●●●
قسمٌ لا يصحُّ الحجُّ بدونها، وقسمٌ يصح الحج بدونها.
●
●
فالتي لا يصح بدونها تُسمى الأركان، وهي :
1 ـ الإحرام وهو نية الدخول في الحج
لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم:
« إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى»،
ووقته من دخول شهر شوال
لقول الله تعالى :
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )
(البقرة: الآية197) ،
وأول هذه الأشهر شوال، وآخرها آخر ذي الحجة.
●●
وأمكنة الإحرام المُعينة خمسة وهي :
* ذو الحليفة ( وتسمى أبيار علي ) لأهل المدينة.
* الجحفة ( وهي قرية قرب رابغ ) وقد خَربت،
فجعل الإحرام من ( رابغ ) بدلاً عنها لأهل الشام.
* يلملم ( وهو جبل أو مكان في طريق اليمن إلى مكة )
لأهل اليمن، وتُسمى ( السعدية ).
* قرن المنازل ( ويسمى السيل ) لأهل نجد.
* وذات عرق ( وتسمى الضريبة ) لأهل العراق.
من مر بهذه المواقيت فهي ميقات له
وإن لم يكن من أهلها.
2 ـ الوقوف بعرفة
لقول الله تعالى :
(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)
(البقرة:198)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم :
« الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
ووقته من زوال الشمس من اليوم التاسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر
من اليوم العاشر، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف بعد زوال الشمس
وقال : « من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
وقيل : يبتدىء وقته من طلوع الفجر من اليوم التاسع،
ومكانه عرفة كلها
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم :
« وقفت ههنا وعرفة كلها موقف».
3 ـ الطواف بالبيت
لقوله تعالى : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
(الحج:29)
ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم
قال حين أخبر بأن صفية حاضتَ : « أحابستنا هي ؟»
فقالوا : يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت
ثم حاضت بعد الإفاضة ! قال : « فلتنفر إذن»، فقوله : أحابستنا
هي ؟ دليلٌ على أن طواف الإفاضة لا بد منه وإلا لَمَا كان سبباً لحبسهم،
ولهذا لما أُخبر بأنها طافت طواف الإفاضة رخص لها في الخروج.
ووقته بعد الوقوفِ بعرفة ومزدلفة لقوله تعالى
(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
(الحج:29)
ولا يكون قضاء التفث ووفاء النذور
إلا بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة.
4 ـ السعي بين الصفا والمروة
لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ )
(البقرة: الآية 158)
ولقول ابن عباس رضي الله عنهما :
ثم أَمرنا ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ـ
عشية التروية أن نُهل بالحج، فإذا فَرَغنا من المناسك جِئنا
فَطُفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وقد تم حجنا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم
لعائشة رضي الله عنها :
« يجزىء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك».
وقالت عائشة رضي الله عنها : ما أتم الله حج امرىء
ولا عُمرته لم يطف بين الصفا والمروة.
●●
ووقته للمتمتع بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة وطواف الإفاضة،
فإن قدّمه عليه فلا حرج، لا سيما إن كان ناسياً أو جاهلاً،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سأله رجلٌ :
سعيت قبل أن أطوف ؟ قال : « لا حرج».
وأما القارن والمفرد فلهما السعي بعد طواف القدوم.
فهذه الأربعة :
الإحرامُ، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة،
والسعي بين الصفا والمروة لا يصح الحج بدونها.
●●
وأما الواجبات التي يصح الحج بدونها
فتسمى اصطلاحاً بـ ( الواجبات ) وهي :
1 ـ أن يكون الإحرام من الميقات المُعتبر شرعاً،
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم :
« يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة...» إلى آخر الحديث.
وهو خَبَرٌ بمعنى الأمر، بدليل الرواية الثانية
عن ابن عمر رضي الله عنهما حين سُئل :
من أين يجوز أن أعتمر ؟ قال :
فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأهل نجد قرناً... إلى آخره.
والروايتان في « البخاري» عن ابن عمر رضي الله عنهما.
2 ـ استمرار الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس
يوم التاسع من ذي الحجة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم
وقف إلى الغروب وقال : « لتأخذوا عني مناسككم»،
ولأن في الدفع قبل الغروب مشابهة لأهل الجاهلية،
فإنهم كانوا يَدفعون قبل غروب الشمس.
3 ـ المبيت بمزدلفة ليلة عيد النحر،
لقوله تعالى :
(البقرة:الآية 198)
ووقته إلى صلاة الفجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم
لعروة بن مضرس رضي الله عنه :
« من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك
بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه».
ويجوز الدفع في آخر الليل إلى منى للضعفة من النساء والصبيان
ممن يشق عليهم زحام الناس ليرموا الجمرة قبل وصول الناس إلى منى؛
لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُقدّم ضعفة أهله
فمنهم من يَقدُم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يَقدُم بعد ذلك،
فإذا قَدمُوا رَموا الجمرة، وكان يقول :
أَرخَصَ في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
( تنتظر حتى يغيب القمر ثم ترتحل إلى منى فترمي الجمرة،
ثم ترجع فتصلي الصبح في منزلها، وتقول :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أذن للظُعُنِ )
أخرجهما البخاري في « صحيحه».
ومزدلفة كلها موقف، ويجب على الحاج
أن يتأكد من حدودها لئلا ينزل خارجاً عنها.
4 ـ رمي جمرة العقبة يوم العيد، ورمي الجمرتين الأُخريين معها
في أيام التشريق في أوقاتها،
لقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى)
(البقرة: الآية203).
●
●
والأيام المعدودات : أيام التشريق.
ورمي الجمار من ذكر الله تعالى
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم :
« إنما جُعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله».
5 ـ الحلق أو التقصير للرجال، والتقصير فقط للنساء،
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم :
« ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير».
6 ـ المبيت بمنى ليلتين، ليلة إحدى عشرة وليلة اثنتي عشرة
لمن تعجل، فإن تأخر فليلةَ ثلاثَ عشرة أيضاً،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم بات بها،
وقال : « لتأخذوا عني مناسككم».
وروى ابن عمر رضي الله عنهما
أن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه
استأذن من النبي صلى الله عليه وسلّم أن يبيت بمكة
ليالي منى من أجل سقايته فأذن له.
وفي لفظ : فرخص له.
والتعبير بالرخصة دليل على وجوب المبيت لغير عذر.
فهذه الأمور الستة واجبة في الحج،
لكن الحج يصح بدونها.
وفي تركها عند الجمهور من العلماء فدية شاة أو سُبع بدنة
أو سُبع بقرة تُذبح في مكة وتُعطى فقراء أهلها، والله أعلم.
فأما طواف الوداع فهو واجب على كل من خرج من الحجاج من مكة
إلى بلده، لقول ابن عباس رضي الله عنهما :
« أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن الحائض».
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه
طاف بالبيت حين خُروجه من مكة في حَجة الوداع.
●●●

●●●
قال الله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)
وقال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(الأعراف: 158)
وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)
وقال تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل:79)
وقال تعالى: ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(يونس: 32)
فكل ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلّم
وطريقته فهو باطل وضلال مردود على فاعله،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم :
« من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»
أي : مردود على صاحبه، غير مقبول منه.
وإن بعض المسلمين ـ هداهم الله ووفقهم ـ يفعلون أشياء في
كثير من العبادات غير مبنية على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلّم،
ولا سيما في الحج الذي يَكثر فيه المقدمون على الفُتيا بدون علم،
ويُسارعون فيها حتى صار مقامُ الفتيا مَتجراً عند بعض الناس للسمعة والظهور،
فحصل بذلك من الضلال والإضلال ما حصل.
والواجب على المسلم أن لا يُقدِمَ على الفُتيا إلا بعلمٍ يواجه به الله عز وجل،
لأنه في مقام المُبلغ عن الله تعالى القائل عنه، فليتذكر عند الفُتيا
قوله تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلّم :
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) (الحاقة:44)
(لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (الحاقة:45)
(ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (الحاقة:46)
(فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة:47)
وقوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)
(الأعراف:33)
وأكثر الأخطاء من الحجاج ناتجة عن هذا ـ أعني عن الفُتيا بغير علم ـ
وعن تقليد العامة بعضهم بعضاً دون برهان.
ونحن نُبين بعون الله تعالى السنة في بعض الأعمال التي يَكثُر فيها الخطأ،
مع التنبيه على الأخطاء، سائلين الله أن يُوفقنا للحق،
وأن ينفع بذلك إخواننا المسلمين إنه جوادٌ كريمٌ.
.●.
ثبت في « الصحيحين»
وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم
وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحفة ولأهل نجد قرنَ المنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَم،
وقال : « فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة».
وعن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ذات عرق»
رواه أبو داود والنسائي.
وثبت في « الصحيحين»
أيضاً من حديث عبدالله بن عُمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم
قال :
« يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويُهل أهلُ الشام من الجحفة، ويُهل أهلُ نجد من قرن...» الحديث.
فهذه المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلّم حدود شرعية توقيفيَّة موروثةٌ عن الشارع،
لا يَحلُّ لأحدٍ تغييرها أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة،
فإن هذا من تعدي حدود الله،
وقد قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
(البقرة: 229)
ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما :
يُهل أهل المدينة ويُهل أهل الشام ويُهل أهل نجد، وهذا خبرٌ بمعنى الأمر،
ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما : فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والإهلالُ : رفع الصوتِ بالتلبية، ولا يكونُ إلا بعد عقدِ الإحرامِ.
●●
فالإحرامُ من هذه المواقيت واجبٌ على من أراد الحج أو العُمرةَ
إذا مرَّ بها أو حاذاها، سواءُ أتى من طريق البرِّ أو البحر أو الجوِّ.
فإن كان من طريق البر نزل فيها إن مر بها أو فيما حاذاها إن لم يمر بها،
وأتى بما ينبغي أن يأتي به عند الإحرام، من الاغتسال وتطييب بدنهِ ولُبس ثياب إحرامه،
ثم يُحرم قبل مغادرته.
وإن كان من طريق البحر، فإن كانت الباخرة تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب
ولبس ثياب إحرامه حال وقوفها،
ثم أحرم قبل سيرها، وإن كانت لا تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه
قبل أن تُحاذيه، ثم يُحرم إذا حاذَته.
وإن كان من طريق الجو، اغتسل عند ركوب الطائرة، وتطيب، ولبس ثوب إحرامه قبل مُحاذاة الميقات، ثم أحرم قُبيلَ مُحاذاته،
ولا ينتظرُ حتى يُحاذيه، لأن الطائرة تمر به سريعةً فلا تُعطي فرصةً، وإن أحرَم قبلَه احتياطاً فلا بأس.
وفي « صحيح البخاري»
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : لما فتح هذان المِصران ـ
يعني البصرة والكوفة ـ أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا :
يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلّم حدَّ لأهل نجد قرناً، وإنه جَورٌ عن طريقنا،
وإن أردنا أن نأتي قَرناً شقّ علينا، قال : فانظروا إلى حَذوها من طريقكم.
فجعل أمير المؤمنين أحدُ الخلفاء الراشدين ميقات من لم يمر بالميقات إذا حاذاه،
ومَنْ حاذاه جواً فهو كمن حاذاه برّاً، ولا فرق.
فإن وقع الإنسان في هذا الخطأ، فنزل جُدّةَ قبل أن يُحرم فعليه أن يَرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة
فَيُحرم منه، فإن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه عند أكثر العلماء فدية يذبحها في مكة ويُفرقها كلها على الفقراء فيها،
ولا يأكل منها، ولا يُهدي منها لغنيٍّ لأنها بمنزلة الكفارة.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه ابتدأ الطواف من الحجَرِ الأسود في الركن اليماني الشرقي من البيت،
وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحجر، وأنه رَمَلَ في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أولَ ما قَدِمَ مكة،
وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويُقبله، واستلمه بيده وقبلها، واستلمه بمحجن كان معه
وقبل المحجن وهو راكبٌ على بعيره، وطاف على بعيره فجعل يُشير إلى الركن ـ يعني الحجَر ـ كلما مر به.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يستلم الركن اليماني.
واختلاف الصفات في استلام الحجَرِ إنما كان ـ والله أعلم ـ حَسَبَ السهولة، فما سَهُل عليه منها فعله،
وكلُّ ما فعله من الاستلام والتقبيل والإشارة إنما هو تعبد لله تعالى، وتعظيم له، لا اعتقادَ أن الحجَر ينفعُ أو يضر.
وفي « الصحيحين»
عن عمر رضي الله عنه أنه كان يُقبّل الحجَر ويقول :
« إني لأعلمُ أنك حجَر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلّم يُقبّلك ما قبّلتك».
.●.
1 ـ ابتداء الطواف قبل الحجر الأسود، أي : بينه وبين الركن اليماني،
وهذا من الغلو في الدين
الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يُشبه من بعض الوجوه
تقدم رمضان بيومٍ أو يومين، وقد ثبت النهي عنه.
وادعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطاً غير مقبول منه، فالاحتياط الحقيقي النافع هو اتباع الشريعة،
وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله.
2 ـ طوافهم عند الزحام من داخل الحجر، بحيث يدخل من باب الحِجر إلى الباب المُقابل، ويدَع بقية الحِجر عن يمينه،
وهذا خطأٌ عظيم لا يصحُّ الطواف إذا فعله، لأن الحقيقة أنه لم يَطُف بالبيتِ، وإنما طاف ببعضِه.
3 ـ الرَّملُ في جميعِ الأشواط السبعة.
4 ـ المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجَرِ لتقبيله، حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المُقاتلة والمشاتمة،
فيحصل من التضارب والأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا العمل، ولا بهذا المكان في مسجد الله الحرام،
وتحت ظل بيته، فينقصُ بذلك الطواف، بل النسك كله،
لقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
(البقرة:197)
وهذه المزاحمة تُذهِبُ الخشوع وتُنسي ذكرَ الله تعالى، وهما من أعظمِ المقصود في الطواف.
5 ـ اعتقادهم أن الحجَرَ الأسودَ نافع بذاته، ولذلك تجدهم إذا استلموه مَسَحوا بأيديهم على بقية أجسامهم،
أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم !!.
وكلُّ هذا جهل وضلالٌ، فالنفع والضرر من الله وحده،
وقد سبق قول أمير المؤمنين عُمر رضي الله عنه :
« إني لأعلمُ أنك حَجَرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يُقبلك ما قبّلتك».
6 ـ استلامهم ـ أعني بعض الحجاج ـ لجميع أركان الكعبة، ورُبما استلموا جميع جدران الكعبة، وتمسحوا بها،
وهذا جهل وضلال، فإن الاستلام عبادةٌ وتعظيم لله عز وجل،
فيجب الوقوف فيها على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يستلم النبي صلى الله عليه وسلّم من البيت
سوى الركنين اليمانيين ( الحجر الأسود وهو في الركن اليماني الشرقي من الكعبة، والركن اليماني الغربي ).
وفي « مسند الإمام أحمد»
عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها،
قال ابن عباس : لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستلمهما ؟
فقال معاوية : ليس شيءٌ من البيت مهجوراً. فقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة. فقال معاوية : صدقت.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يُكَبر الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود.
وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود :
( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
(البقرة:201)
وقال : إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
والخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين في هذا، تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره،
حتى إنه إذا أتم الشوط قبل تمام الدعاء قطعه ولو لم يَبق عليه إلا كلمةٌ واحدة،
ليأتي بالدعاء الجديد للشوط الذي يليه، وإذا أتم الدعاء قبل تمام الشوط سكت.
ولم يَرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف دعاءٌ مُخصص لكل شوط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وليس فيه ـ يعني الطواف ـ
ذكرٌ محدود عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية،
وما يذكره كثيرٌ من الناس من دعاء مُعين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصلَ له.
وعلى هذا فيدعو الطائفُ بما أحب من خيري الدنيا والآخرة،
ويذكر الله تعالى بأي ذكرٍ مشروع من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير أو قراءة قرآن.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين أن يأخذَ هذه الأدعية المكتوبة فيدعو بها وهو لا يعرف معناها،
وربما يكون فيها أخطاءٌ من الطابع أو الناسخ تَقلبُ المعنى رأساً على عَقِبٍ،
وتجعل الدعاء للطائف دعاءً عليه، فيدعو على نفسه من حيث لا يشعر، وقد سمعنا من هذا العَجَبَ العجاب.
ولو دعا الطائف ربه بما يريده ويعرفه، فيقصد معناه لكان خيراً له وأنفع، ولرسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثرَ تأسياً وأتبع.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعضُ الطائفين أن يجتمع جماعةٌ على قائد يطوف بهم ويُلقِّنهم الدعاء بصوت مرتفع فيتبعه
الجماعة بصوتٍ واحد، فتعلوا الأصوات، وتحصل الفوضى، ويتشوش بقية الطائفين، فلا يدرون ما يقولون،
وفي هذا إذهابٌ للخشوعِ، وإيذاءٌ لعباد الله في هذا المكان الآمن.
وقد خَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلّم على الناس وهم يُصلون ويجهرون بالقراءة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :
« كلكم يُناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعضٍ في القرآن»
رواه مالكٌ في « الموطأ»،
قال ابن عبدالبر : وهو حديثٌ صحيح.
ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا أقبل بهم على الكعبة وقف بهم وقال : إفعلوا كذا، قولوا كذا، ادعوا بما تُحبون،
وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطىء منهم أحد، فطافوا بخشوع وطمأنينة، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً،
وتضرعاً وخُفية بما يحبونه، وما يعرفون معناه ويقصدونه، وسَلِمَ الناسُ من أذاهم.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم
فقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً )
(البقرة: 125)
فصلى ركعتين، والمقام بينه وبين الكعبة،
وقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وقل يا أيها الكافرون،
وفي الركعة الثانية الفاتحة وقل هو الله أحد.
