السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :smile: ~
المقال الاول
شجاعته وقوته صلى الله عليه وسلم
أعظم إنسان عرفته البشرية
كان صلى الله عليه وسلم أشجعَ النَّاسِ وأثبتَهم قلبًا، لا يبلغ مبلغَه في ثبات الجأش وقوة القلب والجسم مخلوق، فهو الشجاع الفريد الذي كملت فيه صفات الشجاعة، وتمَّت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس.
☼ ولم تكن شجاعته صلى الله عليه وسلم في ميادين الجهاد والقتال فحسب؛ بل سبقتها شجاعة أدبية عظيمة؛ ظهـرت في محـاوراته ومخاطباته مع كبـار قومه منذ حداثة سنِّه، وقبل أن يكرمَه الله بالنبوة، كما تجلت في صدعه صلى الله عليه وسلم بالحق من غير مواربة، لا يخشى في ذلك لومة لائم.
☼ وكان يُظهِرُ بُغْضَهُ الشديدَ لآلهةِ قومِه المزعومة، ويُسَفِّهُها، ويَجتنبها، دون أن يَلتفتَ لإنكارِ أحدٍ أو غضبهم لذلك (دلائل النبوة لأبي نعيم، وطبقات ابن سعد، والسيرة النبوية لابن كثير، وصحيح سنن الترمذي للألباني).
☼ فلما أكرمه الله بالنبوة صدع بكلمة التوحيد، بجنان ثابت، وفي شجاعة منقطعة النظير، وسفَّه آلهتهم وأحلامهم، ولم يأبه بعداوتهم الشديدة، ولا بإيذائهم وتهديدهم له.
☼ وكما ظهرت شجاعته صلى الله عليه وسلم الأدبية منذ حداثة سنِّه؛ فإن شجاعته القتالية أيضًا كانت حاضرة بقوة منذ نعومة أظفاره؛ حيث اشترك صلى الله عليه وسلم مع أعمامه في حرب الفِجار؛ فكان يَردُّ عنهم نبلَ عدوِّهم إذا رموهم بها.
☼ وبعد بعثته صلى الله عليه وسلم والإذن له بالقتال، سنَّ الجهاد، وضرب أروع الأمثلة البشرية على الشجاعة والثبات، وفر الكُماة والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت ثبات الجبال الرواسي لا يبرح، مقبل لا يدبر ولا يتزحزح، وما من شجاع سواه صلى الله عليه وسلم إلَّا وقد أُحصِيت له فَرَّة، وحُفِظَت عنه جولة.
☼ وهو صلى الله عليه وسلم القائل: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنَّ رِجَالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ؛ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ الله، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ» (البخاري ومسلم).
☼ وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة.
☼ وقد شُجَّ عليه الصلاة والسلام في وجهه، وكُسِرت رَباعيتُه (البخاري ومسلم)، وقُتِل سبعون من أصحابه، فما وهن ولا ضعف ولا خار، بل كان أمضى من السيف.
☼ لَا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزُّه الحوادث والملمَّات، فوَّض أمره لربِّه، وتوكل عليه، وأناب إليه، ورضي بحكمه، واكتفى بنصره، ووثق بوعده.
☼ يصفه خادمُه أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، فيقول: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ (البخاري ومسلم).
☼ ويقول ابْنُ عُمَر َرضي الله عنه: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْجَدَ، وَلَا أَجْوَدَ، وَلَا أَشْجَعَ، وَلَا أَضْوَأَ وَأَوْضَأَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم (أخرجه الدارمي).
و(أنجد): أسرع في النجدة، وهذا دليل على عظم شجاعته صلى الله عليه وسلم.
☼ فكان صلى الله عليه وسلم يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرِّض رُوحه للمنايا، ويقدِّم نفسه للموت، غير هائب ولا خائف، ولم يفرَّ من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس، وتقوم الحرب على ساق، وتُشرع السيوف، وتمتشق الرماح، وتهوي الرءوس، ويدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون أحيانًا به وهو صامد مجاهد.
لا يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب.
☼ فعن البراء رضي الله عنه قال: «كُنَّا والله، إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» (مسلم).
و(احمرَّ البأسُ وحَميَ): كناية عن شدة الحرب.
☼ بل إن الفـارس الشجاع صاحب المـواقف المشهـورة والوقائـع المعـروفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ؛ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْهُ» (أخرجه أحمد).
