الجزء الخامس والعشرون
اتخذت مكاني بين زميلاتي جسدا بلا روح وعينين لا تبصران وأعماقا تنزف بلا حساب ... وبين ضحكاتهن وقرقعة فناجينهن ورائحة القهوة العابقة بالهيل رحلت بعيداً بعيداً حيث جروح جسدي التي تأبي الاندمال وتعيش حية نابضة بالألم والتحدي، تتجدد كل يوم وتسطر صفحات من اليأس والهوان بين يدي من يدعي رجولة لا يملكها ويملك قسوة لا يدعيها... تراءت لي ليلة الأمس بكل تفاصيلها المخزية البغيضة بدءاً من تناوله أقراصا زرقاء اللون ثم ارتدائه ثياب حيوان بري متوحش حتى ارتداده على عقبيه يجرجر أذيال الهزيمة، تلوح علائم الانكسار والخيبة على وجهه الدميم...عرق غزير، أنفاس كريهة تعبرني ببطء متعمد، ثقل يجثم على صدري، الخشونة تطارد أجزائي فلا أشعر لها وقعا ولا أملك لها دفعاً. أحاول الهرب... أغمض عيني وأشغل تفكيري ثم أحسب الثواني والدقائق لتمر الأزمة ونجتاز ممرات لا تسمح بالعبور... بيد أن النهاية تتكرر وكأن العجز إذا الركيزة الوحيدة لعلاقتنا وكل ما عداه من قبض الريح... أوهام وأحلام نسجناها ببراعة لتدير شبكة الوهم عقولنا فلا نرى مواضع أقدامنا... انزوى جانبا يخلع ثياب الحيوانية ليعود إنساناً من جديد وأي إنسان!! إنه ليس سوى كومة قذرة من الشيخوخة والعجز والانكسار... انحنيت اجمع بقاياي وألملم ما تبقي من ذاتي الكسيرة وكرامتي المبعثرة، حتى فوجئت بصفعة تدوى في فضاء الحجرة البارد... ثم انهالت الصفعات والركلات تطول ما عجزت الشيخوخة عن الوصول إليه... صرخ بصوت جريح:
- ماذا تريدين، تكلمي... ماذا تريدين؟ سأعطيك كل شئ مجوهرات وأموالاً... ماذا تريدين؟
وماذا فعلت؟ حقا ماذا فعلت ليسألني ذاك السؤال... لقد أتيته مسلوبة الإرادة ذليلة خاضعة ليفعل بي ما يشاء... لم أرفض شيئا ولم أعارض أو أمنع... بل على العكس كنت له مورداً وماء عذباً ملقي تحت أقدامه ليغترف منه كيفما شاء، لعبة خالية من الروح والحركة... تمثالاً من خزف أو معدن ثمين أو ذهبي حتى يضعه حيث يريد ويكسره إن شاء أن يكسره ويلقيه في البحر إن شاء أن يلقيه لكن العيب يكمن داخله... عجزت بقايا الرجولة الكامنة في أعماقه أن تتواءم مع جسد مسجى بلا روح كجثة باردة تبحث عن كفن يضمها، أو ربما هي الشيخوخة التي عجزت إلا أن تطلق عنانها أمام الشباب الحي والأمل المتجدد، وربما هو عجز المالك عن احتواء البضاعة الجديدة بعد أن اعتاد على البضائع القديمة وتعامل معها طويلاً...
صرخ بصوت أكثر حدة:
- ردي... أجيبي على سؤالي... ماذا تريدين؟
الحب... هل أقول له أريد الحب... أريد من أهفو له نفسا وقلبا لتتداعى أمامه حصون جسدي وترفع قلاعي راياتها البيضاء... أريد من أري نفسي بين عينيه ويراني روحا قبل أن أكون جسداً يري السعادة في وجودي وأري الدنيا ملك كفيه، من ينبض قلبي له حبا وشوقاً... من تهتف أعماقي باسمه ليل نهار... من يستعبد تفكيري ويأسر روحي ويملك قلبي بكل زواياه وأركانه... من يحيلني كتلة نار بنظرة أو بكلمة وأغدو قطعة ثلج لا تذوب حينما يلمسني غيره... من أشرقت دنياي لوجوده وازدان عالمي بحضوره وعدت منه وإليه...
