مفتاح الأبواب المغلقة!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! !!!ّّّّّ

الأسرة والمجتمع

لطالما جاءتني استشارات من نساء متزوجات يشتكين من أزواجهن, وذلك بحكم اهتمامي بالمجتمع العربي ومشكلاته الأسرية والاجتماعية على وجه الخصوص, لكن بعض الاستشارات كانت تحفل بالشكوى من أهل الزوج وخاصة من أم الزوج والتي تطلق عليها أغلب المجتمعات العربية اسم "الحماة"؛ وعلى الرغم من أن تسميةً مثل الحمو والحماة تدل – برأيي- على اتساع حِمى الشخص الذي تصله رابطة النسب بعائلة جديدة غير عائلته, كما أن تسمية الصهر تشير – من وجهة نظري – على الانصهار بين الرجل والعائلة الجديدة التي يرتبط بها, فإن علاقة الرجل والمرأة بأهل الزوجة وأهل الزوج كانت على مدى عقود طويلة محط السخرية والتندر فاغتنى التراث الشعبي المعاصر بكثير من الفكاهات التي لم تكن المجتمعات العربية تعرفها سابقاً, مما يجعلني أرجِّح بأن تغير النظرة لمفهوم علاقة النسب يعود إلى التأثر بثقافة أجنبية وافدة, وهذا حالنا غالباً للأسف إذ نتأثر سلباً بما عند الأقوام الأخرى.

كي تحوي مقالتي تأثرا إيجابياً بالثقافة الأجنبية في هذا الموضوع, فقد اخترت أن أقص على القراء الكرام حكاية مقتبسة من التراث الصيني, وصلتني عبر البريد الالكتروني باللغة الانكليزية على أنها مجهولة المصدر, فالكاتب غير معروف هل هو ذو ثقافة شرقية أم غربية, لذا وجدت من الأفضل تحويلها كاملة إلى الثقافة العربية وليس فقط إلى اللغة العربية, دون أن أنسب الفكرة لي, بل هو مجرد أسلوب لعبت على حباله لعلّ الحكاية تصل غايتها المطلوبة وهي رضا واستمتاع القارئ من جهة, واقتناعه بأحقية الفكرة ومناسبتها لكل عصر ومصر من جهة أخرى؛ وهاكم القصة:

تربطني صداقة حميمة بجارتي التي تكبرني بأعوام وأعوام, نكاد معها نبدو كابنة وأمها, وهي وإن كانت قد تخطت سن الكهولة والنضج وولجت سن الشيخوخة والحكمة, فإني لم أشعر يوماً إلا بروح الشباب تدثّر أعطافها؛ فالابتسامة مشرقة دائماً على وجهها, والكلمة الطيبة تسبق إلى فمها, والعذوبة تقطر من لسانها, والنظرة المحبة للحياة تنبثق من عينيها, مما دفعني يوماً إلى سؤالها عن سر هذه الروح المتوثبة المتفائلة المحبة للبشر, فانفرجت شفتاها عن ابتسامة ودودة حملت نقاء قلبها كإشراقة طفل على وجه شيخ؛ أتبعتها بسؤال لطيف: هل تعدينني ألا تفشي سري لأحد إذا أطلعتك عليه؟

وعدتها بذلك, فانسابت تحكي لي قصتها بوجدانها ولسانها معاً, قائلة:

منذ أكثر من خمسين عاماً كنت في نهاية مرحلة الطفولة وبداية مرحلة المراهقة كما تسمونها الآن, إذ لم تكن هذه التسمية معهودة في زمننا, لأن الطابع العام للناس كان هو الرضا وعدم التذمر, وخصوصا أمام الأكبر سناً؛ كنت ذات مرة ألعب في غرفتي مع ابنة الجيران بالعرائس التي كانت تخاط في تلك الأيام من القماش وتحشى بالقطن, فنادتني أمي قائلة لي أن والدي يريد الحديث معي؛ وكان رحمه الله وقوراً وليس من عادته أن يتحدث إلينا بأمر إلا فيما ندر, بل طلباته وأوامره تُنقل إلينا عادة بواسطة الوالدة التي كانت تهابه كما نهابه نحن تقريباً, فاستأذنتُ صديقتي وهرعت إلى أبي في غرفته, فإذا سيماء الجدّ تلوح على محيّاه أكثر من ذي قبل, وإذا به يطلب مني أن أضع علي ملابس مناسبة لأدخل على ضيوفه الرجال, وهم الشيخ الذي سوف يعقد قراني على الرجل الذي سيكون زوجي, وشاهدان هما خالي وأخي الكبير, ولم يكن ثمة مجال للاستفسار أو الاعتراض أو التساؤل, فأذعنت لأمر والدي وخرجت فوجدت أمي تنتظرني بلهفة, ثم أخذت بيدي واختارت لي ثوباً جميلاً من دولاب ملابسها بدا فضفاضاً علي وغطت شعري بخمار سابغ, وقالت لي: إذا سألك الشيخ هل تتزوجين ذلك الرجل؟ فكوني خجولة واصمتي ولا تجيبي.