☼ وقد فرَّ الناس يوم حنين، وما ثبت إلا هو صلى الله عليه وسلم، وطَفِق يركض بغلته قِبَلَ الكفار، وعمُّه العباس آخذٌ بلجامها، يكفُّها عن الإسراع؛ فأقبل المشركون إليه، فلما غشوه لم يفرَّ، ولم ينكص؛ بل نزل عن بغلته؛ كأنما يمكنُّهم من نفسه، وجعل يقول: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ» (البخاري ومسلم). كأنما يتحداهم ويدُّلهم على مكانه!!
☼ وكان صدره بارزًا للسيوف والرماح، يُصرع الأبطال بين يديه، ويُذبح الكماة أمام ناظريه، وهو باسم المُحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.
☼ إنها شجاعة لم تعرف لها البشرية نظيرًا؛ ولقد حُقَّ لشجاعة الشجعان أن تتواضع لشجاعته صلى الله عليه وسلم إكبارًا لها وإجلالاً!!
☼ وكان أول من يهبُّ عند سماع المنادي، ولقد فَزِعَ أهلُ المدينة ذاتَ ليلةٍ، فانطلق أناسٌ قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راجعًا، وقد سبقهم إلى الصَّوْتِ، وَقَدْ تبيَّنَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ؛ما عليه سَرْج، وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وهوَ يقول: «لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا» (البخاري ومسلم).
و(عُرْيٍ): ليس عليها سَرْج، و(تُرَاعُوا): الروع؛ الخوف والفزع.
فيا لها من شجاعة!! إذ هبَّ إلى موطن الخطر وحدَه، قبل أن يتحرك الناس، وهذا من أصعب الأشياء، حتى على نفوس الشجعان.
☼ وتكالبت عليه الأحزابُ يومَ الخندق من كلِّ مكان، وضاق الأمرُ وحلَّ الكربُ، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وزُلزِل المؤمنون زلزالاً شديدًا، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه، حتى نصره ربُّه، وردَّ كيد عدوِّه، وأخزى خصومَه، وأرسل عليهم ريحًا وجنودًا، وباءوا بالخسران والهوان.
☼ وما غزواته الكثيرة التي غزاها صلى الله عليه وسلم وسطّرتها كتب السير والمغازي والأحاديث الصحيحة التي تحدثت عن بسالته وشجاعته في المعارك التي خاضها ضد الكفار والمشركين واليهود ـ والتي لم نذكر منها إلا النذر اليسيرـ ما هي إلا دليل صدق لا مرية فيه، يؤكد ويدلل على خُلُق الشجاعة والبسالة الذي كان يتحلى به ويتصف به صلى الله عليه وسلم.
☼ ولم تأخذه صلى الله عليه وسلم في الله عزَّ وجلَّ، لومةُ لائمٍ؛ فكان لا يهاب إلا الله عزَّ وجلَّ، وكان يجاهد بنفسه وماله لإعلاء كلمة الله تعالى؛ لتكون هي العليا، ولكي يظهر الحق ويزهق الباطل ويسحقه؛ فكان له صلى الله عليه وسلم ما أراد، ونصره الله عزَّ وجلَّ، وأعلى قدره وشأنه، وأظهر دينه على الأديان كلِّها.
☼ فإذا ذُكِـرت الشجاعةُ ذُكِـر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذُكِـرت البطولة والبسالة ذُكِر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
☼ وكانت قوته صلى الله عليه وسلم الجسدية عظيمة، تبلغ قوة ثلاثين رجلاً؛ فعن أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ. قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟! قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ (البخاري ومسلم).
وهذا رُكَانَة الذي ما صرعه أحدٌ على وجهِ الأَرْضِ، قَبْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول هو عن نفسه- خلا يومًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شِعاب مكة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا رُكَانَةُ، ألا تَتّقِي الله، وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوك إلَيْهِ؟»، قال: «إنّي لَوْ أَعْلَمُ أَنّ الّذِي تَقُولُ حَقٌّ لاتّبَعْتُك»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفَرَأَيْتَ إنْ صَرَعْتُك، أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ؟» قال: «نعم». قال: «فَقُمْ حَتّى أُصَارِعَك».
قال: فَقَامَ إلَيْهِ رُكَانَةُ يُصَارِعُهُ، فَلمَّا بَطَشَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَضْجَعَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «عُدْ يَا مُحَمّدُ». فَعَادَ فَصَرَعَهُ. فَقَالَ: «يَا مُحَمّدُ، والله، إنَّ هَذَا لَلْعَجَبُ، أَتَصْرَعُنِي؟!!»(1).
