الفضيلة تنتصر
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
في شرفة أحد المنازل جلست فتاتان تكبر أحداهما الأخرى ببضع سنين ، وإن كانت كبراهما تبدو أكبر من واقعها ، نظراً لتراكم الأصباغ على وجهها ، وتعقيد تسريحتها ومكياجها الصارخ ... لكن الثانية كانت على العكس منها ؛ فهي تبدو وكأنها في السادسة عشر ، مع أنها تناهز العشرين .. وكان شعرها الذهبي مرسلاً على كتفيها ببساطة محببة ، وقد دل وضعها على أنها هي صاحبة البيت ، وكانت تستمع إلى رفيقتها ... وقد لاحت على ملامحها علامات الاستياء ، فلم يكن كلام صاحبتها بالكلام المهذب ، ولم تكن قد اعتادت على الخوض في مثله أو الاستماع إلى هذا النمط من الحديث ، فمحدثتها هذه هي بنت خالتها وقد رجعت وشيكاً من أوروبا بعد مدة قضتها هناك بأمل أن يحصل زوجها على شهادة جامعية ، وبعد أن يأسا من ذلك عادا دون أن يتمكن زوجها من نيل الشهادة . تلك هي سعاد ... وقد سمعت أخيراً نبأ عقد قران بنت خالتها نقاء فبادرت إلى زيارتها بعد
--------------------------------------------------------------------------------
سماعها للخبر مباشرة وهي مدفوعة إلى ذلك بدوافع عديدة ... وفعلاً فقد كانت تمهد الطريق للدخول في الموضوع فهي مندفعة تحدث بنت خالتها عن أوروبا وعن معالم الحضارة التي سحرتها ، وتحبب إليها السفر إلى هناك ، وتحشو حديثها بكلمات ونكات مبتذلة كان لها تأثير عكسي على نقاء ! فقد كانت تتجهم بدلاً عن الضحك ، وتضيق بالحديث بدلاً من الخوض فيه. فهي فتاة مهذبة نشأت في أحضان أسرة مستقيمة محافظة حريصة على الآداب الدينية. وقد عقد قرانها على شاب عريق الأصل رفيع المنبت حاصل على شهادة ( الليسانس ) يدير محلاً تجارياً يستورد فيه البضائع من الخارج. وعلى هذا فقد استقل بعمله التجاري الذي يدر كان أرباحاً طائلة وهو شاب مسلم واقعي يؤمن بالاسلام كمبدأ وعقيدة ونظام . وقد عجل بالعقد الشرعي ليملك حريته في الاتصال بعروسه. وقد قامت بينهما بعد ذلك علاقة حب وإعجاب متبادل أخذت تتزايد على مر الأيام ، وكانت بعض ظروف الزوج الخاصة تستوجب تأخير الزفاف. وقد ضاعت اتصال نقاء بعريسها من ثبات روحياتها العالية ومن حرصها البالغ على مثل الاسلام وآدابه .. ولهذا فقد كان من حق نقاء أن تستنكر على بنت خالتها أغلب ما كانت تقول ... ولكنها لم تر من اللائق أن ترد عليها أو تعارضها بعنف ـ بما أن سعاد ضيفتها ـ واكتفت بالاستماع. وبعد أن أتمت سعاد كل ما في جعبتها من كلام سكتت برهة ثم أردفت قائلة :
--------------------------------------------------------------------------------
ـ إن أحسن منطقة تقضيان فيها شهر العسل هي إحدى دول أوروبا.
وهنا رأت نقاء أن الواجب يدعوها لكي ترد ، فأجابت :
ـ أوروبا ! لا ، نحن لن نذهب إلى أي بلد أوروبي ... ولكن قد نذهب إلى بعض البلدان الاسلامية...
وضحكت سعاد وهي ترد عليها في شيء من التهكم.
ـ لعلكما تنويان أن تقضيا شهر عسلكما في مكة وفي موسم الحج ..
ـ لا ، قد نذهب إلى الحج ولكن ليس خلال أيام شهر العسل.
ـ ولماذا لا تقترحين على زوجك السفر إلى لندن أو باريس هل تعتقدين أنه يتمكن على ذلك من الناحية المادية ؟
ـ إن المادة ليست كل شيء يا سعاد ! ولكن إبراهيم لن يوافق على ذلك مطلقاً وكذلك أنا أيضاً.
ـ لعله يخشى السفر بالطائرة ، يمكنكما إذن أن تسافرا في السيارة أو على ظهر الباخرة. وعلى فكرة هل يملك زوجك سيارة يا نقاء ؟
ـ السيارة موجودة يا سعاد ، وهو لا يخاف من ركوب الطائرة أبداً ، ولكن ابراهيم شاب مسلم محافظ لا يحلو له أن يقضي شهر العسل في أوروبا.
--------------------------------------------------------------------------------
ـ آه ... هل هو متأخر إلى هذا الحد ؟ إن هذا شيء مخيف ، له ما بعده يا نقاء ...
ـ لا يا سعاد أنه شاب مثقف متنور الأفكار.
ـ إذن فما الذي يمنعه من السفر معك إلى أوروبا ؟
ـ الدين ...
ـ ماذا ! الدين ؟!
ـ نعم ، الدين ... والدين فقط.
ـ هل أتمكن أن أفهم من هذا أن زوجك رجل متدين ؟!
ـ نعم ، والحمد لله.
ـ أنتِ تقولين : والحمد لله ، لأنك تجهلين معنى أن تتزوج فتاة عصرية مثقفة من رجل متدين وتجهلين ما يستوجب ذلك من قيود وحدود وأحكام صارمة.
ـ لا ، أبداً أنا لست كما تظنين غافلة أو جاهلة ، ولكني فتاة مسلمة أعرف أن للاسلام أحكامه وآدابه...
ـ وهل قوانين الاسلام إلا قيود تشدك بأغلالها القاسية ! وهل آدابه سوى أغوار سحيقة تحجبك عن المجتمع تحت سجوفها ؟
أنت تقفين الآن على أبواب الحياة فلا تمكني الأفكار الرجعية أن تشوه مستقبلك السعيد...
أنتِ غلطانة يا سعاد ! إبراهيم قادر على أن يهبني السعادة الواقعية في الحياة ، وأنا لا أهوى غير السعادة التي
--------------------------------------------------------------------------------
يهيأها لي ، فقد أصبح بالنسبة لي كل شيء...
ـ بالرغم من هذا ، فأنك لن تصبحي له كل شيء بل ولن تتمكني أن تكوني عنده شيئاً بل ستكونين على هامش حياته وعلى الهامش دائماً !
ـ سعاد !! إسحبي كلامك بسرعة ، فأن لي لدى إبراهيم المنزلة اللائقة والمحل الرفيع ، الرفيع من الحب والحنان...
ـ ما دمت في دور الخطوبة وما دامت لم يتمتع بك كما يريد ، ولكنه متى اطمأن إلى استيلائه عليك سوف ترين الرجل المسلم كيف يكون !!
ـ وأنت ألست مسملة يا سعاد ؟!
ـ طبعاً أنا مسلمة ولكن ليس على غرار إسلام إبراهيم ، فمن رأيي أن للمرأة الحرية الكاملة بالتمتع في الحياة وبما فيها من بهارج ولذائذ ، ولكن إبراهيم يأبى إلا أن يجعل من المرأة العوبة طيعة وأداة محكومة لا أكثر ولا أقل.
ـ عجيب أمرك يا سعاد ! ما الذي يدفعك إلى هذه النقمة التي تنقمينها على الاسلام وأنت مسلمة !؟ هل خدعتك أوربا ؟!.
ـ أبداً ... لم تخدعني أوروبا ، ولكن حبي لك هو الذي دفعني إلى التصريح بآرائي في هذا الصدد. لقد سررت كثيراً عندما سمعت نبأ خطوبتك يا نقاء ... ولكن الآن ؟!
--------------------------------------------------------------------------------
ـ ولكن الآن ماذا ؟!.
ـ إذا أردت الواقع فأني قد أسفت بل حزنت ، فقد كنت أعدك لمستقبل أفضل...
ـ ما يدريك يا سعاد ، فلعلني سعيدة جداً ، كما أنا في الواقع.
ـ إذا كان زوجك من النفر الذين يتمشدقون بالاسلام ومفاهيمة فهو لن يتمكن من اسعادك مطلقاً.
ـ أنا لا أرتاح إلى تعبيرك هذا يا سعاد ، فمن تعنين بالنفر ؟ ليس الاسلام وقفاً على نفر فحسب ، ألا ترين الملايين المؤمنة بالإسلام في كل مكان ؟
ـ أنا أقصد بالنفر : هؤلاء الذين برزوا علينا بأقاويلهم الجوفاء التي لا يبغون من ورائها سوى سيطرتهم على جنس المرأة ، والتحكم فيها ، بفرض القيود والالتزامات.
ـ ولكن الرجل المسلم ، له أيضاً أحكامه الخاصة والتزاماته المعينة ، وليست الالتزامات وقفاً على النساء فقط.
ـ لكنهم أحرار يفعلون ما يشاؤون بدون رقيب أو حسيب. أو لم يذهب إبراهيم إلى أوروبا من قبل ، ألا يعتزم أن يذهب إليها بعد الآن ؟
ـ أنه سوف يذهب إلى فرنسا بعد مدة وجيزة لأجل
--------------------------------------------------------------------------------
التعاقد مع إحدى الشركات ، ولتقديم أطروحته للحصول على شهادة الدكتوراه.
ـ فهذا إذن حلال ، ولكن ذهابك حرام. أنه في حل من الاسلام مهما دار وسار ولكن قيود الاسلام لا تطوق سوى عنقك يا نقاء.
ـ أنا لست مقيدة يا سعاد ؟ فأنا سعيدة بإبراهيم ، وبكل مثله ومفاهيمه.
ـ أنا آمل أن تكوني سعيدة ولكنك الآن في غفلة وأخشى أن لا تصحي منها إلا بعد فوات الأوان.
ـ ماذا تعنين يا سعاد ؟..
ـ أعني أن الزواج لا يمكن أن يكون زواجاً ناجحاً إذا لم يكن قائماً على أساس من مفاهيم الحضارة الحديثة ، والفتاة لن تحصل على السعادة إلا بزواج ناجح ، ولهذا ترين أن الفتاة العصرية أخذت تتحرر من قيود أهلها وتستقل باختيار الزوج الذي تريده.
ـ أنا وابراهيم على اتفاق تام ولن تزيدنا الأيام إلا ثقة وتفان ووئاماً.
ـ قد تبقين أنت قائمة على إخلاصك يا نقاء ، ولكن الرجال ليسوا كالمرأة أنهم يخدعون زوجاتهم بأساليب وأساليب ، منها الدين ومنها العفة والفضيلة ، فهم يحتجزونها
--------------------------------------------------------------------------------
في الدار بحجة أنها مسلمة ، ويضنون عليها بكل غال ونفيس ببرهان أنها عفيفة فاضلة.
ـ وهل تعتبرين جلوس المرأة في دارها وعشها السعيد احتجازاً ؟!.
ـ نعم ، فالمرأة لا تتمكن من الاحتفاظ بزوجها إلا إذا سايرته ورافقته في رحلاته وسفراته وحفلاته ، ولكن المرأة التي تقبع في عقر دارها وتترك لزوجها الحبل على الغارب لا يمكن لها أن تركن إلى دوام سعادتها في الحياة الزوجية.
ـ وهل تعرفين إبراهيم يا سعاد ؟ ليتك كنت عرفتيه ...
هنا سكتت سعاد لحظة حاولت فيها أن يبدو صوتها طبيعياً وهي تقول :
ـ لم يسبق لي أن رأيته يا عزيزتي.
ـ لو عرفتيه لتبدلت نظرتك نحوه تبدلاً كلياً يا سعاد ! فهو رجل مثالي ، حلم العذارى المؤمنات ...
وبدا الارتباك على سعاد ، وتملمت في جلستها ، ثم قامت وهي تقول :
ـ عليّ الآن أن أذهب فقد طال بي الجلوس ، ثم أني مدعوة إلى حفلة هذه الليلة.
وعجبت نقاء لفورية عزم سعاد على الخروج ، فقد كانت
--------------------------------------------------------------------------------
مندفعة في كلامها وكأنها لا تنوي الانصراف ، وعندما ودعتها ورجعت كان صوت أمها يتناهى إليها وهو يناديها من داخل الدار :
ـ نقاء ... نقاء ... أين أنتِ يا عزيزتي ؟
ـ ها أنا ذي يا اُماه.
ـ منذ ساعة وأنتِ جالسة وحدك في الشرفة.
ـ لا يا ماما ، لم أكن وحدي فقد كانت معي سعاد.
ـ سعاد ! ألم تنصرف سعاد منذ ساعة أو أكثر.
ـ نعم ولكنها اقترحت عليّ أن نجلس قليلاً في الشرفة.
ـ لماذا ؟!.
ـ لا أدري.
ـ ولكن أمك أدرى يا نقاء .. لابد وأنا كانت تحدثك عن أوروبا وحضارتها المزعومة.
ـ تماماً كما قلت يا ماما.
ـ الويل لها من غريرة ، ألم يكفها أنها لوثتها حضارة الغرب لتجيء وتسكب على أذنيك كلماتها السامة ، أنها خشيت أن تخوض في هذا الموضوع أمامي ، فآثرت أن تجتمع بك على حدة . يا لها من شيطانة.
ـ أماه ! إنها بنت أختك فلا يصح لك ان تنعتيها بهذه الأوصاف !
ـ أنا بريئة منها ومن سلوكها المنحرف ، أنها كانت السبب
--------------------------------------------------------------------------------
في التعجيل بموت أختي ، فلم تكن أمها تطيق منها هذا السلوك ، والآن تعالي حدثيني عما كانت تحدثك عنه سعاد ، لأرى أي نوع من الحديث هو ؟
ـ دعي عنك ذلك يا ماما ، فهي لم تقصد من وراء كلامها أي سوء.
ـ ليتها كانت هكذا ، وليتك تعرفينها على حقيقتها لكي لا تغرك بكلماتها المعسولة.
ـ هوني عليك يا ماما ، فأنا لا أتأثر بكلام سعاد وأفكارها ولكني لا أوافق على نعتها بهذه النعوت ، أنها بنت خالتي على كل حال.
ثم ذهبت نقاء إلى غرفتها واستلقت على سريرها ، وهي تحاول أن تصرف أفكارها عن سعاد ، فهي لا تشك لحظة في اخلاص ابراهيم ، وأنه سوف لن يتوانى عن تهيئة جميع أسباب السعادة لها في الحاضر والمستقبل ، ثم أنها بطبعها أيضاً كانت تشعر بخطأ سعاد وانحرافها بأفكارها عن الصواب ... فكرت بالمكسب الذي جنته سعاد من حياتها هذه وهي لم تحصل أخيراً إلا على زوج عاطل ، لم يتمكن حتى من نيل شهادة جامعية أولية ، سواءاً في بلده أو في الخارج.
وقد استعاض عن ذلك بأمواله التي ورثها عن أبيه ينفق منها ما يشاء في مغامراته ولهوه دون أن يتخذ نعمة الله
--------------------------------------------------------------------------------
مصاريف خير وطمأنينة وهناء ، لكن سعاد لم يكن يهمها غير المال ، ولا تعيش إلا لأجله. وصممت نقاء على أن تسأل إبراهيم عن واقع المرأة في الاسلام ، وعن حقيقة نظرته نحوها ، فهي واثقة من أنه كفيل بإيضاح الواقع وتفسير ناحية فرق المرأة عن الرجل في الاسلام.
فتاة الرافدين @fta_alrafdyn
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
يبدو أنك يا عزيزتي قد كتبت الفصل الثالث مرتين
نحن بانتظار قصتك القيمة
وأنصح الجميع بقراءتها فهي تحمل مفاهيم راقية
دمت
نحن بانتظار قصتك القيمة
وأنصح الجميع بقراءتها فهي تحمل مفاهيم راقية
دمت
shokrenn laki ghalyety 9aba7...
o3thorony li kitabaty bill a7rof allatinya..welakinnany fi alkolya alan we 8ad ta3atala al windows al3araby..fe arjo alma3thira...
shokrenn li tanbihy ..fe lam antabih li kitabat alfa9l athaleth marratain ..le2annany konto kad katabtoho fi al word thomma anzaltoho fi almontade..lithalik lam antabih..3othrenn.
domty be 3ain illah...//fatato_alrafidain:26:
o3thorony li kitabaty bill a7rof allatinya..welakinnany fi alkolya alan we 8ad ta3atala al windows al3araby..fe arjo alma3thira...
shokrenn li tanbihy ..fe lam antabih li kitabat alfa9l athaleth marratain ..le2annany konto kad katabtoho fi al word thomma anzaltoho fi almontade..lithalik lam antabih..3othrenn.
domty be 3ain illah...//fatato_alrafidain:26:
الفصل الرابع
مر أسبوع نسيت نقاء خلاله حديث سعاد ، وكادت أن تنسى سعاد نفسها أيضاً ، فقد كانت تعيش في نعيم مستمر وهي تتذوق كل يوم كأساً جديدة من كؤوس السعادة والهناء ، ولم يكن لديها ما يكدر صفوها سوى ترقب قرب سفر إبراهيم. وفي أحد الأيام ذهب إبراهيم في مهمة إلى اللاذقية ، واتفق أن كانت في ذلك اليوم على موعد مع الخياطة لتذهب لعمل القياسات. ونظراً لعدم وجود إبراهيم اضطرت إلى الوقوف في الشارع لانتظار سيارة تقلها إلى حيث تريد. وفجأة أبصرت أمامها سعاد وهي تترجل من سيارتها قائلة :
ـ يا لها من صدفة سعيدة ، تفضلي واركبي معي يا نقاء ! فأنا على استعداد لايصالك إلى حيث تشائين.