صرخ كثور جريح...
ماذا تريدين؟؟
الطلاق... هل هو أملي ومناي، هل فيه راحتي وسعادتي، هل أستعيد بعده حبي وحريتي أم أنه بعيد المنال كبعد شطحات أحلامي عن واقعي التعيس... الطلاق في عائلتنا مرفوض فهي ترفض النعمة وتثور على المجتمع وتتحدي التقاليد والعادات وتقف أمام الجميع كريشة في مهب الريح... ومن تطلق على الرغم منها فهي وضيعة منحرفة بلا أخلاق أو ضمير... وهو؟ هل سيطلقني؟ هل يتنازل بسهولة عمن بذل في سبيلها الغالي والنفيس ولم يجن منها سوى الذل والانكسار... هل يعيدها كما هي ليكتشف عجزه رجل آخر ويمضي بقية حياته سخرية الآخرين وشماتتهم... كلا إنه لن يطلقني ولو كان الثمن هو حياته... فأنا حصيلة عجزه وفشله وشرخ رجولته، لذلك فلن يفرط بي أبداً، ولن يفرقنا سوى الموت!
جذبني من شعري بكل قواه حتى خلت خصلاتي تتساقط بين أصابعه... صرخت من شدة الألم فضرب رأسي الحائط مرات ومرات حتى رأى الدماء تسيل على وجهي بغزارة فركلني وخرج...
تحسست موضع الألم بينما قالت إحدى الزميلات ضاحكة:
- من منكما الغالب ومن هو المغلوب؟
احمر وجهي بشدة لتقول الأخرى مشفقة:
- إن وفاء كثيرة المزاح والسخرية فلا يعرف أحد جدها من هزلها فاعذريها...
ثم تابعت وهي تنظر إلى رباط رأسي بحذر:
- هل سقطت على رأسك... أم؟
قاطعتها مضطربة:
- لقد اصطدمت بدولاب المطبخ عفواً...
كانت هذه إجابتي النموذجية التي سهرت طويلاً لأطلقها في وجه من يسألني عن ضمادتي، وقد كنت أعرف أنني سأسأل، ولن يدعني أحد في حالي، أعانق جروحي الكثيرة بلا أمل في الشفاء... نحن نعيش في الشرق حيث لا حوائط وأقبية... الأسرار مشاعة للكل والحرية الشخصية جماعية والمرأة مهشمة ذليلة والإنسان يعيش في بيت من زجاج حيث باستطاعة كل البشر أن يقذفوه بالحجارة...
- تفضلي هذه حلوى جديدة اخترعتها وأسميتها باسمي... اسمها " فياجرا ليلى" لا تنسي... احفظي هذا الاسم جيداً وأذكريه لي كلما أعددتها لزوجك...
تابعت بضحكة ذات مغزى...
- سيعجبه طعمها بالتأكيد...
