سكن الفؤاد
سكن الفؤاد
ثبوت العجب بذكر مخالفات وبدع شهر رجب



بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:


فإن الله عز وجل أرسل رسولًا ليُتبع، وأنزل عليه كتابًا ليُقتدى به لا بالأهواء والبدع، قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُون﴾، وقال: ﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون﴾، والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.


ألا وإن من المواطن التي صارت مرتعًا للمخالفات والبدع عند الصوفية وأتباعهم من العامة: (شهر رجب)، الذي أوردوا له من الأحاديث المكذوبة القاضية بتفضيله على غيره، مع أنه لم تثبت له فضيلة إلا أنه من الأشهر الحرم لا غيركما في حديث أبي بكرة في الصحيحين.


وقد اختلف في الأشهر الحرم أيها أفضل؟
فقيل: رجب قاله بعض الشافعية وضعفه النووي وغيره. وقيل: المحرم، قاله الحسن، ورجحه النووي. وقيل: ذو الحجة، روي عن سعيد بن جبير وغيره وهو أظهر، قاله ابن رجب في لطائف المعارف (ص113).
وسمي رجب بهذا الاسم قالوا: لأنه يرجب أي يعظم، ولتعظيمه تعددت أسماؤه حتى أوصلها ابن دحية إلى ثمانية عشر اسمًا في كتابه (أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب).
والله عز وجل يقول في الأشهر الحرم:﴿فلا تظلموا فيهن أنفسكم﴾،
ومن ظلم النفس فيها: الوقوع في المعاصي والذنوب، وما يفسد القلوب، ومن شر ذلك: البدع والمخالفات التي يتقرب بها إلى الله جلَّ وعلا في شهر رجب على وجه التخصيص والتقصد.
والتي منها ما هو مطلق في سائر الشهر بلا قيد، ومنها ما هو مقيد بيوم أو ليلة، أو وقت معين.


أما المخالفات المطلقة في هذا الشهر من غير قيد:


1- إشاعة الصوفية للأحاديث الموضوعة، والآثار المصنوعة، في فضل رجب، في خطبهم، وفي مجالسهم، وفي منشوراتهم.


2- اتخاذ شهر رجب موسمًا للصيام، إما يصومه كله أو أيامًا منه على أن له فضيلة وأجرًا خاصًّا به، وكل ما ورد فيه موضوع واهٍ.
وقد صح عن أمير المؤمنين عمر ?رضي الله عنه- أنه كان يضْرب أيدي الرجَال في رجَب إذا رفعُوا عن طعامه حتى يضعوا فيه ويقول: إنما هو شهْرٌ كان أهل الجاهلية يعظمونه، (أداء ما وجب لابن دحية) و(مجموع الفتاوى 25/290) و (تبيين العجب لابن حجر).


3- سرد صيام رجب وشعبان ورمضان من غير فصل، ولا دليل عليه من السنة الثابتة، بل هو مخالف لهدي رسول الله ﷺ، وذلك أنه لم يستكمل صيام شهر قط إلا رمضان، (زاد المعاد 2/64).


4- تقصد العمرة في شهر رجب بأن لها فضيلة دون غيره من الشهور، وهذا أنكره الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعزاه إلى العلماء كما في فتاواه (4/160) (6/115)، وما ذُكر عن بعض الصحابة ?رضي الله عنهم- في اعتمارهم في رجب فهو محمول على الموافقة لا التقصد.


5- الاجتهاد في العبادة، والإقبال على الطاعة في هذا الشهر دون غيره، عملًا بالأحاديث المكذوبة على النبي ﷺ في ذلك، فترى فئامًا من الناس لا يعبد ربه إلا في رجب!!!.


6- تحري إخراج الزكاة أو الصدقات في رجب باعتقاد فضيلته ومزيته، ولا أصل له في السنة، ولا أثر له عن أحد من السلف، (لطائف المعارف ص120).


7- الإكثار من الدعاء في رجب على أنه مستجاب، اعتمادًا على ما لا يصح من الحديث والأثر.


8- إقامة الموالد أو الأذكار والأوراد، أو تلاوة القرآن في المساجد أو البيوت في شهر رجب صباحًا ومساءً، سواء للرجال أو النساء، وهي بدعة على بدعة.