ولم تشأ نقاء أن تركب مع سعاد ، فاعتذرت عن ذلك ، ولكن سعاد ألحت عليها بالطلب بصورة لم يسعها إلا أن تجيب ، وركبت السيارة إلى جوار سعاد ، وكانت سعاد هي التي تسوق سيارتها دائماً وبعد أن سارت بهما السيارة مدة وجيزة التفتت سعاد نحوها قائلة :
--------------------------------------------------------------------------------
( 42 )
ـ كأني قد سمعت منك أن لدى ... لدى ... أعذريني ، أقصد لدى زوجك ، فقد نسيت اسمه .. لديه سيارة.
ـ لقد سافر إبراهيم في ساعة مبكرة من الصباح في مهمة مستعجلة إلى اللاذقية.
ـ لابد لي أن أتعرف عليه يوماً ما يا نقاء.
ـ طبعاً طبعاً.
ـ ولكني أخشاه..
ـ أنت غلطانة يا سعاد ! فهو دمث الاخلاق محبب إلى النفس.
ـ ولكنه على ما سمعت منك يا عزيزتي رجل شديد ، صارم ، له سلوك خاص.
ـ أنا لم أقل شيئاً من هذا يا سعاد ! فهو لين الجانب ، سهل العريكة ، مسالم إلى أقصى حد.
ـ بالنسبة لك طبعاً ، وبعد أن سخرك لآرائه وأفكاره ، أما بالنسبة لنا ـ نحن النساء العصريات ـ فلا.
ـ أنا لا يعجبني منك هذا التعبير يا سعاد ، أنه لم يسخرني أبداً فأنا بطبعي أشاركه في آرائه وأفكاره.
ـ ما شاء الله يا لكما من زوجين سعيدين.
--------------------------------------------------------------------------------
( 43)
ـ واقعاً...
ـ على فكرة يا عزيزتي ! هل تفكرين أن تتعلمي السياقة يوماً ما ؟
ـ لا ، لأنها ليست ضرورية للمرأة ، ولست في حاجة إليها.
ـ ولماذا ... ؟.
ـ الواقع إني لا أشعر بحاجة إلى ذلك ، فان ابراهيم على استعداد لايصالي إلى حيث أريد ، ثم إني لن أركب السيارة وحدي بدونه ، فما الذي يدعوني إلى أن أقودها بدلاً عنه !.
ـ طبعاً أنه سوف لن يسمح لك بذلك ، وسوف يكون له من هذا أحسن حجة لمتابعتك إلى حيث تذهبين ، ولكنك سوف لن تستطيعي أن تتابعيه حتى إلى مكان واحد بحجة أنك مسلمة محافظة.
ـ وما لي وله يا سعاد ! هل ترين لي من اللائق أن أذهب معه إلى المحل أو أجلس بجواره في غرفة الحسابات ، أن هذه أمور من اختصاصه هو وحده.
ـ وسهراته وحفلاته ورحلاته .. ووو... إلى آخر تحركاته وتنقلاته ؟.
ـ لكل رجل رحلاته وحفلاته ، كما أن للمرأة أيضاً حفلاتها وزياراتها الخاصة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 44 )
ـ ولكن الرجل تكون له الحفلات العامة والمجالات الواسعة ، أما المرأة التي على غرارك فإن لها حفلاتها الخاصة وتنقلاتها المحدودة.
ـ إن إبراهيم ليس من رواد الحفلات المختلطة. والنوادي الصاخبة.
ـ أنت مخدوعة يا نقاء ! فالرجل ، وأي رجل كان ، لا تقف أمام تحركاته حدود أو سدود ، ولكنهم على صنفين : صنف مسالم طيب ، يشرك زوجته في جميع أنواع فعالياته الاجتماعية ، وقسم صارم شديد ، يستغل بساطة زوجته ليحتجزها في البيت بشتى أنواع الحجج والمبررات.
ـ إن الرجل الطيب المثالي هو الذي يشرك معه زوجته في آرائه وأفكاره وأهدافه ووجدانه لا في تحركاته وتنقلاته ، فإن للمرأة أفقاً خاصاً لا يصح للرجل أن ينزل بها عنه.
ـ مرحى مرحى لهذه النغمة الغريبة التي أصبحت تتكلمين بها يا نقاء !...
ـ أنا لا أقرك ، أن عندي نغمة غريبة أو أي فكرة جديدة ، فأنا هكذا كنت وهكذا سأكون.
ـ طبعاً أنت هكذا كنت قبل الآن ، أيام كنت طفلة جاهلة بأساليب الحياة ، ولكن الغريب في الأمر جمودك على هذا وأنت في هذا السن الذي يقف بك على عتبة الحياة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 45 )
ـ أرجوك يا سعاد ! أنت لا تعرفين ما تقولين.
ـ على العكس يا عزيزتي ! فأنا أعني ما أقول ، ولكن ...
ـ أنا لا أحب هذا اللاكن يا سعاد ! فكأن كلماتك لها ما وراءها !.
ـ صدقي أني في حيرة منك يا عزيزتي ! لا أدري كيف أتصرف ، وأنا أراك في طريقك إلى افتقاد شخصيتك ، وإتلاف مستقبلك بالسير وراء أمثال هذه الفكر الرجعية ، أنت الفتاة العصرية المثقفة تلتزمين بقيود وحدود بحجة أنك مسلمة ، وأن زوجك مسلم محافظ. أفلسنا جميعاً مسلمين ؟ أتصدقين أن إبراهيم وحده على حق وملايين البشر على باطل ؟ فكري بنفسك يا نقاء ! لترين أنك بخضوعك لابراهيم ولأفكاره ومعتقداته سوف تخسرين الكثير !
ـ أنا لست خاضعة لابراهيم أو غيره ، وإنما أنا سائرة وراء مبدأي وعقيدتي الشخصية.
ـ وهل أن من عقيدتك الشخصية هذه الحياة التافهة التي تحيينها ، وهذه العزلة التي فرضت عليك فرضاً ؟ !.
ـ أنا لست في عزلة كما تظنين ، وليست حياتي حياة تافهة بل أنها حافلة بجميع ما تصبو إليه النفس.
ـ لأنك لا تزالين تجهلين ما تصبو إليه نفسك ، ولا تزالين
--------------------------------------------------------------------------------
( 46 )
تجهلين الحياة الواقعية لتصبي إليها يا نقاء ! أنت لا تزالين صغيرة ، ولذلك فقد تمكن إبراهيم من تضليلك...
ـ أنا لا أجهل شيئاً من الحياة ، وإني واثقة من صواب نهجي الذي أنا عليه ، وإن عقيدتي هذه سوف تحقق لي ولزوجي السعادة الكاملة في كل حال من الأحوال ... أنا لست متعطشة للاندماج في مجتمع متحلل فاسد ... فإن لي مجتمعي الخاص الذي أنعم فيه بالعلاقات البريئة والمصاحبات الطاهرة النقية ... أنا لست جاهلة يا سعاد ، ولكنني أعني ما أقول وأقصد ما أعمل ولست في حاجة إلى أي نصيحة أو إرشاد ...
وضحكت سعاد طويلاً ، ثم أردفت قائلة :
ـ عفوك يا آنسة ! أنا لم أكن أقصد إثارتك من قريب أو بعيد ، أما الآن وقد ثرت ... ولا أدري لماذا ؟! .. فأنا أستميحك العذر...
ثم أدارت وجهها ناحية نقاء ، وحاولت أن تركز نظراتها في وجهها لتقرأ على صفحته السبب في انفعالها ، فقد خيل لها ، أن سهماً من سهامها قد أصاب هدفاً في قلب نقاء ، فاندفعت تنفس عن مشاعرها بهذه الثورة بدون إحساس منها لذلك ، ولكن نقاء أدارت وجهها ناحية الشارع ، وقالت :
ـ أنا لم أثر يا سعاد ! ولكن تأثرت فقط.
--------------------------------------------------------------------------------
( 47 )
ـ الويل لي إذا كنت قد آذيتك يا عزيزتي ! أنا لن أغفر لنفسي هذا مطلقاً ، فأنا أعتبر نفسي أختاً ناصحة ، ولا أقصد مما قلت سوى صلاحك وصلاح مستقبلك الذي يهمني كثيراً !!! فقد كنت واثقة دائماً من أنك سوف تتربعين على عرش المجتمع وأنك سوف تدخلين الحياة لترين جميع أبوابها مفتوحة أمامك واسعة ، ولكن الآن وقد تلاشت جميع آمالي بالنسبة لك ، وهذا هو ما دعاني إلى الاندفاع إلى مصارحتك ببعض الحقائق ... ومرة أخرى أستميحك العذر.
ـ انت معذورة يا سعاد !...
ـ أهكذا ... وبمثل هذه اللهجة يا نقاء ... ؟
ـ نعم ، فلا يسعني أن أقول شيئاً غير هذا !.
ـ كما تريدين يا عزيزتي ! فلست إلا ناصحة ، والآن وقد وصلنا ، فمتى تريدين أن أمر عليك لأرجعك إلى البيت ؟
ـ شكراً يا سعاد ! سوف أرجع وحدي ...
ـ أبداً ، إن هذا محال ، لن أدعك تنتظرين « الأمانة » على قارعة الطريق وعندي سيارة ، سوف أرجع بعد ساعة لآخذك إلى البيت.
ولم ترد عليها نقاء رداً واضحاً ، ولكنها بعد أن أتمت عمل القياسات ركبت « الأمانة » ورجعت إلى البيت دون أن
--------------------------------------------------------------------------------
( 48 )
تنتظر سعاد ، وكانت تعلم أن ذلك سوف يغيظها ، ولكن لا يهم ، فهي تود أن تبعد سعاد عن طريقها بأي صورة كانت.
وفي العصر كانت نقاء جالسة أمام مكتبتها تصلح من ترتيبها ، فشعرت أن باب غرفتها يتحرك ، فاستدارت لترى سعاد فارتبكت وظنت أن سعاد جاءت عاتبة ، ونهضت لاستقبالها ، وقد صممت على أن تصارحها بالحقيقة إن عتبت عليها ، لعدم انتظارها لها عند الخياطة ، ولكنها فوجئت بسعاد تقول :
ـ أنا خجلانة جداً يا نقاء ... ! فقد كانت غلطة لابد أن تغفريها لي ، أنا لم أكن أقصد التأخر ، ولكني تأخرت ، وسبب ذلك عودتك وحدك.
ـ واحتارت نقاء ... بماذا ترد على سعاد ، ولم تتمكن أن تقابل تسامحها هذا بالتجني ، فلم يسعها إلا أن تقول :
ـ لا عليك يا سعاد ! فأنا لم انتظر طويلاً كما تظنين ، والآن تفضلي واجلسي يا سعاد !
وجلست سعاد على كرسي هناك ، وشرعت تتكلم ... تكلمت عن الحفلة التي دعيت إليها في الليلة الماضية ، والمطربة التي أحيتها حتى مطلع الفجر ، والفتيات المخدوعات اللواتي كن يتطايرن في سمائها ... وتحدثت عن الأفلام الأجنبية التي تعرض في دور السينما ، وفصولها المثيرة الخلابة
--------------------------------------------------------------------------------
( 49 )
وتحدثت عن رحلات الصيد التي تقوم بها مع ثلة من أصحابها في كثير من الأوقات ، ثم تحدثت أخيراً عن أحواض السباحة والمسبح الجديد. وعلى الجملة : فقد تحدثت عن كل شيء أرادت أن تتحدث به ، ونقاء ، تستمع إليها بهدوء وإتزان لا تكاد تعلق على كلامها إلا بالنزر القليل. واستغربت نقاء تجاهل سعاد لذكر زوجها في جميع أحاديثها ، وإهمالها لوجوده في جميع تصرفاتها ، فاغتنمت فرصة قصيرة سكتت خلالها سعاد لتسألها قائلة :
ـ وزوجك يا سعاد ! أراك تتجاهلين وجوده في سجل حياتك الحافل ؟!.
وودت سعاد لو تتمكن أن تصرخ بنقاء ، قائلة : مالك ولزوجي يا بنت ... فقد ظنت أن نقاء تتحداها بهذا السؤال ، فإن شخصية زوجها التافهة كانت نقطة ضعف بالنسبة إليها على طول الخط ، ولكنها سرعان ما تذكرت أن عليها ان لا تغضب نقاء ، وأن عليها أن تداهنها حتى تتمكن من الوصول إلى غاياتها الانتقامية ، فتمالكت نفسها ، وأجابت ضاحكة :
ـ أنا زوجة حرة يا نقاء ! لا أقرن حياتي بحياة زوجي مطلقاً ، ولا أسايره إلا في الحفلات العامة التي ندعى إليها سوياً ، نحن نقول بمبدأ المساواة بين المرأة والرجل.
--------------------------------------------------------------------------------
( 50 )
ـ عجيب أمرك يا سعاد ! منذ ساعة كنت تدعين إلى مرافقة المرأة زوجها ومسايرته إلى حيث ذهب ، والآن تقولين أنك حرة ، لك عالمك المستقل !!
ـ أنت لم تنتبهي إلى ما أعنيه يا نقاء ! فأنا أساير زوجي وأتابعه ، ولكن لا أسمح له أن يسايرني ويتابعني إلى كل مكان أذهب إليه ، فأنا واثقة من نفسي ، ولكني لست واثقة من زوجي ، فالمرأة الذكية ينبغي أن لا تثق بزوجها مهما داجاها وداهنها ، وأن لا تترك له الحرية الكاملة للتلاعب من ورائها.
وسكتت نقاء برهة وهي تعجب لهذا المنطق ! ثم قالت :
ـ وهل تحبين زوجك يا سعاد ؟
وارتكبت سعاد وترددت لحظة ثم أجابت :
ـ طبعاً .. طبعاً ... فهو رجل ممتاز ، وسوف أعرفك عليه في أقرب فرصة ، أنه شاب رائع ... ولعلني سوف أصحبه لزارتك في أحد الأيام.
ـ عفواً يا سعاد ...! فأنا لا استقبل ضيوفاً من الرجال بمفردي وبدون ابراهيم.
ـ حقاً لقد نسيت إبراهيم ، هذا الذي يقف حائلاً دون كل شيء ...
--------------------------------------------------------------------------------
( 51 )
ـ سعاد .. لا تنسي أنه زوجي قبل كل شيء ، ثم إني أحبه جداً ، ولا أسمح لك أن تنالي منه شيئاً.
ـ ليتني كنت موجودة قبل عقد قرانك يا نقاء ... !
ـ ولماذا يا سعاد ؟!
ـ كنت أحول بينك وبين هذا المصير ...
ـ إذن لكنت قد تسببت في حرماني من السعادة في الحياة ...!
ـ أنت تكابرين يا نقاء ...! وهذه هي غلطتك منذ اليوم الأول إذ وافقت على إتمام العقد قبل أن تتعرفي على سلوكه وطباعه ...
ـ لم تزدني المعرفة إلا ثقة فيه وإعجاباً به ، ثم إني لا أكابر وليس هناك أي داع للمكابرة يا سعاد ! أنا رضيت بإبراهيم زوجاً بكامل حريتي ، وقد كنت أتمكن أن أرفضه لو شئت ، ولكني رضيت ولم أندم على ذلك يوما ما ، ولن أندم عليه طول الحياة . أنت تظنين أنه بإمكان الفتاة المخطوبة أن تتعرف على شخصية خطيبها الواقعية ايام الخطوبة ... إن كلا من الطرفين سوف يسلكان سلوكاً تحفظياً رسمياً ما داما خطيبين ، وسوف لن تتكشف طباعهما وسلوكهما لبعضهما إلا بعد الزواج ، فالرجل مهما حمل من أخطاء وعانى من نقاط ضعف ، فهو يتمكن أن يخفيها عن عروسه إلى مدة من الزمان حتى لا يخسرها قبل الزواج ، وكذلك المرأة أيضاً ، وعلى هذا
--------------------------------------------------------------------------------
( 52 )
فإن أيام الخطوبة لا تزيد الخطيبين إلا غموضاً وتعقيداً فقد تبدو من الرجل بعض خصاله غير المحمودة أمام امرأة غريبة بدون قصد منه ، ولكنه بالنسبة لخطيبته سوف يتعمد أن لا تبدو منه إلا النواحي الحسنة.
ـ ولكن المجتمع يرى غير رأيك يا نقاء ! أنت الوحيدة التي تفكرين على هذا النحو من التفكير.
ـ أنت تقصدين بالمجتمع ، مجتمعك أنت يا سعاد ! أما المجتمع الذي أعيشه فأفكاره أفكاري وما أنا إلا واحدة من ملايين يرون هذا ويسيرون عليه.
ـ وما لي أرى لملايينك هؤلاء أثراً ولا اسمع لهم خبراً ؟!.
ـ أنت ترينهم وتسمعينهم يا سعاد ! ولكنك تأبين أن تصدقي عينيك ، وتستنكرين ما تسمعه أذناك ، أنهم ملء السمع والبصر ، ولكن الظلام الذي يكتنف أبصار المنحرفين يحجبهم عنهم إلى حين.
