فكاهة ابو الطيب المتنبي
حياة ابو الطيب المتنبي مليئة بالاحداث والسجالات الخالدة، التي وثقها التاريخ والادب العربي في النصف الأول من القرن الرابع الهجري.
فكانت الدولة العباسية تتنازعها عوامل انحلال شامل فانقلبت بغداد عاصمة اسمية ابان خلافة المقتدر، والمستكفي، والقاهر، والراضي، بعد ان كانت ايام الرشيد والمأمون عاصمة الدنيا، فقد سيطر في الري «البويهيون» الحكام الحقيقيون، وفي حلب كان للحمدانيين سيطرتهم الفعلية عليها، وفي «الفسطاط» بمصر استغل «الاخشيديون» عاصمتها، كما اليمن تماما، وابتدأ التنافس الاقليمي يشتعل بين بلاطات هذه الدويلات، وكثيرا ما تحول إلى حروب وفتن داخلية، وللحياة الادبية والفكرية والشعرية في خارج بغداد، كانت في نمو استطرادي محتوم رغم مظاهر الانحلال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي... لذلك انقسم الولاء للقواد والملوك المسيطرين على هذه الدويلات، وصار الشعراء يترددون بين حين واخر على هذا أو ذاك، بغية ترسيخ الولاء له وكسب المغنم المالي منه!
وأبو الطيب المتنبي شب محبا للثقافة... مجلا للاناس الذين عطفوا عليه «كجدته» مثلا وفي ما بعد «خولة» شقيقة سيف الدولة الحمداني، والمتنبي لا يذكر امرأة او رجلا صنع معه معروفا انسانيا الا ومدح في خصاله وصوره بأجمل الصور الشعرية والبلاغية، ليخلد في عالم الادب والشعر عامة، وحياة المتنبي كانت حافلة بالاحداث والصدامات مع شتى الخصوم ولم يأبه لاحد في منازلة الشعر ايا كان هو، وقد لمعت موهبته الشعرية حينما استضافه سيف الدولة كما وأنه كان من المع شعراء حلب والعراق ومصر وشيراز، وعروبته هي عنوان تأهله الشعري والفني، وسيرة ابو الطيب المتنبي غنية في المعاني والدلائل التي تفرض على المرء الانصياع لها والتمسك بمبادئ المتنبي الصحيحة، وحادثته في نهاية حياته مع كافور الاخشيدي حاكم مصر، حكاية تبرز لنا الجانب الفكاهي والتهكمي في حياة هذا الشاعر العملاق، فبعد ان غادر المتنبي حلب وهو يحمل في نفسه الوانا من المرارة والخيبة واليأس قصد كافور الاخشيدي ممنيا نفسه بولاية يمنحها إياه بعد ان هبط من علياء احلامه في حلب.
فأنشد لكافور هذه الأبيات:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله
فأني أغني... منذ حين، وتشرب؟!
وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنت أرجو ان اراك فأطرب!
ولكن كافور تجاهل ابو الطيب المتنبي في مناله، وصار لا يعطيه اي اهتمام، وما وعده به صار إلى حيث كان في قديم الزمان، وابو الطيب المتنبي لم يكن ليخلق ذلك الرجل ولا غيره ممن يلعبون عليه او يصرفون كلامهم معه، فهو سيد الكلام وبطله وشاعر الشعراء، فمن ذا الذي يقارئ الكأس باثنين؟ كافور الاخشيدي الحبشي الاصل، والذي كان عبدا لرجل من اهالي مصر يدعى محمود بن وهب بن عباس، اشتراه منه ابو بكر محمد بن طفح، بثمانية عشر دينارا ويريد ان يضع المتنبي موضع الفرجة للضحك ليس الا! وقد تنبه له ابو الطيب جيدا وعلم ان كافور يحمل الشيء الكثير عليه، ويريد ان يهدم كيانه الشعري، ويجرده من اي مبتغى ينوي كسبه، وفي عيد الاضحى وكان ابو الطيب المتنبي قد قارع كؤوس الخمر ما طفح به الكيل وقد استاء من حالته ومن الوضع المزري الذي وصل اليه في مصر على يد كافور... فأنشد يقول:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
اما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
يا ساقيي أخمرا في كؤوسكما
أم في كؤوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا مالي لا تعر عني
هذي المدام ولا تلك الاغاريد
ماذا لقيت من الدنيا واعجبه
إني بما انا شاك منه محسود
وبعد ان اعتصر الهم قلب شاعرنا الكبير، وصار فرجة لكافور وزمرته... رد بأعنف الكلام وأشده قسوة عليهم ولم يأبه لحكم ولا ملك ولا لهذا ولا لذاك، وتلمس معي الجانب الفكاهي في شعر المتنبي وهو يذم كافور:
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم
الا وفي يده من نتنها عود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد؟
إلى ان يصل إلى هذا البيت اللاسع وهو يصف كافور حيث يقول:
لا تشتر العبد الا والعصا معه
ان العبيد لانجاس مناكيد!!
وله أيضا رد لاذع على كافور يقول فيه:
من علم الأسود المخصي مكرمة؟
أقومه البيض، أم اباؤه العبيد
أم اذنه في يد النخاس دامية
أم قدره، وهو بالفلسين مردود!
وان كان المتنبي ناقما على كافور في هذه الابيات اللاذعة واللاسعة في الوقت نفسه لنكثه لعهوده، الا انه جعل لابي الطيب المتنبي جانب فكاهي قلما تجده لدى شاعر اخر يستحق ان تسطر سيرته مسرحيا؟ وما اجملها من مسرحية فكاهية يكون بطلاها ابا الطيب المتنبي، وكافور الاخشيدي!
5
2K
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصراحه ما قريته بس لي رجعه ان شاء الله للقراءه بس قلت لازم ارد عليك يسلموا عالطرح
جوري والقمر نوري :الصراحه ما قريته بس لي رجعه ان شاء الله للقراءه بس قلت لازم ارد عليك يسلموا عالطرحالصراحه ما قريته بس لي رجعه ان شاء الله للقراءه بس قلت لازم ارد عليك يسلموا عالطرح
الله يسلمك اختي من كل شر
الصفحة الأخيرة
لا اله الا الله