كنت مشدودة بكل جوارحي لقصة جارتي فلم يَسع مخيلتي أن ترسم صورة كاملة للطفلة التي ستغدو امرأة بين عشية وضحاها, وتابعتْ قائلة: كان السمع والطاعة هو السائد في ذلك الوقت, ففعلت كما أمرتني أمي, وكنت في داخلي - وإن لم يخبرني أحد- أعلم أن صمتي يعني رضاي بهذا الرجل الذي لم أره من قبل, وبالطبع عندما دخلت مجلس الرجال لم أستطع رفع عيني عن موطئ قدمي, وإن كنت قد لمحت طرف عباءة الشيخ وأُفلتت لمحة أخرى مني فرأيت حذاء مختلفاً عن أحذية أسرتنا, فعلمت أن منتعله هو من سيكون زوجي؛ وبما أنه كان قريباً لنا ولو من بعيد, فإن عقد قراني تَمّ دون أن يزيد مهري على دراهم معدودة كما أعلمتني أمي فيما بعد, لأن الحياة كانت بسيطة وقتها والناس يأمنون بعضهم بعضاً اعتماداً على أعراف اجتماعية خيرةً تداولوها كابراً عن كابر.

كانت التقاليد تفضي بالمتزوجة حديثاً لتعيش في كنف أسرة زوجها, فمن المعيب أن يسكن الرجل في غير منزل أهله وإلا اعتبروه عاقاً لهم, وهكذا كان مصيري, ووجدت نفسي خادمة مطيعة لأهل زوجي, ولم يكن يخفف عني هذا العبء المضني سوى حبه لي وإن كان لا يظهره أمامهم كي لا يطلقوا عليه من الألقاب الشائنة ما يعيب رجولته ويقلِّل مكانته, ولم يكن هذا ليضيرني, فثقافة المجتمع - كما قدمت لك - هي السمع والطاعة للأكبر سناً سواء كانوا هم الوالدان أو والدا الزوج أو غيرهم, لكن ما كان يؤرقني هو والدة زوجي التي كانت لا تكف عن انتقادي, فمهما فعلت لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب كما يقول المثل, وربما كانت على حق وقتها لأني فعلا كنت لا أتقن الكثير من الأعمال المنزلية, وإن كنت سابقاً أهوى تحضير أطباق الطعام مع والدتي, لكني مع حماتي ولكثرة انتقاداتها لي كنت أهرب من مساعدتها وألجأ إلى غرفتي, فتزيد من تأنيبها لي فأنا في نظرها كسولة لا أحسن إلا اللعب والضحك والنوم, وكم حاولت وحاولت أن أغير نظرتها لي بالتفاني في خدمتها ومساعدتها, لكن نظرتها السوداوية لي لم تتغير, وأسلوبها المنتقد لي لم يخفّ, ولسانها الحاد لم يكلّ, فأصبحت أشكو لزوجي تصرفاتها دون أن يستطيع فعل شيء سوى تذكيري بأنها أمه وأنّ من واجبي أن أحتملها وأسعى إلى رضاها؛ فلم يكن مني إلا أن حاولت الخروج على سيطرتها, مرة بالكلام ومرة بفعل عكس ما تأمر به, حتى زادت الفجوة بيني وبينها؛ ولم يكن ثمة مجال لإصلاح أو شكوى لأهلي, فأمي لا تنقل لأبي ما أنقله لها عن حالتي, بل تحدثني في كل مرة عن فضائل الصبر حتى كرهت تلك الكلمة "الصبر" وتحولتْ حياتي إلى ما يشبه الجحيم, فماذا فعلت حتى أتخلص من هذا الكابوس؟

اغتنمت فرصة وجودي مع والدتي في السوق في إحدى المرات القليلة التي كنت أخرج فيها؛ فغبت عن عينيها برهة ودلفت إلى دكان العطار الذي يعرفني منذ كنت طفلة, وأخبرته بمشكلتي مع حماتي, وطلبت منه أن يساعدني بإعطائي سماً لأضعه في طعامها, ففكّر العطار قليلا, ثم قال لي: هل تعدينني أن يبقى الأمر سراً بيننا وأن تنفذي ما أطلبه منك تماما؟ فأجبته بالإيجاب, فدخل إلى غرفة خلفية في دكانه, وعاد وبيده لفة فتحها أمامي فرأيت فيها شيئاً أشبه بالبهار الأبيض, ثم قال: هذا طلبك؛ عليك أن تضعي مقداراً قليلاً من هذه المادة كل يوم في طبقها الخاص, بحيث يتغلغل السم في جسد حماتك تدريجياً وليس بشكل فجائي, وذلك كي لا تموت بسرعة فيشتبهون بك, فتقومين بالاعتراف علي فأخسر سمعتي بين الناس وأتحول إلى مجرم, وأنا إنما أريد مساعدتك, ولذا فمن واجبك كي لا يشكّ بك أحد أن تعامليها أحسن معاملة هذه الفترة وكأنها والدتك الحقيقية بل كأنها ملكة إن استطعت.