ـ إستمري يا نقاء ! فأنا يلذ لي كثيراً أن أسمعك وأنت ترجعين أمثال هذه الكلمات الرنانة ، فلم يعد يعوزك يا عزيزتي إلا محراب تصلين فيه الليل والنهار وترتلين فيه الأدعية والأوراد !...
ـ أنت غلطانة يا سعاد ! فإن البون شاسع جداً بين ما
--------------------------------------------------------------------------------
( 53 )
أقوله وبين أن أعتكف في محرابي أصلي واصوم ، أنا ملء الحياة يا سعاد ، والحياة كلها لي أيضاً ، ولكن الحياة الطاهرة النقية والحياة المثلى.
ـ أراك أصبحت ترددين كلمات العجائز من جاراتك يا نقاء ! أهكذا وبهذه السرعة تتلاشى منك روح الشباب الوثابة وحرارة الفتوة الطليقة ، أسفي عليك يا نقاء ! فأنا دائماً وأبداً كنت أتنبأ لك بمستقبل باهر لما أنت عليه من جمال وسحر ، وطالما قلت لمحمود زوجي ، أن أبنة خالتي هي أجمل فتيات عصرها ، ولهذا فهو يتحرق شوقاً للتعرف عليك وإذا بك الآن وأنت لا تتكلمين إلا بالمثل ، ولا تتحدثين إلا بالمواعظ والحكم.
ـ أنا لم أفه بموعظة واحدة أو آتي بحكمة قصيرة ، وإنما كنت أتكلم عن واقع الحياة ، والواقع بدون رتوش.
ـ لله در إبراهيم الذي تمكن من تلقينك هذه العبارات !
ـ سعاد ، أرجو أن لا تعودى إلى المس من إبراهيم ، فهذا ما لن أرضاه أبداً ... ليتك كنت وعيت مفاهيمه لتعرفي أي نمط هو من الرجال ... نعم ليتك تتعرفين عليه.
ـ وارتبكت سعاد وعلت وجهها صفرة باهتة ، ثم تمالكت نفسها وقالت :
ـ طبعاً سوف أتعرف يوماً ما ، ولكن ليس الآن.
--------------------------------------------------------------------------------
( 54 )
ـ ولماذ يا سعاد ؟! ... أنا واثقة من أنك لو رأيته مرة واحدة لغيرت رأيك فيه ، ولأعجبك كثيراً ! ... نعم كثيراً.
وبذلت سعاد جهداً جباراً وهي تحاول أن تبدو طبيعية ثم قالت في تهكم :
ـ أنا لا يرضيني الرجل الذي يكون على غرار إبراهيم ، مهما كان وأياً كان.
قالت سعاد ذلك وهي تعلم أنها تكذب ، فهي لم يحلو لها رجل غير إبراهيم ، ولم يسحرها شاب سواه...
وضحكت نقاء ضحكة قصيرة هادئة ، ثم قالت :
ـ ومن يدري فلعلك رأيتيه من قبل ولم تعرفيه ، أو لعلك سوف ترينه بعد الآن فلا تعرفينه ، أنظري يا سعاد ...! هي ذي صورته معلقة على الجدار ، أنظريه جيداً لتتعرفي عليه إذا اتفق ورأيتيه.
وارتبكت سعاد ... فيه لا تريد أن تنظر إلى صورة إبراهيم بمرأى ومشهد من نقاء ، لكيلا يبدو عليها ما يريب ، فهي لم تكن على ثقة من أن عوامل النقمة والانتقام سوف لن تنطبع على وجهها ... وهي ترى صورته تحتل الصدارة في غرفة نقاء ، في الوقت الذي حرمت هي منه حتى من أن تلقي عليه نظرة واحدة . أنها لم تعد تحب إبراهيم فقد استحال حبها إلى حقد اسود ... وتبدلت عواطفها نحوه إلى
--------------------------------------------------------------------------------
( 55 )
شواظ من نار ، تحاول أن تحرق بها إبراهيم وزوجته والمثل التي يؤمن بها ... ولذلك فلم ترفع رأسها نحو الصورة ، ولكن نقاء كررت عليها وهي تشير إلى الصورة قائلة :
ـ أنظريه بالله عليك يا سعاد ! هل يمكن لصاحب هذه الصورة أن يكون رجلاً مداجياً أو ظالماً لأحد ؟ ... أو هل يستحق هذا الشخص العزيز هجماتك الظالمة ؟ انظريه .. يا سعاد لتري صدق ما أقول...
وكانت سعاد تعلم أنها صادقة فهي تعرف إبراهيم حق المعرفة وتعلم أنه بريء من كل ما تسعى لأن تنسبه إليه ، ولم يسعها إلا أن ترفع بصرها نحو الصورة ، وألقت نحوها نظرة عابرة ، ثم قالت :
ـ لا يبعد أن أكون قد رأيته مرة أو مرتين في إحدى الحفلات الليلية...
ـ أنا لا يهمني ما تقولين ، ولكن الذي يهمني أن تفهمي يا سعاد إني أحترم صاحب هذه الصورة ! وهو زوجي أمام الله وأمام الناس ، وأنا فخورة به جداً ، ولا أرضى لأحد أن يمسه بسوء أو ينال منه بكلام ... نعم ... أنا فخورة به جداً.
وكانت كلمات نقاء تلذع فؤاد سعاد كجمرات من نار ، ولم تكن نقاء تعلم ذلك او تحتمله أيضاً.
--------------------------------------------------------------------------------
( 56 )
ـ أدام الله لك سعادتك هذه يا نقاء ! فأنا بصفتي زوجة أقدر السعادة الزوجية ، وأدعو لكل زوجة بالنجاح فيها.
وساد الغرفة سكوت دام دقائق ونهضت بعده سعاد واستأذنت بالانصراف ، ولم تشأ نقاء أن تستبقيها أكثر ، وودعتها بفتور ، ثم عرجت على غرفة أمها وجلست تسامرها حتى قدم أبوها ، فتناولوا عشاءهم ، وانصرفت نقاء بعده إلى غرفتها ، وكانت تشعر بوحشة لغياب إبراهيم ، وافتقدت قدومه في الموعد المحدد من كل يوم ، وكانت تحس بضيق شديد على أثر سماع كلمات سعاد ، وهي تود لو أنها لم تكن ضيفتها ، لتتمكن أن تكون معها أكثر صراحة وأن تبدي لها رأيها فيها وفي سلوكها كما أبدت سعاد رأيها في سلوكها هي ... ولكنها كانت مسالمة ... وكان من العسير عليها أن تجابه بنت خالتها وهي في ضيافتها بكلام شديد أو تكلمها بلهجة صارمة... وأرقت تلك الليلة وهي تفكر في مفاهيم سعاد الخاطئة ، وتسعى لإيجاد طريقة لإصلاح هذه المفاهيم وتوجيهها توجيهاً صحيحاً.
......................................................................................................
الفصل الخامس
دخلت سعاد غرفتها وهي تشعر بانهيار شديد ، فهي تخشى أن تكون نقاء قد لاحظت عليها شيئاً من ارتباك ، أو قرأت على ملامحها ما كان يعتلج في صدرها من انفعالات وهي تتردد في النظر إلى صورة إبراهيم ، ثم وهي تنظرها أخيراً ...
وألقت بنفسها على السرير ، وأطلقت لفكرها العنان ، فكرت في أنها غامرت بذهابها إلى نقاء... فماذا لو كان إبراهيم قد رجع من سفرته القصيرة ؟ وماذا لو كان قد صادفها هناك ؟ أو ماذا لو كانت نقاء قد لاحظت عليها ما يريب ؟ وذلك يعني أنها لا تتمكن أن تحقق غايتها في الانتقام على الوجه الذي تريد ، فهي قد سحقت كبرياءها ولم تظهر الغيظ من عودة نقاء وعدم انتظارها عند الخياطة مع أنها لم تتأخر كثيراً ، لكي لا تخاصم نقاء ، والخصام معها يعني ابتعادها عنها ، وهي لا تريد أن تبتعد عنها في هذه الظروف ، حتى تنتهي من مؤامراتها الانتقامية ، فهي لا تريد أن تترك نقاء إلا بعد أن تسمم ذهنها بالأفكار التي تعتنقها هي ، والتي
--------------------------------------------------------------------------------
( 58 )
تعلم واثقة أنها أفكار ضالة موبؤة لا تجلب لصاحبها غير الخسران والحرمان ، كانت تريد أن تلقي بينهما نفس السد الذي حال بينها وبين إبراهيم . وأرقت ليلتها وهي تفكر... ولم تخرج في تلك الليلة على خلاف عادتها في باقي الليالي ، وأفاقت في الصباح فاستحمت وارتدت ملابسها ، ثم استدعت خادمتها الخاصة سنية ، وجاءت سنية وهي امرأة شابة لا تتجاوز العقد الثالث من عمرها ، ولا تخلو من لمحة جمال ، وكانت المساحيق والأدهان تعلو وجهها بوفرة ، وقد صففت شعرها على أحدث طريقة ، فحيت سيدتها ووقفت تنتظر ، فصعدت سعادة نظرها فيها وتأملت أناقتها ، ثم سألتها :
ـ هل إتصل بي أحد في التلفون يا سنية ؟!.
ـ إن سيدي لم يخرج لحد الآن ، ولذلك فهو يرد على كل نداء.
ـ وأمس عصراً حينما لم أكن في البيت ألم يطلبني أحد ؟
ـ كان سيدى في غرفته وكان التلفون معه أيضاً ؟
ـ أو لم يخرج سيدك أمس أيضاً ؟
ـ لا ...
ـ وليلاً يا سنية هل خرج سيدك ؟
ـ لا ، لم يخرج مطلقاً.
ـ لعله مريض...
--------------------------------------------------------------------------------
( 59 )
ـ لا أدري.
ـ أو لم يزره أحد يا سنية.
ـ أبداً.
ـ هل أنت على يقين من ذلك ؟
ـ ثقي يا سيدتي إني لا أتجسس على سيدي مطلقاً.
ـ ومتى كلفتك أن تتجسسي عليه .. انصرفي الآن.
واستدارت سنية لتخرج ، ولكن سعاد استوقفتها قائلة :
ـ سينة ...! أنا لا أحب منك هذا الافراط في الأناقة ... إن من يراك يظن أنك في حفلة ساهرة ، إذهبي وصففي شعرك بطريقة أقل إثارة ، وخففي من مكياجك الصارخ...
ـ ولماذا يا سيدتي ؟ أو لست حرة بالتصرف في شعري ووجهي.
ـ هل رأيت قبل الآن من تعمل تسريحة كتسريحتك هذه ؟ وتعمل مكياجاً صارخاً مثل هذا المكياج في الصبح وفي رابعة النهار ؟
ـ إنك ـ أنت ـ يا سيدتي تذهبين كل صباح إلى محلات التجميل قبل أن تبدأي جولتك النهارية !!
ـ أنا سيدة متزوجة والمجتمع يحتم على ذلك.
ـ لم يتفق لسيدي أن رآك مرة وأنت على زينتك يا سيدتي
--------------------------------------------------------------------------------
( 60 )
إلا في بعض الحفلات ، فهو لا يصل إليك إلا بعد أن تكوني قد أنهكك التعب وأعيتك الأناقة ...!
ـ أنت لا تفهمين ما تقولين يا سنية ! كيف تجرئين على مخاطبتي بهذه اللهجة ؟ هل أنت سوى مجرد خادمة يمكنني طردك في كل ساعة ؟
ـ أحقاً أنك تستطيعين طردي في أي ساعة يا سيدتي ؟!
ـ نعم أو لست سيدة البيت ؟
ـ فلماذا لا تطردينني إذا يا سيدتي ؟
ـ أنت تغيظينني كثيراً يا سنية !
ـ أبداً لا أتعمد إغاظتك يا سيدتي ، ولكن أقول أنك تستطيعين أن تطرديني بسهولة.
ـ أغربي عن وجهي يا سنية ! كفاك هذراً ووقاحة ، فأنا لا استطيع أن أنظر إليك أكثر من هذا.
ـ أنت مخيرة في ذلك ، ولكن أنا أحرص دائماً أن أنظر إليك كما نظرت من قبل . ورانت على وجه سعاد صفرة باهتة ، وقدحت عيناها بشرر مخيف ، ولكنها جاهدت نفسها لكي لا تصفع هذه الماثلة أمامها بكل صفاقة ، والمتحدية لها بأسلوب لاذع ، فهي كانت تعلم أنها مشدودة إلى سنية بحبل شائك لا فكاك لها منه ولا خلاص ، ولذلك فقد حاولت أن تسيطر على أعصابها ورققت صوتها وأجابت قائلة : أنت
--------------------------------------------------------------------------------
( 61 )
تعلمين أنك أثيرة لدي يا سنية ، ولكني اليوم ضيقة الصدر ، وأردت أن أنفس عني قليلاً.
ـ أنا على ثقة من ذلك يا سيدتي ! ولكن أردت أن أنبهك إلى بعض الظروف فقط ، والآن هل تسمحين لي بالانصراف ؟
ـ طبعاً طبعاً فقد أخرتك كثيراً يا سنية ! وخرجت سنية وهي تتمايل في مشيتها وتتهادى وتابعتها سعاد بعينين تقدحان شرراً وحقداً ، وتمتمت قائلة : يا لها من أفعى سامة تستغل ما تعلمه عني لاهانتي والتنكيل بي ، ولكني جبانة فما الذي أخشاه منها ؟ وماذا عساها أن تقول ! وأي فضيحة سوف تعلنها لو طردتها شر طردة ! لماذا أخاف ! وأي شيء أخشى ، والمجتمع الذي أعيشه يؤكد على إعطاء الحرية الكاملة للمرأة ، وأن المرأة والرجل متساويان في استعمال حريتهما العامة ...؟! نعم ، لماذا أخاف سنية ! وعند من تنوي أن تفضحني ! وجميع من حولي قد أثقلت كواهلهم الآثام ، وزخرت حياتهم بالخطايا والزلات ، نعم لست أخشى أحداً غير محمود ، فهو لا يزال يجهل واقعي الذي أعيشه ، وقد دفعته إلى ما يلهيه عن كل شيء ، وسنية قادرة على إثارته لو أرادت ، ومحمود يعني عندي الشيء الكثير ، فهو الثراء والغنى ، وهو المال الذي يخضع له كل شيء ، ولا يقف أمامه شيء ، ولذلك فإن عليّ أن أوطن نفسي على تحمل هذه العقرب اللعينة ، إنها تتحداني بكلماتها ، وقد عرفت ما كانت تعنيه ، ولم يعتكف
--------------------------------------------------------------------------------
( 62 )
محمود في البيت إلا لأجلها ، وهي كانت تحاول أن تفهمني ذلك بكل صفاقة ، ولكني مشدودة إليها على كل حال ، ليتني كنت قد صرفتها من البيت مع سفر محمود ، إنها كانت غلطتي في الواقع ، ولكنها إنتهت على كل حال ، والان فإن عليّ أن أذهب إلى غرفة محمود...
ونهضت متثاقلة ، والتفت بردائها الحريري. وذهبت إلى غرفة محمود ، ولم تشأ أن تطرق عليه الباب ، فقد أرادت أن تفاجئه لترى الحالة التي هو عليها ، ففتحت باب الغرفة ، وتطلعت إلى الداخل لترى محمود جالساً يستمع إلى أنغام الموسيقى ، وهو في كمال حيويته ونشاطه ، فدخلت إلى الغرفة وهي تقول : ما شاء الله كنت أظنك مريضاً يا محمود ! ولكنك في أتم الصحة والحمد لله ، وابتسم محمود ابتسامة تهكمية ، ثم قال : أنا اليوم على أحسن حال يا سعاد ... ! فما الذي أوحى إليك إني مريض ؟.
ـ عدم خروجك من البيت اليوم وأمس ، على خلاف عادتك في باقي الأيام !.
ـ وما يدريك يا عزيزتي بأني كنت أخرج في كل يوم ، فأنت تخرجين قبل كل خارج وتعودين بعد كل عائد !.
ـ وهل من المعقول أن تقضي أيامك كلها في البيت ؟
ـ إن الليالي تكفيني يا سعاد.
--------------------------------------------------------------------------------
( 63 )
ـ أنت تتحداني بكلامك هذا يا محمود !
ـ أبداً يا عزيزتي ، ولكني منذ أيام أشعر برغبة ملحة للبقاء في البيت.
ـ وبأي شيء تقضي أوقاتك يا محمود ؟
ـ أطالع الكتب وأستمع إلى الأخبار.
ـ عظيم ، متى أصبحت هكذا يا عزيزتي ؟ بل أين لك الكتب التي تطالعها ؟ وهل هناك خبر عالمي يهتم به شخصك الكريم ؟!.
ـ أنت تتجنين عليّ يا عزيزتي ! فأنا لست من الغباء بالمقدار الذي تظنين.
ـ الآن صارحني بالحقيقة يا محمود ، ما الذي قعد بك أمس عن الخروج ؟
ـ لقد قلت لك يا عزيزتي ، إني منذ أيام لم أخرج طول النهار من البيت غالباً ...
ـ ولماذا ؟!.
ـ لدي شؤون مهمة يتحتم عليّ قضاءها هنا يا سعاد !
ـ وهل أن شؤونك المهمة مقصور قضاؤها على البيت ؟
ـ نعم نعم بالضبط.
ـ أتعلم يا محمود بأنك تغيظني كثيراً ..!
--------------------------------------------------------------------------------
( 64 )
ـ ولماذا يا سعاد ؟. هل أن بقائي في البيت يغيظك إلى هذا الحد ؟!.