9- زيارة قبر النبي ﷺ أو القبور فيه على وجه التخصيص، (فتاوى آل الشيخ 6/114).


10- قراءة صحيح البخاري في أيام رجب قراءة سريعة، بلا تدبر ولا تمعن، ولا عمل بما فيه، ويكفي مثالًا على ذلك حديث أم المؤمنين عائشة ?رضي الله عنها-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» الذي هو قاعدة في إبطال كل المخترعات والمحدثات في الدين.


11- اعتقاد أن شهر رجب شهر معظم على سائر الشهور، وهو السبب في إحداث هذه البدع.


أما المخالفات المقيدة بيوم أو ليلة أو وقت:


1- اعتقاد أن النبي ﷺ ولد في أول ليلة من رجب، ولا دليل عليه (لطائف المعارف ص121).


2- تسمية أول يوم من رجب بيوم السلامة أو عيد السلامة تشاؤمًا منهم بشَهْرَيْ ربيع وشَهْرَيْ جمادى، واتخاذه عيدًا وهذا لا أصل له في الشريعة، (لطائف المعارف ص118).


3- التهنئة بدخول شهر رجب، بناءً على تعظيمه فوق منزلته.


4- التقرب إلى الله بالذبح في أول يوم منه أو لأول نتاج إبله وبقره وغنمه قصدًا لرجب، وهو ما يسمى بالعتيرة، أو الرجبية، وقد أبطلها الإسلام وعليه جماهير العلماء خلافًا لابن سيرين ومن تبعه من الشافعية، (لطائف المعارف ص117).


5- صيام أول خميس من شهر رجب، وهو يوم لم تعظمه الشريعة أصلًا، ولا ذِكْرَ له عند السلف، ولم يَجْرِ ما يوجب تعظيمه، (اقتضاء الصراط المستقيم ص283و293).


6- قيام أول ليلة جمعة بعد ذلك الخميس ما بين مغرب وعشاء بصلاة يسمونها صلاة الرغائب لها كيفية خاصة غريبة، وهي أنها اثنتا عشرة ركعة، يُقرأ في كل ركعة الفاتحة، ثم سورة القدر ثلاث مرات، وسورة الإخلاص اثني عشرة مرة، وبعد أن تنتهي من كل ركعتين تصلي على النبي ﷺ سبعين مرة، وحديثها موضوع بإجماع أهل العلم، وهو في الموضوعات لابن الجوزي (2/124)، وأول ما أُحدثت في القرن الرابع كما في اقتضاء الصراط المستقيم ص288و293. قال النووي في شرح مسلم (1144) عند حديث: «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلها بقيام» مبينًا مخالفة صلاة الرغائب لهذا الحديث: قاتل الله واضعها ومخترعها، فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة. اهـ


7- التوسيع في النفقة والأطعمة في هذا اليوم.


8- التزين في هذا اليوم. انظر لهاتين المخالفتين: (اقتضاء الصراط المستقيم ص283و293).


9- صيام العشر الأُول من رجب كما يفعله كثير من العامة اعتمادًا على أحاديث موضوعة ترغب في صيامها، بأجور عظيمة، يقطع القارئ لها بأنها مكذوبة.


10- إحداث صلاة في وسط رجب تسمى بصلاة أم داود، (اقتضاء الصراط المستقيم ص293 والموضوعات لا بن الجوزي 2/126).


11- اعتقاد أن إسراء النبي ﷺ وعروجه كان ليلة السابع والعشرين من رجب، وهذا عين الكذب قاله ابن دحية، وقد اختلف المؤرخون هل هو في محرم، أو رجب، أو رمضان، ولو كانت معرفة تحديده له فضيلة لبينه النبي ﷺ، (لطائف المعارف ص121).


12- صيام يوم الخامس والسادس والسابع والعشرين من رجب، وهو من البدع المحدثة.


13- الاحتفال بيوم السابع والعشرين من رجب في المساجد مع وجود الاختلاط بين الرجال والنساء، ويترتب عليه أنواع من الفساد، ولو كان السلف يحتفلون به لَنُقِلَ، (الإبداع في مضار الابتداع ص252).