والخطأ الذي يفعله بعض الناس هنا ظنهم أنه لا بد أن تكون صلاة الركعتين قريباً من المقام،
فيزدحمون على ذلك، ويُؤذون الطائفين في أيام الموسم، ويُعوقون سير طوافهم، وهذا الظن خطأ، ف
الركعتان بعد الطواف تُجزيان في أي مكان من المسجد، ويُمكن المصلي أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة،
وإن كان بعيداً عنه، فيُصلي في الصحن أو في رُواق المسجد، ويسلم من الأذية
فلا يُؤذي ولا يُؤذى، وتحصلُ له الصلاة بخشوع وطمأنينة.
ويا حبذا لو أن القائمين على المسجد الحرام منعوا من يؤذون الطائفين بالصلاة خلف المقام قريباً منه،
وبَيَّنوا لهم أن هذا ليس بشرط للركعتين بعد الطواف.
ومن الخطأ أن بعض الذين يُصلون خلف المقام يُصلون عدة ركعاتٍ كثيرة بدون سبب،
مع حاجة الناس الذين فَرغوا من الطواف إلى مكانهم.
ومن الخطأ أن بعض الطائفين إذا فرغ من الركعتين وقف بهم قائدهم يدعو بهم بصوتٍ مرتفع فيُشوشون
على المُصلين خلف المقام، فيَعتدون عليهم،
وقد قال الله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55)
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه حين دنا من الصفا
قرأ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
(البقرة: 158)
ثم رقى عليه حتى رأى الكعبة فاستقبل القِبلَةَ ورفع يديه
فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو،
فوحد الله وكبره وقال : لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،
لا إلـه إلا الله وحده، أنجزَ وعدَه، ونَصر عبده، وهَزَم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك
فقال مثل هذا ثلاث مراتٍ، ثم نزل ماشياً فلما انصبت قدماه في بطن الوادي وهو ما بين العلمين الأخضرين
سعى حتى إذا تجاوزهما مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
والخطأ الذي يفعله بعض الساعين هنا أنهم إذا صعدوا الصفا والمروة استقبلوا الكعبة فكبروا ثلاث تكبيراتٍ
يرفعون أيديهم ويومئون بها كما يفعلون في الصلاة، ثم ينزلون، وهذا خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
فإما أن يفعلوا السنة كما جاءت إن تيسر لهم، وإما أن يدعوا ذلك ولا يُحدثوا فعلاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلّم.
ومن الخطأ الذي يفعله بعض الساعين أنهم يَسعون من الصفا إلى المروة، أعني أنهم يشتدون
في المشي ما بين الصفا والمروة كله، وهذا خلاف السنة، فإن السعي فيما بين العلمين فقط،
والمشي في بقية المسعى، وأكثرُ ما يقع ذلك إما جهلاً من فاعله،
أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي، والله المستعان.
ومن الخطأ أن بعض النساء يَسعين بين العلمين، أي يُسرعن في المشي بينهما
كما يفعل الرجال، والمرأة لا تسعى،
وإنما تمشي المشيةَ المعتادة، لقول ابن عمر رضي الله عنهما :
ليس على النساء رَمَلٌ بالبيت ولا بين الصفا والمروة.
ومن الخطأ أن بعض الساعين
يقرأ قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
(البقرة: 158)
كلما أقبلوا على الصفا أو على المروة، والسنة أن يقرأها إذا أقبل على الصفا في أول شوطٍ فقط.
ومن الخطأ أنّ بعضَ الساعين يُخصص لكل شوطٍ دعاءً معيناً، وهذا لا أصل له.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه مكثَ يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم ركب، ث
م نزلَ في بطن وادي عُرنة، فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمعَ تقديم، بأذانٍ واحد وإقامتين،
ثم ركب حتى أتى موقفه فوقف، وقال : « وقفت هاهنا وعرفة كُلُّها موقف»، فلم يزل واقفاً مستقبلَ القِبلة
رافعاً يديه يذكرُ الله ويدعوه حتى غربت الشمسُ وغاب قرصُها فدفع إلى مزدلفة.
●
●
1 ـ أنهم ينزلون خارج حدود عرفة، ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس،
ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة
من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأٌ عظيم يفوت به الحج، فإن الوقوف بعرفة ركنٌ لا يصحُّ الحج إلا به،
فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له،
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « الحج عرفة من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
وسبب هذا الخطأ الفادح أن الناس يغتر بعضهم ببعض،
لأن بعضهم ينزل قبل أن يَصِلها ولا يتفقد علاماتها، فيفوت على نفسه الحج ويغرُّ غيره.
ويا حبذا لو أن القائمين على الحج أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم، وبلغات متعددة، وعهدوا إلى المطوفين
بتحذير الحجاج من ذلك، ليكون الناس على بصيرة من أمرهم، ويؤدوا حجهم على الوجه الذي تبرأ به الذمة.
2 ـ أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا حرامٌ لأنه خلافُ سنة النبي صلى الله عليه وسلّم،
حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عملُ أهل الجاهلية.
3 ـ أنهم يستقبلون الجبل ـ جبل عرفة ـ عند الدعاء، ولو كانت القِبلة خلف ظهورهم أو على أيمانهم أو شمائلهم،
وهذا خلافُ السنة، فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه رمى جمرة العقبة وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات،
ضُحى يوم النحر، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصا الخذَفِ أي فوق الحمص قليلاً.
وفي « سنن النسائي»
من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما ـ
وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلّم من مزدلفة إلى منى ـ
قال : فهبط ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلّم ـ
محسراً وقال : عليكم بحصا الخذف الذي تُرمى به الجمرة،
قال : والنبي صلى الله عليه وسلّم يشير بيده كما يخذفُ الإنسان.
وفي « مسند الإمام أحمد» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يحيى : لا يدري عوفٌ عبدالله أو الفضل :
قال : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم غداةَ العقبة وهو واقف على راحلته :
هاتِ القُطْ لي، قال فلقطت له حصيات هن حصا الخذف، فوضعهن في يده فقال :
« بأمثال هؤلاء» مرتين، وقال بيده فأشار يحيى أنه رفعها
وقال : « إياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين».
وعن أُم سليمان بن عمرو بن الأحوص رضي الله عنها قالت :
« رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر،
وهو يقولُ :
« يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذفِ»
رواه أحمد.
وفي « صحيح البخاري»
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يُكبر
على إثر كل حصاةٍ ثم يتقدم حتى يسهلَ فيقومَ مستقبلَ القِبلة فيقومَ طويلاً ويدعو ويرفع يديه،
ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمالِ فيسهل ويقومُ مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفعُ يديه،
ثم يرمي جمرة العقبة من بَطنِ الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرفُ فيقولُ : هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله.
وروى أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم
قال : « إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكرِ الله».
●●
1 ـ اعتقادهم أنه لا بد ـ من أخذِ الحصا من مزدلفة فيتعبون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها
في أيام منى حتى إن الواحد منهم إذا أضاعَ حصاةً حزِنَ حُزناً كبيراً،
وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضلِ ما معهم من حصا مزدلفة
وقد عُلم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
وأنه أمر ابن عباس رضي الله عنهما بِلَقْطِ الحصا له وهو واقفٌ على راحلته،
والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة، إذ لم يُحفظ عنه أنه وقف بعد مسيرهِ من مزدلفة قبل ذلك،
ولأن هذا وقت الحاجة إليه فلم يكن ليأمرَ بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه وتكلف حمله.
2 ـ اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطانَ، ولهذا يُطلقون اسم الشياطين على الجِمارِ،
فيقولون : رمينا الشيطان الكبير أو الصغير أو رمينا أبا الشياطين يَعنون به الجمرة الكبرى
جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر.
وتراهم أيضاً يرمون الحصا بشدة وعنف وصراخ وسب وشتم لهذه الشياطين على زعمهم حتى شاهدنا
من يصعد فوقها يبطش بها ضرباً بالنعل والحصا الكبار بغضب وانفعال ! والحصا تصيبه من الناس،
وهو لا يزداد إلا غضباً وعنفاً في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون كأن المشهد مشهد مسرحية هزليّة !
شاهدنا هذا قبل أن تُبنى الجسورُ وترتفع أنصابُ الجمرات، وكلُّ هذا مبنيٌّ على هذه العقيدة أن الحجاج يرمون شياطين،
وليس لها أصلٌ صحيحٌ يعتمد عليه.
وقد علمتَ مما سبقَ الحكمةَ في مشروعيةَ رمي الجمار، وأنه إنما شرع لإقامة ذكر الله عز وجل،
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يكبر على إثرِ كل حصاة.
3 ـ رميهم الجمرات بحصا كبيرةِ. وبالحذاء ( النعل )،
والخفاف ( الجزمات )، والأخشاب !!
وهذا خطأٌ كبير مخالف
لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلّم لأُمته بفعله وأمره، حيث رمى صلى الله عليه وسلّم بمثل حصا الخذف،
وأمر أُمته أن يرموا بمثله، وحذرهم من الغلو في الدين، وسبب هذا الخطأ الكبير ما سبق من اعتقادهم أنهم يرمون شياطين.
4 ـ تقدمهم إلى الجمرات بعنفٍ وشدةٍ، لا يخشعون لله تعالى، ولا يَرحمون عباد الله، فيحصلُ بفعلهم هذا
من الأذية للمسلمين والإضرار بهم، والمشاتمة والمضاربة ما يقلب هذه العبادة وهذا المشعر إلى
مشهد مشاتمة ومقاتلة، ويخرجها عما شُرعت من أجله، وعما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم.
ففي « المسند»
عن قُدامة بن عبدالله بن عمار
قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يوم النحر يرمي جمرة العقبة على ناقةٍ صهباء،
لا ضرب ولا طرد ولا : إليكَ إليكَ» رواه الترمذي وقال : حسنٌ صحيح.
5 ـ تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق،
وقد علمَت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقفُ بعد رميها مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو دعاءً طويلاً.
وسبب ترك الناس لهذا الوقوف الجهل بالسنة، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من العبادة.
ويا حبذا لو أن الحاج تعلم أحكام الحج قبل أن يحج، ليعبد الله تعالى على بصيرة،
ويحقق متابعة النبي صلى الله عليه وسلّم.
ولو أن شخصاً أراد أن يُسافر إلى بلدٍ لرأيته يسألُ عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالةٍ،
فكيف بمن أراد أن يَسلُك الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وإلى جنته،
أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلُكها ليصل إلى المقصود !؟
6 ـ رميهم الحصا جميعاً بكفٍّ واحدة، وهذا خطأ فاحشٌ، وقد قال أهل العلم
إنه إذا رمى بكفٍّ واحدةٍ أكثرَ من حصاةٍ لم يُحتَسب له سوى حصاةٍ واحدة.
فالواجب أن يرمي الحصا واحدة فواحدةً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم.
7 ـ زيادتهم دعواتٍ عند الرمي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
مثل قولهم : اللهم اجعلها رضا للرحمن، وغَضَباً للشيطان، وربما قال ذلك وتركَ التكبير الواردَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
والأولى الاقتصار على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم من غير زيادةٍ ولا نقصٍ.
8 ـ تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يُوَكّلون من يرمي عنهم مع قُدرَتهِم على الرمي
ليُسقطوا عن أنفسهم مُعاناةَ الزحامِ ومشقةَ العمل، وهذا مخالفٌ لما أمر الله تعالى به من إتمام الحج،
حيث يقول سبحانه : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(البقرة: 196)
فالواجب على القادر على الرمي أن يُباشره بنفسه، ويصبر على المشقة والتعب
فإن الحج نوعٌ من الجهاد، لا بد فيه من الكُلفة والمشقة.
فليتق الحاج ربه، وليتم نُسكه، كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
.●.
ثبت في « الصحيحين»
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
قال : « أُمر الناس أن يكونَ آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض».
وفي لفظٍ لمسلم عنه
قال : « كان الناس ينصرفون في كل وجه،
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخرَ عهده بالبيتِ».
ورواه أبو داود بلفظ : « حتى يكونَ آخرَ عهده الطوافُ بالبيت».
وفي « الصحيحين» عن أُم سلمة رضي الله عنها قالت :
« شكوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أني أشتكي،
فقال : « طُوفي من وراء الناس وأنتِ راكبةٌ»، فَطُفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلّم
يُصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور».
وللنسائي عنها أنها قالت : « يا رسول الله، والله ما طُفتُ طوافَ الخروجِ
فقال : « إذا أُقيمت الصلاةُ فطوفي على بعيرك من وراء الناس».
وفي « صحيح البخاري» عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم
صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رَقدَةً بالمُحَصب ثم ركب إلى البيت فطاف به.
وفي « الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أن صفية رضي الله عنها حاضت بعد طوافِ الإفاضة
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « أحابِسَتُنا هي ؟» قالوا : إنها قد أفاضت وطافت بالبيت، قال : « فلتنفر إذن».
وفي « الموطأ» عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه
قال : « لا يَصدُرن أحدٌ من الحج حتى يطوف بالبيت، فإن آخرَ النسكِ الطوافُ بالبيت».
وفيه عن يحيى بن سعيد أنّ عمرَ رضي الله عنه رَدّ رجلاً مِن مرِّ الظهران لم يكن وَدّع البيتَ حتى ودّع.
●●
والخطأ الذي يرتكبه بعضُ الناس هنا !!
1 ـ نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات، فيطوفوا للوداع
ثم يَرجعوا إلى منى فيرموا الجمرات، ثم يُسافروا إلى بلادهم من هناك.
وهذا لا يجوز، لأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يكون آخرَ عهدِ الحاجّ بالبيت،
فإن من رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخرَ عهده بالجمار لا بالبيتِ،
ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يَطُف للوداع
إلا عند خروجه حين استكمل جميعَ مناسكِ الحج،
وقد قال : « خُذوا عني مناسككم».
وأثرُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريحٌ في أن الطواف بالبيت آخرُ النسك، فمن طافَ للوداع
ثم رمى بعده فطوافه غيرُ مجزىء لوقوعه في غير مَحَلِّه، فيجبُ عليه إعادتُه بعد الرمي،
فإن لم يُعد كان حُكمُه حُكم مَن تركه.
2 ـ مُكثهم بمكة بعد طواف الوداع، فلا يكونُ آخرَ عهدهم بالبيت وهذا خلاف ما أمر به
النبي صلى الله عليه وسلّم، وبينه لأُمته بفعله،
فإن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَ أن يكون آخرَ عهدِ الحاج بالبيت،
ولم يَطُف للوداع إلا عند خروجه، وهكذا فعل أصحابه،
ولكن رخّص أهلُ العلم في الإقامةِ بعد طوافِ الوداع للحاجةِ
إذا كانت عارضةً، كما لو أُقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها، أو حضرت جنازةٌ فصلى عليها أو كان له حاجةٌ تتعلق بسفره
كشراء متاعٍ وانتظار رفقةٍ ونحو ذلك. فمن أقام بعد طواف الوداع إقامةً غيرَ مرخصٍ فيها وجبت عليه إعادتهُ.
3 ـ خروجهم من المسجد بعد طواف الوداعٍ على أقفيتهم يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلافُ السنة،
بل هو من البدع التي حذَّرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال فيها : « كل بدعةٍ ضلالة».
●●
والبدعة : كل ما أُحدث من عقيدة أو عبادةٍ على خلافِ ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم
وخُلفاؤه الراشدون، فهل يظنُّ هذا الراجعُ على قفاه تعظيماً للكعبة على زعمهِ أنه أشدُّ تعظيما لها
من رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، أو يظنّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن
يعلمُ أنّ في ذلك تعظيماً لها، لا هو ولا خُلفاؤه الراشدون ؟!!
4 ـ التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة،
وهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا عن خُلفائه الراشدين،
وكل ما قُصد به التعبُّد لله تعالى وهو مما لم يَردْ به الشرعُ فهو باطلٌ مردودٌ على صاحبه،
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد»،
أي : مردودٌ على صاحبه.
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكونَ في عباداته مُتبعـاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته،
كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(آل عمران:31)
واتباعُ النبي صلى الله عليه وسلّم كما يكونُ
في مفعولاته يكونُ كذلك في متروكاته.
فمتى وُجد مقتضى الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركه،
فلا يجوز إحداثهُ في دين الله تعالى، ولو أحبه الإنسان وهواه.
قال الله تعالى :
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ)
(المؤمنون:71)
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
نسألُ الله أن يهدينا صراطَه المستقيم، وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهبَ لنا منه رحمةً إنه هو الوهاب.
●●●
قال الله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)
وقال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(الأعراف: 158)
وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)
وقال تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل:79)
وقال تعالى: ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(يونس: 32)
فكل ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلّم
وطريقته فهو باطل وضلال مردود على فاعله،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم :
« من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»
أي : مردود على صاحبه، غير مقبول منه.
وإن بعض المسلمين ـ هداهم الله ووفقهم ـ يفعلون أشياء في
كثير من العبادات غير مبنية على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلّم،
ولا سيما في الحج الذي يَكثر فيه المقدمون على الفُتيا بدون علم،
ويُسارعون فيها حتى صار مقامُ الفتيا مَتجراً عند بعض الناس للسمعة والظهور،
فحصل بذلك من الضلال والإضلال ما حصل.