ـ طبعاً ، فأنا أفهم ما تعنيه من بقائك في البيت هذه الأيام ، ولكن أريد منك أن تكون صريحاً على طول الخط ...
ـ وهل كنت صريحة معي عندما امتنعت من السفر برفقتي إلى حلب في الشهر الماضي ؟..
وهل قدمت لي حجة معقولة تقضي بتخلفك عنى في دمشق وبقاؤك وحدك هنا لمدة أسبوع ؟
وتجهم وجه سعاد وهي تستمع إلى زوجها يتحدث ، ثم قالت : أنت تنتقم مني إذن يا محمود ؟
ـ وهل كان موقفك ذاك حركة عدائية لكي تعتبريني في دور الانتقام ؟ لا ، أنا لا أنتقم ولكني هكذا كنت ، وهكذا سأكون ... أخرج متى يحلو لي ، وأبقى في البيت متى أريد ، إنه بيتي أنا يا سعاد ! لعلك نسيت ذلك.
ـ ولكن سنية وصيفتي أنا يا محمود..
ـ ولكن راتبها مني يا سعاد ! وأنا سيدها الواقعي.
ـ أنا أتمكن أن أطردها وأحرمك منها متى أشاء.
ـ أبداً أنت لن تفعلي ذلك ، وأنت تعلمين ذلك جيداً.
ـ ماذا تقصد يا محمود ؟
ـ لا شيء لا شيء مطلقاً .. فقط إني أقصد أن نضع بيننا هدنة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 65 )
ـ آه أتساوم يا محمود !
ـ لك أن تسميها ما شئت يا عزيزتي ! مساومة ، هدنة ، تعادل قوى ، فرص متكافئة ، أنت حرة في التسمية كما أنت حرة في كل شيء.
ـ أنت تسحق أعصابي سحقاً يا محمود ..!
ـ وأعصابي يا سعاد ؟!
ـ إنها من حديد...
ـ ولكنك تتمكنين أن تحطمي الحديد يا سعاد !
ـ هل حقاً أنا قوية إلى هذا الحد ؟!
ـ وأكثر بكثير...
ـ إذن فنحن متكافئان ...
ـ لا بل أنك أنت المتقدمة في الصراع ، فما أنا إلا نتاج يديك في هذا الضمار.
ـ من دواعي فخري أن أكون كذلك.
ـ فافتخري إذن يا سعاد ! والآن أي ريح طيبة دفعتك إلى غرفتي يا عزيزتي.
ـ أنا لا أصدق أن الحب ساقك إليّ فهل أنت في حاجة إلى مال ؟ أنت لم تدخلي غرفتي منذ زمن طويل ، فاشرحي لي الأسباب التي دعتك إلى هذه الزيارة.
وهنا أردفت سعاد في دلال قائلة : غير المرغوب فيها طبعاً.
ـ بل الزيارة التي تقت إليها كثيراً.
--------------------------------------------------------------------------------
( 66 )
ـ هل أنك لا تزال ترغب في زيارتي يا محمود ؟
ـ أو تشكين في ذلك يا سعاد ! إن حبي لك هو الذي حملني على الصبر عليك طيلة هذه المدة على أمل أن تمني عليّ بنظرة ، أو تعطفي بلفتة ، وأنا أصارحك ! أني تعيس بهذا الحب ، ولست سعيداً به أبداً ، ولكني أحبك يا سعاد ، ولا أطيق عنك فكاكاً ، وشعرت سعاد أن عليها أن تلبس لبوس الرقة والدماثة ، وأن تحاول أن تستبقي مكانتها في قلب محمود ، وإن كانت تزدريه وتنفر منه ، ولكن سلطان المال كان عندها أقوى من كل عاطفة ، وقد حطمت الحضارة الكاذبة كبرياءها وجردتها من عزتها الأنثوية ، ولذلك فقد صممت على أن تسعى لاستمرار سيطرتها على محمود ، وإن كانت غريمتها الحالية خادمتها سنية ، فهي لا تستطيع أن تعيش يوماً وأحداً بدون أموال محمود ، فطبعت على وجهها ابتسامتها الكاذبة التي كانت تتمكن أن تطبعها حيث تريد ولمن تريد.
ـ ورققت صوتها ، وأسبغت عليه نغمة عذبة حنوناً ، وقالت في دلال : أنت تظلمني يا محمود ! فإن عندي من الحب أضعاف ما عندك يا عزيزي ، ولكن مشاغل الحياة هي التي تحول بيني وبين الارتواء من معين حبك الغالي ... وأسكرت هذه النغمة محمود ، وأنسته جميع خيانات زوجته ، وأنسته ايضاً رفيقاته وصديقاته وسنية وغيرها من النساء ، ولم يعد يشعر إلا بسعاد وهي تكلمه بنغمة طال به الشوق إليها
--------------------------------------------------------------------------------
( 67 )
وعادت به هذه الكلمات إلى أيام خطوبته منها وقت أن كانت تسكب في أذنيه أعذب آيات الغرام ، ففتح ذراعية لها وهو يقول :
ـ أنا لا أزال رهن هواك يا سعاد ! فلا غنى لي في حياتي عنك أبداً ، وجاهدت سعاد كثيراً قبل أن تستجيب لذراعيه ، وهي تشعر بحالة تقزز ونفور ، ولكن هو المال والثروة قد ذهبا بعزتها لأنها تعبد المال وتتغنى بالثروة...
.................................................................................................
الفصل السادس
عاد إبراهيم من اللاذقية بعد غيبة طالت يومين ، وسارع للذهاب إلى نقاء ، وكانت نقاء تنتظر عودته بفارغ الصبر ، وسارعت إلى استقباله في الباب ، وكل ذرة في كيانها تنطق بالشوق والحب...
وبادرته بعد أن استقر بهما الجلوس قائلة :
ـ لقد أوحشتني كثيراً يا إبراهيم
ـ وأنا كذلك يا عزيزة الروح ، فقد انقضى عليّ اليومان المنصرمان وكأنهما عامان كانت دقائقهما كأسابيع وساعاتهما كشهور.
وشعرت بفراغ كبير لبعدك يا إبراهيم.
ـ ولكني لم أفرغ منك لحظة لأشعر بالفراغ فقد كنت معي دائماً...
ـ إن قربك أصبح ضرورة من ضرورات حياتي ، وأساساً من أسس كياني يا إبراهيم.
ـ أما أنت فقد غدوت لي حياتي كلها ، فأنت لي كل
--------------------------------------------------------------------------------
( 70 )
شيء ولا شيء عندي غيرك يا نقاء ! فأنا أحب حياتي ووجودي لأجلك لأنه سوف يكون وقفاً عليك يا نقاء ...! إذن فأنت لي كل شيء ولا شيء عندي غيرك...
كانت نقاء تسبح في آفاق السعادة وهي تستمع إلى كلمات إبراهيم وصوته الحنون... واستمر إبراهيم يقول :
ـ نعم يا نقاء ! أنت بالنسبة لي الحياة الواقعية التي تزخر بالسعادة وتعمر بالهناء ، وقد فتشت طويلاً قبل أن أهتدي إليك لأجد فيك ضالتي المنشودة وأملي الكبير.. لهذا فأنا سعيد بك ... ومفرط في السعادة.
ـ وأنا كذلك يا إبراهيم ، ولكن أخشى على سعادتنا هذه من أن تمسها يد الدهر الخؤون ، أو أن تنال منها حوادث الزمن الغادر ، بودي لو كنت أطمئن إلى خلود سعادتنا مدى الحياة .. نعم ، بودي لو أطمئن ...
ـ أنا مطمئن ... فأطمئني يا نقاء ! فالسعادة الحقيقية لا تمحو سطورها الأقدار ، ولا تنالها يد البلى ، فسعادتنا تنبع عن الحب والاخلاص . وسعادة يكون رصيدها حباً طاهراً وإخلاصاً واقعياً لا يمكن لأي عامل من عوامل الدهر أن ينالها بسوء... بماذا أنت سعيدة يا نقاء ؟
ـ بك أنت وحدك يا إبراهيم ... بروحك الطاهرة ... بسلوكك المهذب ... بقلبك الكبير ... بعواطفك الخيرة ...
--------------------------------------------------------------------------------
( 71 )
بصوتك الحنون ... نعم ، بك أنت وحدك يا إبراهيم !
ـ وكذلك أنا يا نقاء ... سعيد بك يا عزيزتي... بصفاء روحك ونبل عواطفك ... بصدق حبك وودادك ... بثبات فكرك وروحياتك ... بالروعة الملائكية التي تشع بهالة من نور حول وجهك الرائع القسمات ... وعلى هذا ، فإن سعادتنا لن تزول ولن تحول أبد الدهر ، إن السعادة التي تتلاشى وتضمحل نتيجة لتعاقب الحوادث والأيام ليست سعادة واقعية ، إنها سعادة موهومة قائمة على أسس مادية مزيفة ، والمادة لابد أن تزول ، ولكن الروح ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، فالسعادة التي يكون قوامها مادة أرضية ، مثل المال أو الجاه أو الجمال ليست سعادة ، ولا حتى شبه سعادة ، وإنما هي شبه سكرة قصيرة على أحلام الغنى والجمال ، والسكرة لا تدوم طويلاً ، والغفوة يعقبها صحو طويل . تلك هي السعادة التي يخشى من زوالها ، وتلك هي السعادة التي تضل من يجري وراءها ، وتخدع من يركن إليها في الحياة ، أما سعادتنا يا نقاء ! فهي سعادة خالدة خلود الروح ، راسخة رسوخ النفوس في الأجسام ... فاطمئني يا عزيزتي ، فليست حياتنا الزوجية المقبلة سوى مثال رائع للحياة الزوجية السعيدة الهانئة ، فما دامت أرواحنا متحدة ، وقلوبنا متقاربة ، وأفكارنا منسجمة متماثلة ، سنكون في منجاة من أي خطر يهدد سعادتنا المتوخاة . فإن أهم عوامل هدم السعادة الزوجية هو تباين الآراء وإختلاف النظرة في الحياة .
--------------------------------------------------------------------------------
( 72 )
وشاعت السعادة على وجه نقاء ، وهي تستمع إلى إبراهيم ، وودت لو استمر يتكلم واستمرت هي تستمع إلى ما لا نهاية.
--------------------------------------------------------------------------------
يتبع
مر أسبوع نسيت نقاء خلاله حديث سعاد ، وكادت أن تنسى سعاد نفسها أيضاً ، فقد كانت تعيش في نعيم مستمر وهي تتذوق كل يوم كأساً جديدة من كؤوس السعادة والهناء ، ولم يكن لديها ما يكدر صفوها سوى ترقب قرب سفر إبراهيم. وفي أحد الأيام ذهب إبراهيم في مهمة إلى اللاذقية ، واتفق أن كانت في ذلك اليوم على موعد مع الخياطة لتذهب لعمل القياسات. ونظراً لعدم وجود إبراهيم اضطرت إلى الوقوف في الشارع لانتظار سيارة تقلها إلى حيث تريد. وفجأة أبصرت أمامها سعاد وهي تترجل من سيارتها قائلة :
ـ يا لها من صدفة سعيدة ، تفضلي واركبي معي يا نقاء ! فأنا على استعداد لايصالك إلى حيث تشائين.
ولم تشأ نقاء أن تركب مع سعاد ، فاعتذرت عن ذلك ، ولكن سعاد ألحت عليها بالطلب بصورة لم يسعها إلا أن تجيب ، وركبت السيارة إلى جوار سعاد ، وكانت سعاد هي التي تسوق سيارتها دائماً وبعد أن سارت بهما السيارة مدة وجيزة التفتت سعاد نحوها قائلة :
--------------------------------------------------------------------------------
( 42 )
ـ كأني قد سمعت منك أن لدى ... لدى ... أعذريني ، أقصد لدى زوجك ، فقد نسيت اسمه .. لديه سيارة.
ـ لقد سافر إبراهيم في ساعة مبكرة من الصباح في مهمة مستعجلة إلى اللاذقية.
ـ لابد لي أن أتعرف عليه يوماً ما يا نقاء.
ـ طبعاً طبعاً.
ـ ولكني أخشاه..
ـ أنت غلطانة يا سعاد ! فهو دمث الاخلاق محبب إلى النفس.
ـ ولكنه على ما سمعت منك يا عزيزتي رجل شديد ، صارم ، له سلوك خاص.
ـ أنا لم أقل شيئاً من هذا يا سعاد ! فهو لين الجانب ، سهل العريكة ، مسالم إلى أقصى حد.
ـ بالنسبة لك طبعاً ، وبعد أن سخرك لآرائه وأفكاره ، أما بالنسبة لنا ـ نحن النساء العصريات ـ فلا.
ـ أنا لا يعجبني منك هذا التعبير يا سعاد ، أنه لم يسخرني أبداً فأنا بطبعي أشاركه في آرائه وأفكاره.
ـ ما شاء الله يا لكما من زوجين سعيدين.
--------------------------------------------------------------------------------
( 43)
ـ واقعاً...
ـ على فكرة يا عزيزتي ! هل تفكرين أن تتعلمي السياقة يوماً ما ؟
ـ لا ، لأنها ليست ضرورية للمرأة ، ولست في حاجة إليها.
ـ ولماذا ... ؟.
ـ الواقع إني لا أشعر بحاجة إلى ذلك ، فان ابراهيم على استعداد لايصالي إلى حيث أريد ، ثم إني لن أركب السيارة وحدي بدونه ، فما الذي يدعوني إلى أن أقودها بدلاً عنه !.
ـ طبعاً أنه سوف لن يسمح لك بذلك ، وسوف يكون له من هذا أحسن حجة لمتابعتك إلى حيث تذهبين ، ولكنك سوف لن تستطيعي أن تتابعيه حتى إلى مكان واحد بحجة أنك مسلمة محافظة.
ـ وما لي وله يا سعاد ! هل ترين لي من اللائق أن أذهب معه إلى المحل أو أجلس بجواره في غرفة الحسابات ، أن هذه أمور من اختصاصه هو وحده.
ـ وسهراته وحفلاته ورحلاته .. ووو... إلى آخر تحركاته وتنقلاته ؟.
ـ لكل رجل رحلاته وحفلاته ، كما أن للمرأة أيضاً حفلاتها وزياراتها الخاصة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 44 )
ـ ولكن الرجل تكون له الحفلات العامة والمجالات الواسعة ، أما المرأة التي على غرارك فإن لها حفلاتها الخاصة وتنقلاتها المحدودة.
ـ إن إبراهيم ليس من رواد الحفلات المختلطة. والنوادي الصاخبة.
ـ أنت مخدوعة يا نقاء ! فالرجل ، وأي رجل كان ، لا تقف أمام تحركاته حدود أو سدود ، ولكنهم على صنفين : صنف مسالم طيب ، يشرك زوجته في جميع أنواع فعالياته الاجتماعية ، وقسم صارم شديد ، يستغل بساطة زوجته ليحتجزها في البيت بشتى أنواع الحجج والمبررات.
ـ إن الرجل الطيب المثالي هو الذي يشرك معه زوجته في آرائه وأفكاره وأهدافه ووجدانه لا في تحركاته وتنقلاته ، فإن للمرأة أفقاً خاصاً لا يصح للرجل أن ينزل بها عنه.
ـ مرحى مرحى لهذه النغمة الغريبة التي أصبحت تتكلمين بها يا نقاء !...
ـ أنا لا أقرك ، أن عندي نغمة غريبة أو أي فكرة جديدة ، فأنا هكذا كنت وهكذا سأكون.
ـ طبعاً أنت هكذا كنت قبل الآن ، أيام كنت طفلة جاهلة بأساليب الحياة ، ولكن الغريب في الأمر جمودك على هذا وأنت في هذا السن الذي يقف بك على عتبة الحياة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 45 )
ـ أرجوك يا سعاد ! أنت لا تعرفين ما تقولين.
ـ على العكس يا عزيزتي ! فأنا أعني ما أقول ، ولكن ...
ـ أنا لا أحب هذا اللاكن يا سعاد ! فكأن كلماتك لها ما وراءها !.
ـ صدقي أني في حيرة منك يا عزيزتي ! لا أدري كيف أتصرف ، وأنا أراك في طريقك إلى افتقاد شخصيتك ، وإتلاف مستقبلك بالسير وراء أمثال هذه الفكر الرجعية ، أنت الفتاة العصرية المثقفة تلتزمين بقيود وحدود بحجة أنك مسلمة ، وأن زوجك مسلم محافظ. أفلسنا جميعاً مسلمين ؟ أتصدقين أن إبراهيم وحده على حق وملايين البشر على باطل ؟ فكري بنفسك يا نقاء ! لترين أنك بخضوعك لابراهيم ولأفكاره ومعتقداته سوف تخسرين الكثير !
ـ أنا لست خاضعة لابراهيم أو غيره ، وإنما أنا سائرة وراء مبدأي وعقيدتي الشخصية.
ـ وهل أن من عقيدتك الشخصية هذه الحياة التافهة التي تحيينها ، وهذه العزلة التي فرضت عليك فرضاً ؟ !.
ـ أنا لست في عزلة كما تظنين ، وليست حياتي حياة تافهة بل أنها حافلة بجميع ما تصبو إليه النفس.
ـ لأنك لا تزالين تجهلين ما تصبو إليه نفسك ، ولا تزالين
--------------------------------------------------------------------------------
( 46 )
تجهلين الحياة الواقعية لتصبي إليها يا نقاء ! أنت لا تزالين صغيرة ، ولذلك فقد تمكن إبراهيم من تضليلك...
