين .. إنه ..
راحت منى تنظر فيها .. وهي تريد أن تسمع .. وكانت فرح من شدة توترها لا تعرف ماذا تقول .. وراح جسدها يرجف .. وأنفاسها تزداد .. وحالتها النفسية في غاية السوء .. ولكنها راحت تتكلم .. وتشرح .. بقدر ما تستطيع .. أخبر منى .. عن عبير .. وعن علاقتها .. أخبرتها عن سعود الذي يود أن يتعرف بها .. أخبرتها بكل شيء ..
كانت منى صامتة طول هذا الوقت .. وبعد أن انتهت فرح من الكلام .. كانت الدموع تتجمع في عينيها .. ختمت على كلماتها بالصدق .. الكل يعرف فرح .. ويعرف أنها فتاة طيبة .. هادئة .. ليست من هذا الصنف من البشر .. ولذلك كان قلب منى مؤكداً على صدق فرح .. ولكنها قالت : فرح .. أنا لم ألمك .. لقد قلت لك .. بأنه لا داعي للكلام .. فأنت كبيرة الآن .. وتستطيعين .. أن تختاري ما تريدين في حياتك ..
ضاقت عينا فرح من وراء النظارة الطبية .. وراحت تحدق في عيني منى التي كانت تبرقان .. كانت تنظر فيها وكأنها تستفهم .. عما تريد منى أن تقوله ..
ربتت منى على بطنها ثم أشاحت بالنظر بعيداً .. وقالت : فرح .. لا أريدك .. أن تفهميني بشكل خاطئ .. ولكن ..
ثم راحت تطالع فيها بقوة وتقول : أنا متزوجة الآن يا فرح .. منذ حوالي خمس سنوات ..
خمس سنوات يا فرح .. ولكن لم يكن هناك شيء يعني كثيرا .. صحيح أن "ياسر" زوجي يحبني .. ولكن .. أحس أحياناً أن هذا الحب لا يكفي ..
راحت فرح تحدق في منى التي كانت تتكلم بعين مذهولة .. وهي تستمع لأول مرة هذه الاعترافات .. ولكن منى أكملت وقالت بعين حزينة : كنت أتمنى أن يحبني شخص ما بجنون .. كنت أتمنى .. أن تكون لي قصة حب غير عادية .. كنت أريد أن أشعر بحنان واشتياق ..
فقالت فرح : ألا تحبينه ؟
فقالت منى : لا .. إنه ليس كذلك .. إني أحبه .. ولكن .. أحس أن هذا الحب .. هو نوع من الامتنان .. لأنه أول رجل في حياتي ..
ثم ابتسمت في وجه فرح .. وهي تحرك الخصلة التي سقطت مجدداً وهي تقول : لم أكن جميلة للغاية .. ولم أصادق أحداً .. ولكني الآن ربما أقول .. ليتني تعرفت على أحد .. ليتني عرفت ما هو الحب الحقيقي .. ليتني أحسست بلوعاته .. وحرقاته .. وسهرت الليل .. لأني لم أشعر بهذا حقاً .. كما سمعت عن الحب ..
كانت فرح لا تصدق منى وهي تتكلم .. كانت تنظر فيها .. وتكاد تجن .. إذاً .. ما معنى هذا الكلام ؟!
توقفت منى عن الكلام وقالت : سأتركك الآن ..
ولكن فرح قالت لها : منى .. لحظة ..
وراح جسد فرح يرتجف .. إن مثل هذه الكلمات .. قد زلزلت كيانها من أساساته .. إن هذه الكلمات .. تكاد تغير نظرتها في الحياة .. ومفهومها الذي تربت عليه .. وفكرها الذي كانت تعتنق ..
أحست أنها كانت حبيسة لأفكارها الغريبة .. أحست أن ما تشربته من والدتها .. ومن المجتمع .. كان مجرد غثاء لا فائدة منه .. فهذه منى التي تكلمها .. أختها الكبيرة .. لا يمكن .. ما الذي يحصل بالضبط ؟
فقالت منى : لا تشغلي بالك بكلامي ..
ثم صرخت منى وأمسكت بطنها بقوة وقالت : أيها الشقي ..
ثم ابتسمت مرة أخرى .. وهي تنظر لفرح وتقول : ربما هذا هو السبب الذي يحبني من أجله ياسر .. هذا الطفل .. لقد كانت أمنيته الكبرى .. حلمه الأوحد في الحياة .. أن يكون له ابن .. ولقد حققت له هذه الأمنية والحمد لله ..
ثم كشفت عن بطنها وراحت تتحسس .. ثم التفتت إلى فرح التي كانت تنظر في بلاهة نحو منى .. وقالت : تعالي ضعي يدك هنا .. وتحسسي يده .. وضعت فرح يدها على بطن منى .. ثم ابتسمت وقالت : يا الله .. حلو ..
وبعد قليل .. اختفى إحساسها باليد ..
غطت منى بطنها .. ونهضت وهي تمسك ظهرها وتقول لولدها : ستخرج .. لا تتعجل .. كلها شهر ونصف على الأكثر وتخرج .. وترى العالم ..
ثم أخذت تضحك ..
كانت فرح لا تزال في غيبوبة فكرية وهي تفكر في هذا الكلام الذي كانت منى تقوله .. لقد أصابتها في مقتل حقاً ..
"فرح " .. التففت فرح إلى منى .. التي قالت : استمعي إلى صوت قلبك .. وانظري إلى أين يقودك ..
ثم خرجت من الغرفة ..
وهنا بدأت فرح في التوغل في أعماق الفكر .. في صراع نفسي غير عادي .. في معركة .. بين ما تربت عليه .. وبين ما أتاها من أخبار جديدة عن الحياة الحقيقية .. عن الواقع .. وعن التجارب التي لابد أن تصدقها .. لأنها من واقع التجربة ..
معقولة ! .. ألا يوجد حب بعد الزواج .. ؟ أيعقل أن يكون الحب قبل الزواج فقط ؟ ولكن .. لا يمكن .. هذا ليس ما أعرفه ..
ولكن هذه منى التي تقول هذا الكلام .. أمن المعقول .. أن أعيش حياتي .. دون أن أحس بذلك الإحساس الذي طالما أفنى الناس حياتهم في محاولة الحصول عليه ..
الحب ؟
أيعقل أن يكون كلام أمي غير صحيح .. والقناعات التي اكتسبتها غير صحيحة ..
لا يمكن ..
كانت دوامة فكرية لفرح .. كانت مرحلة صعبة من التفكير .. وصار شرودها أكثر ..
ولكن ما الذي سوف تستقر عليه ؟
ومضت .. أربعة أيام على ذلك اليوم .. كان سعود .. لا يفتأ .. يتصل على فرح .. ويكيل لها الاتصالات واحدة تلو الأخرى .. في اليوم عشر مرات .. وكان يرسل لها الرسائل .. ويسيل لها من كلام الحب أعذبه .. وتارة من الرسائل التي كانت تجعل فرح تضحك بصوت عالي ..
إن سعود .. نوعية من الشباب التي تقتنع بالمثل القائل : "أكلح تفلح" .. وبالمثل : "كثر الطرق يفك اللحام" .. وهي طريقة تجبر الناس على التصرف فيها لما تسبب من إزعاج .. إما أن ترد عليه .. وتبدأ في نهره بقوة .. وإما أن تكلم أهلها .. وسعود لم يكن يهتم .. ولكنه كان يريد هذه الفتاة .. يريدها .. وهو مصمم على ذلك .. وإذ ما بدأت في نهره بقوة .. فإنها من المؤكد أنها ستسقط في حباله .. وهذا ما يجيده ببراعة .. فن الكلام ..
ولكنها لم تتجرأ على الرد عليه .. لم تتمكن من أن ترد عليه .. ترى .. هل انتصرت قناعاتها .. أم أنها لم تستطع بحكم العادة .. ولأن ما غرس فيها منذ الصغر .. صبغ على هذه الأفعال بلعنة حمراء ؟
أصبحت دفاعات فرح أكثر ضعفاً .. وراحت تتقبل حديث عبير أكثر من ذي قبل .. وكانت كلماتها تدخل في قلبها هذه المرة لتجد لها مكاناً .. وكانت في أحيان أخرى .. تتخيل نفسها مع سعود .. وتنظر فيه على أنه شاب الأحلام .. وتبني لنفسها معه .. القصص والروايات ..
بدأت في مرحلة .. تسمح لخيالها أن يتمادى في هذا الأمر .. بعد أن كانت تقفل الأبواب كلها في السابق على مثل هذه الأفكار .. بعد أن كانت تصور فارس أحلامها بلا ملامح .. وبلا رتوش .. فارساً يشع منه اللون الأبيض .. وفقط ..
إلا أن سعود .. لم يقف عند هذا الحد .. كان مصمماً .. أن يصل إلى الفتاة .. كان مصمماً .. أن يعرفها .. لذلك .. انتقل إلى الخطة الثانية ..
صار يذهب كل يوم إلى المدرسة .. ليراها وهي تخرج برفقة عبير .. صار كل يوم .. يذهب إلى هناك .. وينتظر خروجها .. يتابعها بنظراته ..
وكانت عبير تكمل الباقي .. وتحاول أن تلفت نظر فرح إليه .. إلا أن فرح كانت لا تتكلم .. وتكتفي بأن تمشي بسرعة نحو السيارة .. وكان سعود .. يحاول اللحاق بهم بين السيارات .. فتارة يصل .. وتارة أخرى يضيع وسط الزحام الشديد ..
وشيئاُ .. فشيئاً .. كانت فرح تلين .. وقوتها بدأت في التلاشي .. ومعتقداتها .. صارت تهاجمها عندما تختلي بنفسها .. ولكنها لم تستطع أن تقدم على شيء ..
وهذه المرة .. لم يتوقف سعود .. بدأ في المرحلة الثالثة ..
خرجت فرح من المدرسة .. وراحت عينها تبحث خلسة عن سعود .. الذي لم يظهر هذه المرة .. استغربت .. وأحست أنها تفتقد شيئاً تعودت عليه .. نوعاً معيناً من الإحساس في نفسها بأنها مميزة .. وأنها فتاة مختلفة ..
وراحت خطواتها أبطأ في المشي .. حتى وصلت السيارة .. ولكن سعود لم يظهر ..
رجعت إلى المنزل .. وتوقفت الاتصالات أيضاً .. ترى ما الخطب ؟
وراحت تحس بإحساس غريب .. أحست أنها تفتقده .. وفي الحقيقة .. هي افتقدت الإحساس بالمتعة الغريبة في أن يكون هناك شيء غريب في حياتنا .. وأن هناك من يريدنا بشدة .. وبأننا أناس مميزين .. ولكن التفريق كان صعباً على فتاة لم تجرب شيئاً مثل فرح ..
واستمر هذا لبضعة أيام .. إلى درجة .. أحست فيه فرح بالقلق على سعود .. وراحت تنسج في بالها القصص والخيالات .. وراحت قصص الحب .. والأفلام الرومانسية تحاول أن تجد ما يشابهها من قصة فرح مع سعود ..
إلى أن جاءت اللحظة التي استجمعت فيه قواها وسألت عبير عنه .. ابتسمت عبير ابتسامة كبيرة وقالت : أخيراً اعترفت بأنك تحبينه ..
ولا تدري لم دخلت هذه الكلمة في قلب فرح كالسكين الحاد .. وأحست ببرودة في صدرها وهي تسمع هذه الكلمة .. ولكنها لم تعقب ..
فقالت عبير : إنه مريض ..
فقالت فرح في قلق : ما به ؟
فقالت عبير : لن أستطيع أن أقول لك يا فرح ..
بلعت فرح ريقها وقالت : أخبريني أرجوك ..
ولكن عبير قالت : إنه سر .. لقد ائتمنني عليه ..
فقالت فرح بعد لحظة توتر .. نزلت فيها قطرة عرق من جبينها على خدها بسرعة : أخبريني .. ما به ..
تنهدت عبير .. وقالت : إنه .. إنه مصاب باللوكيميا ( سرطان الدم الأبيض ) .. لا بد أنه في الرياض .. حتى يتلقى العلاج في المستشفى التخصصي هناك .. فهناك كما أخبرني طبيبه الخاص ..
فتوقفت فرح .. وأحست أنها أصيبت في مقتل .. أحست أنها تريد أن تبكي .. أحست أنها ظلمت هذا الإنسان كثيراً ..
وهذه هي المشكلة الحقيقية .. عاطفة البنات الكبيرة .. عاطفة البنات الزائدة عن حدها .. التي تجعل البنات يتعاطفن بطريقة غبية مع هؤلاء الناس .. ويصدقوهم .. بكل هذه السخافة .. بكل هذا البساطة .. ويخلطن بين الشعور بين الحب والشعور بالشفقة نحو إنسان ..
نعم .. هذه اللعبة .. لا تصلح إلا للبنات .. اللواتي يصدقن .. حين يتعاطفن كل ما يلقي به الكاذبون .. ويتحول المجرم في نظرهم .. إلى ملاك مسكين .. ويتحول اللئيم السافل .. إلى رجل يستحق الشفقة ..
كم هذه الكذبة شائعة في عالم الأولاد والبنات .. إلى حد ممرض .. إلى حد يجعل تصديقها فلماً هندياً غبياً .. كم هو الشعور بالسخف وبتفاهة هؤلاء المساكين عظيم حين تصدق البنات مثل هذه الكذبة ..
ولكن فرح المسكينة طيبة القلب .. لا تعرف أصول اللعبة ولا قوانينها .. ولا تعرف خباياها .. لا تعرف أن في هذا العالم .. من يريد الوصول إلى مبتغاه .. بكل الوسائل .. وبأقصر الوسائل وأكثرها فعاليه .. استخدام قلبها كوسيلة ضدها .. وتحفيز مشاعر الرحمة .. حتى تصل إلى الهاوية ..
صمتت فرح عن الكلام طوال الطريق .. ولكن قلبها كان يئن بالوجع .. " كم أنت مسكين يا سعود .. كنت تخفي كل هذا الألم " ..
ولكن عقلها بدأ في التفكير وراحت مرة أخرى في غيبوبة فكرية .. بين ملاكها وشيطانها :
- ربما يكون كذاباً ؟
- وربما لا يكون كذلك ..
- ولكن كيف يكون مصاباً باللوكيميا .. ويريد الزواج ؟
- لا بد أن هذه هي الإرادة الحديدية ..
- لقد رأيته وكان يضحك ويتحدث مع عبير وكان على ما يرام ..
- لا تدري أي وجع يخفيه قلبه .. ربما هو يفعل ذلك ليقاوم .. أما سمعت عن تلك المرأة التي كان لديها السرطان .. ثم عاشت حياتها بكل طبيعتها .. وفي النهاية وجدوا أن لا سرطان لديها ..
- ولكن كيف ..
- فرح .. لم كل هذا الشك .. أليس هناك احتمال أن يكون صادقاً .. كيف سيرتاح ضميرك حين توصمين مريضاً بهذه التهم وهذه الأفكار السوداء ..
- ولكن الاحتمال الأكبر أنه كذاب .. أليس بهذا الكذب يضحك الأولاد على البنات؟!
- إذا لا بد أن تتأكدي ..
كانت في غرفتها حين وصلت فرح لهذه النقطة .. ارتاحت قليلاً .. فأخيراً توصلت إلى ما يجب عليها أن تفعله .. أن تعرف حقيقة مرضه .. وإن كان كاذباً .. أو صادقاً .. يا ترى ماذا سوف تفعل ؟
لكن سعود لم يمهلها كثيراً .. فقد اتصل هذه المرة .. وراح جوال فرح يتألق بقوة .. راح جوالها يهتز كثعبان الجرس ..
لم تكن فرح مستعدة هذه المرة .. أمسكت بيدها الجوال .. وراحت أفكارها مرة أخرى تدور .. ولا تعرف كيف تتصرف ..
ولكنها هذه المرة عزمت على الأمر .. إنها تريد أن تعرف الحقيقة .. فقط تريد أن تعرف الحقيقة ..
لقد سقطت أخيراً في الفخ .. وبدأت محاولات سعود تثمر ..
وبأصابع مرتجفة .. ضغطت فرح على الزر الأخضر في جوالها .. ووضعت السماعة في أذنها ..
وهنا انساب صوت سعود وهو يقول : أخيراً رددت ..
أحست فرح .. أنها تدوخ .. أحست أن الدم كله يتجمع في رأسها .. أحست أنها في دوامة مغناطيسية .. وبطنين في رأسها .. ومن قلبها .. اندفعت صرخة كبيرة .. وراح إحساس ساخن يتدفق من صدرها .. لتشتعل يدها .. وتلقي الجوال من يدها بقوة .. وكأنما صارت حية مسمومة ..
وبدأت في عينيها الدموع تتجمع .. ثم راحت تجري نحو الحمام القريب من غرفتها ..
دخلت الحمام .. وأغلقت الباب .. وراحت تنظر في يدها .. وتحس بأنها تريد أن تقطعها .. تلك اليد التي ردت على هذا الشاب .. فتحت الماء في حوض الاستحمام .. وبدأت .. تبكي ..
بقوة .. بغزارة .. راحت تبكي .. بكل ما آتاها الله من قوة .. حتى كادت روحها أن تخرج معها .. بكت بعد أن أحست أنها قد اتسخت .. بكت بعد أن أدركت .. أنها صارت أقرب ما تكون لعبير .. بكت بعد أن أحست أنها بنت قليلة الأدب .. بكت بعد أن أحست أنها واحدة من آلاف البنات اللواتي يكلمن الأولاد .. اللواتي يقبلن بكل بساطة أن يكون لهم بوي فريند .. ويتفاخرن أمام البقية بأن هذا كان my X boy friend ..
أخذت الصابون .. وراحت تغسل به يدها .. بقوة .. وكأن القذارة التي على يدها لا بد أن تزال .. وراحت تغسل أذنها التي استمعت إلى صوت سعود .. وتجرها بكل قوة .. وهي تبكي ..
