الفصل الأخير
الفصل الخامس
إنها قصة قصي .. الخبير .. هذه القصة التي أشغلتني بحق .. فصرت أفكر فيها ليلي ونهاري .. وتظل الكلمات في رأسي والأفكار هاجسي .. ويذهب قمر مسائي مع شمس فجري .. وأنا مع قصي بالفعل ..
وإني لأتمنى من كل من سيقرأ هذا الجزء .. أن يتعب نفسه فقط قليلاً .. ويمر بعينيه على الجزء السابق ..
فقط لمدة دقيقة على الأقل .. أو حتى لمجرد ثواني .. لا أريد أن أفقدكم في الإحساس .. فأنا في قمة التواصل مع القصة .. بل إنها تمر في مجاري دمي ..
وهذا الجزء مليء بالإثارة .. بالأحداث .. بالرومانسية .. بالمفاجآت .. فقط اقرؤا بقلوبكم .. وعيشوا مع القصة ..
أصغوا إلى جيداً .. فقصي قد أتى ..
أصوات الموسيقى هنا ناعمة حالمة .. تنساب في هدوء مثير للجوارح .. وصمت غريب .. تسير على إيقاعه أصوات خرير المياه من نافورة قصي في غرفته .. وفي ذلك الركن كان قصي يجلس .. ليعزف على البيانو بألحانه الخاصة المنفردة به ..
ولكنه من يرى عينيه .. يدرك أن قصي يعزف بدون أن يدرك ما يفعل بحق .. بتلك الحيرة التي ملأت قلبه ..
وتفكيره في المجهول .. وما سيأتي به الغد من جنون .. ومن موقعه على خريطة الحياة ..
سارة .. إنها سارة .. وأغمض عينيه قصي .. وأخذته الذكرى .. إلى تلك الفتاة التي تعرف عليها قبل سنتين تقريباً .. كانت ثامن فتاة قد تعرف عليها مذ أتى جدة .. الفتاة الثامنة .. بعد أن بدأ احترافه ..
ثم فتح عينيه .. وراحت تتابع تنقلات أصابعه على المفاتيح البيضاء ..
ثم نهض من عزفه حتى بدون أن يكمله .. وتوجه إلى دولابه .. وفتحه .. فظهرت الرسائل وقد تراصت بطريقة جذابة .. وفي الرف العلوي .. كان هناك علبته .. علبة الخاتم البلاتيني .. الذي لم يلبسه مذ أتي من السفر قبل مدة طويلة .. وبارك على هذا القرار اقترانه بفرح أخيراً ..
وقف قليلا .. وتأمل خاتم الملكة في يديه .. وأداره في إصبعه .. فبرق في جمال .. وصوت الماء يقطع كل هذا السكون .. ثم أخذ يبحث بين الرسائل ..
إلى أن وصل إلى رسالة ذات مظروف بيج له أطراف محترقة .. وضع عليها هو ورقة لاصقة بيضاء مكتوب عليها بخط جميل :
سارة ماجد 1421هـ (8)
فتح الرسالة ..
كانت فيها وردة روز ذابلة .. قد تفتت .. ففاحت رائحة الورد المعتق الكئيبة ..
فتح قصي الرسالة التي كانت مطوية بطريقة مختلفة عن الرسائل العادية .. مما ينم على أن صاحبها صاحب ذائقة جمالية ..
وأخذ يقرأ رسالتها .. كانت أشبه بقصيدة .. ولكنها بلا وزن أبداً ..
تشردت على دروب وجناتي دموع دامية ..
حفرت خندقاً من ألم باكٍ ..
وغرز نصلك المسموم بسم يشوع ..
أهلكني وقتلني برقصات آلامي ..
وارتفعت أدخنة تقطر من الشموع ..
قهراً ودماء .. وشهقات تشنجاتي ..
رميتني كطفل .. مل من عاشقة مفجوعة ..
لحبيب خان حباً أبكى ابتساماتي ..
جعلتني ذا جسد برأس مقطوع ..
عُلق بمقبرة عشاق أموات ..
دم على كتفي الأيمن مسفوح ..
بغدرك يسيل أحلى أيامي ..
أحييت لي في الأرض زروع الورد ..
والفل ودورق الأماني ..
لتدمي لي على أرض ربوع
**** أقدامي بنزيفها الدامي ..
خناجر هلاك .. وسيف مروع ..
اجتاحتني وحطمت لي كبريائي ..
لم لم تجعلني أيها السافل قنوع ..
بأن حبك ليس من ممتلكاتي ؟
لم أفرغت من بين غدرك نوع ..
من اللهو بمشاعري المخدوعاتِ ..
لن اغفر لك ذنبك المهول ..
حتى أنتزع قلبك بنظراتي ..
وفي الركن على الأسفل كتبت :
"هذه هي نهاية المهزلة"
تنهد قصي بعد طي الورقة .. وأغلق عينيه في كل الألم ..
كانت هذه آخر رسالة من سارة .. بعد أن قلبها في يديه كما يشاء .. صحيح أن كلماتها بسيطة .. ولكن مشاعرها كانت حاقدة .. كانت تُغرز في العيون بالألم ..
لقد جلس معها شهراً يغدق عليها من حبه .. حتى إذ ما أسكرها حبها له .. وأعمى قلبها .. جلس يبعثرها كما يريد .. ولكنها كانت واحدة منهن .. كان لا بد أن تذوق من أصناف العذاب .. كان لا بد من هذا ..
وصحيح أنها كانت فتاة لعوب .. ولكن قصي .. كان الخبير ..
فلما وقعت في يديه أنساها أن في عالم الرجال رجلاً غير قصي .. أنساها الدنيا كلها .. وقطعت علاقاتها بلا استثناء ..
ولكنه كال لها من الألم ألواناً وأصنافاً .. كانت واحدة من العشرة .. الذين سماهم قصي .. الكلاب العشرة .. واحدة من عشر فتيات .. أذاقهن قصي مرارة .. لا يعيشها إلا من يريد أن يعذب فقط .. كان لا يطلب منهن شيئاً .. بل كان يشتري لهن .. ويعطيهن من المال حتى إن أردن .. وكان لا يطلب الخروج أبداً إلا إن أردن .. وكان في يوم يعطبهم حباً ما رأوا مثله ..
ولكنه كان في النهاية .. يحرقهم في بحر من الألم في الفجر التالي .. في بحر من القلق النفسي .. في كوكب من معانة المشاعر بالفعل .. في مرحلة انعزالية . وأطوار من الكآبة .. والإحساس بعقد الذنب والتقصير .. وتغير الكثير من المفاهيم .. ثم ينهي الموضوع في النهاية .. بإحراق مشاعرهن في النهاية .. بكل القسوة .. وكل الكلمات الجارحة ..
تنهد قصي .. وأحس بالذكريات المريرة تمر في رأسه في ألم .. أحس بها تتملكه من جديد .. من الذي نبش قبرك يا سارة ؟وفتح موضوعاً قديماً ..
وهنا أصدر جواله رنينه المميز .. وكانت فرح .. رد عليها .. فسمع صوتها وهي تقول : ألو ؟
وكأنما أطفأت هذه الكلمات لهيب إحساسه المحترق .. وجنون الشياطين التي صعدت في رأسه .. وللحظات نسي سارة .. والماضي .. بل كل شيء ..
وقال لها وابتسامة كبيرة تاهت بين الشدقين : أهلا يا أحلى امرأة بين نساء الكون ..
ضحكت فرح .. وكانت قد اعتادت على قصي قليلاً .. وصار خجلها أقل من السابق .. إذ أنها كانت تذوب من الخجل .. فقالت : أهلا بكاظم الساهر ..
فقال : للتو كنت أعزف له ..
قالت :أتمنى أن أراك في غرفتك وأنت تعزف ..
قال لها : مستحيل .. لم ترينني وأنا أعزف .. أنا اعزف منذ زمن طويل ..
فقالت وهي تضحك :ولكني لم أعرفك إلا من زمن قليل .. أكنت تتوقع أن أراك منذ زمن ولا أعجب بك ..
فقال لها وهو يتأمل كلماتها :
لم أنت دائما تحرجي أن تقولي أحبك؟
قالت بحياء :تعلم أني أستحي ..
فضحك وقال :وأنا أعشقك عندما تستحين يا حياتي ..
فقالت له مغيرة الموضوع :كيف حالك اليوم ؟
وهنا تذكر قصي الموضوع كله فقال بشيء من الوجوم : أحس ببعض الضيق ..
فقالت باهتمام وراح صوت القلق يتخلل صوتها وهي تقول : خيراً ما الموضوع ؟
فقال لها :لا أدري إنه مجرد شعور ..
فقالت : ألا تأتيني لعلي أريحك من الضيق ؟
فقال لها بصدق :كنت للتو أفكر في ذلك ..
فقالت له بسعادة : إذا هيا أنا أنتظرك .. لقد طهوت اليوم .. قطعاً من الدجاج بصلصة فرنسية .. وعليها بعض البطاطس المهروسة .. وكريمة حلوة .. وبعض البازلاء والذرة .. التي لن تذوق أطعم منها ..
فقال لها وهو يمزح : أنت طهوتها .. أم خادمتكم ؟
فقال له وهي تدافع : لا والله أنا .. أنا أعرف الطبخ من نعومة أظا ..
فضحك قصي وقال لها : لا أحب أكل المطاعم ..
فقالت له : لن تأكل من يد غير يدي أبداً ..
فقال : ومن هو المجنون الذي يأكل من غير يديك ..
وبعدها بقليل .. أقفل قصي السماعة ..
وذهب إلى غرفته .. وغير ملابسه بسرعة .. وجاء ليخرج .. فوجد الدولاب مفتوحاً .. ورسالة سارة موجودة هنا .. توقف برهة .. وأحس بالأفكار تعصف برأسه .. وهو يفكر .. ما الذي ستفعله سارة ؟كيف ستنتقم ؟
كانت الأيام تمضي .. حتى وصلت الأيام واقتربت السنة الدراسية من نهايتها .. وكانت تلك السنة هي الأخيرة لقصي .. التي بعدها سوف يتخرج .. ولكن لم يكن يدرك أي من كل المحيطين بفرح وقصي .. بالأحداث التي سوف تتخلل هذه الأيام ..
كانت فرح تجلس مع أختها ريم وهي تساعدها في حل بعض مسائل الرياضيات التي كانت تكرهها ريم .. وأخذت ريم تقول : صعبة .. والله صعبة .. لا أستطيع حلها ..
فردت عليها فرح : ولم؟ الموضوع سهل للغاية .. فقط طبقي القانون العام للمعادلات من الدرجة الثانية .. وكل شيء سوف يحل ..
فقالت ريم : لا أعرف كيف نجحت ما شاء الله في هذه المادة ؟
ابتسمت فرح وهي تقول في نفسها : أنت لم تري شيئاً في الحياة بعد .. لا في صعوبة الحياة .. ولا في صعوبات الدراسة .. ولكنها لم تفصح بما همسة به لنفسها .. ذلك أنها لا تريد أن تعكر عليها صفو حياتها .. ولتترك النظرة المتفائلة .. في نفسها ..
فقالت فرح مرة أخرى : اسمعي .. سوف أشرحها لك مرة ثانـ ..
وهنا راح الجوال .. يصدر نغماته إيذاناً بمكالمة جديدة .. فهبت فرح من مكانها .. وتركت ريم التي لحقتها بكلماتها وهي تقول : طبعاً .. قصي .. له الأولوية المطلقة ..
لم تتمالك فرح نفسها من الابتسام .. وهي تتوجه مسرعة إلى جوالها لترى من الذي يتصل .. وعلى الرغم من أن قصي كانت له نغمة خاصة .. إلا أن قصي كان وقتها خارج البلاد وبالتحديد في دبي .. لقضاء بعض مصالح والده التي اعتاد أن يعتمد على بعض منها فيها .. ولذلك قدرت أنه ربما يكون اتصالاً دولياً من جواله .. وربما أن جوالها لم يتعرف على رقمه .. وقصي كما قلنا .. حياته الخاصة .. لها الأولوية القصوى بعكس الكثير من الناس الذين تعني لهم الدراسة كل شيء .. ولذلك لم يكن يعني له الكثير أن تضيع منه بعض الأيام دون حضور للجامعة ..
وعندما وصلت إلى الجوال .. أمسكته .. فوجدت رقماً غريباً .. تطلعت إليه في خوف .. ولكنها قررت في النهاية .. ألا ترد .. فهي ما تزال متأثرة بجراحها من تلك الحادثة القريبة ..
فتركت الجوال وراحت تنظر له في توتر .. حتى خبت أصوات الرنين .. ثم تركت الجوال .. وقررت أن تعود مرة أخرى إلى ريم .. ولكن الجوال .. راح يتصل مرة ثانية وثالثة .. وأحست فرح بالقلق الشديد .. ولكنها لم ترد .. كانت خائفة كثيراً .. وقررت أن تضع الجوال على الصامت .. ثم وبعد أن تنتهي من تدريس ريم .. فإنها سوف تعود لتكلم قصي.. وتخبره عن أمر المكالمات الغريبة ..
رجعت إلى ريم التي علت عليها الدهشة .. ظناً منها أنها تركت قصياً من أجلها .. ولكنها لم تتكلم .. ولكنها في قرارة نفسها كانت سعيدة .. أن أختها تهتم بها ..
جميلة هي الروابط الأخوية .. والأسرية .. جميلة إن كانت فيها حميمية .. بعيداً عن الجفاف العاطفي .. والحرمان الحناني ..
وبعد ساعة .. انتهت فرح من شرح آخر مسألة لريم .. ويبدو أن ريم قد بدأت تجيد مثل حل المعادلات من الدرجة الثانية بطريقة أكثر فعالية .. ثم نظرت فرح إلى الساعة فكانت قد قاربت على التاسعة .. وذهب فكرها إلى قصي .. "اشتقت إليه .. سأحادثه .. وفي الوقت ذاته .. سأخبره بأمر الرسائل الغريبة" ..
ذهبت حتى وصلت إلى جوالها .. فوجدت 5 مكالمات لم يرد عليها .. ورسالة واحدة ..
وعندما تأملت في الأرقام .. وجدتها كلها ذات الرقم .. فزاد انزعاجها .. وقررت أن تتصل على قصي .. ولكن قبل ذلك .. فتحت الرسالة :
أخت فرح .. أنا أميرة .. أنت لا تعرفينني .. ولكني أود أن أتحدث معك حول موضوع خاص .. حول خطيبك قصي ..
تجمدت فرح .. وهي لا تعرف ما تقول .. موضوع خاص بقصي ؟! .. أميرة ؟! من تكون ؟
وراحت الأفكار تدور في رأس فرح أكثر وأكثر .. وبات من الواضح أن الأمر ليس كما كانت تظن .. وبأنه قد كان رجلاً .. وإنما بنت .. ولكن كيف تعرف هي قصي ؟
ويبدو أن الفضول لم يقتل القط فقط .. ولكنه .. يقتل الناس في أحيان كثيرة .. وبدأت فرح تفكر .. ولكنها لم تعرف ما تتصرف .. كانت في حيرة من أمرها .. هل تتصل على قصي وتخبره بالموضوع .. أم تتصل على الفتاة .. وترى ما لديه .. ربما ...
وراح جوالها يصدر تلك النغمات معلناً عن اتصال جديد .. أمسكت فرح بالجوال .. وكان الرقم الغريب يتألق مرة أخرى .. وراحت تفكر .. ترى أتكون مكيدة من رجل آخر .. ولكني غيرت جوالي للمرة الثانية .. حتى عبير لم تصل لهذا الرقم .. فقط قريباتي .. وبعض صديقاتي المقربات .. حسناً سأرد .. وإن كان رجلاً .. لن أتكلم .. وسوف أقفل الجوال .. وضغطت على الزر الأخضر ووضعت الجوال عند أذنها وراحت ترهف السمع ..
"ألو ؟ " انبعث الصوت البناتي من الطرف الآخر .. لتحس فرح بالقليل من الراحة .. والكثير من القلق .. حول ما سوف تسمعه .. وحول ما سيكون حول قصي .. فردت وقالت : ألو ..
تنحنحت الفتاة وهي تقول : أخت فرح .. المعذرة على اتصالي بهذه الطريقة .. وعلى هذا الأسلوب .. ولكني لم أجد بداً من الاتصال بك ..
صمتت فرح وهي تنتظر ما تقوله الفتاة .. فقالت : أنا اسمي أميرة .. امممممممم .. لا أعرف كيف سأطلب منك هذا الأمر .. ولكن الأمر في النهاية عائد إليك .. ولكن من الضروري أن أتحدث معك في موضوع هام .. في موضوع يخص خطيبك قصي ..
فقالت فرح : كيف تعرفين خطيبي قصي ..
ضحكت أميرة ضحكة قصيرة ثم قالت : كيف أعرفه ؟ تلك قصة طويلة .. لذلك أريد أن أقابلك ..
ولا تدري فرح لم أحست برائحة مكيدة .. ربما لأنها لا تريد أن تدخل في مشاكل مرة أخرى .. ولكنها قالت : لا أظن أني أستطيع ..
فقالت أميرة : أعرف أن أسلوبي غريب جداً .. ومثير للشك .. ولدي فكرة .. أستطيع أن أقابلك في الجامعة .. في المكان الذي ترغبين فيه .. أعتقد أن هذا سيسهل الأمر أكثر .. وحتى لا تقلقي مني .. وصدقيني .. سيهمك كثيراً جداً ما سوف أخبرك به .. أكثر مما تتصوري ..
قالت فرح : على الأقل أعطني فكرة عن الموضوع ..
فقالت أميرة : لا أظن أن الموضوع يحتمل أن يُناقش على الهاتف يا أخت فرح ..
صمتت فرح ولم تعرف بم ترد .. فقالت أميرة وقد كانت المسيطرة على الحوار : ما رأيك لو تقابلنا عند البازار السنوي بجوار المسرح ؟ أتوقع أن هذا مكان معروف .. وتستطيعين أن تصلي إليه بسهولة ..
فقالت فرح وهي لا تزال تحس بامتعاض كبير : حسناً ..
فقالت أميرة : سأتصل عليك غداً في وقت الـ break ..
أقفلت السماعة فرح .. وهي تحس بشيء غريب .. كانت تحس بوقوع العاصفة الكبرى .. ولكنها لم تدرك .. أي عاصفة ستكون .. ولم تكلم قصي .. فعلى كل حال هو سيأتي غداَ .. وربما لو كلمته .. لكانت القصة قد انتهت نهاية أخرى ..
دخلت فرح الجامعة .. كانت لا تزال متخوفة مما تحمله لها أميرة .. وراحت تستعد في نفسها .. وراحت تفكر في ما يمكن أن تكون هذه الأخبار .. وفي الوقت ذاته .. وضعت في بالها .. أنها ربما تكون كاذبة ..
وصلت فرح إلى البازار .. وراحت بعينيها تجول بين الفتيات علها تعرف من منهن هي أميرة .. ولكنها لم تستطع أن تكتشف .. فهناك الكثير جداً من البنات من يتجولون هنا وهناك .. رن جوال فرح .. فأخرجته من حقيبتها البيضاء الصغيرة .. وكان رقم أميرة يتألق أمامها .. رفعت الجوال وردت .. فقالت أميرة : .. أها .. لقد رأيتك ..