والواجب على المسلم أن لا يُقدِمَ على الفُتيا إلا بعلمٍ يواجه به الله عز وجل،
لأنه في مقام المُبلغ عن الله تعالى القائل عنه، فليتذكر عند الفُتيا
قوله تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلّم :
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) (الحاقة:44)
(لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (الحاقة:45)
(ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (الحاقة:46)
(فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة:47)
وقوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)
(الأعراف:33)
وأكثر الأخطاء من الحجاج ناتجة عن هذا ـ أعني عن الفُتيا بغير علم ـ
وعن تقليد العامة بعضهم بعضاً دون برهان.
ونحن نُبين بعون الله تعالى السنة في بعض الأعمال التي يَكثُر فيها الخطأ،
مع التنبيه على الأخطاء، سائلين الله أن يُوفقنا للحق،
وأن ينفع بذلك إخواننا المسلمين إنه جوادٌ كريمٌ.
.●.
ثبت في « الصحيحين»
وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم
وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحفة ولأهل نجد قرنَ المنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَم،
وقال : « فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة».
وعن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ذات عرق»
رواه أبو داود والنسائي.
وثبت في « الصحيحين»
أيضاً من حديث عبدالله بن عُمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم
قال :
« يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويُهل أهلُ الشام من الجحفة، ويُهل أهلُ نجد من قرن...» الحديث.
فهذه المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلّم حدود شرعية توقيفيَّة موروثةٌ عن الشارع،
لا يَحلُّ لأحدٍ تغييرها أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة،
فإن هذا من تعدي حدود الله،
وقد قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
(البقرة: 229)
ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما :
يُهل أهل المدينة ويُهل أهل الشام ويُهل أهل نجد، وهذا خبرٌ بمعنى الأمر،
ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما : فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والإهلالُ : رفع الصوتِ بالتلبية، ولا يكونُ إلا بعد عقدِ الإحرامِ.
●●
فالإحرامُ من هذه المواقيت واجبٌ على من أراد الحج أو العُمرةَ
إذا مرَّ بها أو حاذاها، سواءُ أتى من طريق البرِّ أو البحر أو الجوِّ.
فإن كان من طريق البر نزل فيها إن مر بها أو فيما حاذاها إن لم يمر بها،
وأتى بما ينبغي أن يأتي به عند الإحرام، من الاغتسال وتطييب بدنهِ ولُبس ثياب إحرامه،
ثم يُحرم قبل مغادرته.
وإن كان من طريق البحر، فإن كانت الباخرة تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب
ولبس ثياب إحرامه حال وقوفها،
ثم أحرم قبل سيرها، وإن كانت لا تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه
قبل أن تُحاذيه، ثم يُحرم إذا حاذَته.
وإن كان من طريق الجو، اغتسل عند ركوب الطائرة، وتطيب، ولبس ثوب إحرامه قبل مُحاذاة الميقات، ثم أحرم قُبيلَ مُحاذاته،
ولا ينتظرُ حتى يُحاذيه، لأن الطائرة تمر به سريعةً فلا تُعطي فرصةً، وإن أحرَم قبلَه احتياطاً فلا بأس.
وفي « صحيح البخاري»
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : لما فتح هذان المِصران ـ
يعني البصرة والكوفة ـ أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا :
يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلّم حدَّ لأهل نجد قرناً، وإنه جَورٌ عن طريقنا،
وإن أردنا أن نأتي قَرناً شقّ علينا، قال : فانظروا إلى حَذوها من طريقكم.
فجعل أمير المؤمنين أحدُ الخلفاء الراشدين ميقات من لم يمر بالميقات إذا حاذاه،
ومَنْ حاذاه جواً فهو كمن حاذاه برّاً، ولا فرق.
فإن وقع الإنسان في هذا الخطأ، فنزل جُدّةَ قبل أن يُحرم فعليه أن يَرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة
فَيُحرم منه، فإن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه عند أكثر العلماء فدية يذبحها في مكة ويُفرقها كلها على الفقراء فيها،
ولا يأكل منها، ولا يُهدي منها لغنيٍّ لأنها بمنزلة الكفارة.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه ابتدأ الطواف من الحجَرِ الأسود في الركن اليماني الشرقي من البيت،
وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحجر، وأنه رَمَلَ في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أولَ ما قَدِمَ مكة،
وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويُقبله، واستلمه بيده وقبلها، واستلمه بمحجن كان معه
وقبل المحجن وهو راكبٌ على بعيره، وطاف على بعيره فجعل يُشير إلى الركن ـ يعني الحجَر ـ كلما مر به.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يستلم الركن اليماني.
واختلاف الصفات في استلام الحجَرِ إنما كان ـ والله أعلم ـ حَسَبَ السهولة، فما سَهُل عليه منها فعله،
وكلُّ ما فعله من الاستلام والتقبيل والإشارة إنما هو تعبد لله تعالى، وتعظيم له، لا اعتقادَ أن الحجَر ينفعُ أو يضر.
وفي « الصحيحين»
عن عمر رضي الله عنه أنه كان يُقبّل الحجَر ويقول :
« إني لأعلمُ أنك حجَر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلّم يُقبّلك ما قبّلتك».
.●.
1 ـ ابتداء الطواف قبل الحجر الأسود، أي : بينه وبين الركن اليماني،
وهذا من الغلو في الدين
الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يُشبه من بعض الوجوه
تقدم رمضان بيومٍ أو يومين، وقد ثبت النهي عنه.
وادعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطاً غير مقبول منه، فالاحتياط الحقيقي النافع هو اتباع الشريعة،
وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله.
2 ـ طوافهم عند الزحام من داخل الحجر، بحيث يدخل من باب الحِجر إلى الباب المُقابل، ويدَع بقية الحِجر عن يمينه،
وهذا خطأٌ عظيم لا يصحُّ الطواف إذا فعله، لأن الحقيقة أنه لم يَطُف بالبيتِ، وإنما طاف ببعضِه.
3 ـ الرَّملُ في جميعِ الأشواط السبعة.
4 ـ المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجَرِ لتقبيله، حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المُقاتلة والمشاتمة،
فيحصل من التضارب والأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا العمل، ولا بهذا المكان في مسجد الله الحرام،
وتحت ظل بيته، فينقصُ بذلك الطواف، بل النسك كله،
لقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
(البقرة:197)
وهذه المزاحمة تُذهِبُ الخشوع وتُنسي ذكرَ الله تعالى، وهما من أعظمِ المقصود في الطواف.
5 ـ اعتقادهم أن الحجَرَ الأسودَ نافع بذاته، ولذلك تجدهم إذا استلموه مَسَحوا بأيديهم على بقية أجسامهم،
أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم !!.
وكلُّ هذا جهل وضلالٌ، فالنفع والضرر من الله وحده،
وقد سبق قول أمير المؤمنين عُمر رضي الله عنه :
« إني لأعلمُ أنك حَجَرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يُقبلك ما قبّلتك».
6 ـ استلامهم ـ أعني بعض الحجاج ـ لجميع أركان الكعبة، ورُبما استلموا جميع جدران الكعبة، وتمسحوا بها،
وهذا جهل وضلال، فإن الاستلام عبادةٌ وتعظيم لله عز وجل،
فيجب الوقوف فيها على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يستلم النبي صلى الله عليه وسلّم من البيت
سوى الركنين اليمانيين ( الحجر الأسود وهو في الركن اليماني الشرقي من الكعبة، والركن اليماني الغربي ).
وفي « مسند الإمام أحمد»
عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها،
قال ابن عباس : لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستلمهما ؟
فقال معاوية : ليس شيءٌ من البيت مهجوراً. فقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة. فقال معاوية : صدقت.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يُكَبر الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود.
وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود :
( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
(البقرة:201)
وقال : إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
والخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين في هذا، تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره،
حتى إنه إذا أتم الشوط قبل تمام الدعاء قطعه ولو لم يَبق عليه إلا كلمةٌ واحدة،
ليأتي بالدعاء الجديد للشوط الذي يليه، وإذا أتم الدعاء قبل تمام الشوط سكت.
ولم يَرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف دعاءٌ مُخصص لكل شوط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وليس فيه ـ يعني الطواف ـ
ذكرٌ محدود عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية،
وما يذكره كثيرٌ من الناس من دعاء مُعين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصلَ له.
وعلى هذا فيدعو الطائفُ بما أحب من خيري الدنيا والآخرة،
ويذكر الله تعالى بأي ذكرٍ مشروع من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير أو قراءة قرآن.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين أن يأخذَ هذه الأدعية المكتوبة فيدعو بها وهو لا يعرف معناها،
وربما يكون فيها أخطاءٌ من الطابع أو الناسخ تَقلبُ المعنى رأساً على عَقِبٍ،
وتجعل الدعاء للطائف دعاءً عليه، فيدعو على نفسه من حيث لا يشعر، وقد سمعنا من هذا العَجَبَ العجاب.
ولو دعا الطائف ربه بما يريده ويعرفه، فيقصد معناه لكان خيراً له وأنفع، ولرسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثرَ تأسياً وأتبع.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعضُ الطائفين أن يجتمع جماعةٌ على قائد يطوف بهم ويُلقِّنهم الدعاء بصوت مرتفع فيتبعه
الجماعة بصوتٍ واحد، فتعلوا الأصوات، وتحصل الفوضى، ويتشوش بقية الطائفين، فلا يدرون ما يقولون،
وفي هذا إذهابٌ للخشوعِ، وإيذاءٌ لعباد الله في هذا المكان الآمن.
وقد خَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلّم على الناس وهم يُصلون ويجهرون بالقراءة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :
« كلكم يُناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعضٍ في القرآن»
رواه مالكٌ في « الموطأ»،
قال ابن عبدالبر : وهو حديثٌ صحيح.
ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا أقبل بهم على الكعبة وقف بهم وقال : إفعلوا كذا، قولوا كذا، ادعوا بما تُحبون،
وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطىء منهم أحد، فطافوا بخشوع وطمأنينة، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً،
وتضرعاً وخُفية بما يحبونه، وما يعرفون معناه ويقصدونه، وسَلِمَ الناسُ من أذاهم.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم
فقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً )
(البقرة: 125)
فصلى ركعتين، والمقام بينه وبين الكعبة،
وقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وقل يا أيها الكافرون،
وفي الركعة الثانية الفاتحة وقل هو الله أحد.
والخطأ الذي يفعله بعض الناس هنا ظنهم أنه لا بد أن تكون صلاة الركعتين قريباً من المقام،
فيزدحمون على ذلك، ويُؤذون الطائفين في أيام الموسم، ويُعوقون سير طوافهم، وهذا الظن خطأ، ف
الركعتان بعد الطواف تُجزيان في أي مكان من المسجد، ويُمكن المصلي أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة،
وإن كان بعيداً عنه، فيُصلي في الصحن أو في رُواق المسجد، ويسلم من الأذية
فلا يُؤذي ولا يُؤذى، وتحصلُ له الصلاة بخشوع وطمأنينة.
ويا حبذا لو أن القائمين على المسجد الحرام منعوا من يؤذون الطائفين بالصلاة خلف المقام قريباً منه،
وبَيَّنوا لهم أن هذا ليس بشرط للركعتين بعد الطواف.
ومن الخطأ أن بعض الذين يُصلون خلف المقام يُصلون عدة ركعاتٍ كثيرة بدون سبب،
مع حاجة الناس الذين فَرغوا من الطواف إلى مكانهم.
ومن الخطأ أن بعض الطائفين إذا فرغ من الركعتين وقف بهم قائدهم يدعو بهم بصوتٍ مرتفع فيُشوشون
على المُصلين خلف المقام، فيَعتدون عليهم،
وقد قال الله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55)
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه حين دنا من الصفا
قرأ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
(البقرة: 158)
ثم رقى عليه حتى رأى الكعبة فاستقبل القِبلَةَ ورفع يديه
فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو،
فوحد الله وكبره وقال : لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،
لا إلـه إلا الله وحده، أنجزَ وعدَه، ونَصر عبده، وهَزَم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك
فقال مثل هذا ثلاث مراتٍ، ثم نزل ماشياً فلما انصبت قدماه في بطن الوادي وهو ما بين العلمين الأخضرين
سعى حتى إذا تجاوزهما مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
والخطأ الذي يفعله بعض الساعين هنا أنهم إذا صعدوا الصفا والمروة استقبلوا الكعبة فكبروا ثلاث تكبيراتٍ
يرفعون أيديهم ويومئون بها كما يفعلون في الصلاة، ثم ينزلون، وهذا خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
فإما أن يفعلوا السنة كما جاءت إن تيسر لهم، وإما أن يدعوا ذلك ولا يُحدثوا فعلاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلّم.
ومن الخطأ الذي يفعله بعض الساعين أنهم يَسعون من الصفا إلى المروة، أعني أنهم يشتدون
في المشي ما بين الصفا والمروة كله، وهذا خلاف السنة، فإن السعي فيما بين العلمين فقط،
والمشي في بقية المسعى، وأكثرُ ما يقع ذلك إما جهلاً من فاعله،
أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي، والله المستعان.
ومن الخطأ أن بعض النساء يَسعين بين العلمين، أي يُسرعن في المشي بينهما
كما يفعل الرجال، والمرأة لا تسعى،
وإنما تمشي المشيةَ المعتادة، لقول ابن عمر رضي الله عنهما :
ليس على النساء رَمَلٌ بالبيت ولا بين الصفا والمروة.
ومن الخطأ أن بعض الساعين
يقرأ قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
(البقرة: 158)
كلما أقبلوا على الصفا أو على المروة، والسنة أن يقرأها إذا أقبل على الصفا في أول شوطٍ فقط.
ومن الخطأ أنّ بعضَ الساعين يُخصص لكل شوطٍ دعاءً معيناً، وهذا لا أصل له.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه مكثَ يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم ركب، ث
م نزلَ في بطن وادي عُرنة، فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمعَ تقديم، بأذانٍ واحد وإقامتين،
ثم ركب حتى أتى موقفه فوقف، وقال : « وقفت هاهنا وعرفة كُلُّها موقف»، فلم يزل واقفاً مستقبلَ القِبلة
رافعاً يديه يذكرُ الله ويدعوه حتى غربت الشمسُ وغاب قرصُها فدفع إلى مزدلفة.
●
●
1 ـ أنهم ينزلون خارج حدود عرفة، ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس،
ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة
من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأٌ عظيم يفوت به الحج، فإن الوقوف بعرفة ركنٌ لا يصحُّ الحج إلا به،
فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له،
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « الحج عرفة من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
وسبب هذا الخطأ الفادح أن الناس يغتر بعضهم ببعض،
لأن بعضهم ينزل قبل أن يَصِلها ولا يتفقد علاماتها، فيفوت على نفسه الحج ويغرُّ غيره.
ويا حبذا لو أن القائمين على الحج أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم، وبلغات متعددة، وعهدوا إلى المطوفين
بتحذير الحجاج من ذلك، ليكون الناس على بصيرة من أمرهم، ويؤدوا حجهم على الوجه الذي تبرأ به الذمة.
2 ـ أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا حرامٌ لأنه خلافُ سنة النبي صلى الله عليه وسلّم،
حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عملُ أهل الجاهلية.
3 ـ أنهم يستقبلون الجبل ـ جبل عرفة ـ عند الدعاء، ولو كانت القِبلة خلف ظهورهم أو على أيمانهم أو شمائلهم،
وهذا خلافُ السنة، فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم.
.●.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه رمى جمرة العقبة وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات،
ضُحى يوم النحر، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصا الخذَفِ أي فوق الحمص قليلاً.
وفي « سنن النسائي»
من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما ـ
وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلّم من مزدلفة إلى منى ـ
قال : فهبط ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلّم ـ
محسراً وقال : عليكم بحصا الخذف الذي تُرمى به الجمرة،
قال : والنبي صلى الله عليه وسلّم يشير بيده كما يخذفُ الإنسان.
وفي « مسند الإمام أحمد» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يحيى : لا يدري عوفٌ عبدالله أو الفضل :
قال : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم غداةَ العقبة وهو واقف على راحلته :
هاتِ القُطْ لي، قال فلقطت له حصيات هن حصا الخذف، فوضعهن في يده فقال :
« بأمثال هؤلاء» مرتين، وقال بيده فأشار يحيى أنه رفعها
وقال : « إياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين».
وعن أُم سليمان بن عمرو بن الأحوص رضي الله عنها قالت :
« رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر،
وهو يقولُ :
« يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذفِ»
رواه أحمد.
وفي « صحيح البخاري»
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يُكبر
على إثر كل حصاةٍ ثم يتقدم حتى يسهلَ فيقومَ مستقبلَ القِبلة فيقومَ طويلاً ويدعو ويرفع يديه،
ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمالِ فيسهل ويقومُ مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفعُ يديه،
ثم يرمي جمرة العقبة من بَطنِ الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرفُ فيقولُ : هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله.
وروى أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم
قال : « إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكرِ الله».
●●
1 ـ اعتقادهم أنه لا بد ـ من أخذِ الحصا من مزدلفة فيتعبون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها
في أيام منى حتى إن الواحد منهم إذا أضاعَ حصاةً حزِنَ حُزناً كبيراً،
وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضلِ ما معهم من حصا مزدلفة
وقد عُلم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
وأنه أمر ابن عباس رضي الله عنهما بِلَقْطِ الحصا له وهو واقفٌ على راحلته،
والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة، إذ لم يُحفظ عنه أنه وقف بعد مسيرهِ من مزدلفة قبل ذلك،
ولأن هذا وقت الحاجة إليه فلم يكن ليأمرَ بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه وتكلف حمله.
