زهرة كريستالية
وقد عرف السلف الصالح رضي الله عنهم منزلة هذه الصلاة، فحافظوا عليها، بل أحبوها واشتاقوا إليها، كيف لا وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر أو أصابته شدة فزع إلى الصلاة، وكانت قرة عينه في الصلاة، وكان ينادي بلالاً فيقول: "أقم الصلاة؛ أرحنا بها يا بلال".
بل لم يكن يكتفي بهذه الصلوات المفروضات من شدة حبه للصلاة، فكان يقوم الليل يحييه بالصلاة ويطيل الصلاة ، اسمع إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه).


وانظر إلى الفاروق رضي الله عنه يعلنها مدوية: (ألا إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن ضيعها فهو لما سواها أضيع). ولما طُعن رضي الله عنه وحُمل إلى بيته فغشي عليه قالوا: إنكم لن توقظوه بشيء مثل الصلاة. فقالوا له: الصلاة يا أمير المؤمنين، فأفاق وقال: أصلَّى الناس؟ قالوا: نعم. قال: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه ليثعب دمًا.


أما بلال بن رباح رضي الله عنه فحاله مع الصلاة عجيب، فإنه ما توضأ وضوءً في ساعة ليل أو نهار إلا صلى به ما شاء الله أن يصلي، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني سمعتُ دف نعليك بين يدي في الجنة".



أما عدي بن حاتم رضي الله عنه فكان يقول: (ما دخل وقت صلاة حتى أشتاق إليها).
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقرأ القرآن في ركعة، وأبو سفيان رضي الله عنه كان يصلي في الصف نصف النهار ثم يمسك إذا كان وقت الكراهة ثم يصلي من الظهر إلى العصر
.



وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليوم الذي مات فيه يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي فإذا اقترب الفجر كان يوقظ الناس للصلاة فيقول: الصلاة الصلاة.
زهرة كريستالية
وقال ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك.


وهذا سيد العبّاد بعد الصحابة – كما سماه الشاطبي – سيد التابعين أويس بن عامر القرني – رحمه الله تعالى – يحن إلى الصلاة حتى لا يكاد يفارقها، فقد ذكر الربيع بن خيثم، قال: أتيت أويسًا القرني فوجدته قد صلى الصبح وقعد، فقلت: لا أشغله عن التسبيح، فلما كان وقت الصلاة قام فصلى إلى الظهر، فلما صلى الظهر صلى إلى العصر، فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب، فلما صلى المغرب صلى إلى العشاء، فلما صلى العشاء صلى إلى الصبح، فلما صلى الصبح جلس فأخذته عينه، ثم انتبه، فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ بك من عين نوّامة وبطن لا تشبع.
ولا تعجب أيها الحبيب، فهذا الرجل كان يقول: لأعبدنّ الله في الأرض كما تعبده الملائكة في السماء.


اين نحن من هؤلاء
نسأل الله أن يجعل قرة أعيننا في الصلاة وفي طاعته، والحمد لله رب العالمين
*هبة
*هبة









نبدأ من جديد :

ساعة حساب

بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله صل الله عليه وسلم ، وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد ..
أحبتي في الله ...
أسأل الله تعالى أن يعيذنا من همزات الشياطين ، ونعوذ بك ربنا أن يحضرون ، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم بارك لنا في رجب ، وبارك لنا في شعبان ، وبلغنا رمضان ، وارزقنا فيه حسن العمل الصالح الذي يرضيك عنا يا رحيم يا رحمن .
نعم أثلج صدري ردود من تجاوب مع رسالتي إليكم بالأمس ، وسنمضي إن شاء الله على الدرب ، ونبدأ بداية جديدة في هذا المشروع ، نستهلها اليوم بوقفة حساب .

أريد منكم اليوم :

(1) هل تذكر الذنوب العشرة التي ستتخلص منها قبل رمضان ماذا صنعت في ذلك ؟؟
(2) كم صرت تستغفر كل يوم ؟ وهل تديم الحمد ؟ وهل صرت تلهج بالذكر ؟
(3) وفي كم تختم القرآن ؟؟ وكيف حفظم للآيات الخمس كل يوم ؟؟

(4) ما حظك في عبادة التبتل والخلوة بالله ؟
(5) كيف هي الصدقة اليومية ؟
(6) وما أخبار الصيام في الصيف لندخره لعطش يوم القيامة ؟
(7) وما بال القيام هل وصلت إلى أن تقوم كل يوم بمائة آية ؟
(8) وهل اجتهدت لأجل الحقائب الرمضانية لتوزيعها على الفقراء في رمضان ؟
(9) وكيف حالك في أعمال البر
( عيادة المرضى .. كفالة الأايتام .. السعي على الأرملة والمسكين ....الخ ) ؟
(10) وكيف حال ( حسن الخلق ) مع الناس ؟؟

هذه أسئلة عشرة لنقف وقفة محاسبة ، ونبدأ في تصحيح المسار في هذا الزمان .