دسست القطعة في فمي ليسري مذاقها الحلو وينعش خلاياي، إنها حلوى مصنوعة من التمر وبعض المكسرات المعروفة، ليس فيها أي جديد سوى اسمها المبتكر والذي يشكل جزءا لا يتجزأ من ليالي البيضاء التي يحيطها ضباب أزرق بلون السماء... ابتدأت الأحاديث النسوية تأخذ منحي آخر وتعالت الضحكات الخافتة والكلمات المغلقة، كرهت أن أبدو كتلميذة بليدة تخطو أولى خطواتها على سلم الحياة، ابتلعت خجلي وترددي واحمرار وجهي المعبر، لأغادر في أول فرصة متحججة بدرس إضافي سأعطيه لطالباتي... ويتوه عقلي بين عيون طالباتي المحدقة في وجهي كأسراب من الخفافيش تطاردني حيثما كنت وحللت... ويبدأ القلب ينفض أوجاعه في سراديب الظلام... يتراءى لي وجه حبيب يحجبني عن العالم ويسدل أستارا من النسيان على واقعي الكئيب... حينما كدنا نقترن بزواج أبدي همس لي ضاحكا:
- هل ستبقين تحبينني طوال العمر يا أحلام... أم سينتهي حبك شيئا فشيئا مع قدوم الأطفال وضجيجهم...؟
قلت بخجل:
- لن أنجب لك سوى دستة أطفال فقط لا غير...
ويضيع صدى ضحكاتنا في غياهب الصمت والألم لينبع صوت جديد يمزق شراييني بأنني لن أحمل ولن ألد أبدا وسأخرج من الدنيا بقصة حب لم تتم، بيد أنها ملأت حياتي طولا وعرضا وأكسبتها مذاقا أقتات منه سنوات طويلة مترعة بالجفاف والتصحر...
- أبله... كلمة منفي هل هي مذكر أم مؤنث؟
انتشلت نفسي بصعوبة من براثن تفكيري... مشيت إلى السبورة ببطء لأكتب الكلمة وإعرابها، ثم أطلب منهم تدوينها في دفاترهم رغم أنها ليست في المنهج. منفي... نعم أنا أقبع في المنفي، زنزانة انفرادية تفصلني عن أهلي وأشقائي وأحبائي، يزورني السجان كل مساء لأذوق على يديه ألوانا من الإذلال والمهانة والسقوط البشع... أشعر بأنني أتردي في هاوية بلا نهاية... انحدار بشع لإنسانيتي وكرامتي وأنوثتي، يقودني نحو الهلاك... لابد من فعل ما، لا بد من ثورة، لا بد من تحرر وإلا انتهيت ذليلة راكعة بلا مبدأ أو هوية. حضرتني مقولة لأحد الكتاب " أن النمل بقي نملا طوال حياته لأنه لم يسع لتغيير ذلك، لم يثر ولم يرفض فاستمر نملاً إلى الأبد". وأنا لن أبقي نملة صغيرة تداس تحت الأقدام... إنني إنسانة أملك كل مقومات الحرية والشجاعة ولن أقف صامتة هكذا إلى الأبد، لا بد أن أفعل شيئا وسأفعل....
- أبله أحلام... متى سيكون الاختبار؟
تدافعت الأصوات الصغيرة إلى أذني لتزيح جبال الهموم التي أصمت أذني عن سماع أي صوت... نظرت لمن أمامي مباشرة... طفلة جميلة لم تتجاوز العاشرة من العمر...
- أبله... كل المعلمات قررن أن يكون أن تكون اختباراتنا غدا... نرجو أن ت}جلي اختبار القواعد قليلا...
سألتها بابتسامة انتزعتها من بحار الكآبة التي تعج بها نفسي:
- لماذا يا صغيرتي؟
أطرقت قائلة بأسي:
- زوجة أبي لا تسمح لي بالمذاكرة سوى ساعتين فقط باليوم... وبقية الوقت أساعدها في أعمال المنزل...
خفق قلبي وأنا أقول:
- وأمك...؟
غشاء رقيق من الدموع غلف عينيها وهي تهمس:
- أمي ماتت... ماتت منذ زمن طويل... وقد كنت أحبها كثيراً.
ابتلعت دموعي التي تحشرجت داخلي، وقد فجرت مأساتها شظايا من الأحزان تؤلمني بلا حساب...
قلت بصوت عال أنكرته:
- سنؤجل الاختبار إلى يوم السبت القادم...