ـ أنا لا أجهل شيئاً من الحياة ، وإني واثقة من صواب نهجي الذي أنا عليه ، وإن عقيدتي هذه سوف تحقق لي ولزوجي السعادة الكاملة في كل حال من الأحوال ... أنا لست متعطشة للاندماج في مجتمع متحلل فاسد ... فإن لي مجتمعي الخاص الذي أنعم فيه بالعلاقات البريئة والمصاحبات الطاهرة النقية ... أنا لست جاهلة يا سعاد ، ولكنني أعني ما أقول وأقصد ما أعمل ولست في حاجة إلى أي نصيحة أو إرشاد ...
وضحكت سعاد طويلاً ، ثم أردفت قائلة :
ـ عفوك يا آنسة ! أنا لم أكن أقصد إثارتك من قريب أو بعيد ، أما الآن وقد ثرت ... ولا أدري لماذا ؟! .. فأنا أستميحك العذر...
ثم أدارت وجهها ناحية نقاء ، وحاولت أن تركز نظراتها في وجهها لتقرأ على صفحته السبب في انفعالها ، فقد خيل لها ، أن سهماً من سهامها قد أصاب هدفاً في قلب نقاء ، فاندفعت تنفس عن مشاعرها بهذه الثورة بدون إحساس منها لذلك ، ولكن نقاء أدارت وجهها ناحية الشارع ، وقالت :
ـ أنا لم أثر يا سعاد ! ولكن تأثرت فقط.
--------------------------------------------------------------------------------
( 47 )
ـ الويل لي إذا كنت قد آذيتك يا عزيزتي ! أنا لن أغفر لنفسي هذا مطلقاً ، فأنا أعتبر نفسي أختاً ناصحة ، ولا أقصد مما قلت سوى صلاحك وصلاح مستقبلك الذي يهمني كثيراً !!! فقد كنت واثقة دائماً من أنك سوف تتربعين على عرش المجتمع وأنك سوف تدخلين الحياة لترين جميع أبوابها مفتوحة أمامك واسعة ، ولكن الآن وقد تلاشت جميع آمالي بالنسبة لك ، وهذا هو ما دعاني إلى الاندفاع إلى مصارحتك ببعض الحقائق ... ومرة أخرى أستميحك العذر.
ـ انت معذورة يا سعاد !...
ـ أهكذا ... وبمثل هذه اللهجة يا نقاء ... ؟
ـ نعم ، فلا يسعني أن أقول شيئاً غير هذا !.
ـ كما تريدين يا عزيزتي ! فلست إلا ناصحة ، والآن وقد وصلنا ، فمتى تريدين أن أمر عليك لأرجعك إلى البيت ؟
ـ شكراً يا سعاد ! سوف أرجع وحدي ...
ـ أبداً ، إن هذا محال ، لن أدعك تنتظرين « الأمانة » على قارعة الطريق وعندي سيارة ، سوف أرجع بعد ساعة لآخذك إلى البيت.
ولم ترد عليها نقاء رداً واضحاً ، ولكنها بعد أن أتمت عمل القياسات ركبت « الأمانة » ورجعت إلى البيت دون أن
--------------------------------------------------------------------------------
( 48 )
تنتظر سعاد ، وكانت تعلم أن ذلك سوف يغيظها ، ولكن لا يهم ، فهي تود أن تبعد سعاد عن طريقها بأي صورة كانت.
وفي العصر كانت نقاء جالسة أمام مكتبتها تصلح من ترتيبها ، فشعرت أن باب غرفتها يتحرك ، فاستدارت لترى سعاد فارتبكت وظنت أن سعاد جاءت عاتبة ، ونهضت لاستقبالها ، وقد صممت على أن تصارحها بالحقيقة إن عتبت عليها ، لعدم انتظارها لها عند الخياطة ، ولكنها فوجئت بسعاد تقول :
ـ أنا خجلانة جداً يا نقاء ... ! فقد كانت غلطة لابد أن تغفريها لي ، أنا لم أكن أقصد التأخر ، ولكني تأخرت ، وسبب ذلك عودتك وحدك.
ـ واحتارت نقاء ... بماذا ترد على سعاد ، ولم تتمكن أن تقابل تسامحها هذا بالتجني ، فلم يسعها إلا أن تقول :
ـ لا عليك يا سعاد ! فأنا لم انتظر طويلاً كما تظنين ، والآن تفضلي واجلسي يا سعاد !
وجلست سعاد على كرسي هناك ، وشرعت تتكلم ... تكلمت عن الحفلة التي دعيت إليها في الليلة الماضية ، والمطربة التي أحيتها حتى مطلع الفجر ، والفتيات المخدوعات اللواتي كن يتطايرن في سمائها ... وتحدثت عن الأفلام الأجنبية التي تعرض في دور السينما ، وفصولها المثيرة الخلابة
--------------------------------------------------------------------------------
( 49 )
وتحدثت عن رحلات الصيد التي تقوم بها مع ثلة من أصحابها في كثير من الأوقات ، ثم تحدثت أخيراً عن أحواض السباحة والمسبح الجديد. وعلى الجملة : فقد تحدثت عن كل شيء أرادت أن تتحدث به ، ونقاء ، تستمع إليها بهدوء وإتزان لا تكاد تعلق على كلامها إلا بالنزر القليل. واستغربت نقاء تجاهل سعاد لذكر زوجها في جميع أحاديثها ، وإهمالها لوجوده في جميع تصرفاتها ، فاغتنمت فرصة قصيرة سكتت خلالها سعاد لتسألها قائلة :
ـ وزوجك يا سعاد ! أراك تتجاهلين وجوده في سجل حياتك الحافل ؟!.
وودت سعاد لو تتمكن أن تصرخ بنقاء ، قائلة : مالك ولزوجي يا بنت ... فقد ظنت أن نقاء تتحداها بهذا السؤال ، فإن شخصية زوجها التافهة كانت نقطة ضعف بالنسبة إليها على طول الخط ، ولكنها سرعان ما تذكرت أن عليها ان لا تغضب نقاء ، وأن عليها أن تداهنها حتى تتمكن من الوصول إلى غاياتها الانتقامية ، فتمالكت نفسها ، وأجابت ضاحكة :
ـ أنا زوجة حرة يا نقاء ! لا أقرن حياتي بحياة زوجي مطلقاً ، ولا أسايره إلا في الحفلات العامة التي ندعى إليها سوياً ، نحن نقول بمبدأ المساواة بين المرأة والرجل.
--------------------------------------------------------------------------------
( 50 )
ـ عجيب أمرك يا سعاد ! منذ ساعة كنت تدعين إلى مرافقة المرأة زوجها ومسايرته إلى حيث ذهب ، والآن تقولين أنك حرة ، لك عالمك المستقل !!
ـ أنت لم تنتبهي إلى ما أعنيه يا نقاء ! فأنا أساير زوجي وأتابعه ، ولكن لا أسمح له أن يسايرني ويتابعني إلى كل مكان أذهب إليه ، فأنا واثقة من نفسي ، ولكني لست واثقة من زوجي ، فالمرأة الذكية ينبغي أن لا تثق بزوجها مهما داجاها وداهنها ، وأن لا تترك له الحرية الكاملة للتلاعب من ورائها.
وسكتت نقاء برهة وهي تعجب لهذا المنطق ! ثم قالت :
ـ وهل تحبين زوجك يا سعاد ؟
وارتكبت سعاد وترددت لحظة ثم أجابت :
ـ طبعاً .. طبعاً ... فهو رجل ممتاز ، وسوف أعرفك عليه في أقرب فرصة ، أنه شاب رائع ... ولعلني سوف أصحبه لزارتك في أحد الأيام.
ـ عفواً يا سعاد ...! فأنا لا استقبل ضيوفاً من الرجال بمفردي وبدون ابراهيم.
ـ حقاً لقد نسيت إبراهيم ، هذا الذي يقف حائلاً دون كل شيء ...
--------------------------------------------------------------------------------
( 51 )
ـ سعاد .. لا تنسي أنه زوجي قبل كل شيء ، ثم إني أحبه جداً ، ولا أسمح لك أن تنالي منه شيئاً.
ـ ليتني كنت موجودة قبل عقد قرانك يا نقاء ... !
ـ ولماذا يا سعاد ؟!
ـ كنت أحول بينك وبين هذا المصير ...
ـ إذن لكنت قد تسببت في حرماني من السعادة في الحياة ...!
ـ أنت تكابرين يا نقاء ...! وهذه هي غلطتك منذ اليوم الأول إذ وافقت على إتمام العقد قبل أن تتعرفي على سلوكه وطباعه ...
ـ لم تزدني المعرفة إلا ثقة فيه وإعجاباً به ، ثم إني لا أكابر وليس هناك أي داع للمكابرة يا سعاد ! أنا رضيت بإبراهيم زوجاً بكامل حريتي ، وقد كنت أتمكن أن أرفضه لو شئت ، ولكني رضيت ولم أندم على ذلك يوما ما ، ولن أندم عليه طول الحياة . أنت تظنين أنه بإمكان الفتاة المخطوبة أن تتعرف على شخصية خطيبها الواقعية ايام الخطوبة ... إن كلا من الطرفين سوف يسلكان سلوكاً تحفظياً رسمياً ما داما خطيبين ، وسوف لن تتكشف طباعهما وسلوكهما لبعضهما إلا بعد الزواج ، فالرجل مهما حمل من أخطاء وعانى من نقاط ضعف ، فهو يتمكن أن يخفيها عن عروسه إلى مدة من الزمان حتى لا يخسرها قبل الزواج ، وكذلك المرأة أيضاً ، وعلى هذا
--------------------------------------------------------------------------------
( 52 )
فإن أيام الخطوبة لا تزيد الخطيبين إلا غموضاً وتعقيداً فقد تبدو من الرجل بعض خصاله غير المحمودة أمام امرأة غريبة بدون قصد منه ، ولكنه بالنسبة لخطيبته سوف يتعمد أن لا تبدو منه إلا النواحي الحسنة.
ـ ولكن المجتمع يرى غير رأيك يا نقاء ! أنت الوحيدة التي تفكرين على هذا النحو من التفكير.
ـ أنت تقصدين بالمجتمع ، مجتمعك أنت يا سعاد ! أما المجتمع الذي أعيشه فأفكاره أفكاري وما أنا إلا واحدة من ملايين يرون هذا ويسيرون عليه.
ـ وما لي أرى لملايينك هؤلاء أثراً ولا اسمع لهم خبراً ؟!.
ـ أنت ترينهم وتسمعينهم يا سعاد ! ولكنك تأبين أن تصدقي عينيك ، وتستنكرين ما تسمعه أذناك ، أنهم ملء السمع والبصر ، ولكن الظلام الذي يكتنف أبصار المنحرفين يحجبهم عنهم إلى حين.
ـ إستمري يا نقاء ! فأنا يلذ لي كثيراً أن أسمعك وأنت ترجعين أمثال هذه الكلمات الرنانة ، فلم يعد يعوزك يا عزيزتي إلا محراب تصلين فيه الليل والنهار وترتلين فيه الأدعية والأوراد !...
ـ أنت غلطانة يا سعاد ! فإن البون شاسع جداً بين ما
--------------------------------------------------------------------------------
( 53 )
أقوله وبين أن أعتكف في محرابي أصلي واصوم ، أنا ملء الحياة يا سعاد ، والحياة كلها لي أيضاً ، ولكن الحياة الطاهرة النقية والحياة المثلى.
ـ أراك أصبحت ترددين كلمات العجائز من جاراتك يا نقاء ! أهكذا وبهذه السرعة تتلاشى منك روح الشباب الوثابة وحرارة الفتوة الطليقة ، أسفي عليك يا نقاء ! فأنا دائماً وأبداً كنت أتنبأ لك بمستقبل باهر لما أنت عليه من جمال وسحر ، وطالما قلت لمحمود زوجي ، أن أبنة خالتي هي أجمل فتيات عصرها ، ولهذا فهو يتحرق شوقاً للتعرف عليك وإذا بك الآن وأنت لا تتكلمين إلا بالمثل ، ولا تتحدثين إلا بالمواعظ والحكم.
ـ أنا لم أفه بموعظة واحدة أو آتي بحكمة قصيرة ، وإنما كنت أتكلم عن واقع الحياة ، والواقع بدون رتوش.
ـ لله در إبراهيم الذي تمكن من تلقينك هذه العبارات !
ـ سعاد ، أرجو أن لا تعودى إلى المس من إبراهيم ، فهذا ما لن أرضاه أبداً ... ليتك كنت وعيت مفاهيمه لتعرفي أي نمط هو من الرجال ... نعم ليتك تتعرفين عليه.
ـ وارتبكت سعاد وعلت وجهها صفرة باهتة ، ثم تمالكت نفسها وقالت :
ـ طبعاً سوف أتعرف يوماً ما ، ولكن ليس الآن.
--------------------------------------------------------------------------------
( 54 )
ـ ولماذ يا سعاد ؟! ... أنا واثقة من أنك لو رأيته مرة واحدة لغيرت رأيك فيه ، ولأعجبك كثيراً ! ... نعم كثيراً.
وبذلت سعاد جهداً جباراً وهي تحاول أن تبدو طبيعية ثم قالت في تهكم :
ـ أنا لا يرضيني الرجل الذي يكون على غرار إبراهيم ، مهما كان وأياً كان.
قالت سعاد ذلك وهي تعلم أنها تكذب ، فهي لم يحلو لها رجل غير إبراهيم ، ولم يسحرها شاب سواه...
وضحكت نقاء ضحكة قصيرة هادئة ، ثم قالت :
ـ ومن يدري فلعلك رأيتيه من قبل ولم تعرفيه ، أو لعلك سوف ترينه بعد الآن فلا تعرفينه ، أنظري يا سعاد ...! هي ذي صورته معلقة على الجدار ، أنظريه جيداً لتتعرفي عليه إذا اتفق ورأيتيه.
وارتبكت سعاد ... فيه لا تريد أن تنظر إلى صورة إبراهيم بمرأى ومشهد من نقاء ، لكيلا يبدو عليها ما يريب ، فهي لم تكن على ثقة من أن عوامل النقمة والانتقام سوف لن تنطبع على وجهها ... وهي ترى صورته تحتل الصدارة في غرفة نقاء ، في الوقت الذي حرمت هي منه حتى من أن تلقي عليه نظرة واحدة . أنها لم تعد تحب إبراهيم فقد استحال حبها إلى حقد اسود ... وتبدلت عواطفها نحوه إلى
--------------------------------------------------------------------------------
( 55 )
شواظ من نار ، تحاول أن تحرق بها إبراهيم وزوجته والمثل التي يؤمن بها ... ولذلك فلم ترفع رأسها نحو الصورة ، ولكن نقاء كررت عليها وهي تشير إلى الصورة قائلة :
ـ أنظريه بالله عليك يا سعاد ! هل يمكن لصاحب هذه الصورة أن يكون رجلاً مداجياً أو ظالماً لأحد ؟ ... أو هل يستحق هذا الشخص العزيز هجماتك الظالمة ؟ انظريه .. يا سعاد لتري صدق ما أقول...
وكانت سعاد تعلم أنها صادقة فهي تعرف إبراهيم حق المعرفة وتعلم أنه بريء من كل ما تسعى لأن تنسبه إليه ، ولم يسعها إلا أن ترفع بصرها نحو الصورة ، وألقت نحوها نظرة عابرة ، ثم قالت :
ـ لا يبعد أن أكون قد رأيته مرة أو مرتين في إحدى الحفلات الليلية...
ـ أنا لا يهمني ما تقولين ، ولكن الذي يهمني أن تفهمي يا سعاد إني أحترم صاحب هذه الصورة ! وهو زوجي أمام الله وأمام الناس ، وأنا فخورة به جداً ، ولا أرضى لأحد أن يمسه بسوء أو ينال منه بكلام ... نعم ... أنا فخورة به جداً.
وكانت كلمات نقاء تلذع فؤاد سعاد كجمرات من نار ، ولم تكن نقاء تعلم ذلك او تحتمله أيضاً.
--------------------------------------------------------------------------------
( 56 )
ـ أدام الله لك سعادتك هذه يا نقاء ! فأنا بصفتي زوجة أقدر السعادة الزوجية ، وأدعو لكل زوجة بالنجاح فيها.
وساد الغرفة سكوت دام دقائق ونهضت بعده سعاد واستأذنت بالانصراف ، ولم تشأ نقاء أن تستبقيها أكثر ، وودعتها بفتور ، ثم عرجت على غرفة أمها وجلست تسامرها حتى قدم أبوها ، فتناولوا عشاءهم ، وانصرفت نقاء بعده إلى غرفتها ، وكانت تشعر بوحشة لغياب إبراهيم ، وافتقدت قدومه في الموعد المحدد من كل يوم ، وكانت تحس بضيق شديد على أثر سماع كلمات سعاد ، وهي تود لو أنها لم تكن ضيفتها ، لتتمكن أن تكون معها أكثر صراحة وأن تبدي لها رأيها فيها وفي سلوكها كما أبدت سعاد رأيها في سلوكها هي ... ولكنها كانت مسالمة ... وكان من العسير عليها أن تجابه بنت خالتها وهي في ضيافتها بكلام شديد أو تكلمها بلهجة صارمة... وأرقت تلك الليلة وهي تفكر في مفاهيم سعاد الخاطئة ، وتسعى لإيجاد طريقة لإصلاح هذه المفاهيم وتوجيهها توجيهاً صحيحاً.