إنها دموع الطهارة .. إنها دموع تغسل الآثام .. إنها دموع من ندم .. نبكي فيها على أنفسنا .. وعلى احتقارنا لأفعالنا ودناءتها .. إنها دموع تجعل القلب حمامة بيضاء نقية ..
إنها دموع بنت محترمة .. رباها أهلها على الأخلاق الحسنة .. غرسوا فيها احترامها لنفسها .. واحترامها أن تكون السيجارة التي يدخنها مجموعة من الشباب قبل أن يحرقوها ويدوسوها بالأقدام .. ويقذفوا بها في منتهى الاحتقار لما تبقى منها في سلة المهملات ..
وبعد ربع ساعة خرجت من الحمام .. وحاولت ألا يراها أحد .. حاولت قدر المستطاع .. ولكن منى .. كانت هناك .. ورأتها ..
دخلت فرح الغرفة .. ودخلت ورائها منى .. ثم أغلقت الباب .. وقالت : فرح .. ما الذي حصل ؟
وكأن فرح .. كانت تنتظر هذه اللحظة .. لتقوم بالانفجار في وجه منى .. ولكنه انفجار على طريقة البنات .. انفجار المشاعر والأحاسيس ..
امتلأت عينها بالدموع .. وقالت : أنا لن أتعرف على الأولاد .. أن لن أكون فتاة سيئة ..
فتحت منى عينيها على اتساعهما .. وهي ترى فرح .. وهذه القوة في عينيها .. فرح المسالمة الطيبة الحنونة .. ما الذي غيرها ..
ولكن فرح كانت تتكلم وتقول : إنك لم تشعري بما في قلبي .. لست منهن .. لست بفتاة سيئة .. أنا بنت محترمة .. لا أريد أن أحب .. إن كنت سأكون بنتاً سيئة .. لا أريد ..
ثم جلست فوق سريرها وراحت تبكي .. هنا .. أحست منى .. أنها تود أن تقتل نفسها .. أحست عبير .. أنها السبب في معاناة أختها .. أحست عبير .. أنها كانت بقعة فاسدة في قلب هذه المسكينة الصغيرة .. وراحت تحتضن فرح .. وتضمها .. وهنا .. انسكبت دموعها هي الأخرى .. ثم .. قبلت رأسها .. والدموع تصل إلى شفتيها لتتذوقها مالحة .. وهي تقول : سامحيني يا فرح .. أنا المخطأة .. ولست أنت .. أنا البنت السيئة .. أنت المحترمة ..
وكأنما كانت هذه لحظة التنوير في الفضاء الكالح الذي ألقيت فيه الاثنتين .. كانت ثورة الخير .. وانتصارها الأخير على الشر .. كانت لحظة صادقة .. خرج فيه القلب بضياء غمر الروح كلها بالحياة من جديد .. بعد أن تاه في عتمة الشر ..
وفي الليل .. كانت الساعة وقتها الثانية بعد منتصف الليل ..
كانت فرح تقف .. بعد أن تحجبت إلا من يديها ووجهها .. وراحت تصلي .. وكأنما النور راح ينبعث في هالة وضاءة حول وجهها .. راحت تصلي بقلب خاشع .. تلك هي الصلاة التي يكون فيها القلب عامراً بالأنوار .. تلك هي الصلاة التي يحس فيها الإنسان أنه أقرب إلى الله ألف مرة من قبل .. وبأن الله قريب منه .. وبأنه يحتاج إليه .. وفي سجودها .. راحت تدعي الله كثيراً .. راحت تدعوه .. أن يصرفها عن هذا المدعو سعود .. وأن ينير قلبها بالإيمان .. وأن يغمره بالتقوى .. وأن يغفر لها ..
كان دعاءً حاراً من القلب .. كان دعاءً صادقاً ..
وبعد أن انتهت من الصلاة .. كانت الراحة تغمر قلبها .. وكان الإحساس بتلك القبضة الباردة قد زال .. وأحست بأنها تحلق في سماء الفضيلة .. ما أجمل الشعور بأننا أناس جيدون .. بأننا طاهرون .. بأننا على الصواب .. وبأن الله معنا .. وبأن كل شيء يسير في هذه الدنيا في سلام وفي خير ..
وهنا دق جوال فرح .. التفتت إليه .. وأمسكت به .. وكان حرف الـ S يتألق هذه المرة .. ولكن فرح طالعت فيه .. وهي تحس أنها عملاق كبير .. لم تحس كما هي العادة بالاضطراب والقلق .. لم تحس بالصراع الذي كان يقتلها في كل مرة .. بل أحست أنها أقوى ألف مرة .. أغلقت الجوال .. وبمنتهى الهدوء .. نزعت الشريحة .. وأمسكتها بين يديها الرقيقتين .. ثم ..
" تــــــــــــــــك " ..
كانت الشريحة مكسورة في يدها ..
وبنفس الهدوء .. أغلقت الأضواء .. ووضعت رأسها ونامت هذه المرة .. دون أفكار .. ودون شياطين ..
صارت فرح .. أكثر جدية وأكثر قوة في تعاملها .. وهذه المرة تغيرت كلياً في حديثها مع عبير .. كانت لا تتحدث مع تلك السمينة طوال الوقت .. وفي النهاية .. قالت : عبير .. لا تأتي لي على ذكر سعود هذا ..
تفاجأت عبير .. إزاء هذا التغير المفاجئ ما بين ليلة وضحاها .. وصمتت .. ولكنها أخبرت بذلك سعود ..
وفي هذا اليوم .. رجعت فرح إلى المنزل .. ولكنها لم تجد أحداً .. كانت الفوضى واضحة .. استغربت فرح .. فراحت إلى تلفون المنزل .. وهاتفت أخيها محمد الذي رد عليها وقال : لم لم تردي على جوالك يا فرح ؟
فقالت له : لقد كسرت الشريحة ..
تجاهل محمد هذا الموضوع ولم يسألها وقال : نحن الآن في المستشفى ..
تصاعدت فرح بالقلق وقالت : خيراً ؟
فقال : يبدو أن أختك سوف تلد .. إنها في غرفة العمليات الآن ..
فقالت فرح باستغراب : ولكنها في الشهر الثامن الآن ..
فقالت محمد : أجل .. يبدو أنها سوف تلد مبكراً .. ولكن يبدو أن هناك خطراً عليها ..
فقالت فرح : لماذا ..
رد محمد : إنه الشهر الثامن يا فرح .. إنهم يقولون .. أن الطفل في الشهر الثامن لا يعيش في العادة .. ولكنه يعيش إن ولد في التاسع أو السابع حتى ..
أحست فرح أنها خائفة على أختها .. فقالت له : محمد .. هل تستطيع أن تأتي لتأخذني ..
رد عليها : عندما يأتي أبي .. سوف أتركه وآتي لآخذك ..
وما هي إلا ساعة .. وكانت فرح في المستشفى .. كانت أختها تقوم بعملية قيصرية ..
كانت والدة فرح .. تدعو .. والكل في حالة من القلق .. على أختهم .. ويبدو أن العملية صعبة .. إذ أنها استغرقت الكثير من الوقت ..
مضت أكثر من ساعة بعد قدوم فرح إلى المستشفى .. وبعدها .. كان "ياسر" زوج أختها منى قد وصل .. يبدو أنه استقل أول طائرة من الرياض إلى جدة .. وكانت أمارات القلق بادية على وجهه العريض .. وجسمه الضخم جداً .. وأول ما بدأ به : كيف حالها الآن ؟
كم جميل أن يكون هناك من البشر من يحسون بأنك غالي لديهم شيء ثمين .. للأسف في العادة لدينا لا تظهر هذه الأحاسيس إلا عندما يصاب أحدنا بمكروه .. وكأننا نخجل من أن نظهر مشاعرنا لأخوتنا .. ولأهلينا .. حتى صارت البيوت جافة حطيبة ..
وبعد نصف ساعة أخرى .. خرج الطبيب من غرفة العمليات .. وكانت أمارات القلق جلية في وجهه .. توجه ياسر نحوه بسرعة وهو يتكلم معه .. قال الطبيب : الحالة صعبة .. لا بد أن نضحي بالطفل ..
فرد ياسر بسرعة : وهي ؟
قال الطبيب : للأسف يبدو أنها سوف تفقد إحدى قناتي فالوب ..
فقال ياسر : أهم شيء .. هي هل ستكون بخير ؟
فقال الطبيب : بإذن الله .. ولكن لا بد أن أستلم منك إفادة خطية بهذا الأمر ..
فقال ياسر .. وراحت الدموع تغرغر في عينيه وراح بيديه الضخمتين يمسك بكتفي الدكتور : أرجوك يا دكتور .. إنها كل ما لدي في هذه الدنيا .. أرجوك ..
كان منظراً مؤثراً .. أن يرى أحدنا رجلاً عملاقاً مثل ياسر .. يكاد يبكي على زوجته .. يبدو أن كلام منى عن زوجها لم يكن حقيقياً .. أو بالأصح .. لم يختبر هذا الحب تجربة قوية .. يكون فيها الموت خيطاً فاصلاً .. ليعلم كل منهما ما يعنيه فقد الطرف الآخر .. وذلك ما لم تعلمه منى .. وأخطأت في فهمه ..
وبعد ساعتين .. كانت منى قد خرجت من غرفة العمليات .. كان الجميع في حالة من التعب والإرهاق .. كان الجميع يدعو لمنى .. الأستاذ أيمن العسل .. وعلى يمينه ياسر وعلى يساره محمد .. وعلى سجادة صغيرة في غرفة منى .. كانت أم فرح .. تجلس وتدعو .. وفرح وريم يجلسان في المقعد المجاور .. وهما يدعوان أيضاً ..
وبعد فترة .. كانت منى قد استيقظت .. فراح الجميع من حولها يطمئنون على حالتها .. كان ياسر جوارها .. أمسك بيدها .. وقبلها وقال لها : الحمد لله على السلامة ..
هنا بكت منى وقالت : ولدي ..
وانخرطت في بكاء ..
وراح ياسر يحتضنها وهو يحس بأنتها .. وراحت دموعه هو الآخر تنسكب على وجنته .. ثم قالت له : آسفة يا ياسر .. لم أستطع أن أنجب لك الطفل الذي تريد ..
احتضنها ياسر أكثر وهو يقول : الحمد لله على كل حال .. أنت أهم من مليون طفل يا منى .. أنت كل شيء بالنسبة لي يا منى .. أريدك أنت .. ولا أريد أي طفل ..
ليس هناك أجمل من أن تشعر بأن هناك إنساناً تعني له أنت .. كل شيء في هذه الدنيا .. بل إنه مستعد لأي شيء فقط من أجلك .. ذلك شعور لم تجربه منى من قبل .. لم تختبره .. ولكنها اليوم آمنت به ..
خرج الجميع .. وبقي ياسر معها في المستشفى .. ورجعت فرح وبقية العائلة إلى المنزل .. بعد يوم مرهق .. ولم تذهب فرح ولا ريم في اليوم الثاني إلى المدرسة .. حتى والدها أخذ إجازة من عمله ..
وذهب الجميع بعد صلاة الظهر إلى المستشفى .. يحملون باقات الورد .. كان إحساساً بحميمية أسرية .. تظهر فيها أصدق المشاعر وأنبلها .. وبالطبع كان ياسر في قمة الإرهاق والتعب .. فأخذه محمد إلى المنزل .. ليستحم قليلاً ويرتاح .. على أن يأتي بعد ذلك .. وكذلك والدة فرح التي كانت تريد أن تأخذ بعضاً من ملابسها لقضاء اليوم الأخير لمنى في المستشفى .. فهي لم يهنأ لها جفن البارحة ..
وبقي في الغرفة فرح وريم وأبوهم ..
ولما أذن العشاء .. نزل الأستاذ أيمن ليصلي .. وبقيت كل من فرح وريم في الغرفة ..
هنا قالت منى لريم : حبيبتي .. هل من الممكن أن تذهبي لتشتري لي عصير الأناناس الذي أحبه من البقالة القريبة من هنا ؟
فقالت ريم في شيء من العداء : قولي أنك تريدين أن تكلمي فرح على انفراد .. لم أعد صغيرة .. إني أفهم يا أبله منى ..
ابتسمت منى وقالت : ذكية ما شاء الله عليك ..
خرجت ريم التي كانت في طور تكوين الشخصية .. والاستقلالية في كيانها .. مضت لحظة من الصمت على منى وفرح .. قطعتها أصوات أبواق السيارات القادمة من بعيد ..
أمسكت منى بيد فرح وقالت لها : أنا آسفة يا فرح .. لا بد أن هذا عقاب الله لي ..
قالت فرح : ما الذي تقولينه يا منى ..
نزلت من عيني منى دمعة ثم قالت : كنت مخطأة يا فرح .. كنت مخطأة .. لقد ظلمت ياسر ..
لم أكن أفهم معنى الحب يا فرح .. احتجت إلى كل هذه السنوات .. احتجت إلى أن أفقد طفلي .. حتى أعرف معنى الحب .. معنى .. أن تكون حياتك معلقة بإنسان آخر .. معنى .. أن لا يكون لك في الكون إنسان آخر .. ظننت أن الحب فقط مسلسل مكسيكي .. ظننت أن الحب .. وردة حمراء .. وقبلة .. وشمعة وعشاء ليلي .. لا يجيد ياسر أياً من فنونه .. لم أكن أدرك .. أن الحب هو إحساس حقيقي في القلب .. كل يعبر الحب بطريقته .. كل يعبر الحب بأسلوبه ..
ابتسمت فرح في وجه أختها وأضاء وجهها وقالت : لا حرمك الله منه يا منى ..
ابتسمت منى واحتضنت أختها .. وسالت دموعها .. وهذه المرة كانت دموع الفرح
في اليوم التالي كانت فرح تدخل مدرستها .. وكانت عبير تحاول أن تحادثها ولكن فرح كانت تحافظ على أكبر قدر من الحدود بينهما .. وكأنها تصب لوم ما حصل لأختها عليها ..
وفي نهاية الدوام .. خرجت فرح وعبير .. وعندما دخلتا السيارة .. كانت البي إم ذات الفئة السابعة .. تندفع بسرعة .. لتعترض سيارة فرح .. ويخرج منها سعود .. بجسمه الممتليء .. ووجهه الأحمر .. وسكسوكته .. وراح يصرخ في السائق : ما هذا ؟ ألا تعرف القيادة يا حمار ؟ ..
وراح السائق الماليزي : يصرخ هو الآخر ..
أما سعود ففي خلال كلام السائق .. كان ينظر نحو فرح .. وبكل الوقاحة وعلى شفته ابتسامة لعوب .. إن لهذا الشاب تصميماً غير عادي على التعرف على فرح .. ولكن فرح .. لم تتكلم .. كانت تحس بالخوف .. وراح قلبها ينبض بقوة ..
" ما الموضوع ؟ " ..
دوت هذه الكلمة قوية .. وهبطت على قلب فرح .. إن هذا الصوت .. مألوف ..
التفتت إلى الناحية الأخرى .. وكان هو بالفعل .. كان أخوها محمد .. وهو يقف أمام سعود .. ونظرات يتطاير منها الشرر .. نظر فيه سعود .. وقال : ماذا تريد هنا ؟ اذهب فلا شأن لك بهذا ..
فنظر فيه محمد وقال بقسوة : احفظ أدبك أيها الوقح .. قبل أن أمسح بك الأرض ..
ثم التفت إلى فرح وقال لها : فرح .. اذهبي إلى السيارة ..
خرجت فرح من السيارة .. ولكن سعود ضحك وقال : الله .. الله .. هكذا بدون أي احترام .. تأخذ البنت عيني عينك ..
لم يحس سعود .. إلا ويد محمد تندفع في وجهه بقوة لتلصقه بزجاج السيارة ويقول له بصوت له فحيح : إن اقتربت مرة ثانية من أختي .. أقسم أني سأقتلك ..
صرخ سعود من الألم وقال : اترك يدي يا مجنون .. آآآآآآآآي ..
كان محمد يلوي ذراع سعود بغلظة حتى أحس سعود أنها سوف تتحطم ..
ثم أمسكه محمد بقوة .. ورماه على الأرض بمنتهى العنف .. فسقط سعود .. واتسخ ثوبه .. ولكنه نهض بسرعة وقال : هدئ من روعك .. لقد دخل علي هذا السائق ..
كان يتكلم وهو يرجع إلى الوراء .. ثم ركب السيارة مسرعاً .. وما كانت إلا ثواني وقد اختفى عن الأنظار ..
توجه سعود إلى السيارة التي كانت فيها عبير التي كانت ترتجف من الخوف .. وقال لها : اسمعي يا بنت .. إن أحببت أن تتعرفي على الشباب .. وإن لم يربك أهلك جيداً .. فافعليه بعيداً عن بنات الناس .. وإن رأيتك بالقرب من أختي .. فلا تلومن إلا نفسك ..
ثم صفق الباب بقوة .. وذهب إلى سيارته .. ولما دخل .. كانت أعصابه مشتعلة ..
قاد السيارة بدون أي كلمة .. ثم قال لفرح بعصبية : لم لم تتكلمي من البداية ؟ حتى آتي لألقنه درساً هذا الحيوان ؟
هنا لم تتحمل فرح لهجة أخيها القوية .. وراحت تبكي وهي تقول : أنا لم أفعل شيئاً يا محمد .. والله ..
قاطعها : أنا أعلم .. لم قلت لمنى .. لم لم تكلميني أنا ؟
قالت فرح وهي تبكي : آسفة والله يا محمد .. لم أقصد ..
وراحت دموعها تغرقها من جديد ..
وبعد دقائق .. أوقف محمد السيارة والتفت لها وقال بهدوء : فرح .. فرح .. انظري إلي ..
بدت عيون فرح من الغطوة حمراء كالدم من البكاء .. وهي تنظر في محمد الذي قال : فرح .. أنتي أختي .. ولن أدع إنساناً في هذا الكون يؤذيك .. ومن يهم بذلك .. فسأشرب من دمه .. هل تفهمين ..
لم تتمالك فرح نفسها من الدموع .. وراحت تبكي ولكنها هذه المرة .. بكت وهي سعيدة .. لقد عرفت معنى الحب .. الحب الحقيقي ..