وفي أقل من لحظة .. كانت يد تمتد إلى كتف فرح .. لتربت بطريقة خفيفة على ظهرها .. التفتت فرح إلى الخلف .. فواجهت فتاة متوسطة الطول .. في طول فرح تقريباً .. كان عودها الريان أول ما يلتفت الانتباه .. وابتسامتها التي تخفي ملامح حزن عميق .. ونظراتها الحائرة يجعلانك تتساءل في فضول عن كنه أحزانها .. كانت تقاطيعها حلوة .. وعينيها واسعة .. فاضحة به جمالها التي غطته ملابسها البسيطة ..
التقت عيناها بيني فرح .. فقالت أميرة بابتسامة : أهلاً ..
جلست الفتاتان في الكافتيريا بجوار البازار .. وجلست أميرة .. وهي تنظر يمنة ويسرة .. وهي تفرك يديها .. وراحت بعض الشعرات البنية تطير من رأسها .. ثم نظرت إلى فرح وقالت : أعلم أنه من المفروض ألا أتكلم .. ولكن .. لا أدري .. ربما الأفضل أن أتكلم ..
نظرت لها فرح وقالت : كيف تعرفين قصي ؟
صمتت أميرة قليلاً ثم قالت : سأحكي لك القصة .. وأرجوك صدقيني .. فتلك هي الحقيقة .. وقد تكون الحقيقة المرة التي لم تدركيها بعد .. فقصي يا أختي فرح .. ليس الشاب الذي تظنين ..
ضاقت عينا فرح من خلف النظارة الطبية .. وراحت تستمع .. فقالت أميرة وهي تنظر في يديها وهي تقول : قصي .. شاب مثل الباقين .. له العشرات ممن لاكهن تحت يديه ..
أحست فرح بقلبها الصغير يدق .. أحست بسقف عالمها الوردي يتهاوى .. أحست بالدم يفور في رأسها .. وأن أذنيها قد بدأ يتورد فيها الدم .. فقالت : ماذا تعنين ؟
فقالت أميرة وهي تنظر لها .. وراحت حدقتا عينيها تزداد اتساعاً : قصي .. يعرف الكثير .. الكثير جداً من البنات .. وليت الأمر اقتصر على التعرف ..
قبضت فرح يدها بقوة وهي تستمع لأميرة التي قالت : لقد كان شاباً مثل الكثيرين .. يخرج مع بعضهن ..
قاطعتها فرح بقوة وهي تقول : أنت كذابة .. لن أسمح لك أن تقولي أي كلمة أخرى عن قصي ..
نظرت لها أميرة بنظرة كسيرة وهي تقول : معك حق ألا تصدقي .. معك حق .. ولكنها الحقيقة وإن كانت مرة ..
نهضت فرح من الطاولة وهي تقول : أنا لست مجبرة على استماع أي شيء مما تقولينه ..
نهضت أميرة وراحت تتطلع في عيني فرح وراحت عيناها تهتز وهي تقول : أنا آسفة لم أقصد شيئاً .. ولكن لا بد أن أخبرك الحقيقة .. الحقيقة التي عليها تدمرت حياتي .. وأصبحت لا أستطيع الزواج .. لأني .. لأني ..
وهنا سقطت من عينيها دمعة مرقت بسرعة على وجهها الجميل .. ثم مسحتها بسرعة .. ثم نهضت .. وحدقت في عيني فرح وقالت : لأني أخاف من الفضيحة ..
وران صمت طويل .. صمت كان على فرح أشبه بأطول كابوس مر في حياتها بلا استثناء .. صمت راحت فيه السكاكين تنشب في صدرها .. وتدفع الدم صنبوراً أسوداً .. صمت رهيب .. ما بين الحقيقة والشك .. وما بين الإحساس باحتمالية صدق هذه الفتاة ..
وفجأة .. وضعت أميرة رأسها على الأرض .. ثم سالت منها الدموع .. وراحت تجري بعيداً .. ورغم أن فرح كانت تريد أن توقفها .. وأن تطلب منها أن تنتظر .. وأن تطلب منها التفاصيل .. لم تستطع أن تتكلم .. بقيت واقفة على نفس حالتها .. بهستيرية الكلمات التي ألقتها أميرة عليها كالصواعق .. وراح العالم من حولها يصبح فرغاً أسوداً وظلاماً أسوداً .. ظلت هكذا .. أكثر من ربع ساعة وهي لا تتحرك من مكانها .. ولا تعرف كيف تمشي من مكانها .. "قصي ؟! "
كانت الساعة التاسعة مساءً .. حين حطت الطائرة برحالها في مطار جدة .. خرج قصي من قاعة المسافرين .. ليجد نزار في استقباله .. ولم يكن لقصي سوى حقيبة واحدة .. لم ينتظر الكثير حتى يجدها بين الأمتعة التي كانت تسير في ذلك المسار المتحرك ..
ركب قصي مع نزار في سيارته .. وراح نزار يقود السيارة في هدوء .. ثم قال : هل حدث شيء جديد؟
زفر قصي وهو ينظر إلى الأفق ويقول : حتى الآن لا .. ولكني لا أعرف ما الذي يمكن أن تقدم عليه سارة .. لا بد أنها تخطط لأمر ما ..
ظلت عينا نزار على الطريق وهو يقول : انتبه .. فيبدو أنها لن تتركك وشأنك ..
فقال قصي بثقة : لن تستطيع أن تفعل شيئاً ..
نظر له نزار بطرف عينه ثم قال : ومن قال بأنها سوف تنال منك أنت ؟
نظر له قصي .. والتقت عينيهما .. وفهم قصي ما كان يرمي له نزار .. فأغمض عينيه .. وراح ينظر إلى الناحية الأخرى ..
وصل قصي إلى المنزل .. ودخل .. كانت المصابيح مضاءة .. ويبدو أن ضيوفاً ما في المنزل .. لم يكن ليهتم قصي كثيراً بأولاءك الضيوف .. لا بد أنهم أصدقاء والدته .. أو المدرسات في مدرستها بمناسبة قرب نهاية العام الدراسي .. اتصل على جوال والدته .. فردت عليه .. فقال : لقد أتيت ..
كان من الواضح تلك الضجة التي كانت خلفها وهي تقول : الحمد لله على السلامة .. خالتك هنا معي الآن .. وفرح ستجدها في غرفتك .. لا بد أنها ملت من ....
"فرح في غرفتي ! .. مصيبة !"
راح قصي يجري باتجاه غرفته .. كم كان غبياً حين ترك دولابه دون أن يغلقه .. ظناً منه أن لا أحد له الحق بتفتيش غرفته في المنزل .. "
وصل إلى الملحق .. وفتح الباب .. وهناك .. رأى ذلك المنظر الذي لن ينساه طوال حياته ..
كانت فرح قد سقطت على الأرض .. أمام دولابه .. وهي تمسك في يديها بعض الرسائل .. والأخرى قد سقطت على الأرض .. وبعض الهدايا .. كانت قد فتحت من تغليفها .. وبعضها قد تحطمت .. وراحت عيناها على اتساعهما تُفتح .. وأنفاسها تتسارع .. كان المنظر لا يحتاج إلى تفسير .. تقدم قصي .. وفي قلبه .. العواصف كلها تندلع .. كان يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه .. كان يتمنى أن لم يولد ليرى هذا المنظر في حياته ..
أحس قصي أن الماضي كله يُنبش .. أحس أنه النعش الذي سيموت فيه حاضره .. وأن كل الحسابات القديمة سوف تظهر .. وأن لا شيء مما فعله سيمر مر الكرام .. بل بدأ الحساب العسير قد حان الآن .. الآن وقت دفع ثمن الأخطاء القديمة كلها .. ذلك الذي لم يكن يضع له بالاً .. إنه بالأساس ما كان يفكر أنه سيتزوج بيوم من الأيام .. ما كان يدرك أن أبواب الشر التي فتحها .. مازالت مستعرة بالنيران ..
فرح .. كانت ساقطة على الأرض .. وقدميها مرميتان ملتوية بدون اهتمام .. وعيناها مفتوحتان من اتساعهما من الألم .. وقلبها المسكين قد تحطم بأكلمه .. قد عرفت من هو قصي ..
اقترب منها قصي .. وهو لا يعرف بم يهمس .. ولكنه اقترب .. ثم قال بصوت منخفض : فرح ..
ولكنها لم ترد .. أخذ ينادي أكثر من مرة .. وهي لا ترد .. اقترب منها .. أمسك بكتفيها .. ونظر فيها .. فوضعت رأسها على الأرض .. وهو يقول : فرح .. ردي علي .. فرح .. أرجـ ..
قاطعته وهي تقول : لماذا يا قصي ؟
ثم نظرت إليه .. وقد تفجرت في عينيها الدموع .. نظرت إليه .. وكأن حمم البراكين كلها لا تجاري وصف الدموع المستعرة في عينيها .. وراحت تقول بألم : وأنت الذي رحلت بعيداً حين كلمني شاب ليعاكسني .. أنت الذي كنت تغار علي ؟ لم كنت تتعرف على البنات ؟ لم يا قصي ؟ ما الذي فعلته بك لتعذبني هذا العذاب ؟ لم يا قصي ؟
راح جسد قصي يرتجف .. لأول مرة في حياته .. وأحس بيديه صارتا قطعة من الثلج .. أما فرح فكانت تنظر له ومن عينيها نهر عظيم وتقول : أتصل بك الجرأة .. أن تنتهك أعراض الناس ..
نظر لها قصي وقال : لم أفعل ..
نظرت له وقالت : وأميرة ؟ ما فعلت بها ..
قال قصي : من أميرة ؟
صرخت فيه فرح وقالت : وأيضاً لا تذكرها .. لا تذكر من دمرت حياتها بيديك ..
وأنا ماذا ستفعل بي أيضاً .. سترميني ثم لا تذكرني ..
وراحت فرح تضرب وجهها بيديها حتى سال من فمها خيط من الدم ..
أما قصي .. فقد كان لا يستطيع الحركة .. كانت كل خلية من جسمه تئن بالألم .. كانت كل ذرة تلعنه ألف مرة ..
أحس أنه ضائع في هذا العالم .. وأن ليس له وجود مادي محسوس .. وأن الدنيا من حولها تفنى كلها .. وأن الحياة ما عادت لها قيمتها .. بل إنه فقد كل الحواس .. والقدرة على التمييز .. وبدون شعور عندما ضربت فرح نفسها .. ضمها إلى صدره بقوة .. وقال بصوت مختنق : فرح والله أحبك ..
وبمنتهى الشراسة .. دفعته فرح بعيداً عنها .. وأحس قصي لأول مرة .. أنها تكرهه من قلبها .. أنها تكرهه من صميم روحها .. ثم ألقت نفسها على الأرض الرخامية .. وهي تقول : رأسي .. آه يا رأسي .. سأموت ..
أما قصي .. فقد جن جنونه .. وراح يجري .. إلى المنزل الذي فيه والدته .. ودخل عليهم وهو يقول : الحقوا علي .. وذهب الجميع بفرح إلى المستشفى .. ودخلت فرح إلى الغرفة مع الطبيب وفرح لا تتكلم .. وظلوا في الخارج ربع ساعة .. وكلهم يسألون قصي ما الذي حدث وقصي لا يرد عليهم .. وقصي قد انفطر قلبه .. وأحسه أنه لو يستطيع لقتل نفسه .. وصلبها أمام المستشفى إن كان هذا هو الثمن لتكون فرح سعيدة فقط .. كان يريد أن يقطع نفسه إلى قطع صغيرة .. ويجعل فرح تدوس عليه بقدميها ..
خرج الدكتور .. بوجه بارد .. فجرى قصي عنده وهو يسأله بعينيه .. فقال لهم : صدمة عصبية حادة جداً ..
فقال له قصي : وما الحل ؟
قال له الطبيب وهو يعدل من نظارته : ليس هناك أمر مؤكد .. ولكن اتركوها لترتاح .. ولا يدخل أحد منكم عليها ..
ثم نظر إلى قصي وقال : أنت زوجها ؟
فقال قصي : أجل ..
فقال الطبيب : أنت كنت آخر من كان معها صحيح ؟
فقال قصي : صحيح ..
فقال الطبيب وهو يعدل من نظارته الطبية مرة أخرى : سنجلس سوية .. لدينا الكثير لنناقشه ..
وجلس قصي في المستشفى .. ورجعت والدته وبقيت خالته في غرفة فرح .. ولكن قصي عندما دخل غرفة قصي .. أخرجته خالته ثم نظرت فيه وقالت : ما الذي حدث يا قصي؟
كان قصي جامداً لا يتكلم .. ولكنها صرخت فيه وقالت : ما الذي حدث قلي ؟ هل أنت التي ضربتها بهذا الشكل؟
نظر قصي لها ثم قال : فليقطع الله يدي إن مددتها في يوم على فرح ..
نظرت فيه الأم وقد استنفذت صبرها وقالت : قلي إذا ما الذي حدث؟
نظر لها بعين كسيرة وقال : عرفت فرح جزءً من الماضي ..
راح جوال قصي يصدر رناته التي ما كانت أبداً تناسب الموقف .. نظر قصي إلى الرقم .. ولقد كانت سارة :
أرأيت ؟ أستطيع أن أفعـ ..
وهنا قاطعها قصي وأخذ يصرخ في المستشفى وهو ويقول :
أقسم لك يا سارة إن حصل لفرح شيء .. أقسم أني سأقتلك بيدي هاتين .. هل تفهمين ..
أقسم أني سأشرح جثتك بيدي .. وأنت تعرفينني جيداً .. وتعرفين ما أستطيع فعله .. وتعرفين أني إن غضبت .. فلن يرحمك كائن من يكون في الدنيا .. هل سمعت ؟
وأنك أنت وأهلك وكل من يعرفونك .. لن يذوقوا في هذه الدنيا لحظة راحة .. لو كلفني أن أسرق أموال أبي كلها .. فقط وأدعك تذوقين ألماً لم تري مثله في حياتك أبداً .. سأدمرك يا سارة .. هل تسمعين .. سأدوسك كحشرة تحت قدمي وبلا رحمة ..
هل تذكرين كم كنت رحيماً بك .. هل تذكرين أني ما رضيت أن أنهي على حياتك في منذ زمن .. هل تذكرين يا سارة أم أذكرك ؟
ادعي لها بالشفاء .. فأنا جاد فيما أقول .. سأنتظر للغد .. وإن حصل لها شيء .. فثقي أن النور لن تريه بعد اليوم .. ولن يكفيني جحيم الأرض كلها .. ولا حتى سموم الأفاعي .. كي أنتقم منك ..
سأطرد أباك من وظيفته .. وأجعلك أمك تفصل من مدرستها .. وأختك الصغيرة حذريها .. فطريقها إلى المدرسة قد يمتليء بالمفاجآت ..
سارة .. ورب الكعبة .. أنت لا تعرفين قصي .. لا تعرفيني حين أحقد .. لا تعرفيني حين أفجر الكون كله .. حتى أنتقم ..
وأقسم لك أنك سترين عذابي حينها .. ولك أنت عذاب أقوم به أنا وحدي .. ولن يثنيه عنه أحد في الكون ..
هل تفهمين ؟
لم ترد سارة .. ولكنها صمتت .. وهي تسمع كلمات قصي .. تنصب في أذنيها كالرصاص .. بل صمت كل من بالمستشفى من مرضى ودكاترة .. وحتى خالته الذي وقفت تنظر فيه .. وأحست أن الذي أمامها ليس بشراً .. لا بد أنه شيطان ..
وأخذ الكل ينظر إلى قصي .. الذي تحول إلى وحش .. إلى مسخ آدمي ..
إنه لا أسوء في هذه الدنيا .. أن ينتقم الناس ممن تحب .. وأن يطعنوك فيهم .. قد نحتمل ما يلقيه الناس علينا من أذى .. قد نتحمل .. ما يجرحه الناس بنا .. قد نستطيع أن نتعايش حين يهيننا بنو البشر .. ولكننا لا نستطيع أن آذوا من نحب .. إن أساؤوا لمن نحب .. قد نستطيع أن نقتل أنفسنا ونقول : علينا وعلى أعدائنا .. ولكننا لا نستطيع أن نقتل من نحب .. ولا نستطيع أن نضحي بهم .. لأنهم علينا .. أغلى من أنفسنا ..
وهذا ما فعلته سارة .. لقد ذهبت إلى فرح .. وقالت بأنها أميرة .. واخترعت هذه القصة .. اخترعت قصة الفتاة التي قضى قصي على مستقبلها .. وبحكم معرفتها بقصي .. فقد قدرت أن لديه العديد من العلاقات .. وربما قد يكون فعل هذا الأمر حقيقة .. قررت أن تدلها على طريق ما .. على مقتل قصي .. بيد الإنسانة التي يحب .. قررت أن تعطيها جزءً مزوراً من حياة قصي .. حتى تكشف بقية الأجزاء الحقيقة .. وفي الوقت ذاته .. تصدق هذه القصة الغير حقيقية .. لأنها لن تصدقه مرة أخرى ..
كانت هذه هي اللعبة الخبيثة .. كانت اصياداً في ماء عكر .. وقد أجادت سارة ضربتها في الصميم ..
خرج قصي من المستشفى .. وكله يغلي .. لقد كان هو السبب في كل هذا .. ها هو يدفع أثمان أخطاءه كلها .. في من عشقها بكل حياته .. في فرح .. هاهو يذوق مرارة الألم بكل المعاني .. ها هو يتمزق من فرط الإحساس الوجع .. وركبتاه لا تحملاه .. جلس في سيارته .. جلس طويلاً .. جلس يفكر في ماضيه .. جلس يفكر في كل شيء .. كان كل شيء في جسمه يئن .. كان كل شيء في جسمه يخور .. وإحساسه بالوجود يخفت .. وضع رأسه على المقود .. وراحت الخيالات تمر في عقله .. ولم يدر بنفسه إلا وقد نام ..
استيقظ قصي .. على صوت المسجد أمام المستشفى .. وهو يقرأ سورة المؤمنون .. نزل منها لسيارة مسرعاً ..
وصلى الفجر .. توضأ .. ودخل المسجد .. ولحق الركعة الثانية .. وأكمل الصلاة ..أخذ يصلي .. كما لم يصلي من قبل .. ونزلت دموعه لأول مرة .. لأول مرة مذ أكثر من عشر سنوات لم يبكي فيها مرة .. ولا نزلت دموعه .. بل إنه لم يسمح بهذا ولا مرة .. كان أهون عليه .. أن يخرج الدم من فمه على أن يبكي .. ولكنه الآن فقد كل شيء .. وما بقيت له إلا الدموع .. دموع توبة .. دموع ندم على كل ما فعل .. دموع مرغها في الأرض .. وهو يدعي أن يشفي الله فرح .. وبكى حتى صار يتشنج .. إنه قصي .. إنه الخبير .. تكسرت خبرته على جلمود الحياة .. وما نفعته خبرته هذه أبدا .. كيف لها أن تعيد له فرح .. تلك التي ملأت دنياه فرحة وبهجة .. كيف ؟؟
حتى أن من صلى بجواره .. أخذ يهديء عليه .. ويذكره بالله .. أحس قصي أنه لا يريد شيئاً من الحياة .. أحس أنه لا يهتم بشيء إلا فرح .. كانت الاختبارات على أبوابها .. وكانت السنة الأخيرة .. ولكن شيئاً من هذا لم يمر بباله ولم يخطر عليه .. كل ما كان يفكر فيه هو فرح ..