2 ـ اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطانَ، ولهذا يُطلقون اسم الشياطين على الجِمارِ،
فيقولون : رمينا الشيطان الكبير أو الصغير أو رمينا أبا الشياطين يَعنون به الجمرة الكبرى
جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر.
وتراهم أيضاً يرمون الحصا بشدة وعنف وصراخ وسب وشتم لهذه الشياطين على زعمهم حتى شاهدنا
من يصعد فوقها يبطش بها ضرباً بالنعل والحصا الكبار بغضب وانفعال ! والحصا تصيبه من الناس،
وهو لا يزداد إلا غضباً وعنفاً في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون كأن المشهد مشهد مسرحية هزليّة !
شاهدنا هذا قبل أن تُبنى الجسورُ وترتفع أنصابُ الجمرات، وكلُّ هذا مبنيٌّ على هذه العقيدة أن الحجاج يرمون شياطين،
وليس لها أصلٌ صحيحٌ يعتمد عليه.
وقد علمتَ مما سبقَ الحكمةَ في مشروعيةَ رمي الجمار، وأنه إنما شرع لإقامة ذكر الله عز وجل،
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يكبر على إثرِ كل حصاة.
3 ـ رميهم الجمرات بحصا كبيرةِ. وبالحذاء ( النعل )،
والخفاف ( الجزمات )، والأخشاب !!
وهذا خطأٌ كبير مخالف
لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلّم لأُمته بفعله وأمره، حيث رمى صلى الله عليه وسلّم بمثل حصا الخذف،
وأمر أُمته أن يرموا بمثله، وحذرهم من الغلو في الدين، وسبب هذا الخطأ الكبير ما سبق من اعتقادهم أنهم يرمون شياطين.
4 ـ تقدمهم إلى الجمرات بعنفٍ وشدةٍ، لا يخشعون لله تعالى، ولا يَرحمون عباد الله، فيحصلُ بفعلهم هذا
من الأذية للمسلمين والإضرار بهم، والمشاتمة والمضاربة ما يقلب هذه العبادة وهذا المشعر إلى
مشهد مشاتمة ومقاتلة، ويخرجها عما شُرعت من أجله، وعما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم.
ففي « المسند»
عن قُدامة بن عبدالله بن عمار
قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يوم النحر يرمي جمرة العقبة على ناقةٍ صهباء،
لا ضرب ولا طرد ولا : إليكَ إليكَ» رواه الترمذي وقال : حسنٌ صحيح.
5 ـ تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق،
وقد علمَت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقفُ بعد رميها مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو دعاءً طويلاً.
وسبب ترك الناس لهذا الوقوف الجهل بالسنة، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من العبادة.
ويا حبذا لو أن الحاج تعلم أحكام الحج قبل أن يحج، ليعبد الله تعالى على بصيرة،
ويحقق متابعة النبي صلى الله عليه وسلّم.
ولو أن شخصاً أراد أن يُسافر إلى بلدٍ لرأيته يسألُ عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالةٍ،
فكيف بمن أراد أن يَسلُك الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وإلى جنته،
أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلُكها ليصل إلى المقصود !؟
6 ـ رميهم الحصا جميعاً بكفٍّ واحدة، وهذا خطأ فاحشٌ، وقد قال أهل العلم
إنه إذا رمى بكفٍّ واحدةٍ أكثرَ من حصاةٍ لم يُحتَسب له سوى حصاةٍ واحدة.
فالواجب أن يرمي الحصا واحدة فواحدةً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم.
7 ـ زيادتهم دعواتٍ عند الرمي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
مثل قولهم : اللهم اجعلها رضا للرحمن، وغَضَباً للشيطان، وربما قال ذلك وتركَ التكبير الواردَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
والأولى الاقتصار على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم من غير زيادةٍ ولا نقصٍ.
8 ـ تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يُوَكّلون من يرمي عنهم مع قُدرَتهِم على الرمي
ليُسقطوا عن أنفسهم مُعاناةَ الزحامِ ومشقةَ العمل، وهذا مخالفٌ لما أمر الله تعالى به من إتمام الحج،
حيث يقول سبحانه : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(البقرة: 196)
فالواجب على القادر على الرمي أن يُباشره بنفسه، ويصبر على المشقة والتعب
فإن الحج نوعٌ من الجهاد، لا بد فيه من الكُلفة والمشقة.
فليتق الحاج ربه، وليتم نُسكه، كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
.●.
ثبت في « الصحيحين»
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
قال : « أُمر الناس أن يكونَ آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض».
وفي لفظٍ لمسلم عنه
قال : « كان الناس ينصرفون في كل وجه،
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخرَ عهده بالبيتِ».
ورواه أبو داود بلفظ : « حتى يكونَ آخرَ عهده الطوافُ بالبيت».
وفي « الصحيحين» عن أُم سلمة رضي الله عنها قالت :
« شكوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أني أشتكي،
فقال : « طُوفي من وراء الناس وأنتِ راكبةٌ»، فَطُفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلّم
يُصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور».
وللنسائي عنها أنها قالت : « يا رسول الله، والله ما طُفتُ طوافَ الخروجِ
فقال : « إذا أُقيمت الصلاةُ فطوفي على بعيرك من وراء الناس».
وفي « صحيح البخاري» عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم
صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رَقدَةً بالمُحَصب ثم ركب إلى البيت فطاف به.
وفي « الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أن صفية رضي الله عنها حاضت بعد طوافِ الإفاضة
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « أحابِسَتُنا هي ؟» قالوا : إنها قد أفاضت وطافت بالبيت، قال : « فلتنفر إذن».
وفي « الموطأ» عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه
قال : « لا يَصدُرن أحدٌ من الحج حتى يطوف بالبيت، فإن آخرَ النسكِ الطوافُ بالبيت».
وفيه عن يحيى بن سعيد أنّ عمرَ رضي الله عنه رَدّ رجلاً مِن مرِّ الظهران لم يكن وَدّع البيتَ حتى ودّع.
●●
والخطأ الذي يرتكبه بعضُ الناس هنا !!
1 ـ نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات، فيطوفوا للوداع
ثم يَرجعوا إلى منى فيرموا الجمرات، ثم يُسافروا إلى بلادهم من هناك.
وهذا لا يجوز، لأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يكون آخرَ عهدِ الحاجّ بالبيت،
فإن من رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخرَ عهده بالجمار لا بالبيتِ،
ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يَطُف للوداع
إلا عند خروجه حين استكمل جميعَ مناسكِ الحج،
وقد قال : « خُذوا عني مناسككم».
وأثرُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريحٌ في أن الطواف بالبيت آخرُ النسك، فمن طافَ للوداع
ثم رمى بعده فطوافه غيرُ مجزىء لوقوعه في غير مَحَلِّه، فيجبُ عليه إعادتُه بعد الرمي،
فإن لم يُعد كان حُكمُه حُكم مَن تركه.
2 ـ مُكثهم بمكة بعد طواف الوداع، فلا يكونُ آخرَ عهدهم بالبيت وهذا خلاف ما أمر به
النبي صلى الله عليه وسلّم، وبينه لأُمته بفعله،
فإن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَ أن يكون آخرَ عهدِ الحاج بالبيت،
ولم يَطُف للوداع إلا عند خروجه، وهكذا فعل أصحابه،
ولكن رخّص أهلُ العلم في الإقامةِ بعد طوافِ الوداع للحاجةِ
إذا كانت عارضةً، كما لو أُقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها، أو حضرت جنازةٌ فصلى عليها أو كان له حاجةٌ تتعلق بسفره
كشراء متاعٍ وانتظار رفقةٍ ونحو ذلك. فمن أقام بعد طواف الوداع إقامةً غيرَ مرخصٍ فيها وجبت عليه إعادتهُ.
3 ـ خروجهم من المسجد بعد طواف الوداعٍ على أقفيتهم يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلافُ السنة،
بل هو من البدع التي حذَّرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال فيها : « كل بدعةٍ ضلالة».
●●
والبدعة : كل ما أُحدث من عقيدة أو عبادةٍ على خلافِ ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم
وخُلفاؤه الراشدون، فهل يظنُّ هذا الراجعُ على قفاه تعظيماً للكعبة على زعمهِ أنه أشدُّ تعظيما لها
من رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، أو يظنّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن
يعلمُ أنّ في ذلك تعظيماً لها، لا هو ولا خُلفاؤه الراشدون ؟!!
4 ـ التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة،
وهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا عن خُلفائه الراشدين،
وكل ما قُصد به التعبُّد لله تعالى وهو مما لم يَردْ به الشرعُ فهو باطلٌ مردودٌ على صاحبه،
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد»،
أي : مردودٌ على صاحبه.
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكونَ في عباداته مُتبعـاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته،
كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(آل عمران:31)
واتباعُ النبي صلى الله عليه وسلّم كما يكونُ
في مفعولاته يكونُ كذلك في متروكاته.
فمتى وُجد مقتضى الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركه،
فلا يجوز إحداثهُ في دين الله تعالى، ولو أحبه الإنسان وهواه.
قال الله تعالى :
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ)
(المؤمنون:71)
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
نسألُ الله أن يهدينا صراطَه المستقيم، وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهبَ لنا منه رحمةً إنه هو الوهاب.
●●●

●●●
* حاجٌّ من خارجِ المملكة، لا يعلمُ عن ظروفِ السفرِ وترتيباتِ التذاكر والطائرات،
وسأل في بلده هل يمكنه الحجز الساعة الرابعة عصراً
من يوم ( 13/12/1405 هـ ) ؟
قيل : يمكن ذلك، فحجز على هذا الموعد، ثم أدركه المبيت بمنى ليلةَ الثالث عشر،
فهل يجوزُ له أن يرمي صباحاً ثم ينفرَ، علماً أنه لو تأخر بعد الزوال لفات السفر،
وترتب عليه مشقةٌ كبيرةٌ، ومخالفةٌ لأولي الأمر ؟
* لا يجوز له أن يرمي قبل الزوال، ولكن يُمكن أن نُسقطَ عنه الرميَ
في هذه الحالِ للضرورة،
ونقولُ له : يلزمك فديةٌ تذبحُها في منى أو في مكّة أو تُوكِل من يذبحُها عنك،
وتوزّع على الفقراء، وتطوفُ طَوَافَ الوداع وتمشي.
ونقولُ : أمّا قولك إذا كان الجواب بعدم الجواز أليس
هناك رأيٌ يجيزُ الرمي قبل الزوال ؟ فالجواب : هناك رأيٌ يجيزُ الرمي قبل الزوال،
ولكنه ليسَ بصحيح، والصوابُ أن الرمي قبل الزوال لا يجوزُ،
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « خُذوا عني مناسككم»،
ولم يَرْمِ صلى الله عليه وسلّم إلا بعد الزوال.
فإن قال قائلٌ : رميُ النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الزوال مجرد فعل،
ومجرّد الفعل لا يدل على الوجوب، قلنا : هذا صحيحٌ أنه مجرد فعل،
ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب، أما كونه مجرد فعلٍ فلأن النبي صلى الله عليه وسلّم
لم يأمر بأن يكون الرمي بعد الزوال، ولا نهى عن الرمي قبل الزوال.
وأما كونُ الفعل لا يدلُّ على الوجوبِ، فنَعم لا يدلُّ على الوجوب
لأن الوجوب لا يكون إلا بأمرٍ بالفعل أو نهي عن التركِ.
ولكن نقول : هذا الفعل دلت القرينة على أنه للوجوب، ووجه ذلك
أن كون الرسول صلى الله عليه وسلّم يؤخر الرمي حتى تزول الشمس
يدل على الوجوب، إذ لو كان الرمي قبل الزوال جائزاً
لكان النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله، لأنه أيسر على العباد وأسهلُ
والنبي صلى الله عليه وسلّم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما
ما لم يكن إثماً، فكونُه صلى الله عليه وسلّم لم يختر الأيسر هنا
وهو الرمي قبل الزوال يدلُّ على إنه إثمٌ.
والوجه الثاني مما يدل على أن هذا الفعل للوجوب : كونُ الرسول صلى الله عليه وسلّم
يرمي فور زوال الشمس قبل أن يُصلي الظهر، فكأنه يترقب الزوال بفارغِ الصبر
ليبادرَ بالرمي، ولهذا أخّر صلاةَ الظهرِ مع أنَّ الأفضلَ تقديمها في أول الوقت،
كل ذلك من أجل أن يرمي بعد الزوال مُباشرةً.
●●
*رجلٌ سمع أنه يجوزُ السعي قبل الطواف فسعى ثم طاف في اليوم الثاني عشر
أو الثالث عشر، فقيل له : إن ذلك خاصُّ بيوم العيد، فما الحُكم ؟
*الصوابُ أنه لا فرق بين يوم العيد وغيره في أنه يجوزُ تقديم
السعي على الطواف في الحج، حتى لو كان بعدَ يوم العيد لعموم الحديث،
حيث قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلّم : سعيتُ قبل أنْ أَطوفَ قال : « لا حرج».
وإذا كان الحديثُ عاماً فإنه لا فرقَ بين أن يكونَ ذلك في يوم العيد أو فيما بعده.
●●
* إذا طاف مَن عليه سعيٌ، ثم خرج ولم يَسعَ، وأُخبر بعد خمسةٍ أيام
بأن عليه سعياً، فهل يجوزُ أن يسعى فقط ولا يطوفُ قبله ؟
* إذا طاف الإنسانُ معتقداً أنه لا سعي عليه ثم خرج، ثم بعد ذلك بأيام أُخبر
بأن عليه سعياً، فإنه يأتي للسعي فقط ولا حاجةَ إلى إعادةِ الطواف،
وذلك لأنه لا يُشترط الموالاة بين الطواف والسعي، حتى لو فُرض أن الرجلَ
ترك ذلك عمداً، أي أخر السعي عن الطواف عَمْداً، فلا حَرَجَ عليه،
ولكن الأفضلَ أن يكون السعي مُوالياً للطواف.
●●
*حاجٌّ قَدِمَ متمتعاً، فلما طاف وسعى لَبِسَ ملابسه العادية،
ولم يُقصر أو يحلق، وسأل بعد الحج وأُخبر أنه أخطأ، فكيف يفعل
وقد ذهب الحج بعد وقت العمرةِ ؟
*هذا الرجل يُعتبر تاركاً لواجب من واجبات العمرة، وهو التقصير،
وعليه عند أهل العلم أن يذبحَ فديةً في مكة ويُوزعها على فقراء مكة
وهو باقٍ على تمتعه فيلزمه هدي التمتع أيضاً.
●●
*ما حكم الحلق أو التقصير بالنسبة للعمرة ؟
*الحلق أو التقصير بالنسبة للعمرة واجبٌ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم
لما قَدِمَ إلى مكة في حَجة الوداع وطاف وسعى، أَمَرَ كلَّ من لم يسق الهديَ
أن يقصر، ثم يحل، والأصل في الأمر الوجوب، ويدل لذلك أيضاً
أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَهم حين أحصروا في غزوةِ الحديبيةِ،
أن يحلقوا حتى إنه صلى الله عليه وسلّم غَضِبَ حين تَوانَوْا في ذلك.
وأما : هل الأفضل في العمرة التقصير أو الحَلق ؟ فالأفضل الحلقُ،
إلا للمتمتع الذي قَدِمَ مُتأخراً فإن الأفضل في حقه التقصير من أجل أن يتوفر الحلقُ للحجِّ.
●●
* حاجٌّ رمى جمرة العقبة من جهة الشرق، ولم يسقط الحجرُ في الحوض،
فما العمل وهو في اليوم الثالث عشر، وهل يلزمه إعادة الرمي في أيام التشريق ؟
* لا يلزمه إعادة الرمي كله، وإنما يلزمه إعادة الرمي الذي أخطأ فيه فقط،
وعلى هذا يعيدُ رمي جمرة العقبة فقط، ويرميها على الصواب،
ولا يجزئه الرمي الذي رماه من جهة الشرق لأنه في هذه الحال
لا يسقط في الحوض الذي هو موضع الرمي، ولهذا لو رماها من الجسر
من الناحية الشرقية أجزأ لأنه يسقطُ في الحوض.
●●
*متى ينتهي رمي جمرة العقبة أداءً ؟ ومتى ينتهي قضاءً ؟
* أما رمي جمرة العقبة يومَ العيد فإنه ينتهي بطلوعِ الفجرِ من اليوم الحادي عشَر،
ويبتدىءُ من آخِرِ الليل من ليلةِ النحرِ للضُّعفاء ونحوهم من الذين لا يستطيعون
مزاحمة الناسِ.
وأما رميُها في أيام التشريق فهي كرمي الجمرتين اللَّتَين معها،
يبتدىءُ الرمي من الزوال، وينتهي بطلوع الفجر من الليلةِ التي تلي اليومَ،
إلا إذا كان في آخرِ أيام التشريق، فإن الليل لا رميَ فيه،
وهو ليلةُ الرابع عشر،
لأن أيام التشريق انتهت بغروب شمسها، والرمي في النهار أفضلُ،
إلا أنه في هذه الأوقات مع كثرة الحجيج وغَشَمِهم،
وعدم مبالاةِ بعضهم ببعضٍ إذا خاف على نفسه من الهلاك أو الضررِ أو المشقّة الشديدةِ
فإنّه يرمي ليلاً ولا حرجَ عليه، كما أنه لو رمى ليلاً بدون أن يخاف هذا،
فلا حرجَ عليه، ولكن الأفضلَ أن يُراعي الاحتياطَ، ولا يَرمي ليلاً إلا عند الحاجة إليه.
