
رمضان رحلة الطالبين ..
وسياحة الراغبين ، ودرب التوابين ..
زاده التقوى ..
وجناه من قطاف النعيم ..
كلما قطعنا فيه شوطاً من الطاعة والعبادة ..
اكتسبنا ثراء روحياً ،وارتقينا منزلة..
:
رمضان فرصة ذهبية لإحياء القلب وعمارته بالإيمان
وانطلاقه في رحلة السير إلى الله ..
لما اجتمع فيه من ألوان العبادات ..
من صيام ،وصلاة ،وقيام، وتلاوة ، وصدقة ، واعتكاف
:
هو طريق ممهد بألوان الخير ، وغنياً بمباهج الروح ..
تتشعب فيه الدروب :
فهذا للسالكين إلى الصفح ..
وذاك لأهل العفو ...
وثالث لزارعي الكلمة الطيبة ،
وآخر لأهل البذل والإنفاق ..
وغيره لمن تستوطن قلوبهم الرحمة ..
وهكذا ...!
تراه كالنهر الغني الذي يفيض في كل وادٍ..
وأينما تدفق روّى وأخصب ..وأزهر وأثمر ..
ثم لاتلبث أن تتعانق فروعه لتصب كلها في بحر الخير .
:
وأنت ...!
من سيقرر .. أي السبل .. سيطرقها ..
وأي غاية سيحققهامن كل طاعة وعبادة في دروب الخير
التي يسلكها ..
هل سيعود وراحلته مثقلة بالجنى الطيب ؟
أم أنه سيؤوب من رحلته صفر اليدين ..؟

أول طريق التوبة :
ابدأي رمضان بهذه النية ومارسيها عملاً ..
ووجهي إمكانات عقلك وروحك وجسدك نحو متعة الطاعة ،
واكتسبي منها حصانة تقيك من الانجذاب تجاه
إغراءات المعاصي التي لم تتوبي منها ..
اقطعي خط الرجعة بما عقدت من نية التوبة الصادقة
وحكمي إرادتك وقوي إيمانك ..
في الركوع .. في السجود .. بعد الصلوات ..
بعد تلاوة القرآن ، عند سماع الاذان .. عند الفجر ..
استمعي إلى الشريط المناسب ،
واقرأي الكتاب المناسب..
وانتهزي كل الأوقات المتاحة للاستغفار والدعاء
وتضرعي أن يقبل الله توبتك ويثبتك .
...
لاتتعاملي مع العبادات بصورة شكلية محضة ..
بل اجعلي قلبك حاضراً فيها ، ومارسي الاطمئنان ..
واستحضري الذنوب ، وتذللي لله ، واستحثي الدموع
فأنت إذا أحسنت العبادة فقد أحييت قلبك وأنرته
فصار مؤهلاً للانطلاق في الرحلة العظيمة إلى الله .
:
يقول الحسن البصري :
( إن أهل العقل لم يزالون يعودون بالذكر على الفكر ..
وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا القلوب ..
فنطقت بالحكمة ).
:
قفي وتأملي في الآيتين :
يقول تعالى :
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ )الذاريات50
عجلوا بالتوبة أيها المسلمون ...!
قبل الحسرة و الندامة :
(أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ
وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ )الزمر56

التوبة النصوح ~
يقول تعالى :
( ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ) التحريم.
عاهدي نفسك واصدقيها ، وخذي العهد منها وأوثقيه
في أن لاتعودي فتنقضي ..
وتتوبي ثم تنكصي ..
لتكن هي التوبة التي لارجعة بعدها إلى الذنب ..
أحسني التوبة ، ثم ابشري
بمغفرة من الله .. ورحمة ..!
ولا تسلمنك عقارب الظن إلى اليأس ..
فإن الله تعالى يبسط يده ليلاً ونهاراً للتائبين .
ويقول سبحانه وتعالى :
( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
إنه هو الغفور الرحيم ) الزمر .
:
والعبد العاصي حين يتوب ويؤوب إلى ربه ..
يتقبله الله بواسع رحمته ، ويفرح لتوبته ..
:
قال المصطفى صلى الله عليه وسلم :
( الله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة
ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه ،
فوضع رأسه فنام نومه ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته،
حتى اشتد عليه الحر والعطش ، أو ماشاء الله ،
قال أرجع إلى مكاني ، فرجع فنام نومه ثم رفع رأسه
فإذا راحلته عنده ).