استمعوا لمحاضرة : ( ساعة حساب )



ساعة حساب



شعارنا اليوم : سلامة الصدر

قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }

روى ابن ماجه وصححه الألباني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قيل يا رسول الله أي الناس أفضل قال كل مخموم القلب صدوق اللسان .
قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب ؟ قال : هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد .

وفي سير أعلام النبلاء (1/243) : دخل على أبي دجانة الأنصاري رضي الله عنه وهو مريض ، وكان وجهه يتهلل ، فقيل له : ما لوجهك يتهلل ؟؟ فقال : ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين ؛ كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، والأخرى : كان قلبي للمسلمين سليمًا .

واجبنا العملي :

- طهر قلبك من أي ضغينة لأي مسلم من المسلمين ، إذا كان بينك وبين أحد خصومة فاتق الله وكن أنت الافضل
قال صل الله عليه وسلم : " وخيرهما الذي يبدأ بالسلام "

- صل رحمك المقطوعة ، قال صل الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة : الصدقة على ذي الرحم الكاشح "

- ادع لأخيك بظهر الغيب ، وتذكر صفة أهل الإيمان الذين يحبهم الرحمن " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ "

اللهم لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، واغفر لنا ربنا ، وأصلح فساد قلوبنا ، واجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين .







ـ أم ريـــــم ـ
نعمة سلامة الصدر

اعلَموا أنَّه ليس أسعَدَ للمَرءِ ولا أشرَح لصدرِه ولا أهنَأ لروحِه من أَن يحيَا في مجتمَعِه بينَ النّاسِ صافيَ القَلبِ صفيَّ الروحِ سَليمَ الطِّباع مُنسلًا من وساوِس الضّغينة، وسَورَة الحقدِ، والحسد، والبغضِ، والتشفِّي، وحبِّ الانتصارِ للذّات والانتقامِ منَ النّدِّ، لَه سُمُوُّ قلبٍ يُعلِي ذِكرَه ويرفَع قدرَه، ترونَ مِثلَه مُهنِّئًا رَضِيًّا حينَما يَرى النعمةَ تنساقُ إلى أحدٍ غيره، مُدرِكًا فضلَ الله فيها عَلى عبدِه، فتجِدون لِسانَ حاله يَلهَج بقولِ النّبيِّ-صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داودَ وغيرُه: (اللّهمَّ ما أصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خَلقِك فمنك وحدك لا شريكَ لَك، فلك الحمدُ والشّكر).



ولا عَجَبَ في أنَّ طهارةَ مثلِ هذا القلب وزكاتَه لا تقِف عند هذا الحدِّ فحَسب، بل إنّه مَتى رأى أذًى أو بَلاء يلحَق أَحدًا منَ المسلمين أو يحُلّ قريبًا من دارِه أسِفَ لحالِه وتمنَّى له الفرجَ والغفرانَ من اللهِ، ولم يَنسَ حينَها أهمِّيّةَ وأدِ الفرح بتَرَح الآخرين في مَهدِه، فلا يلبَث أن تُسارِعه سلامةُ قلبه، ولِسانُ حالها يقول ما رواه الترمذيّ عن النبيِّ-صلى الله عليه وسلم- فيما يَقولُه مَن رأَى مُبتَلى: (الحمدُ لله الذي عافَاني مما ابتَلاه به، وفضَّلني على كثير ممَّن خلَق تفضيلًا).


إنَّ مثَلَ قلبٍ هذهِ حالُه كمثَل الإناءِ المصفَّح يَستَحيل تسرُّبُ السائل منه البَتَّة، وهذا هو القَلبُ التقيُّ النّقيّ المشرِق الذي يُبارِك الله فيه، فتَتَسارَع إليه الخيراتُ حَثيثةً من حيث لا يحتَسِب، وصاحِبُ هذا القلبِ هو الذي ينجُو مُكرَّمًا يومَ لا ينفَع مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بِقلبٍ سليم. قال سعيدُ بن المسيّب رحمه الله: "القَلبُ السليم هو القَلبُ الصَّحيح، وهو قلبُ المؤمن"، وسُئِل ابنُ سيرينَ-رحمه الله-: ما القلبُ السليم؟ قال: "الناصِحُ لله عزَّ وجلَّ في خَلقِه"، أي: لاَ غِلَّ ولا غَشَش.