ودخل المستشفى وهو كسير .. حزين .. وإن من يراه .. لا يصدق أن هذا هو قصي .. هذا هو الخبير .. الذي لانت له شوكة نساء الأرض .. واقترب من غرفة فرح .. دخلها .. كانت فرح تجلس .. وهي تفتح عيناها .. أحس أن الدنيا تشرق من جديد .. اقترب منها في حذر .. ولكنها عندما رأته .. أخذت تبكي .. وتبكي ..
فقالت له الممرضة: please you cannot stay here.. you have to get out
فقال لها : I am her husband
فقالت خالته وهي تحتضن فرح : أخرج يا قصي .. ألا ترى حالتها ..
فخرج قصي وهو أكثر حزناً مما كان من قبل ..
وتغيرت حياة قصي بعد هذه الحادثة .. تماماً .. ونسي الدنيا كلها .. وصار جل وقته يدعي لفرح بالشفاء .. بل إن من يراه ليقول عنه أنه قد صار ناسكاً ..
ولكنه كان كلما دخل عليها .. بكت .. وأخيراً منعه الطبيب من زيارتها .. لأن زيارته لها تؤثر على حالتها كثيراً .. أتى لها أمهر الأطباء .. ثم جلب لها الشيوخ ..
كان ينتظر أن تنام ليدخل .. ويجلس ليبكي تحت قدميها .. ويمضي ساعات يقبل رأسها ويديها .. وهو يقول لها سامحيني أرجوك .. لم أقصد .. ويخرج قبل أن تستيقظ ..
ومضى على هذه الحالة أكثر من شهر .. وكانت حالتها تتحسن شيئاً فشيئاً .. أما قصي فلم يترك فرضاً في صلاته إلا صار يدعوا لها فيه ..
ذات يوم .. وفي منتصف الليل .. وجد نفسه فوق سرير ضاقت به أبعاده .. وجد نفسه يصارع النوم .. ليحظى بلحظات من نعمة النسيان .. وإن كانت غير واعية .. وفجأة .. نهض من سريره .. وأضاء غرفته .. وتأملها جيداً ثم أخرج من صدره تنهيدة .. تمنى لو خرجت معها روحه .. ثم أخذ ورقة وقلماً .. وبدأ يكتب رسالته ..
الرسالة التي سيقول فيها كل شيء .. لتظهر الحقيقة الأخيرة .. التي أخفاها قصي طوال هذه السنين ..الحقيقة التي جعلت منه ذلك الشخص ..المليء بالتناقص .. المليء بالأسرار .. بالغموض ..
ماذا كتب ؟
هذا ما سوف يكون الجزء الأخير والفصل الأخير ..
من قصة ..
قصي ..
الخبير

ها هو الجزء الأخير .. .
والنهاية الأخيرة لهذه القصة .. .. .
ضعوا بجواركم منديلاً ..
واستعدوا ..
ذات يوم .. وفي منتصف الليل .. وجد نفسه فوق سرير ضاقت به أبعاده .. وجد نفسه يصارع النوم .. ليحظى بلحظات من نعمة النسيان .. وإن كانت غير واعية .. وفجأة .. نهض من سريره .. وأضاء غرفته .. وتأملها جيداً ثم أخرج من صدره تنهيدة .. تمنى لو خرجت معها روحه .. ثم أخذ ورقة وقلماً .. وبدأ يكتب رسالته ..
الرسالة التي سيقول فيها كل شيء .. لتظهر الحقيقة الأخيرة .. التي أخفاها قصي طوال هذه السنين .. الحقيقة التي جعلت منه ذلك الشخص .. المليء بالتناقص .. المليء بالأسرار .. بالغموض ..
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى زوجتي ****يبة .. فرح ..
إنها الثالثة صباحاً يا فرح .. ورسالتي هذه أكتبها إليك .. وأنا لأول مرة أكتب رسالة منذ أكثر من 7 أعوام .. أتمنى أن تدركي فقط كل كلمة فيها .. حاولي أن تفهمي التعقيد .. حاولي أن تجدي لدي من وسط هذه السطور شيئاً واحداً فقط .. كي تفهميني على حقيقتي .. وأن تتخيلي كل شيء .. وأخيراً حاولي أن تسامحيني .. ولكني لن أعتب عليك .. ولن ألومك إن لم تفعلي ..
هذه الرسالة .. ليست محاولة للاستعطاف .. ليست رسالة أحاول بها أن أستميل قلبك .. إلا أني أريدك أن تعرفي الحقيقة كاملة ..
وفي حياتي كلها .. لم أهتم أن تسامحني فتاة .. إلا واحدة .. كان اسمها .. نور ..
إنها فتاة توفيت في الخامسة عشرة من عمرها .. بعد أغرب قصة حب قد تسمعي عنها يا فرح .. إنها قصة **** .. التي بدأت من النهاية .. بل إنها انتهت قبل أن تبدأ حتى .. ولا تسخري منها .. فإنها فتاة لا أهتم أن أحرق الدنيا من أجلها .. وإن كانت قد ماتت ..
بل وستتعجبي كثيراً إن قلت لك .. أن نور هذه .. كانت صديقة .. للفتاة التي أحببتها ذات يوم من كل قلبي .. "لمياء"
لمياء .. سأذكر هذا الاسم مادامت السموات والأرض .. فتاة لم أشاهد في جمالها فتاة في حياتي أبداً .. وصدقي أنها فتاة ما إن خرجت ومشت .. إلا تغيرت معالم الدنيا من جمالها الباهر .. كانتا كلتاهما من مكة ..
وأنا .. وقعت في حب لمياء أسيراً .. كانت لي .. حبي الأول .. كانت حبي الأعمى إن كنت تدركين ذلك .. حب بكل ما في من كيان .. حب إن سألتني وقتها عنه .. فسأقول لك بصدق .. أحبها .. ومن أجلها أفعل ما تريد .. أي شيء .. وكل شيء .. كنت حينها غضاً .. لين العود ..
وإن أخبرتك بما فعلت للمياء .. فلن تصدقي حتماً .. لن تصدقي حتى إن قلت لك .. أني احتفظت بكل شيء كان يخصها .. كل شيء .. بل من المؤكد أنك ستسخرين .. إن قلت لك أن لدي ورقة حلوى .. كانت قد أهدتني إياها في عيد ميلادي ..بل إني كتبت عليها تاريخ إهدائها لي الحلوى .. والتاريخ الذي أكلتها فيه .. والله إنها لدي ..
ستعجبين إن قلت لك ..
أني قدمت لها هدية جمعتها في سنة كاملة .. سنة كاملة وأنا أجمع لها هدية .. لم أطلب من أحد شيئاً .. كان والدي يقدر أن يعطيني .. ولكني جمعتها أنا من مصروفي الخاص .. وحرمت نفسي حتى من الأكل في المدرسة .. وحرمت نفسي من كل شيء لأشتري لها .. كي تكون مني أنا فقط ..
صنعت لها حقيبة كاملة من الهدايا .. حقيبة سفر .. وملأتها بما لا يخطر لك على بال .. من كل أنواع الهدايا .. عطور .. وقمصان فاخرة .. بل إني طلبت لها هدايا من الخارج .. حتى لما تكدست الحقيبة وامتلأت .. أهديتها لها .. وأنا أقول في نفسي ليتني أهديتها شيئاً أحلى .. لربما تلك الحقيبة كلفتني أكثر من 17,750 ريال ..
أتعلمين معنى مبلغ كهذا لمراهق في الرابعة عشرة؟
كنت كل يوم اكلمها .. حتى كانت فاتورة جوالي تصل ألف ريال كل شهر .. إني أكتب لك بلغة الأرقام .. أكتب لك كل شيء .. لتعلمي الحقيقة كاملة .. ولتعيشي معي الألم كله .. وتذوقي في فمك مسحة من كأس الموت الذي شربت منه ..
علك تفهمينني يا فرح ..
أعطيتها حباً لم يعطه إنسان لإنسانة في هذه الدنيا .. بكل جوارحي .. أحببتها وقدمتها على نفسي في كل شيء .. حتى دعائي في صلاتي أن يحفظها ربي .. ولربما لو قلت لك أني مستعد أن أموت من أجلها .. لظننتِ أني كنت أبالغ .. ولكني حقاً .. كنت سأكون سعيداً بالموت على أن تصاب هي بشيء ..
كنت وقتها نقيا كالينابيع الصافية .. منتشياً كورود حانية .. طيباً .. في طور الأطفال .. شاعرياً لأقصى درجة .. بل رقيقاً تهزني الكلمة .. وحساس .. تجرحني الهمسة .. مرهفاً إلى حد الفتيات .. كتبت لها 245 رسالة حب .. في كل يوم رسالة .. وقد أتخلف في يوم .. فأجد نفسي أكتب في اليوم الذي بعده أكتب ثلاثة مرة واحدة .. وكانت ردودها على رسائلي قليلة .. ولكني وقتها أقسم لك .. أن رسالة واحدة منها بكل رسائلي وهداياي ..
فرح .. لقد كانت لي حباً غير عادي .. كنت مخلصاً لها لدرجة أني كنت لا أطالع التلفزيون .. لأني أعتبر ذلك خيانة .. وحتى أهلي عرفوا أني أحب .. ولكنهم لم يهتموا كثيراً .. تلك هي السياسة التي عشتها في حياتي .. طالما أني بخير .. طالما أني أسير في حياتي بطريقة عادية .. فلا شيء يهم ..
حتى جاء اليوم .. الذي لن أنساه في حياتي كلها .. بل هو يوم أتذكره كل يوم في صباحي ومسائي .. وكأنه انطبع على جدران عقلي .. وصار فيها تمثالاً ضخما لا يمكنني أن أتجاهله أبداً .. يوم يقض مضجعي ليلاً .. ويؤلم ظهري كثيراً .. ويسكب على مرارتي كلها في كل لحظة .. ما اختليت بنفسي يوماً إلا هزتني ذكراه .. وصفعتني .. وركلتني بمنتهى بقسوة .. وشدت شعري .. وامتصت دمي .. وهتكت إحساسي كله ..
جاء يوم .. تمنيت فيه أن أفعل الكثير جداً .. ولكني بعده .. قمت بأكثر من هذا الذي تمنيت ..
اتصلت بي نور .. صاحبة لمياء .. كانت مرتبكة كثيراً ..أما أنا استغربت من اتصالها كثيراً .. ثم طلبت مقابلتي .. ترددت كثيراً .. فانا أعتبر هذا خيانة عظمى .. يشنق آثمها .. فأصرت وبشكل غريب .. إلى أن صرخت في وقالت : إنه موضوع يخص لمياء ..
ورغم أني أعرف نور .. وبأنها فراشة في حلة ملائكية .. رفضت أنا .. فتوسلت هي .. رفضت مرة أخرى .. فبكت ..
نزلت إلى جدة خصيصاً لهذا اللقاء مع السائق .. فقد كنت وقتها أعيش في مكة .. وكانت نور عند خالتها ومع أهلها في فندق البلاد يقضون يومين للاستجمام ..
ذهبت على مضض لمقابلتها ..
وأصررت على أن يكون اللقاء في الحديقة .. أي أن يكون مكاناً عاماً .. قابلتها ..
لازالت يا فرح أذكر ذلك اليوم .. بمنتهى الدقة .. بدون أن أنسى منه لحظة واحدة .. كانت الساعة التاسعة مساءً .. وكان الجو حاراً ورطباً .. وإحساس بالكتمة من الهواء الذي لا يتحرك .. دخلت الفندق .. من البوابة التي تطل على الفلل والحديقة .. وكانت الأنابيب البلاستيكية في طور التركيب .. تمهيداً لتجديدها كما كان يبدو لنظام جديد في ري الحديقة .. وكان القوس المصنوع من أوراق الشجر يتعاقب كل أربعة أمتار ليضفي مهابة لطيفة على المكان .. ورحت أمشي .. حتى وصلت إلى الحديقة الكبيرة التي تطل على الفلل هناك .. ولما اقتربت .. جاءت نور .. بنت سمراء طويلة ونحيلة .. ليس فيها من معايير الجمال الكثير .. سوى ذلك الصمت الذي يطوقها في أحيان كثيرة .. قد يظهر أحياناً من خلف أذنها بعض الشعيرات السوداء الطويلة لتلعب برقة مع قرطها الذي لطالما كانت تعلقه في أذنها والذي كان على شكل فراشة .. ولا زالت أحتفظ بهذا القرط إلى اليوم ..
ومن بين عينيها الصغيرتين .. ينحدر سكون عجيب .. ولكن صدقي أن لا شيء فيها يغري بالكثير .. كانت عادية .. فقط لمن لا يعرفها ..
تقدمت نحوي .. ورحت أنا أنظر لها وأحاول ألا أطالع في وجهها كثيراً .. كنت مرتبكاً .. وأنا أقول : ما الموضوع ؟ هل حصل للمياء شيء ؟
نظرت في نور وكانت صامتة .. وكأنها تتأمل في .. كانت نظرتها وكأنها تهيأني لما سيأتي تبعاً .. لما تخفيه في جعبتها .. طلبت منها الحديث وأنا متوتر .. فتكلمت .. وليتها لم تتكلم ..
ما زلت أذكر نص كلامها حرفاً حرفاً وأنا أكتب لك هذه السطور ..
قالت لي : قبل كلامي .. أقول لك أنا آسفة .. وأتمنى أن تتحملي إلى النهاية .. فهذه آخر مرة أستطيع أن أتحدث فيها معك ..
لم أفهم ماذا تقصد .. ولكنها أشاحت بوجهها قليلاً .. وملأت رئتيها بالهواء .. وقالت وهي تنظر لي :
لمياء .. لا تحبك .. لمياء .. على علاقة بشخص آخر ..
سمعت أنا كلامها .. ولكني ما أحسست بشيء .. بل أنا فقدت قدرتي على الإحساس .. وكأنما هوت بفأس كبير على رأسي .. فأرداني على الفور صريعا .. لاحظت هي هذا الشيء .. ولكنها تابعت :
لمياء تعرفت خلال علاقتها معك على أكثر من شخص .. دام أطولهم معها أربعة أشهر .. بل ذات يوم كلمت أكثر من 4 أشخاص .. في نفس اليوم .. وقابلت منهم اثنين ..
ولكنها .. لم تحبك حتى ..
عقدت يديها أمام صدرها .. وراحت تنظر إلى الناس الذين يمشون .. وكأنما تتحاشى نظراتي عيناي المحملقة والمكذبة .. واستمرت لتقول : لمياء لم يعجبها أبداً .. شخص رقيق مثلك .. كانت تسخر منك دوماً .. بل كثيراً ما تجاهلتك .. وتجاهلت اتصالاتك .. ثم تخترع هي تلك الأكاذيب التي تصدقها أنت بحسن نية .. بل إنها بعد أن تنهي كذبتها .. تأتي إلي وتقول لي : هل رأيت قمة البساطة .. شاب سهل جداً ..
ولك يا فرح أن تتخيلي منظري .. منظر طفل .. حبى أول خطواته في سن المراهقة .. كانت له لمياء هي الدنيا .. وكانت هي الروح .. وهي طعم الحياة ومعناها .. وأنا في قمة الذهول .. وأحسست الدنيا فراغ عظيم أهوي فيه إلى مالا نهاية .. وان رأسي يحيط به مغناطيس قوي .. يشتت قدرتي على الاستيعاب ..
فقالت وهي تنظر لي وأحسست أنها في انفعال شديد تحاول أن تخفيه : لك الحق ألا تصدق .. ولكنها الحقيقة ..
وليكون كلامي بدليل .. انظر بنفسك ..
ووضعت أمامي علبة حمراء كبيرة ..
قلت لها بحذر: ما هذا ؟
قالت وأحسست عيناها قد بدآ بالاحمرار : كل رسائلك ..
فقلت وأنا لم أستحمل لأدافع إلى الرمق الأخير: وأيضاً سرقتها من لمياء .. ألا يكفيك أنك تكذبين عليها .. لم تريدين أن تفرقي بيني وبينها .. ما مصلحتك ؟
ثم بدأت أستعيد تحكمي في الأمر وأنا أقول بثقة : كلامك هذا كلام حقير وسخيف .. ولن أصدقه ..
وليتني لم أقل هذه الكلمات .. لا تعرفين إحساسي بالندم على هذه الكلمات يا فرح .. إلى اليوم .. وهذا الإحساس يقتلني ..
نظرت لي .. ثم أغمضت عينيها المحمرتين .. ونزلت دموع لم أشهد مثلها في حياتي .. وعضت على شفتيها .. ثم مسحت دموعها بسرعة .. وقالت وهي تدير وجهها بصوت متقطع : لك الحق أن تكذبني .. ولكن حاول أن تسأل لمياء .. عن أي رسالة من رسالاتك .. وسترى أنها لم تكن تقرأ واحدة منها حتى ..
قلت لها وأنا أكاد أجن : إذا كيف كانت ترد علي ؟ أجيبي ؟
وهنا نظرت في .. بعيون ملأتها الدموع .. وشفاه إلتوت من الألم .. وخدود محمرة من الانفعال .. وظهر بعض شعرها من تحت حجابها .. وقالت بصوت منكسر .. صوت فيه النهايات كلها :أنا التي كنت أحبك .. أنا .. أنا التي كنت أكتب الردود عليك .. أنا التي كنت أحفظ رسائلك بكل سطر فيها .. أنا التي ما رضيت أن تتركك لمياء هذه السنة كلها .. أنا التي ..
وهنا لم تستحمل .. وسقطت على الأرض تبكي .. وتبكي .. وبدت كأنما ذبلت .. وانكمشت أكثر وأكثر .. وهي تضع يديها تغطي به وجهها .. ثم تمالكت ما بقي لها من قوة وقالت وهي تنظر لي بصوت متهدج : تخيلت أنها من الممكن أن تحبك يوماً .. تمنيت آن تكون سعيداً معها .. ففي ذلك الوقت .. سأكون أنا سعيدة ..
كنت أقنعها بأنك شاب جيد .. ولكنها لم تكن ترى فيك سوى أموالك يا قصي .. كانت تتفاخر أمام صديقاتها دوماً .. أنها أكثر من استطاعت استنزاف فتى .. وأكثر من استطاعت أن تجعله يعطيها المال .. هل تذكر الألف ريال التي طلبتها منك يا قصي وقالت بأنها لحاجة ماسة وضرورية .. وأن أباها قد منع عنها المصروف لأنه شك بعلاقتها بأحد ؟ هل تذكر ؟ لقد قامت بحفلة في بيت سارة في جدة بهذه الأموال هي وبقية البنات ..
كل الوقت الذي كانت فيه لمياء تتحدث من جوالي .. كان جوالها يستطيع الاتصال .. لم تكن قد انتهت بطاريته .. أو نسيته في البيت كما كانت تقول ..
أنا ..
لقد رسبت هذه السنة في المدرسة لأني أفكر فيك .. نقص وزني 10 كيلو .. من فرط حبي لك ..