شروط التوبة النصوح ~
وحتى تكون توبتك صحيحة استوفي شروطها
ألا وهي :
الإقلاع عن الذنب ، والندم عليه ..
ثم العزم الصادق على عدم العودة إليه ..
والتحلل من حقوق الناس .
...
إذن حددي المعصية التي تودين الإقلاع عنها إلى الأبد ..
وأكثري الدعاء والسجود إلى الله أن يكرمك بالتوبة
وإذا كنت قد فعلت شيئاً أضر بأحد فعليك أن ترجعي له حقه
لتكون التوبة مقبولة ..
وإن كنت قد اغتبت أحداً فتحللي من ذنبك ..
واعلمي أن
( من أعطي التوبة لم يحرم القبول )
ياحسرتي ..! إن ردَّني خائبا~
( قصـــة وعبرة )
كان بالمدينة امرأة متعبدة، ولها ولد ليس له شاغل إلا اللهو..
مع أقران كان عظيم التأثير عليهم ..
دأبت أمه على نصحه ووعظه في كل مناسبة
مذكرة إياه بمصارع الغافلين ، وعواقب المبطلين ..
فكان يجيبها إذا ألحت :
أنه باق على ماأنا عليه الآن ،
ولكن أرجو أن يأتي يوم أكون فيه كما تأملي .
ولم يزل على هذه الحال ..
حتى قدم ( أبو عامر البناني )واعظ أهل الحجاز
إلى بلده ، ووافق قدومه رمضان،
فسأله إخوانه أن يخطب في مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابهم.
وفي ليلة الجمعة بعد انقضاء التراويح، والناس مجتمعون ..
كأنما شيء ساق ذلك الفتى إلى المسجد ..
فجلس مع القوم، وبه فضول في الاستماع لحديث الشيخ
فلطالما سمع الناس تثني على سعة علمه وتأثير أحاديثه ..
فلم يزل أبو عامر يَعِظ وينذر ويبشر،
فسرى التأثر إلى قلوب الناس ..
إلى أن ماتت قلوب فرقا،
واشتاقت قلوب إلى الجنة،
فوقعت الموعظة في قلب الغلام موقعاً عميقاً .. فتغير لونه.
وقام بغير الوجه الذي أتى به ..
ثم سارع إلى أمه ، فبكى عندها طويلا، ثم أردف باكياً:
زَمَمْتُ للتوبة أجمالي ..
ورحت قد طاوعت عذالي
وأُبْتُ والتوبة قد فتحت..
من كل عضو ليَ أقفالي..
لما حدا الحادي بقلبي إلى
طاعة ربي فك أغلالي ..
أجبته: لبيك.. من موقظٍ
نبَّه بالتذكار إغفالي..!
يا أمَّ هل يقبلني سيِّدي ...
على الذي قد كان من حالي؟
واسوأتا .. إن ردَّني خائبا..
ربي ولم يرض بإقبالي..
ثم شمر في العبادة وجدَّ،
فقربت إليه أمه ليلة إفطاره، فامتنع وقال:
أجد ألم الحمى، فأظن أن الأجل قد أزف.
ثم فزع إلى محرابه، ولسانه لا يفتر من الذكر.
فبقي أربعة أيام على تلك الحال.
ثم استقبل القبلة يوما، وقال:
إلهي عصيتك قويا، وأطعتك ضعيفا،
وأسخطتك جلدا، وخدمتك نحيفا
فليت شعري هل قبلتني؟
ثم سقط مغشيا عليه، فانشج وجهه.
فقامت إليه أمه، فقالت:
يا ثمرة فؤادي، وقرة عيني، رد جوابي .
فأفاق فقال:
يا أماه! هذا اليوم الذي كنت تحذريني،
وهذا الوقت الذي كنت تخوفيني،
فيا أسفي على الأيام الخوالي كيف صرفتها ..!
يا أماه! إني خائف على نفسي
أن يطول في النار حبسي ..
بالله عليك يا أماه، قومي فضعي رجلك على خدّي،
حتى أذوق طعم الذل لعله يرحمني،
ففعلت، وهو يقول:
:
هذا جزاء من أساء .. !
ثم مات ..!.
قالت أمه:
فرأيته في المنام ليلة الجمعة، وكأنه القمر،
فقلت: يا ولدي! ما فعل الله بك؟
فقال: خيرا، رفع درجتي... يااماه !
...
( كتاب التوابين )