14- قراءة قصة الإسراء والمعراج المنسوبة إلى ابن عباس، ولا تصح عنه وفيها نكارة ظاهرة.


15- التقرب إلى الله بالذبائح في السابع والعشرين من رجب (فتاوى آل الشيخ 3/86).


16- اعتقاد أنه بُعث في الخامس والعشرين أو السابع والعشرين من رجب، اعتمادًا على بعض ما روي في ذلك ولا يصح منه شيء، (لطائف المعارف ص121).


17- الاستغفار بين الأذان والإقامة، وبعد الصلاة، اعتمادًا على حديث موضوع بخصوص رجب يقول بعضهم بعده: اللهم وصلِّ على النبي العربي فارج الهم ومجلي الكرب. وهو شرك أكبر.


والمقصود: الإشارة لما وقفنا عليه من بدع ومخالفات شهر رجب بوجيز العبارة، وإلا فهي كثيرة مختلفة باختلاف البلدان والأمصار، على مختلف الأزمان والأعصار.


كتبه: أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أحمد باجمال
سكن الفؤاد
سكن الفؤاد
المطلب الخامس: الإسراء والمعراج


(المعراج: مفعال، من العروج، أي الآلة التي يعرج فيها، أي يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا يعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته. وقوله: وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة - اختلف الناس في الإسراء. فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه. لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم. فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين: (أن) ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج إلى السماء، وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال. فما أراد أن الإسراء مناماً، وإنما أراد أن الروح ذاتها أسري بها، ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت. وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناماً. وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات. وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين، مرة قبل الوحي، ومرة بعده. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي، ومرتين بعده. وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة، للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة، بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر. قال شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس ؟! وقد غلط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد (المسند) منه، ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص. ولم يسرد الحديث. وأجاد رحمه الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله. وكان من حديث الإسراء: أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة، على الصحيح، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكباً على البراق، صحبه جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك، صلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد. وقد قيل: أنه نزل بيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة. ثم عرج من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل، ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، ثم عرج (به) إلى السماء الثانية. فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما، فسلم عليهما، فردا عليه السلام، ورحبا به، وأقرا بنبوته ثم عرج (به) إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج (به) إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج (به) إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار، جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال؟ بخمسين صلاة، فقال: (إن) أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم، إن شئت، فعلا به جبرائيل حتى أتى به (إلى) الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه - هذا لفظ البخاري في (صحيحه) وفي بعض الطرق - فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى، حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ، نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي (1) . وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه، وقوله:مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي (جبرائيل)، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها (2) . وأما قوله تعالى: في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ، فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبرائيل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما، فإنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تعالى: وتدليه. وأما الذي في سورة النجم: أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبرائيل، رآه مرتين، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة، قوله تعالى::سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح. فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر. فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب - والله أعلم -: أن ذلك كان إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن اطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس، فأخبرهم بنعته. وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى: من وجوه، لمن تدبره، وبالله التوفيق (13)
قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح منظومة سلم الوصول
بَعْـدَ خَمْسِـينَ مِنَ الأَعْـوَامِ مَضَـتْ لِعُـمْرِ سَـيِّدِ الأَنَـامِ
أَسـرَى بِهِ اللهُ إليه فِـي الظُّلَمْ وَفَـرَضَ الْخَمْسَ عَلَيْهِ وَحَـتَمْ