لحد الآن .. لم يظهر الخبير .. لم يظهر قصي ..
فهل وجود فرح العسل في القصة .. أمر عرضي ..
أم سيكون لها دور هام في قصتنا ..
ترى ما العلاقة بين فرح والخبير ..

الجزء الرابع
الفصل الأول
( ما تزال طفلة )
تلك هي القصص التي لا ننساها في حياتنا .. التي وربما تكون عندها نقطة التحول .. إما إلى الأسفل أو إلى الأعلى .. وربما توقفنا كقصة في الحلق ..
صوت عزف قديم .. وذكرى تخز جدران القلب .. نسيم الماضي يحمل ما لا يُحمل من الأشجان .. وصوت الموسيقى الرتيبة ذات النمط البطيء في هدوء تنساب حول غرفة قصي ..
ولمن شاء كلاسيكية العزف .. فليتوقف على أصابع قصي الذي لطالما أبدع معزوفات خاصة وليدة اللحظة .. ثم لا تلبث أن تموت مع النسيان ..
وقصي لا يهتم إلا أن تتحول الأوتار إلى لسان أُجبر أن يعيش الصمت بإرادته ..
تلك النظرة الحزينة التي تملأ كيانه .. لا يعرفها إلا من عاش الوحدة .. فصار لا يستطيع أن يتجانس مع الناس وقلبه ممتلئ بالراحة ..شعور كريه أن تكون خياراتك في الحياة معدومة .. فلا أنت تستطيع أن تخالط الناس .. ولا أنت مرتاح القلب .. في وحدة القلب المهجور ..
ارتفعت النغمات حادة .. وأصابع قصي تهوي بكل قوتها على المفاتيح .. وكأنها تصرخ .. بأنين آلامه ..
وراحت الأنغام مرة أخرى تعود إلى رتابتها ..
ثم وببطيء راحت تسير .. حتى توقف قصي عند آخر نغمة ..
كان مغمضاً عينيه .. وكانت الغرفة كلها في حالة من الانسجام التام .. حتى إنك لتجزم أن الغرفة كلها كانت كائناً واحداً .. متناغمة مع كل ذلك القدر من التراجيدية .. حتى النافورة الصغيرة .. كانت في تتشارك لتضع اللمسات اللازمة لصنع لوحة فائقة الجمال والشاعرية .. بقي أن تطير نجوم صغيرة مضيئة نحو السماء لتتمايل مع الأنغام ..
مضي على قصي حوالي أسبوعين على ثلاثيته مع : نوف وروان ورناد .. قضى حوالي 3 أيام منها في المستشفى .. بعد أن تعب كثيراً من دوالي شرايين الحنجرة .. وتمزقت بعضها ..
كان بحاجة إلى رعاية طبية .. وقد تلقاها .. وابتعد طوال هذين الأسبوعين عن ما يثير أعصابه ..
نهض قصي من على البيانو الأسود .. وذهب إلى المنزل الرئيسي .. الذي ينفصل عن الملحق أو الغرفة التي يعيش فيها قصي بمفرده ..
أطل بسرعة .. هل يوجد أحد في المنزل؟ يبدو أنه لا فائدة من أن يسأل هذا السؤال بتكرار .. على كل هو تعود .. وهو لم يتوقع أن يجد والده أو والدته .. فكل مشغول بما يملأ وقته .. لا يدري .. لم كان يريد هذه المرة أن يكونا موجودين .. أو على الأقل واحد منهم ..
راح يطالع التلفاز في شيء من الملل .. ياه .. ما هذا الإحساس الغبي .. كم هو مزعج .. أمسك جواله .. وراح يبحث في الأرقام .. إنه ليس الآن في نفسية تسمح له بتذكر الماضي .. إنه يريد أن ينسى .. إنه يحاول جاهداً ..
وجد رقم نزار من بين الأرقام القليلة الموجودة في جواله .. وراح يتصل عليه .. تألق الجوال ببعض الأضواء .. وببعض الأصوات .. راح يطالع شاشته .. حتى بدأ عداد الثواني بالظهور فقال :
أهلا نزار .. كيف حالك ؟كنت أفكر ما رأيك أن نتعشى سوية هذه الليلة .. هناك مطعم إيطالي رائع .. قد ....
...............
ماذا .. لديك اليوم اجتماع عائلي ..
.........
لا .. لا عليك ..
...........
هههههههههههههههههههههههههه .. إنما هو الإحساس بالملل ..
.............
لا .. لست في مزاج رائق لاصطياد السمك ..
.............
حسناً .. سأراك أيها اللعوب .. ثم إنك لم تخبرني ماذا فعلت مع ندى؟
..............
ههههههههههههههههههههه .. قلت لك .. إنه أمر واضح ..
حسناً .. حسناً .. أخبرني عندما نتقابل ..
مع السلامة ..
أنهى المكالمة .. وشيء من الضيق يملأه ..
لا بد أن يخرج .. لا .. وكما قال لنزار .. إنه ليس في مزاج رائق حتى يصطاد السمك .. يا لها من تسمية ! .. ولكن نزار يروق له أن يستخدمها .. لا بأس ..
دخل قصي غرفة نومه .. وراح للدولاب .. وراح يقلب بسرعة .. وفي النهاية ارتدى قصي .. جينزاً أزرق متسخ على ذوق الموضة .. وتي شيرت برتقالي .. له أطراف زرقاء وعلى ظهره .. تقويم مرسوم باليد .. وعليه بعض علامات إكس ..
وارتدى حذاءه الرياضي الأبيض ..
ثم خلع خاتمه البلاتيني ..وفي منتهى الاحترام .. أودعه العلبة المخملية ..
وقبل أن يخرج .. راحت أصابعه تمر بسرعة على أصابع البيانو .. وهو يمشي .. لتصدر ذلك الرنين الذي يزداد حدة حتى آخر مفتاح .. ثم أغلق الباب خلفه ..
كانت الساعة التاسعة مساءً
استقل سيارته اللكزس ..بأضوائها الزينون القوية .. ووضع سي دي للعازف البحريني ياسر خليفة .. وراح يمشي بين الشوارع التي يعرفها ..
من شارع التحلية .. إلى الكورنيش .. نحو حي الشاطيء .. ثم إلى طريق الملك مرة ثانية .. وأخيراً انتهى بشارع حراء ..
إحساس فظيع بالملل من الحياة .. من كل أسباب البقاء ..
وجد أمامه سوق حراء الدولي .. نعم لا بد من كوب من القوة التركية ..
دخل إلى السوق الكبير .. وراح يطالع المحلات .. والواجهات الزجاجية التي من الواضح أنها في أكثرها تخص النساء دون الرجال .. وهذا أمر مؤكد طالما أن النساء هن من تضيع الأموال بين أيديهن ..
وصل إلى كشك بارنيز الصغير الذي يتوسط تلك الساحة الكبيرة .. وقال للعامل : قهوة تركي .. سكر زيادة لو سمحت ..
راح يطالع الأضواء في شيء من التساؤل .. وهو يقول في نفسه : ماذا تعني هذه الحياة ؟ وماذا يعني وجودنا فيها ؟
إنها حالة تجعل الشخص في حالة من الخمول .. أو كأنه إحساس بالدوخة الخفيفة .. حتى يحس الإنسان .. أنه في كرة زجاجية كبيرة .. أو أنه خارج جسمه .. وأنه ينظر لنفسه من ورائها ..
راح يتأمل الوجوه .. رجل يقف مع طفلة صغيرة يمسك بيدها .. مجموعة من النساء المحتشمات يمشين سوية .. كأنهم يخفن من أن يتلوثوا بهذه الجموع الغفير من البنات اللواتي أصبحن كعارضات الأزياء بتلك العباءات المزركشة .. والملونة .. والطرح المبهرجة .. وكأن وجود العباءة أو عدمه لا يفرق كثيراً ..
وولد صغير يلاحق أخته ..
ثم ..
لمح فتاتين .. إحداهما طويلة والأخرى متوسطة الطول ..
إنها تدق فيه منذ فترة طويلة .. أو هكذا يبدو ..
كانت الطويلة خمرية اللون تلبس عدسات رمادية .. وأنفها الدقيق يزين وجهها وابتسامة ذكية جريئة.. وتلبس عباءة مزخرفة لامعة .. ووردة فيروزية تزركش طرفها السفلي ..
أما الأخرى فكانت تشبهها إلى حد ما .. إلا أنها كانت تحول أن تخفي بعض آثار الخجل بفشل .. بعباءتها ذات الخطوط الحمراء القانية .. ومن التفاتها المتكرر تستطيع أن تقول وببساطة .. أنها تظن أن الكل ينظر لها . كانت تتلفت يمنة ويسرة وكأنها تخشى أمراً ما .. وبعبارة أدق كانت مرتبكة ..
وبتلقائية ودونما إحساس .. وجد قصي نفسه يتقدم بثبات نحوهم .. كان يمسك في يده كوبه .. وتتصاعد رائحة القهوة الساخنة بقوة ولما اقترب .. وقال ببساطة : عفواً يا آنسات ..
تظاهرت الفتاة الطويلة بالدهشة وهي تقول : ماذا ؟
فقال بثبات وبكل الثقة : أنا قصي مناف من جامعة الملك عبد العزيز قسم الصيدلة .. وإني مكلف بإجراء استبيان عن الأدوية .. فهل أستطيع أن آخذ من وقتكم بضعة دقائق ..
امتقع وجه الفتاة القصيرة .. إلا أن الأخرى قالت بقوة : وبنظرة ثاقبة : تجري استبيان بدون أوراق ؟
قالتها وكأنما أوقعته في فخ ..
ولكن قصي قال ببساطة وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة: الموضوع لا يحتاج إلى أوراق .. إنها مجرد أسئلة بسيطة للغاية .. فقالت بتذاكي : ولكن عليك أن تحسب الأرقام .. حتى لو كان استبيانك في سؤال واحد على الأقل ..
ابتسم قصي وقال : ألا ترين أنك تحكمين النطاق ؟
فضحكت الفتاة ضحكة المنتصر وقالت : ألست أنت من تقوم أنك ملزم بعمل استبيان ؟
ابتسم قصي بسخرية وقال : حسناً ..
وبعين سريعة التقط ورقة لإعلان من كشك مجاور تراصت عليها أسماء لمعطرات جسم مختلفة ..
وأخرج من محفظته قلماً صغيراً وراح ينظر لها بنظرات سفلية وهو يقول لها : تحبين الطرق الصعبة ..
فقالت الفتاة بجذل ورفعت رأسها بانتشاء : إنها أكثرها إمتاعاً ..
فقال وهو ينظر فيها بعين تخفي وراءه صراخ ضحاياه .. وأسرار الماضي : صدقيني إنها ليست كذلك ..
كانت الفتاة الأخرى وأعني بذلك القصيرة .. تنظر يمنة ويسرة .. لا تكاد تعرف كيف تتصرف .. صامتة طوال الوقت ..
قال قصي للفتاة الطويلة : عفواً قلت لي ما اسمك ؟
فقالت البنت بنظرة ماكرة : للاستبيان ؟
فضحك قصي .. فقالت الفتاة : اسمي أمل ..
ثم أشارت إلى الفتاة الأخرى وقالت : وهذه ابنة خالتي ياسمين ..
نظر قصي في لطيفة .. وابتسام بكل فتنة وقال : أهلا بالقمر ..
ولربما ظن البعض كم هي جرأته أن يبتدئ بمثل هذه الكلمة في أول مرة يحادث فيها ياسمين .. وفي نفس الوقت .. يحس بالتناقص في التصرف بحذر أمام أمل وبالتهور أمام ياسمين ..
إلا أن البارعين هم فقط الذين يستطيعون إدراك التلقائية التي اكتسبها قصي في فن التعامل مع أنثى متمرسة متمردة مثل أمل .. تحتاج إلى صبر وقليل من التشبث .. حتى تستولي عليها .. ومن ثم تستطيع التحكم بها بكل سهولة .. وبكل وقاحة حتى ..
وبين ياسمين التي من الواضح سذاجتها .. واستجدادها على هذا العالم الجديد .. الذي يغرق أصحابه في الوحل .. وإن ظن أصحابه عسلاً .. فمرارته لا تظهر إلا عند الجرعة الأخيرة .. حرقة في القلب .. وأخرى في الروح ..
تورد خدا ياسمين وابتسمت .. وصارت تنظر في الأرض في خجل .. لم ينتظر قصي طويلا .. وإنما دخل مباشرة وقال : هل لي أن أدعوكم إلى كوب من القهوة ؟
نظرت أمل إلى ياسمين وقالت : ما رأيك ؟ همم ؟
ردت ياسمين وهي تقول لأمل بصوت هامس ببعض الكلمات ..
فقالت أمل : ياسمين .. كم مرة قلت لك .. لن يأتي ..
ثم التفتت إلى قصي وقالت : لا بأس ..
ما بالها هذه الفتاة .. ومن تراها تنتظر ؟ أم أنها خائفة أن يراها أحد وهي برفقة شاب ؟
سار الجميع .. مسافة قصيرة .. حتى وجدوا لوحة عريضة مكتوب عليها : الجزيرة الخضراء coffee shop
وبعد دقائق كان قصي يجلس على الطاولة .. وأمل وياسمين مع آيس تشوكلت وآيس مانجو ..
كانت ياسمين تشرب .. والارتباك يبدو في ملامحها وهي تحرك المصاص يميناً ويساراً .. وتلتفت لتلاحظ من أتى ..
فقال لها قصي ببساطة وابتسامة وهو يضع قدمه على ساقه الأخرى: هل تنتظرين أحداً يا ياسمين ؟
فنظرت فيه أمل وقالت : إنها تنتظر أن ترى أحمد ..
التفت لها ياسمين بحدة وقالت : أمل !
نظرت فيها أمل ورفعت حاجبيها وقالت : ماذا ؟ أليست هذه هي الحقيقة .. ألست أنت من أتيت بي إلى هنا ؟!
لم تتغير جلسة قصي وبنفس الابتسامة قال : يبدو أنك تحبين أحمد هذا ..
فقالت أمل باشمئزاز : إنه حتى لا يهتم لها ..
فقاطعتها ياسمين وقالت : من قال لك ؟
فقالت أمل : يا بنت افهمي .. لقد كلمني وقال : لا تدعيها تتصل مرة أخرى .. لم يرد على اتصالاتك كل يوم .. وأنت لم تتعرفي عليه إلا منذ أسبوع .. ماذا تتوقعي أن يكون ؟
فقالت ياسمين : ولكنه قال بأنه يحبني ..
ضحكت أمل وقالت وهي تنظر إلى قصي : هل تصدق ما تقوله هذه العبيطة ؟!
يبدو أن أمل هذه ليست سهلة بالمرة .. ويبدو أن لها باعاً طويلاً في هذا الأمر .. كم يكره هذا الصنف من البشر .. ويبدو أن ياسمين .. ساذجة كالباقيات ..
ولو أن عينا أمل كانت تكشف ما خلف العيون .. لوقع قلبها في يدها .. من الاحتقار الذي كان قصي يختفي خلف عينيه .. للفتاة المستهلكة .. للبنت التي ربما تكون بكراً عضوياً .. ولكنها قذرة روحياً .. لفتاة .. فقدت ما يجعلها أنثى .. ويجعلها إنسانة .. يستحق أن يُنظر فيها كفاكهة ناضجة .. ولكنها بدلاً من ذلك .. كانت مجرد تفاحة مجخية .. أُكل نصفها .. ثم تركت في الحر لتتعفن ..
مرت هذه الأفكار في ذهن قصي بسرعة .. ولكنه قال : أخبريني ما القصة .. وقد أجد لك الحل يا ياسمين .. على الأقل استمعي لرأي بعيد عن الموضوع .. ربما لدي نظرة مختلفة .. وقد أساعدك ..
التفتت ياسمين إليه .. وهي تفكر .. وتحدجه بتلك النظرة الفاحصة المتسائلة .. بأي حق أعطيه الثقة ؟
هنا قاطعت الحديث أمل كعادتها وهي تنهض بعد أن كانت تنظر في جوالها : ياسمين .. سوف أذهب قليلاً .. لقد أتى عمار ..
ثم نظرت في قصي مبتسمة وقالت : سأتركها قليلاً .. لا تدعها تغب عن ناظريك .. إنها ليست من جدة ..
ثم غمزت له .. وأشارت له بسبابتها كأنها تصوب عليه مسدساً .. يبدو أنها تحب مشاهدة الأفلام الأمريكية الخاصة وتكثر من هذه السخافات كثيراً ..
ولم تكن ياسمين وحدها من أُصيبت بربكة جراء ما فعلته أمل .. ولكن حتى قصي أصيب بدهشة بالغة .. كيف تتركها وحدها هكذا؟! يا لها من قريبة .. المشكلة أن معظم علاقات البنات تبدأ هكذا .. تبدأ واحدة منهن بعلاقة .. وتحكي لقريباتها من هن في سنها .. ويبدأ هذا العفن ينتشر كوباء في العائلة .. ويطول الخبيث والحسن سوية ..
لم تجد ياسمين ما تقول .. وأحس قصي كم مسكينة هذه البنت .. ولا يدري لم أحس بشفقة تجاهها فقال وهو يعني ما يقوله هذه المرة : لا عليك هدئي من روعك .. الموضوع لا يحتاج كل هذا التوتر ..
ولكن ياسمين .. بدأت تفرك يديها في عصبية ملحوظة .. فقال قصي بنفس الهدوء وبعين حادة : تعلمين .. ابنة خالتك هذه لئيمة .. كيف تتركك وتذهب هكذا ؟!
فقالت ياسمين : لا إنها طيبة القلب .. ولكنها تتصرف أحيانا هكذا ..
صمت قليلاً قصي .. حين أتى العامل ليحمل الأكواب الفارغة .. فقال قصي لها : هل تريدين شيئاً آخر ؟
فقالت الفتاة : لا شكراً ..
فالتفت إلى النادل وقال : قهوة تركي سكر زيادة ..