......................................................................................................
الفصل الخامس
دخلت سعاد غرفتها وهي تشعر بانهيار شديد ، فهي تخشى أن تكون نقاء قد لاحظت عليها شيئاً من ارتباك ، أو قرأت على ملامحها ما كان يعتلج في صدرها من انفعالات وهي تتردد في النظر إلى صورة إبراهيم ، ثم وهي تنظرها أخيراً ...
وألقت بنفسها على السرير ، وأطلقت لفكرها العنان ، فكرت في أنها غامرت بذهابها إلى نقاء... فماذا لو كان إبراهيم قد رجع من سفرته القصيرة ؟ وماذا لو كان قد صادفها هناك ؟ أو ماذا لو كانت نقاء قد لاحظت عليها ما يريب ؟ وذلك يعني أنها لا تتمكن أن تحقق غايتها في الانتقام على الوجه الذي تريد ، فهي قد سحقت كبرياءها ولم تظهر الغيظ من عودة نقاء وعدم انتظارها عند الخياطة مع أنها لم تتأخر كثيراً ، لكي لا تخاصم نقاء ، والخصام معها يعني ابتعادها عنها ، وهي لا تريد أن تبتعد عنها في هذه الظروف ، حتى تنتهي من مؤامراتها الانتقامية ، فهي لا تريد أن تترك نقاء إلا بعد أن تسمم ذهنها بالأفكار التي تعتنقها هي ، والتي
--------------------------------------------------------------------------------
( 58 )
تعلم واثقة أنها أفكار ضالة موبؤة لا تجلب لصاحبها غير الخسران والحرمان ، كانت تريد أن تلقي بينهما نفس السد الذي حال بينها وبين إبراهيم . وأرقت ليلتها وهي تفكر... ولم تخرج في تلك الليلة على خلاف عادتها في باقي الليالي ، وأفاقت في الصباح فاستحمت وارتدت ملابسها ، ثم استدعت خادمتها الخاصة سنية ، وجاءت سنية وهي امرأة شابة لا تتجاوز العقد الثالث من عمرها ، ولا تخلو من لمحة جمال ، وكانت المساحيق والأدهان تعلو وجهها بوفرة ، وقد صففت شعرها على أحدث طريقة ، فحيت سيدتها ووقفت تنتظر ، فصعدت سعادة نظرها فيها وتأملت أناقتها ، ثم سألتها :
ـ هل إتصل بي أحد في التلفون يا سنية ؟!.
ـ إن سيدي لم يخرج لحد الآن ، ولذلك فهو يرد على كل نداء.
ـ وأمس عصراً حينما لم أكن في البيت ألم يطلبني أحد ؟
ـ كان سيدى في غرفته وكان التلفون معه أيضاً ؟
ـ أو لم يخرج سيدك أمس أيضاً ؟
ـ لا ...
ـ وليلاً يا سنية هل خرج سيدك ؟
ـ لا ، لم يخرج مطلقاً.
ـ لعله مريض...
--------------------------------------------------------------------------------
( 59 )
ـ لا أدري.
ـ أو لم يزره أحد يا سنية.
ـ أبداً.
ـ هل أنت على يقين من ذلك ؟
ـ ثقي يا سيدتي إني لا أتجسس على سيدي مطلقاً.
ـ ومتى كلفتك أن تتجسسي عليه .. انصرفي الآن.
واستدارت سنية لتخرج ، ولكن سعاد استوقفتها قائلة :
ـ سينة ...! أنا لا أحب منك هذا الافراط في الأناقة ... إن من يراك يظن أنك في حفلة ساهرة ، إذهبي وصففي شعرك بطريقة أقل إثارة ، وخففي من مكياجك الصارخ...
ـ ولماذا يا سيدتي ؟ أو لست حرة بالتصرف في شعري ووجهي.
ـ هل رأيت قبل الآن من تعمل تسريحة كتسريحتك هذه ؟ وتعمل مكياجاً صارخاً مثل هذا المكياج في الصبح وفي رابعة النهار ؟
ـ إنك ـ أنت ـ يا سيدتي تذهبين كل صباح إلى محلات التجميل قبل أن تبدأي جولتك النهارية !!
ـ أنا سيدة متزوجة والمجتمع يحتم على ذلك.
ـ لم يتفق لسيدي أن رآك مرة وأنت على زينتك يا سيدتي
--------------------------------------------------------------------------------
( 60 )
إلا في بعض الحفلات ، فهو لا يصل إليك إلا بعد أن تكوني قد أنهكك التعب وأعيتك الأناقة ...!
ـ أنت لا تفهمين ما تقولين يا سنية ! كيف تجرئين على مخاطبتي بهذه اللهجة ؟ هل أنت سوى مجرد خادمة يمكنني طردك في كل ساعة ؟
ـ أحقاً أنك تستطيعين طردي في أي ساعة يا سيدتي ؟!
ـ نعم أو لست سيدة البيت ؟
ـ فلماذا لا تطردينني إذا يا سيدتي ؟
ـ أنت تغيظينني كثيراً يا سنية !
ـ أبداً لا أتعمد إغاظتك يا سيدتي ، ولكن أقول أنك تستطيعين أن تطرديني بسهولة.
ـ أغربي عن وجهي يا سنية ! كفاك هذراً ووقاحة ، فأنا لا استطيع أن أنظر إليك أكثر من هذا.
ـ أنت مخيرة في ذلك ، ولكن أنا أحرص دائماً أن أنظر إليك كما نظرت من قبل . ورانت على وجه سعاد صفرة باهتة ، وقدحت عيناها بشرر مخيف ، ولكنها جاهدت نفسها لكي لا تصفع هذه الماثلة أمامها بكل صفاقة ، والمتحدية لها بأسلوب لاذع ، فهي كانت تعلم أنها مشدودة إلى سنية بحبل شائك لا فكاك لها منه ولا خلاص ، ولذلك فقد حاولت أن تسيطر على أعصابها ورققت صوتها وأجابت قائلة : أنت
--------------------------------------------------------------------------------
( 61 )
تعلمين أنك أثيرة لدي يا سنية ، ولكني اليوم ضيقة الصدر ، وأردت أن أنفس عني قليلاً.
ـ أنا على ثقة من ذلك يا سيدتي ! ولكن أردت أن أنبهك إلى بعض الظروف فقط ، والآن هل تسمحين لي بالانصراف ؟
ـ طبعاً طبعاً فقد أخرتك كثيراً يا سنية ! وخرجت سنية وهي تتمايل في مشيتها وتتهادى وتابعتها سعاد بعينين تقدحان شرراً وحقداً ، وتمتمت قائلة : يا لها من أفعى سامة تستغل ما تعلمه عني لاهانتي والتنكيل بي ، ولكني جبانة فما الذي أخشاه منها ؟ وماذا عساها أن تقول ! وأي فضيحة سوف تعلنها لو طردتها شر طردة ! لماذا أخاف ! وأي شيء أخشى ، والمجتمع الذي أعيشه يؤكد على إعطاء الحرية الكاملة للمرأة ، وأن المرأة والرجل متساويان في استعمال حريتهما العامة ...؟! نعم ، لماذا أخاف سنية ! وعند من تنوي أن تفضحني ! وجميع من حولي قد أثقلت كواهلهم الآثام ، وزخرت حياتهم بالخطايا والزلات ، نعم لست أخشى أحداً غير محمود ، فهو لا يزال يجهل واقعي الذي أعيشه ، وقد دفعته إلى ما يلهيه عن كل شيء ، وسنية قادرة على إثارته لو أرادت ، ومحمود يعني عندي الشيء الكثير ، فهو الثراء والغنى ، وهو المال الذي يخضع له كل شيء ، ولا يقف أمامه شيء ، ولذلك فإن عليّ أن أوطن نفسي على تحمل هذه العقرب اللعينة ، إنها تتحداني بكلماتها ، وقد عرفت ما كانت تعنيه ، ولم يعتكف
--------------------------------------------------------------------------------
( 62 )
محمود في البيت إلا لأجلها ، وهي كانت تحاول أن تفهمني ذلك بكل صفاقة ، ولكني مشدودة إليها على كل حال ، ليتني كنت قد صرفتها من البيت مع سفر محمود ، إنها كانت غلطتي في الواقع ، ولكنها إنتهت على كل حال ، والان فإن عليّ أن أذهب إلى غرفة محمود...
ونهضت متثاقلة ، والتفت بردائها الحريري. وذهبت إلى غرفة محمود ، ولم تشأ أن تطرق عليه الباب ، فقد أرادت أن تفاجئه لترى الحالة التي هو عليها ، ففتحت باب الغرفة ، وتطلعت إلى الداخل لترى محمود جالساً يستمع إلى أنغام الموسيقى ، وهو في كمال حيويته ونشاطه ، فدخلت إلى الغرفة وهي تقول : ما شاء الله كنت أظنك مريضاً يا محمود ! ولكنك في أتم الصحة والحمد لله ، وابتسم محمود ابتسامة تهكمية ، ثم قال : أنا اليوم على أحسن حال يا سعاد ... ! فما الذي أوحى إليك إني مريض ؟.
ـ عدم خروجك من البيت اليوم وأمس ، على خلاف عادتك في باقي الأيام !.
ـ وما يدريك يا عزيزتي بأني كنت أخرج في كل يوم ، فأنت تخرجين قبل كل خارج وتعودين بعد كل عائد !.
ـ وهل من المعقول أن تقضي أيامك كلها في البيت ؟
ـ إن الليالي تكفيني يا سعاد.
--------------------------------------------------------------------------------
( 63 )
ـ أنت تتحداني بكلامك هذا يا محمود !
ـ أبداً يا عزيزتي ، ولكني منذ أيام أشعر برغبة ملحة للبقاء في البيت.
ـ وبأي شيء تقضي أوقاتك يا محمود ؟
ـ أطالع الكتب وأستمع إلى الأخبار.
ـ عظيم ، متى أصبحت هكذا يا عزيزتي ؟ بل أين لك الكتب التي تطالعها ؟ وهل هناك خبر عالمي يهتم به شخصك الكريم ؟!.
ـ أنت تتجنين عليّ يا عزيزتي ! فأنا لست من الغباء بالمقدار الذي تظنين.
ـ الآن صارحني بالحقيقة يا محمود ، ما الذي قعد بك أمس عن الخروج ؟
ـ لقد قلت لك يا عزيزتي ، إني منذ أيام لم أخرج طول النهار من البيت غالباً ...
ـ ولماذا ؟!.
ـ لدي شؤون مهمة يتحتم عليّ قضاءها هنا يا سعاد !
ـ وهل أن شؤونك المهمة مقصور قضاؤها على البيت ؟
ـ نعم نعم بالضبط.
ـ أتعلم يا محمود بأنك تغيظني كثيراً ..!
--------------------------------------------------------------------------------
( 64 )
ـ ولماذا يا سعاد ؟. هل أن بقائي في البيت يغيظك إلى هذا الحد ؟!.
ـ طبعاً ، فأنا أفهم ما تعنيه من بقائك في البيت هذه الأيام ، ولكن أريد منك أن تكون صريحاً على طول الخط ...
ـ وهل كنت صريحة معي عندما امتنعت من السفر برفقتي إلى حلب في الشهر الماضي ؟..
وهل قدمت لي حجة معقولة تقضي بتخلفك عنى في دمشق وبقاؤك وحدك هنا لمدة أسبوع ؟
وتجهم وجه سعاد وهي تستمع إلى زوجها يتحدث ، ثم قالت : أنت تنتقم مني إذن يا محمود ؟
ـ وهل كان موقفك ذاك حركة عدائية لكي تعتبريني في دور الانتقام ؟ لا ، أنا لا أنتقم ولكني هكذا كنت ، وهكذا سأكون ... أخرج متى يحلو لي ، وأبقى في البيت متى أريد ، إنه بيتي أنا يا سعاد ! لعلك نسيت ذلك.
ـ ولكن سنية وصيفتي أنا يا محمود..
ـ ولكن راتبها مني يا سعاد ! وأنا سيدها الواقعي.
ـ أنا أتمكن أن أطردها وأحرمك منها متى أشاء.
ـ أبداً أنت لن تفعلي ذلك ، وأنت تعلمين ذلك جيداً.
ـ ماذا تقصد يا محمود ؟
ـ لا شيء لا شيء مطلقاً .. فقط إني أقصد أن نضع بيننا هدنة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 65 )
ـ آه أتساوم يا محمود !
ـ لك أن تسميها ما شئت يا عزيزتي ! مساومة ، هدنة ، تعادل قوى ، فرص متكافئة ، أنت حرة في التسمية كما أنت حرة في كل شيء.
ـ أنت تسحق أعصابي سحقاً يا محمود ..!
ـ وأعصابي يا سعاد ؟!
ـ إنها من حديد...
ـ ولكنك تتمكنين أن تحطمي الحديد يا سعاد !
ـ هل حقاً أنا قوية إلى هذا الحد ؟!
ـ وأكثر بكثير...
ـ إذن فنحن متكافئان ...
ـ لا بل أنك أنت المتقدمة في الصراع ، فما أنا إلا نتاج يديك في هذا الضمار.
ـ من دواعي فخري أن أكون كذلك.
ـ فافتخري إذن يا سعاد ! والآن أي ريح طيبة دفعتك إلى غرفتي يا عزيزتي.
ـ أنا لا أصدق أن الحب ساقك إليّ فهل أنت في حاجة إلى مال ؟ أنت لم تدخلي غرفتي منذ زمن طويل ، فاشرحي لي الأسباب التي دعتك إلى هذه الزيارة.
وهنا أردفت سعاد في دلال قائلة : غير المرغوب فيها طبعاً.
ـ بل الزيارة التي تقت إليها كثيراً.
--------------------------------------------------------------------------------
( 66 )
ـ هل أنك لا تزال ترغب في زيارتي يا محمود ؟
ـ أو تشكين في ذلك يا سعاد ! إن حبي لك هو الذي حملني على الصبر عليك طيلة هذه المدة على أمل أن تمني عليّ بنظرة ، أو تعطفي بلفتة ، وأنا أصارحك ! أني تعيس بهذا الحب ، ولست سعيداً به أبداً ، ولكني أحبك يا سعاد ، ولا أطيق عنك فكاكاً ، وشعرت سعاد أن عليها أن تلبس لبوس الرقة والدماثة ، وأن تحاول أن تستبقي مكانتها في قلب محمود ، وإن كانت تزدريه وتنفر منه ، ولكن سلطان المال كان عندها أقوى من كل عاطفة ، وقد حطمت الحضارة الكاذبة كبرياءها وجردتها من عزتها الأنثوية ، ولذلك فقد صممت على أن تسعى لاستمرار سيطرتها على محمود ، وإن كانت غريمتها الحالية خادمتها سنية ، فهي لا تستطيع أن تعيش يوماً وأحداً بدون أموال محمود ، فطبعت على وجهها ابتسامتها الكاذبة التي كانت تتمكن أن تطبعها حيث تريد ولمن تريد.
ـ ورققت صوتها ، وأسبغت عليه نغمة عذبة حنوناً ، وقالت في دلال : أنت تظلمني يا محمود ! فإن عندي من الحب أضعاف ما عندك يا عزيزي ، ولكن مشاغل الحياة هي التي تحول بيني وبين الارتواء من معين حبك الغالي ... وأسكرت هذه النغمة محمود ، وأنسته جميع خيانات زوجته ، وأنسته ايضاً رفيقاته وصديقاته وسنية وغيرها من النساء ، ولم يعد يشعر إلا بسعاد وهي تكلمه بنغمة طال به الشوق إليها
--------------------------------------------------------------------------------
( 67 )
وعادت به هذه الكلمات إلى أيام خطوبته منها وقت أن كانت تسكب في أذنيه أعذب آيات الغرام ، ففتح ذراعية لها وهو يقول :
ـ أنا لا أزال رهن هواك يا سعاد ! فلا غنى لي في حياتي عنك أبداً ، وجاهدت سعاد كثيراً قبل أن تستجيب لذراعيه ، وهي تشعر بحالة تقزز ونفور ، ولكن هو المال والثروة قد ذهبا بعزتها لأنها تعبد المال وتتغنى بالثروة...
.................................................................................................
الفصل السادس
عاد إبراهيم من اللاذقية بعد غيبة طالت يومين ، وسارع للذهاب إلى نقاء ، وكانت نقاء تنتظر عودته بفارغ الصبر ، وسارعت إلى استقباله في الباب ، وكل ذرة في كيانها تنطق بالشوق والحب...
وبادرته بعد أن استقر بهما الجلوس قائلة :
ـ لقد أوحشتني كثيراً يا إبراهيم
ـ وأنا كذلك يا عزيزة الروح ، فقد انقضى عليّ اليومان المنصرمان وكأنهما عامان كانت دقائقهما كأسابيع وساعاتهما كشهور.
وشعرت بفراغ كبير لبعدك يا إبراهيم.
ـ ولكني لم أفرغ منك لحظة لأشعر بالفراغ فقد كنت معي دائماً...
ـ إن قربك أصبح ضرورة من ضرورات حياتي ، وأساساً من أسس كياني يا إبراهيم.
ـ أما أنت فقد غدوت لي حياتي كلها ، فأنت لي كل
--------------------------------------------------------------------------------
( 70 )
شيء ولا شيء عندي غيرك يا نقاء ! فأنا أحب حياتي ووجودي لأجلك لأنه سوف يكون وقفاً عليك يا نقاء ...! إذن فأنت لي كل شيء ولا شيء عندي غيرك...