وكان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى ثم إلى حيث شاء الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى في ذكر الإسراء: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ . وقال تبارك وتعالى في ذكر المعراج: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى . وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب حديث الإسراء وقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى حدَّثنا يحيى بن بكير حدَّثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب حدَّثني أبو سلمة بن عبدالرحمن سمعتُ جابرَ بن عبدالله رضي الله عنهما قال سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما كذبني قريش، قُمْتُ في الحجر فجـلا اللهُ لي بيت المقْدِسِ، فطفقت أُخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) (3) . باب المعراج. حدثنا هديةُ بن خالد حدثنا همام بن يحيى حدَّثنا قتادةُ عن أنس بن مالك عن مالك ابن صعصعة رضي الله عنهما أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حدثهم عَنْ ليلة أسري به قال: ((بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعاً إذ أتاني آتٍ، فقد قال وسمعته يقول، فشقَّ ما بين هذه إلى هذه)) فقلتُ للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به؟ قال من ثغرةِ نحره إلى شعرته. وسمعتُه يقول: مِنْ قَصَّهِ إلى شِعْرَتِهِ ((فاستخرج قلبي. ثم أتيتُ بطست من ذهب مملوءة إيماناً فغسل قلبي، ثم حُشي، ثم أعيد. ثم أتيت بدابةٍ دون البغل وفوق الحمار أبيض)) فقال الجارود: هو البراقُ يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم ((يضع خطوَه عند أقصى طرفه، فحُملت عليه، فانطلق بي جبريل حتَّى أتى السَّماءَ الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء، ففتح فلما خلصتُ فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنَّبيّ الصَّالح. ثم صعِدَ حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء. ففتح فلما خَلَصتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما. فسلمت فردَّا ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنَّبيّ الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء ففتح فلما خَلَصتُ فإذا يوسف، قال هذا يوسف فسلّم عليه، فسلمتُ عليه فردّ ثم قال: مرحباً بالأَخِ الصَّالح والنَّبيّ الصالح. ثم صَعِدَ بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء. فلما خَلَصْتُ فإذا إدريس، قال هذا إدريس فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنَّبيّ الصالح. ثم صَعِد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء. فلما خَلَصْتُ فإذا هارون، قال هذا هارون فسَلِّمْ عليه، فسلمتُ عليه فرد ثم قال: مرحباً بالأخِ الصَّالح والنَّبيّ الصالح، ثم صَعِدَ بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء فلما خلصتُ فإذا موسى، قال هذا موسى فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصَّالح والنَّبيّ الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها مِنْ أُمَّتي. ثم صعِدَ بي إلى السَّابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن مَعَك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء فلما خلصتُ فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه فردَّ علي السلام قال: مرحباً بالابن الصالح والنَّبيّ الصالح. ثم رُفِعَتْ إِليَّ سِدْرَةُ المنتهى فإذا نبقُها مثلُ قِلال هَجَر، وإذ ورقها مثل آذانِ الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهرانِ باطنان ونهرانِ ظاهرانِ، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيلُ والفرات، ثم رُفع لي البيتُ المعمور ثم أتيت بإناءٍ من خمر وإناءٍ من لبنٍ وإناء من عسلٍ، فأخذتُ اللَّبن فقال: هي الفطرة أَنْتَ عليها وأُمَّتُكَ، ثم فُرِضَتْ عليَّ الصلوات خمسين صلاةً كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إنَّ أُمتك لا تستطيع خمسين صلاة كلَّ يوم، وإِنِّي والله قد جربت الناس قبلك وعالجتُ بني إسرائيل أَشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف لأُمَّتك، فرجعت فوضع عنِّي عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعتُ فوضع عني عشراً فرجعتُ إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنِّي عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فَأُمِرْتُ بعشرِ صلواتٍ كُلَّ يومٍ، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأُمِرْتُ بخمس صلواتٍ كُلَّ يومٍ. فرجعت إلى موسى فقال: بما أُمرت؟ قلت أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إنَّ أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإِنِّي قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أَشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأُمَّتِكَ، قال: سألتُ ربِّي حتى استحييتُ ولكني أرضى وأسلم، قال فلما تجاوزتُ ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخفَّفْتُ عن عبادي)) (4) . قلت: وقوله في هذه الرواية عن إدريس مرحباً بالأخ الصالح هذا قد يشكل، لأن إدريس من آبائه، والمعنى والله أعلم على ما في الحديث ((نحن معاشر الأنبياء أبناء علات)) (5) إلخ. وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثنا عبدُ العزيز بنُ عبدالله حدَّثني سليمان عن شريك بن عبدالله أَنَّه قال: سمعتُ ابن مالك ? يعني أنساً رضي الله عنه ? يقول ليلةَ أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة: ((إِنَّه جاءَه ثلاثةُ نفرٍ قبل أَنْ يوحى إليه وهو نائمٌ في المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أَتوه ليلةً أخرى فيما يرى قلبُهُ وتنامُ عينه ولا ينام قلْبُهُ. وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. فلم يكلِّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئْرِ زمزم فتولاه منهم جبريلُ فشقَّ جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى أفرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه. ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشو إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده ? يعني عروق حلقه. ثم أَطبقه. ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: مَنْ هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومَنْ معك؟ قال: محمد، قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به وأهلاً، فيستبشر أهل السماءِ لا يعلم أهل السماء بما يريدُ اللهُ به في الأرضِ حتى يعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل: هذا أبوكَ فسلِّم عليه، فسلَّم وردَّ عليه آدم وقال: مرحباً وأهلاً يا بنيَّ نعم الابن أَنْتَ، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات. ثم مضى به في السماءِ فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خَبَّأَ لك ربُّكَ. ثم عرج إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحباً به وأهلاً. ثم عُرِجَ به إلى السماء الثالثة وقالوا مثل ما قالت الأولى والثانية، ثم عُرِجَ به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرِجَ به إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرِجَ به إلى السادسة فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرِجَ به إلى السماءِ السابعة فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سمَّاهم فأوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمَهُ وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى ربِّ لم أظن أَنْ يرفع عليّ أحدٌ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا اللهُ تعالى: حتى جاء سِدْرَةِ المنتهى ودنا الجبَّارُ ربُّ العزَّةِ فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى اللهُ فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أُمَّتِكَ كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربَّكَ؟ قال: عهد إلي خمسين صلاة كلَّ يوم وليلة، قال: إِنَّ أُمَّتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفِّف عنك ربُّك وعنهم، فالتفتَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأَنَّه يستشيرُهُ في ذلك، فأشار إليه جبريل أَنْ نعم إِنْ شِئْتَ، فعلا به إلى الجبار فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنَّا فإِنَّ أُمَّتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربِّه حتَّى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عِنْد الخمس فقال: يا محمد واللهِ لقد راودتُ بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه فأُمَّتكَ أضعفُ أَجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً، فارجع فليخفِّف عنك ربُّكَ، كل ذلك يلتفت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال: يا ربِّ إِنَّ أُمَّتي ضعفاء أجسامهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفِّف عنَّا. فقال الجبَّارُ: يا محمد، قال: لبَّيْكَ وسعديك، قال: إِنَّه لا يبدل القول لديّ، كما فرضتُ عليك في أُمِّ الكتاب. قال: فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أُمِّ الكتاب وهي خمسٌ عليك، فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفَّف عنَّا، أعطانا بكل حَسَنَةٍ عشر أمثالها، قال موسى: قد واللهِ راودتُ بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارْجع إلى ربِّك فليخفِّف عنك أيضاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا موسى قَدْ والله استحييتُ مِنْ ربِّي مما اختلفت إليه. قال: فاهبط باسْمِ اللهِ. قال واستيقظ وهو في المسجد الحرام)) (6) . ورواه مسلم بعد حديث ثابت البناني أصله وقال نحو حديث ثابت البناني وقدم فيه شيئاً وأَخَّر