حل الصمت قليلاً .. وراح قصي يتطلع في يديه .. لا يدري لم أحس أنه لا يريد أن يبدأ .. لا يريد أن يقوم بشيء .. أحس أنه يريد أن يعود لمنزله دون أن يقوم بشيء ..
"أمل هي التي عرفتني عليه " التفت قصي إلى ياسمين التي كان من الواضح أنها حاولت كثيراً وفكرت مراراً قبل أن تقول هذه الجملة ..
ورغم أنه كان يهم بالنهوض .. إلا أنه جلس يستمع ..
وراحت ياسمين تتكلم ..
كانت ياسمين قد قدمت إلى جدة لقضاء أسبوعين لدى خالتها هنا .. والأنس بابنة خالتها أمل .. فقد كانت تقيم في المدينة .. وكعادة أمل .. كانت تتكلم عن علاقاتها العاطفية المتعددة .. وكانت ككل مرة تصر على ياسمين أن تتكلم مع من يكلم أمل ..
وتلك صفة دميمة للفتيات من هذا النوع .. لا تدري لم يحاولن ذلك؟ أهي طريقة لكي يحسسن أنهن لسن الوحيدات اللواتي تلوثن بهذه القذارة ؟ أما ماذا ؟ لم لا يتركن الباقيات في سلام ؟!
وتعرفت ياسمين بأحمد .. واحد من أصدقاء أمل .. والتقت به مع أمل هنا في سوق حراء .. وكانت أول مرة في حياتها تقابل شاباً .. كانت أول مرة .. تقابل فيها رجلاً .. إنها حتى لا تلبس مثل هذه العباءات المزركشة .. إنها حتى لا تعرف شيئاً في عالم الأولاد والبنات ..
وبطبعه .. كعادة الشباب الكثيرين هنا .. أضاف إلى قائمة الأسماء الموجودة في جواله اسماً جديداً ..
أخبرها أنه يحب هذا السوق كثيراً .. ويحب التجوال فيه كثيراً .. وبعد أسبوع .. وبدون مقدمات .. قالت لها أمل : لقد طلب مني أحمد لا تتصلي على مرة أخرى ..
كانت صدمة لياسمين .. صدمة الحب الأول .. الذي حتى لم يأخذ حقه في النضج .. أسبوع واحد ولكن ياسمين .. كانت تستمر بالاتصالات .. فقد أذاقها من الكلام حلوه .. حتى أحست أنها تحبه .. لأنه العلاقة الأولى لها .. وقد كان شيء يسير على ما يرام .. ولكن فجأة تغير كل شيء دفعة واحدة ..
كانت ياسمين تتحدث .. وفي عينيها تمتليء الدموع .. كانت تتكلم .. وحرارة الكلمات .. تكاد تتصاعد من احتراقات الأحرف ..
وهنا أحس قصي بطيف حزين يمر أمام عينيه .. أحس كم هو يتعاطف مع ياسمين بحق .. أحس كم هي ساذجة .. أحس كم هي مسكينة وصغيرة .. إنها حتى لا تعرف كيف تتصرف .. إنها طفلة ..
نظر لها بإشفاق حقيقي وقال : أعلم ما تشعرين به ..
نظرت له ياسمين .. وقطبت حاجبيها وقالت : لا تقل مثل هذا الكلام .. حتى تظهر لي أنك متعاطف معي .. حتى تستطيع أن تحصل علي .. أعرفكم أيها الشباب .. لكم هذه الأساليب ..
حدق فيها قصي بدهشة .. ثم ضحك .. من أعماق قلبه ضحك ..
ضحك على نفسه .. هذه من المرات القلائل والنادرة التي يتعامل فيها مع البنات بصدق .. ومع هذا تظن أنه يخدعها .. ترى ما الحكاية .. هل أصبح الناس يصدقون الكذب .. ويكذبون الصدق .. أهذه الدرجة .. صار الصدق ضائعاً وسط الكذب ..
فنظرت فيه بعين حاقدة وقالت : لم تضحك ؟
توقف عن الضحك .. وقال بابتسامة : أنا آسف .. لم أكن أقصد ..
ولكن ياسمين كانت لا تزال حادة المزاج وقالت : الضحك من غير سبب قلة أدب ..
وبقدر ما يستطيع قصي أن يتعامل مع النبات .. إلا أنه لا يسمح لهن بأن يقللن من قدره بأي طريقه ..
نظر فيها هذه المرة بقسوة لثواني .. حتى أشاحت ياسمين بنظرها .. وقصي لا زال ينظر فيها .. ثم أخرج من محفظته خمسين ريال .. يغطي الطلبات ويزيد .. وتركها على الطاولة .. وقال : لا أسمح لأحد أن يخاطبني بهذه اللهجة .. يبدو أني كنت مخطئاً .. حين دعوت أمثالكم بأدب إلى قهوة ..
كان لا يهتم قصي للبنات .. بل لا مانع لديه أن يحطمهن .. بدون اهتمام .. إنه ليس من ذلك الصنف من البشر الذي لا يعاقب الفتيات لأنهن فقط فتيات .. بل قد يزيد في عقابه لهن .. لأنهن يعتمدن على ذلك .. بل ثق أنك سيضرب الفتاة التي تمد يديه وبأقسى من ضربتها .. ولن يهتم لبشر أبداً ..
نهض قصي .. وخرج .. وتعكر مزاجه .. وراح يقول في نفسه : غبية ..
"لو سمحت .. لو سمحت" التفت قصي إلى الخلف .. ليجد ياسمين .. بعين مملؤة بالدموع .. كانت تمسك بيديها .. وتبدو في حال مروعة ..
لم يتحدث قصي .. فقالت ياسمين بتردد : أنا .. أنا .. آسفة .. لم أكن أقصد ..
صار وجه قصي جامداً خالياً من المشاعر وقال : جيد أنك تأسفت ..
ثم تركها وذهب .. ولكن ياسمين لحقت به وقالت : لو سمحت .. لو سمحت ..
نظر لها قصي مرة ثانية .. وهذه المرة نزلت دمعتها .. ومسحتها بسرعة .. وقالت وهي ترطب شفتيها بلسانها : أنا لا أعرف أحداً هنا .. ولا أعرف ما أفعل .. وجوالي استقبال .. وقد استهلكت رسائل "اتصل بي" .. هل ممكن أن أتصل من جوالك ........... لو سمحت ..
نظر لها قصي مستعجباً .. يا لها من فتاة .. يا لها من ساذجة .. بل إنها مسكينة .. كيف أُلقي بها في عالم الوحوش هذا .. بل كيف تركتها أمل تلك الحيوانة بهذه البساطة ..
هدأت ثورة قصي .. وأحس بالألم لها .. أحس بالماضي الذي راح يعتصره كثعبان سام .. وراحت نغمات حزينة تسري في روحه .. وراحت عينه تتقلص .. وزفرة حارة من صدره تخرج لتنفث معها ألماً لا يحتمل ..
وصور تمر في رأسه سريعة .. الحديقة .. "أنا التي كنت ........ " .. ذهول كبير ..
شد قصي على قبضته بمنتهى العنف ..
ثم التفت إلى ياسمين بابتسامة أخت كل الجحيم الذي به وقال لها : هل تحبين الـ Cinnamon ؟
فنظرت فيه ياسمين وقالت : ما هو هذا السينمون؟
ابتسم قصي وهي يستعجب من انغلاق هذه الطفلة الكبيرة .. التي لم يلوثها جنون الحياة العصرية .. ثم قال لها : سأريك إياه الآن ..
وبعد دقائق .. كان قصي مع ياسمين وفي يديه علبتين من حلوى القرفة ذات النكهة الشهية .. جلسا في الطاولة الموجودة أمام المحل .. ثم وضع قصي علبة أمامها .. ثم فتح علبته .. وقال لها : وكيف سوف تتصرفين مع أحمد؟
نظرت فيه وقالت : ألست غاضباً مني ..
أخذ قصي أول قضمة من الحلوى وقال : لقد اعتذرت .. وبما أنك غريبة من جدة .. لن أستطيع أن أتركك وحدك .. ليس قبل أن تأتي ابنة خالتك .. تلك تحتاج إلى تأديب ..
ابتلعت ياسمين ريقها وقالت : لم ؟
فقال قصي : كيف تتركك مع رجل غريب .. قابلته لتوها .. من أجل أن تذهب مع فتى آخر .. هذه حقارة ..
لم تستطع ياسمين أن تدافع عن ابنة خالتها أمام قوة شخصية قصي .. واكتفت بالصمت ..
نظر لها قصي وقال : هل تحبين أحمد؟
قالت ياسمين وهي تنظر في العلبة إلى الأسفل : لا أعرف .. لم أحس بأن هناك من يهتم بي هكذا من قبل ..
ثم التفتت إلى الناحية الأخرى وقالت : أريد أن أرجع إلى المدينة .. وأنا لا أعرف كيف سوف أتصرف .. ولا أعرف ما أفعل .. ليس لدي من أستشيره حتى .. وأمل تقول لي بأن أنساه .. ولكنها لا تشعر بما في .. أحس أني وحدي جداً ..
أغمض قصي عينيه .. وكأنما أصابته هذه الفتاة في الصميم .. كم يكره قصي هذه الكلمة .. وحدة .. كم يحس بها تقتله .. كم يحس بها كحمض يغزو كيانه ..
نظرت فيه ياسمين مرة أخرى وقالت : لا أعرف لم أقول لك كل هذا ..
ثم راحت دموعها تقطر من عينيها ..
نظر قصي إليها .. وهو يحس بإشفاق بلا حدود .. إلى هذه المسكينة .. التي ابتلاها الله بقريبة مثل أمل ..
مد قصي لها منديلاً .. فمسحت ياسمين دموعها .. ثم أحست بنكهة ساخنة قريبة من أنفها للقرفة تندفع وبقوة ..
نظرت .. فإذ بقصي يفتح لها العلبة .. ويمد لها شوكة مبتسما وهو يقول : كلي قبل أن تبرد الحلوى .. إنها لذيذة ..
المشكلة أنهما أمام كل الناس .. دون أي مشاكل .. لقد بات من الصعب .. أن يعرف الواحد منا من يمشي مع أخته .. ومن يمشي مع صديقته .. ربما الزينة الزائدة عن حدها تعتبر أول دليل على مثل هذا الفجور ..
مشكلة أن يأمن كل من الشاب والبنت .. أنهم بعيدون عن العقاب .. مشكلة .. أن يقر المجتمع على مثل هذه الظاهرة .. دون أن يكون هناك رادع ..
نظر فيها قصي .. وهو يضع الشوكة البلاستيكية في فمه وهو يقول : ما بك ؟
نظرت فيه ياسمين وقالت : أنا خائفة ..
فقال قصي : مم ؟
ضمت شفتيها .. وحركتهما ثم وقالت وهي تنظر للأسف : منك ..
لم تبدو الدهشة هذه المرة على وجه قصي .. فهو الآن يعلم من هي هذه الفتاة .. يعلم أنها أنثى .. لم تتقذر .. لا زالت فاكهة طازجة .. ليست لها الخبرة في التعامل مع جنون الحياة ..
ثم قال لها : ياسمين .. لست بحاجة أن تخافي .. فأنا لن أؤذيك ..
حدقت فيه ياسمين وقالت : ولم أصدقك ؟
ابتسم قصي وقال : ستصدقيني يا ياسمين .. وأنا أعدك .. لأني لن أخدعك .. ولن أكذب هذه المرة .. وسأكون بجوارك ..
نظرت فيه ياسمين وهي لا تفهم .. لم تفهم .. أن الخبير سيكون معها ..
لقد قرر قصي .. أن يساعد هذه الفتاة .. لقد قرر قصي .. أن يلعب دور المصلح هذه المرة ..
لقد قرر .. أن يخلصها من تفاهتها .. لتعرف كيف هي الحياة تمضي .. بعيداً عن هذا الوحل .. بعيداً عن الحياة الملعونة .. بعيداً عن شياطين الإنس .. بعيداً عن مواخير الأسواق .. والمطاعم .. وأن يلقن أمل تلك .. درساً لن تنساه في حياتها .. حتى تتوقف عند حدها .. وعن عبثها بالفتيات العاديات .. حتى يشاركنها مستنقع الخطيئة ..
ترى ما الذي حصل ؟
وما الذي سوف يفعله قصي ؟
وكيف ستغير هذه التطورات في القصة ..
الخميس
16/رجب/1427
11:23 صباحاً
الفصل الأول
( ما تزال طفلة )
تلك هي القصص التي لا ننساها في حياتنا .. التي وربما تكون عندها نقطة التحول .. إما إلى الأسفل أو إلى الأعلى .. وربما توقفنا كقصة في الحلق ..
صوت عزف قديم .. وذكرى تخز جدران القلب .. نسيم الماضي يحمل ما لا يُحمل من الأشجان .. وصوت الموسيقى الرتيبة ذات النمط البطيء في هدوء تنساب حول غرفة قصي ..
ولمن شاء كلاسيكية العزف .. فليتوقف على أصابع قصي الذي لطالما أبدع معزوفات خاصة وليدة اللحظة .. ثم لا تلبث أن تموت مع النسيان ..
وقصي لا يهتم إلا أن تتحول الأوتار إلى لسان أُجبر أن يعيش الصمت بإرادته ..
تلك النظرة الحزينة التي تملأ كيانه .. لا يعرفها إلا من عاش الوحدة .. فصار لا يستطيع أن يتجانس مع الناس وقلبه ممتلئ بالراحة ..شعور كريه أن تكون خياراتك في الحياة معدومة .. فلا أنت تستطيع أن تخالط الناس .. ولا أنت مرتاح القلب .. في وحدة القلب المهجور ..
ارتفعت النغمات حادة .. وأصابع قصي تهوي بكل قوتها على المفاتيح .. وكأنها تصرخ .. بأنين آلامه ..
وراحت الأنغام مرة أخرى تعود إلى رتابتها ..
ثم وببطيء راحت تسير .. حتى توقف قصي عند آخر نغمة ..
كان مغمضاً عينيه .. وكانت الغرفة كلها في حالة من الانسجام التام .. حتى إنك لتجزم أن الغرفة كلها كانت كائناً واحداً .. متناغمة مع كل ذلك القدر من التراجيدية .. حتى النافورة الصغيرة .. كانت في تتشارك لتضع اللمسات اللازمة لصنع لوحة فائقة الجمال والشاعرية .. بقي أن تطير نجوم صغيرة مضيئة نحو السماء لتتمايل مع الأنغام ..
مضي على قصي حوالي أسبوعين على ثلاثيته مع : نوف وروان ورناد .. قضى حوالي 3 أيام منها في المستشفى .. بعد أن تعب كثيراً من دوالي شرايين الحنجرة .. وتمزقت بعضها ..
كان بحاجة إلى رعاية طبية .. وقد تلقاها .. وابتعد طوال هذين الأسبوعين عن ما يثير أعصابه ..
نهض قصي من على البيانو الأسود .. وذهب إلى المنزل الرئيسي .. الذي ينفصل عن الملحق أو الغرفة التي يعيش فيها قصي بمفرده ..
أطل بسرعة .. هل يوجد أحد في المنزل؟ يبدو أنه لا فائدة من أن يسأل هذا السؤال بتكرار .. على كل هو تعود .. وهو لم يتوقع أن يجد والده أو والدته .. فكل مشغول بما يملأ وقته .. لا يدري .. لم كان يريد هذه المرة أن يكونا موجودين .. أو على الأقل واحد منهم ..
راح يطالع التلفاز في شيء من الملل .. ياه .. ما هذا الإحساس الغبي .. كم هو مزعج .. أمسك جواله .. وراح يبحث في الأرقام .. إنه ليس الآن في نفسية تسمح له بتذكر الماضي .. إنه يريد أن ينسى .. إنه يحاول جاهداً ..
وجد رقم نزار من بين الأرقام القليلة الموجودة في جواله .. وراح يتصل عليه .. تألق الجوال ببعض الأضواء .. وببعض الأصوات .. راح يطالع شاشته .. حتى بدأ عداد الثواني بالظهور فقال :
أهلا نزار .. كيف حالك ؟كنت أفكر ما رأيك أن نتعشى سوية هذه الليلة .. هناك مطعم إيطالي رائع .. قد ....
...............
ماذا .. لديك اليوم اجتماع عائلي ..
.........
لا .. لا عليك ..
...........
هههههههههههههههههههههههههه .. إنما هو الإحساس بالملل ..
.............
لا .. لست في مزاج رائق لاصطياد السمك ..
.............
حسناً .. سأراك أيها اللعوب .. ثم إنك لم تخبرني ماذا فعلت مع ندى؟
..............
ههههههههههههههههههههه .. قلت لك .. إنه أمر واضح ..
حسناً .. حسناً .. أخبرني عندما نتقابل ..
مع السلامة ..
أنهى المكالمة .. وشيء من الضيق يملأه ..
لا بد أن يخرج .. لا .. وكما قال لنزار .. إنه ليس في مزاج رائق حتى يصطاد السمك .. يا لها من تسمية ! .. ولكن نزار يروق له أن يستخدمها .. لا بأس ..
دخل قصي غرفة نومه .. وراح للدولاب .. وراح يقلب بسرعة .. وفي النهاية ارتدى قصي .. جينزاً أزرق متسخ على ذوق الموضة .. وتي شيرت برتقالي .. له أطراف زرقاء وعلى ظهره .. تقويم مرسوم باليد .. وعليه بعض علامات إكس ..
وارتدى حذاءه الرياضي الأبيض ..
ثم خلع خاتمه البلاتيني ..وفي منتهى الاحترام .. أودعه العلبة المخملية ..
وقبل أن يخرج .. راحت أصابعه تمر بسرعة على أصابع البيانو .. وهو يمشي .. لتصدر ذلك الرنين الذي يزداد حدة حتى آخر مفتاح .. ثم أغلق الباب خلفه ..
كانت الساعة التاسعة مساءً
استقل سيارته اللكزس ..بأضوائها الزينون القوية .. ووضع سي دي للعازف البحريني ياسر خليفة .. وراح يمشي بين الشوارع التي يعرفها ..
من شارع التحلية .. إلى الكورنيش .. نحو حي الشاطيء .. ثم إلى طريق الملك مرة ثانية .. وأخيراً انتهى بشارع حراء ..