كانت نقاء تسبح في آفاق السعادة وهي تستمع إلى كلمات إبراهيم وصوته الحنون... واستمر إبراهيم يقول :
ـ نعم يا نقاء ! أنت بالنسبة لي الحياة الواقعية التي تزخر بالسعادة وتعمر بالهناء ، وقد فتشت طويلاً قبل أن أهتدي إليك لأجد فيك ضالتي المنشودة وأملي الكبير.. لهذا فأنا سعيد بك ... ومفرط في السعادة.
ـ وأنا كذلك يا إبراهيم ، ولكن أخشى على سعادتنا هذه من أن تمسها يد الدهر الخؤون ، أو أن تنال منها حوادث الزمن الغادر ، بودي لو كنت أطمئن إلى خلود سعادتنا مدى الحياة .. نعم ، بودي لو أطمئن ...
ـ أنا مطمئن ... فأطمئني يا نقاء ! فالسعادة الحقيقية لا تمحو سطورها الأقدار ، ولا تنالها يد البلى ، فسعادتنا تنبع عن الحب والاخلاص . وسعادة يكون رصيدها حباً طاهراً وإخلاصاً واقعياً لا يمكن لأي عامل من عوامل الدهر أن ينالها بسوء... بماذا أنت سعيدة يا نقاء ؟
ـ بك أنت وحدك يا إبراهيم ... بروحك الطاهرة ... بسلوكك المهذب ... بقلبك الكبير ... بعواطفك الخيرة ...
--------------------------------------------------------------------------------
( 71 )
بصوتك الحنون ... نعم ، بك أنت وحدك يا إبراهيم !
ـ وكذلك أنا يا نقاء ... سعيد بك يا عزيزتي... بصفاء روحك ونبل عواطفك ... بصدق حبك وودادك ... بثبات فكرك وروحياتك ... بالروعة الملائكية التي تشع بهالة من نور حول وجهك الرائع القسمات ... وعلى هذا ، فإن سعادتنا لن تزول ولن تحول أبد الدهر ، إن السعادة التي تتلاشى وتضمحل نتيجة لتعاقب الحوادث والأيام ليست سعادة واقعية ، إنها سعادة موهومة قائمة على أسس مادية مزيفة ، والمادة لابد أن تزول ، ولكن الروح ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، فالسعادة التي يكون قوامها مادة أرضية ، مثل المال أو الجاه أو الجمال ليست سعادة ، ولا حتى شبه سعادة ، وإنما هي شبه سكرة قصيرة على أحلام الغنى والجمال ، والسكرة لا تدوم طويلاً ، والغفوة يعقبها صحو طويل . تلك هي السعادة التي يخشى من زوالها ، وتلك هي السعادة التي تضل من يجري وراءها ، وتخدع من يركن إليها في الحياة ، أما سعادتنا يا نقاء ! فهي سعادة خالدة خلود الروح ، راسخة رسوخ النفوس في الأجسام ... فاطمئني يا عزيزتي ، فليست حياتنا الزوجية المقبلة سوى مثال رائع للحياة الزوجية السعيدة الهانئة ، فما دامت أرواحنا متحدة ، وقلوبنا متقاربة ، وأفكارنا منسجمة متماثلة ، سنكون في منجاة من أي خطر يهدد سعادتنا المتوخاة . فإن أهم عوامل هدم السعادة الزوجية هو تباين الآراء وإختلاف النظرة في الحياة .
--------------------------------------------------------------------------------
( 72 )
وشاعت السعادة على وجه نقاء ، وهي تستمع إلى إبراهيم ، وودت لو استمر يتكلم واستمرت هي تستمع إلى ما لا نهاية.
--------------------------------------------------------------------------------
يتبع
الصفحة الأخيرة
أما سعاد فقد استقلت سيارتها ، وانطلقت بأقصى سرعة ، وكأنها كانت تحاول أن تصب جام غضبها على هذه الآلات المتحركة ، وعندما وصلت الدار توجهت إلى غرفتها دون أن تعرج على الصالون ، لترى زوجها هل رجع أم لا ؟ وألقت بنفسها على الكرسي وهي في حالة انفعال عصيب. وتمتمت قائلة :
ـ الويل له من عنيد ، ألم يكفه أنه ردني عن نفسه ذلك الرد القاسي حتى جاء لينكث جراحي ، فخطب نقاء ، فهو يظن أن نقاء تنسجم مع مفاهيمه ومثله ، وهي التي لا ميزة لها عليّ إلا لتوهمه أنها فتاة فاضلة ... أنا التي سعيت إليه بنفسي قبل أربع سنوات ، لم يستجب لتوسلاتي بحجة أني طائشة ومنحرفة عن آداب الاسلام ، الاسلام الذي يؤمن بمفاهيمه ، ولكنه سوف يعلم أن نقاء هذه لن تكون غير غانية لعوب ، سوف أعرف كيف أنفث فيها السم الذي تجرعته من قبل ، والذي أدى إلى ما أنا عليه من ضيعة وتفاهة في الحياة ، سوف أسدد نحوها نفس السهم الذي أرداني وحرمني من إبراهيم ،
--------------------------------------------------------------------------------
سهم الحضارة الحديثة ، سوف أجعلها واحدة من آلاف الفتيات المخدوعات اللواتي سرن وراء النفير الأجنبي فتحطمت حياتهن من جراء ذلك ، أو لست واحدة منهن ؟ ... ألم أضطر أخيراً إلى الزواج من هذا الرجل التافه على أمل أن أشبع نهمي إلى المال وأتمتع بما تصبو إليه نفسي من متعه ولهو ؟ ... ألم أخضع لسلطان ماله فتجرعت مجونه وتبذله لكي أبقي على الذهب بين يدي ؟ .. سوف أحرم نقاء من إبراهيم كما حرمني نفسه من قبل. سوف لن أمكنه من الحصول على غايته المنشودة ، فهو كان يسعى خلف زوجة مثالية مسلمة مستقيمة ... وسوف أريه أن ذلك محال ، سوف يعرف أن نقاء لا تختلف عن سعاد لو أتيحت لها الفرصة ، أنه يذهب للحصول على شهادة الدكتوراه في الوقت الذي لم يحصل زوجي حتى على شهادة جامعية أولية. محال أن أدع نقاء تنعم بزوج كإبراهيم ، أنا كنت أعرف أنه رجل عبقري صلب العقيدة ولكنه عنيد رجعي مغرور.
وهنا شعرت سعاد أن باب غرفتها يفتح ببطىء ، فتطلعت نحوها لترى زوجها محمود وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة تخابث ثم قال :
لقد ظننتك مريضة يا سعاد وأنت تتجهين إلى غرفتك دون أن تعرجي عليّ ، والان هل لي أن أدخل ؟ ...
ـ وحاولت سعاد أن تبدو طبيعية ، وهي ترد عليه قائلة :
--------------------------------------------------------------------------------
ـ كنت أشعر بصداع شديد منعني أن أعرج على الصالون.
ـ ولكنك الآن في صحة جيدة ، ثم هل أن جلوسك على هذا الكرسي وأنت في كامل ملابسك شيء مريح ؟ أم أن مجرد رؤيتي بالخصوص كانت تتعبك يا سعاد ؟
ـ أرجوك يا محمود ... أراك لا تتوانى عن إثارتي في كل مناسبة ، أنا لم أكن أعرف وجودك في البيت.
ـ شكراً .. ألم تلاحظي وقوف السيارة في الباب ؟!..
ـ أبداً ... فقد فاتني ذلك.
ـ لابد أنك كنت في شغل شاغل عن ذلك.
ـ قلت لك : أنني كنت أشعر بصداع شديد.
ـ ولكنك الآن على ما يبدو في أحسن صحة والحمد لله ؟
ـ محمود ... ما لي أراك تأبى إلا أن تغيظني بأية طريقة ؟
ـ معاذ الله يا سعاد ، فما أنا سوى واحد من عشرات الراكعين على قدميك ، قدميك ، و...
ـ يكفي يا محمود ، أنا أعرف كلماتك وأقاويلك مقدماً
--------------------------------------------------------------------------------
فلا داعي لتكرارها ، فأنا أصبحت أتمكن أن أخمن ما الذي سوف تتحفني به من حكم وآيات.
ـ وهل تروقك الحكم يا سعاد ؟ أو هل تتمكني أن تفهمي حكمة واحدة لو كنت حكيماً ؟ إن من حسن طالعك أن ساقني الحظ إليك ، فأنت لا تكوني تصلحي لزوج سواي.
ـ وأنت ، هل أن هناك امرأة كانت تطيقك غيري وأنت على ما عليه من تفاهة في الحياة ؟ أنت تتكلم عني وتنسى نفسك.
ـ وكيف ؟ هل أنا سيء إلى هذه الدرجة ؟.
ـ المهم أن تعرف أني لو لم أكن زوجة ممتازة لما تحملتك يوماً واحداً فليس لديك ما يحببك إلى المرأة.
ـ فلماذا إذن رضيت بي زوجاً ؟ ولماذا طلبت مني ذلك ودعوتني إليه ؟!.
ـ يا لك من رجل وضيع ...
ـ لا بأس يا سعاد ، أنا أعلم أن عندي ما يشدك إليّ ، أنت تعبدين المال وعندي منه الشيء الكثير ، وعندك أيضاً ما يشدني إليك فأنا أعبد اللذة والجمال وعندك
--------------------------------------------------------------------------------
منهما الشيء الكثير ، ثم أني أريد أن أعيش حراً ، فلابد وأن تكون زوجتي حرة أيضاً ، وعلى هذا فإن كلاً منّا مشدود لصاحبه.
ـ هل انتهيت يا محمود ؟
ـ لا ... فمنذ يومين لم أتمكن أن أراك لحظة واحدة ، لياليك في الحفلات ... وساعات نهارك في محلات التجميل ... وكأنك قد نسيت أن لك زوجاً وبيتاً ... لا أدري ماذا كنا سنصنع لو كان لدينا طفل ؟
نطق محمود بكلمته الأخيرة بمرارة وكأنه ينتزعها من فمه انتزاعاً ، ولكن سعاد لم تهمله لكي يكمل هجومها عليها ، فقد وقفت وهي تقول : أرجوك أن تتركني وحدي يا محمود أنا تعبانة ومريضة أيضاً ، ولابد لي أن أنام.
ـ إذن فأنتِ لا تريدين أن تتناولي معي طعام العشاء.
ـ لا ، مطلقاً ، إذهب عني يا محمود فإن حالي ليس على ما يرام.
ـ أهكذا تطردينني يا سعاد ، ماذا لو ذهبت إلى غير رجعة ؟.
وكادت سعاد أن ترد عليه قائلة : إذهب لا أرجعك الله ... ولكنها سرعان ما تمالكت عواطفها ، فمحمود بالنسبة
--------------------------------------------------------------------------------
لها رصيد ضخم من المال ، فهل يصح أن تتنازل عن هذا الرصيد ؟ أنها لا تحب محمود ، بل أنها تحتقره وتنفر منه ، فهو لا يعدو عن كونه وجوداً تافهاً في الحياة ، لا يملك غير المال ، وحتى أساليب لهوه ومجونه هي التي علمته إياها ودلته عليها ، لكي يتسنى لها أن تعيش معه وهي حرة كما تريد ، ولكن أمواله وبريق الذهب المكدس في صناديقه ، وداره الفخمة الشاهقة ، وسيارته الفارهة ، لم يكن في مقدورها التنازل عن كل هذه الأمور ، ولهذا فقد حاولت أن تطبع على وجهها ابتسامة كانت قد اعتادت أن تأتي بأمثالها متى شاءت ولمن شاءت ، ثم قالت :
ـ أنت تعلم يا محمود أنك إذا ذهبت عني فلن تطيب لي الحياة بدونك ، ولكن الصداع ـ وفي نفسها تقول الصراع ـ هو الذي يدعوني إلى الانفراد بنفسي والركون إلى الراحة.
ـ ليتك لم تكوني جميلة ، أو ليتني لم اكن عبداً لملذاتي ، إذن لعرفت كيف أتصرف معك ، وكيف أميت فيك هذا الغرور ، لابد أنك تودين لو تقولين لي : ليتك لم تكن غنياً ، فدعيني أنا أقولها بدلاً عنك : ليتني لم أكن غنياً ، إذن لما وقعت في أحابيلك الشائكة.
ـ يا عزيزي ! أنت تتجنى عليّ كثيراً فأنا لا أحب فيك إلا شخصك الكريم.
--------------------------------------------------------------------------------
ـ شكراً .. شكراً. وأخيراً أما زلت تصرين على إقصائي ؟
ـ إن جل ما أرجوه أن تكون قريباً مني دائماً ولكن الآن أرجوك أن تنصرف فأنا في حاجة إلى النوم.
ـ هكذا أنت دائماً ، كلماتك معسولة ، وأفعالك جارحة ، وها أنا ذاهب فإطمإني.
ثم نهض محمود وغادر الغرفة دون أن يلقي عليها كلمة وداع ، وساء سعاد أن يتركها محمود غاضباً ، وخشيت إلى لحظة أن تكون قد فرطت فيه. ولكنها عادت إلى ثقتها بجمالها وباستحواذها عليه فرددت في نفسها قائلة :
ـ إن هذا لا يهم فهو رهن إشارتي حين الطلب ، لا يكلفني إرضاؤه سوى بسمة واحدة أو كلمة عذبة ، فلأدعه يغضب حتى أنهي فكري من ناحية إبراهيم ، ذلك الرجل العنيد الذي احتقرني وازدراني بحجة المثل والمفاهيم ، والذي استهان بجمالي وفتوتي ولكوني سافرة ، ولكوني على حد تعبيره منحرفة.
واستلقت في سريرها ، وقد نسيت كل شيء عن محمود ، وخصامها معه ، فلم يكن هذا بالنسبة لها الشيء الجديد ، وقد درجا عليه منذ اليوم الأول لزواجهما ، ولكن أفكارها كانت متجهة إلى ناحية واحدة ، ومتركزة في اتجاه واحد ، وهو
--------------------------------------------------------------------------------
كيفية الانتقام من إبراهيم ، ومن معتقداته وآرائه التي حالت به دونها ، فهي تسعى إلى أن تنتقم من إبراهيم في شخص نقاء ، وأن لا تدع نقاء تفوز به دونها ، أنها لن تترك نقاء تسعد وزوجاً كإبراهيم ، في الوقت الذي تعيش فيه هي مع زوج مثل محمود ، وسهرت سعاد ليلتها تفكر في أحسن طريقة للانتقام.
.......................................................................................................
الفصل الثالث
أصبح الصباح ، ونقاء تتلهف لقدوم إبراهيم ، لكي تستوضحه عما تعرضت إليه سعاد في حديثها عن حق المرأة في الاسلام ، وفي الوقت المعين جاء إبراهيم ، وكان من عادته أن يعرج عليها كل يوم قبل ذهابه إلى المحل. واستقبلته نقاء فرحة مستبشرة ، ولاحظ إبراهيم عندما استقر به الجلوس أن عند نقاء ما تحاول أن تقوله ، وأنها في طريقها إلى أن تفتح معه حديثاً ، فتناول يدها وهو يقول :
ـ مالك اليوم يا نقاء !
وابتسمت نقاء وهي تقول :
ـ مالي !...
ـ أكاد أرى كلمات حائرة على شفتيك يا عزيزتي ، وأكاد أقرأ أفكاراً مضطربة في رأسك الجميل ، قولي ما عندك ، فكلي آذان صاغية ...
هل تستمع إليّ حقاً يا إبراهيم ؟
--------------------------------------------------------------------------------
ـ أي وربي فإن لذة الاستماع إليك لا تفوقها لذة على وجه الأرض.
ـ حتى ولو كان حديثي سؤالاً ...
ـ أي شيء كان يا نقاء.
ـ إبراهيم ! ما الفرق بين المرأة والرجل في دين الاسلام ؟
ـ لا شيء فهما بشر متساويان ، للمرأة ما للرجل ، وعليها ما عليه ، وقد خلق الله المرأة والرجل من طينة واحدة.
ـ فلماذا إذن ؟!.
ـ ماذا يا نقاء ؟!.
ـ أقصد لماذا فرض الاسلام على المرأة المسلمة قيوداً لم يفرضها على الرجل ؟.
ـ إنه لم يفرض عليها أي قيد ، سوى ما تفرضه عليها طبيعتها ويتطلبه تكوينها ، وليست المرأة المسلمة واقعة تحت أي ضغط أو تشديد من قبل الاسلام.
ـ أو ليس الحجاب قيداً للمرأة المسلمة ، وحائلاً دون تمتعها بالحياة كما تريد ؟ أو ليس الحجاب هو المانع الرئيسي عن سفري معك إلى أوروبا مثلاً ؟
--------------------------------------------------------------------------------
ـ أبداً ... ليس حجابك هو المانع في هذه المسألة بالذات ، وليس الحجاب بما هو حجاب يحول دون المرأة وأي شيء ، فأنا أتمكن أن أسافر معك إلى أوروبا وأنت على حجابك يا نقاء ، لو كانت أوروبا بلداً نقية ولو كانت حضارتها حضارة صادقة أو كان مجتمعها مجتمعاً فاضلاً. أنا حينما أعارض فكرة السفر إلى أوروبا أعارضها على حساب محيطها ومجتمعها المتحلل ، وأنا حينما أنقم على الفتيات سفرهن إلى هناك ، خوفاً عليهن من أن يتلوثن بجراثيمها السامة. ولو كنت أعرف أن في ذهابك إلى أوروبا منفعة تجنينها من وراء ذلك ، لما ترددت لحظة أن أصحبك إليها مع ما أنت عليه من حجاب.
