فيضٌ وعِطرْ
فيضٌ وعِطرْ
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله
لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا
لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " ‏- الحج‏:73

🔸🔸

أول جانب بلاغي نلمسه في هذه الآية الشريفة هو ما يعبر عنه
بـ ( جدة اختراع المعنى أو سلامة الاختراع ),
والمقصود به الإتيان بمعنى لم يُسبق إليه,
فالمعنى الذي تضمنه التعبير القرآني
" إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا " لم يأت به أحد من قبل,
ويعتبر من أبلغ ما قيل في تجهيل الكافرين وتسخيف أحلامهم.
......
إكمالا للفائدة, أود أن أشير إلى أن البلاغيين قسموا سلامة الاختراع إلى قسمين :
الأول : المعاني ذات الاتصال بالحوادث المتجددة والأمور الطارئة,
والآخر تلك المعاني المستخرجة من غير شاهد حال متصورة.
وقد أبدع شعراء العربية كأبي تمام وابن الرومي في هذا المجال,
حيث أبدع الأخير في خلق الأشكال للمعاني المجردة ,
أو خلق بعض الرموز لبعض الأشكال المحسوسة,
ويمكن إدراك ذلك في مطالعة نتاجهم الشعري.

كمثال للنوع الأول استشهد بأبيات أبي تمام :

ما زال سر الكفر بين ضلوعه
حتى اصطلى سر الزناد الواري
...
نارا يساور جسمَه من حرها
لهب كما عصفرت شق إزار
...
طارت لها شعل يُهدم لفحها
أركانه هدما بغير غبار
...
فصلن منه كل مجمع مفصل
وفعلن فاقرة بكل فقار
...
مشبوبة رفعت لأعظم مشرك
ما كان يَرفع ضوءها للساري
...
صلى لها حيا وكان وقودها
ميتا ويدخلها مع الفجار
...

وكشاهد على النوع الثاني قول أبي تمام في الشيب :

شعلةٌ في المفارق استودعتني
في صميم الفؤاد ثكلا صميما
...
يستثير الهموم ما اكتن منها
صُعُدا وهي تستثير الهموما
...

لا زلنا نسبح في بلاغة الآية الشريفة ....
فيضٌ وعِطرْ
فيضٌ وعِطرْ
" يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له
وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " ‏- الحج‏:73

***

من الجوانب البلاغية التي تضمنتها هذه الآية ما يعبر عنه بـ ( التذييـــل ).

التذييل لغة هو جعل الشيء ذيلا للآخر,
وقد عرفه البلاغيون بأنه تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها لإفادة التوكيد.

يعتبر التذييل أحد فنون علم المعاني, وأحد موجبات الإطناب كفن بلاغي.

فالتذييل كلام مستقل مختصر, يحمل معنى الكلام المتقدم ,
يساعد في ظهور المعنى عند من لم يدرك المعنى فيما تقدم من كلام ,
ويزيد من وضوح المعنى عند من فهمه.

فالتذييل باختصار هو تعقيب الجملة بجملة أخرى موافقة معها في المعنى ومؤكدة لها.
....

التذييل جاء في قوله تعالى " ضعف الطالب والمطلوب "
الذي جاء موافقا للمعنى ومؤكدا للكلام المتقدم في قوله تعالى :" إن الذين تدعون من دون الله
لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه "

فقوله " ضعف الطال والمطلوب " تأكيد لعجز تلك الأصنام وضعفها والذي أشير إليه في بداية الآية,
و جاء مؤكدا لهذا المعنى.
....
لإعطاء مزيد حول هذا الفن البلاغي أسوق هذا الشاهد القرآني زيادة في الإيضاح :

" وقل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " الإسراء : 81

فقوله تعالى " إن الباطل كان زهوقا ... تذييل جيء به لتأكيد ما قبله,
وهي أن الحق ينتصر دائما, بينما الباطل يزهق.

ترجعون " الأنبياء : 34, 35.