وأنت لم تفكر في .. كان كل عقلك يمتليء بلمياء .. ولم تفكر إلا فيها .. وتجاهلت أي اهتمام لي بك ..
أنا ..
ثم تطلع في السماء وكلها دموع .. وقالت : يا الله خذ عمري .. ثم قامت .. وقد اتسخت عباءتها .. وأخذت تجري وتجري وتجري .. وأنا ذاهل لا اعرف كيف أتصرف .. وقفت في مكاني لا أتحرك .. وقطرات العرق أغرقتني .. من هول الصدمة .. من عشق مدمر .. من إحساس لأول حب تعيشين فيه خدعة من الطراز الرفيع ..
بعد يومين .. أمضيتهما وأنا لا أكاد أشعر بشيء .. لم أذق فيهما طعاماً أبداً .. كل ما كان في ذهول .. حتى النهاية ..
كان والدي مشغولاً في إيطاليا في صفقة تجارية .. وجلست معي والدتي ولكنها كانت مشغولة .. وما احتجتها في حياتي مثل ذلك اليوم أبداً .. وفي النهاية قررت أن أتصل بنور .. يجب أن اعرف الموضوع كله .. واتصلت .. وردت .. وقلت لها : لا بد أن أقابلك .. صمتت يرهة ثم قالت : تستطيع أن تأتي لي في مستشفى السلامة .. غرفة 3004
أما أنا فتوترت قليلاً وقلت : ما الموضوع ؟
قالت لي إنها مريضة بعض الشيء .. وذهبت لها بالفعل .. في صباح اليوم التالي .. حين يغادر أبويها لأعمالهم ..
ذهبت إلى هناك .. ودخلت المستشفى .. وصعدت إلى الطابق الرابع .. ولما اقتربت من الاستقبال الخاص بالطابق .. سألت عن الغرفة 3004 .. فقالت : أتقصد الفتاة التي تعاني من تضخم في القلب ؟
تمعر وجهي وأنا أقول لها : لا أقصد نور فارس ..
فقالت الممرضة : نعم .. نور فارس .. المصابة بتضخم في القلب ..
فقلت لها : وكيف حالها الآن ؟
صمتت الممرضة قليلاً .. ثم قالت : الحمد لله استطعنا إنقاذها البارحة .. فقد كانت حالتها حرجة .. ولكن الحمد لله .. كان عليها ألا تبذل مجهوداً كبيراً .. وكان عليها ألا تنفعل كثيراً .. قلنا لها هذا أكثر من مرة .. بأن هذا مضر كثيراً بصحتها ..
أما أنا فما عادت تحملني قدماي أكثر من هذا .. فالمفاجآت تكاد تقلني واحدة تلو الأخرى .. جلست على أقرب كرسي .. لمدة تزيد على الساعتين .. وأنا في ذهول تام .. ولم أهتم حتى لكلام الممرضات ..
وفي النهاية .. قمت وطرقت لها الباب .. ودخلت ..
ورأيت نور .. ونسيت أمر لمياء أمام هذه المأساة الإنسانية .. أما نور التي كانت الشاشة الإلكترونية تسجل بجوارها كل ما يحصل لها من تغييرات .. وفي يديها راح المغذي .. يدخل الطعام إلى جسمها الناحل ..
جلست أمامها .. كالمسحور .. ونسيت لم أتيت أنا هنا .. أخبرتني أنها مريضة منذ سنوات بهذا المرض .. وأن حالتها حرجة .. وأنها أرادت أن تخلص ضميرها .. وأن تخبرني عن الموضوع ..
تذكرت موضوع لمياء .. فحاولت ألا أثقل عليها وهي بهذه الحالة .. فقلت : نور .. أريد منك الصدق .. أرجوك .. ما هو شعور لمياء تجاهي .. هل تحبني أم لا ؟
نظرت في نور .. ثم طالعت في قدميها .. وتملكتها النظرات الحزينة .. ثم قالت : أظن أنه لا بد أن تسمع بأذنك .. فتحت السماعة بجوارها من تلفون المستشفى .. وراحت أصابعها ببطيء تسجل رقم بيت لمياء .. وبعد قليل ردت لمياء .. وسمعت بأذني الحقيقة .. حين فتحت نور المايكروفون .. إذ إن الجوالات في ذلك الوقت لم يكن فيها مايكروفون .. فقط التلفونات العادية ..
فقالت نور : متى ستأتي يا لولو ؟
وكان هذا دلع لمياء .. فقالت : سآتي والبنات اليوم في السابعة ..
فقالت نور : ألم يتصل بك قصي ؟
ازدادت ضربات قلبي .. وأنا اسمع اسمي .. وكأن كل شيء سار بالبطيء .. وأنا أسمع كلمات لمياء .. التي قالت وهي تضحك : الحمد لله لم أسمع صوته من يومين ..
قلت في نفسي : ربما تقصد أمراً آخر .. ثم تابعت لمياء : هذا الولد مثل اللبان حين يلتصق بك .. لا يتركك .. كم هو ممل ؟
تجمدت في مكاني وأنا أحس بكوب من الثلج البارد يغرقني .. رغم أن قطرات العرق كانت تتفصد من جبيني ..
فقالت نور وهي تنظر في : حرام عليك يا لمياء .. إنه مسكين .. إنه يحبك كثيراً ..
فقالت لمياء : حرام ؟ والله إنه غبي .. نور إن كنت تريدينه فخذيه .. لطالما كنت تحبين هذه النوعية من البشر .. ولكن أنا .. لا يمكن .. أن أقبل بمثله .. لا أحب أمثاله من الذين يبحثون عن الكمال والمثالية .. و**** الخالص .. تخيلي .. لم يطلب مرة حتى قبلة على الجوال ..
ثم أخذت تضحك في سخرية .. وأنا أغمض عيني .. لتنزل منها الدموع بصمت .. دموع من دم .. دموع لجرح الكرامة ..
ولكن نور لم تتوقف .. ولكنها قالت : لا بد أنك تتطلعين إلى مروان .. صحيح ؟
فقالت لمياء وبدى على صوتها الحماس : مروان هذا أمر آخر .. إنه أفضل الموجودين ..
لم أطق احتمالاً فقلت لنور وأنا لا أهتم لشيء : يكفي ..
فقطعت نور الخط .. وراحت تنظر في .. راحت تنظر في الشبه إنسان الذي تحطم أمامها .. راحت تطالع فمين أهدرت كرامته .. وداست عليها حقيرة مثل لمياء .. رميت بنفسي على الكرسي .. وأنا في نوبة بكاء صامتة .. وأنا أضع وجهي في يدي .. وأنتحب .. ثم سمعت صوت نور وهي تبكي وتقول : قصي .. الله يخليك .. لا تبكي .. قصي أرجوك .. لا تبكي ..
ولكني لم أستطع أن أقاوم إحساسي بالذل .. أجل يا فرح .. إحساسي بالذل .. ولكن نور لم تتوقف .. نهضت رغم كل التعب الذي بها .. رغم كل شيء .. حاولت أن تنهض من مكانها .. ولكنها تعثرت وسقطت على الأرض ..
قمت نحوها وأنا أطمأن على حالتها .. فتحت عينيها في ألم وهي تقول : أرجوك يا قصي .. أرجوك : لا تبكي ..
ومن يومها داومت على زيارتها وجلست أزورها .. لمدة أربعة أيام .. وبعدها خرجت ..
فرح .. أقسم لك أني تعلمت **** كله في هذه الأيام الأربعة .. عشت في هذه الأيام الأربعة .. أحلى أيام حياتي .. رأيت ما افتقده سنوات من الحرمان العاطفي .. من الجفاف الذي عانيت منه في أسرتي .. من كل شيء ..
كنت عندما أذهب لها يا فرح .. كنت أحس أني أقبل على الدنيا .. صدقي يا فرح أن تلك الأيام كانت هي الأيام الوحيدة في حياتي .. حتى أتيت أنت ..
عرفت كيف هي مشاعر الإنسان تكون .. عرفت كيف يكون البشر ذو قلب .. وهي لم تملك لتقدمه لي سوى مشاعرها الصادقة .. مشاعر **** الدافئة .. التي تجعلك تنسين الدنيا بأكملها .. نور هي الذي علمتني كيف أحب .. وصاغت ذلك ب**** الذي لم أعرفه في حياتي كلها أبداً ..
وصدقي يا فرح .. أني لم أكن لئيماً معها .. كنت أخطط للزواج بها .. صدقي .. أني لم أتمكن من البعد عنها .. طوال الشهر الذي تلى خروجها من المستشفى .. صدقي أني كنت معها إنساناً طيباً .. لن تجديه في عالم تعارف الأولاد والبنات .. واشتريت خاتماً بلاتينياً .. لأقول لنفسي .. أنا لها .. ولها فقط ..
لم تكن نور جميلة يا فرح .. ولكن كان لها قلب .. أرست به للحب معاني أخرى .. حب لا يهتم للشكل أبداً .. شهر لم أذق في حياتي كلها مثلها أبداً من طعم **** الذي لا يدنسه شيء .. ورحت أقرأ رسائلها التي لم أكن أنظر لها بتلك النظرة الفاحصة .. التي ظننت أن لمياء كانت تكتبها .. ورأيت ما خلف السطور الخجلة .. رأيت أكثر من الكلمات .. كلمات فتاة أطار **** قلبها حتى وصل إلى عالم النجوم ..
هل تفهمين يا فرح هذا النوع من **** .. الذي ينتشلك من قاع الأرض إلى نهاية السماء وما بعد السحب والغيوم .. ذلك **** الذي يجهلك وبدون تمثيل .. تغرقيم في بحر من تحبين .. حتى يلاحظ عليك الناس هذا .. فتبتسمين من تعليقاتهم الساخرة .. وأنت تحكين شعرك .. **** الذي يجعلك .. ترسمين القلوب في دفاترك بتلك الطريقة البريئة .. أو حتى الحرفين الأولين من حروف اسميكما في كل مكان .. **** العذري الذي اختفى من عالمنا ..
كانت تحب الموسيقى .. كانت تحب عزف البيانو .. ولذلك ابتعت واحداً .. وراحت أتعلم فيه .. من اجلها ..لأني أحبها .. وكم تمنيت يوماً .. أن تكون موجودة حتى تسمع ألحاني اليوم .. ألحاني صنعتها فقط من لنور .. خاصة بها .. كم كنت أتخيلها .. وأتخيل حتى إحساسها .. إحساس لن تستطيعي أن تحسي به إلا وأنت في تلك القاعة الوسيعة .. وسط آلاف الحشود من الناس .. وأنت لا تعين في الدنيا هذه كلها إلا لذلك الصوت من العزف
.. لتلك النغمات التي ربما لا تعني لأحد شيئاً إلا أنت .. إحساس يفوق الوصف .. أن نحس باهتزازة في أجسادنا .. أن نحس بارتعاشة في أطرافنا .. وفي أعيننا دمعة تصر على النزول .. وهي تجعلنا نحلق .. فوق أبعد من الغيوم .. فوق أبعد من مدارات الأفلاك .. وأحس أننا وحدنا وقد سلط على الضوء وأنا في حالة من الإحساس الذي لا أستطيع أن أصفه حتى .. كل رنة .. كل مقطوعة .. لها معنى خاص .. لها تفسير خاص .. لا تحصلين عليه إلا أنت ..
كنت أتخيلها : تنظر في تبتسم في حنان كعادتها .. لأنها ستدرك أن كل رنة وتر .. كانت فقط لها ..
ولكنها يا فرح .. وببساطة وقسوة هذه الكلمة :
ماتت بعد هذا الشهر ..
ولن أتحدث عن موتها .. ولن أتحدث عما حصل بعد ذلك .. فأنا قد كنت أعيش الألم يوماً بيوم .. ولحظة بلحظة .. لن أتحدث عن تلك الصرخة التي أطلقتها يوم ماتت .. لتجعلني حتى اليوم مريضاً .. أتقيأ الدم من فمي .. كلما تذكرت ذلك اليوم .. يوم بكيت من قلبي .. حتى احترقت عيني من الألم .. حين انغرست أشواك الموت في ظهري كما الأوشام .. وراحت يدي تنطلي بالدم .. والصداع الذي لازم روحي وكأنما أجبر على أن أدخل يدي في رأسي .. وأن أمس بها تعاريج دماغي ..
وسأمنع عنك عذاب كلماتي .. التي تصف حرقة القلب المسكين .. وأيام الوحدة .. والنوم وأنا أرتجف من الحزن .. والدموع تنصف على وجنتي .. والحمى التي لازمتني طويلاً ..
ولكني سأخبرك عن الحقائق .. عن أن موت نور الذي لم يكن عادياً .. بل كان غريباً .. ماتت قريباً على بعد شارع من فيلا لمياء .. بعد أن اصدمت بها السيارة .. ولم يكن وجودها في الشارع في الساعة الحادية عشرة مساءً وحدها ذا معنى .. وتأكدت تماماً من ذلك حين اتصلت على لمياء .. وسألتها .. ولمحت في صوتها الارتباك .. وتظاهرها في البداية أنها لا تعلم شيئاً .. ليتضارب كلامها في النهاية . أن نور جاءت عندها ولم تعرف لم خرجت ..
وأدركت أن هناك أمراً .. وأن هناك موضوعاً يختفي .. ولا بد أن أعرفه .. وعندها يا فرح .. أصبحت قصي الحديدي الذي سمعت عنه .. والذي لا أدري حتى هذه اللحظة ما سمعت .. ولكني سأخبرك بكل شيء .. حتى تفرقي بين الحقيقة وبين الكذب ..
قررت يا فرح أن أكون الخبير .. الذي تلوك له شوكة النساء .. حتى أعرف الحقيقة .. قررت أن أكون قصي الذي لا تقف في طريقة امرأة .. قررت أن أعرف لم ماتت نور .. وان أذيق من كان السبب في ذلك أشنع العذاب .. وصدقي يا فرح أن في قلب كل إنسان طيب .. مارد متوحش .. وقد نهض ماردي أخيراً .. وصرت أنا كائناً آخراً .. ولا أنكر أني عانيت من انفصام في الشخصية .. ما بين قصي .. الإنسان .. وقصي زير النساء .. الذي يذبح الفتيات على سكين قسوته .. دون أن يرف له طرف ..
لا أنكر اني تقيأت الدم .. ولازالت أتقيأه حتى الآن .. ولكن كل هذا من أجل نور .. وصدقي أنه لم يكن هناك شيء يهم .. بعد نور .. ضاع كل شيء .. لأنه لم يكن لي في هذه الحياة إلا هي ..
ولكني لم أستطع أن أجازف .. كان لابد لي من حقل تجارب .. ولأن في تلك الخصلة الآدمية والإنسانية .. ولأن في حفظاً للود .. فإني لم أختر أي فتاة أبداً .. لم تكن أي فتاة هي من أجرب عليها أفكاري .. لأن كل فتاة طيبة .. كانت طيفاً آخر من نور .. بل والله يا فرح لم تطف عيني على فتاة محترمة أو يظهر عليها بعض الاحترام .. إلا ثلاثة : سمر و ريناد وياسمين .. وما وقعت منهن إلا ضحية واحدة .. أتذكرها إلى اليوم .. وأتمنى أن أراها في يوم ما .. حتى أعتذر لها من كل قلبي ..
ولا تظني يا فرح .. قد فعلت شيئاً يخدش شرف أي بنت .. وقد لا تصدقين والله إن قلت لك .. أنه لمن النادر أن أمس هؤلاء الفتيات .. وربما لا تصدقين أكثر إن قلت لك .. أن السبب كان ببساطة أني أحتقرهن .. أحتقر فرائسي .. الذين كنت أختارهم .. فتيات لا يزن في ميزان الاحترام إلا القليل .. مروا على قبلي بمن جعلهم مثل لقمة سائغة في أيدي غيرهم .. الفتيات الذين يحتاجون إلى إعادة تربية .. بل يحتاج أهاليهن هذه التربية ..
ولكني كنت أختار لهم عذاباً خاصاً .. سنوات من الألم النفسي .. ومن القلق .. ومن العاطفة المتهتكة .. و**** الذي يموت في النهاية .. بطريقة يبقى تأثيرها قوياً .. ينشر الكآبة في حنايا القلب ..
فرح .. لا أبالغ إن قلت لك .. بأنه مر على أكثر من مائة فتاة .. حتى أصل إلى ما أريد .. ووصلت .. إلى أبعد ما أريد ..
لم أبدأ بلمياء كما تظنين ..ولكني بدأت بصديقاتها المقربات .. وتعرفت عليهن واحدة واحدة .. بعد أن وصلت إلى درجة من الاحتراف تكفي حتى أستطيع أن أتعامل مع كل واحدة منهم بطريقة تناسبها .. وواحدة تلو واحدة .. كنت أعرف خفايا القصة الحقيقية .. وتفاصيل الحادثة التي كانوا يخفونها ..
ووصلت إلى الشلة التي كانت لمياء تتزعمها .. شلة البنات العشرة .. الذين سميتهم بالكلاب العشرة ..
هل تعلمين من هن الكلاب العشرة يا فرح ؟ إنهم الفتيات اللواتي كن موجودات مع لمياء يوم ماتت نور .. الفتيات اللذين وافقوا أن يتواجد أولاد خالة لمياء معهن في البيت .. ورحن يتحدثن معهم .. في حين أن نور التي أتت للمياء ذلك اليوم مصادفة .. لتقول لها عن أنها تحبني ..
الكلاب العشرة هن الذين وافقوا أن يحاول أحد أبناء خالة لمياء أن يأخذ نور معها في جولة بالسيارة .. قد يبدو للعامة الهدف منها غير واضحاً ..
فهربت نور من منزل لمياء .. بعد أن أدركت بعد وقت غير بعيد .. أنهم لم يخبروها بوصول سائقها أكثر من مرة .. وأنهم أخبروه .. أن سائق لمياء سوف يوصلها للمنزل .. وكانت لمياء قد فعلت هذا نكاية بنور التي أخذت عليها قصي الذي كان طريدتها .. لينتهي الأمر بحادثة تنهي حياة نور ..
فرح إن هذه ليست قصة مسلسل خليجي قديم .. ولكنها قصة حقيقية .. عن ثلة من البشر .. راح الحقد يعمي قلوبهم .. وراح الغباء يسيطر على أفكارهم .. وبات من السهل إيذاء الناس دون التفكير في العواقب ..
قد لا تصدقينني يا فرح .. ولكنها والله الحقيقة .. الحقيقة التي تقتلني في اليوم والليلة ألف مرة وأنا أتذكر كل الألم الذي زرعته لمياء في نفسي ..
وحلفت أن عذاب لمياء سيكون هدف حياتي يا فرح .. وقلت لبراكين الغضب .. ثوري ..ومجدي في راحتي النيران لأقذفها في الأعين الحمقاء ..
ويا بحاري السوداء اعزفي لحن الموت على قيثارة الخلود .. وانشدي تراتيل النهاية على مقابر الأحياء ..
جعلت من خططي سهاماً .. أن تحصد لمياء والكلاب العشرة ولا تتركهم .. كما لو كانت المناجل اللامعة .. تجتز الأعناق بلا هوادة ..
