
من بين صخور متباعدة , وأمواج متتالية , ظهر أخيرا بحارنا الماهر هادي ,
اقتربنا منه فإذا هو شاب وسيم ,قد اعتلا التعب جسده , وحنى ظهره , وارتسمت في وجهه خطوط لا تخطىء في تمييزها كما لا تخطىء تمييز وجه رجل طاعن في الثمانين ...
رمى نفسه على الرمال , أخذ نفسا عميقا , سمعنا له صلصلة وجولة , ثم أخرجه زفيرا وكأنما يخرج معه أحمالا ثقيلة رابضة على صدره ..
دفعنا الفضول لنسأله عن رحلته , وعظم مشقته , فأجاب :
قررت يوما الذهاب في رحلة طويلة , أحببت فيها أن أزور البحر , فلطالما تشوقت وتمنيت رؤيته .
مشينا بالقافلة , فإذا الرحلة طويلة , والأمر صعب لم يكن في الحسبان ,
توقفت بنا رحلتنا فقد وصلنا غايتنا ,

نظرت إلى البحر لأول مرة في حياتي بعيون متلهف مشتاق , فوجدته بحرا واسعا مد البصر , شديد الزرقة , بهي الصورة , تحوم فوقه الطيور , ويتسابق فيه العابثون , وتغمس طفلة ظفائرها الذهبية في ماءه , ثم تغمس يديها ورجليها في ماءه البارد ثم تهرب مطلقة صرخات تزيد من ضجيج البحر روعة وغرابة ...
فهممت باللعب معها , وودت أن أمارس هوايتي التي أحب . رمي صخرات صغيرة على الماء لأرى كم من المرات ستقفز على سطحه ,
لكن الوقت لم يكن وقتا لعب ,
بل كان تحدياً : إما أن أسبح وأنجح , وإما أن أغرق !!
لم يكن أمامي خيار ثالث ... فقررت أن أبدأ رحلة التعليم , وأخوض غمار التجربة
ولم يكن عندي معلم سوى قوانين بسيطة ,وصورا قديمة لمعلم السباحة, كنت قد احتفظت في مخيلتي , لأرى نفسي بحاجة لأقل تفصيلاتها , وأدق تعليماتها ..
ومرت الأيام , وأنا اأعلم يوما بعد يوم , أنجح تارة , وأفشل تارة ..
إلى أن أصبحت بحاراً جيدا , لا أدعي لنفسي الشهرة ولا المهارة , ولكن لدي الكثير من الخبرة والفائدة , اكتسبتهما من المشاهد والصور لأمواج اعتليتها , وعواصف بتّ تحت سماءها وحيدا فريدا , قد ينفع ذكرها , وتصلح عبرة وعظة بل خبرة لمن يريد تعلم السباحة ...
لفتت انتباهنا عبارته الأخيرة , فلا بد أن عنده الكثير والمثير ليخبرنا ويقص علينا ..
سألناه : شوقتنا يا بحّارنا هادي , هيا هاتي ما عندك..
تنفس هادي الصعداء , وأطلق نظرة شقت الفضاء , مناديا مناجيا بصوت يملأ الأصداء : الحمد لله ..
ثم بدء بسرد قصته ..

يــــتـبـــــــع
((ملاحظة : لا احلل ولا أسامح من ينشر هذه القصة دون ذكر اسمي ))
ركبت يوما سفينة الوئام , مبتعدا بها عن الأنام , لأرى نفسي في بحر كبير , وأمواج عظيمة ,
كلما عاينت منها موجا , أتاني أعتى منه , وكلما هنأت نفسي بسلامتها , أجدني أصابرها وأبحث لها عن مأمن ..
رحلتي هذه أخذتني إلى عالم بعيد , غريب جديد , وحالي كان كصياد بسيط غرَّه سكون البحر , ولسعته أشعة الشمس ,فنام على ظهر قاربه , ولم يدري أن هذا الهدوء عادة يسبق العاصفة ..
تنهد هادي وأكمل شرب كوب عصير البرتقال , ثم أخذ يحدثنا أكثر عن رحلته تلك .
بعد قدومي لهذا العالم البعيد , بدا كل شيء مختلف وجديد ,
الوجوه غير الوجوه , والكلمات غير الكلمات , والبيوت غير البيوت , والطرقات غير الطرقات ...!!!
وقعت في حيرة وصدمة , لم أكن أتوقعه بهذه الصورة , ولم أتخيله يوما بهذه الغرابة ...
وما زاد حزني وعذابي أنني امتطيت الخيال فرسي , وجعلت المقارنة مراسي ..
أتذكر أزهار الربيع , ومياه الغدير , وزقزقة العصافير , والنسمات التي تشفي العليل ,
فيوقظني من حلمي برد قارس , و شتاء قاس , وجليد يابس , ونهار عابس ,
ذاك الربيع متأصل في ذاكرتي , متمكن في مخيلتي , وهذا الشتاء جاثم أمام عينيّ , تتحسه يداي وقدميّ ,
أما قلبي ...!!!
فتائه بين أمواج الحنين , وسفن الحال ..
وكأنه غريق يتمسك بجذع شجرة طافٍِ , وقد لفت البحر عتمة , واعتصر القلب خوف وظلمة , ولم يبقى أمامه سوى المصابرة والمدافعة , علَّ قارب الأمل يأتي إليه , ينقذه , يحقق حلمه , يعيده لاحضان ذلك الربيع , يسقيه من ذاك الغدير ,
يطمئنه بيد دافئة تربت على شعره , تمسح دموع عينه , تهدء خفقان قلبه ...
لكم اشتاق لحنان تلك اليد , ولكم احتاج لدعائها , وكم هو عازم على برِّها ..
إيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
تنهّد هادي , ثم أخذ نفسا عميقا , نظر إلى جبل أخضر على يمينه , تأمله طويلا ثم قال :
قلت لنفسي مرة : إن من يهوى صعود الجبال لا بد أن يصبر على مرارتها ..
وقد حاولت صعوده في غربتي , ومارست تسلقه وفق قدرتي ,
تجربتي معه كانت ممتعة ومؤلمة , فكنت أنجح عندما تكون خطايَ ثابتة , ومقابض الحبال عندي قوية ,
وأحيانا أفشل ,فأسقط وأعود للمحاولة من جديد , تماما كالطفل الذي دخل الروضة حديثا , سيلزم الصمت , ويبتعد عن كل ما هو جديد عليه ,من الاطفال والمعلمة والطباشير والكتب حتى الألعاب المسلية ,
سيبتعد عنها ويلزم الصمت , بل لربما علا بكاؤه , وزاد احتجاجه , ولربما تعلق بثوب امه يريد العودة هربا ..
ثم ما يلبث أن يعتاد المكان , ويألف الوجوه, ثم يبدء بكسب مهارات تساعده وتهوّن عليه التواصل مع من حوله.,
يــــــــــتـــــــبـــــع