وأما قوله : قضاءً، فإنها تكون قضاءً إذا طلع الفجرُ من اليوم التالي
في أيام التشريق ولم يَرمِها .
●●
*إذا لم تُصِب جمرةٌ من الجمار السبع المرمى، أو جمرتان، ومضى يومٌ أو يومان،
فهل يلزمُه إعادةُ هذه الجمرة أو الجمرتين ؟
وإذا لزمه فهل يعيدُ ما بعدَها من الرمي ؟
*إذا بقي عليه رميُ جمرةٍ أو جمرتين من الجمرات، أو على الأوضح حصاة
أو حصاتين من إحدى الجمراتِ،
فإن الفقهاء يقولون إذا كان من آخر جمرة فإنه يُكملها،
أي يُكملُ هذا الذي نقص فقط، ولا يلزمهُ رمي ما قبلها،
وإن كان من غير آخر جمرة فإنه يُكمل الناقص، ويَرمي ما بعدها.
والصوابُ عندي أنه يُكمل النقصَ مُطْلَقاً، ولا يلزمهُ إعادةُ رمي ما بعدها؛
وذلك لأن الترتيب يَسقُطُ بالجهل أو بالنسيان، وهذا الرجلُ قد رمى الثانيةَ
وهو لا يعتقدُ أن عليه شيئاً مما قبلها، فهو بين الجهلِ والنسيانِ،
وحينئذٍ نقولُ له : ما نَقَصَ من الحصا فارمهِ ولا يجبُ عليك رَميُ ما بعدَها.
وقبلَ إنهاء الجوابِ أُحبُّ أن أنبّه إلى أنَّ المرمى مجتمعُ الحصا،
وليس العمود المنصوب للدلالة عليه، فلو رمى في الحوضِ
ولم يُصِب العمودَ بشيء من الحصيات فَرَميه صحيحٌ، والله أعلم.
●●
* إذا خَرج الحاج من منى قبلَ غروب الشمس يومَ الثاني عشر بنية التعجل،
ولديه عملٌ في منى سيعودُ له بعد الغروب، فهل يُعتبر مُتعجلاً ؟
* نعم؛ يُعتبر متعجلاً لأنه أنهى الحج، ونية رجوعه إلى منى لعملِه فيها
لا يمنعُ التعجل، لأنه إنما نوى الرجوعَ للعملِ المنُوطِ به لا للنسك.
●●
*مَن أحرم بالحج من الميقات، ثم سار إلى أَنْ قَرُب من مكة فَمنَعه
مركزُ التفتيش لأنه لم يحمل بطاقة الحج، فما الحكم ؟
* الحُكَمُ في هذه الحالِ أنه يكون مُحْصِراً حين تعذر عليه الدخولُ، فيذبح
هَدياً في مكان الإحصارِ، ويحلّ،
ثم إن كانت هذه الحجةُ هي الفريضة، أدّاها فيما بعدُ بالخطاب الأوَل لا قضاءً،
وإن كانت غَيَر الفريضةِ فإنه لا شيء عليه، على القول الراجحِ،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يأمر الذين أُحصروا في غزوةِ الحديبيةِ
أن يَقضُوا تلك العمرةَ التي أُحْصِرُوا عنها، وليس في كتابِ الله،
ولا في سُنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم وجوبُ القضاء
على من أُحْصرَ؛ قال تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)(البقرة: 196)
ولم يذكر شيئاً سوى ذلك.
وعمرةُ القضاء سُميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قاضى قُريشاً،
أي عاهدهم عليها، وليس من القضاء الذي هو استدراكُ ما فات، والله أعلمُ.
●●
*إذا دخل الآفاقيُّ بملابسه العادية، بمكة حتى يتحايل على الدولة لعدم الحج،
ثم أحرم من مكة، فهل يجوز حجُّه، وما الذي يلزمُهُ ؟
*أما حجُّه فيصحُّ، وأما فعله فحرامٌ، حرامٌ من وجهين : أحدُهما
تعدّي حدودِ الله سبحانه وتعالى بِتركِ الإحرامِ من الميقاتِ.
والثاني : مخالفته أمرَ ولاةِ الأمور الذين أُمرنا بطاعتهم
في غير معصيةِ الله.
وعلى هذا يلزمهُ أن يتوبَ إلى الله ويستغفره مما وقع، وعليه فديةٌ
يذبحها في مكة ويُوزعها على الفقراء لتركهِ الإحرامَ من الميقاتِ،
على ما قاله أهلُ العلم من وجوب الفدية على من تركَ واجباً من واجباتِ الحج أو العمرة.
●●
* سمعتُ أن الُمتمتع إذا رجعَ إلى بلدهِ انقطَعَ تمتعه، فهل يجوز له
أن يَحجَّ مُفرداً ولا دَمَ عليه ؟
*نعم إذا رجع المتمتع إلى بلده، ثم أنشأ سفراً للحج من بلده فهو مفردٌ،
وذلك لانقطاع ما بين العُمرة والحج برجوعه إلى أهله ف****ؤه السفرَ معناه
أنه أنشأ سفراً جديداً للحج، وحينئذٍ يكونُ حجُّه إفراداً، فلا يجبُ عليه هديُ التمتع،
لكن لو فعل ذلك تحيُّلاً على إسقاطه فإنه لا يسقطُ عنه،
لأن التحيُّل على إسقاطِ الواجبِ لا يَقتَضي إسقاطه،
كما أن التحيلَ على المحرَّمِ لا يَقتضي حِلَّه.
●●
* إذا قَدِمَ المسلمُ إلى مكة قبل أشهر الحج بنية الحجِّ، ثم اعتمر وبقي إلى الحجِّ فحجَّ،
فهل حَجُّهُ يُعتبر تمتُّعاً أم إفراداً ؟
*حَجُّهُ يُعتبر إفراداً، لأن التمتع هو أن يُحرمَ بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغَ منها،
ثم يُحرم بالحج من عامه.
وأما من أحرمَ بالعمرة قبلَ أشهر الحج وبقي في مكة حتى حجّ،
فإنه يكونُ مفرداً، إلا إذا قَرَنَ، بأن يحرم بالحجّ والعمرة جميعاً، فيكون قارناً،
وإنما اختصَّ التمتعُ بمن أحرمَ بالعمرة في أشهر الحج
لأنه لما دخلت أشهرُ الحج كان الإحرامُ بالحجّ فيها أخصَّ من الإحرامِ بالعمرة،
فخفّف الله تعالى عن العباد، وأذِنَ لهم، بل أحبَّ أن يجعلوا عُمرَةً ليتمتعوا بها إلى الحجِّ.
●●
* حملةٌ خَرجَت من عرفةَ بعد الغروب، فضلُّوا الطريقَ فتوجهوا إلى مكة،
ثم ردَّتهم الشرطةُ إلى مُزدلفةَ، فلما أقبلوا عليها توقفوا،
وصلَّوا المغربَ والعشاءَ في الساعة الواحدة ليلاً، ثم دَخَلُوا المزدلفةَ أذانَ الفجرِ
فصلَّوا فيها الفجر ثم خَرَجُوا، فهل عليهم شيءٌ في ذلك أَمْ لا ؟
* هؤلاء لا شيءَ عليهم لأنهم أدركوا صلاةَ الفجرِ في مُزدلفةَ
حين دخلوها وقتَ أذانِ الفجرِ، وصلّوا الفجر فيها بِغَلَسٍ
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه
قال : « مَنْ شَهِدَ صلاتنا هذه ووقفَ معنا حتى نَدْفَعَ،
وقد وقف قبل ذلك بعرفةَ ليلاً أو نهاراً فقد تم حجُّه وقضى تَفَثَه»،
ولكن هؤلاء أخطأوا حين أخّروا الصلاةَ إلى ما بعد مُنتصفِ الليل،
لأن وقتَ صلاة العشاء إلى نصفِ الليل، كما ثبت ذلك في
« صحيح مسلم»
من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلّم
فلا يحلُّ تأخيرها عن مُنتصف الليل.
●●
* معلومٌ أن حَلقَ الرأسِ من محظوراتِ الإحرامِ، فكيفَ يجوزُ البدءُ به
في التحلُّل يومَ العيد، لأن العلماءَ
يقولون : إن التحلُّل بفعلِ اثنين من ثلاثِ، ويَذكرون منها الحلقَ،
وعلى هذا فإنّ الحاجَّ يجوزُ أن يبدأ به ؟
*نعم يجوزُ البدءُ به لأنّ حلقَه عند الإحلالِ للنُّسك، فيكون غير مُحرِمٍ،
بل يكونُ نُسكاً مأموراً به، وإذا كان مأموراً به فإن فعله
لا يُعَدُّ إثماً ولا وقوعاً في محظورٍ.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سُئل عن الحلقِ قبل النحرِ
وقبل الرمي، فقال : « لا حَرَج».
وكون الشيء مأموراً به أو محظوراً إنما يُتلقى من الشرع :
ألا ترى إلى السجودِ لغير الله تعالى كان شِرْكاً، ولما أمر الله به
الملائكةَ أن يسجدُوا لآدم كان سجودُهم له طاعةً.
ثم ألم تَرَ إلى قتلِ النفسِ، لا سيّما الأولادَ كان من الكبائرِ العظيمةِ،
فلما أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم أن يقتلَ ابنه إسماعيلَ كان طاعةً
نال بها إبراهيمُ مرتبةً عظيمةً، ولكن الله تعالى برحمتهِ خفّف عنه
وعن ابنهِ وقال: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (الصافات:103)
(وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) (الصافات:104)
(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات:105)
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (الصافات:106)
(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات:107).
●●
* متى ينتهي زمنُ ذبحِ هدي التمتع ؟
وهل هناك خلافٌ وآراءٌ في تحديد الزمن ؟
*ينتهي زمنُ الذبحِ لهدي التمتُّع بغروبِ الشمسِ من اليومِ الثالث عشر من ذي الحجة
ويبتدىء إذا مضى قَدرُ صلاةِ العيد من يومِ العيد بعد ارتفاعِ الشمسِ قدرَ رمحٍ.
وأما : هل هناك خلافٌ ؟ فنعم فيه خلافٌ في ابتدائه وانتهائه،
ولكن الراجحَ ما ذكرناه، والله أعلم.
●●
* ما حُكمُ من بات في منى إلى الساعة الثانية عشرةَ ليلاً،
ثم دخل مكةَ ولم يَعُد حتى طلوع الفجر ؟
*إذا كانت الساعةُ الثانيةَ عشرةَ ليلاً هي منتصف الليل في منى،
فإنه لا بأسَ أن يخرجَ منها بعدها.
وإن كان الأفضلُ أن يبقى في منى ليلاً ونهاراً،
وإن كانت الساعةُ الثانية عشرةَ قبل منتصفِ الليل فإنه لا يخرجُ،
لأن المبيت في منى يشترطُ أن يكون مُعظَمَ الليل على ما ذكره
فُقهاؤنا رحمهم الله تعالى.
●●
* يُقال : إنه لا يجوزُ الرمي بجمرةٍ قد رُمي بها، فهل هذا صحيح ؟
وما الدليلُ عليه ؟
*هذا ليس بصحيحٍ، لأن الذين استدلُّوا بأنه لا يُرمَى بجمرةٍ قد رُمي بها،
علّلوا ذلك بعللٍ ثلاث : قالوا إنها ـ
أي الجمرةُ التي رُمي بها ـ كالماء المستعمل في طهارة واجبةٍ،
والماء المستعمل في الطهارةِ الواجبة يكونَ طاهراً غيرَ مُطَهِّر،
وإنها كالعبدِ إذا أُعتق فإنه لا يُعتَق بعد ذلك في كفّارة أو غيرها،
وإنه يلزمُ من القولِ بالجوازِ أن يَرمِيَ جميعُ الحجيجِ بحجرٍ واحدٍ،
فترمي أنتَ هذا الحجَرَ، ثم تأخذهُ وترمي، ثم تأخُذُه وترمي
حتى تُكملَ السبعَ، ثم يجيءُ الثاني فيأخُذُهُ
فيرمي حتّى يُكمل السبع، فهذه ثلاثُ عللٍ وكلُّها عند التأمُّل عليلةٌ جداً.
أما التعليلُ الأول : فإنّما نقولُ بمنع الحكمِ في الأصلِ،
وهو أنّ الماءَ المستعملُ في طهارة واجبةٍ
يكون طاهراً غيرَ مُطَهِّر لأنّه لا دليلَ على ذلك، ولا يُمكن نقلُ الماء
عن وصفهِ الأصلِّي،
وهو الطهوريّة إلا بدليلٍ.
وعلى هذا فالماء المستعملُ في طهارةٍ واجبةٍ طهورٌ مُطهِّرٌ،
فإذا انتفى حُكمُ الأصلِ المقيس عليه، انتفى حكمُ الفرعِ.
وأما التعليل الثاني : وهو قياسُ الحصاةِ المرمي بها على العبد المُعتَق،
فهو قياسٌ مع الفارقِ،
فإن العبدَ إذا أُعتق كان حُرًّا لا عبداً، فلم يكن محلاً للعتقِ، ب
خلافِ الحجر إذا رُمي به فإنه يبقى حَجَراً بعد الرمي به،
فلم يَنْتَفِ المعنى الذي كان من أجله صالحاً للرمي به،
ولهذا لو أن هذا العبد
الذي أُعتق استرقَّ مرةً أخرى بسبب شرعيٍّ جاز أن يُعتَقَ مرة ثانية.
وأما التعليلُ الثالث : وهو أنه يَلزَمُ من ذلك أن يقتصر الحجَّاج
على حصاةٍ واحدةٍ،
فنقولُ : إن أمكن ذلك فليكن ولكن هذا غيرُ مُمكنٍ،
ولن يعدلَ إليه أحدٌ مع توفّر الحصا.
وبناءً على ذلك، فإنه إذا سَقَطَت من يدك حصاةٌ أو أكثر حولَ الجمراتِ
فَخُذْ بَدَلهُا مما عندك،
وارْمِ به سواءٌ غَلَبَ على ظنِّك أنه قد رُمي بها أم لا.
●●
*إذا قَصَّرَ الحاجُّ والمُعتَمِرُ من جانبي رأسهِ ثم حَلَّ إحرامهُ
وهو لم يُعَمّم الرأس فما الحكمُ ؟
*الحكمُ إن كان في الحجِّ وقد طاف ورمى، فإنَّه يبقى في ثيابهِ،
ويُكمل حلقَ رأسِه أو تقصيره،
وإن كان في عُمرةٍ فعليه أن يخلعَ ثيابه ويعودَ إلى ثيابِ الإحرامِ
ثم يحلقَ أو يُقَصِّرَ تقصيراً تاماً يعمُّ جميعَ الرأسِ وهو مُحْرِم، أي وهو لابسٌ ثيابَ الإحرام.
●●
*هل يجوزُ للحاجِّ أن يُقَدِّم سعي الحجِّ عن طوافِ الإفاضة ؟
* إن كان الحاجُّ مُفرِداً أو قارناً، فإنه يجوزُ أن يُقَدّم السعيَ
على طوافِ الإفاضةِ، فيأتي به بعد طوافِ القدوم
كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم، وأصحابُه الذين ساقوا الهديَ.
أما إن كان متمتعاً، فإن عليه سعيين : الأول عند قدومِه إلى مكة،
وهو للعُمرة، والثاني في الحجّ.
والأفضلُ أن يكون بعد طوافِ الإفاضةِ، لأن السعيَ تابعٌ للطوافِ،
فإن قدّمه على الطوافِ فلا حَرَجَ على القول الراجحِ،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل فقيل له : سعيتُ قبل أن أطوف ؟!
قال : « لا حَرَج». فالحاجُّ يفعلُ يومَ العيد خمسةَ أنساكٍ مُرَتّبَةً :
رميُ جمرة العَقبة، ثم النّحر، ثم الحلْق أو التقصير،
ثم الطَّواف بالبيت، ثم السَّعي بين الصفا والمروة،
إلا أنْ يكونَ قارناً أو مُفْرداً سعى بعد طوافِ القدومِ فإنّه لا يُعيد السعيَ،
والأفضلُ أن يُرَتّبها على ما ذكرنا، وإن قَدّم بعضَها على بعضٍ،
لا سّيما مع الحاجةِ فلا حَرَج،
وهذا من رحمةِ الله تعالى وتيسيرهِ،
فلله الحمد رب العالمين.
●
فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله,,
●●●
* حاجٌّ من خارجِ المملكة، لا يعلمُ عن ظروفِ السفرِ وترتيباتِ التذاكر والطائرات،
وسأل في بلده هل يمكنه الحجز الساعة الرابعة عصراً
من يوم ( 13/12/1405 هـ ) ؟
قيل : يمكن ذلك، فحجز على هذا الموعد، ثم أدركه المبيت بمنى ليلةَ الثالث عشر،
فهل يجوزُ له أن يرمي صباحاً ثم ينفرَ، علماً أنه لو تأخر بعد الزوال لفات السفر،
وترتب عليه مشقةٌ كبيرةٌ، ومخالفةٌ لأولي الأمر ؟
* لا يجوز له أن يرمي قبل الزوال، ولكن يُمكن أن نُسقطَ عنه الرميَ
في هذه الحالِ للضرورة،
ونقولُ له : يلزمك فديةٌ تذبحُها في منى أو في مكّة أو تُوكِل من يذبحُها عنك،
وتوزّع على الفقراء، وتطوفُ طَوَافَ الوداع وتمشي.