ورفعت راية الانتحار الأخيرة .. وألقيت بنفسي كألف قنبلة مدمرة .. لأمزق الوجوه .. وأشوي الجلود .. وأغرس أظافري وأنشبها مطعمة بالسم في قلوبهن بلا رحمة .. وأكيل لهم من الآلام ما لا يليق إلا بمذاق الدم في مفهومي أنا ..
نعم .. سأضحك بسخرية .. وأشرب من كأس الدم حتى الثمالة .. حتى يحسوا بما أحسست به أنا من ألم .. طوال هذه الأيام التي قضت فيها على حياتي كلها ..
فرح .. أستطيع أن أختصر عليك مقدار الألم والفظاعة التي ستحسين بها .. وأقول لك نهايتها في جمل قصيرة .. فقد أدمت لمياء على الكحول .. وبعض أنواع المخدرات البسيطة .. وكانت في تصنيف خاص وحدها فقط ..
أذقتها من الألم .. ما ذهبت من أجله إلى طبيب نفسي .. وجرعت لها من كؤوس الموت أكثرها حرقة .. وتركتها شبه آدمية .. لا ينفع معها شيء أبداً .. صدقيني .. لن أخبرك أكثر عما فعلته بها كي لا تكرهيني ..
ولكن ما أستطيع أن أؤكده لك بما لا يدع مجالاً للشك أني لم أمسها أبداً يا فرح .. وأنا أقسم على ذلك ..
فرح .. أقولها لك .. وصدقيني إن شئت .. كل مرة أفعل فيها ما أفعل .. أبصق دماً .. أحس أني رسول الجحيم وأني في قمة الألم .. ولكني لن أستطيع أن أسامحن أبداً على ما فعلن بنور .. أبداً ..
وعلى الرغم من ذلك .. إلا أني في كل مرة أنهي أمر واحدة منهن .. أصاب بإحباط يدمر كياني كله .. ويهد جسدي هداً .. وأجلس أنا في مغطسي .. لأحوله حماماً من الدم .. بل إن هذا المنظر أصبح مألوفاً لدي .. أمتلئ بتأنيب الضمير .. بكل مرارت الدنيا .. لا شيء أكثر قسوة عليك من ضميرك .. لا شيء يجلس معك ليلك بنهارك .. ويحرمك كل يوم من النوم .. لا شيء إلا ضميرك ..
حتى صرت أكره النوم .. لأني ما إن أضع رأسي على مخدعي .. إلا وأتذكر كل ما قمت به .. وتمر الأسماء علي واحدة واحدة .. وكل الأحداث والخدع .. خدعة خدعة .. وأحس بدناءة النفس .. وتقريع الضمير .. وأحاسيس ما لا قدرة لإنسان على طاقتها .. ولكني أستمر .. رغما عني والله ..
دعوت ربي كثيراً أن يخلصني مما أنا فيه .. فكرت أن أذهب لطبيب نفسي ليعالجني .. أعلم أن حالتي مرضية .. ولكن أسطورة الخبير قصي .. وكبريائها الأجوف .. وإحساسي أني لا بد أن أكمل الانتقام حتى النهاية .. منعوني من ذلك ..
فعلت كل هذا يا فرح .. وقررت أن أمر حياتي في سبيل هذا الانتقام .. وكنت راضياً بهذا الثمن .. كنت موافقاً .. أن تنتهي حياتي في أي لحظة .. وأنا أسير في هذا الدرب .. ولكني لم أظن أبداً يا فرح .. أنه سيأتي اليوم الذي أقابلك فيه يا فرح .. لم أظن أني سأتمكن مجدداً يا فرح من أن ألتقي بامرأة تكون لي الدنيا من جديد .. وأن تعني لي كل شيء في الحياة .. وأن حياتها ستكون أغلى من حياتي .. وضعت حساباً .. لأن تتدمر حياتي .. ولكني لم أضع حساباً لأن تتدمر حياة من أحب ..
فرح قبل أن أقابلك .. كنت الخبير .. كنت الرجل الخارق الذي تستطيعين أن تريه في أفلام الكرتون .. ولأجلك أنت .. اعتزلت هذا العالم .. وتركته بلا رجعة ..
يوماً بعد يوم .. أحسست أني سأتمكن من أن أعيش حياة طبيعية .. كما يعيش بني البشر .. وأن تكون لي ذكريات حلوة .. وأن أجد في هذه الدنيا من أبادله الشعور ب**** والمشاعر النبيلة ..
جئتِ أنت .. لتكوني حياة أخرى لي .. لتنتشليني من جحيمي .. وتفتحي لي أبواب الدنيا التي حرمت منها منذ الخامسة عشرة من عمري .. وعلمتني معنى الحياة من جديد .. أنت فقط يا فرح .. معك عرفت للحياة طعمها الحقيقي .. وكأنما أرسلك الله إلى رحمة للناس قبل أن تكوني رحمة لي ..
كم أتمنى أن أحتضنك يا فرح الآن .. وان أقول لك والله وبكل الصدق .. شكراً يا فرح .. أن كنت نقطة الضوء في حياتي التعيسة .. أن كنت وهج الألم في سويداء روحي ..
فرح .. لك حرية التصرف في أن تبقي رسالتي .. أو أن تحرقيها .. أو حتى تريها لكل الناس .. لست أهتم لحياتي بعد الآن .. أما أنا .. سأسافر بعيداً .. لا أدري ربما أمريكا أو بريطانيا .. ولكني بالتأكيد لن أبقى هنا أبداً .. لن أرضى أن ألوث أرضاً تحملك .. لن أرضى بأن أكون في مكان تعيشين فيه .. أنا مجرد نفاية سامة .. أنا مجرد أوساخ .. أنا لاشيء .. ولكني أريدك أن تعلمي شيئاً واحداً فقط ..
أني بصدق يعادل كل الكذب الذي خلقته في كل السنوات التي مضت في حياتي .. والله أحببتك .. ولأكون أكثر دقة .. أكثر من لمياء بكثير .. بل حتى أكثر من نور ..
بل إني لم أتخيل والله يا فرح .. أن أحب بهذه الطريقة .. وأن يكون للحب هذا المعنى ..
أنا غير مستعد لأن أخوض التجربة مرة ثانية وأن أفقد مرة أخرى .. أستطيع أن أتعايش مع ألمي .. ويكفيني أن أظل أحبك طوال عمري .. حتى إن كرهتني مدى الحياة .. لن أطلب منك شيئاً .. إلا أن تحاولي أن يكون لك فقط بعض الرحمة .. وأن تنسيني .. حتى لا تسامحيني إن لم تريدي .. ولكن لا تتذكري رجلاً خبيثاً مثلي .. رجل سيء لا يستحقك أبداً .. فلك الحق أن تكرهيني .. طوال عمرك وأتمنى بالفعل أن تكوني سعيدة في حياتك .. ووالله يا فرح .. ما حاولت استعطافك في كلمة مما قلت ..
فرح أنت طالق .. يا أطيب من أحببت في حياتي
من شخص .. أحبك أكثر من روحه .. وسيظل يحبك إلى الأبد .. ولن يحب أحداً غيرك أبداً في حياته ..
قصي ..
وكانت هذه الرسالة قد امتلأت بقطرات الدماء .. طوى قصي رسالته .. ووضعها في ظرف أبيض صغير .. وأقفله .. وحين نهض .. كانت الرؤية باهتة لديه .. وببساطة .. سقط على الأرض من على مكتبه ..
والنهاية الأخيرة لهذه القصة .. .. .
ضعوا بجواركم منديلاً ..
واستعدوا ..
ذات يوم .. وفي منتصف الليل .. وجد نفسه فوق سرير ضاقت به أبعاده .. وجد نفسه يصارع النوم .. ليحظى بلحظات من نعمة النسيان .. وإن كانت غير واعية .. وفجأة .. نهض من سريره .. وأضاء غرفته .. وتأملها جيداً ثم أخرج من صدره تنهيدة .. تمنى لو خرجت معها روحه .. ثم أخذ ورقة وقلماً .. وبدأ يكتب رسالته ..
الرسالة التي سيقول فيها كل شيء .. لتظهر الحقيقة الأخيرة .. التي أخفاها قصي طوال هذه السنين .. الحقيقة التي جعلت منه ذلك الشخص .. المليء بالتناقص .. المليء بالأسرار .. بالغموض ..
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى زوجتي ****يبة .. فرح ..
إنها الثالثة صباحاً يا فرح .. ورسالتي هذه أكتبها إليك .. وأنا لأول مرة أكتب رسالة منذ أكثر من 7 أعوام .. أتمنى أن تدركي فقط كل كلمة فيها .. حاولي أن تفهمي التعقيد .. حاولي أن تجدي لدي من وسط هذه السطور شيئاً واحداً فقط .. كي تفهميني على حقيقتي .. وأن تتخيلي كل شيء .. وأخيراً حاولي أن تسامحيني .. ولكني لن أعتب عليك .. ولن ألومك إن لم تفعلي ..
هذه الرسالة .. ليست محاولة للاستعطاف .. ليست رسالة أحاول بها أن أستميل قلبك .. إلا أني أريدك أن تعرفي الحقيقة كاملة ..
وفي حياتي كلها .. لم أهتم أن تسامحني فتاة .. إلا واحدة .. كان اسمها .. نور ..
إنها فتاة توفيت في الخامسة عشرة من عمرها .. بعد أغرب قصة حب قد تسمعي عنها يا فرح .. إنها قصة **** .. التي بدأت من النهاية .. بل إنها انتهت قبل أن تبدأ حتى .. ولا تسخري منها .. فإنها فتاة لا أهتم أن أحرق الدنيا من أجلها .. وإن كانت قد ماتت ..
بل وستتعجبي كثيراً إن قلت لك .. أن نور هذه .. كانت صديقة .. للفتاة التي أحببتها ذات يوم من كل قلبي .. "لمياء"
لمياء .. سأذكر هذا الاسم مادامت السموات والأرض .. فتاة لم أشاهد في جمالها فتاة في حياتي أبداً .. وصدقي أنها فتاة ما إن خرجت ومشت .. إلا تغيرت معالم الدنيا من جمالها الباهر .. كانتا كلتاهما من مكة ..
وأنا .. وقعت في حب لمياء أسيراً .. كانت لي .. حبي الأول .. كانت حبي الأعمى إن كنت تدركين ذلك .. حب بكل ما في من كيان .. حب إن سألتني وقتها عنه .. فسأقول لك بصدق .. أحبها .. ومن أجلها أفعل ما تريد .. أي شيء .. وكل شيء .. كنت حينها غضاً .. لين العود ..
وإن أخبرتك بما فعلت للمياء .. فلن تصدقي حتماً .. لن تصدقي حتى إن قلت لك .. أني احتفظت بكل شيء كان يخصها .. كل شيء .. بل من المؤكد أنك ستسخرين .. إن قلت لك أن لدي ورقة حلوى .. كانت قد أهدتني إياها في عيد ميلادي ..بل إني كتبت عليها تاريخ إهدائها لي الحلوى .. والتاريخ الذي أكلتها فيه .. والله إنها لدي ..
ستعجبين إن قلت لك ..
أني قدمت لها هدية جمعتها في سنة كاملة .. سنة كاملة وأنا أجمع لها هدية .. لم أطلب من أحد شيئاً .. كان والدي يقدر أن يعطيني .. ولكني جمعتها أنا من مصروفي الخاص .. وحرمت نفسي حتى من الأكل في المدرسة .. وحرمت نفسي من كل شيء لأشتري لها .. كي تكون مني أنا فقط ..
صنعت لها حقيبة كاملة من الهدايا .. حقيبة سفر .. وملأتها بما لا يخطر لك على بال .. من كل أنواع الهدايا .. عطور .. وقمصان فاخرة .. بل إني طلبت لها هدايا من الخارج .. حتى لما تكدست الحقيبة وامتلأت .. أهديتها لها .. وأنا أقول في نفسي ليتني أهديتها شيئاً أحلى .. لربما تلك الحقيبة كلفتني أكثر من 17,750 ريال ..
أتعلمين معنى مبلغ كهذا لمراهق في الرابعة عشرة؟
كنت كل يوم اكلمها .. حتى كانت فاتورة جوالي تصل ألف ريال كل شهر .. إني أكتب لك بلغة الأرقام .. أكتب لك كل شيء .. لتعلمي الحقيقة كاملة .. ولتعيشي معي الألم كله .. وتذوقي في فمك مسحة من كأس الموت الذي شربت منه ..
علك تفهمينني يا فرح ..
أعطيتها حباً لم يعطه إنسان لإنسانة في هذه الدنيا .. بكل جوارحي .. أحببتها وقدمتها على نفسي في كل شيء .. حتى دعائي في صلاتي أن يحفظها ربي .. ولربما لو قلت لك أني مستعد أن أموت من أجلها .. لظننتِ أني كنت أبالغ .. ولكني حقاً .. كنت سأكون سعيداً بالموت على أن تصاب هي بشيء ..
كنت وقتها نقيا كالينابيع الصافية .. منتشياً كورود حانية .. طيباً .. في طور الأطفال .. شاعرياً لأقصى درجة .. بل رقيقاً تهزني الكلمة .. وحساس .. تجرحني الهمسة .. مرهفاً إلى حد الفتيات .. كتبت لها 245 رسالة حب .. في كل يوم رسالة .. وقد أتخلف في يوم .. فأجد نفسي أكتب في اليوم الذي بعده أكتب ثلاثة مرة واحدة .. وكانت ردودها على رسائلي قليلة .. ولكني وقتها أقسم لك .. أن رسالة واحدة منها بكل رسائلي وهداياي ..
فرح .. لقد كانت لي حباً غير عادي .. كنت مخلصاً لها لدرجة أني كنت لا أطالع التلفزيون .. لأني أعتبر ذلك خيانة .. وحتى أهلي عرفوا أني أحب .. ولكنهم لم يهتموا كثيراً .. تلك هي السياسة التي عشتها في حياتي .. طالما أني بخير .. طالما أني أسير في حياتي بطريقة عادية .. فلا شيء يهم ..
حتى جاء اليوم .. الذي لن أنساه في حياتي كلها .. بل هو يوم أتذكره كل يوم في صباحي ومسائي .. وكأنه انطبع على جدران عقلي .. وصار فيها تمثالاً ضخما لا يمكنني أن أتجاهله أبداً .. يوم يقض مضجعي ليلاً .. ويؤلم ظهري كثيراً .. ويسكب على مرارتي كلها في كل لحظة .. ما اختليت بنفسي يوماً إلا هزتني ذكراه .. وصفعتني .. وركلتني بمنتهى بقسوة .. وشدت شعري .. وامتصت دمي .. وهتكت إحساسي كله ..
جاء يوم .. تمنيت فيه أن أفعل الكثير جداً .. ولكني بعده .. قمت بأكثر من هذا الذي تمنيت ..
اتصلت بي نور .. صاحبة لمياء .. كانت مرتبكة كثيراً ..أما أنا استغربت من اتصالها كثيراً .. ثم طلبت مقابلتي .. ترددت كثيراً .. فانا أعتبر هذا خيانة عظمى .. يشنق آثمها .. فأصرت وبشكل غريب .. إلى أن صرخت في وقالت : إنه موضوع يخص لمياء ..
ورغم أني أعرف نور .. وبأنها فراشة في حلة ملائكية .. رفضت أنا .. فتوسلت هي .. رفضت مرة أخرى .. فبكت ..
نزلت إلى جدة خصيصاً لهذا اللقاء مع السائق .. فقد كنت وقتها أعيش في مكة .. وكانت نور عند خالتها ومع أهلها في فندق البلاد يقضون يومين للاستجمام ..
ذهبت على مضض لمقابلتها ..
وأصررت على أن يكون اللقاء في الحديقة .. أي أن يكون مكاناً عاماً .. قابلتها ..
لازالت يا فرح أذكر ذلك اليوم .. بمنتهى الدقة .. بدون أن أنسى منه لحظة واحدة .. كانت الساعة التاسعة مساءً .. وكان الجو حاراً ورطباً .. وإحساس بالكتمة من الهواء الذي لا يتحرك .. دخلت الفندق .. من البوابة التي تطل على الفلل والحديقة .. وكانت الأنابيب البلاستيكية في طور التركيب .. تمهيداً لتجديدها كما كان يبدو لنظام جديد في ري الحديقة .. وكان القوس المصنوع من أوراق الشجر يتعاقب كل أربعة أمتار ليضفي مهابة لطيفة على المكان .. ورحت أمشي .. حتى وصلت إلى الحديقة الكبيرة التي تطل على الفلل هناك .. ولما اقتربت .. جاءت نور .. بنت سمراء طويلة ونحيلة .. ليس فيها من معايير الجمال الكثير .. سوى ذلك الصمت الذي يطوقها في أحيان كثيرة .. قد يظهر أحياناً من خلف أذنها بعض الشعيرات السوداء الطويلة لتلعب برقة مع قرطها الذي لطالما كانت تعلقه في أذنها والذي كان على شكل فراشة .. ولا زالت أحتفظ بهذا القرط إلى اليوم ..
ومن بين عينيها الصغيرتين .. ينحدر سكون عجيب .. ولكن صدقي أن لا شيء فيها يغري بالكثير .. كانت عادية .. فقط لمن لا يعرفها ..
تقدمت نحوي .. ورحت أنا أنظر لها وأحاول ألا أطالع في وجهها كثيراً .. كنت مرتبكاً .. وأنا أقول : ما الموضوع ؟ هل حصل للمياء شيء ؟
نظرت في نور وكانت صامتة .. وكأنها تتأمل في .. كانت نظرتها وكأنها تهيأني لما سيأتي تبعاً .. لما تخفيه في جعبتها .. طلبت منها الحديث وأنا متوتر .. فتكلمت .. وليتها لم تتكلم ..
ما زلت أذكر نص كلامها حرفاً حرفاً وأنا أكتب لك هذه السطور ..
قالت لي : قبل كلامي .. أقول لك أنا آسفة .. وأتمنى أن تتحملي إلى النهاية .. فهذه آخر مرة أستطيع أن أتحدث فيها معك ..
لم أفهم ماذا تقصد .. ولكنها أشاحت بوجهها قليلاً .. وملأت رئتيها بالهواء .. وقالت وهي تنظر لي :
لمياء .. لا تحبك .. لمياء .. على علاقة بشخص آخر ..
سمعت أنا كلامها .. ولكني ما أحسست بشيء .. بل أنا فقدت قدرتي على الإحساس .. وكأنما هوت بفأس كبير على رأسي .. فأرداني على الفور صريعا .. لاحظت هي هذا الشيء .. ولكنها تابعت :
لمياء تعرفت خلال علاقتها معك على أكثر من شخص .. دام أطولهم معها أربعة أشهر .. بل ذات يوم كلمت أكثر من 4 أشخاص .. في نفس اليوم .. وقابلت منهم اثنين ..
ولكنها .. لم تحبك حتى ..
عقدت يديها أمام صدرها .. وراحت تنظر إلى الناس الذين يمشون .. وكأنما تتحاشى نظراتي عيناي المحملقة والمكذبة .. واستمرت لتقول : لمياء لم يعجبها أبداً .. شخص رقيق مثلك .. كانت تسخر منك دوماً .. بل كثيراً ما تجاهلتك .. وتجاهلت اتصالاتك .. ثم تخترع هي تلك الأكاذيب التي تصدقها أنت بحسن نية .. بل إنها بعد أن تنهي كذبتها .. تأتي إلي وتقول لي : هل رأيت قمة البساطة .. شاب سهل جداً ..