إنَّ دينَنَا الحنيفَ ليتَحَسَّس نُفوسَ الناسِ بَين الفينةِ والأخرى لِيغسِلَها بالماء الزُّلال من أدرانِ الغَشَش ودَخَنه، وليُذكِيَ فيها مشاعرَ الزّكاء والنقاءِ تجاهَ الناس والمجتَمَع، ومِن أعظمِ هذا التحسُّس المقرَّر هي تلكمُ المتابَعةُ المتكرِّرة في كلِّ أُسبوعٍ مرَّتين، والتي تجعَل منَ المرءِ حَكمًا على نفسِه؛ ليصحِّحَ ما به من خلَلٍ ويَتَداركَ ما بقِي أمامَه مِن شعور، يتمثَّل ذلِكم في قولِ النبيِّ-صلى الله عليه وسلم- : (تُعرَض الأعمال في كلّ اثنين وخميس، فيغفِر الله عزّ وجلّ في ذلك اليومِ لكلِّ امرئٍ لا يُشرك بالله شيئًا إلا امرَأً كانت بينَه وبين أخيه شَحناء، فيقول: اترُكوا هذَين حتى يَصطلِحا) رواه مسلم.


إنَّ المجتمعَ المسلِمَ الصّفيَّ هو ذلِكم المجتمعُ الذي يَقومُ على عَواطِفِ الحبِّ والتآلُف والبُعدِ عنِ الأَثَرةِ المُشاعَةِ بين أفراده، ولا مَكانَ فيه للفَرديّة المتسلِّطَة ولا الشحِّ الكَنود، بل حالُ بَنيه وأفرادِه تُحيي في نفسِ المؤمن استحضارَ قولِ الله تَعَالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وقولِ الله تعالى مَادِحًا صفةَ قومٍ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، ويستحضِر قولَه تَعَالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.


إنَّ الفَظاظةَ التي كَرِه الإِسلامُ تَغلغُلَها في جَوفِ بني آدَم والانتقامَ الذي يجاذِب قَلبَه بين حدَثٍ وآخَر إنما هو فيما كانَ مُتَولِّدًا بسبَبِ الدّنيا أهوائها وبسببِ الطّمَع وحظوظِ النفس ولَذائِذ الرياسةِ والاستِئثارِ بالعاجل على الآجل، أمّا إذا كانَ السّبَبُ غَضَبًا وبُغضًا للهِ وفي الله وإظهَارًا للحقِّ وغَيرةً على محارِم الله وهَيعَةً للشّرَفِ والدِّين والعَقلِ فهذا شأنٌ آخَر له منَ النّدبِ والتَّحضِيضِ في الشريعةِ ما لَه، غيرَ مَقطوعِ الصِّلةِ بالتذكير والتّأكيد على حُسنِ التَّفريق بين النَّصيحةِ والتّعيير وبين التَّصحِيحِ والتّشهير، والتَّحذير مِنَ الدَّعوةِ إلى الائتِلافِ بِأبواقِ الفُرقَةِ والتِمَاسِ الأمنِ من خِلال تَنفيرِ الصَّيدِ، والمسلمُ النّصوح لَيس عليهِ جُناحٌ إذا باشَرَ قلبَه حُبُّ النصحِ والتَّوجيه والإشفاق على أمّتِه ومجتَمَعِه، مُتجرِّدًا من أيِّ حظٍّ مشبوه أو لَوثة ممجوجَة. ولقد كان لنا في رسولِ الله أُسوَة حسنةٌ، إذ تصِفُه عائشةُ-رضي الله عنها- في مِثلِ ذلك فتَقول: ما انتقَمَ رَسولُ الله-صلى الله عليه وسلم-لنفسِه؛ إلاَّ أن تُنتَهَك حُرمةُ الله، فينتَقِم لله بها. رواه البخاريّ ومسلم.

يتبع

ـ أم ريـــــم ـ
والحاصِلُ أنَّ سَلامةَ الصَّدرِ وَسَعتَه في التَّعامُلِ معَ الآخرين هوَ المِقبَضُ المفقود في أفئِدَةِ كثيرٍ من المجتمعات في هذا الزّمن إلاَّ مَن رحِم الله وقليلٌ ما هُم، فكم نحن بحاجةٍ إلى ذلِكم في رَدمِ هُوّةِ التجافي والشّحناء، وكم نحنُ بحاجةٍ إليه في تعامُلنا معَ نوايَا الآخرين وكَوامِنِهم، وفي تعامُلنا مع اجتهاداتِنا المطعَّمَة بالإخلاصِ ومُحاوَراتنا الناشِدةِ للحقّ، وكم تحتاجُ المجتمعاتُ إلى ذَلكم في تحديدِ مَعاييرِ التعامُلِ الآنيِّ واليَوميّ بين الفردِ والأسرة والأسرةِ والمجتمَع والنَّاصِحِ والمنصوح، وكم نحن بحاجةٍ مَاسّة إلى سَلامةِ الصّدر وسَعتِه .