ونقولُ : أمّا قولك إذا كان الجواب بعدم الجواز أليس
هناك رأيٌ يجيزُ الرمي قبل الزوال ؟ فالجواب : هناك رأيٌ يجيزُ الرمي قبل الزوال،
ولكنه ليسَ بصحيح، والصوابُ أن الرمي قبل الزوال لا يجوزُ،
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « خُذوا عني مناسككم»،
ولم يَرْمِ صلى الله عليه وسلّم إلا بعد الزوال.
فإن قال قائلٌ : رميُ النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الزوال مجرد فعل،
ومجرّد الفعل لا يدل على الوجوب، قلنا : هذا صحيحٌ أنه مجرد فعل،
ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب، أما كونه مجرد فعلٍ فلأن النبي صلى الله عليه وسلّم
لم يأمر بأن يكون الرمي بعد الزوال، ولا نهى عن الرمي قبل الزوال.
وأما كونُ الفعل لا يدلُّ على الوجوبِ، فنَعم لا يدلُّ على الوجوب
لأن الوجوب لا يكون إلا بأمرٍ بالفعل أو نهي عن التركِ.
ولكن نقول : هذا الفعل دلت القرينة على أنه للوجوب، ووجه ذلك
أن كون الرسول صلى الله عليه وسلّم يؤخر الرمي حتى تزول الشمس
يدل على الوجوب، إذ لو كان الرمي قبل الزوال جائزاً
لكان النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله، لأنه أيسر على العباد وأسهلُ
والنبي صلى الله عليه وسلّم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما
ما لم يكن إثماً، فكونُه صلى الله عليه وسلّم لم يختر الأيسر هنا
وهو الرمي قبل الزوال يدلُّ على إنه إثمٌ.
والوجه الثاني مما يدل على أن هذا الفعل للوجوب : كونُ الرسول صلى الله عليه وسلّم
يرمي فور زوال الشمس قبل أن يُصلي الظهر، فكأنه يترقب الزوال بفارغِ الصبر
ليبادرَ بالرمي، ولهذا أخّر صلاةَ الظهرِ مع أنَّ الأفضلَ تقديمها في أول الوقت،
كل ذلك من أجل أن يرمي بعد الزوال مُباشرةً.
●●
*رجلٌ سمع أنه يجوزُ السعي قبل الطواف فسعى ثم طاف في اليوم الثاني عشر
أو الثالث عشر، فقيل له : إن ذلك خاصُّ بيوم العيد، فما الحُكم ؟
*الصوابُ أنه لا فرق بين يوم العيد وغيره في أنه يجوزُ تقديم
السعي على الطواف في الحج، حتى لو كان بعدَ يوم العيد لعموم الحديث،
حيث قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلّم : سعيتُ قبل أنْ أَطوفَ قال : « لا حرج».
وإذا كان الحديثُ عاماً فإنه لا فرقَ بين أن يكونَ ذلك في يوم العيد أو فيما بعده.
●●
* إذا طاف مَن عليه سعيٌ، ثم خرج ولم يَسعَ، وأُخبر بعد خمسةٍ أيام
بأن عليه سعياً، فهل يجوزُ أن يسعى فقط ولا يطوفُ قبله ؟
* إذا طاف الإنسانُ معتقداً أنه لا سعي عليه ثم خرج، ثم بعد ذلك بأيام أُخبر
بأن عليه سعياً، فإنه يأتي للسعي فقط ولا حاجةَ إلى إعادةِ الطواف،
وذلك لأنه لا يُشترط الموالاة بين الطواف والسعي، حتى لو فُرض أن الرجلَ
ترك ذلك عمداً، أي أخر السعي عن الطواف عَمْداً، فلا حَرَجَ عليه،
ولكن الأفضلَ أن يكون السعي مُوالياً للطواف.
●●
*حاجٌّ قَدِمَ متمتعاً، فلما طاف وسعى لَبِسَ ملابسه العادية،
ولم يُقصر أو يحلق، وسأل بعد الحج وأُخبر أنه أخطأ، فكيف يفعل
وقد ذهب الحج بعد وقت العمرةِ ؟
*هذا الرجل يُعتبر تاركاً لواجب من واجبات العمرة، وهو التقصير،
وعليه عند أهل العلم أن يذبحَ فديةً في مكة ويُوزعها على فقراء مكة
وهو باقٍ على تمتعه فيلزمه هدي التمتع أيضاً.
●●
*ما حكم الحلق أو التقصير بالنسبة للعمرة ؟
*الحلق أو التقصير بالنسبة للعمرة واجبٌ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم
لما قَدِمَ إلى مكة في حَجة الوداع وطاف وسعى، أَمَرَ كلَّ من لم يسق الهديَ
أن يقصر، ثم يحل، والأصل في الأمر الوجوب، ويدل لذلك أيضاً
أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَهم حين أحصروا في غزوةِ الحديبيةِ،
أن يحلقوا حتى إنه صلى الله عليه وسلّم غَضِبَ حين تَوانَوْا في ذلك.
وأما : هل الأفضل في العمرة التقصير أو الحَلق ؟ فالأفضل الحلقُ،
إلا للمتمتع الذي قَدِمَ مُتأخراً فإن الأفضل في حقه التقصير من أجل أن يتوفر الحلقُ للحجِّ.
●●
* حاجٌّ رمى جمرة العقبة من جهة الشرق، ولم يسقط الحجرُ في الحوض،
فما العمل وهو في اليوم الثالث عشر، وهل يلزمه إعادة الرمي في أيام التشريق ؟
* لا يلزمه إعادة الرمي كله، وإنما يلزمه إعادة الرمي الذي أخطأ فيه فقط،
وعلى هذا يعيدُ رمي جمرة العقبة فقط، ويرميها على الصواب،
ولا يجزئه الرمي الذي رماه من جهة الشرق لأنه في هذه الحال
لا يسقط في الحوض الذي هو موضع الرمي، ولهذا لو رماها من الجسر
من الناحية الشرقية أجزأ لأنه يسقطُ في الحوض.
●●
*متى ينتهي رمي جمرة العقبة أداءً ؟ ومتى ينتهي قضاءً ؟
* أما رمي جمرة العقبة يومَ العيد فإنه ينتهي بطلوعِ الفجرِ من اليوم الحادي عشَر،
ويبتدىءُ من آخِرِ الليل من ليلةِ النحرِ للضُّعفاء ونحوهم من الذين لا يستطيعون
مزاحمة الناسِ.
وأما رميُها في أيام التشريق فهي كرمي الجمرتين اللَّتَين معها،
يبتدىءُ الرمي من الزوال، وينتهي بطلوع الفجر من الليلةِ التي تلي اليومَ،
إلا إذا كان في آخرِ أيام التشريق، فإن الليل لا رميَ فيه،
وهو ليلةُ الرابع عشر،
لأن أيام التشريق انتهت بغروب شمسها، والرمي في النهار أفضلُ،
إلا أنه في هذه الأوقات مع كثرة الحجيج وغَشَمِهم،
وعدم مبالاةِ بعضهم ببعضٍ إذا خاف على نفسه من الهلاك أو الضررِ أو المشقّة الشديدةِ
فإنّه يرمي ليلاً ولا حرجَ عليه، كما أنه لو رمى ليلاً بدون أن يخاف هذا،
فلا حرجَ عليه، ولكن الأفضلَ أن يُراعي الاحتياطَ، ولا يَرمي ليلاً إلا عند الحاجة إليه.
وأما قوله : قضاءً، فإنها تكون قضاءً إذا طلع الفجرُ من اليوم التالي
في أيام التشريق ولم يَرمِها .
●●
*إذا لم تُصِب جمرةٌ من الجمار السبع المرمى، أو جمرتان، ومضى يومٌ أو يومان،
فهل يلزمُه إعادةُ هذه الجمرة أو الجمرتين ؟
وإذا لزمه فهل يعيدُ ما بعدَها من الرمي ؟
*إذا بقي عليه رميُ جمرةٍ أو جمرتين من الجمرات، أو على الأوضح حصاة
أو حصاتين من إحدى الجمراتِ،
فإن الفقهاء يقولون إذا كان من آخر جمرة فإنه يُكملها،
أي يُكملُ هذا الذي نقص فقط، ولا يلزمهُ رمي ما قبلها،
وإن كان من غير آخر جمرة فإنه يُكمل الناقص، ويَرمي ما بعدها.
والصوابُ عندي أنه يُكمل النقصَ مُطْلَقاً، ولا يلزمهُ إعادةُ رمي ما بعدها؛
وذلك لأن الترتيب يَسقُطُ بالجهل أو بالنسيان، وهذا الرجلُ قد رمى الثانيةَ
وهو لا يعتقدُ أن عليه شيئاً مما قبلها، فهو بين الجهلِ والنسيانِ،
وحينئذٍ نقولُ له : ما نَقَصَ من الحصا فارمهِ ولا يجبُ عليك رَميُ ما بعدَها.
وقبلَ إنهاء الجوابِ أُحبُّ أن أنبّه إلى أنَّ المرمى مجتمعُ الحصا،
وليس العمود المنصوب للدلالة عليه، فلو رمى في الحوضِ
ولم يُصِب العمودَ بشيء من الحصيات فَرَميه صحيحٌ، والله أعلم.
●●
* إذا خَرج الحاج من منى قبلَ غروب الشمس يومَ الثاني عشر بنية التعجل،
ولديه عملٌ في منى سيعودُ له بعد الغروب، فهل يُعتبر مُتعجلاً ؟
* نعم؛ يُعتبر متعجلاً لأنه أنهى الحج، ونية رجوعه إلى منى لعملِه فيها
لا يمنعُ التعجل، لأنه إنما نوى الرجوعَ للعملِ المنُوطِ به لا للنسك.
●●
*مَن أحرم بالحج من الميقات، ثم سار إلى أَنْ قَرُب من مكة فَمنَعه
مركزُ التفتيش لأنه لم يحمل بطاقة الحج، فما الحكم ؟
* الحُكَمُ في هذه الحالِ أنه يكون مُحْصِراً حين تعذر عليه الدخولُ، فيذبح
هَدياً في مكان الإحصارِ، ويحلّ،
ثم إن كانت هذه الحجةُ هي الفريضة، أدّاها فيما بعدُ بالخطاب الأوَل لا قضاءً،
وإن كانت غَيَر الفريضةِ فإنه لا شيء عليه، على القول الراجحِ،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يأمر الذين أُحصروا في غزوةِ الحديبيةِ
أن يَقضُوا تلك العمرةَ التي أُحْصِرُوا عنها، وليس في كتابِ الله،
ولا في سُنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم وجوبُ القضاء
على من أُحْصرَ؛ قال تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)(البقرة: 196)
ولم يذكر شيئاً سوى ذلك.
وعمرةُ القضاء سُميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قاضى قُريشاً،
أي عاهدهم عليها، وليس من القضاء الذي هو استدراكُ ما فات، والله أعلمُ.
●●
*إذا دخل الآفاقيُّ بملابسه العادية، بمكة حتى يتحايل على الدولة لعدم الحج،
ثم أحرم من مكة، فهل يجوز حجُّه، وما الذي يلزمُهُ ؟
*أما حجُّه فيصحُّ، وأما فعله فحرامٌ، حرامٌ من وجهين : أحدُهما
تعدّي حدودِ الله سبحانه وتعالى بِتركِ الإحرامِ من الميقاتِ.
والثاني : مخالفته أمرَ ولاةِ الأمور الذين أُمرنا بطاعتهم
في غير معصيةِ الله.
وعلى هذا يلزمهُ أن يتوبَ إلى الله ويستغفره مما وقع، وعليه فديةٌ
يذبحها في مكة ويُوزعها على الفقراء لتركهِ الإحرامَ من الميقاتِ،
على ما قاله أهلُ العلم من وجوب الفدية على من تركَ واجباً من واجباتِ الحج أو العمرة.
●●
* سمعتُ أن الُمتمتع إذا رجعَ إلى بلدهِ انقطَعَ تمتعه، فهل يجوز له
أن يَحجَّ مُفرداً ولا دَمَ عليه ؟
*نعم إذا رجع المتمتع إلى بلده، ثم أنشأ سفراً للحج من بلده فهو مفردٌ،
وذلك لانقطاع ما بين العُمرة والحج برجوعه إلى أهله ف****ؤه السفرَ معناه
أنه أنشأ سفراً جديداً للحج، وحينئذٍ يكونُ حجُّه إفراداً، فلا يجبُ عليه هديُ التمتع،
لكن لو فعل ذلك تحيُّلاً على إسقاطه فإنه لا يسقطُ عنه،
لأن التحيُّل على إسقاطِ الواجبِ لا يَقتَضي إسقاطه،
كما أن التحيلَ على المحرَّمِ لا يَقتضي حِلَّه.
●●
* إذا قَدِمَ المسلمُ إلى مكة قبل أشهر الحج بنية الحجِّ، ثم اعتمر وبقي إلى الحجِّ فحجَّ،
فهل حَجُّهُ يُعتبر تمتُّعاً أم إفراداً ؟
*حَجُّهُ يُعتبر إفراداً، لأن التمتع هو أن يُحرمَ بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغَ منها،
ثم يُحرم بالحج من عامه.
وأما من أحرمَ بالعمرة قبلَ أشهر الحج وبقي في مكة حتى حجّ،
فإنه يكونُ مفرداً، إلا إذا قَرَنَ، بأن يحرم بالحجّ والعمرة جميعاً، فيكون قارناً،
وإنما اختصَّ التمتعُ بمن أحرمَ بالعمرة في أشهر الحج
لأنه لما دخلت أشهرُ الحج كان الإحرامُ بالحجّ فيها أخصَّ من الإحرامِ بالعمرة،
فخفّف الله تعالى عن العباد، وأذِنَ لهم، بل أحبَّ أن يجعلوا عُمرَةً ليتمتعوا بها إلى الحجِّ.
●●
* حملةٌ خَرجَت من عرفةَ بعد الغروب، فضلُّوا الطريقَ فتوجهوا إلى مكة،
ثم ردَّتهم الشرطةُ إلى مُزدلفةَ، فلما أقبلوا عليها توقفوا،
وصلَّوا المغربَ والعشاءَ في الساعة الواحدة ليلاً، ثم دَخَلُوا المزدلفةَ أذانَ الفجرِ
فصلَّوا فيها الفجر ثم خَرَجُوا، فهل عليهم شيءٌ في ذلك أَمْ لا ؟
* هؤلاء لا شيءَ عليهم لأنهم أدركوا صلاةَ الفجرِ في مُزدلفةَ
حين دخلوها وقتَ أذانِ الفجرِ، وصلّوا الفجر فيها بِغَلَسٍ
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه
قال : « مَنْ شَهِدَ صلاتنا هذه ووقفَ معنا حتى نَدْفَعَ،
وقد وقف قبل ذلك بعرفةَ ليلاً أو نهاراً فقد تم حجُّه وقضى تَفَثَه»،
ولكن هؤلاء أخطأوا حين أخّروا الصلاةَ إلى ما بعد مُنتصفِ الليل،
لأن وقتَ صلاة العشاء إلى نصفِ الليل، كما ثبت ذلك في
« صحيح مسلم»
من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلّم
فلا يحلُّ تأخيرها عن مُنتصف الليل.
●●
* معلومٌ أن حَلقَ الرأسِ من محظوراتِ الإحرامِ، فكيفَ يجوزُ البدءُ به
في التحلُّل يومَ العيد، لأن العلماءَ
يقولون : إن التحلُّل بفعلِ اثنين من ثلاثِ، ويَذكرون منها الحلقَ،
وعلى هذا فإنّ الحاجَّ يجوزُ أن يبدأ به ؟
*نعم يجوزُ البدءُ به لأنّ حلقَه عند الإحلالِ للنُّسك، فيكون غير مُحرِمٍ،
بل يكونُ نُسكاً مأموراً به، وإذا كان مأموراً به فإن فعله
لا يُعَدُّ إثماً ولا وقوعاً في محظورٍ.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سُئل عن الحلقِ قبل النحرِ
وقبل الرمي، فقال : « لا حَرَج».
وكون الشيء مأموراً به أو محظوراً إنما يُتلقى من الشرع :
ألا ترى إلى السجودِ لغير الله تعالى كان شِرْكاً، ولما أمر الله به
الملائكةَ أن يسجدُوا لآدم كان سجودُهم له طاعةً.
ثم ألم تَرَ إلى قتلِ النفسِ، لا سيّما الأولادَ كان من الكبائرِ العظيمةِ،
فلما أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم أن يقتلَ ابنه إسماعيلَ كان طاعةً
نال بها إبراهيمُ مرتبةً عظيمةً، ولكن الله تعالى برحمتهِ خفّف عنه
وعن ابنهِ وقال: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (الصافات:103)
(وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) (الصافات:104)
(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات:105)
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (الصافات:106)
(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات:107).
●●
* متى ينتهي زمنُ ذبحِ هدي التمتع ؟
وهل هناك خلافٌ وآراءٌ في تحديد الزمن ؟
*ينتهي زمنُ الذبحِ لهدي التمتُّع بغروبِ الشمسِ من اليومِ الثالث عشر من ذي الحجة
ويبتدىء إذا مضى قَدرُ صلاةِ العيد من يومِ العيد بعد ارتفاعِ الشمسِ قدرَ رمحٍ.
وأما : هل هناك خلافٌ ؟ فنعم فيه خلافٌ في ابتدائه وانتهائه،
ولكن الراجحَ ما ذكرناه، والله أعلم.
●●
* ما حُكمُ من بات في منى إلى الساعة الثانية عشرةَ ليلاً،
ثم دخل مكةَ ولم يَعُد حتى طلوع الفجر ؟
*إذا كانت الساعةُ الثانيةَ عشرةَ ليلاً هي منتصف الليل في منى،
فإنه لا بأسَ أن يخرجَ منها بعدها.
