الملايين
الملايين
صباح الأربعاء

في السادسة فجراً استيقظت لأصلي الفجر وبقيت أدعوا لنهلة الحبيبة وزوجها – أبو دواس-هي وزوجها يسكنان في غرفتين ملحقتين في المدرسة...


تذكرت وجه أبي دواس الأسمر اللطيف يبتسم بخجل ويغض نظرة عندما يتحدث .


(ما قال : لا قط إلا في تشهده ..
لولا التشهد كانت لائه نعم !!)



رجل رائع منظم مرتب دقيق في عمله .أشعر بالغبن عندما أجد رجلاً رائعاً مثله يصارع الحياة في وظيفة هي أقل من إمكانياته بكثير. كان يذكرني عبر (الانتر كم) بأشياء أنساها أنا كمديرة للمدرسة ويذكرني بالإصلاحات .- لا أعرف -كيف سيكون وضعنا لو لم يكن معنا هذا الرجل المنظم الدقيق.


كانت نهلة تحكي لي وتقول : في يوم الأربعاء نخرج لنتنزه أنا وهو والأولاد في الحديقة المجانية في (الديرة) وليلعب الأطفال قليلاً .
وبعد أن يشبعوا لعباً ولهواً يشتري لهم شطائر (شاورما أو فلافل ) مع العصير على سبيل التغيير ....رغم فقرنا يا أستاذة غالية . لكنه إنسان يهتم بكل جوانب الحياة حتى الترفيه.....لم اشعر معه يوماً بأننا أقل من الناس...مرة أردت أن ازور أخوالي في قرية (وردة الحناء)..
والنساء في وردة الحناء...
يقيمن للمرأة بكمية الذهب التي ترتديها وقد ألححت عليه أن اشتري إكسسوار لأغيض نساء القرية و عندما اخترت عقداً كبيراً ( فالصو ) ضحك قائلاً: لو ظنت نساء الوردة أنني اشتريت لك عقداً بهذا الحجم فربما نتعرض لجريمة قتل بهدف سرقة هذا العقد !! اتركيه يا نهلة واختاري عقداً أصغر.. وضحكت مع نهلة.
كم أحب هذا الإنسان ( عم أبو دواس) وادعوا أن يشفيه الله.

***.


توقفت سيارة عواد على جانب الطريق ليصلي الفجر مع جواهر .. خمس دقائق ثم واصلا المسير..وأشرقت شمس الصباح مبتسمة لكل الذين استيقظوا ليحيوها ويبحثوا عن رزقهم في الحياة!!
***.
الملايين
الملايين
ما كادت جواهر تنهي عشاءها مع طفلتيها حتى تلألأت شاشة هاتفها الجوال برسالة جديدة:


( دايم يعيرني يقول أنتي متين!!

حلقك المفتوح لازم نغلقه
هيه يادبة لزوم تخففين

ولا أثور فيك عشرين فشقة
وفي رجيمي استمريت سنتين

جدي اللي مات بغيت الحقه
ويش رايك قلتها بصوت حزين!!

قال دبة وانقلبتي لسلقــــــــة!!)



هههههههههههههههههه
كانت رسالة طريفة من صديقتها عواطف غازي والتي تقيم في مدينة أخرى

وإن كانت جمعتهما الدراسة في الثانوية سابقاً ولازالت رسائل الجوال تربط بينهن

ضحكت جواهر وهي تقول: الله يرحم حالك يا عواطف

ثم اتصلت بها هاتفياً: فهي تمتلك هذا الشهر ساعة مجانية من نقاط قطاف قررت أن تنهيها في الحديث مع عواطف
-أهلا توفي (دلع لاسم عواطف)
- اسمعي أنني انتظر اتصال من الجريدة لا أريد أن أشغل الخط
- أي جريدة

- لقد أرسلت فاكس إلى الجريدة أحكي فيها معاناة موظفات البند وانتظر اتصالاً منهم عند نهاية وصول الفاكس إليهم لا أريد أن أطيل المكالمة,


حسناً أتسمحين أن ترسلين لي نسخة من الفاكس :
خلاص سوف أرسله لك عن طريق الوسائط استقبلي
كانت رسالة عواطف تنطق بكل معاناة موظفات البند:
الملايين
الملايين
رسالة عواطف إلى الجريدة

حلم "الترسيم" طال انتظاره فهل من حل؟

إلى من يهمه الأمر من الإخوة المسؤولين

أتقدم باسمي وباسم جميع موظفات إلى المسؤولين بالنظر في حالنا الغريب ووضعنا الأليم حيث عملنا بمدارس