شكرت العطار من قلبي, وعدت إلى منزلي وقد عزمت على تنفيذ ما طلبه مني حرفياً كي تموت دون أن يشعر أحد بأني سبب موتها, وهكذا زين لي شيطاني أن أتخلص من تلك المرأة التي أحالت حياتي إلى نكد وهمّ وحزن, فإما طلاقي من زوجي الذي يحبني, وإما هلاكي ومرضي بسبب قسوة معاملتها, وهكذا مضى اليوم وراء اليوم وأتى الشهر وراء الشهر, وأنا أتقرب منها وأتزلف إليها ولا أدع أحداً يخدمها سواي حرصاً مني على أن أضع لها في طبقها شيئاً من تلك المادة السامة حتى يحين أجلها الذي لم أكن أتخيل إلا أنه حاصل اليوم أو غداً.

مضت شهور ستة, وحماتي لم تمت, لكن لطيب معاملتي لها تلك الفترة وإغراقي إياها بالشكر على ما صنعت وما لم تصنع, وطاعتي لها على ما اقتنعت به من كلامها وما لم أَقْنع, انقلب حالها معي وتغيرت معاملتها لي فأصبحتُ أحبّ إليها من ابنتها التي ولدتها, وصارت لا تخرج إلى مكان إلا وتصطحبني معها, وحيثما وجدت أحداً من معارفها قدمتني لهم على أنني أفضل امرأة تحلم بها أم كزوجة لابنها, ورويداً رويداً تحوّل كرهها في قلبي إلى حب, فصرت أقدم لها ذلك الطبق دون أن أضيف إليه السمّ, ولكني خشيت أن تسبب الكمية التي تناولتها سابقاً أي تأثير قادم أو أذى مقبل على صحتها وجسمها, فذهبت إلى ذلك العطار أسأله المعونة على استخراج ذلك السم من جسدها, وأخبرته أنها تغيرت وأصبحت معاملتها لي كمعاملة الأم لابنتها, فجاءني جواب العطار وكأنه ماء بارد سُكب على جسدي:

لا تقلقي يا ابنتي, فتلك المادة التي أعطيتك إياها ليست سوى مادة مقوية لجسدها ليتمكن من مقاومة الشيخوخة. السم الحقيقي كان في نظرتك إليها فأنت لم تتقبليها كأم, فأصبحت بالنسبة لك عدوة, أما عندما عاملتها بالحب واللطف فقد عاملتْك بالمثل, وهكذا انسحب السم كله من عقلك وقلبك, فبالحب وحده تزول كل سموم الحياة.

ختمت جارتي العزيزة قصتها قائلة: عاملي الناس بالطريقة التي تريدين أن يعاملوك بها مستقبلا, فكل من يحبّ الناس سيكون محبوباً لهم, وربما كان لله حكمة أن يغيّر الأشخاص الآخرين من خلالنا نحن.

مغزى هذه القصة ليس جديداً على تراثنا المضيء, فكسب الصداقة أفضل بكثير من مواجهة العداوة, أو ليس ذلك في ثقافتنا المستمدة من القرآن الكريم:{ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}؟ صدق الله العظيم.

نشرت في مجلة الدبلوماسي الصادرة عن وزارة الخارجية السعودية عدد سبتمبر 2006

ليلى أحمد الأحدب
12
851

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

"أم زياد"
جزاك الله خيرا
وسلمت الأنامل
tanweer
tanweer
مشكورة على هاي القصة الهادفة
بصراحة 0000000000
شفتها مسلسل من مرايا (ياسر العظمة )
وهي مسلسلات هادفة وإجتماعية
راجية رحمة ربي
سبحان الله استغرب من هالزوجات وكرههم لامهات رجالهم على الاقل قامت ولا قعدت مره عجوز وحقها حتى لو كانت ظالمه احترام شيباتها
الف شكر على الطرح الموفق
~ M!Ss AmOoOlA ~
~ M!Ss AmOoOlA ~
جزاك الله خيرا
لحظات ولكن
لحظات ولكن
جزاك الله خيرا