وإن كان الأفضلُ أن يبقى في منى ليلاً ونهاراً،
وإن كانت الساعةُ الثانية عشرةَ قبل منتصفِ الليل فإنه لا يخرجُ،
لأن المبيت في منى يشترطُ أن يكون مُعظَمَ الليل على ما ذكره
فُقهاؤنا رحمهم الله تعالى.
●●
* يُقال : إنه لا يجوزُ الرمي بجمرةٍ قد رُمي بها، فهل هذا صحيح ؟
وما الدليلُ عليه ؟
*هذا ليس بصحيحٍ، لأن الذين استدلُّوا بأنه لا يُرمَى بجمرةٍ قد رُمي بها،
علّلوا ذلك بعللٍ ثلاث : قالوا إنها ـ
أي الجمرةُ التي رُمي بها ـ كالماء المستعمل في طهارة واجبةٍ،
والماء المستعمل في الطهارةِ الواجبة يكونَ طاهراً غيرَ مُطَهِّر،
وإنها كالعبدِ إذا أُعتق فإنه لا يُعتَق بعد ذلك في كفّارة أو غيرها،
وإنه يلزمُ من القولِ بالجوازِ أن يَرمِيَ جميعُ الحجيجِ بحجرٍ واحدٍ،
فترمي أنتَ هذا الحجَرَ، ثم تأخذهُ وترمي، ثم تأخُذُه وترمي
حتى تُكملَ السبعَ، ثم يجيءُ الثاني فيأخُذُهُ
فيرمي حتّى يُكمل السبع، فهذه ثلاثُ عللٍ وكلُّها عند التأمُّل عليلةٌ جداً.
أما التعليلُ الأول : فإنّما نقولُ بمنع الحكمِ في الأصلِ،
وهو أنّ الماءَ المستعملُ في طهارة واجبةٍ
يكون طاهراً غيرَ مُطَهِّر لأنّه لا دليلَ على ذلك، ولا يُمكن نقلُ الماء
عن وصفهِ الأصلِّي،
وهو الطهوريّة إلا بدليلٍ.
وعلى هذا فالماء المستعملُ في طهارةٍ واجبةٍ طهورٌ مُطهِّرٌ،
فإذا انتفى حُكمُ الأصلِ المقيس عليه، انتفى حكمُ الفرعِ.
وأما التعليل الثاني : وهو قياسُ الحصاةِ المرمي بها على العبد المُعتَق،
فهو قياسٌ مع الفارقِ،
فإن العبدَ إذا أُعتق كان حُرًّا لا عبداً، فلم يكن محلاً للعتقِ، ب
خلافِ الحجر إذا رُمي به فإنه يبقى حَجَراً بعد الرمي به،
فلم يَنْتَفِ المعنى الذي كان من أجله صالحاً للرمي به،
ولهذا لو أن هذا العبد
الذي أُعتق استرقَّ مرةً أخرى بسبب شرعيٍّ جاز أن يُعتَقَ مرة ثانية.
وأما التعليلُ الثالث : وهو أنه يَلزَمُ من ذلك أن يقتصر الحجَّاج
على حصاةٍ واحدةٍ،
فنقولُ : إن أمكن ذلك فليكن ولكن هذا غيرُ مُمكنٍ،
ولن يعدلَ إليه أحدٌ مع توفّر الحصا.
وبناءً على ذلك، فإنه إذا سَقَطَت من يدك حصاةٌ أو أكثر حولَ الجمراتِ
فَخُذْ بَدَلهُا مما عندك،
وارْمِ به سواءٌ غَلَبَ على ظنِّك أنه قد رُمي بها أم لا.
●●
*إذا قَصَّرَ الحاجُّ والمُعتَمِرُ من جانبي رأسهِ ثم حَلَّ إحرامهُ
وهو لم يُعَمّم الرأس فما الحكمُ ؟
*الحكمُ إن كان في الحجِّ وقد طاف ورمى، فإنَّه يبقى في ثيابهِ،
ويُكمل حلقَ رأسِه أو تقصيره،
وإن كان في عُمرةٍ فعليه أن يخلعَ ثيابه ويعودَ إلى ثيابِ الإحرامِ
ثم يحلقَ أو يُقَصِّرَ تقصيراً تاماً يعمُّ جميعَ الرأسِ وهو مُحْرِم، أي وهو لابسٌ ثيابَ الإحرام.
●●
*هل يجوزُ للحاجِّ أن يُقَدِّم سعي الحجِّ عن طوافِ الإفاضة ؟
* إن كان الحاجُّ مُفرِداً أو قارناً، فإنه يجوزُ أن يُقَدّم السعيَ
على طوافِ الإفاضةِ، فيأتي به بعد طوافِ القدوم
كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم، وأصحابُه الذين ساقوا الهديَ.
أما إن كان متمتعاً، فإن عليه سعيين : الأول عند قدومِه إلى مكة،
وهو للعُمرة، والثاني في الحجّ.
والأفضلُ أن يكون بعد طوافِ الإفاضةِ، لأن السعيَ تابعٌ للطوافِ،
فإن قدّمه على الطوافِ فلا حَرَجَ على القول الراجحِ،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل فقيل له : سعيتُ قبل أن أطوف ؟!
قال : « لا حَرَج». فالحاجُّ يفعلُ يومَ العيد خمسةَ أنساكٍ مُرَتّبَةً :
رميُ جمرة العَقبة، ثم النّحر، ثم الحلْق أو التقصير،
ثم الطَّواف بالبيت، ثم السَّعي بين الصفا والمروة،
إلا أنْ يكونَ قارناً أو مُفْرداً سعى بعد طوافِ القدومِ فإنّه لا يُعيد السعيَ،
والأفضلُ أن يُرَتّبها على ما ذكرنا، وإن قَدّم بعضَها على بعضٍ،
لا سّيما مع الحاجةِ فلا حَرَج،
وهذا من رحمةِ الله تعالى وتيسيرهِ،
فلله الحمد رب العالمين.
●
فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله,,
●●●

الصفحة الأخيرة
الإحرامُ بالحجّ ]
إذا كان ضُحى يومِ التروية
وهو اليومُ الثامنُ من ذي الحجة
أحرم من يريد الحجَّ بالحجِّ من مكانه الذي هو نازلٌ فيه.
ولا يُسَنّ أن يذهبَ إلى المسجد الحرام أو غيره من المساجد فَيُحرم منه،
لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
ولا عن أصحابه فيما نعلم.
ففي « الصحيحين»
من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم
قال لهم : « أقيموا حلالاً حتى إذا كان يومُ التروية فأهلوا بالحج... الحديث».
ولمسلمٍ عنه رضي الله عنه قال :
« أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم لما أحللنا أن نُحرِم
إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح»
وإنما أهلوا من الأبطح لأنه مكان نزولهم.
ويفعل عند إحرامه بالحج كما فعل عند إحرامه بالعمرة،
فيغتسل ويتطيب ويصلي سنة الوضوء، ويُهل بالحج بعدها،
وصفة الإهلال والتلبية بالحج كصفتهما في العمرة،
إلا أنه في الحج يقول :
لبيك حجاً، بدل : لبيك عمرة، ويشترطُ أن مَحلِّي حيث حبستني،
إن كان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام نسكه، وإلا فلا يشترط.
●●
ثم يخرج إلى منى فيُصلي بها الظهر والعصر والمغرب
والعشاء والفجر قصراً من غير جمع؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم فعل كذلك.
وفي « صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه قال :
« فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج
وركب النبي صلى الله عليه وسلّم فصلى بها الظهر
والعصر والمغرب والعشاء والفجر».
وفي « صحيح البخاري»
من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال :
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمنى ركعتين
وأبو بكر وعمر وعثمان صَدْراً من خلافته،
ولم يكن صلى الله عليه وسلّم يجمع في منى بين الصلاتين في الظهر والعصر،
أو المغرب والعشاء، ولو فعل ذلك لنُقلَ كما نُقل جمعه في عرفة ومزدلفة.
ويقصر أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يُصلي بالناس في حجة الوداع
في هذه المشاعر ومعه أهل مكة، ولم يأمرهم بالإتمام،
ولو كان الإتمام واجباً عليهم لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح حين قال لهم :
« أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر».
لكن حيث امتد عمران مكة فشمل منى وصارت كأنها حي من أحيائها
فإن أهل مكة لا يقصرون فيها.
●●
فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سارَ من منى إلى عرفة
فنزل بنَمِرَة إلى الزوال إن تَيسر له، وإلا فلا حرج عليه؛
لأن النزول بنمرة سنةٌ لا واجب.
فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين،
يجمع بينهما جمعَ تقديم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ففي « صحيح مسلم» من حديث جابر رضي الله عنه قال :
وأمر ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ـ
بقُبة من شعر تُضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم
حتى أتى عرفة(14) فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها حتى
إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلَت له فأتى بطن الوادي
فخطب الناس، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر،
ولم يصل بينهما شيئاً.
ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات،
وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة،
فلم يزل واقفاً حتى غَرَبت الشمسُ « الحديث».
والقصر والجمع في عرفة لأهل مكة وغيرهم.
وإنما كان الجمع جمع تقديم ليتفرغ الناس للدعاء،
ويجتمعوا على إمامهم، ثم يتفرقوا على منازلهم،
فالسنة للحاج أن يتفرغ في آخر يوم عرفة للدعاء والذكر والقراءة
ويحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلّم،
فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول :
ـ اللَّهُمّ لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللَّهُمّ لك صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي
وإليك ربِّ مآبي ولك رب تُراثي.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذُ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من شر ما تَجيء به الريحُ.
ـ اللَّهُمّ إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلمُ سِرّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيءٌ من أمري،
أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين،
وأبتهل إليك إبتهال المذنب الذليل، وأدعوكَ دعاءَ من خَضَعت لك رقبته وفاضت لك عيناه، وذلّ لك جسده، ورَغم لك أنفه.
ـ اللَّهُمّ لا تجعلني بدعائك ربِّ شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خيرَ المعطين.
ـ اللَّهُمّ اجعل في قلبي نوراً، وفي سَمعي نوراً وفي بصري نوراً.
ـ اللَّهُمّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري، اللَّهُمّ إني أعوذ بك من شرِّ ما يلج في الليل، وشَرِّ ما يلجُ في النهار،
وشرِّ ما تهبُّ به الرياحُ، وشرِّ بوائق الدهر.
ـ اللَّهُمّ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذابَ النار.
ـ اللَّهُمّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من جهد البلاء، ومن دَرك الشقاء، ومن سوء القضاء،
ومن شماتةِ الأعداء.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من الهمّ والحَزن، والعجز والكسل، والجُبن والبُخل، وضِلَعِ الدينِ وغَلبة الرجال،
وأعوذُ بك من أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العُمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن شرِّ فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر.
ـ اللَّهُمّ اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبَرَد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس،
وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب.
فالدعاء يومَ عرفة خيرُ الدعاء.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم :
« خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون
من قبلي : لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له له المُلكُ وله الحمدُ
وهو على كل شيء قدير».
وإذا لم يُحط بالأدعية الواردة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم،
دعا بما يعرفُ من الأدعية المباحة. فإذا حصل له مَللٌ،
وأراد أن يستجم بالتحدث مع رفقته بالأحاديث النافعة،
أو مُدارسة القرآن، أو قراءة ما تيسر من الكُتب المفيدة،
خُصوصاً ما يتعلق بكرم الله تعالى وجزيل هباته،
ليقوي جانب الرجاء في هذا اليوم، كان حَسنا
ثم يعود إلى الدعاء والتضرع إلى الله، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء.
وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبلاً القبلة،
وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله، لأن السنة استقبال القبلة،
ويرفع يديه، فإن كان في إحداهما مانعٌ رفع السليمة،
لحديث أُسامة بن زيد رضي الله عنه قال : « كنت رِدفَ النبي صلى الله عليه وسلّم
بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خِطامها
فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافعٌ الأخرى» رواه النسائي.
.●.
ويُظهر الافتقار والحاجة إلى الله عز وجل،
ويُلح في الدعاء ولا يستبطىء الإجابة.
ولا يعتدي في دعائه بأن يسأل ما لا يجوز شرعاً، أو ما لا يُمكن قَدَراً،
فقد قال الله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)
(الأعراف:55)
. وليتجنب أكل الحرام فإنه من أكبر موانع الإجابة،
ففي « صحيح مسلم»
من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :
« إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً... الحديث». وفيه،
« ثم ذكر الرجل يطيل السفرَ أشعثَ أغبر يمدُّ يديه إلى السماء :
يا رب يا رب ومطعمهُ حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ،
وغُذي بالحرام فأنى يُستجاب لذلك».
فقد استبعد النبي صلى الله عليه وسلّم إجابة من يتغذى بالحرام
ويلبس الحرام مع توفر أسباب القَبول في حَقه وذلك لأنه يتغذى بالحرام.
وإذا تيسر له أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلّم
عند الصخرات فهو أفضل، وإلا وقف فيما تيسر له من عرفة،
فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :
« نحرتُ ههنا، ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم،
ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجَمعٌ ـ
يعني مزدلفة ـ كلها موقف»
رواه أحمد ومسلم.
.●.
ويجب على الواقف بعرفة أن يتأكد من حدودها، وقد نُصبت عليها
علامات يجدها من يتطلبها، فإن كثيراً من الحجاج يتهاونون بهذا
فيقفون خارج حدود عرفة جهلاً منهم، وتقليداً لغيرهم،
وهؤلاء الذين وقفوا خارج حدود عرفة ليس لهم حج؛
لأن الحج عرفة، لما روى عبدالرحمن بن يَعمر :
« أن أُناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وهو واقفٌ بعرفة فسألوه فأمر مُنادياً ينادي : الحج عرفة،
من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك أيام منى ثلاثةَ أيام،
فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه،
وأردف رجلاً ينادي بهن»
رواه الخمسة.
فتجب العناية بذلك، وطلب علامات الحدود
حتى يتيقن أنه داخل حدودها.
ومن وقف بعرفة نهاراً وجبَ عليه البقاءُ إلى غروب الشمس،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف إلى الغروب،
وقال : « لتأخذوا عني مناسككم» ولأن الدفع قبل الغروب
من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بمخالفتها.
ويَمتد وقتُ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد،
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم :
« من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدركَ».
فإن طلع الفجر يوم العيد قبل أن يقف بعرفة فقد فاته الحج.
فإن كان قد اشترط في ابتداء إحرامه
إن حبسني حابس فمَحلِّي حيث حَبَستني تحلل من إحرامه
ولا شيء عليه، وإن لم يكن اشترط فإنه يتحلل بعمرة فيذهب إلى الكعبة،
ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق،
وإن كان معه هدي ذبحه، فإذا كان العام القادم قضى الحج الذي فاته،
وأهدى هدياً، فإن لم يجد صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة
إذا رجع إلى أهله، لما روى مالك في « الموطأ»
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا أيوب
وهبّار بن الأسود حين فاتهما الحج فأتيا يوم النحر
أن يُحِلا بعمرةٍ ثم يرجعا حلالاً ثم يَحجا عاماً قابلاً ويهديا،
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
●●
ثم بعد الغروب يدفع الواقف بعرفة إلى مزدلفة فَيُصلي بها المغرب والعشاء؛
يُصلي المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين.
وفي « الصحيحين»
عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال :
« دفع النبي صلى الله عليه وسلّم من عرفة فنزل الشِّعب،
فبال ثم توضأ ولم يُسبِغ الوضوء، فقلت : يا رسول الله الصلاة !
قال : « الصلاة أمامك» فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء،
ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كلُّ إنسانٍ بعيره
في منزله ثم أُقيمت العشاء فصلاها».
فالسنة للحاج أن لا يُصلي المغرب والعشاء إلا بمزدلفة
اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلّم، إلا أن يخشى خروج وقت العشاء
بمنتصف الليل فإنه يجب عليه أن يُصلي قبل خروج الوقت في أي مكانٍ كان.
ويبيت بمزدلفة، ولا يُحيي الليل بصلاة ولا بغيرها،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يفعل ذلك.
وفي « صحيح البخاري»
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال :
جمع النبي صلى الله عليه وسلّم بين المغرب والعشاء
بِجَمعٍ ولم يُسَبح بينهما شيئاً ولا على إثر كل واحدة منهما.
وفي « صحيح مسلم»
من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم
أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحد وإقامتين،
ولم يُسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر.
ويجوز للضعفة من رجال ونساء
أن يدفعوا من مزدلفة بليل في آخره.
ففي « صحيح مسلم»
عن ابن عباس رضي الله عنهما بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلّم
بسَحَرٍ من جَمعٍ في ثِقَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وفي « الصحيحين» من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
أنه كان يُقَّدِّمُ ضَعفةَ أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل،
فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون، فمنهم من يَقدم منى لصلاة الفجر
ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رَمَوا الجمرة،
وكان ابن عمر يقول : أرخَصَ في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وأما مَن ليس ضعيفاً ولا تابعاً لضعيف، فإنه يبقى بمزدلفة حتى يُصلي الفجر
اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وفي « صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت :
« استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة المزدلفة
تدفع قَبله وقبل حَطمة الناس وكانت امرأة ثَبِطَةً، فأَذِنَ لها وحَبَسنا
حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ولأن أكون استأذنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم
كما استأذنت سَودةُ فأكون أدفعُ بإذنه أحبّ إلي من مَفروحٍ به».
وفي رواية أنها قالت : « فليتني كنتُ استأذنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم
كما استأذنته سودة».