إحساس فظيع بالملل من الحياة .. من كل أسباب البقاء ..
وجد أمامه سوق حراء الدولي .. نعم لا بد من كوب من القوة التركية ..
دخل إلى السوق الكبير .. وراح يطالع المحلات .. والواجهات الزجاجية التي من الواضح أنها في أكثرها تخص النساء دون الرجال .. وهذا أمر مؤكد طالما أن النساء هن من تضيع الأموال بين أيديهن ..
وصل إلى كشك بارنيز الصغير الذي يتوسط تلك الساحة الكبيرة .. وقال للعامل : قهوة تركي .. سكر زيادة لو سمحت ..
راح يطالع الأضواء في شيء من التساؤل .. وهو يقول في نفسه : ماذا تعني هذه الحياة ؟ وماذا يعني وجودنا فيها ؟
إنها حالة تجعل الشخص في حالة من الخمول .. أو كأنه إحساس بالدوخة الخفيفة .. حتى يحس الإنسان .. أنه في كرة زجاجية كبيرة .. أو أنه خارج جسمه .. وأنه ينظر لنفسه من ورائها ..
راح يتأمل الوجوه .. رجل يقف مع طفلة صغيرة يمسك بيدها .. مجموعة من النساء المحتشمات يمشين سوية .. كأنهم يخفن من أن يتلوثوا بهذه الجموع الغفير من البنات اللواتي أصبحن كعارضات الأزياء بتلك العباءات المزركشة .. والملونة .. والطرح المبهرجة .. وكأن وجود العباءة أو عدمه لا يفرق كثيراً ..
وولد صغير يلاحق أخته ..
ثم ..
لمح فتاتين .. إحداهما طويلة والأخرى متوسطة الطول ..
إنها تدق فيه منذ فترة طويلة .. أو هكذا يبدو ..
كانت الطويلة خمرية اللون تلبس عدسات رمادية .. وأنفها الدقيق يزين وجهها وابتسامة ذكية جريئة.. وتلبس عباءة مزخرفة لامعة .. ووردة فيروزية تزركش طرفها السفلي ..
أما الأخرى فكانت تشبهها إلى حد ما .. إلا أنها كانت تحول أن تخفي بعض آثار الخجل بفشل .. بعباءتها ذات الخطوط الحمراء القانية .. ومن التفاتها المتكرر تستطيع أن تقول وببساطة .. أنها تظن أن الكل ينظر لها . كانت تتلفت يمنة ويسرة وكأنها تخشى أمراً ما .. وبعبارة أدق كانت مرتبكة ..
وبتلقائية ودونما إحساس .. وجد قصي نفسه يتقدم بثبات نحوهم .. كان يمسك في يده كوبه .. وتتصاعد رائحة القهوة الساخنة بقوة ولما اقترب .. وقال ببساطة : عفواً يا آنسات ..
تظاهرت الفتاة الطويلة بالدهشة وهي تقول : ماذا ؟
فقال بثبات وبكل الثقة : أنا قصي مناف من جامعة الملك عبد العزيز قسم الصيدلة .. وإني مكلف بإجراء استبيان عن الأدوية .. فهل أستطيع أن آخذ من وقتكم بضعة دقائق ..
امتقع وجه الفتاة القصيرة .. إلا أن الأخرى قالت بقوة : وبنظرة ثاقبة : تجري استبيان بدون أوراق ؟
قالتها وكأنما أوقعته في فخ ..
ولكن قصي قال ببساطة وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة: الموضوع لا يحتاج إلى أوراق .. إنها مجرد أسئلة بسيطة للغاية .. فقالت بتذاكي : ولكن عليك أن تحسب الأرقام .. حتى لو كان استبيانك في سؤال واحد على الأقل ..
ابتسم قصي وقال : ألا ترين أنك تحكمين النطاق ؟
فضحكت الفتاة ضحكة المنتصر وقالت : ألست أنت من تقوم أنك ملزم بعمل استبيان ؟
ابتسم قصي بسخرية وقال : حسناً ..
وبعين سريعة التقط ورقة لإعلان من كشك مجاور تراصت عليها أسماء لمعطرات جسم مختلفة ..
وأخرج من محفظته قلماً صغيراً وراح ينظر لها بنظرات سفلية وهو يقول لها : تحبين الطرق الصعبة ..
فقالت الفتاة بجذل ورفعت رأسها بانتشاء : إنها أكثرها إمتاعاً ..
فقال وهو ينظر فيها بعين تخفي وراءه صراخ ضحاياه .. وأسرار الماضي : صدقيني إنها ليست كذلك ..
كانت الفتاة الأخرى وأعني بذلك القصيرة .. تنظر يمنة ويسرة .. لا تكاد تعرف كيف تتصرف .. صامتة طوال الوقت ..
قال قصي للفتاة الطويلة : عفواً قلت لي ما اسمك ؟
فقالت البنت بنظرة ماكرة : للاستبيان ؟
فضحك قصي .. فقالت الفتاة : اسمي أمل ..
ثم أشارت إلى الفتاة الأخرى وقالت : وهذه ابنة خالتي ياسمين ..
نظر قصي في لطيفة .. وابتسام بكل فتنة وقال : أهلا بالقمر ..
ولربما ظن البعض كم هي جرأته أن يبتدئ بمثل هذه الكلمة في أول مرة يحادث فيها ياسمين .. وفي نفس الوقت .. يحس بالتناقص في التصرف بحذر أمام أمل وبالتهور أمام ياسمين ..
إلا أن البارعين هم فقط الذين يستطيعون إدراك التلقائية التي اكتسبها قصي في فن التعامل مع أنثى متمرسة متمردة مثل أمل .. تحتاج إلى صبر وقليل من التشبث .. حتى تستولي عليها .. ومن ثم تستطيع التحكم بها بكل سهولة .. وبكل وقاحة حتى ..
وبين ياسمين التي من الواضح سذاجتها .. واستجدادها على هذا العالم الجديد .. الذي يغرق أصحابه في الوحل .. وإن ظن أصحابه عسلاً .. فمرارته لا تظهر إلا عند الجرعة الأخيرة .. حرقة في القلب .. وأخرى في الروح ..
تورد خدا ياسمين وابتسمت .. وصارت تنظر في الأرض في خجل .. لم ينتظر قصي طويلا .. وإنما دخل مباشرة وقال : هل لي أن أدعوكم إلى كوب من القهوة ؟
نظرت أمل إلى ياسمين وقالت : ما رأيك ؟ همم ؟
ردت ياسمين وهي تقول لأمل بصوت هامس ببعض الكلمات ..
فقالت أمل : ياسمين .. كم مرة قلت لك .. لن يأتي ..
ثم التفتت إلى قصي وقالت : لا بأس ..
ما بالها هذه الفتاة .. ومن تراها تنتظر ؟ أم أنها خائفة أن يراها أحد وهي برفقة شاب ؟
سار الجميع .. مسافة قصيرة .. حتى وجدوا لوحة عريضة مكتوب عليها : الجزيرة الخضراء coffee shop
وبعد دقائق كان قصي يجلس على الطاولة .. وأمل وياسمين مع آيس تشوكلت وآيس مانجو ..
كانت ياسمين تشرب .. والارتباك يبدو في ملامحها وهي تحرك المصاص يميناً ويساراً .. وتلتفت لتلاحظ من أتى ..
فقال لها قصي ببساطة وابتسامة وهو يضع قدمه على ساقه الأخرى: هل تنتظرين أحداً يا ياسمين ؟
فنظرت فيه أمل وقالت : إنها تنتظر أن ترى أحمد ..
التفت لها ياسمين بحدة وقالت : أمل !
نظرت فيها أمل ورفعت حاجبيها وقالت : ماذا ؟ أليست هذه هي الحقيقة .. ألست أنت من أتيت بي إلى هنا ؟!
لم تتغير جلسة قصي وبنفس الابتسامة قال : يبدو أنك تحبين أحمد هذا ..
فقالت أمل باشمئزاز : إنه حتى لا يهتم لها ..
فقاطعتها ياسمين وقالت : من قال لك ؟
فقالت أمل : يا بنت افهمي .. لقد كلمني وقال : لا تدعيها تتصل مرة أخرى .. لم يرد على اتصالاتك كل يوم .. وأنت لم تتعرفي عليه إلا منذ أسبوع .. ماذا تتوقعي أن يكون ؟
فقالت ياسمين : ولكنه قال بأنه يحبني ..
ضحكت أمل وقالت وهي تنظر إلى قصي : هل تصدق ما تقوله هذه العبيطة ؟!
يبدو أن أمل هذه ليست سهلة بالمرة .. ويبدو أن لها باعاً طويلاً في هذا الأمر .. كم يكره هذا الصنف من البشر .. ويبدو أن ياسمين .. ساذجة كالباقيات ..
ولو أن عينا أمل كانت تكشف ما خلف العيون .. لوقع قلبها في يدها .. من الاحتقار الذي كان قصي يختفي خلف عينيه .. للفتاة المستهلكة .. للبنت التي ربما تكون بكراً عضوياً .. ولكنها قذرة روحياً .. لفتاة .. فقدت ما يجعلها أنثى .. ويجعلها إنسانة .. يستحق أن يُنظر فيها كفاكهة ناضجة .. ولكنها بدلاً من ذلك .. كانت مجرد تفاحة مجخية .. أُكل نصفها .. ثم تركت في الحر لتتعفن ..
مرت هذه الأفكار في ذهن قصي بسرعة .. ولكنه قال : أخبريني ما القصة .. وقد أجد لك الحل يا ياسمين .. على الأقل استمعي لرأي بعيد عن الموضوع .. ربما لدي نظرة مختلفة .. وقد أساعدك ..
التفتت ياسمين إليه .. وهي تفكر .. وتحدجه بتلك النظرة الفاحصة المتسائلة .. بأي حق أعطيه الثقة ؟
هنا قاطعت الحديث أمل كعادتها وهي تنهض بعد أن كانت تنظر في جوالها : ياسمين .. سوف أذهب قليلاً .. لقد أتى عمار ..
ثم نظرت في قصي مبتسمة وقالت : سأتركها قليلاً .. لا تدعها تغب عن ناظريك .. إنها ليست من جدة ..
ثم غمزت له .. وأشارت له بسبابتها كأنها تصوب عليه مسدساً .. يبدو أنها تحب مشاهدة الأفلام الأمريكية الخاصة وتكثر من هذه السخافات كثيراً ..
ولم تكن ياسمين وحدها من أُصيبت بربكة جراء ما فعلته أمل .. ولكن حتى قصي أصيب بدهشة بالغة .. كيف تتركها وحدها هكذا؟! يا لها من قريبة .. المشكلة أن معظم علاقات البنات تبدأ هكذا .. تبدأ واحدة منهن بعلاقة .. وتحكي لقريباتها من هن في سنها .. ويبدأ هذا العفن ينتشر كوباء في العائلة .. ويطول الخبيث والحسن سوية ..
لم تجد ياسمين ما تقول .. وأحس قصي كم مسكينة هذه البنت .. ولا يدري لم أحس بشفقة تجاهها فقال وهو يعني ما يقوله هذه المرة : لا عليك هدئي من روعك .. الموضوع لا يحتاج كل هذا التوتر ..
ولكن ياسمين .. بدأت تفرك يديها في عصبية ملحوظة .. فقال قصي بنفس الهدوء وبعين حادة : تعلمين .. ابنة خالتك هذه لئيمة .. كيف تتركك وتذهب هكذا ؟!
فقالت ياسمين : لا إنها طيبة القلب .. ولكنها تتصرف أحيانا هكذا ..
صمت قليلاً قصي .. حين أتى العامل ليحمل الأكواب الفارغة .. فقال قصي لها : هل تريدين شيئاً آخر ؟
فقالت الفتاة : لا شكراً ..
فالتفت إلى النادل وقال : قهوة تركي سكر زيادة ..
حل الصمت قليلاً .. وراح قصي يتطلع في يديه .. لا يدري لم أحس أنه لا يريد أن يبدأ .. لا يريد أن يقوم بشيء .. أحس أنه يريد أن يعود لمنزله دون أن يقوم بشيء ..
"أمل هي التي عرفتني عليه " التفت قصي إلى ياسمين التي كان من الواضح أنها حاولت كثيراً وفكرت مراراً قبل أن تقول هذه الجملة ..
ورغم أنه كان يهم بالنهوض .. إلا أنه جلس يستمع ..
وراحت ياسمين تتكلم ..
كانت ياسمين قد قدمت إلى جدة لقضاء أسبوعين لدى خالتها هنا .. والأنس بابنة خالتها أمل .. فقد كانت تقيم في المدينة .. وكعادة أمل .. كانت تتكلم عن علاقاتها العاطفية المتعددة .. وكانت ككل مرة تصر على ياسمين أن تتكلم مع من يكلم أمل ..
وتلك صفة دميمة للفتيات من هذا النوع .. لا تدري لم يحاولن ذلك؟ أهي طريقة لكي يحسسن أنهن لسن الوحيدات اللواتي تلوثن بهذه القذارة ؟ أما ماذا ؟ لم لا يتركن الباقيات في سلام ؟!
وتعرفت ياسمين بأحمد .. واحد من أصدقاء أمل .. والتقت به مع أمل هنا في سوق حراء .. وكانت أول مرة في حياتها تقابل شاباً .. كانت أول مرة .. تقابل فيها رجلاً .. إنها حتى لا تلبس مثل هذه العباءات المزركشة .. إنها حتى لا تعرف شيئاً في عالم الأولاد والبنات ..
وبطبعه .. كعادة الشباب الكثيرين هنا .. أضاف إلى قائمة الأسماء الموجودة في جواله اسماً جديداً ..
أخبرها أنه يحب هذا السوق كثيراً .. ويحب التجوال فيه كثيراً .. وبعد أسبوع .. وبدون مقدمات .. قالت لها أمل : لقد طلب مني أحمد لا تتصلي على مرة أخرى ..
كانت صدمة لياسمين .. صدمة الحب الأول .. الذي حتى لم يأخذ حقه في النضج .. أسبوع واحد ولكن ياسمين .. كانت تستمر بالاتصالات .. فقد أذاقها من الكلام حلوه .. حتى أحست أنها تحبه .. لأنه العلاقة الأولى لها .. وقد كان شيء يسير على ما يرام .. ولكن فجأة تغير كل شيء دفعة واحدة ..
كانت ياسمين تتحدث .. وفي عينيها تمتليء الدموع .. كانت تتكلم .. وحرارة الكلمات .. تكاد تتصاعد من احتراقات الأحرف ..
وهنا أحس قصي بطيف حزين يمر أمام عينيه .. أحس كم هو يتعاطف مع ياسمين بحق .. أحس كم هي ساذجة .. أحس كم هي مسكينة وصغيرة .. إنها حتى لا تعرف كيف تتصرف .. إنها طفلة ..
نظر لها بإشفاق حقيقي وقال : أعلم ما تشعرين به ..
نظرت له ياسمين .. وقطبت حاجبيها وقالت : لا تقل مثل هذا الكلام .. حتى تظهر لي أنك متعاطف معي .. حتى تستطيع أن تحصل علي .. أعرفكم أيها الشباب .. لكم هذه الأساليب ..
حدق فيها قصي بدهشة .. ثم ضحك .. من أعماق قلبه ضحك ..
ضحك على نفسه .. هذه من المرات القلائل والنادرة التي يتعامل فيها مع البنات بصدق .. ومع هذا تظن أنه يخدعها .. ترى ما الحكاية .. هل أصبح الناس يصدقون الكذب .. ويكذبون الصدق .. أهذه الدرجة .. صار الصدق ضائعاً وسط الكذب ..
فنظرت فيه بعين حاقدة وقالت : لم تضحك ؟
توقف عن الضحك .. وقال بابتسامة : أنا آسف .. لم أكن أقصد ..
ولكن ياسمين كانت لا تزال حادة المزاج وقالت : الضحك من غير سبب قلة أدب ..
وبقدر ما يستطيع قصي أن يتعامل مع النبات .. إلا أنه لا يسمح لهن بأن يقللن من قدره بأي طريقه ..
نظر فيها هذه المرة بقسوة لثواني .. حتى أشاحت ياسمين بنظرها .. وقصي لا زال ينظر فيها .. ثم أخرج من محفظته خمسين ريال .. يغطي الطلبات ويزيد .. وتركها على الطاولة .. وقال : لا أسمح لأحد أن يخاطبني بهذه اللهجة .. يبدو أني كنت مخطئاً .. حين دعوت أمثالكم بأدب إلى قهوة ..
كان لا يهتم قصي للبنات .. بل لا مانع لديه أن يحطمهن .. بدون اهتمام .. إنه ليس من ذلك الصنف من البشر الذي لا يعاقب الفتيات لأنهن فقط فتيات .. بل قد يزيد في عقابه لهن .. لأنهن يعتمدن على ذلك .. بل ثق أنك سيضرب الفتاة التي تمد يديه وبأقسى من ضربتها .. ولن يهتم لبشر أبداً ..
نهض قصي .. وخرج .. وتعكر مزاجه .. وراح يقول في نفسه : غبية ..
"لو سمحت .. لو سمحت" التفت قصي إلى الخلف .. ليجد ياسمين .. بعين مملؤة بالدموع .. كانت تمسك بيديها .. وتبدو في حال مروعة ..
لم يتحدث قصي .. فقالت ياسمين بتردد : أنا .. أنا .. آسفة .. لم أكن أقصد ..
صار وجه قصي جامداً خالياً من المشاعر وقال : جيد أنك تأسفت ..
ثم تركها وذهب .. ولكن ياسمين لحقت به وقالت : لو سمحت .. لو سمحت ..
نظر لها قصي مرة ثانية .. وهذه المرة نزلت دمعتها .. ومسحتها بسرعة .. وقالت وهي ترطب شفتيها بلسانها : أنا لا أعرف أحداً هنا .. ولا أعرف ما أفعل .. وجوالي استقبال .. وقد استهلكت رسائل "اتصل بي" .. هل ممكن أن أتصل من جوالك ........... لو سمحت ..