وزاد ونقص، وهذا السياق روايته لحديث ثابت قال رحمه الله تعالى: حدَّثنا شيبانُ بنُ فروخ حدَّثنا حمادُ بنُ سلمة حدَّثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت بالبراقِ، وهو دابة أبيض طويل فوقَ الحمار ودون البَغْلِ يضع حافرَهُ عند منتهى طرفه، قال فركبته حتى أتيت بيتَ المقدس. قال فربطته بالحلقَةِ التي يربط بها الأنبياءُ. قال ثم دخلتُ المسجد فصلَّيْتُ فيه ركعتين ثم خرجْتُ، فجاءني جبريلُ عليه السلام بإِناءٍ مِنْ خمرٍ وإِناءٍ مِنْ لبنٍ فاخترتُ اللَّبن فقال جبريلُ عليه السلام: اخترتَ الفطرة. ثم عُرِجَ بنا إلى السماء فاسْتفتح جبريل فقيل: مَنْ أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحَّب بي ودعا لي بخير، ثم عُرج بنا إلى السَّماء الثانية فاستفتح جبريلُ عليه السلام، فقيل: من أَنْتَ؟ قال: جبريل، قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلواتُ اللهِ عليهما وسلامُهُ، فرحَّبا ودعوا لي بخير، ثم عُرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أَنْتَ؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أَنا بيوسف عليه السلام إذ هو قد أعطي شَطْرَ الحسن فرحَّب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السَّماءِ الرابعة فاستفتح جبريلُ عليه السلام، قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح الباب فإذا أنا بإدريس عليه السلام فرحَّب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ثم عُرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريلُ، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون عليه السلام، فرحَّب ودعا لي بخير، ثم عُرِجَ بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريلُ عليه السلام، وقيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بموسى عليه السلام فرحَّب بي ودعا لي بخير، ثم عُرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهرهُ إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سِدْرَةِ المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا تمرها كالقلال، قال فلما غشيها مِنْ أَمر الله ما غشي تغيَّرت فما أحدٌ مِنْ خلق الله يستطيع أَنْ ينعتها مِنْ حسنها، فأَوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنَزلت إلى موسى عليه السلام فقال: ما فرض ربُّك على أُمَّتِك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربِّك فاسأَله التخفيف فإِنَّ أُمَّتك لا يطيقون ذلك فإِنِّي قد بلوتُ بني إسرائيل وخبرتهم. قال فرجعتُ إلى ربِّي فقلت: يا ربِّ خَفِّفْ عن أُمَّتي، فحَطَّ عني خمساً، فرجعتُ إلى موسى فقلت: حطَّ عنِّي خمساً، قال: إِنَّ أُمَّتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف. قال فلم أزل أرجع بين ربِّي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد إِنَّهنَّ خمس صلوات كل يومٍ وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة، ومن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنة، فإِنْ عملها كتبت له عشراً. ومن همَّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئةً واحدة. قال فنَزلتُ حتى انتهيتُ إلى موسى عليه السلام فأخْبرتُهُ، فقال: ارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعتُ إلى ربِّي حتى استحييتُ منه)) (7) . وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب كيف فُرِضت الصلاة في الإسراء. حدَّثنا يحيى بن بكير قال حدَّثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدِّث أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((فُرِجَ عن سقف بيتي وأنا بمكَّة فنَزل جبريلُ ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطسْتٍ من ذهب مُمتلئ حكمةً وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فخرج بي إلى السماء الدنيا. فلمَّا جاءت السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: جبريلُ، قال: هل معك أحدٌ؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أُرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجلٌ قاعد على يمينه أَسْوِدَةٌ وعلى يساره أَسوِدةٌ، إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قِبَلَ يساره بكى، فقال مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، حتى عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح. قال أنس فذكر أَنَّه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أَنَّه ذكر أَنَّه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة، قال أنس: فلما مرَّ جبريلُ بالنَّبيّ صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحباً بالنبيِّ الصالح والأخ الصالح، فقلت: مَنْ هذا؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى فقال: مرحباً بالنبيِّ الصالح والأخِ الصالح، قلت: مَنْ هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى فقال: مرحباً بالنبيِّ الصالح، والأخ الصالح، قلت: مَنْ هذا؟ قال: هذا عيسى، ثم مررتُ بإبراهيم فقال: مرحباً بالنَّبيِّ الصالح والابن الصالح. قلت: مَنْ هذا؟ قال: هذا إبراهيم عليه السلام. قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أَنَّ ابْنَ عباس وأبا حبَّة الأنصاري كانا يقولان: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثم عُرج بي حتى ظهرت لمستوىً أسمع فيه صريف الأقلام)) قال ابن حزم وأنس بن مالك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ففرض اللهُ على أُمَّتي خمسين صلاة، فرجعتُ بذلك حتى مررتُ على موسى فقال: ما فرض اللهُ لك على أُمَّتك؟ قلتُ: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربِّك فإِنَّ أُمَّتك لا تطيق ذلك، فراجعتُ فوضع شطرها، فرجعتُ إليه فقال: ارجع إلى ربك فإِنَّ أُمَّتك لا تطيق ذلك، فراجعته فقال: هي خمسٌ وهي خمسون لا يبدَّلُ القول لديَّ، فرجعتُ إلى موسى فقال: راجع ربَّك، فقلتُ: استحييت من ربِّي ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سِدْرَةِ المنتهى وغشيها ألوانٌ لا أدري ما هي، ثم أُدخلتُ الجنة فإذا فيها جبال اللؤلؤ وإذا ترابُها المسك)). وافقه عليه مسلم رحمه الله تعالى (8) . وله عن مُرَّة عن عبدالله قال: ((لما أُسري برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيُقْبض منها، وإليها ينتهي ما يُهبْط من فوقها فيُقبض منها، قال إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى قال فراشٌ من ذهب، قال فأُعطي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمنْ لم يشركُ بالله مِن أمته شيئاً المقحمات)) (9) . وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لقد رأيتُني في الحجر وقريشٌ تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكُربْتُ كربة ما كُربْتُ مثلها قط، قال فرفعه الله لي أنظر إليه: ما يسألوني عن شيء إلا أَنبأْتُهُم به)) (10) الحديث. وهذا الذي ذكرنا من حديث أنس وجابر ومالك بن صعصعة وأبي ذر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وأبي حبة هي من أصح ما ورد وأقواه وأجوده وأسنده وأشهره وأظهره لاتّفاق الشيخين على إخراجهما، وعن هؤلاء روايات أخر لم نذكرها استغناء عنها بما في (الصحيحين). وفي الباب أحاديث أخر عن جماعة من الصحابة منهم من لم نذكر: عمر بن الخطاب وعلي وأبو سعيد وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبدالرحمن بن قرظ وأبو ليلى وعبد الله بن عمرو وحذيفة وبريدة وأبو أيوب وأبو أمامة وسمرة بن جندب وأبو الحمأ وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتا أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. ثم الذي دلت عليه الآيات والأحاديث أَنَّ الإسراء والمعراج كانا يقظة لا مناماً، ولا ينافي ذلك ما ذكر في بعض الروايات في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم)) (11) فإن ذلك عند أول ما أتياه ولا يدل على أَنَّه استمر نائماً، ولذا كانت رؤيا الأنبياء وحْياً، ولكن في سياق الأحاديث من ركوبه ونزوله وربطه وصلاته وصعوده وهبوطه وغير ذلك ما يدل على أنه أُسري بروحه وجسده يقظة لا مناماً، وكذا لا ينافي ذلك رواية شريك: ((فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام)) (12) فإن رواية شريك فيها أوهام كثيرة تخالف رواية الجمهور عن أنس في أكثر من عشرة مواضع سردها في الفتح، وسياقه يدل على أّنَّه بالمعنى، وصرَّح في مواضع كثيرة أَنَّه لم يثبتها، وتصريح الآية سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ شامل للروح والجسد، وكذلك قوله تعالى: في سورة النجم وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى جعل رؤية النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل عند سدرة المنتهى مقابلاً لرؤيته إياه في الأبطح، وهي رؤية عين حقيقة لا مناماً. ولو كان الإسراء والمعراج بروحه في المنام لم تكن معجزة ولا كان لتكذيب قريش بها وقولهم كُنَّا نضربُ أكبادَ الإِبل إلى بيت المقدس شهراً ذهاباً وشهراً إياباً، ومحمدٌ يزعم أّنَّه أُسري به إليه وأصبح فينا، إلى آخر تكذيبهم واستهزائهم به صلى الله عليه وسلم، لو كان ذلك رؤيا مناما لم يستبعدوه ولم يكن لردهم عليه معنى، لأنَّ الإنسان قد يرى في منامه ما هو أبعد من بيت المقدس ولا يكذبه أحد استبعاداً لرؤياه، وإنما قصَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرى حقيقة يقظة لا مناماً فكذَّبوه واستهزؤوا به استبعاداً لذلك واستعظاماً له، مع نوع مكابرة لقلة علمهم بقدرة الله عز وجل وأَنَّ الله يفعل ما يريد، ولهذا لما قالوا للصديق وأخبروه الخبر قال: إنْ كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدقه بذلك؟ قال: نعم، إِنِّي لأُصدقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء يأتيه بكرةً وعشياً. أو كما قال.







المصدر الدرر السنية ..