:
كذلك في الآية :

" وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء " ? يوسف : 53

التذييل في قوله تعالى " إن النفس لأمارة بالسوء "
وهو توكيد للمعنى المتقدم في قوله تعالى" وما أبرىء نفسي"
:

لم ينته الحديث حول الأسرار البلاغية في هذه الآية الشريفة ..فإلى لقاء



🌾🌾
فيضٌ وعِطرْ
فيضٌ وعِطرْ
أسعد الله أوقاتكن بكل خير :

رحلتنا البلاغية اليوم مع هذه الآية الكريمة :


" قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " - الأنبياء : 22

قبل الولوج في الجانب الإعجازي البلاغي لللآية,
لنتعرف على الجوانب اللغوية والنحوية المرتبطة بالآية,
لأهمية ذلك في إدراك جوانب قوة بلاغتها.

تشير الآية الشريفة إلى أن التدبير العام الجاري صادر عن مبدأ واحد غير مختلف.

فيهما :
أي في السماء والأرض, ويراد به العالم كله :
السفلي والعلوي.

إلا هنا بمعنى غير, بمعنى :
لو كان فيهما آله غير الله لفسدتا.

الأصل أن تأتي ( لا ) للاستثناء,
و ( غير ) وصفا,
ولكن قد ينعكس الأمر فيستثنى بغير, ويوصف بإلا, كما في هذه الآية الشريفة.

لا يصح أن تكون (لا ) للاستثناء, لأن السياق سيكون :
لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا,
ويقود ذلك إلى القول بأنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا,
وهذا المعنى باطل, وليس هو المراد من مفهوم الآية.

كذلك لا يجوز رفع ( الله ) على البدل,
لأنه حيث لا يصح الاستثناء, لا تصح البدلية من جهة,
ومن جهة أخرى, فإن ( لو ) بمنزلة إن في المستقبل,
و الكلام موجب , والبدل لا يجوز إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى
: " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " هود : 81

لو حرف امتناع لامتناع, حرف شرط لما مضى, فتفيد امتناع شيء لامتناع غيره.

مثال ذلك : لو كان أحمد في المدينة لزارنا, يفهم منه أنه ليس في المدينة.
/ وللتفسير البياني عودة ..
فيضٌ وعِطرْ
فيضٌ وعِطرْ
{ طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى . تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى . الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى . لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى } طه : 1 - 8
🌸🌸


في هذه الأيات الشريفة إشارات بيانية جميلة.
تأملوا هاتين الآيتين :
{ تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. }
في الآية الأولى ذكرت السماوات والأرض , و في الآية الثانية ذكرت السموات والأرض وما بينهما, فما هو السر البلاغي في ذلك؟
إن سياق الكلم القرآني يتناسق مع المعنى المراد إيصاله, وإن التأمل في آي الذكر يكشف عمق البلاغة القرآنية في الخطاب.
جاء قوله : { خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى } في الآية { تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }, صلة للموصول لغرض بيان مبدأ التنزيل ومنتهاه, بينما جاء قوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}, ليبين شمولية ملك الله لكل الموجودات.
تأملوا الآية { تَنزِيلًا . مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }
في اختيار السماء والأرض تناسق واضح مع التنزيل, فالسموات إشارة إلى جهة العلو, والأرض إشارة إلى جهة السفل, وهذا متوافق مع التنزيل الذي يكون له مبتدأ ونهاية, حيث أن ابتداؤه من السماء وانتهاؤه إلى الأرض.
تأملوا هذه الآيات :
مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى . تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى .
" تأملوا : ( أنزلنا ) و ( تنزيلا )
في ( أنزلنا ) نسبة اإنزال القرآن الكريم إليه سبحانه وتعالى, وجيء بـ ( نا ) الدالة على ضمير الواحد المعظم نفسه وفي ذلك إشارة إلى عظمته سبحانه وتعالى.
في قوله تعالى :
{ تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }, ", نسبة التزيل إلى الموصول.
في قوله : { تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى },
التفات حيث خرج من ضمير المتكلم ? أنزلنا ? إلى الغيبة, ويعتبر هذا أحد الفنون البلاغية في علم البديع على قول بعض وعلم المعاني على قول آخرين.
لقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى عظمة القرآن حيث نسب إنزاله إليه سبحانه وتعالى, ثم أشار إلى أنه تنزيل ممن خلق الأرض والسماوات العلى, حيث وصف السماوات بالعلى.
فهل هناك فائدة بلاغية من ذكر مفردة ( العلى ) ؟
الجواب : نعم.
يريد الله أن يشير إلى عظمة القرآن, فأراد أن يجسد هذه العظمة من خلال رسم مشهد حسي يدركه كل متأمل, حيث ذكر أنه خلق السماوات ثم وصف السماوات بالعلى إشارة إلى عظمتها وبعدها, وفي ذلك إشارة إلى عظمته, فوصف السماوات بالعلى دليل على عظمة من خلقها, حيث لا يوجد من يدانيها علوا وارتفاعا, وحيث أنه سبحانه هو الذي أنزل القرآن الكريم, ففي ذلك إشارة إلى عظمة القرآن.
وندرك أن الله سبحانه وتعالى قد عبر عن عظمة القرآن ترغيبا في التأمل في معانيه و آياته حيث قال : إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى, ففي ذلك إشارة إلى دور القرآن.
الفائدة البلاغية الأخرى :
لماذا قدم ذكر الأرض على السموات في قوله : { تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى } , بينما قدم ذكر السماوات على الأرض في قوله :{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؟
إن تقديم الأرض في الذكر على السموات تارة وتأخيرها تارة أخرى يتبع ما يقتضيه مقام الخطاب , فقد جاء ذكر الأرض أولا في قوله تعالى { تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى } , لأنها أقرب إلى الحس وأظهر للمخاطب, وأوفق بالتزيل وما به من أحكام تكليفية وإشارات تربوية عظيمة.
أما قوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}, فيه إشارة إلى شمولية ملك الله سبحانه وتعالى , وقد اقتضى المقام ذكر السموات أولًا لما تمثله من عظمة.
🌸🌸🌸
فيضٌ وعِطرْ
فيضٌ وعِطرْ
رحلتنا البلاغية الآن في تفسير ماتعنيه كلمة ( نهر ) في الآية التالية :