فصرعه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: «يا محمد، ما وضعَ ظهري على الأرضِ أحدٌ قبْلَك، وما كانَ أحدٌ أبغض إليَّ منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسولُ الله»، فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّ عليه غنمه (السيرة النبوية لابن كثير).
☼ ومـع هـذه الشجاعة البالغة، وتلك القـوة العـظيمة التي كان يتحـلى بها صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنها لم تكن أبدًا شجاعة تهور، ولا قوة بطش؛ وإنما كانت شجاعة مضبوطة بالعقل، وقوة مشـوبة بالرحمة؛ فلم يستعملها قطُّ إلا في مواطـن الوغى في الجهاد في سبيل إعـلاء كلمة الله.
☼ فلم يَنتقِمْ صلى الله عليه وسلم لنفسِه قطُّ، ولم يضرب بيده إلا في سبيل الله؛ فعن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: «... وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قطُّ، إلا أن تُنْتَهَك حرمةُ الله؛ فينتقم لله تعالى» (البخاري ومسلم).
☼ وقالت رضي الله عنها: «ما ضربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خادمًا له ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قطُّ، إلا أن يجاهدَ في سبيل الله» (البخاري ومسلم).
وصدق الله: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ".
* * *
المقال الثاني
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى
5 ? أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وإساف ونائلة : لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله .
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك , فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك .
فقال : يابنية أريني وضوءًا فتوضأ , ثم دخل عليهم المسجد , فلما رأوه قالوا : ها هو ذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدروهم وعُقِروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه رجل .
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه , ثم حصبهم , فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا () .
في هذا الخبر بلغ الملأ من قريش القمة في التحجر الفكري حيث ضاعفوا من تهديدهم ومحاولتهم القضاء على دعوة الإسلام بالقوة , وذلك بالقضاء على داعيها الأول صلى الله عليه وسلم .
ولكننا نجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابل ذلك إصرارًا أكيدا على تبليغ دعوته مهما تكن الحواجز والعوائق .
ونجد في هذا الخبر مثلا على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة , حيث علم من ابنته فاطمة رضي الله عنها عن قعود المشركين له وتهديدهم إياه , ومع ذلك خرج من بيته منفردا ودخل عليهم وهم مجتمعون , وإن هذا الإقدام العظيم مع احتمال وقوع الضرر البالغ يُعدُّ قمة في التضحية والبذل من أجل دعوة الإسلام .
لقد كان الشيء الذي يهيمن على مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم هو التفكير في دعوته وبذل كل الطاقة في محاولة الوصول إلى قلوب الناس , ولقد كان أمر حماية النفس وسلامتها من التعرض للضرر شيئا ثانويًّا لايأخذ له الرسول صلى الله عليه وسلم أي اعتبار إذا تعارض مع الإقدام على تبليغ الدعوة .
6 ? وأخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت , وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس , فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعُه في كتفي محمد إذا سجد , فانبعث أشقى القوم ? وهو عقبة بن أبي معيط كما جاء مصرحا به في رواية مسلم الثانية ? فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه .
قال : فاستضحكوا , وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر , لو كان لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم , والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد مايرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة , فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه , ثم أقبلت عليهم تشتمهم .
فلما قضي النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا , وإذا سأل سأل ثلاثا , ثم قال " اللهم عليك بقريش ? ثلاث مرات " فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته , ثم قال : " اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة , والوليد بن عتبة وأمية بن خلف , وعقبة بن أبي معيط " .
قال : وذكر السابع ولم أحفظه ? فو الذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر , ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر () .
في هذه الرواية وما في معناها أمثلة للأذى الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد الكفار في مكة مما يُقصد به الإهانة المادية بإلحاق الأذى الجسماني , والمعنوية بتحطيم المشاعر وإغاظة النفوس, وهي أبلغ من الحسية .
هذا وإن ماجرى من عقبة بن أبي معيط يُعدُّ اعتداء مهينا على أعظم رجل عرفه التاريخ, وهو يؤدي شعائر دينه , مما يدل على تدني مستوى أهل الباطل في معاملة أهل الحق , وهذا علامة على توغل عداوتهم وإفلاسهم في مجال الفكر والحجة البيانية , حيث استخدموا أيديهم وقوتهم المادية .