ـ أو ليس استطلاع معالم الحضارة والمدنية هناك مكسباً مهماً يا إبراهيم ؟
ـ هذه النقطة بالذات هي مصدر جميع متاعب الفتيات ، فنحن المسلمون ، لا يصح لنا أن نعتبر أوروبا صاحبة حضارة صالحة. فالحضارة الواقعية هي حضارة الاسلام لا غير ، وليست أوروبا وحضارتها لو تعمقنا في درسها سوى تعبير مجدد مبطن عن الجاهلية ، وعلى الخصوص فيما يتعلق بالمرأة الاوروبية.
ـ وكيف ؟ ألم تنافس المرأة الأوروبية الرجل في بلادها وتحصل على حقها كاملاً في الحياة ؟
--------------------------------------------------------------------------------
ـ مطلقاً ... فالمرأة الأوروبية لم تحصل ضمن قوانين أوروبا على بعض ما حصلت عليه المرأة المسلمة في ظل شريعة الاسلام ، بل أنها لم تتمكن حتى من الاحتفاظ بأنوثتها ، فالمرأة الغربية ليست سوى أداة طيعة في أيدي الرجال ، لا تملك شيئاً ، ولا تستقل في أمر من الأمور ، في الوقت الذي تتمتع فيه المرأة المسلمة بكيان مستقل ، وشخصية ثابتة ، لها حقها الكامل في التصرف بمالها وكيانها في الحياة.
المرأة الغربية مغرر بها يا نقاء ، خدعوها ببهرج الحياة وزخرفها في الوقت الذي لا تملك هي فيه حتى ذاك البهرج والزخرف ، أوهموها أنها حرة ، تغطية لنفوذ الرجل عليها في جميع المجالات. ثقي يا عزيزتي أن لو كان في أوروبا بيئة صالحة ومجتمع خير ، لصحبتك إليها راغباً غير مجبور.
ـ أنا على ثقة في ذلك يا إبراهيم ، ولن يعتريني الشك لحظة في حبك لي وحرصك على سعادتي ، ولكني أريد أن أحصل منك على دليل دامغ يرد على كل من يشكك في سعادة حياتنا الزوجية ، ويخشى عليها من التزامات الإسلام . أنا على يقين من صواب نهجنا في الحياة.
ـ وهل هناك حياة سعيدة إذا لم تنهج نهج الإسلام ، ليتك تعلمين يا نقاء ، سحب الشقاء التي تطبق على بيوت المنحرفين عن الإسلام ، والمشاكل الجسام التي تثقل كواهلهم ، وتفكك
--------------------------------------------------------------------------------
حياتهم ، وتشتت شملهم ، إن الحياة الزوجية التي تقوم على أسس صحيحة من المثل والمثالية هي التي ستكون حياة زوجية مثالية ، فكوني واثقة يا حبيبتي من أن حياتك الزوجية سوف تغدو حافلة بجميع أنواع المسرات مفعمة بألوان السعادة والنجاح.
ـ أنا واثقة من ذلك يا إبراهيم ، وقد اطمأننت إلى ذلك منذ اليوم الأول لخطوبتنا وعرف أنك رجل مثالي ، وأنك أقدر ما تكون على إسعاد زوجك في الحياة.
ـ وأنا واثق أيضاً أن روحك الطاهرة بصفائها ونقائها تتسع لكل المثل الخيرة والمفاهيم العليا.
ـ شكراً لك يا إبراهيم ، أنت تمكنني أن أثق من نفسي ، وتهبني القوة في الاعتماد على سلوكي وتصرفاتي في الحياة.
وهنا ألقى إبراهيم نظرة على ساعته وكانت تقارب العاشرة ، ثم ابتسم وهو يقول :
ـ يتحتم عليّ أن أنصرف الآن ، فأنا على موعد مع صاحب لي في تمام العاشرة.
ـ أرجو أن لا أكون قد أزعجتك يا ابراهيم.
ـ بل العكس تماماً ، فأنا سعيد بسؤالك يا نقاء ، ولكن آسف لعدم تمكني من المكث مدة أكثر لأستمع إلى كل ما
--------------------------------------------------------------------------------
يدور في فكرك من أسئلة ، وسوف أعود عند العصر لأستمع إلى ما تقولين إن شاء الله.
ـ أنا لا اسأل لنفسي يا ابراهيم ، فأنا واثقة من ديني ومن عقيدتي ، ولكنها أسئلة تتردد على ألسنة بعض الفتيات ، وكان لابد لي أن أجيب عليها.
ـ أحرصي على أن تكوني بشخصك وسلوكك نعم الجواب ، واجهدي أن تجعلي من نفسك أنموذجاً للفتاة المسلمة السعيدة.
ـ سوف أحاول أن أكون كذلك ، والآن حدثني هل أنت لا تزال تسعى لتقديم موعد سفرك إلى فرنسا ؟
ـ أنا في سبيل محاولة ذلك ، فمتى ما تقدم سفري وانتهت مهمتي هناك سوف تنتهي أيام بعدنا عن بعضنا يا نقاء ، وسوف يضمنا عشنا الهانيء السعيد.
وسكتت نقاء فلم ترد عليه واكتفت أن ابتسمت ابتسامة عذبة بريئة ... ثم نهض إبراهيم فودعها وانصرف.
وعلى طول الطريق كان يفكر وهو يقود سيارته ، في نقاء ، أتراها كانت تسأل مندفعة بشعور شخصي أم مجرد سؤال ، وآلمه أن تكون أفكار الفتيات الطائشات قد شوشت على نقاء ، فكرها الصافي النقي ، وصمم على أن يعود فيتحدث معها في هذا الموضوع لكي يرفع عنها كل ريب أو شك ، فهو يريد
--------------------------------------------------------------------------------
من فتاة أحلامه أن تكون منسجمة معه في الفكرة والرأي والعقيدة. وكان مما حبب نقاء إليه ودفعه إلى طلب يدها هو اعتدال سلوكها وقوة شخصيتها ، فهو حريص على أن لا يقرن حياته مع فتاة نزقة طائشة تلعب مع الريح يمنة ويسرة. وقفزت إلى ذهنه فجأة ذكرى حادثة قديمة مرت به منذ أربع سنوات يوم كانت إحدى الفتيات المخدوعات تحاول أن تستدرجه نحوها بأساليب من الاغراء. ابتسم وهو يتذكر أن تلك الفتاة كانت تأمل أن تنحرف به عن الطريق السوي كيما يمكنها الحصول عليه ، وكيف أنها كانت تحاول جره نحوها بكل طريقة وبشتى الأساليب.
وكانت ابتسامته مزيجاً من الرضا ، لصموده حين ذاك ، والرضاء لاختياره لنقاء الآن ، وود لو علم إلى أين انتهى المطاف بتلك الفتاة ، وهل تمكنت أخيراً من الحصول على صيد ثمين ؟. أو هل تمكنت من نصب أحابيلها حول رجل مسكين تخدعه كما حاولت خداعه من قبل ؟.
ولكن أنى له أن يفهم عنها شالفصل الثالث
أصبح الصباح ، ونقاء تتلهف لقدوم إبراهيم ، لكي تستوضحه عما تعرضت إليه سعاد في حديثها عن حق المرأة في الاسلام ، وفي الوقت المعين جاء إبراهيم ، وكان من عادته أن يعرج عليها كل يوم قبل ذهابه إلى المحل. واستقبلته نقاء فرحة مستبشرة ، ولاحظ إبراهيم عندما استقر به الجلوس أن عند نقاء ما تحاول أن تقوله ، وأنها في طريقها إلى أن تفتح معه حديثاً ، فتناول يدها وهو يقول :
ـ مالك اليوم يا نقاء !
وابتسمت نقاء وهي تقول :
ـ مالي !...
ـ أكاد أرى كلمات حائرة على شفتيك يا عزيزتي ، وأكاد أقرأ أفكاراً مضطربة في رأسك الجميل ، قولي ما عندك ، فكلي آذان صاغية ...
هل تستمع إليّ حقاً يا إبراهيم ؟
--------------------------------------------------------------------------------
ـ أي وربي فإن لذة الاستماع إليك لا تفوقها لذة على وجه الأرض.
ـ حتى ولو كان حديثي سؤالاً ...
ـ أي شيء كان يا نقاء.
ـ إبراهيم ! ما الفرق بين المرأة والرجل في دين الاسلام ؟
ـ لا شيء فهما بشر متساويان ، للمرأة ما للرجل ، وعليها ما عليه ، وقد خلق الله المرأة والرجل من طينة واحدة.
ـ فلماذا إذن ؟!.
ـ ماذا يا نقاء ؟!.
ـ أقصد لماذا فرض الاسلام على المرأة المسلمة قيوداً لم يفرضها على الرجل ؟.
ـ إنه لم يفرض عليها أي قيد ، سوى ما تفرضه عليها طبيعتها ويتطلبه تكوينها ، وليست المرأة المسلمة واقعة تحت أي ضغط أو تشديد من قبل الاسلام.
ـ أو ليس الحجاب قيداً للمرأة المسلمة ، وحائلاً دون تمتعها بالحياة كما تريد ؟ أو ليس الحجاب هو المانع الرئيسي عن سفري معك إلى أوروبا مثلاً ؟
--------------------------------------------------------------------------------
ـ أبداً ... ليس حجابك هو المانع في هذه المسألة بالذات ، وليس الحجاب بما هو حجاب يحول دون المرأة وأي شيء ، فأنا أتمكن أن أسافر معك إلى أوروبا وأنت على حجابك يا نقاء ، لو كانت أوروبا بلداً نقية ولو كانت حضارتها حضارة صادقة أو كان مجتمعها مجتمعاً فاضلاً. أنا حينما أعارض فكرة السفر إلى أوروبا أعارضها على حساب محيطها ومجتمعها المتحلل ، وأنا حينما أنقم على الفتيات سفرهن إلى هناك ، خوفاً عليهن من أن يتلوثن بجراثيمها السامة. ولو كنت أعرف أن في ذهابك إلى أوروبا منفعة تجنينها من وراء ذلك ، لما ترددت لحظة أن أصحبك إليها مع ما أنت عليه من حجاب.
ـ أو ليس استطلاع معالم الحضارة والمدنية هناك مكسباً مهماً يا إبراهيم ؟
ـ هذه النقطة بالذات هي مصدر جميع متاعب الفتيات ، فنحن المسلمون ، لا يصح لنا أن نعتبر أوروبا صاحبة حضارة صالحة. فالحضارة الواقعية هي حضارة الاسلام لا غير ، وليست أوروبا وحضارتها لو تعمقنا في درسها سوى تعبير مجدد مبطن عن الجاهلية ، وعلى الخصوص فيما يتعلق بالمرأة الاوروبية.
ـ وكيف ؟ ألم تنافس المرأة الأوروبية الرجل في بلادها وتحصل على حقها كاملاً في الحياة ؟
--------------------------------------------------------------------------------
ـ مطلقاً ... فالمرأة الأوروبية لم تحصل ضمن قوانين أوروبا على بعض ما حصلت عليه المرأة المسلمة في ظل شريعة الاسلام ، بل أنها لم تتمكن حتى من الاحتفاظ بأنوثتها ، فالمرأة الغربية ليست سوى أداة طيعة في أيدي الرجال ، لا تملك شيئاً ، ولا تستقل في أمر من الأمور ، في الوقت الذي تتمتع فيه المرأة المسلمة بكيان مستقل ، وشخصية ثابتة ، لها حقها الكامل في التصرف بمالها وكيانها في الحياة.
المرأة الغربية مغرر بها يا نقاء ، خدعوها ببهرج الحياة وزخرفها في الوقت الذي لا تملك هي فيه حتى ذاك البهرج والزخرف ، أوهموها أنها حرة ، تغطية لنفوذ الرجل عليها في جميع المجالات. ثقي يا عزيزتي أن لو كان في أوروبا بيئة صالحة ومجتمع خير ، لصحبتك إليها راغباً غير مجبور.
ـ أنا على ثقة في ذلك يا إبراهيم ، ولن يعتريني الشك لحظة في حبك لي وحرصك على سعادتي ، ولكني أريد أن أحصل منك على دليل دامغ يرد على كل من يشكك في سعادة حياتنا الزوجية ، ويخشى عليها من التزامات الإسلام . أنا على يقين من صواب نهجنا في الحياة.
ـ وهل هناك حياة سعيدة إذا لم تنهج نهج الإسلام ، ليتك تعلمين يا نقاء ، سحب الشقاء التي تطبق على بيوت المنحرفين عن الإسلام ، والمشاكل الجسام التي تثقل كواهلهم ، وتفكك
--------------------------------------------------------------------------------
حياتهم ، وتشتت شملهم ، إن الحياة الزوجية التي تقوم على أسس صحيحة من المثل والمثالية هي التي ستكون حياة زوجية مثالية ، فكوني واثقة يا حبيبتي من أن حياتك الزوجية سوف تغدو حافلة بجميع أنواع المسرات مفعمة بألوان السعادة والنجاح.
ـ أنا واثقة من ذلك يا إبراهيم ، وقد اطمأننت إلى ذلك منذ اليوم الأول لخطوبتنا وعرف أنك رجل مثالي ، وأنك أقدر ما تكون على إسعاد زوجك في الحياة.
ـ وأنا واثق أيضاً أن روحك الطاهرة بصفائها ونقائها تتسع لكل المثل الخيرة والمفاهيم العليا.
ـ شكراً لك يا إبراهيم ، أنت تمكنني أن أثق من نفسي ، وتهبني القوة في الاعتماد على سلوكي وتصرفاتي في الحياة.
وهنا ألقى إبراهيم نظرة على ساعته وكانت تقارب العاشرة ، ثم ابتسم وهو يقول :
ـ يتحتم عليّ أن أنصرف الآن ، فأنا على موعد مع صاحب لي في تمام العاشرة.
ـ أرجو أن لا أكون قد أزعجتك يا ابراهيم.
ـ بل العكس تماماً ، فأنا سعيد بسؤالك يا نقاء ، ولكن آسف لعدم تمكني من المكث مدة أكثر لأستمع إلى كل ما
--------------------------------------------------------------------------------
يدور في فكرك من أسئلة ، وسوف أعود عند العصر لأستمع إلى ما تقولين إن شاء الله.
ـ أنا لا اسأل لنفسي يا ابراهيم ، فأنا واثقة من ديني ومن عقيدتي ، ولكنها أسئلة تتردد على ألسنة بعض الفتيات ، وكان لابد لي أن أجيب عليها.
ـ أحرصي على أن تكوني بشخصك وسلوكك نعم الجواب ، واجهدي أن تجعلي من نفسك أنموذجاً للفتاة المسلمة السعيدة.
ـ سوف أحاول أن أكون كذلك ، والآن حدثني هل أنت لا تزال تسعى لتقديم موعد سفرك إلى فرنسا ؟
ـ أنا في سبيل محاولة ذلك ، فمتى ما تقدم سفري وانتهت مهمتي هناك سوف تنتهي أيام بعدنا عن بعضنا يا نقاء ، وسوف يضمنا عشنا الهانيء السعيد.
وسكتت نقاء فلم ترد عليه واكتفت أن ابتسمت ابتسامة عذبة بريئة ... ثم نهض إبراهيم فودعها وانصرف.
وعلى طول الطريق كان يفكر وهو يقود سيارته ، في نقاء ، أتراها كانت تسأل مندفعة بشعور شخصي أم مجرد سؤال ، وآلمه أن تكون أفكار الفتيات الطائشات قد شوشت على نقاء ، فكرها الصافي النقي ، وصمم على أن يعود فيتحدث معها في هذا الموضوع لكي يرفع عنها كل ريب أو شك ، فهو يريد
--------------------------------------------------------------------------------
من فتاة أحلامه أن تكون منسجمة معه في الفكرة والرأي والعقيدة. وكان مما حبب نقاء إليه ودفعه إلى طلب يدها هو اعتدال سلوكها وقوة شخصيتها ، فهو حريص على أن لا يقرن حياته مع فتاة نزقة طائشة تلعب مع الريح يمنة ويسرة. وقفزت إلى ذهنه فجأة ذكرى حادثة قديمة مرت به منذ أربع سنوات يوم كانت إحدى الفتيات المخدوعات تحاول أن تستدرجه نحوها بأساليب من الاغراء. ابتسم وهو يتذكر أن تلك الفتاة كانت تأمل أن تنحرف به عن الطريق السوي كيما يمكنها الحصول عليه ، وكيف أنها كانت تحاول جره نحوها بكل طريقة وبشتى الأساليب.
وكانت ابتسامته مزيجاً من الرضا ، لصموده حين ذاك ، والرضاء لاختياره لنقاء الآن ، وود لو علم إلى أين انتهى المطاف بتلك الفتاة ، وهل تمكنت أخيراً من الحصول على صيد ثمين ؟. أو هل تمكنت من نصب أحابيلها حول رجل مسكين تخدعه كما حاولت خداعه من قبل ؟.
ولكن أنى له أن يفهم عنها شيئاً وهو لا يذكر حتى مجرد إسمها ؟ وود صادقاً أن تكون قد سعدت بزوج فاضل يسير بها إلى جادة الصواب. //يتبع
amalo an to3jibakom hathy alki9a akhawaty..antathiro al radd we ata3lik....
//fatato_alrafidain