قال الله تعالى:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) .
سأل سائل:
لم وحد تعالى: (النهر) في هذه الآية ولم يجمعه
مع أن الجنات قبله جمع بخلاف المواضع الأخرى من القرآن الكريم،
فإنه إذا جمع الجنة،
جمع النهر أيضاً فيقول: (جنات تجري من تحتها الأنهار) ؟
::
والجواب: أنه جمع في لفظ (النهر) عدة معان وأعطى أكثر من فائدة
لا يفيدها فيما لو قال: (أنهار)
ذلك أنه علاوة على أن فواصل الآيات،
تقتضي (النهر) لا (الأنهار) لأن آيات السورة على هذا الوزن
فقد جاء قبلها: (وكل شيء فعلوه في الزبر * وكل صغير وكبير مستطر)
وجاء بعدها : (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)
فإن المعنى أيضاً ذلك من جهات أخرى منها:
...
أن النهر اسم جنس بمعنى الأنهار، وهو بمعنى الجمع والكثرة،
ومنه قوله: صلى الله عليه وسلم
"أهلك الناس الدينار والدرهم"
والمراد بالدينار والدرهم الجنس لا الواحد.
...
وجاء في (معاني القرآن):
ونهر معناه أنهار وهو في مذهبه كقوله تعالى
: (سيهزم الجمع ويولون الدبر)
وزعم الكسائي أنه سمع العرب يقولون:
أتينا فلاناً فكنا في لحمة ونبيذة
فوحد ومعناه الكثير
...
ومنها: أن معاني(النهر) أيضاً السعة
والسعة ههنا عامة تشمل سعة المنازل وسعة الرزق والمعيشة،
وكل ما يقتضي تمام السعادة السعة فيه.
جاء في (البحر المحيط):
( ونهر) : وسعة في الأرزاق والمنازل
وجاء في(روح المعاني): وعن ابن عباس تفسيره بالسعة
والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر،
وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: ما يعمهما
ومنها: أن من معاني(النهر) أيضاً الضياء
جاء في (لسان العرب):
"وأما قوله عز وجل : (إن المتقين في جنات ونهر)
فقد يجوز أن يعني به السعة والضياء ،
وأن يعني به النهر الذي هو مجرى الماء،
على وضع الواحد موضع الجميع...
وقيل في قوله: (جنات ونهر) أي: في ضياء وسعة،
لأن الجنة ليس فيها ليل، إنما هو نور يتلألأ "
::
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة،
فإن المتقين في جنات وأنهار كثيرة جارية،
وفي سعة من العيش والرزق والسكن
وعموم ما يقتضي السعة،
وفي ضياء ونور يتلألأ ليس عندهم ليل ولا ظلمة.