نظر لها قصي مستعجباً .. يا لها من فتاة .. يا لها من ساذجة .. بل إنها مسكينة .. كيف أُلقي بها في عالم الوحوش هذا .. بل كيف تركتها أمل تلك الحيوانة بهذه البساطة ..
هدأت ثورة قصي .. وأحس بالألم لها .. أحس بالماضي الذي راح يعتصره كثعبان سام .. وراحت نغمات حزينة تسري في روحه .. وراحت عينه تتقلص .. وزفرة حارة من صدره تخرج لتنفث معها ألماً لا يحتمل ..
وصور تمر في رأسه سريعة .. الحديقة .. "أنا التي كنت ........ " .. ذهول كبير ..
شد قصي على قبضته بمنتهى العنف ..
ثم التفت إلى ياسمين بابتسامة أخت كل الجحيم الذي به وقال لها : هل تحبين الـ Cinnamon ؟
فنظرت فيه ياسمين وقالت : ما هو هذا السينمون؟
ابتسم قصي وهي يستعجب من انغلاق هذه الطفلة الكبيرة .. التي لم يلوثها جنون الحياة العصرية .. ثم قال لها : سأريك إياه الآن ..
وبعد دقائق .. كان قصي مع ياسمين وفي يديه علبتين من حلوى القرفة ذات النكهة الشهية .. جلسا في الطاولة الموجودة أمام المحل .. ثم وضع قصي علبة أمامها .. ثم فتح علبته .. وقال لها : وكيف سوف تتصرفين مع أحمد؟
نظرت فيه وقالت : ألست غاضباً مني ..
أخذ قصي أول قضمة من الحلوى وقال : لقد اعتذرت .. وبما أنك غريبة من جدة .. لن أستطيع أن أتركك وحدك .. ليس قبل أن تأتي ابنة خالتك .. تلك تحتاج إلى تأديب ..
ابتلعت ياسمين ريقها وقالت : لم ؟
فقال قصي : كيف تتركك مع رجل غريب .. قابلته لتوها .. من أجل أن تذهب مع فتى آخر .. هذه حقارة ..
لم تستطع ياسمين أن تدافع عن ابنة خالتها أمام قوة شخصية قصي .. واكتفت بالصمت ..
نظر لها قصي وقال : هل تحبين أحمد؟
قالت ياسمين وهي تنظر في العلبة إلى الأسفل : لا أعرف .. لم أحس بأن هناك من يهتم بي هكذا من قبل ..
ثم التفتت إلى الناحية الأخرى وقالت : أريد أن أرجع إلى المدينة .. وأنا لا أعرف كيف سوف أتصرف .. ولا أعرف ما أفعل .. ليس لدي من أستشيره حتى .. وأمل تقول لي بأن أنساه .. ولكنها لا تشعر بما في .. أحس أني وحدي جداً ..
أغمض قصي عينيه .. وكأنما أصابته هذه الفتاة في الصميم .. كم يكره قصي هذه الكلمة .. وحدة .. كم يحس بها تقتله .. كم يحس بها كحمض يغزو كيانه ..
نظرت فيه ياسمين مرة أخرى وقالت : لا أعرف لم أقول لك كل هذا ..
ثم راحت دموعها تقطر من عينيها ..
نظر قصي إليها .. وهو يحس بإشفاق بلا حدود .. إلى هذه المسكينة .. التي ابتلاها الله بقريبة مثل أمل ..
مد قصي لها منديلاً .. فمسحت ياسمين دموعها .. ثم أحست بنكهة ساخنة قريبة من أنفها للقرفة تندفع وبقوة ..
نظرت .. فإذ بقصي يفتح لها العلبة .. ويمد لها شوكة مبتسما وهو يقول : كلي قبل أن تبرد الحلوى .. إنها لذيذة ..
المشكلة أنهما أمام كل الناس .. دون أي مشاكل .. لقد بات من الصعب .. أن يعرف الواحد منا من يمشي مع أخته .. ومن يمشي مع صديقته .. ربما الزينة الزائدة عن حدها تعتبر أول دليل على مثل هذا الفجور ..
مشكلة أن يأمن كل من الشاب والبنت .. أنهم بعيدون عن العقاب .. مشكلة .. أن يقر المجتمع على مثل هذه الظاهرة .. دون أن يكون هناك رادع ..
نظر فيها قصي .. وهو يضع الشوكة البلاستيكية في فمه وهو يقول : ما بك ؟
نظرت فيه ياسمين وقالت : أنا خائفة ..
فقال قصي : مم ؟
ضمت شفتيها .. وحركتهما ثم وقالت وهي تنظر للأسف : منك ..
لم تبدو الدهشة هذه المرة على وجه قصي .. فهو الآن يعلم من هي هذه الفتاة .. يعلم أنها أنثى .. لم تتقذر .. لا زالت فاكهة طازجة .. ليست لها الخبرة في التعامل مع جنون الحياة ..
ثم قال لها : ياسمين .. لست بحاجة أن تخافي .. فأنا لن أؤذيك ..
حدقت فيه ياسمين وقالت : ولم أصدقك ؟
ابتسم قصي وقال : ستصدقيني يا ياسمين .. وأنا أعدك .. لأني لن أخدعك .. ولن أكذب هذه المرة .. وسأكون بجوارك ..
نظرت فيه ياسمين وهي لا تفهم .. لم تفهم .. أن الخبير سيكون معها ..
لقد قرر قصي .. أن يساعد هذه الفتاة .. لقد قرر قصي .. أن يلعب دور المصلح هذه المرة ..
لقد قرر .. أن يخلصها من تفاهتها .. لتعرف كيف هي الحياة تمضي .. بعيداً عن هذا الوحل .. بعيداً عن الحياة الملعونة .. بعيداً عن شياطين الإنس .. بعيداً عن مواخير الأسواق .. والمطاعم .. وأن يلقن أمل تلك .. درساً لن تنساه في حياتها .. حتى تتوقف عند حدها .. وعن عبثها بالفتيات العاديات .. حتى يشاركنها مستنقع الخطيئة ..
ترى ما الذي حصل ؟
وما الذي سوف يفعله قصي ؟
وكيف ستغير هذه التطورات في القصة ..
الخميس
16/رجب/1427
11:23 صباحاً

الجزء الرابع
الفصل الثاني
هذا هو قصي .. يجلس .. في غرفته .. وعلى مكتبه الجميل .. وهو يستمع إلى الموسيقى عبر السماعات الكبيرة في أركان الغرفة .. بشيء من الاستمتاع .. وكأنما الكون كله في مكان آخر غير ذلك الذي يجلس فيه .. والنغمات .. تدخل إلى أذنيه .. وتنصهر في حوض روحه .. لتجعله سحابة بيضاء .. تسمو نحو السماء .. دون قيود أو حدود .. ورائحة القهوة التركية التي يشربها .. تجعله في قمة النشوة الفكرية ..
وراح يفكر .. في ياسمين .. تلك المسكينة .. تلك الطفلة التي ألقت بها الظروف في يد شيطانة آدمية مثل أمل .. استطاعت بقوة شخصيتها .. أن تجعل ياسمين تسلك معها في مزالق الخطايا ..
وراح يطالع كوبه الذي شارف على الانتهاء .. وعلى بقايا البن في قاع الكوب .. التي تمايلت فوقها القهوة تجعل البن يتلألأ .. كما لو كان رمل الشاطيء في الليل .. تقبله أمواج البحر ..
وراحت به الذكرى .. تأخذه إلى هناك البعيد ..
كل شيء له بداية .. كل قصة تخرج من نقطة .. كل حكاية .. لها منطلق ..
بالتأكيد لم يولد قصي ومعه هذه الخبرة .. ولم ينشأ مثل دون خوان أو كما يسمونه الدنجوان .. بتلك المقدرة السحرية على إغواء الفتيات ..
بل مر بمراحل .. وتطور .. حتى أصبح قصي الذي هو عليه اليوم ..
راح قصي يفكر في إن تركت ياسمين مع أمل .. فإن هذا سيكون الطريق لتكون هي الأخرى خبيرة ..
إلا أن المجتمع .. قد يتقبل الخبير .. ولا يتقبل الخبيرة ..
المجتمع .. قد يغفر الزلات للرجل ولا يغفرها أبداً لامرأة .. وتلك نظرية خاطئة .. لا تتسم بأي مقدار من العدل .. ولكنها موجودة .. ومُعاصرة .. تجعل الفتاة كما يعبرون عنها عود كبريت .. يشتعل لمرة واحدة ..
وراح قصي يحادث نفسه : ترى ما الحل؟
لا بد أن تكون الخطة الأولى .. أن يفرق بين أمل وبين ياسمين ..
نعم هذا هو أهم شيء في الموضوع .. بل إن هذا رأس الموضوع ..
ولكن كيف سيلقن أمل درساً لن تنساه .. كيف سيعلمها الأدب .. ويربيها من جديد .. وهي عود كبريت محترق في نظره ؟ لا تهتم لشيء .. ولا يفرق معها شيء .. إنها بالتأكيد .. لن تهتم كثيراً .. إن جعلها تحبه .. ثم تركها لغيره .. لأنها سوف تجد في اللحظة التي تلي فراقه بها .. عشرة رجال آخرين ..
على كل .. لا تستحق هذا الفتاة .. أن يجعلها ضمن قائمة "الكلاب العشرة" .. لأنها حتى الآن .. لم تفعل شيئاً كبيراً يدخلها تحت ذلك النطاق المرعب .. كما أنه لتوه خرج من المستشفى .. وإن قام بذلك .. سيتعب جداً ..
حسناً .. ياسمين سوف تعود إلى أهلها بعد أسبوعين .. وترجع إلى المدينة .. ولكن المشكلة .. أنها إن بقيت في يد أمل هذين الأسبوعين .. فلن ترجع ياسمين .. التي يعرفها أهلها .. لقد خاضت لتوها وبسرعة تجربة حب سريعة .. أين ستلقي بها أمل مجدداً ؟ إنه لن يسمح بهذا أبداً ..
لا يدري قصي .. لم هو مهتم لأمر هذه البنت؟ هل لأنه فقط قرر أن يساعدها .. وبذلك .. فرض على نفسه واجباً .. لا بد أن يفعله على أتمه .. أم لأنها تذكرها .. بذلك البعيد؟
على كل لا يهم كثيراً .. المهم .. أن ينتهي من هذا الأمر على الطريقة المثلى .. وأن يحقق الهدف المنشود ..
إنه الخبير ..
رفع جواله .. وراح يبحث عن رقم ياسمين .. ثم ضغط بالعصا الصغيرة المرافقة للـ i-mate واتصل عليها ..
وعندما ردت ياسمين .. قال لها : أهلا ياسمين .. كيف حالك ؟
ردت ياسمين : أنا .. بخير ..
ثم أحس قصي أنها تحاول أن تكون أكثر جرأة وقالت : كيف حالك أنت ؟
تجاهلها قصي .. وقال لها : هل أستطيع أن أقابلك اليوم في "جافا"؟
وجافا هذا .. مقهى .. مشهور بمثل هذه المواعيد الغرامية .. ويشتهر بقلة الأدب .. إنه مكان .. غير لائق للناس المحترمين ..
ارتبكت ياسمين قليلاً .. ولكنها قالت : سوف أرى ..
ولأول مرة .. ينتظر قصي .. بحق أن توافق فتاة على مقابلته .. إنه يريد بها خيراً هذه المرة .. ولن يحاول أن يلعب إحدى ألاعيبه المعتادة .. وبالتالي .. لم يحاول أن يضغط عليها كثيراً .. ولكنه كان يريد لقائها ..
انتهى من مكالمتها .. ولكن لم تمضي أكثر من ثلاثة دقائق .. حتى ردت عليه ياسمين .. وقالت له بأن أمل سوف تخرج مع عمار .. وسوف تتركها في التحلية مول ..
فقال لها : لا بأس سأكون هناك ..
وبعد ساعة .. كان في التحلية مول .. كان على غير العادة يلبس ثوباً أصفر اللون .. عليه تطريز خفيف ولكن ينم عن ذوق أخاذ .. على ياقته وعلى الأكمام المفتوحة .. وحذاء أسود فخم .. ذو قاعدة عالية .. وساعة جلدية .. تلمع الفصوص الماسية على رباعية ثلاثيات أرقامها 3..6..9..12 ..
وبعد دقائق .. كانت ياسمين موجودة ومعها أمل .. وكأنما ذاتهما قبل أيام .. نفس العباءة المزركشة ذات الوردة الفيروزية .. والأخرى ذات الخطوط الحمراء القانية ..إلا أن ياسمين هذه المرة كانت تضع مكياجاً خفيفاً وتبدو بعض من تقاطيعها الحلوة .. كانت ياسمين .. مبتهجة بعض الشيء .. إنها حماسة المقابلات الأولى التي كان قصي يحفظ تفاصيل العروق التي تظهر فيها ..
أما أمل .. فكانت عيناها تبحث هنا وهناك ولا تستقر على شيء .. وكأنها تعرف كل من في السوق .. يبدو أنها لم تترك مركزاً تجارياً .. إلا ودخلت فيه .. وحفظت من فيه من الشباب .. إنه نوع من البنات .. يجبرك على احتقاره .. وعلى الخوف من مسه .. حتى لا تصيبك بالنجاسة ..
ولكنها لما رأت قصياً هذه المرة .. كانت نظرتها له مختلفة .. كانت تنظر فيه بقوة .. وهذا ما ابتسم له قصي في نفسه .. يبدو أن الغنى يروق لهذه الفتاة .. ويغير في تفكيرها .. إنها إذن من ذاك النوع الذي لا يتوارى .. عن الطلب وبكل وقاحة من أصدقائها من الشباب ما تريد .. كأنها حيوان رمّي .. يعيش متطفلاً على بقية الكائنات ..
جيد .. هكذا .. سوف تسهل عليه المهمة أكثر بكثير .. لقد كان قصي يجرب مفاتيح أبواب البنات ويبدو أن الحظ حالفه في المرة الأولى .. أو إن قلنا أنه صار يخمن نوع الفتاة .. لكنا أقرب للصحة ..
وراحت أمل تتكلم معه على غير العادة .. وتفتعل الضحكات .. بطريقة مبتذلة .. وقصي يبتسم في سخرية .. وفي عيون تخفي وراءه الكثير .. أما ياسمين .. فلم تتكلم بكلمة .. ولكن الانزعاج كان واضحاً في عينيها .. وكأنما تقول بلسان حالها : إنه لي .. فلم تتحدثين معه ؟
وبعد دقائق .. كان جوال أمل يصدر نغماته .. نظرت أمل في الجوال .. ثم قالت : يوووووووه .. إنه عمار ..
سحبت إحدى شفتيها في انزعاج .. ثم التفتت إلى قصي وقالت : لا بد أن نتقابل مرة أخرى .. ما رأيك في المرة القادمة .. أن نذهب سوياً إلى مطعم ما أو إلى أي مكان تحب؟
ابتسم قصي وقال : ولم لا ؟
وبعد دقائق .. كانت أمل قد ذهبت وكانت ياسمين مع قصي .. خيم عليهم صمت لدقائق .. فقال قصي : ما رأيك أين نجلس ؟
فقالت له ياسمين وهي تنظر فيه بعيونها الكحيلة : ألم تقل أننا نريد الذهاب إلى "جافا"؟
نظر فيها قصي .. وابتسم بسخرية .. وقال : وأنت هكذا بكل بساطة تخرجين فيها مع أي شاب بالسيارة إلى أي مكان؟
ارتبكت ياسمين ولم تعرف ما تقول .. ولكنها كانت تحدق فقط في قصي .. الذي قال : كم مرة خرجت مع شاب في السيارة؟
قالت ياسمين بتردد : ولا مرة ..
بدت من قصي نظرة قاسية .. ممزوجة بقلق وهم .. إنها نظرة تلوح في أعين إخوتنا الكبار حين يريدون منا أن نتعلم أمراً ما .. ثم قال لها : أتعرفين ما هو "جافا"؟
فقالت له : مطعم .. أظن ؟
فقال لها قصي بغيظ : أيضاً لا تعرفين أنه في الأساس كوفي شوب؟! تعالي ورائي .. يبدو أنك سوف تتعبيني كثيراً ..
مشت ياسمين من وراءه منصاعة .. لا تعرف كيف تتصرف .. قادها قصي إلى مقهى صغير .. وجلس معها في الطابق الثاني بجوار النافذة التي كانت تطل على بهو السوق.. وطلب لها آيس تشوكلت .. وقهوة تركية بالطبع لها ..
كانت الطاولات مربعة .. قصيرة .. عليها مربعات بيضاء وبرتقالية باهتة .. ويفصل ما بين كل جلسة وأخرى .. جدار قصير .. على حافته أصيص مستطيل عريض ..
وراح يتكلم معها وبدأ بهجوم مباشر: أبكل هذه البساطة تقبلين أن تخرجي مع فتى ؟ ألا تعلمين ما يفعله الأولاد بالبنات .. إن أي أحد يمكن أن يخطفك بكل بساطة..
لم ترد ياسمين .. ولكنها اكتفت بالنظر لقصي الذي تابع : ثم ما هذه الخرابيط التي تملأ وجهك ؟ تبدين كبنت قليلة الأدب .. تنتظر أن يرقمها شخص ما ..
ولكن ياسمين .. راحت تنظر بعيون مفتوحة على اتساعهما دون أن ترد بكلمة .. وراح خط رفيع جداً .. يتلألأ على عينيها من الأسفل ..
فقال قصي : أأنت بلهاء لهذا الحد ؟
هنا .. نزلت الدموع من عيني ياسمين وقالت : لم توبخني هكذا ؟ ماذا فعلت لك ؟
انتبه قصي .. أنه قد أفرط وأثقل عليها .. ولكنه قال على ذات الوتيرة : إنها الحقيقة ..
فقالت ياسمين .. وهي تدافع عن نفسها باستماتة : وكيف سأتعرف إذا؟
نظر لها قصي وقال : ومن قال أنك لا بد أن تتعرفي أصلاً؟
فقالت : كل البنات يتعرفن؟
فقال قصي : من الغبي الذي وضع في رأسك هذه الفكرة ؟
فقالت ياسمين : بلى كل البنات يتعرفن؟ أليست هذه الحقيقة التي لابد لي أن أعيش بها ؟!