دون كلل أو ملل لنقوم بمناصفة المعلمات جميع أعمال المدرسة من شرح وتدريس من مختلف المواد والقيام بجميع
الأعمال والأنشطة الصفية واللاصفية يداً بيد لا فرق بيننا. إخوتي ... إنني أتأمل أن تمنحونا من وقتكم الثمين ببضع
دقائق بالنظر إلى وضعنا الأليم ولو عن بعد لتروا إلى أي حال وصلت معاناتنا.. إننا نخرج في أواخر الليل إلى مدارس
قد لا تتوقعون كم تبعد عن مقر سكننا في طريق تحطيه المخاوف والأخطار لنجوب الصحارى والوديان وفي
مواسم هطول الأمطار نذهب لمقر عملنا وصاعدات من أجل الحفاظ على هذه الوظيفة ذهاباً وإياباً طيلة العام ا
لدراسي وليت الحال يبقى على هذا فنفاجأ كل عام بتجديد عقدنا في مدرسة غير التي كنا بها العام الماضي
حسبما تراه إدارة التعليم بحجة سد العجز في أي مدرسة كانت لو شاءت ولا يهم كم تبعد وأين تقع؟.



لنتقاضى أجراً بسيطاً نهاية كل شهر.. ليحصل السائق الذي يقوم بنقلنا للمدرسة على أجرته التي
قد تصل أحياناً إلى ثلث الراتب.




ومع هذا تقطع تلك المكافأة البسيطة أو هذا الراتب البسيط في فترة العطل والإجازات دون مراعاة لأي
حق. لنقعد في منازلنا


محبطات ومكسورات على أمل الانتظار في تجديد العقد في عام دراسي جديد وقد لا يعود مرة أخرى.
. في كلتا الحالتين لا شيء


جنيناه سوى التعب والمشقة ومع هذا كله صمدنا في طريق مواصلة العمل الذي أنهينا الدراسة من
أجله لنجمع سنوات من الخبرة


التي تؤهلنا لمواصلة سير التعليم في بلادنا وحصلنا على تقارير في أدائنا الوظيفي
لا يقل عن تقدير جيد جداً. إخواني...


فنحن نشغل حيزا كبيرا في مدارسنا ونقوم بسد العجز بجميع أنواعه أيا كان ومهما وصلت
صعوبته علينا، وقد يكون في الأمر شيء


من الغرابة لو تعلمون أن محدثتكم في هذا الخطاب مديرة مدرسة ابتدائية على البند مدة ثلاث سنوات
إضافة إلى قيامي بتدريس

اللغة الإنجليزية للصف السادس الابتدائي، وفي قرية تبعد 78 كيلومتراً عن مقر السكن وهذا هو أقل
تقدير لمسافة المدرسة التي أعمل فيها هذا العام.

وحالي هو حال أية معلمة على البند تعاني من ذلك البند

الظالم والقاسي على حياتنا الذي أخذ منا كثيراً ولم يعطنا سوى أقل من القليل
الملايين
الملايين
مر شهر كامل على وفاة بواب المدرسة (أبو دواس) وذهبت لأزور نهلة في بيتها الملحق أصلاً في المدرسة وقد وعدتها أن أحضر معي الغداء الخاص لها ولأطفالها مع بعض الهدايا والألعاب قدمها لهم صاحب أحدى محلات الألعاب (حامد الحمد) رجل من كبار أهل الخير

ويعمل إمام لجامع المجمع القروي الذي نقطنه


تجاذبت الحديث مع نهلة وكانت لا تفتر من الحديث عن زوجها حتى إنها التفتت إلي قائلة : اتصلي برقم أبي دواس الذي في جوالك!!(اغديه يرد)
قلت لها: نهلة أجننتِ!!


- اصدق انه مات ولكن لا تحرميني من شعور الاتصال به!! اتصلي أرجوك فقط أريد أن اتصل وحتى لو كان الهاتف مغلق!! أريد فقط أن استمتع باسمه وهو ظاهر على شاشة التلفون!!


وهي تمسح الدموع عن خديها و تنتحب ...
تمزق قلبي من الهم فما لذي يمكن لي أن أفعله أمام أرملة مسكينة تفجع بوفاة زوجها وتيتم أطفالها وتتحمل مسؤولية هي أكبر من حجمها حقيقتاً ومن عمرها .


قلت لها وأنا أحتضن طفلتيها
: نهلة يا حبيبتي إن الله أختاره شهيداً وقد شاهدتيه في رؤيا قبل أسبوع يقول لك أنني حي ارزق وفسرها لك الشيخ أن الله تقبله شهيداً..لا تكوني أنانية وأفرحي له بالنعيم المكتوب عند ربه ..أم أنك تغارين من الحوريات؟؟.