وإن حقد الكفار الدفين يجعلهم يتصرفون بمقتضى عواطفهم لابمقتضى عقولهم , حيث إنهم لو راجعوا أنفسهم بعد ذلك لأنكروا عملهم , بينما أهل الحق لاينـزلون أبدا إلى هذا المستوى الهابط.
أما موقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه مثال لشدة الإرهاب الذي كان يواجهه المستضعفون في مكة , الذين لم تكن لهم عشائر تحميهم .
فالصحابة رضي الله عنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما يحبون أنفسهم ولكن ابن مسعود كان على يقين من أنه لن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو جثة هامدة أو مايشبه ذلك , فلن يتمكن من تخليصه من الأذى .
ومن هذا الخبر نفهم أن للنساء مهمة يقمن بها لايستطيع الرجال أحيانًا أن يقوموا بها فقد استطاعت فاطمة رضي الله عنها أن تزيل الأذى عن أبيها صلى الله عليه وسلم وأن تسب الملأ من قريش دون أن تتعرض للأذى لأن تقاليد العرب تمنعهم من الاعتداء على النساء .
وهكذا في كل زمن ينبغي للدعاة أن يستفيدوا من دور المرأة في الأمور التي تحسنها وقد لايدركها الرجال مستفيدين من الأعراف الاجتماعية التي تخدمهم .
وحنيما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعداء خافوا من دعوته , وهكذا الكفار يخافون من عاقبة الدعاء في الدنيا فقط , حيث إنهم لايؤمنون بالآخرة , فهل يتنبه بعض المسلمين الذين لايرتدعون عن ظلم الناس إلا خوفًا من استجابة دعائهم وحلول العقوبة الدنيوية غافلين عن مواقف الحساب يوم القيامة ؟!
ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تأثر تأثرًا كبيرًا مما حصل له ما جاء في رواية أخرى لهذا الخبر وفيها " ثم خرج ? يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المسجد فلقيه أبو البَخْتَري بسوط يتخصر به فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه فقال : مالك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلِّ عني , فقال: علم الله لا أخلي عنك أو تخبرني ماشأنك فلقد أصابك شيء , فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مُخَلٍّ عنه أخبره فقال: إن أبا جهل أمر فطُرِح عليّ فرث , فقال أبو البختري : هلمَّ إلى المسجد .
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطُرح عليه الفرث ؟ قال: نعم , قال : فرفع السوط فضرب به رأسه, قال : فثار الرجال بعضها إلى بعض , قال وصاح أبو جهل , ويْحكم هي له , إنما أراد محمد أن يلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه .
ذكره الهيثمي وقال : رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه الأجلح بن عبد الله الكندي وهو ثقة عند ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره () .
وأبو البَخْتَري هو ابن هشام بن الحارث بن أسد , وأمه من بني هاشم , وكان من فريق المعتدلين من الكفار الذي تميزوا بوضوح بعد نقض صحيفة المقاطعة وكان من الذين نادوا بنقضها.
7 ? وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن إسحاق عن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عن هبَّار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام وتجهزتُ معهما فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إليه () فلأوذينه في ربه فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يامحمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ابعث عليه كلبًا من كلابك" .
ثم انصرف عنه فرجع إليه () فقال : أي بني ماقلت له ؟ قال : كفرت بإلهه الذي يعبد. قال فماذا قال لك : قال , قال : اللهم ابعث عليه كلبًا من كلابك , فقال : أي بني والله ما آمن عليك دعوة محمد .
قال : فسرنا حتى نزلنا الشراة وهى مأسدة فنزلنا إلى صومعة راهب, فقال: يامعشر العرب ماأنزلكم هذه البلاد وإنها مسرح الضيغم ؟ فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم حقي, قلنا: أجل يا أبا لهب فقال : إن محمدًا قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا حوله , فبينما نحن حوله وأبو لهب معنا أسفل , وبات هو فوق المتاع فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد مايريد تقبض ثم وثب فإذا هو فوق المتاع , فجاء الأسد فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففضخ رأسه , فقال: سيفي ياكلب , لم يقدر على غير ذلك, ووثبنا فانطلق الأسد وقد فضخ رأسه فقال له أبو لهب : قد عرفت والله ماكان لينفلت من دعوة محمد () .
وهكذا استجاب الله تعالى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث على عتبة بن أبي لهب الأسد الذي أصبح جنديًّا من جنود الدفاع عن الحق فأهلكه , ولم تُجْدِ كل الاحتياطات الامنية التي أحاط بها أبو لهب ابنه .