ثم راحت تنظر إلى الزجاج ودموعها تنزل وهي تقول : لن أبقى طوال عمري .. والناس تقول عني بالصغيرة التي لا تفهم أي شيء ..
قال لها قصي : وهل بتعرفك على الأولاد .. تصبحين كبيرة؟ وتصبحين الفتاة الناضجة .. انظري حولك جيداً .. وافتحي عينيك ..
وراح يشير لها بأصابعه إلى عدة فتيات وهو يقول : أهذه الفتيات المحترمات .. يردن الترقيم؟ إنهن على الأقل لم يكتبن على وجوههن بالأصباغ .. والأحمر والأزرق .. أنا هنا .. تعال ورقمني ..
ثم فرقع بإصبعيه .. وقال : استيقظي يا ياسمين .. وأفيقي من هذه الأفكار الغبية .. وفكري في سمعتك .. فتاة .. فكري فيما يريده الشباب منك ؟ فكري في العار الذي سوف تلحقيه بأهلك ..
نظرت له وقالت : إنك تتكلم مثل مدرستنا في المدرسة ..
قال لها وهو يبتسم بسخرية : يبدو أنك إذا لم تتعلمي منها جيداً الدرس .. يبدو أنك تريدين أن تحترقي بنار العار .. حتى تفهمي الدرس جيداً بعد فوات الأوان ..
راحت تنظر فيه ياسمين وهي صامتة أمام كلمات قصي الحارقة ..
ثم قالت : ولكن أحمد كان يحبني ..
فقال قصي : ألا تفهمين بعد أنه يخدعك؟ كما يخدع الكثيرات ..
فقالت ياسمين : ولكنه لم يكن كاذباً ..
فرد قصي : لن تستطيعي أن تفرقي بين الصادق والكاذب هذه الأيام ..
ثم تابع قصي وهو يتكلم بجدية : ياسمين .. لقد قلت بأني سوف أساعدك .. ولذلك أنا أخبرك الحقيقة .. أخبرك بما لن تسمعيه من الأولاد ..
فقالت ياسمين : ومن قال لك بأن تساعدني؟
فقال قصي بقوة : لأنك ستجلبين العار لأهلك .. لأنك سوف توغلين رأس أبويك الذين وثقا بك في الوحل .. لأنك سوف تجعلين أقرب الناس لك لا يستطيعون أن ينظروا في وجوه الناس من الخجل ..
وهذه المرة بكت ياسمين .. بكت هذه الطفلة الصغيرة .. كان قصي قاسياً .. كان لا يرحمها .. ولا يبقي لها من الكلمات إلا ما يوجعها .. كان يوقظ فيها الضمير النائم .. كان يوقظ في نفسها الفطرة السوية .. وضعت رأسها في بين يديها .. وهي مستمرة في نزف الدموع ..
وكأن قصي يعرف أن أسلوب الصدام المباشر .. يخلخل الفكر .. ويوصل لحافة الانهيار من المعتقدات السخيفة .. أسلوب قاسي ولكنه أحياناً فعال ..
جاء النادل السوداني وقال : هل من مشكلة ؟
فقال له قصي ليلهيه : أريد ماءً بارداً لو سمحت ..
وبعد قليل .. رفعت ياسمين رأسها من بين يديها .. فقال لها قصي بصوت دافيء: حمام النساء من هناك .. تستطيعين أن تغسلي وجهك بالماء .. سأنتظرك ..
وكأنما ياسمين متعودة على السماع والطاعة .. ذهبت إلى الحمام .. وفي هذه الأثناء .. لم يضيع قصي وقته .. فتح جوالها الذي كان من نوع الفارس .. وبدأ يبحث بين الأسماء على أحمد .. ولكن عبثاً يحاول .. كانت كلها أسماء بنات ..
قال قصي في نفسه : يا لها من صغيرة خائفة ..
فتح قصي قائمة "السجل" .. بخبرة واعتياد على مثل هذه الحركات .. وحرك بالمؤشر على اليمين .. وهناك ظهرت القائمة التي تحتفظ بكل المكالمات الصادرة والواردة .. بكل التفاصيل الدقيقة ..
وراح يبحث عن الرقم الأكثر تكراراً في الأيام السابقة.. وضحك كثيراً عندما كان أكثر رقم تكرر من المكالمات الصادرة : أسماء الزهراني وأمل .. طريقة قديمة جداً لإخفاء أسماء الأولاد عن أعين المتلصصين .. ولكنها قديمة ..
سجل قصي هذين الرقمين .. وبعدها ترك الجوال كما هو .. وما هي إلا ثوانٍ فصلت بين ترك قصي الجوال .. وبين خروج ياسمين ..
جلست ياسمين .. وهي لا تتكلم .. وتنظر بعيداً عن ياسمين .. فقال لها قصي : هل تحبين الكتابة يا ياسمين ؟
نظرت فيه ياسمين وقالت : الكتابة؟
قال لها قصي مبتسماً : أجل الكتابة ..
فقالت ياسمين باستغراب : أبداً .. آخر شيء فكرت فيه في حياتي الكتابة ..
كان قصي يحاول أن يغير الموضوع .. إن هذه البنت طفلة .. بالفعل إنها طفلة .. لا تجيد التصرف .. إن أقل هزة تقلب مراكبها .. وأي كلمة تذهب معها .. وتنسى كل شيء قبله ..
واستطاع قصي في الخمس دقائق القادمة .. أن يغير كل شيء .. وأن يتبادل معها حديثاً ودياً حول أمور أخرى .. عرف منها أنها تحب تنسيق الزهور .. ولكنها لم تجد الفرصة المناسبة .. وراح قصي ينقل الحديث معها من وادي إلى آخر .. ووصل معها إلى المكان الذي يريد .. وصل بها الحديث إلى بيتها .. وكما توقع تماماً قصي ..
فياسمين .. تعيش في أسرة عادية من المدينة المنورة .. وتعتبر هي البنت الثالثة .. في وسط عائلة مكونة من أربعة بنات وولدين صغيرين ..
عرف منها قصي .. أنها انعزالية منذ كانت صغيرة .. لا تحب الاختلاط كثيراً بالناس .. وأن أبوها هو الذي ساهم في تعزيز هذه الشخصية الضعيفة .. بالجفاف الأسري .. وانعدام الحوار بين أفراد العائلة ..
كانت ياسمين تحكي قصة آلاف البيوت السعودية .. وآلاف البنات .. الذين لم يجدن أنفسهن .. ولم يجدن أحداً يسمعهن .. ولم يجدن إلا طريقة واحدة للتعبير عن مشاعرهن وعن أحاسيسهن .. وليجدوا من يحتويهن .. ومن يعطف ويحن عليهم .. ويلقون منه كلمة عذبة .. ويشاركهن أحلامهم ودموعهن ..
كشفت ياسمين عن حالة كلاسيكية لفتاة سعودية .. لم يجد أهلها التعامل معها بالطريقة المناسبة .. فآلت إلى مهالك الأقدار ..
وبعد أن فاض بها الكيل من السخرية من أهلها ومن معارفها .. عن هدوءها .. وعدم ملاحظة أحد لها .. وإحساسها بالعجز .. قررت أن تتغير .. واتخذت من أمل مثلاً أعلى لها .. لتسير على خطاها .. كيف وأمل شخصية قوية .. تستطيع أن تغير رأي عائلتها بعنادها .. ورعونتها .. وأحياناً بقلة أدبها .. ولكن ياسمين لم تكن تفرق .. كل الذي كانت تريده .. أن تتغير .. أي شيء .. غير ياسمين الحالية ..
دام الحديث حوالي ساعة .. قبل أن تتصل أمل مرة أخرى على جوال ياسمين .. فقالت لها بأنها سوف تقابلها عند أرماني ..
ولكن قبل أن تغادر ياسمين قال قصي : سأتحقق لك يا ياسمين من أحمد .. لنرى إن كان يحبك أو لا؟
نظرت فيه ياسمين وقالت : وكيف ذلك ؟
فقال : اتركي هذا الأمر لي؟
نظرت فيه وقالت : شكراً يا قصي ..
ابتسم قصي ابتسامة ساخرة وقال : ولكنك سوف تصدمين صدمة عمرك يا ياسمين ..
فقالت ياسمين بتوتر : ولم ؟
فقال قصي : الحقيقة دوماً مرة يا ياسمين .. وقبل أن أتحقق .. فأنا أعرف الحقيقة .. لأنها واضحة وضوح الشمس ولا تحتاج إلى تحقق .. ولكني سآتي لك بالدليل القاطع .. حتى تعلمي أي درب تسلكين ..
قالت ياسمين : لا تستبق الأحداث يا قصي ..
فابتسم لها قصي ..
بعد ساعة .. كان قصي في كبينة تلفون يتصل على رقم معين .. رد من الطرف الآخر .. صوت رجل وقال : ألو ؟
حاول قصي تبديل صوته وهو يقول : أحمد ؟
فرد الرجل بارتياب : نعم أنا أحمد .. من ؟
فأغلق قصي السماعة .. وابتسم .. وقال في نفسه : جيد .. قد وصلنا لك يا شيخ أحمد ..
وفي المنزل.. وعلى سريره .. كان يمسك بجوال آخر من نوع سوني أريكسون .. وهو يرسل رسالة إلى جوال أمل .. بكلمات عذبة رقيقة .. ولم يترك اسماً .. بل تركه بدون اسم .. وبعدها بدقائق .. أرسل رسالة أخرى .. واستمر هكذا .. إلى أن أرسل حوالي سبعة رسائل ..
ثم أغلق الأضواء ونام .. دون أن يفكر في شيء .. نام هذه المرة .. ولم تراوده كوابيس اليقظة ..
وقبل الظهر بقليل .. استيقظ قصي .. وفتح عينيه .. نظر إلى مخدعه .. كان يعاني صداعاً خفيفاً .. دخل الحمام .. واغتسل .. ثم خرج .. وصلى الصبح الذي فاته .. وهو نائم .. ثم جلس على كرسي مكتبه وأجرى بعض الاتصالات على مدير مكتب أبيه .. السيد ناظم ..
والسيد ناظم شخص يثق فيه قصي كثيراً .. فقد كان مديراً لمكتب والده منذ أكثر من عشرين سنة .. بل إن قصي وعى على الدنيا وهذا الرجل موجود .. وأكثر ما يسعد قصي .. أنه ينفذ الأوامر دون أن يسأل .. ولأنه يعمل في شركة أبي قصي العالمية .. فإن له نفوذاً واسعاً .. وعلاقاته العامة في غاية القوة ..
وبعد ساعة .. كان قصي يستلم فاكساً طويلاً جداً للغاية ..
وعلى المكتب .. جلس يحتسي القهوة .. وهو يطالع ما بين يديه.. ويدون بعض الأشياء في ورقة خارجية ..في شيء من الاهتمام .. كان يضع في فمه المحدد الفسفوري .. في اهتمام بالغ .. وبعد ساعتين من التدقيق ..
تمطى قصي في كرسيه .. وجلس ينظر في الورقة الأخيرة .. التي كانت خلاصة عمله .. ثم فُتحت عينيه على آخرهما .. وراح ينظر في قوة .. ثم قال : مستحيل .. أيمكن أن يكون ؟!
ثم ضحك قصي .. ضحك بقوة بالغة .. وقال : هكذا .. تكون اللعبة أسهل وأحلى .. هكذا .. تكون اللعبة أكثر روعة وجمالاً .. لم أكن أتوقع هذا أبداً .. بل من كان يتوقع ؟
وراحت في عقله .. تتشكل خطة .. محكمة في قمة الإبداع ..
ترى ما الذي اكتشفه قصي ؟
ما الجميل الذي أسعده بهذا القدر ؟
وإلام يهدف قصي .. وفيم يفكر .. وهل سينفذ خطته المجنونة ؟
سنعرف كل هذا في الفصل الأخير من الجزء الرابع ..
د.خالد أبوالشامات
6:13 صباحا
18/ رجب /1427 هـ
الفصل الثاني
هذا هو قصي .. يجلس .. في غرفته .. وعلى مكتبه الجميل .. وهو يستمع إلى الموسيقى عبر السماعات الكبيرة في أركان الغرفة .. بشيء من الاستمتاع .. وكأنما الكون كله في مكان آخر غير ذلك الذي يجلس فيه .. والنغمات .. تدخل إلى أذنيه .. وتنصهر في حوض روحه .. لتجعله سحابة بيضاء .. تسمو نحو السماء .. دون قيود أو حدود .. ورائحة القهوة التركية التي يشربها .. تجعله في قمة النشوة الفكرية ..
وراح يفكر .. في ياسمين .. تلك المسكينة .. تلك الطفلة التي ألقت بها الظروف في يد شيطانة آدمية مثل أمل .. استطاعت بقوة شخصيتها .. أن تجعل ياسمين تسلك معها في مزالق الخطايا ..
وراح يطالع كوبه الذي شارف على الانتهاء .. وعلى بقايا البن في قاع الكوب .. التي تمايلت فوقها القهوة تجعل البن يتلألأ .. كما لو كان رمل الشاطيء في الليل .. تقبله أمواج البحر ..
وراحت به الذكرى .. تأخذه إلى هناك البعيد ..
كل شيء له بداية .. كل قصة تخرج من نقطة .. كل حكاية .. لها منطلق ..
بالتأكيد لم يولد قصي ومعه هذه الخبرة .. ولم ينشأ مثل دون خوان أو كما يسمونه الدنجوان .. بتلك المقدرة السحرية على إغواء الفتيات ..
بل مر بمراحل .. وتطور .. حتى أصبح قصي الذي هو عليه اليوم ..
راح قصي يفكر في إن تركت ياسمين مع أمل .. فإن هذا سيكون الطريق لتكون هي الأخرى خبيرة ..
إلا أن المجتمع .. قد يتقبل الخبير .. ولا يتقبل الخبيرة ..
المجتمع .. قد يغفر الزلات للرجل ولا يغفرها أبداً لامرأة .. وتلك نظرية خاطئة .. لا تتسم بأي مقدار من العدل .. ولكنها موجودة .. ومُعاصرة .. تجعل الفتاة كما يعبرون عنها عود كبريت .. يشتعل لمرة واحدة ..
وراح قصي يحادث نفسه : ترى ما الحل؟
لا بد أن تكون الخطة الأولى .. أن يفرق بين أمل وبين ياسمين ..
نعم هذا هو أهم شيء في الموضوع .. بل إن هذا رأس الموضوع ..
ولكن كيف سيلقن أمل درساً لن تنساه .. كيف سيعلمها الأدب .. ويربيها من جديد .. وهي عود كبريت محترق في نظره ؟ لا تهتم لشيء .. ولا يفرق معها شيء .. إنها بالتأكيد .. لن تهتم كثيراً .. إن جعلها تحبه .. ثم تركها لغيره .. لأنها سوف تجد في اللحظة التي تلي فراقه بها .. عشرة رجال آخرين ..
على كل .. لا تستحق هذا الفتاة .. أن يجعلها ضمن قائمة "الكلاب العشرة" .. لأنها حتى الآن .. لم تفعل شيئاً كبيراً يدخلها تحت ذلك النطاق المرعب .. كما أنه لتوه خرج من المستشفى .. وإن قام بذلك .. سيتعب جداً ..
حسناً .. ياسمين سوف تعود إلى أهلها بعد أسبوعين .. وترجع إلى المدينة .. ولكن المشكلة .. أنها إن بقيت في يد أمل هذين الأسبوعين .. فلن ترجع ياسمين .. التي يعرفها أهلها .. لقد خاضت لتوها وبسرعة تجربة حب سريعة .. أين ستلقي بها أمل مجدداً ؟ إنه لن يسمح بهذا أبداً ..
لا يدري قصي .. لم هو مهتم لأمر هذه البنت؟ هل لأنه فقط قرر أن يساعدها .. وبذلك .. فرض على نفسه واجباً .. لا بد أن يفعله على أتمه .. أم لأنها تذكرها .. بذلك البعيد؟
على كل لا يهم كثيراً .. المهم .. أن ينتهي من هذا الأمر على الطريقة المثلى .. وأن يحقق الهدف المنشود ..
إنه الخبير ..
رفع جواله .. وراح يبحث عن رقم ياسمين .. ثم ضغط بالعصا الصغيرة المرافقة للـ i-mate واتصل عليها ..
وعندما ردت ياسمين .. قال لها : أهلا ياسمين .. كيف حالك ؟
ردت ياسمين : أنا .. بخير ..
ثم أحس قصي أنها تحاول أن تكون أكثر جرأة وقالت : كيف حالك أنت ؟
تجاهلها قصي .. وقال لها : هل أستطيع أن أقابلك اليوم في "جافا"؟
وجافا هذا .. مقهى .. مشهور بمثل هذه المواعيد الغرامية .. ويشتهر بقلة الأدب .. إنه مكان .. غير لائق للناس المحترمين ..
ارتبكت ياسمين قليلاً .. ولكنها قالت : سوف أرى ..
ولأول مرة .. ينتظر قصي .. بحق أن توافق فتاة على مقابلته .. إنه يريد بها خيراً هذه المرة .. ولن يحاول أن يلعب إحدى ألاعيبه المعتادة .. وبالتالي .. لم يحاول أن يضغط عليها كثيراً .. ولكنه كان يريد لقائها ..
انتهى من مكالمتها .. ولكن لم تمضي أكثر من ثلاثة دقائق .. حتى ردت عليه ياسمين .. وقالت له بأن أمل سوف تخرج مع عمار .. وسوف تتركها في التحلية مول ..
فقال لها : لا بأس سأكون هناك ..
وبعد ساعة .. كان في التحلية مول .. كان على غير العادة يلبس ثوباً أصفر اللون .. عليه تطريز خفيف ولكن ينم عن ذوق أخاذ .. على ياقته وعلى الأكمام المفتوحة .. وحذاء أسود فخم .. ذو قاعدة عالية .. وساعة جلدية .. تلمع الفصوص الماسية على رباعية ثلاثيات أرقامها 3..6..9..12 ..
