سنةٌ ونصفٌ هي المدةُ التي عملتُ بها تحت إدارته ، كانت أقتم وأشقى سنوات عمري ، أَتذكرها فأُحسُّ بألمٍ يسري في عروقي ، ونارٍ تشتعلُ في صدري ، أتذكرها فيذوبُ القلبُ ألماً ، وتتفتَّتُ الكبدُ كمداً ، أقبلتُ عليه باسم الوجه ، طيب اللسان ، صافي الجنان ، فعاداني من أولِّ أسبوع ، صبَّ عليَّ جام غضبه ، وأفرغَ فيَّ شحنة حقده ، كان بينه وبين رئيس الهيئة سوء فهم ، وخصامٌ لا دخل لي به ، وقبل أن أفِدَ عليه ، كان ذنبي أني صاحبتُ رئيس الهيئة ، فالطيور على أشكالها تقعُ ، وجَدَ في النيلِ منِّيْ نيلاً من خصومهِ ، وكان النيلُ مني سهلاً كوني أعمل تحت إدارته . تفنن في الضغط علي ، وأراد إهانتي لكن نفسي الأبية أبت إلا العزة والكرامة ، كنت ساعة بداية العمل أشد الساعات على نفسي. ونهايتها أحبها وأسعدها . حملت ما تَعْجَزُ عنهُ شمُّ الجبال لسبب واحد فقط .
(( أبـي )) . نعم أبي الذي تجشم الصعاب ، وقرع الباب ، وبذل كل الأسباب ، في سبيل نقلي وبقائي بقربه لكن شاء الله أن يكون الامتحان صعبا ، والابتلاء شديدا ، وتسبب هذا المدير بنقلي عن أحب الناس إلى قلبي ، وأقربهم إلى روحي ، فَفَصَلَتْ بيني وبينه آلاف الكيلومترات ، إي والله ، آلاف الكيلو مترات ، من الحدً إلى الحدً .
خمس سنوات في الغربة والحسرة والألم ، كان رفيقي فيها الصبر و الاحتساب . وعزائي فيها أمل اللقاء بالأحباب . حتى جاء ذلك اليوم الذي أظلمت فيه الدنيا واسود فيه الكون، وغارت فيه كل الكواكب والنجوم .
مـات أبي ، ومات معه كل حلم باللقاء بعد الفراق ، وكل أمل بالعناق بعد لوعة الاشتياق .
مات أبي ، وماتت معه بسمتي ، ورحلت عني فرحتي ، كفن دون أن أراه ، ودفن دون أن أقبل أنفه وفاه .
والله والله ، ما فتئت أدعو على من ظلمني في كل الصلوات ، وعلى مرور الأيام والسنوات ، فالجرح كان عميقا ، والظلم كان شديدا ،
مرت السنون وعدت إلى بلدي وأهلي ، وفي صباح كان فبه للقدر قضاء ، امتدت يد مجرمة آثمة ، فقتلتْ ذلك المدير .
لم أتشفَّي ولم أفرح ، بل حزنت ، وتألمت ، ولا أدري ربما بكيت لكنني مع كل هذا لم أسامح ، ولم أترحم ، ولم أدع ، فقد نالني منه مالم ولن أنساه ما حييت من الظلم .
واليوم ، وبعد أن مر على وفاة أبي أربع سنوات ، ومر على مقتل المدير قرابة السنة ، ومر على فترة قاتمة عملت فيها تحت إدارته قرابة الثمان سنوات . اليوم وأنا خارج من الجامع بعد صلاة الجمعة ، مررت بشاب ملتحٍ واقفاً عند سيارته وبجواره طفلان صغيران . لم أنتبه لهما جيداً فقد كنت شارد الذهن ، ألقيت عليهما تحية الإسلام وأنا أسير نحو سيارتي . فتحت الباب هممت بالركوب . التفت وإذا بالطفلين مقبلان علي ، . رحبت بهما . قبلتهما . ابتسمت لهما وأنا أطرح عليهما سؤالا : من أنتما يا حبيبيَّ ؟
جاءت الإجابة كالصاعقة على قلبي ، جعلتني أقف باهتا ، ألجمني الصمت وبدأ فكري يعيد شريطا من الذكريات المؤلمة ، سنوات من الألم والحسرة .
(( نحن أبنــاء فــلان بن فــلان ))
يا الله ، رحماك ، رحماك ، فلان !! فلان !! له الآن قرابة السنة تحت الجنادل والتراب .
من الشــاب الذي معكما يابني ؟
إنه عمنا .
عمكما . أحسنت يا عمهما ، أحسنت أحسنت لقد عرفت كيف تُوَصِّلُ الرسالة . والله لو جاءت بغير هذا الطريق لما حصل ما تريد.
اطمئن أيها العم ، اطمئنا صغيري .
ســـــامح اللـه والدكمــا وغفــر له وأسكنــه فسيح جنــاته .
بقي أن تعلموا أنَّ هذه القصة ليست من نسج الخيال ، ولا من حديث البال ، بل هي تعكس واقعاً مريراً اليماً ، عشتُ أحداثه سنوات مضت ، وأعوامٍ سلفت ، كان آخر أحداثها هذا اليوم الجمعة الموافق 7/1/1425 للهجرة النبوية المباركة .
سنةٌ ونصفٌ هي المدةُ التي عملتُ بها تحت إدارته ، كانت أقتم وأشقى سنوات عمري ، أَتذكرها فأُحسُّ...
صدقت ..