هللت الصغيرات فرحاً لتعكس بريقا من اللؤلؤ في عيني اليتيمة الصغيرة ثم تركض لتحضنني هامسة:
- شكرا يا أبله... أنا أحبك كثيراً...
رفعت ذقنها بيدي لأمسح لؤلؤتين من الدمع الحقيقي انحدرتا على خديها وقلت لها برقة:
- أنت ذكية وجميلة وستنجحين دائما بإذن الله...
عادت إلى مقعدها ترقبها عيناي... رأيت فيها صورتي القديمة، أحلام الطفلة اليتيمة المهيضة الجناح بلا أم أو أب أو سند، ريشة تتقاذفها الرياح في كل اتجاه وتمزقها أعاصير الشتاء وزمهريره... ما زلت في أولى خطوات العذاب صغيرتي، مازالت قدمك الطرية تلامس أول سلالم الموت البطيء... ستضربين وتهانين ثم تحملين جروحك داخلك وتسيرين داخل متاهات الحياة وتضيعك الدروب التي ضيعتني وتمزقك الأنياب التي مزقتني، ثم ستكبرين وتحبين، ينمو الحب داخلك قليلا لتزهر نفسك كثيرا ثم تتخاطفك المخالب والخناجر وتمزق قلبك إلى مئة قطعة وقطعة لتنسيك حبك ومن خفق له قلبك... ولا تنسيه... لتعاود الأقدام الشريرة تفتيت قلبك تحت ثقل خطواتها... ولا تنسيه... فيشعلون الدنيا حطبا ونيراناً ليحرقوا كل شئ ويتفحم جسدك عدا قلبك فلا تنسيه... فيكتشفوا متأخرين أن حيه قد استوطن ذاتك وجرى جريان الدم في العروق وغلف الشرايين والأوردة ولا مناص من انتزاعه إلا بانتزاع الروح ذاتها وهذا ما لا يريدونه... ستكبرين حبيبتي وسيكبر معك العذاب، فكأنما توأمان لا تفترقان وصنوان لا بد أن يجمعهما طريق واحد... ثم تلطمك الحياة اللطمة إثر اللطمة. تمتطين فجيعتك وترحلين في دروب الأسى حتى يدفنوك مع رجل، أي رجل، ليس مهما اسمه أو رسمه... المهم أنه ليس من اخترته وأحببته بكل كيانك فغدا محرما عليك حرمة المحارم والأشقاء ولن تلقيه سوى في الجنة...
ستبكين كثيرا وكثيرا ولن تكون لؤلؤتاك اللتان أهدرتهما توا سوى أول الغيث وليس نهايته...
- أحلام.... لقد انتهت حصتك منذ دقائق...
انتفضت بعنف وأنا أواجه زميلتي الجديدة عائشة... حييتها بارتباك ثم سرت على عجل دون أن أنظر إلى الماضي من خلفي... إلى أحلام الصغيرة البائسة التي عادت من الماضي لتذكرني بشوط كبير قطعته من المآسي ولم يعد في مقدوري تحمل المزيد... طريق طويل موحل وقذر لن يخلو من الحفر الصغيرة والسقطات رغم ما صادفته في الواحة الأخيرة من آمال وأحلام داعبتني حد التصديق إلا أن عورة الطريق أعادتني مرة أخرى لتصطدم أحلامي بصخرة الواقع المرير فتتحطم ببشاعة وقسوة أقسى من قدرة أبي على تحطيمي وأبشع من تعمد زوجي إذلالي... وأفجع من تخلي أخوتي عني لدنياهم الخاصة...
سألتني إحدى زميلاتي باسمة:
- ما رأيك؟ هل أعجبتك المدرسة الجديدة... أعني مدرستنا؟
أحسست بهسيس الاحتراق داخلي وأنا أجيبها:
- نعم...
وللقصة بقية :



الصفحة الأخيرة
القصه تقطع القلب وتؤلم النفس .
ااااااااااه ياقماشه .