وبعد دقائق .. كانت ياسمين موجودة ومعها أمل .. وكأنما ذاتهما قبل أيام .. نفس العباءة المزركشة ذات الوردة الفيروزية .. والأخرى ذات الخطوط الحمراء القانية ..إلا أن ياسمين هذه المرة كانت تضع مكياجاً خفيفاً وتبدو بعض من تقاطيعها الحلوة .. كانت ياسمين .. مبتهجة بعض الشيء .. إنها حماسة المقابلات الأولى التي كان قصي يحفظ تفاصيل العروق التي تظهر فيها ..
أما أمل .. فكانت عيناها تبحث هنا وهناك ولا تستقر على شيء .. وكأنها تعرف كل من في السوق .. يبدو أنها لم تترك مركزاً تجارياً .. إلا ودخلت فيه .. وحفظت من فيه من الشباب .. إنه نوع من البنات .. يجبرك على احتقاره .. وعلى الخوف من مسه .. حتى لا تصيبك بالنجاسة ..
ولكنها لما رأت قصياً هذه المرة .. كانت نظرتها له مختلفة .. كانت تنظر فيه بقوة .. وهذا ما ابتسم له قصي في نفسه .. يبدو أن الغنى يروق لهذه الفتاة .. ويغير في تفكيرها .. إنها إذن من ذاك النوع الذي لا يتوارى .. عن الطلب وبكل وقاحة من أصدقائها من الشباب ما تريد .. كأنها حيوان رمّي .. يعيش متطفلاً على بقية الكائنات ..
جيد .. هكذا .. سوف تسهل عليه المهمة أكثر بكثير .. لقد كان قصي يجرب مفاتيح أبواب البنات ويبدو أن الحظ حالفه في المرة الأولى .. أو إن قلنا أنه صار يخمن نوع الفتاة .. لكنا أقرب للصحة ..
وراحت أمل تتكلم معه على غير العادة .. وتفتعل الضحكات .. بطريقة مبتذلة .. وقصي يبتسم في سخرية .. وفي عيون تخفي وراءه الكثير .. أما ياسمين .. فلم تتكلم بكلمة .. ولكن الانزعاج كان واضحاً في عينيها .. وكأنما تقول بلسان حالها : إنه لي .. فلم تتحدثين معه ؟
وبعد دقائق .. كان جوال أمل يصدر نغماته .. نظرت أمل في الجوال .. ثم قالت : يوووووووه .. إنه عمار ..
سحبت إحدى شفتيها في انزعاج .. ثم التفتت إلى قصي وقالت : لا بد أن نتقابل مرة أخرى .. ما رأيك في المرة القادمة .. أن نذهب سوياً إلى مطعم ما أو إلى أي مكان تحب؟
ابتسم قصي وقال : ولم لا ؟
وبعد دقائق .. كانت أمل قد ذهبت وكانت ياسمين مع قصي .. خيم عليهم صمت لدقائق .. فقال قصي : ما رأيك أين نجلس ؟
فقالت له ياسمين وهي تنظر فيه بعيونها الكحيلة : ألم تقل أننا نريد الذهاب إلى "جافا"؟
نظر فيها قصي .. وابتسم بسخرية .. وقال : وأنت هكذا بكل بساطة تخرجين فيها مع أي شاب بالسيارة إلى أي مكان؟
ارتبكت ياسمين ولم تعرف ما تقول .. ولكنها كانت تحدق فقط في قصي .. الذي قال : كم مرة خرجت مع شاب في السيارة؟
قالت ياسمين بتردد : ولا مرة ..
بدت من قصي نظرة قاسية .. ممزوجة بقلق وهم .. إنها نظرة تلوح في أعين إخوتنا الكبار حين يريدون منا أن نتعلم أمراً ما .. ثم قال لها : أتعرفين ما هو "جافا"؟
فقالت له : مطعم .. أظن ؟
فقال لها قصي بغيظ : أيضاً لا تعرفين أنه في الأساس كوفي شوب؟! تعالي ورائي .. يبدو أنك سوف تتعبيني كثيراً ..
مشت ياسمين من وراءه منصاعة .. لا تعرف كيف تتصرف .. قادها قصي إلى مقهى صغير .. وجلس معها في الطابق الثاني بجوار النافذة التي كانت تطل على بهو السوق.. وطلب لها آيس تشوكلت .. وقهوة تركية بالطبع لها ..
كانت الطاولات مربعة .. قصيرة .. عليها مربعات بيضاء وبرتقالية باهتة .. ويفصل ما بين كل جلسة وأخرى .. جدار قصير .. على حافته أصيص مستطيل عريض ..
وراح يتكلم معها وبدأ بهجوم مباشر: أبكل هذه البساطة تقبلين أن تخرجي مع فتى ؟ ألا تعلمين ما يفعله الأولاد بالبنات .. إن أي أحد يمكن أن يخطفك بكل بساطة..
لم ترد ياسمين .. ولكنها اكتفت بالنظر لقصي الذي تابع : ثم ما هذه الخرابيط التي تملأ وجهك ؟ تبدين كبنت قليلة الأدب .. تنتظر أن يرقمها شخص ما ..
ولكن ياسمين .. راحت تنظر بعيون مفتوحة على اتساعهما دون أن ترد بكلمة .. وراح خط رفيع جداً .. يتلألأ على عينيها من الأسفل ..
فقال قصي : أأنت بلهاء لهذا الحد ؟
هنا .. نزلت الدموع من عيني ياسمين وقالت : لم توبخني هكذا ؟ ماذا فعلت لك ؟
انتبه قصي .. أنه قد أفرط وأثقل عليها .. ولكنه قال على ذات الوتيرة : إنها الحقيقة ..
فقالت ياسمين .. وهي تدافع عن نفسها باستماتة : وكيف سأتعرف إذا؟
نظر لها قصي وقال : ومن قال أنك لا بد أن تتعرفي أصلاً؟
فقالت : كل البنات يتعرفن؟
فقال قصي : من الغبي الذي وضع في رأسك هذه الفكرة ؟
فقالت ياسمين : بلى كل البنات يتعرفن؟ أليست هذه الحقيقة التي لابد لي أن أعيش بها ؟!
ثم راحت تنظر إلى الزجاج ودموعها تنزل وهي تقول : لن أبقى طوال عمري .. والناس تقول عني بالصغيرة التي لا تفهم أي شيء ..
قال لها قصي : وهل بتعرفك على الأولاد .. تصبحين كبيرة؟ وتصبحين الفتاة الناضجة .. انظري حولك جيداً .. وافتحي عينيك ..
وراح يشير لها بأصابعه إلى عدة فتيات وهو يقول : أهذه الفتيات المحترمات .. يردن الترقيم؟ إنهن على الأقل لم يكتبن على وجوههن بالأصباغ .. والأحمر والأزرق .. أنا هنا .. تعال ورقمني ..
ثم فرقع بإصبعيه .. وقال : استيقظي يا ياسمين .. وأفيقي من هذه الأفكار الغبية .. وفكري في سمعتك .. فتاة .. فكري فيما يريده الشباب منك ؟ فكري في العار الذي سوف تلحقيه بأهلك ..
نظرت له وقالت : إنك تتكلم مثل مدرستنا في المدرسة ..
قال لها وهو يبتسم بسخرية : يبدو أنك إذا لم تتعلمي منها جيداً الدرس .. يبدو أنك تريدين أن تحترقي بنار العار .. حتى تفهمي الدرس جيداً بعد فوات الأوان ..
راحت تنظر فيه ياسمين وهي صامتة أمام كلمات قصي الحارقة ..
ثم قالت : ولكن أحمد كان يحبني ..
فقال قصي : ألا تفهمين بعد أنه يخدعك؟ كما يخدع الكثيرات ..
فقالت ياسمين : ولكنه لم يكن كاذباً ..
فرد قصي : لن تستطيعي أن تفرقي بين الصادق والكاذب هذه الأيام ..
ثم تابع قصي وهو يتكلم بجدية : ياسمين .. لقد قلت بأني سوف أساعدك .. ولذلك أنا أخبرك الحقيقة .. أخبرك بما لن تسمعيه من الأولاد ..
فقالت ياسمين : ومن قال لك بأن تساعدني؟
فقال قصي بقوة : لأنك ستجلبين العار لأهلك .. لأنك سوف توغلين رأس أبويك الذين وثقا بك في الوحل .. لأنك سوف تجعلين أقرب الناس لك لا يستطيعون أن ينظروا في وجوه الناس من الخجل ..
وهذه المرة بكت ياسمين .. بكت هذه الطفلة الصغيرة .. كان قصي قاسياً .. كان لا يرحمها .. ولا يبقي لها من الكلمات إلا ما يوجعها .. كان يوقظ فيها الضمير النائم .. كان يوقظ في نفسها الفطرة السوية .. وضعت رأسها في بين يديها .. وهي مستمرة في نزف الدموع ..
وكأن قصي يعرف أن أسلوب الصدام المباشر .. يخلخل الفكر .. ويوصل لحافة الانهيار من المعتقدات السخيفة .. أسلوب قاسي ولكنه أحياناً فعال ..
جاء النادل السوداني وقال : هل من مشكلة ؟
فقال له قصي ليلهيه : أريد ماءً بارداً لو سمحت ..
وبعد قليل .. رفعت ياسمين رأسها من بين يديها .. فقال لها قصي بصوت دافيء: حمام النساء من هناك .. تستطيعين أن تغسلي وجهك بالماء .. سأنتظرك ..
وكأنما ياسمين متعودة على السماع والطاعة .. ذهبت إلى الحمام .. وفي هذه الأثناء .. لم يضيع قصي وقته .. فتح جوالها الذي كان من نوع الفارس .. وبدأ يبحث بين الأسماء على أحمد .. ولكن عبثاً يحاول .. كانت كلها أسماء بنات ..
قال قصي في نفسه : يا لها من صغيرة خائفة ..
فتح قصي قائمة "السجل" .. بخبرة واعتياد على مثل هذه الحركات .. وحرك بالمؤشر على اليمين .. وهناك ظهرت القائمة التي تحتفظ بكل المكالمات الصادرة والواردة .. بكل التفاصيل الدقيقة ..
وراح يبحث عن الرقم الأكثر تكراراً في الأيام السابقة.. وضحك كثيراً عندما كان أكثر رقم تكرر من المكالمات الصادرة : أسماء الزهراني وأمل .. طريقة قديمة جداً لإخفاء أسماء الأولاد عن أعين المتلصصين .. ولكنها قديمة ..
سجل قصي هذين الرقمين .. وبعدها ترك الجوال كما هو .. وما هي إلا ثوانٍ فصلت بين ترك قصي الجوال .. وبين خروج ياسمين ..
جلست ياسمين .. وهي لا تتكلم .. وتنظر بعيداً عن ياسمين .. فقال لها قصي : هل تحبين الكتابة يا ياسمين ؟
نظرت فيه ياسمين وقالت : الكتابة؟
قال لها قصي مبتسماً : أجل الكتابة ..
فقالت ياسمين باستغراب : أبداً .. آخر شيء فكرت فيه في حياتي الكتابة ..
كان قصي يحاول أن يغير الموضوع .. إن هذه البنت طفلة .. بالفعل إنها طفلة .. لا تجيد التصرف .. إن أقل هزة تقلب مراكبها .. وأي كلمة تذهب معها .. وتنسى كل شيء قبله ..
واستطاع قصي في الخمس دقائق القادمة .. أن يغير كل شيء .. وأن يتبادل معها حديثاً ودياً حول أمور أخرى .. عرف منها أنها تحب تنسيق الزهور .. ولكنها لم تجد الفرصة المناسبة .. وراح قصي ينقل الحديث معها من وادي إلى آخر .. ووصل معها إلى المكان الذي يريد .. وصل بها الحديث إلى بيتها .. وكما توقع تماماً قصي ..
فياسمين .. تعيش في أسرة عادية من المدينة المنورة .. وتعتبر هي البنت الثالثة .. في وسط عائلة مكونة من أربعة بنات وولدين صغيرين ..
عرف منها قصي .. أنها انعزالية منذ كانت صغيرة .. لا تحب الاختلاط كثيراً بالناس .. وأن أبوها هو الذي ساهم في تعزيز هذه الشخصية الضعيفة .. بالجفاف الأسري .. وانعدام الحوار بين أفراد العائلة ..
كانت ياسمين تحكي قصة آلاف البيوت السعودية .. وآلاف البنات .. الذين لم يجدن أنفسهن .. ولم يجدن أحداً يسمعهن .. ولم يجدن إلا طريقة واحدة للتعبير عن مشاعرهن وعن أحاسيسهن .. وليجدوا من يحتويهن .. ومن يعطف ويحن عليهم .. ويلقون منه كلمة عذبة .. ويشاركهن أحلامهم ودموعهن ..
كشفت ياسمين عن حالة كلاسيكية لفتاة سعودية .. لم يجد أهلها التعامل معها بالطريقة المناسبة .. فآلت إلى مهالك الأقدار ..
وبعد أن فاض بها الكيل من السخرية من أهلها ومن معارفها .. عن هدوءها .. وعدم ملاحظة أحد لها .. وإحساسها بالعجز .. قررت أن تتغير .. واتخذت من أمل مثلاً أعلى لها .. لتسير على خطاها .. كيف وأمل شخصية قوية .. تستطيع أن تغير رأي عائلتها بعنادها .. ورعونتها .. وأحياناً بقلة أدبها .. ولكن ياسمين لم تكن تفرق .. كل الذي كانت تريده .. أن تتغير .. أي شيء .. غير ياسمين الحالية ..
دام الحديث حوالي ساعة .. قبل أن تتصل أمل مرة أخرى على جوال ياسمين .. فقالت لها بأنها سوف تقابلها عند أرماني ..
ولكن قبل أن تغادر ياسمين قال قصي : سأتحقق لك يا ياسمين من أحمد .. لنرى إن كان يحبك أو لا؟
نظرت فيه ياسمين وقالت : وكيف ذلك ؟
فقال : اتركي هذا الأمر لي؟
نظرت فيه وقالت : شكراً يا قصي ..
ابتسم قصي ابتسامة ساخرة وقال : ولكنك سوف تصدمين صدمة عمرك يا ياسمين ..
فقالت ياسمين بتوتر : ولم ؟
فقال قصي : الحقيقة دوماً مرة يا ياسمين .. وقبل أن أتحقق .. فأنا أعرف الحقيقة .. لأنها واضحة وضوح الشمس ولا تحتاج إلى تحقق .. ولكني سآتي لك بالدليل القاطع .. حتى تعلمي أي درب تسلكين ..
قالت ياسمين : لا تستبق الأحداث يا قصي ..
فابتسم لها قصي ..
بعد ساعة .. كان قصي في كبينة تلفون يتصل على رقم معين .. رد من الطرف الآخر .. صوت رجل وقال : ألو ؟
حاول قصي تبديل صوته وهو يقول : أحمد ؟
فرد الرجل بارتياب : نعم أنا أحمد .. من ؟
فأغلق قصي السماعة .. وابتسم .. وقال في نفسه : جيد .. قد وصلنا لك يا شيخ أحمد ..
وفي المنزل.. وعلى سريره .. كان يمسك بجوال آخر من نوع سوني أريكسون .. وهو يرسل رسالة إلى جوال أمل .. بكلمات عذبة رقيقة .. ولم يترك اسماً .. بل تركه بدون اسم .. وبعدها بدقائق .. أرسل رسالة أخرى .. واستمر هكذا .. إلى أن أرسل حوالي سبعة رسائل ..
ثم أغلق الأضواء ونام .. دون أن يفكر في شيء .. نام هذه المرة .. ولم تراوده كوابيس اليقظة ..
وقبل الظهر بقليل .. استيقظ قصي .. وفتح عينيه .. نظر إلى مخدعه .. كان يعاني صداعاً خفيفاً .. دخل الحمام .. واغتسل .. ثم خرج .. وصلى الصبح الذي فاته .. وهو نائم .. ثم جلس على كرسي مكتبه وأجرى بعض الاتصالات على مدير مكتب أبيه .. السيد ناظم ..
والسيد ناظم شخص يثق فيه قصي كثيراً .. فقد كان مديراً لمكتب والده منذ أكثر من عشرين سنة .. بل إن قصي وعى على الدنيا وهذا الرجل موجود .. وأكثر ما يسعد قصي .. أنه ينفذ الأوامر دون أن يسأل .. ولأنه يعمل في شركة أبي قصي العالمية .. فإن له نفوذاً واسعاً .. وعلاقاته العامة في غاية القوة ..
وبعد ساعة .. كان قصي يستلم فاكساً طويلاً جداً للغاية ..
وعلى المكتب .. جلس يحتسي القهوة .. وهو يطالع ما بين يديه.. ويدون بعض الأشياء في ورقة خارجية ..في شيء من الاهتمام .. كان يضع في فمه المحدد الفسفوري .. في اهتمام بالغ .. وبعد ساعتين من التدقيق ..
تمطى قصي في كرسيه .. وجلس ينظر في الورقة الأخيرة .. التي كانت خلاصة عمله .. ثم فُتحت عينيه على آخرهما .. وراح ينظر في قوة .. ثم قال : مستحيل .. أيمكن أن يكون ؟!
ثم ضحك قصي .. ضحك بقوة بالغة .. وقال : هكذا .. تكون اللعبة أسهل وأحلى .. هكذا .. تكون اللعبة أكثر روعة وجمالاً .. لم أكن أتوقع هذا أبداً .. بل من كان يتوقع ؟
وراحت في عقله .. تتشكل خطة .. محكمة في قمة الإبداع ..
ترى ما الذي اكتشفه قصي ؟
ما الجميل الذي أسعده بهذا القدر ؟
وإلام يهدف قصي .. وفيم يفكر .. وهل سينفذ خطته المجنونة ؟
سنعرف كل هذا في الفصل الأخير من الجزء الرابع ..
د.خالد أبوالشامات
6:13 صباحا
18/ رجب /1427 هـ
الصفحة الأخيرة