ومن الغريب في الأمر أن أولئك الكفار يوقنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة ومع ذلك يستمرون في مقاومته وإيذائه , ولايحملهم ذلك على الإيمان به والاستجابة لدعوته , وهذه صورة من صور اتباع الهوى المنحرف , حيث يكون الحق واضحا مثل الشمس فيحيد أصحاب الهوى المنحرف عن اتباعه .
ولقد حمى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى من أذى الكفار كما أخرج الإمام مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال أبو جهل : هل يعفِّر محمد وجه بين أظهركم () ؟ قال: فقيل : نعم , فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ? أو لأعفرن وجهه في التراب ? قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي , زعم ليطأ على رقبته , قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه , قال: فقيل له : مالك ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا .
قال : فأنزل الله عز وجل ? لاندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه-(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى)(أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)(إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى)(العلق : 9 )(عَبْداً إِذَا صَلَّى)(أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى)(أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)(أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ()(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)(كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ)(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)(فَلْيَدْعُ نَادِيَه)(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)(كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) () .
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أبو بكر الحميدي بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد : 1 )
أقبلت العوراء أم جميل () ولها ولولة () وفي يدها فهر () وهي تقول :
مـذمـما أبـيـنـا () *** وديـنـه قلـيـنا () *** وأمــره عصـيـنـا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد , ثم قرأ قرآنًا اعتصم به ? كما قال ? وقرأ
(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً) (الإسراء : 45 )
فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر , ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : يا أبا بكر إني أُخبرتُ أن صاحبك هجاني , فقال: لاورب هذا البيت ماهجاك , قال : فولَّت وهي تقول : قد علمَتْ قريش أني بنت سيدها () .
ومن أمثلة ذلك ماسبق من خبر أبي جهل حينما هدد بفضخ رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر فمنعه الله تعالى منه .
ولكن الله تعالى يمكِّن الكفار أحيانًا ? كما في الخبر السابق ? من إيصال الأذى لرسوله صلى الله عليه وسلم , وذلك لرفع ذكره في العالمين , وليكون قدوة لأتباعه المؤمنين في الرضا بقضاء الله تعالى , والصبر الجميل على الأذى .
وقد يمكِّن الله تعالى أهل الباطل من أهل الحق برهة من الزمن فيقومون بالتنكيل بأهل الحق ومحاولة إسكات أصواتهم , ولكن سرعان ماينهار بناؤهم أمام تماسك أهل الحق وصدق تمثيلهم لدينهم , كما قال الله (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ) (آل عمران : 111 )
-----------------------------
( ) الفتح الرباني 20/223 .
وذكره الهيثمي وقال : رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح ? مجمع الزوائد 8/228 .
وأخرجه أبو نعيم من طريق ابن عباس رضي الله عنهما دلائل النبوة لأبي نعيم /60 .
وأخرجه الحاكم بنحوه وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ? المستدرك 3/157 .
( ) صحيح مسلم رقم 1794 , كتاب الجهاد , صحيح البخاري رقم 2934 كتاب الجهاد .
( ) مجمع الزوائد 6/18 .
( ) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( ) يعنى إلى أبيه .
( ) دلائل النبوة لأبي نعيم /162 .
وأخرجه أيضًا الحاكم وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , وأقره الذهبي ? المستدرك 2/539 ? وحسن إسناد الحاكم الحافظ ابن حجر ? فتح الباري 4/39 - .
( ) يعني هل يلصق وجهه بالعفر وهو التراب ويعني بذلك السجود .
( ) يعنى أبا جهل .
( ) صحيح مسلم , كتاب المنافقين /رقم 2797 ص 2154 .
( ) هي امرأة أبي لهب المذكورة في السورة .
( ) أي عويل .
( ) أي حجر .
( ) تريد محمدًا صلى الله عليه وسلم , وهكذا كان الكفار يسمونه على سبيل السخرية .
( ) أي أبغضنا .
( ) مسند الحميدي 1/153 / 154 , رقم 323 .
وأخرجه أبو عبد الله الحاكم من طريق الحميدي , وذكر مثله , وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , وأقره الذهبي ? المستدرك 2/361 .

بنت قرية المطر @bnt_kry_almtr
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

اور 22
•
سلمت يدك نقل رائع ... جزا الله خير




الصفحة الأخيرة