فإذا صلى الفجر أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره
وهلّله ودعا بما أحب حتى يسفر جداً.
وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « وقفتُ ههنا وجمعٌ كلها موقف».
●●
ينصرف الحجاج المقيمون بمزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس
عند الانتهاء من الدعاء والذكر،
فإذا وصلوا إلى منى عملوا ما يأتي :
1 ـ رمي جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى التي تلي مكة
في منتهى منى، فيلقطُ سبع حصيات مثل حصا الخَذفِ،
أكبر من الحمص قليلاً، ثم يرمي بهن الجمرة، واحدةً بعد واحدةٍ،
ويرمي من بطن الوادي إن تيسر له فيجعل الكعبة
عن يساره ومنى عن يمينه، لحديثِ ابن مسعود رضي الله عنه
« أنه انتهى إلى الجمرة الكُبرى فجعل البيت عن يساره
ومنى عن يمينه، ورمى بسبع
وقال : هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورةُ البقرة»
متفق عليه.
ويُكبر مع كل حصاةٍ فيقول : الله أكبر.
ولا يجوزُ الرمي بحصاة كبيرة ولا بالخفاف والنعال ونحوها.
ويَرمي خاشعاً خاضعاً مُكبراً الله عز وجل،
ولا يفعل ما يفعله كثيرٌ من الجهال من الصياح واللغط والسب والشتم؛
فإن رَمي الجمار من شعائر الله :
( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)
(الحج:32)
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :
« إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمارِ لإقامة ذكر الله».
ولا يندفع إلى الجمرة بعنف وقوة، فيؤذي إخوانه المسلمين أو يضرهم.
2 ـ ثم بعد رمي الجمرة يذبح الهدي إن كان معه هدي،
أو يشتريه فيذبحه.
وقد تقدم بيان نوع الهدي الواجب وصفته ومكان ذبحه وزمانه
وكيفية الذبح، فَليُلاحَظ.
3 ـ ثم بعد ذبحِ الهدي يحلق رأسه إن كان رجلاً، أو يقصّره، والحلق أفضل،
لأن الله قدمه فقال : (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ)
(الفتح: الآية27)
ولأنه فِعلُ النبي صلى الله عليه وسلّم،
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه
« أن النبي صلى الله عليه وسلّم أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها
ثم أتى منزله بمنى ونَحَرَ ثم قال للحلاق :
خُذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يُعطيه الناس»
رواه مسلم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم دعا للمُحَلقين بالرحمة والمغفرة
ثلاثاً وللمُقَصرين مرة، ولأن الحلق أبلغ تَعظيماً لله عز وجل
حيث يُلقي به جميعَ شعرِ رأسِه.
ويجب أن يكون الحلق أو التقصير شاملاً لجميع الرأس
لقوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ)
(الفتح: الآية27)
والفعل المضاف إلى الرأس يشمل جميعه،
ولأن حلق بعض الرأس دون بعض منهي عنه شرعاً
لما في « الصحيحين»
عن نافع عن ابن عُمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن القَزع،
فقيل لنافع : ما القزعُ ؟ قال : أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضاً،
وإذا كان القزعُ منهياً عنه لم يصحَّ أن يكون قُربة إلى الله،
ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم حَلَق جميع رأسه تعبداً لله عز وجل
وقال : « لِتَأخذوا عني مناسككم».
وأما المرأة فتقصر من أطراف شعرها بقدر أُنملة فقط.
فإذا فعل ما سبق حَلَّ له جميع محظورات الإحرام
ما عدا النساء فيحل له الطيب واللباس وقص الشعر والأظافر
وغيرها من المحظورات ما عدا النساء.
والسنة أن يتطيب لهذا الحِلِّ،
لقول عائشة رضي الله عنها :
« كنت أُطيب النبي صلى الله عليه وسلّم لإحرامه
قبل أن يُحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت».
متفق عليه واللفظ لمسلم.
وفي لفظ له : « كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلّم
قبل أن يُحرم ويومَ النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيبٍ فيه مِسكٌ».
4 ـ الطواف بالبيت وهو طواف الزيارة والإفاضة
لقوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
(الحج:29)
وفي « صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه
في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلّم قال :
ثم ركب صلى الله عليه وسلّم فأفاض إلى البيت
فصلى بمكة الظهر... الحديث.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت :
حَجَجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فأفضنا يومَ النحرِ... الحديث متفق عليه.
وإذا كان مُتمتعا أتى بالسعي بعد الطواف، لأن سعيه الأول كان للعمرة،
فلزمه الإتيان بسعي الحج.
وفي « الصحيحين»
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
« فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة،
ثم حلُّوا ثم طافوا طوافاً آخرَ بعد أن رجعوا من مِنى لحجهم،
وأما الذين جَمَعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً».
وفي « صحيح مسلم» عنها أنها قالت :
ما أتم الله حج امرىء ولا عُمرته لم يطف بين الصفا والمروة
وذكره البخاري تعليقاً.
وفي « صحيح البخاري» عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال : « ثم أَمَرَنا ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ـ عشية التروية
أن نُهِلَّ بالحج، فإذا فَرغنا من المناسك جِئنا فَطُفنا بالبيت وبالصفا
والمروة، وقد تم حَجُّنا وعلينا الهدي» ذكره البخاري
في : ( باب ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ).
وإذا كان مفرداً أو قارناً فإن كان قد سعى بعد طواف القدوم
لم يُعِدِ السعي مرة أخرى
لقول جابر رضي الله عنه : « لم يَطفُ النبي صلى الله عليه وسلّم
ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافَه الأول» رواه مسلم.
وإن كان لم يَسْعَ وجب عليه السعي لأنه لا يتمُّ الحج إلا به كما سبق
عن عائشة رضي الله عنها.
وإذا طاف طواف الإفاضة وسعى للحج بعده أو قبله إن كان مُفرداً أو قارناً
فقد حلّ التحلل الثاني، وحلَّ له جميع المحظورات؛
لما في « الصحيحين»
عن ابن عمر رضي الله عنهما
في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلّم قال :
« ونحر هَديَه يومَ النحر وأفاضَ فطافَ بالبيت ثم حلَّ من كل شيء حُرِمَ منه».
●●
والأفضل أن يأتي بهذه الأعمال يومَ العيد مُرتبة كما يلي :
1 ـ رمي جمرة العقبة.
2 ـ ذبح الهدي.
3 ـ الحلق أو التقصير.
4 ـ الطواف ثم السعي إن كان متمتعاً أو كان مُفرداً أو قارناً
ولم يَسعَ مع طواف القدوم.
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم رتبها هكذا
وقال : « لتأخذوا عني مناسككم».
فإن قدّم بعضها على بعض فلا بأس لحديث ابن عباس رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلّم قيلَ له في الذبح والحلق والرمي
والتقديم والتأخير فقال : « لا حرج»
متفق عليه.
وللبخاري عنه قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلّم
يُسأل يومَ النحر بمنى ؟ فيقول : « لا حرج» فسأله رجلٌ فقال :
حلقتُ قبل أن أذبحَ، قال : « اذبح ولا حرج»
وقال : رميت بعد ما أمسيت قال : « لا حرج».
وفي «صحيح مسلم»
من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما :
« أن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل عن تقديم الحلقِ على الرمي،
وعن تقديم الذبح على الرمي، وعن تقديم الإفاضة على الرمي،
فقال : « ارمِ ولا حرج»، قال : فما رأيته سُئل يومئذٍ عن شيء،
إلا قال : « افعلوا ولا حَرَجَ».
وإذا لم يتيسر له الطواف يومَ العيد جاز تأخيره،
والأَولى أن لا يتجاوزَ به أيامَ التشريق
إلا من عُذرٍ كمرضٍ وحيضٍ ونفاسٍ.
الرجوعُ إلى منى للمبيت ورَميُ الجمار :
يرجع الحاج يوم العيد بعد الطواف والسعي إلى منى،
فيمكثُ فيها بقيةَ يوم العيد وأيام التشريق ولياليها،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يمكث فيها هذه الأيام والليالي،
ويلزمه المبيت في منى ليلةَ الحادي عشر
وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر إن تأخر،
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم باتَ فيها.
وقال : « لتأخذوا عني مناسككم».
ويجوز ترك المبيت لعذرٍ يتعلق بمصلحة الحج أو الحجاج؛
لما في « الصحيحين» من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
أن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه
استأذن النبي صلى الله عليه وسلّم أن يبيت بمكة ليالي منى
من أجل سقايته، فَأَذِنَ له.
وعن عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم
رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى... الحديث.
رواه الخمسة وصححه الترمذي.
ويرمي الجمرات الثلاث في كل يومٍ من أيام التشريق كل واحدة
بسبع حصيات مُتعاقبات، يكبر مع كل حصاة ويرميها بعد الزوال.
.●.
فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم يتقدم
فيسهّل فيقومُ مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو وهو رافعٌ يديه.
ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمال فيسهّل فيقوم مستقبل القبلة
قياماً طويلاً فيدعو وهو رافعٌ يديه.
ثم يرمي جمرةَ العقبةِ، ثم ينصرف ولا يقفُ عندها.
هكذا رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يفعل كذلك.
وإذا لم يتيسر له طول القيام بين الجمار،
وقَفَ بقدر ما يتيسر له ليحصل إحياء هذه السنة التي تركها أكثرُ الناس،
إما جهلاً أو تهاوناً بهذه السنة.
ولا ينبغي ترك هذا الوقوف فتضيع السنة، فإن السنة
كلما أُضيعت كان فعلها أوكد لحصول فضيلة العمل ونَشِر السنة بين الناس.
●
●
والرمي في هذه الأيام ـ أعني أيام التشريق ـ لا يجوز إلا بعد زوال الشمس؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يَرمِ إلا بعد الزوال،
وقد قال : « لتأخذوا عني مناسككم» :
فعن جابر رضي الله عنه قال : « رمى النبي صلى الله عليه وسلّم
الجمرة يوم النحر ضُحىً، وأما بعد فإذا زالت الشمس»
رواه مسلم.
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون.
ففي « صحيح البخاري»
أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما سُئل : متى أرمي الجمار ؟
قال : كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا.
وإذا رمى الجمارَ في اليوم الثاني عشر فقد انتهى
من واجب الحج فهو بالخيار
إن شاء بقي في منى لليوم الثالث عشر ورمى الجمار بعد الزوال،
وإن شاء نفر منها لقوله تعالى :
( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى)
(البقرة: الآية203)
والتأخرُ أفضلُ لأنه فعلُ النبي صلى الله عليه وسلّم،
ولأنه أكثر عملاً حيث يحصل له المبيت ليلة الثالث عشر،
ورمي الجمار من يومه.
لكن إذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر قبل نفره من منى
فلا يتعجل حينئذٍ لأن الله سبحانه قال : ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ)
فقيّد التعجل في اليومين، ولم يُطلق فإذا انتهت اليومان فقد انتهى وقتُ التعجل،
واليوم ينتهي بغروب شمسه.
وفي « الموطأ»
عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول :
من غَرَبت له الشمس من أواسط أيام التشريق وهو بمنى
فلا يَنفر حتى يرمي الجمار من الغد، لكن إذا كان تأخره إلى الغروب
بغير اختياره مثل أن يتأهب للنفر ويشد رحله فيتأخر خروجه من منى
بسبب زحام السيارات أو نحو ذلك فإنه ينفرُ ولا شيء عليه
ولو غربت الشمس قبل أن يخرج من منى.
●●
رمي الجمار نسك من مناسك الحج، وجزءٌ من أجزائه،
فيجب على الحاج أن يقومَ به بنفسه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً،
سواءٌ كان حجه فريضة أم نافلة،
لقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
(البقرة: الآية196)
فالحج والعمرة إذا دخل فيهما الإنسان وجب عليه إتمامهما
وإن كانا نفلاً.
ولا يجوز للحاج أن يُوكل مَنْ يرمي عنه إلا إذا كان عاجزاً
عن الرمي بنفسه لمرضٍ أو كِبَر أو صِغَر أو نحوها،
فيوكّل من يثق بعلمه ودينه فيرمي عنه سواء لقَطَ المُوَكل الحصا
وسلمها للوكيل، أو لقطها الوكيلُ ورمى بها عن موكله.
وكيفية الرمي في الوكالة أن يَرمي الوكيل عن نفسه
أولاً سبعَ حَصيات، ثم يَرمي عن موكله بعد ذلك، فَيُعينه بالنيةِ.
ولا بأس أن يَرمي عن نفسه وعمن وكله في موقفٍ واحدٍ،
فلا يلزمه أن يكمل الثلاث عن نفسه، ثم يرجع عن موكله، لعدم الدليل على وجوب ذلك.
●●
إذا نَفَرَ الحاج من منى وانتهت جميع أعمال الحج،
وأراد السفر إلى بلده فإنه لا يخرجُ حتى يطوف بالبيت للوداع
سبعةَ أشواط، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف للوداع
وكان قد قال : « لتأخذوا عني مناسككم».
ويجبُ أن يكون هذا الطوافُ آخر شيء يفعلهُ بمكة
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال :
« كان الناس ينصرفون في كلِّ وجهٍ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
« لا ينفرنِّ أحدٌ حتى يكون آخرَ عهده بالبيت»
رواه مسلم.
فلا يجوز البقاء بعده بمكة، ولا التشاغل بشيء إلا ما يتعلق بأغراض
السفر وحوائجه؛ كشد الرحل وانتظار الرفقة، أو انتظار السيارة،
إذا كان قد وَعَدَهم صَاحبها في وقتٍ معين فتأخر عنه، ونحو ذلك.
فإن أقام لغير ما ذُكر وَجَبَ عليه إعادة الطواف ليكون آخرَ عهده بالبيتِ.
ولا يجب طواف الوداع على الحائض والنُّفساء
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال :
« أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت،
إلا أنه خفف عن الحائض»
متفق عليه.
وفي « صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت :
حاضت صفية بنت حُيَيّ بعدما أفاضت، قالت عائشة :
فَذَكرت حَيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال :
« أحابستنا هي ؟» فقلت : يا رسول الله إنها قد كانت أفاضَت وطافت بالبيت
ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « فَلتنفر».
والنفساء كالحائض لأن الطواف لا يصح منها.
,●●,
مجمل أعمال الحج]
عمل اليوم الأول وهو اليوم الثامن :
1 ـ يُحرمُ بالحج من مكانه فيغتسل ويتطيب ويلبس ثيابَ الإحرام
ويقول : لبَّيْك حجاً، لبيك اللهم لبيك، لبَّيْك لا شريك لك لبَّيْك،
إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
2 ـ يتوجه إلى منى فيبقى فيها إلى طُلوعِ الشمسِ في اليوم التاسع،
ويُصلي فيها الظهر من اليوم الثامن، والعصر والمغرب والعشاء والفجر،
كل صلاة في وقتها، ويقصُر الرباعية
.
عمل اليوم الثاني وهو اليوم التاسع :
1 ـ يتوجه بعد طلوع الشمس إلى عرفة، ويُصلي الظهر
والعصر قصراً وجمعَ تقديمٍ، وينزل قبل الزوال بنمرة إن تيسر له.
2 ـ يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء مستقبل القبلةِ
رافعاً يديه إلى غُروب الشمس.
3 ـ يتوجه بعد غروب الشمس إلى مُزدلفة فَيُصلي فيها المغرب
ثلاثاً والعشاء ركعتين، ويبيتُ فيها حتى يطلع الفجر.
4 ـ يُصلي الفجر بعد طلوع الفجر، ثم يتفرغ للذكر
والدعاء حتى يُسفرَ جداً.
5 ـ يتوجه قبل طلوع الشمس إلى منى.
عمل اليوم الثالث وهو يوم العيد :
1 ـ إذا وصل إلى منى، ذهب إلى جمرة العقبة،
فرماها بسبع حَصَياتٍ مُتعاقبات، واحدةً بعد الأخرى، يكبر مع كل حصاة.
2 ـ يذبحُ هَديه إن كان له هديٌ.
3 ـ يحلق رأسه أو يُقصره. ويتحلل بذلك التحلُّلَ الأولَ
فيلبس ثيابه ويتطيب وتحِلُّ له جميع محظورات الإحرام سوى النساء.
4 ـ ينزل إلى مكة فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، وهو طوافُ الحج،
ويسعى بين الصفا والمروة للحج، إن كان متمتعاً،
وكذلك إن كان غير متمتع ولم يكن سعى مع طواف القدوم.
وبهذا يَحل التحلل الثاني، ويَحل له جميع محظورات الإحرام حتى النساء.
5 ـ يرجع إلى منى فيبيت فيها ليلة الحادي عشر.
عمل اليوم الرابع وهو الحادي عشر :
1 ـ يَرمي الجمرات الثلاث، الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة،
كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات يُكبر مع كل حصاة،
يرميهن بعد الزوال ولا يجوز قبله.
ويلاحظ الوقوف للدعاء بعد الجمرة الأولى والوسطى.
2 ـ يبيت في منى ليلة الثاني عشر.
عمل اليوم الخامس وهو الثاني عشر :
1 ـ يرمي الجمرات الثلاث كما رماهُنَّ في اليوم الرابع.
2 ـ ينفر من منى قبل غروب الشمس إن أراد التعجل،
أو يبيت فيها إن أراد التأخر.
عمل اليوم السادس وهو الثالث عشر :
هذا اليوم خاص بمن تأخر ويعمل فيه :
1 ـ يرمي الجمرات الثلاث كما سبق في اليومين قَبلَه.
2 ـ يَنفر من منى بعد ذلك.
وآخر الأعمال طواف الوداع عند سفره،
والله أعلم.
●●●