ولك يا فرح أن تتخيلي منظري .. منظر طفل .. حبى أول خطواته في سن المراهقة .. كانت له لمياء هي الدنيا .. وكانت هي الروح .. وهي طعم الحياة ومعناها .. وأنا في قمة الذهول .. وأحسست الدنيا فراغ عظيم أهوي فيه إلى مالا نهاية .. وان رأسي يحيط به مغناطيس قوي .. يشتت قدرتي على الاستيعاب ..
فقالت وهي تنظر لي وأحسست أنها في انفعال شديد تحاول أن تخفيه : لك الحق ألا تصدق .. ولكنها الحقيقة ..
وليكون كلامي بدليل .. انظر بنفسك ..
ووضعت أمامي علبة حمراء كبيرة ..
قلت لها بحذر: ما هذا ؟
قالت وأحسست عيناها قد بدآ بالاحمرار : كل رسائلك ..
فقلت وأنا لم أستحمل لأدافع إلى الرمق الأخير: وأيضاً سرقتها من لمياء .. ألا يكفيك أنك تكذبين عليها .. لم تريدين أن تفرقي بيني وبينها .. ما مصلحتك ؟
ثم بدأت أستعيد تحكمي في الأمر وأنا أقول بثقة : كلامك هذا كلام حقير وسخيف .. ولن أصدقه ..
وليتني لم أقل هذه الكلمات .. لا تعرفين إحساسي بالندم على هذه الكلمات يا فرح .. إلى اليوم .. وهذا الإحساس يقتلني ..
نظرت لي .. ثم أغمضت عينيها المحمرتين .. ونزلت دموع لم أشهد مثلها في حياتي .. وعضت على شفتيها .. ثم مسحت دموعها بسرعة .. وقالت وهي تدير وجهها بصوت متقطع : لك الحق أن تكذبني .. ولكن حاول أن تسأل لمياء .. عن أي رسالة من رسالاتك .. وسترى أنها لم تكن تقرأ واحدة منها حتى ..
قلت لها وأنا أكاد أجن : إذا كيف كانت ترد علي ؟ أجيبي ؟
وهنا نظرت في .. بعيون ملأتها الدموع .. وشفاه إلتوت من الألم .. وخدود محمرة من الانفعال .. وظهر بعض شعرها من تحت حجابها .. وقالت بصوت منكسر .. صوت فيه النهايات كلها :أنا التي كنت أحبك .. أنا .. أنا التي كنت أكتب الردود عليك .. أنا التي كنت أحفظ رسائلك بكل سطر فيها .. أنا التي ما رضيت أن تتركك لمياء هذه السنة كلها .. أنا التي ..
وهنا لم تستحمل .. وسقطت على الأرض تبكي .. وتبكي .. وبدت كأنما ذبلت .. وانكمشت أكثر وأكثر .. وهي تضع يديها تغطي به وجهها .. ثم تمالكت ما بقي لها من قوة وقالت وهي تنظر لي بصوت متهدج : تخيلت أنها من الممكن أن تحبك يوماً .. تمنيت آن تكون سعيداً معها .. ففي ذلك الوقت .. سأكون أنا سعيدة ..
كنت أقنعها بأنك شاب جيد .. ولكنها لم تكن ترى فيك سوى أموالك يا قصي .. كانت تتفاخر أمام صديقاتها دوماً .. أنها أكثر من استطاعت استنزاف فتى .. وأكثر من استطاعت أن تجعله يعطيها المال .. هل تذكر الألف ريال التي طلبتها منك يا قصي وقالت بأنها لحاجة ماسة وضرورية .. وأن أباها قد منع عنها المصروف لأنه شك بعلاقتها بأحد ؟ هل تذكر ؟ لقد قامت بحفلة في بيت سارة في جدة بهذه الأموال هي وبقية البنات ..
كل الوقت الذي كانت فيه لمياء تتحدث من جوالي .. كان جوالها يستطيع الاتصال .. لم تكن قد انتهت بطاريته .. أو نسيته في البيت كما كانت تقول ..
أنا ..
لقد رسبت هذه السنة في المدرسة لأني أفكر فيك .. نقص وزني 10 كيلو .. من فرط حبي لك ..
وأنت لم تفكر في .. كان كل عقلك يمتليء بلمياء .. ولم تفكر إلا فيها .. وتجاهلت أي اهتمام لي بك ..
أنا ..
ثم تطلع في السماء وكلها دموع .. وقالت : يا الله خذ عمري .. ثم قامت .. وقد اتسخت عباءتها .. وأخذت تجري وتجري وتجري .. وأنا ذاهل لا اعرف كيف أتصرف .. وقفت في مكاني لا أتحرك .. وقطرات العرق أغرقتني .. من هول الصدمة .. من عشق مدمر .. من إحساس لأول حب تعيشين فيه خدعة من الطراز الرفيع ..
بعد يومين .. أمضيتهما وأنا لا أكاد أشعر بشيء .. لم أذق فيهما طعاماً أبداً .. كل ما كان في ذهول .. حتى النهاية ..
كان والدي مشغولاً في إيطاليا في صفقة تجارية .. وجلست معي والدتي ولكنها كانت مشغولة .. وما احتجتها في حياتي مثل ذلك اليوم أبداً .. وفي النهاية قررت أن أتصل بنور .. يجب أن اعرف الموضوع كله .. واتصلت .. وردت .. وقلت لها : لا بد أن أقابلك .. صمتت يرهة ثم قالت : تستطيع أن تأتي لي في مستشفى السلامة .. غرفة 3004
أما أنا فتوترت قليلاً وقلت : ما الموضوع ؟
قالت لي إنها مريضة بعض الشيء .. وذهبت لها بالفعل .. في صباح اليوم التالي .. حين يغادر أبويها لأعمالهم ..
ذهبت إلى هناك .. ودخلت المستشفى .. وصعدت إلى الطابق الرابع .. ولما اقتربت من الاستقبال الخاص بالطابق .. سألت عن الغرفة 3004 .. فقالت : أتقصد الفتاة التي تعاني من تضخم في القلب ؟
تمعر وجهي وأنا أقول لها : لا أقصد نور فارس ..
فقالت الممرضة : نعم .. نور فارس .. المصابة بتضخم في القلب ..
فقلت لها : وكيف حالها الآن ؟
صمتت الممرضة قليلاً .. ثم قالت : الحمد لله استطعنا إنقاذها البارحة .. فقد كانت حالتها حرجة .. ولكن الحمد لله .. كان عليها ألا تبذل مجهوداً كبيراً .. وكان عليها ألا تنفعل كثيراً .. قلنا لها هذا أكثر من مرة .. بأن هذا مضر كثيراً بصحتها ..
أما أنا فما عادت تحملني قدماي أكثر من هذا .. فالمفاجآت تكاد تقلني واحدة تلو الأخرى .. جلست على أقرب كرسي .. لمدة تزيد على الساعتين .. وأنا في ذهول تام .. ولم أهتم حتى لكلام الممرضات ..
وفي النهاية .. قمت وطرقت لها الباب .. ودخلت ..
ورأيت نور .. ونسيت أمر لمياء أمام هذه المأساة الإنسانية .. أما نور التي كانت الشاشة الإلكترونية تسجل بجوارها كل ما يحصل لها من تغييرات .. وفي يديها راح المغذي .. يدخل الطعام إلى جسمها الناحل ..
جلست أمامها .. كالمسحور .. ونسيت لم أتيت أنا هنا .. أخبرتني أنها مريضة منذ سنوات بهذا المرض .. وأن حالتها حرجة .. وأنها أرادت أن تخلص ضميرها .. وأن تخبرني عن الموضوع ..
تذكرت موضوع لمياء .. فحاولت ألا أثقل عليها وهي بهذه الحالة .. فقلت : نور .. أريد منك الصدق .. أرجوك .. ما هو شعور لمياء تجاهي .. هل تحبني أم لا ؟
نظرت في نور .. ثم طالعت في قدميها .. وتملكتها النظرات الحزينة .. ثم قالت : أظن أنه لا بد أن تسمع بأذنك .. فتحت السماعة بجوارها من تلفون المستشفى .. وراحت أصابعها ببطيء تسجل رقم بيت لمياء .. وبعد قليل ردت لمياء .. وسمعت بأذني الحقيقة .. حين فتحت نور المايكروفون .. إذ إن الجوالات في ذلك الوقت لم يكن فيها مايكروفون .. فقط التلفونات العادية ..
فقالت نور : متى ستأتي يا لولو ؟
وكان هذا دلع لمياء .. فقالت : سآتي والبنات اليوم في السابعة ..
فقالت نور : ألم يتصل بك قصي ؟
ازدادت ضربات قلبي .. وأنا اسمع اسمي .. وكأن كل شيء سار بالبطيء .. وأنا أسمع كلمات لمياء .. التي قالت وهي تضحك : الحمد لله لم أسمع صوته من يومين ..
قلت في نفسي : ربما تقصد أمراً آخر .. ثم تابعت لمياء : هذا الولد مثل اللبان حين يلتصق بك .. لا يتركك .. كم هو ممل ؟
تجمدت في مكاني وأنا أحس بكوب من الثلج البارد يغرقني .. رغم أن قطرات العرق كانت تتفصد من جبيني ..
فقالت نور وهي تنظر في : حرام عليك يا لمياء .. إنه مسكين .. إنه يحبك كثيراً ..
فقالت لمياء : حرام ؟ والله إنه غبي .. نور إن كنت تريدينه فخذيه .. لطالما كنت تحبين هذه النوعية من البشر .. ولكن أنا .. لا يمكن .. أن أقبل بمثله .. لا أحب أمثاله من الذين يبحثون عن الكمال والمثالية .. و**** الخالص .. تخيلي .. لم يطلب مرة حتى قبلة على الجوال ..
ثم أخذت تضحك في سخرية .. وأنا أغمض عيني .. لتنزل منها الدموع بصمت .. دموع من دم .. دموع لجرح الكرامة ..
ولكن نور لم تتوقف .. ولكنها قالت : لا بد أنك تتطلعين إلى مروان .. صحيح ؟
فقالت لمياء وبدى على صوتها الحماس : مروان هذا أمر آخر .. إنه أفضل الموجودين ..
لم أطق احتمالاً فقلت لنور وأنا لا أهتم لشيء : يكفي ..
فقطعت نور الخط .. وراحت تنظر في .. راحت تنظر في الشبه إنسان الذي تحطم أمامها .. راحت تطالع فمين أهدرت كرامته .. وداست عليها حقيرة مثل لمياء .. رميت بنفسي على الكرسي .. وأنا في نوبة بكاء صامتة .. وأنا أضع وجهي في يدي .. وأنتحب .. ثم سمعت صوت نور وهي تبكي وتقول : قصي .. الله يخليك .. لا تبكي .. قصي أرجوك .. لا تبكي ..
ولكني لم أستطع أن أقاوم إحساسي بالذل .. أجل يا فرح .. إحساسي بالذل .. ولكن نور لم تتوقف .. نهضت رغم كل التعب الذي بها .. رغم كل شيء .. حاولت أن تنهض من مكانها .. ولكنها تعثرت وسقطت على الأرض ..
قمت نحوها وأنا أطمأن على حالتها .. فتحت عينيها في ألم وهي تقول : أرجوك يا قصي .. أرجوك : لا تبكي ..
ومن يومها داومت على زيارتها وجلست أزورها .. لمدة أربعة أيام .. وبعدها خرجت ..
فرح .. أقسم لك أني تعلمت **** كله في هذه الأيام الأربعة .. عشت في هذه الأيام الأربعة .. أحلى أيام حياتي .. رأيت ما افتقده سنوات من الحرمان العاطفي .. من الجفاف الذي عانيت منه في أسرتي .. من كل شيء ..
كنت عندما أذهب لها يا فرح .. كنت أحس أني أقبل على الدنيا .. صدقي يا فرح أن تلك الأيام كانت هي الأيام الوحيدة في حياتي .. حتى أتيت أنت ..
عرفت كيف هي مشاعر الإنسان تكون .. عرفت كيف يكون البشر ذو قلب .. وهي لم تملك لتقدمه لي سوى مشاعرها الصادقة .. مشاعر **** الدافئة .. التي تجعلك تنسين الدنيا بأكملها .. نور هي الذي علمتني كيف أحب .. وصاغت ذلك ب**** الذي لم أعرفه في حياتي كلها أبداً ..
وصدقي يا فرح .. أني لم أكن لئيماً معها .. كنت أخطط للزواج بها .. صدقي .. أني لم أتمكن من البعد عنها .. طوال الشهر الذي تلى خروجها من المستشفى .. صدقي أني كنت معها إنساناً طيباً .. لن تجديه في عالم تعارف الأولاد والبنات .. واشتريت خاتماً بلاتينياً .. لأقول لنفسي .. أنا لها .. ولها فقط ..
لم تكن نور جميلة يا فرح .. ولكن كان لها قلب .. أرست به للحب معاني أخرى .. حب لا يهتم للشكل أبداً .. شهر لم أذق في حياتي كلها مثلها أبداً من طعم **** الذي لا يدنسه شيء .. ورحت أقرأ رسائلها التي لم أكن أنظر لها بتلك النظرة الفاحصة .. التي ظننت أن لمياء كانت تكتبها .. ورأيت ما خلف السطور الخجلة .. رأيت أكثر من الكلمات .. كلمات فتاة أطار **** قلبها حتى وصل إلى عالم النجوم ..
هل تفهمين يا فرح هذا النوع من **** .. الذي ينتشلك من قاع الأرض إلى نهاية السماء وما بعد السحب والغيوم .. ذلك **** الذي يجهلك وبدون تمثيل .. تغرقيم في بحر من تحبين .. حتى يلاحظ عليك الناس هذا .. فتبتسمين من تعليقاتهم الساخرة .. وأنت تحكين شعرك .. **** الذي يجعلك .. ترسمين القلوب في دفاترك بتلك الطريقة البريئة .. أو حتى الحرفين الأولين من حروف اسميكما في كل مكان .. **** العذري الذي اختفى من عالمنا ..
كانت تحب الموسيقى .. كانت تحب عزف البيانو .. ولذلك ابتعت واحداً .. وراحت أتعلم فيه .. من اجلها ..لأني أحبها .. وكم تمنيت يوماً .. أن تكون موجودة حتى تسمع ألحاني اليوم .. ألحاني صنعتها فقط من لنور .. خاصة بها .. كم كنت أتخيلها .. وأتخيل حتى إحساسها .. إحساس لن تستطيعي أن تحسي به إلا وأنت في تلك القاعة الوسيعة .. وسط آلاف الحشود من الناس .. وأنت لا تعين في الدنيا هذه كلها إلا لذلك الصوت من العزف
.. لتلك النغمات التي ربما لا تعني لأحد شيئاً إلا أنت .. إحساس يفوق الوصف .. أن نحس باهتزازة في أجسادنا .. أن نحس بارتعاشة في أطرافنا .. وفي أعيننا دمعة تصر على النزول .. وهي تجعلنا نحلق .. فوق أبعد من الغيوم .. فوق أبعد من مدارات الأفلاك .. وأحس أننا وحدنا وقد سلط على الضوء وأنا في حالة من الإحساس الذي لا أستطيع أن أصفه حتى .. كل رنة .. كل مقطوعة .. لها معنى خاص .. لها تفسير خاص .. لا تحصلين عليه إلا أنت ..
كنت أتخيلها : تنظر في تبتسم في حنان كعادتها .. لأنها ستدرك أن كل رنة وتر .. كانت فقط لها ..
ولكنها يا فرح .. وببساطة وقسوة هذه الكلمة :
ماتت بعد هذا الشهر ..
ولن أتحدث عن موتها .. ولن أتحدث عما حصل بعد ذلك .. فأنا قد كنت أعيش الألم يوماً بيوم .. ولحظة بلحظة .. لن أتحدث عن تلك الصرخة التي أطلقتها يوم ماتت .. لتجعلني حتى اليوم مريضاً .. أتقيأ الدم من فمي .. كلما تذكرت ذلك اليوم .. يوم بكيت من قلبي .. حتى احترقت عيني من الألم .. حين انغرست أشواك الموت في ظهري كما الأوشام .. وراحت يدي تنطلي بالدم .. والصداع الذي لازم روحي وكأنما أجبر على أن أدخل يدي في رأسي .. وأن أمس بها تعاريج دماغي ..
وسأمنع عنك عذاب كلماتي .. التي تصف حرقة القلب المسكين .. وأيام الوحدة .. والنوم وأنا أرتجف من الحزن .. والدموع تنصف على وجنتي .. والحمى التي لازمتني طويلاً ..
ولكني سأخبرك عن الحقائق .. عن أن موت نور الذي لم يكن عادياً .. بل كان غريباً .. ماتت قريباً على بعد شارع من فيلا لمياء .. بعد أن اصدمت بها السيارة .. ولم يكن وجودها في الشارع في الساعة الحادية عشرة مساءً وحدها ذا معنى .. وتأكدت تماماً من ذلك حين اتصلت على لمياء .. وسألتها .. ولمحت في صوتها الارتباك .. وتظاهرها في البداية أنها لا تعلم شيئاً .. ليتضارب كلامها في النهاية . أن نور جاءت عندها ولم تعرف لم خرجت ..
وأدركت أن هناك أمراً .. وأن هناك موضوعاً يختفي .. ولا بد أن أعرفه .. وعندها يا فرح .. أصبحت قصي الحديدي الذي سمعت عنه .. والذي لا أدري حتى هذه اللحظة ما سمعت .. ولكني سأخبرك بكل شيء .. حتى تفرقي بين الحقيقة وبين الكذب ..
قررت يا فرح أن أكون الخبير .. الذي تلوك له شوكة النساء .. حتى أعرف الحقيقة .. قررت أن أكون قصي الذي لا تقف في طريقة امرأة .. قررت أن أعرف لم ماتت نور .. وان أذيق من كان السبب في ذلك أشنع العذاب .. وصدقي يا فرح أن في قلب كل إنسان طيب .. مارد متوحش .. وقد نهض ماردي أخيراً .. وصرت أنا كائناً آخراً .. ولا أنكر أني عانيت من انفصام في الشخصية .. ما بين قصي .. الإنسان .. وقصي زير النساء .. الذي يذبح الفتيات على سكين قسوته .. دون أن يرف له طرف ..
لا أنكر اني تقيأت الدم .. ولازالت أتقيأه حتى الآن .. ولكن كل هذا من أجل نور .. وصدقي أنه لم يكن هناك شيء يهم .. بعد نور .. ضاع كل شيء .. لأنه لم يكن لي في هذه الحياة إلا هي ..
ولكني لم أستطع أن أجازف .. كان لابد لي من حقل تجارب .. ولأن في تلك الخصلة الآدمية والإنسانية .. ولأن في حفظاً للود .. فإني لم أختر أي فتاة أبداً .. لم تكن أي فتاة هي من أجرب عليها أفكاري .. لأن كل فتاة طيبة .. كانت طيفاً آخر من نور .. بل والله يا فرح لم تطف عيني على فتاة محترمة أو يظهر عليها بعض الاحترام .. إلا ثلاثة : سمر و ريناد وياسمين .. وما وقعت منهن إلا ضحية واحدة .. أتذكرها إلى اليوم .. وأتمنى أن أراها في يوم ما .. حتى أعتذر لها من كل قلبي ..
