كان يأتي إلى المسجد الوحيد في المدينة من مكان بعيد جدًا لأداء صلاة الفجر، وعلى الرغم من الخطورة الأمنية التي تمنع كثيرًا من الناس من الحركة في هذه الساعة المبكرة من اليوم، إلا أنه كان حريصًا أشد الحرص على ذلك، وسمعته يقول: منذ أن قرأت قول النبي صلى الله عليه وسلم : "بشّــر المشائين في الظلم إلى المساجـد بالنـور التام يــوم القيامة"، وأنا حريص على أن أكون من أهل هذا الحديث ـ إن شاء الله ـ.
سألته: ما الذي دعاك إلى الإسلام..!؟
فقال: ولدت في جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي لأب مسلم وأم نصرانية، كنت أرى أبي يؤذن في البيت ويصلي، ولكني ما كنت أعرف ماذا يفعل، فقد توفي وعمري سبع سنين، كل الذي أدريه أنه أسرَّ إليَّ في مرض وفاته قائلاً: "أنت مسلم، يا ولدي.. إياك أن تذهب إلى الكنيسة مع أمك.. أنت مسلم، أليس كذلك؟!" ثم فارق الحياة..
نسيت وصية أبي.. أو قل: لم أكن أفهمها. وذهبت إلى الكنيسة، فقد كانت أمي كاثوليكية متدينة، وما كنت أقتنع بكثير مما أسمعه أو أراه.. فلما كبرت كنت أتفلت من قيود الكنيسة، واشتغلت بالتجارة، فانفتحت عليَّ الدنيا، فازدادت غفلتي وبعدي عن التفكير بجميع الأديان.
حتى جاء اليوم الذي سافرت فيه إلى جزيرة (جاميكا) لغرض التجارة، كنت أسير في أحد شوارع العاصمة، وفجأة.. سمعت صوتًا رخيمًا متخشعًا ينادي بالأذان، ما كنت أعرف ماذا يقول، ولكني تذكرت أذان والدي، تذكرته وهو يشدني على صدره، والدموع تملأ عينيه، ويقول لي: "أنت مسلم.. أليس كذلك؟!" وكأنه يستعطفني أو يستجديني، أحسست برعدة شديدة تسري في جسدي، لا أدري لماذا اقترن عندي الإسلام بالأذان، فما كنت أعرف عنهما شيئًا. وأخذت أرتجف، حتى انفجرت بالبكاء.. مشاعر كثيرة اختلطت في ذهني، وكأني وجدت شيئًا عزيزًا على نفسي طالما افتقدته. بكيت، وما كنت أبالي بنظرات المارة..
ذهبت أبحث عن مصدر الصوت، حتى دلوني على المسجد، فوجدت المؤذن رجلاً كبيرًا أميًّا لا يعرف شيئًا كثيرًا عن الإسلام، فعاجلته بالسؤال بعد السؤال، لكنه لم يشف غليلي، وإنما دلني على مكتبة المسجد، فما وجدت شيئًا أقرؤه إلا ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية. فأخذت أقرأ بنهم شديد، حتى وقفت على قول الله ـ تعالى ـ:
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذىن كفروا منهم عذاب أليم {المائدة: 73}،
فأحسست بهزة عنيفة أيقظتني من سبات عميق، وما بتّ تلك الليلة إلا وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
تأملت هذه القصة، ثم رجعت إلى نفسي، وقلت: كم هم أولئك الحيارى الذين يتخبطون في ظلمات الجاهلية شرقًا وغربًا، بل وفي ديار الإسلام، ومنهم من كانت أمهاتهم غير مسلمات ومع ذلك لم نحسن عرض الإسلام لهم بصفائه ونقائه ومحاسنه العظيمة. على الرغم من التقنيات الهائلة التي تميز بها هذا العصر، حتى إن (القرآن العظيم) لم يتيسر لنا ترجمة معانيه ترجمة سليمة خالية من الأخطاء المنهجية واللغوية إلى اللغات الحية فضلاً عن اللغات الأخرى.
إنَّ البشرية .. كل البشرية متعطشة إلى هذا القرآن العظيم لينقذها من حيرتها وتخبطها، وإنَّه أمانة عظيمة، فهل نعي هذا..؟!
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️