إنّه بمثلِ هَذَا التَّوازُن الذي يمليه على المرءِ سَلامةُ صَدرِه تجاهَ الآخرين لَيبرزُ الأفضَلِيَّة التي ذكرَها النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-بقولِه حينما سُئِل: أيُّ الناس أفضل؟ قال: (كلُّ مخمومِ القلبِ صَدوقِ اللِّسان)، قيل: صدوق اللسان نَعرِفه، فما مخمومُ القلب؟ قال: (هُوَ التَّقيُّ النّقِيّ، لا إثمَ فيه ولاَ بَغيَ ولا غِلَّ ولاَ حَسَد) رواه ابن ماجه.



إنّ مَن سَلِم قلبُه واتَّسَعَ صَدرُه للنّاس ونصَح لهم وأَشفقَ عليهم وكانَ مَظهَره سَببًا إلى مخبَرِه فإنّه سيُلقَى له القَبولُ عند النّاس، عَدوُّهم قبلَ صديقهم؛ لأنَّه لا يعرِف لحظِّ النفس سبيلًا، ولا للانتِقامِ وحبِّ الانتصار دَليلًا. ثم إنَّ للقَلبِ السّليم مذاقًا وحلاوةً لا يَعرِفها إلا مَن طعِمها، وشتّان بين قلبٍ سَليم وبين قلب مليءٍ بالغِلِّ والوَساوِس وإعمالِ الفِكر في إدراكِ الانتصار للذّات.




ولقد ضَرَب لنَا الرعيلُ الأوّل أروَعَ الأمثِلة في ذلكم، فهَذا الفاروقُ رضي الله عنه يتَحَدَّث بعباراتٍ أبدى من خِلالها الإنصَافَ من نفسِه، فقال: "اعلَموا أنَّ تِلكَ القَسوَةَ قد أُضعِفت، ولكنَّها إنما تكونُ على أهلِ الظّلم والتَّعدّي على المسلمين، فأمَّا أهلُ السَّلامة والدِّين والقَصدِ فأنا أليَنُ لهم من بَعضِهم البعض، ولَستُ أدعُ أحدًا يظلِم أحدًا أو يَعتَدِي عليه حتى أضَعَ خدَّه وأضَع قدَمِي على الخدِّ الآخر حتى يُذعِنَ للحَقّ، وإني بعدَ قَسوتي تلك أضَع خدِّي على الأرضِ لأهلِ العَفافِ وأهلِ الكَفافِ".


وقد جاء في مسند أحمد من حديث أنَس في قصّةِ الرجلِ الذي قال عنه النبيُّ-صلى الله عليه وسلم- في مجلِسِه: (يَطلع عليكم رجلٌ من أهلِ الجنَّة)، فطلع هذا الرجلُ وهو من الأنصارِ، وتكرّر قولُ النبيِّ-صلى الله عليه وسلم- عن هذا الرجُل ثلاثَ مرّات في ثلاثةِ أيّام، فبات عبد الله بن عمرو بنِ العاصِ عند ذلِك الرَّجلِ ليرى ما يفعَل من الطَّاعة، فلم يَر كبيرَ عمَلٍ، فسَأله: ما الذي بلَغَ بِك ما قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؟ فقال الرَّجل: ما هو إلاّ ما رَأيتَ، فقال عبدُ الله: فلمّا ولَّيتُ دعاني فقال: ما هوَ إلاّ ما رأيتَ، غيرَ أني لا أجِد في نفسِي لأحدٍ منَ المسلمين عِشًّا ولاَ أحسدُ أحدًا على خيرٍ أعطَاه الله إيّاه، فقال عبد الله: هذه هي التي بلَغَت بك.


ويُسطِّر لنا شَيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ-رحمه الله- كَلِماتٍ ينبغِي أن تدوِّي في قَلبِ كلِّ مؤمنٍ ناصح، إذ يَتَحدَّث لأصحابهِ عن خُصومه وقد لاقى منهم ما لاَقَاه من الأذى والحسَد والمنازَعَة، فيقول: "تعلَمون رضيَ الله عنكم جميعًا أني لاَ أُحِبّ أن يُؤذَى أحدٌ من عُمومِ المسلمين، فَضلًا عن أصحابِنَا بشيءٍ أصلًا، لاَ باطِنًا ولا ظاهرًا، ولا أحِبّ أن يُنتَصَر مِن أحَدٍ بسَبَبِ كَذبِه عليَّ أو ظلمِه وعُدوانه، فإني قد أحلَلتُ كلَّ مُسلم، وأنا أحبّ الخيرَ لكلِّ المسلمين، وأُريد لكلِّ مؤمنٍ منَ الخير ما أُحِبّه لنفسي، والذِين كذَبوا وظلَموا منهم في حِلٍّ مِن جِهتي" انتهى كلامه-رحمه الله-.


فالله أكبر ما أعظمَ تلكَ القُلوب، واللهُ أكبَر مَا أعظمَ تِلك الأجساد التي تحمِلها: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ*لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}.


م ن ق و ل