ولا تظني يا فرح .. قد فعلت شيئاً يخدش شرف أي بنت .. وقد لا تصدقين والله إن قلت لك .. أنه لمن النادر أن أمس هؤلاء الفتيات .. وربما لا تصدقين أكثر إن قلت لك .. أن السبب كان ببساطة أني أحتقرهن .. أحتقر فرائسي .. الذين كنت أختارهم .. فتيات لا يزن في ميزان الاحترام إلا القليل .. مروا على قبلي بمن جعلهم مثل لقمة سائغة في أيدي غيرهم .. الفتيات الذين يحتاجون إلى إعادة تربية .. بل يحتاج أهاليهن هذه التربية ..
ولكني كنت أختار لهم عذاباً خاصاً .. سنوات من الألم النفسي .. ومن القلق .. ومن العاطفة المتهتكة .. و**** الذي يموت في النهاية .. بطريقة يبقى تأثيرها قوياً .. ينشر الكآبة في حنايا القلب ..
فرح .. لا أبالغ إن قلت لك .. بأنه مر على أكثر من مائة فتاة .. حتى أصل إلى ما أريد .. ووصلت .. إلى أبعد ما أريد ..
لم أبدأ بلمياء كما تظنين ..ولكني بدأت بصديقاتها المقربات .. وتعرفت عليهن واحدة واحدة .. بعد أن وصلت إلى درجة من الاحتراف تكفي حتى أستطيع أن أتعامل مع كل واحدة منهم بطريقة تناسبها .. وواحدة تلو واحدة .. كنت أعرف خفايا القصة الحقيقية .. وتفاصيل الحادثة التي كانوا يخفونها ..
ووصلت إلى الشلة التي كانت لمياء تتزعمها .. شلة البنات العشرة .. الذين سميتهم بالكلاب العشرة ..
هل تعلمين من هن الكلاب العشرة يا فرح ؟ إنهم الفتيات اللواتي كن موجودات مع لمياء يوم ماتت نور .. الفتيات اللذين وافقوا أن يتواجد أولاد خالة لمياء معهن في البيت .. ورحن يتحدثن معهم .. في حين أن نور التي أتت للمياء ذلك اليوم مصادفة .. لتقول لها عن أنها تحبني ..
الكلاب العشرة هن الذين وافقوا أن يحاول أحد أبناء خالة لمياء أن يأخذ نور معها في جولة بالسيارة .. قد يبدو للعامة الهدف منها غير واضحاً ..
فهربت نور من منزل لمياء .. بعد أن أدركت بعد وقت غير بعيد .. أنهم لم يخبروها بوصول سائقها أكثر من مرة .. وأنهم أخبروه .. أن سائق لمياء سوف يوصلها للمنزل .. وكانت لمياء قد فعلت هذا نكاية بنور التي أخذت عليها قصي الذي كان طريدتها .. لينتهي الأمر بحادثة تنهي حياة نور ..
فرح إن هذه ليست قصة مسلسل خليجي قديم .. ولكنها قصة حقيقية .. عن ثلة من البشر .. راح الحقد يعمي قلوبهم .. وراح الغباء يسيطر على أفكارهم .. وبات من السهل إيذاء الناس دون التفكير في العواقب ..
قد لا تصدقينني يا فرح .. ولكنها والله الحقيقة .. الحقيقة التي تقتلني في اليوم والليلة ألف مرة وأنا أتذكر كل الألم الذي زرعته لمياء في نفسي ..
وحلفت أن عذاب لمياء سيكون هدف حياتي يا فرح .. وقلت لبراكين الغضب .. ثوري ..ومجدي في راحتي النيران لأقذفها في الأعين الحمقاء ..
ويا بحاري السوداء اعزفي لحن الموت على قيثارة الخلود .. وانشدي تراتيل النهاية على مقابر الأحياء ..
جعلت من خططي سهاماً .. أن تحصد لمياء والكلاب العشرة ولا تتركهم .. كما لو كانت المناجل اللامعة .. تجتز الأعناق بلا هوادة ..
ورفعت راية الانتحار الأخيرة .. وألقيت بنفسي كألف قنبلة مدمرة .. لأمزق الوجوه .. وأشوي الجلود .. وأغرس أظافري وأنشبها مطعمة بالسم في قلوبهن بلا رحمة .. وأكيل لهم من الآلام ما لا يليق إلا بمذاق الدم في مفهومي أنا ..
نعم .. سأضحك بسخرية .. وأشرب من كأس الدم حتى الثمالة .. حتى يحسوا بما أحسست به أنا من ألم .. طوال هذه الأيام التي قضت فيها على حياتي كلها ..
فرح .. أستطيع أن أختصر عليك مقدار الألم والفظاعة التي ستحسين بها .. وأقول لك نهايتها في جمل قصيرة .. فقد أدمت لمياء على الكحول .. وبعض أنواع المخدرات البسيطة .. وكانت في تصنيف خاص وحدها فقط ..
أذقتها من الألم .. ما ذهبت من أجله إلى طبيب نفسي .. وجرعت لها من كؤوس الموت أكثرها حرقة .. وتركتها شبه آدمية .. لا ينفع معها شيء أبداً .. صدقيني .. لن أخبرك أكثر عما فعلته بها كي لا تكرهيني ..
ولكن ما أستطيع أن أؤكده لك بما لا يدع مجالاً للشك أني لم أمسها أبداً يا فرح .. وأنا أقسم على ذلك ..
فرح .. أقولها لك .. وصدقيني إن شئت .. كل مرة أفعل فيها ما أفعل .. أبصق دماً .. أحس أني رسول الجحيم وأني في قمة الألم .. ولكني لن أستطيع أن أسامحن أبداً على ما فعلن بنور .. أبداً ..
وعلى الرغم من ذلك .. إلا أني في كل مرة أنهي أمر واحدة منهن .. أصاب بإحباط يدمر كياني كله .. ويهد جسدي هداً .. وأجلس أنا في مغطسي .. لأحوله حماماً من الدم .. بل إن هذا المنظر أصبح مألوفاً لدي .. أمتلئ بتأنيب الضمير .. بكل مرارت الدنيا .. لا شيء أكثر قسوة عليك من ضميرك .. لا شيء يجلس معك ليلك بنهارك .. ويحرمك كل يوم من النوم .. لا شيء إلا ضميرك ..
حتى صرت أكره النوم .. لأني ما إن أضع رأسي على مخدعي .. إلا وأتذكر كل ما قمت به .. وتمر الأسماء علي واحدة واحدة .. وكل الأحداث والخدع .. خدعة خدعة .. وأحس بدناءة النفس .. وتقريع الضمير .. وأحاسيس ما لا قدرة لإنسان على طاقتها .. ولكني أستمر .. رغما عني والله ..
دعوت ربي كثيراً أن يخلصني مما أنا فيه .. فكرت أن أذهب لطبيب نفسي ليعالجني .. أعلم أن حالتي مرضية .. ولكن أسطورة الخبير قصي .. وكبريائها الأجوف .. وإحساسي أني لا بد أن أكمل الانتقام حتى النهاية .. منعوني من ذلك ..
فعلت كل هذا يا فرح .. وقررت أن أمر حياتي في سبيل هذا الانتقام .. وكنت راضياً بهذا الثمن .. كنت موافقاً .. أن تنتهي حياتي في أي لحظة .. وأنا أسير في هذا الدرب .. ولكني لم أظن أبداً يا فرح .. أنه سيأتي اليوم الذي أقابلك فيه يا فرح .. لم أظن أني سأتمكن مجدداً يا فرح من أن ألتقي بامرأة تكون لي الدنيا من جديد .. وأن تعني لي كل شيء في الحياة .. وأن حياتها ستكون أغلى من حياتي .. وضعت حساباً .. لأن تتدمر حياتي .. ولكني لم أضع حساباً لأن تتدمر حياة من أحب ..
فرح قبل أن أقابلك .. كنت الخبير .. كنت الرجل الخارق الذي تستطيعين أن تريه في أفلام الكرتون .. ولأجلك أنت .. اعتزلت هذا العالم .. وتركته بلا رجعة ..
يوماً بعد يوم .. أحسست أني سأتمكن من أن أعيش حياة طبيعية .. كما يعيش بني البشر .. وأن تكون لي ذكريات حلوة .. وأن أجد في هذه الدنيا من أبادله الشعور ب**** والمشاعر النبيلة ..
جئتِ أنت .. لتكوني حياة أخرى لي .. لتنتشليني من جحيمي .. وتفتحي لي أبواب الدنيا التي حرمت منها منذ الخامسة عشرة من عمري .. وعلمتني معنى الحياة من جديد .. أنت فقط يا فرح .. معك عرفت للحياة طعمها الحقيقي .. وكأنما أرسلك الله إلى رحمة للناس قبل أن تكوني رحمة لي ..
كم أتمنى أن أحتضنك يا فرح الآن .. وان أقول لك والله وبكل الصدق .. شكراً يا فرح .. أن كنت نقطة الضوء في حياتي التعيسة .. أن كنت وهج الألم في سويداء روحي ..
فرح .. لك حرية التصرف في أن تبقي رسالتي .. أو أن تحرقيها .. أو حتى تريها لكل الناس .. لست أهتم لحياتي بعد الآن .. أما أنا .. سأسافر بعيداً .. لا أدري ربما أمريكا أو بريطانيا .. ولكني بالتأكيد لن أبقى هنا أبداً .. لن أرضى أن ألوث أرضاً تحملك .. لن أرضى بأن أكون في مكان تعيشين فيه .. أنا مجرد نفاية سامة .. أنا مجرد أوساخ .. أنا لاشيء .. ولكني أريدك أن تعلمي شيئاً واحداً فقط ..
أني بصدق يعادل كل الكذب الذي خلقته في كل السنوات التي مضت في حياتي .. والله أحببتك .. ولأكون أكثر دقة .. أكثر من لمياء بكثير .. بل حتى أكثر من نور ..
بل إني لم أتخيل والله يا فرح .. أن أحب بهذه الطريقة .. وأن يكون للحب هذا المعنى ..
أنا غير مستعد لأن أخوض التجربة مرة ثانية وأن أفقد مرة أخرى .. أستطيع أن أتعايش مع ألمي .. ويكفيني أن أظل أحبك طوال عمري .. حتى إن كرهتني مدى الحياة .. لن أطلب منك شيئاً .. إلا أن تحاولي أن يكون لك فقط بعض الرحمة .. وأن تنسيني .. حتى لا تسامحيني إن لم تريدي .. ولكن لا تتذكري رجلاً خبيثاً مثلي .. رجل سيء لا يستحقك أبداً .. فلك الحق أن تكرهيني .. طوال عمرك وأتمنى بالفعل أن تكوني سعيدة في حياتك .. ووالله يا فرح .. ما حاولت استعطافك في كلمة مما قلت ..
فرح أنت طالق .. يا أطيب من أحببت في حياتي
من شخص .. أحبك أكثر من روحه .. وسيظل يحبك إلى الأبد .. ولن يحب أحداً غيرك أبداً في حياته ..
قصي ..
وكانت هذه الرسالة قد امتلأت بقطرات الدماء .. طوى قصي رسالته .. ووضعها في ظرف أبيض صغير .. وأقفله .. وحين نهض .. كانت الرؤية باهتة لديه .. وببساطة .. سقط على الأرض من على مكتبه ..

الفصل مابعد الأخير
وصلت الرسالة إلى فرح .. وقرأتها وحدها .. ولم يطلع أحد على الخبر ..
ومن سوء الحظ .. أن الاختبارات كانت قد بدأت .. ودخل قصي اختباراته .. وهو في كيان آخر .. في عالم آخر .. بل إنه ربما كان يحضر اختباراته لا لشيء .. إلا أنه لا يريد أن يفكر في أي شيء ..
ومن الصعوبة أن أنقل الإحساس بالألم هنا .. الإحساس بالوحدة على دفتي القصة .. وإن المرثية ستكون أفضل ما أضعه هنا للكتابة عن هذين الروحين .. قصي وفرح ..
ومن السخرية .. أن نتائج هذه الامتحانات ظهرت .. ونجح قصي في كل المواد .. وكان تقديره العام مقبول .. ولم يهتم كثيراً بما حصل .. بل إن النجاح لم يكن يعني له أي شيء .. تقبل الخبر في هدوء .. ولكن الخبر كان يعني له شيئاً آخر .. كان يعني له الإشارة الخضراء للرحيل .. إلى الذهاب إلى هناك .. إلى أبعد من البعيد دون أن يهتم بأي شيء .. وهذا ما كان يطمح له ..
مضى على رسالته إلى فرح أكثر من شهر ..
وربما اليوم الذي كان يسبق رحلته .. له كآبة منفردة ..
ففي ذلك اليوم .. علمت والدته بخبر طلاقه لفرح .. وكذلك علمت عائلة السيد أيمن العسل بهذا الخبر .. الذي كان واقعاً كوقع الصاعقة عليهم .. وكأنما يبارك على هذه الخطوة .. وهذه النهاية التي فصلت بين قصي وفرح إلى الأبد ..
ولذلك لم يحاول قصي أن يجلس في البيت .. بل كان خارج البيت طوال الوقت .. وكان قد أقفل الجوال .. حتى لا يتصل عليه أحد ..
راح يتجول في طرق جدة للمرة الأخيرة .. قبل السفر .. راح يعبر في النهار من شارع التحلية .. وكأنه للمرة الأولى يعبر فيه .. وهو يتأمل الأسواق .. والناس .. والسيارات .. وعمال النظافة .. والأضواء المنعكسة على أسطح المحلات الزجاجية ..
ثم توقف هناك عند مكتب الخطوط الجوية السعودية .. ليقطع تذكرته الأخيرة .. التي سوف يخرج بها بدون عودة .. إلى استراليا .. بعد أن قرر أن يتحصل على الجنسية الاسترالية .. حتى يبقى هناك للأبد ..
وإنه ليس هناك أكثر إيلاماً من أن تشعر .. من أنك لا بد أن ترحل للبعيد .. بل أبعد من البعيد .. حتى لا تؤذي أحب الناس إليك .. من أنك شيطان .. تستحق النفي .. وأنك كائن غير مرغوب فيه ..
كان قد دبر هذا الأمر .. بعد أن أخبر والده أنه يريد الذهاب للدراسة في أستراليا في جامعة أهلية .. ولم يعارض الوالد كعادته .. ما دام هذا ما يريده ولده ..
وربما أن هذا ما عمق الشعور في قصي بأنه إنسان منبوذ .. حتى والده .. لا يهتم كثيراً بهذا الشأن .. فقط أعطاه ما يكفي للمال ..
وقام قصي فعلاً بمراسلة جامعة أسترالية لإكمال دراسته .. وإن كان الموضوع بحق .. أنه يريد أن يبتعد ولا شيء أكثر ..
وراح قصي يقود السيارة مرة أخرى .. ولا يدري لم قادته السيارة إلى منزل فرح .. وكأنه يودعه للمرة الأخيرة ..
هذا المنزل الدافيء .. الذي أحس فيه بما لم يحس فيه بمنزله .. هذا المنزل الذي يحوى أغلى جوهرة موجودة له في الدنيا .. الإنسانة أحبها من كل قلبه .. الإنسانة التي عنت له كل شيء ..
أوقف السيارة بجوار المنزل .. وراح يحدق في نافذتها .. ومن عينيه انسلت دموع حزن .. دموع ألم .. وفي نفسه ألف ندامة .. آه يا فرح .. من كان يظن أنني كنت سأحبك هكذا .. وراحت عينيه تنزل إلى الأرض .. وإحساسه غارق في الهم ..
كم كان يتمنى أن تفتح فرح النافذة .. كم كان يتمنى فقط أن يراها .. كم كان يتمنى فقط أن تهل عليه .. كالملائكة .. لتزهر الورود في حدائق قلبه .. كم كان يتمنى أن تقبل فرح ..
وهنا وجد نفسه يبكي بحرقة .. وهو يحس أنه على بعد أمتار قليلة منها ولا يستطيع حتى أن يقترب منها قليلاً ..
نعم هو من كتب على تلك الورقة قرار طلاقها .. ولكنه كان القرار الأصوب من أجلها .. إنه يعلم أنه تكرهه الآن .. ربما بقدر **** الذي أحبته ..
وبقي على هذا الحال .. ونام في السيارة .. نام لليلة الأخيرة بجوارها ..
استيقظ في الصباح .. على صلاة الفجر .. فذهب وصلى .. وخرج من المسجد .. وتوجه إلى المنزل .. دخل البيت .. ودخل الملحق بهدوء .. وراح يرتب أغراضه ويجهزها للسفر ..
ثم فتح دولابه ذلك .. ومن بين كل الأشياء وقع بصره على العلبة المخملية .. أمسكها بين يديه .. ثم فتحها .. وراح الخاتم البلاتيني يتألق في العلبة الجميلة .. نظر للخاتم في حنان .. ومسحه باصبعه .. ثم قال : آسف يا نور .. فلقد أحببتها أكثر منك ..
ثم أغمض عينيه .. ووضع العلبة بكل التقدير على الدولاب .. وأقفل الدولاب .. وحمل حقائبه بكل الهدوء وخرج .. ولم تنتبه حتى والدته التي كانت تنتظره طوال اليوم .. ثم نامت من التعب .. ذلك أنها لم تكن تعلم بموضوع سفر قصي .. فهو لم يخبرها .. بل أبقى الموضوع سراً .. إلا عن أبيه ..
حمل حقائبه .. وراح يتمشى في شوارع جدة مرة ثانية .. بدون هدف محدد .. حتى جاء وقت الغداء .. انتقى مطعماً شعبياً .. وراح يأكل فيه كآخر مرة يأكل مثل هذا الطعام ..
وبعد أن انتهى .. قاد سيارته نحو شركة أبيه .. ووضع المفتاح لدى السيد ناظم .. ثم استقل سيارة أجرة نحو المطار .. ولا يدري قصي .. لم كان يحس أنه يريد من معجزة أن تحصل .. كم كان يتمنى لو يرى فرح الآن .. ولكنه أوهم نفسه بأنه قادر على الابتعاد .. وأنه يستطيع أن يتحمل مرارة الفراق ..
وصل إلى المطار .. وأنزل حقائبه .. وهو يتأمل يمنة ويسرة .. ولكن عينيه كانت تعود خائبة .. ودخل المطار .. وهو يبحث في أوجه المسافرين عن نظرة تخص فرح .. ولكن للأسف لم يجد ..
وبعد ساعة جاء موعد رحلته .. وراح الموظف المسؤول يعلن عن موعد الرحلة .. أخيراً استطاع قصي أن يفهم .. أن فرح لن تسامحه .. فهو لا يستحق ذلك .. لم تخطيء في حقه مرة .. ولكنه أخطأ جداً .. ودخل الطائرة
وأقلعت الطائرة .. وغادرت بذلك مطار جدة وللأبد ..