قالت: أوه غاليتنا ..... اوه غاليتنا....عندما حصل الحادث كدت أن أجن وأنا أشاهد زوجي ينزف أمامي تصدقين اتصلت بالإسعاف وبعد عناء رد علي موظف أجنبي وأخبرني أن الحوادث في قريتنا ليست من اختصاصهم بل هي من اختصاص إسعاف قرية وردة الحناء
ثم عاودت الاتصال بإسعاف قرية ( وردة الحناء) فرد علي موظف ليخبرني إن الحوادث في قريتنا من اختصاص إسعاف المجمع القروي

ظلت تردد: كدت أن أجن

كدت أن أجن .... وزوجي ينزف أمامي ويصارع الموت – تساقطت دموعها الساخنة وهي تعتصر من القهر-


لماذا نترك ضحية لمزاجية موظف إسعاف كسول لماذا لا يتم تنظيم هذا الأمر !!


أكملت بغيض : لماذا لا يوجد رقم موحد لاستقبال اتصالات الإسعاف وليقم صاحب الرقم بتوجيه السيارات إلى المكان المناسب ....استمرت تحكي بقهر:
ظل ابو دواس ينزف وينزف


وبعد عناء أخرجه أحد الرجال ونقلة إلى المستشفى وأنا معه وتم عمل العملية وقال الطبيب لو تم إحضاره في بداية الحادث لما توفي .!!


قلت لها: أنه القدر يا حبيبتي فاحمدي الله على سلامتك أنت


قاطعتني : بل هو تقاعس سيارات الإسعاف وتهربها هو الذي قتل حبيبي.......هو الذي قتله........!
أنتِ لا تعرفينه يا أستاذة غالية –مثلي- لا تعرفينه !!


كم كان رائعاً!!


كم كان رقيقاً!!


أنصت لها وقد قتلني الهم لأني أعجز عن أن أقدم لها شيئاً وواصلت هي كلامها:


... سأبوح لك بسر..كنت دائماً ادعي التعب من الأطفال والأعمال المنزلية أمام زوجي فكان يسبقني بعد صلاة الفجر إلى المدرسة ويقوم بتنظيفها حتى لا أتعب أنا بالتنظيف ثم يقول لي : لا عليك يا نهلة لا عليك !!
تكفيك أعمال المنزل وسهرك مع الطفلة المريضة البارحة ....


كم كان حنون .جداً معي
واصلت كلامها وقد أصبح وجهها جامداً من الإحباط :

.أصبحت أتذكره كلما دخلت إلى هذه المدرسة. وإلى غرفة المخزن وأتذكر كلماته ولقد تعبت من تساؤل الصغيرتان عنه .


غصت الحسرة في قلبي وهناك كارثة حقيقية لا تعلم عنها نهلة – لقد أرسلت إدارة التعليم بعد تبليغنا عن وفاة البواب ابي دواس ..أن على نهلة أن تخرج من بيتها هي وأطفالها بعد انتهاء فترة العدة ليسكن فيه البواب الجديد.

كيف تتصادم الدنيا كلها مع أرملة شابة مثل نهلة !!


فقد وجدت نفسها فجأة في رحلة الحياة بلا زوج



وبلا بيت



وبلا سند.



وليس هناك راتب تقاعدي لزوجها فهو أصلا موظف على بند الأجر اليومي!! أي ان راتبه توقف منذ اليوم الذي مات فيه

لم أشأ أن أخبرها بذلك فأين ستذهب نهلة!!
الملايين
الملايين
حاولت مع إدارة التعليم أن يقوم دَواس بنفس وظيفة والده رحمه الله فهو قد أصبح يافعاً في السابعة عشرة من عمرة
ولكنهم رفضوا رفضاً قاطعاً لان (الشروط لا تنطبق عليه).


سبحان الله لا أدري لماذا تظل الشروط غير منطبقة على الفقراء وتتوسع ويصبح مقاسها (فري سايز ) لسواهم


أخبرت المعلمات بالذي حصل فتحمس الجميع لمساعدة نهلة . وقالت معلمة العلوم الدينية أستاذة فاطمة ومعلمة اللغة


الإنجليزية أستاذة الماسة : وإن كان النظام سيخرجها من بيتها فإنها أختنا ولن تخرج إلى الشارع ...


لا تخبريها بالحقيقة يا أستاذة غالية سنجمع لها التبرعات من بيننا ومن أقاربنا فإن كان مبلغاً كبيرا اشترينا لها ولو بيتاً


قديماً وإن كان مبلغاً قليلاً استأجرنا لها بيتاً إلى أن يفرجها ربك