وفي الطائرة .. كان وحيداً .. فلم يكن أحد على قمرة الدرجة الأولى إلا هو .. كان قصي يجلس ويفكر .. وفجأة .. انتبه أنه لن يستطيع أن يرى فرح مرة أخرى .. وربما لأول مرة تظهر له هذه الحقيقة على شكل إحساس .. انتابه بقوة .. وأحس بشيء من الضيق .. وفجأة ازدادت حدة الضيق .. وراح يكح .. ويكح .. حتى تناثرت قطرات الدم مرة أخرى ..
أحس قصي أنه يريد أن يبكي .. ولكن ما عاد يفيد البكاء .. وما عاد يفيد الندم .. وراح يقول : يا ليتني أستطيع أن أفعل أي شيء من أجلك يا فرح ..
"وماذا تستطيع أن تفعل من أجلها ؟"
التفت قصي إلى مكان الصوت .. كانت فرح هناك .. راح قصي يفتح عينيه بقوة .. ولكن يبدو أن هذه هي الحقيقة .. كانت فرح موجودة هناك ..
ومن فرط المفاجأة لم يستطع قصي أن يقول كلمة ..
أكملت فرح .. بعين جامدة : ربما كل ما تستطيع أن تفعله من أجل فرح .. هو أن تدمر حياتها أكثر من الآن ..
كان قصي لا يدري هل يحلم هو أم أن فرح أمامه ؟
كيف جاءت إلى الطيارة .. لا بد أن هذا حلم ..
كانت فرح بعيدة عنه .. وراحت تلعب في خيط انسل من أحد المقاعد .. نظرت إليه .. وامتلأت عينها بالحقد .. والكره ..
وقف قصي .. وراحت عينه تلف بألف كلمة .. اقترب منها .. كأنه يريد أن يتأكد من أن فرح حقيقة ..
اقترب حتى بدت على بعد خطوتين منه فقط ..
مد يده إليها .. واهتزت عينه بالدموع .. ولكن فرح لم تتحرك من مكانها ..
مد يده أكثر .. حتى لمس كتفها من فوق عباءتها السوداء .. فاقشعرت يده كأنه تعرض لتيار كهربائي ..
وعرف أنها حقيقة .. وأنه لا يحلم ..
وضع يديه على شكل هرم أمام وجهه .. وراح يضغط بحافة يده تحت عينيه ..
نظرت فرح إلى النافذة .. بوجه جامد خال من المشاعر .. ثم التفتت إليه .. وقالت : لم يا قصي؟
وبدأ صوتها بالاختناق ..
نظر لها قصي بحزن حقيقي وقال : لأني أحببت من كل قلبي .. وما ظننت أني سأحب مرة أخرى يا فرح ..
قالت فرح : هل تعلم مقدار الألم الذي أصابني ..
وصارت الدموع تنزل من عيني فرح ..
فقال قصي : أعرف .. ولكن ثقي .. أني ذقت سمه أكثر يا فرح .. أعلم أنك لن تسامحيني في حياتك .. أعلم .. ولك الحق .. ما فعلت بك كان حقيراً ..
لم يحس قصي بشيء في هذه اللحظات .. إلا بفرح ..
لم يحس بغرابة الموقف .. ولا غرابة المكان .. ولا حتى المضيفة والمضيف اللذان حاولا أن يفضا النقاش .. ولم يحس حتى بمحمد أخو فرح الذي تناقش معهما على انفراط ..
كل ما كان يشغل قصي في تلك اللحظة هو فرح .. التي راحت تقول في استهزاء: هل كنت تقول مثل هذه الكلمات لكل البنات اللواتي كنت تعرفهن ؟
احمرت عينا قصي وهو يحس بكلمات فرح كالخناجر وقال بصوت متحشرج : نعم كنت أقول .. ولكني والله اليوم يا فرح صادق .. والله العظيم ..
عقدت فرح يدها أمام صدرها وقالت : وما الذي يجعلني أصدقك؟
نظر لها قصي وقال بحيرة حقيقية : أعلم .. أنه لا يوجد شيء في الدنيا يقنعك بان تصدقيني .. ولكن والله هذه هي الحقيقية يا فرح ..
صرخت فيه فرح وقال وهي تقترب منه : حرام عليك .. لقد دمرت حياتي .. حرام عليك ..
وقصي أسلم نفسه لها .. وهو يحس بالذل .. بالانكسار .. قصي خبير البنات .. تكسرت كل نصاله وكل أشراسه .. على يد أرق مخلوقة في الكون .. على يد فرح
ثم أمسكت بقميصه وأخذت تشده نحوها وهي تقول والدمع قد سال من الأحداق : لم جعلتني أحبك؟ لم دخلت حياتي ..
فلم يستطيع قصي أن يحتمل أكثر .. احتضن فرح بقوة .. وقال بصوت مختنق .. سامحيني يا فرح .. أرجوك سامحيني .. والله إني إنسان من لحم ودم .. والله أشعر بالندم .. أشعر بالمهانة .. سامحيني يا فرح .. فوالله ما قصدت أن أمسك بأي سوء ..
كانت فرح في حضن قصي .. وهي تضرب عليه .. وتبكي .. وقصي يحتضنها .. كم كان يتمنى .. ألا يفارق هذا الحضن حتى الموت .. إنه متيقن .. أنها سوف تتركه الآن .. إلى غير رجعه .. إنه مؤمن تماماً .. أن فرح كانت فقط تريد أن تقول ما في قلبها .. كان يتمنى أن يموت هذه اللحظة .. وهو في أحضان فرح .. حتى ينتهي كل شيء .. حتى لا يعيد مشوار الألم .. ومسلسل العذاب الذي لا ينتهي ..
عذاب أن يعيش مرة أنقاض قصة أخرى مدار حياته القادمة ..
التفت إلى يد تربت على كتفه .. نظر إلى صاحبتها .. كانت خالته تقف .. وخلفها أمه .. ابتسمت خالته ابتسامة مصطنعة وقالت : يا ولدي .. ما قد حصل حصل .. ولا بد لنا أن نعيش الحاضر .. وأن ننسى الماضي .. ونحن لا نرضى أن ينحل الميثاق الغليظ بهذه السهولة ..
ثم التفتت إلى أم قصي وقالت : ما رأيك يا أسيل؟
تقدمت أسيل إلى قصي ورفعت يدها وألقتها كالقنبلة على وجه قصي .. ودوى صوت انفجارها على خد قصي .. الذي صار لم يدرك إلا أن طنيناً قوياً راح يرن في أذنه ..
ثم قالت أسيل : أهكذا تتركنا دون أن تقول شيئاً؟ على الأقل ناقشنا .. على الأقل .. قل شيئاً .. تظن نفسك كبيراً .. تتخذ مثل هذه القرارات السخيفة بدون مشورتي أو مشورة أبيك؟
أقسم لك أني لن أرضى عنك .. إن لم تعد .. وفرح معك .. هل فهمتني..
ولكن قصي .. امتلأ بحزن كبير .. هم لا يدركون أن الأمر ليس برغبته .. إنما هي فرح .. وللحظة نظر إلى فرح .. التي مسحت دموعها .. فبدا وجهها وقد احمر أنفها وعيناها .. وهي تصلح حجابها .. ثم قالت وهي تنظر في الأرض : يبدو أني الفتاة العاقلة في النهاية التي تريد أن تصلح بيتها .. وعلى الرغم من أني لم أخطيء في أي شيء .. إلا أني ..
ولم تكمل فرح كلمتها .. لأن قصي احتضنها بكل ما يمتلك من قوة .. دون أن يهتم لأحد .. وراح يبكي .. وهو يقول لها في أذنها : فرح .. أحبك والله يا فرح ..
وراح يخفي نفسه في حضنها .. وكأنه لا يصدق .. ثم راح يطالع في عينيها .. التي صارت حمراء والدموع تتجمع فيها .. فقالت له : لم يهن على ****؟ ولا الأيام الحلوة التي كانت بيننا .. ولم تهن أنت علي يا قصي ..
نظر لها قصي .. بعيون امتلأت بالدموع وهو يقول : كنت مستعداً لأن أدفع عمري فقط لأستمع إلى هذه الكلمة فقط مرة أخرى في حياتي ..
ضحكت فرح ضحكة صغيرة ثم قالت : ولم تهن علي دعوة المشوي التي فعلتها من أجلي ..
ضحك قصي .. من كل قلبه .. ضحك .. وغنت له الدنيا .. ضحك .. وغادرت فلول الليل هاربة .. ضحك قلبه صدق **** .. ونقاوة المطر .. ضحك طهر الرباط المقدس .. ضحك قصي لميلاده الجديد ..
يبدو .. أننا في أحيان كثيرة نخطيء في أحكامنا .. فمن اقترح هذه الفكرة .. هو السيد مناف الحديدي والد قصي .. بعد أن علم بأمر طلاق فرح .. من والدة قصي .. وبعد أن اتصلت بنفسه على فرح ليعرف منها الموضوع .. فاخبرته فرح بكل شيء بعد أن صدمها خبر قرار قصي بالسفر .. كان مؤمناً بحكم تجاربه الواسعة في الحياة .. أن الدنيا لا تنتهي عند هذه الأحداث .. وأن الماضي لا يجب عليه أن يحدد المستقبل .. ولأنه رجل لا يستسلم بسهولة للفشل عند أول الطريق ..
استطاع باتصالاته الواسعة أن يدبر مقعداً لها ولأم قصي .. وأيضاً أمر فرح .. ومحمد أخي فرح .. واستطاع أن يجري اتصالاته بالسيد أيمن العسل .. ليقنعه بالفكرة حفاظاً على الوقت .. فلم يكن قد بقي على الرحلة إلا ساعات قليلة جداً .... ورغم أن السيد أيمن العسل لم يوافق احتفاظاً بكرامته .. إلا أنه وتحت إلحاح السيد مناف ناقش الموضوع بعقلانية .. وأوضح له المشكلة بطريقة مبسطة .. وبأن ما فعله قصي ليس إلا طريقة **** الكلاسيكية التي لا تجري عليها الحياة الحقيقية .. شرح له السيد مناف أن ابنه قد أخطأ وكان خطؤه جسيماً .. وأن فرح أصبحت جزءً من العائلة ولا يحق لقصي أن يتخذ مثل هذه القرار لوحده .. وأنه قد تسرع جداً .. وكيف أن العائلة لا بد أن تسعى للإصلاح بين الزوجين في أول عقبات حياتهما .. لا أن تزيد الهوة .. وتساهم في عدد حالات الطلاق ..
واقتنع أخيراً أيمن على مضض ..
لا يجب أن تنتهي كل القصص الخليجية بنهاية مأساوية .. ولا يجب أن يموت الأبطال في النهاية .. بل يستطيعون أن يكونوا سعداء .. فقط إن قرروا ذلك .. وفرح كانت قد قررت ذلك .. قررت أن تحتفظ بزوجها .. وأن تمنحه فرصة ثانية .. وأن تنسى ماضيه .. فمن منا لم يخطيء .. وإن ظللنا نحاسب كل الناس على الماضي .. فمن المؤكد أننا لن نستطيع أن نعيش مع بني البشر الخطائين ..
هاهو المشهد الأخير ..
على شاطئ البحر في المنطقة الشرقية .. في الهاف مون .. التي انتقل إليها قصي أخيراً .. ليبتعد عن الدنيا كلها .. وينسى الماضي كله .. ويبدأ مع فرح من جديد .. إنساناً آخر ..
وقفت معه فرح بكل **** .. على طرف صخرة .. وهما يشبكان أيديهما ببعض .. وأخرج قصي من جيبه علبه سوداء .. فتحها .. فبرق الخاتم البلاتيني .. ونظر في فرح التي تبسمت له .. فأمسكاه كلاهما .. وبكل القوة .. ألقياه في البحر
نظر قصي في عيني فرح .. التي نظرت له بكل **** .. وراح يشبك يديه في يديها مرة أخرى ويبتعد نحو الأفق ..
النهاية
انشــاءالله عجبتكم وبنااات والله ابي بس رايكم في الرواية بسسسس انا ماابي ردووود بس رايكم فيها انتظر ردودكم :)
وصلت الرسالة إلى فرح .. وقرأتها وحدها .. ولم يطلع أحد على الخبر ..
ومن سوء الحظ .. أن الاختبارات كانت قد بدأت .. ودخل قصي اختباراته .. وهو في كيان آخر .. في عالم آخر .. بل إنه ربما كان يحضر اختباراته لا لشيء .. إلا أنه لا يريد أن يفكر في أي شيء ..
ومن الصعوبة أن أنقل الإحساس بالألم هنا .. الإحساس بالوحدة على دفتي القصة .. وإن المرثية ستكون أفضل ما أضعه هنا للكتابة عن هذين الروحين .. قصي وفرح ..
ومن السخرية .. أن نتائج هذه الامتحانات ظهرت .. ونجح قصي في كل المواد .. وكان تقديره العام مقبول .. ولم يهتم كثيراً بما حصل .. بل إن النجاح لم يكن يعني له أي شيء .. تقبل الخبر في هدوء .. ولكن الخبر كان يعني له شيئاً آخر .. كان يعني له الإشارة الخضراء للرحيل .. إلى الذهاب إلى هناك .. إلى أبعد من البعيد دون أن يهتم بأي شيء .. وهذا ما كان يطمح له ..
مضى على رسالته إلى فرح أكثر من شهر ..
وربما اليوم الذي كان يسبق رحلته .. له كآبة منفردة ..
ففي ذلك اليوم .. علمت والدته بخبر طلاقه لفرح .. وكذلك علمت عائلة السيد أيمن العسل بهذا الخبر .. الذي كان واقعاً كوقع الصاعقة عليهم .. وكأنما يبارك على هذه الخطوة .. وهذه النهاية التي فصلت بين قصي وفرح إلى الأبد ..
ولذلك لم يحاول قصي أن يجلس في البيت .. بل كان خارج البيت طوال الوقت .. وكان قد أقفل الجوال .. حتى لا يتصل عليه أحد ..
راح يتجول في طرق جدة للمرة الأخيرة .. قبل السفر .. راح يعبر في النهار من شارع التحلية .. وكأنه للمرة الأولى يعبر فيه .. وهو يتأمل الأسواق .. والناس .. والسيارات .. وعمال النظافة .. والأضواء المنعكسة على أسطح المحلات الزجاجية ..
ثم توقف هناك عند مكتب الخطوط الجوية السعودية .. ليقطع تذكرته الأخيرة .. التي سوف يخرج بها بدون عودة .. إلى استراليا .. بعد أن قرر أن يتحصل على الجنسية الاسترالية .. حتى يبقى هناك للأبد ..
وإنه ليس هناك أكثر إيلاماً من أن تشعر .. من أنك لا بد أن ترحل للبعيد .. بل أبعد من البعيد .. حتى لا تؤذي أحب الناس إليك .. من أنك شيطان .. تستحق النفي .. وأنك كائن غير مرغوب فيه ..
كان قد دبر هذا الأمر .. بعد أن أخبر والده أنه يريد الذهاب للدراسة في أستراليا في جامعة أهلية .. ولم يعارض الوالد كعادته .. ما دام هذا ما يريده ولده ..
وربما أن هذا ما عمق الشعور في قصي بأنه إنسان منبوذ .. حتى والده .. لا يهتم كثيراً بهذا الشأن .. فقط أعطاه ما يكفي للمال ..
وقام قصي فعلاً بمراسلة جامعة أسترالية لإكمال دراسته .. وإن كان الموضوع بحق .. أنه يريد أن يبتعد ولا شيء أكثر ..
وراح قصي يقود السيارة مرة أخرى .. ولا يدري لم قادته السيارة إلى منزل فرح .. وكأنه يودعه للمرة الأخيرة ..
هذا المنزل الدافيء .. الذي أحس فيه بما لم يحس فيه بمنزله .. هذا المنزل الذي يحوى أغلى جوهرة موجودة له في الدنيا .. الإنسانة أحبها من كل قلبه .. الإنسانة التي عنت له كل شيء ..
أوقف السيارة بجوار المنزل .. وراح يحدق في نافذتها .. ومن عينيه انسلت دموع حزن .. دموع ألم .. وفي نفسه ألف ندامة .. آه يا فرح .. من كان يظن أنني كنت سأحبك هكذا .. وراحت عينيه تنزل إلى الأرض .. وإحساسه غارق في الهم ..
كم كان يتمنى أن تفتح فرح النافذة .. كم كان يتمنى فقط أن يراها .. كم كان يتمنى فقط أن تهل عليه .. كالملائكة .. لتزهر الورود في حدائق قلبه .. كم كان يتمنى أن تقبل فرح ..
وهنا وجد نفسه يبكي بحرقة .. وهو يحس أنه على بعد أمتار قليلة منها ولا يستطيع حتى أن يقترب منها قليلاً ..
نعم هو من كتب على تلك الورقة قرار طلاقها .. ولكنه كان القرار الأصوب من أجلها .. إنه يعلم أنه تكرهه الآن .. ربما بقدر **** الذي أحبته ..
وبقي على هذا الحال .. ونام في السيارة .. نام لليلة الأخيرة بجوارها ..
استيقظ في الصباح .. على صلاة الفجر .. فذهب وصلى .. وخرج من المسجد .. وتوجه إلى المنزل .. دخل البيت .. ودخل الملحق بهدوء .. وراح يرتب أغراضه ويجهزها للسفر ..
ثم فتح دولابه ذلك .. ومن بين كل الأشياء وقع بصره على العلبة المخملية .. أمسكها بين يديه .. ثم فتحها .. وراح الخاتم البلاتيني يتألق في العلبة الجميلة .. نظر للخاتم في حنان .. ومسحه باصبعه .. ثم قال : آسف يا نور .. فلقد أحببتها أكثر منك ..
ثم أغمض عينيه .. ووضع العلبة بكل التقدير على الدولاب .. وأقفل الدولاب .. وحمل حقائبه بكل الهدوء وخرج .. ولم تنتبه حتى والدته التي كانت تنتظره طوال اليوم .. ثم نامت من التعب .. ذلك أنها لم تكن تعلم بموضوع سفر قصي .. فهو لم يخبرها .. بل أبقى الموضوع سراً .. إلا عن أبيه ..
حمل حقائبه .. وراح يتمشى في شوارع جدة مرة ثانية .. بدون هدف محدد .. حتى جاء وقت الغداء .. انتقى مطعماً شعبياً .. وراح يأكل فيه كآخر مرة يأكل مثل هذا الطعام ..
وبعد أن انتهى .. قاد سيارته نحو شركة أبيه .. ووضع المفتاح لدى السيد ناظم .. ثم استقل سيارة أجرة نحو المطار .. ولا يدري قصي .. لم كان يحس أنه يريد من معجزة أن تحصل .. كم كان يتمنى لو يرى فرح الآن .. ولكنه أوهم نفسه بأنه قادر على الابتعاد .. وأنه يستطيع أن يتحمل مرارة الفراق ..
وصل إلى المطار .. وأنزل حقائبه .. وهو يتأمل يمنة ويسرة .. ولكن عينيه كانت تعود خائبة .. ودخل المطار .. وهو يبحث في أوجه المسافرين عن نظرة تخص فرح .. ولكن للأسف لم يجد ..
وبعد ساعة جاء موعد رحلته .. وراح الموظف المسؤول يعلن عن موعد الرحلة .. أخيراً استطاع قصي أن يفهم .. أن فرح لن تسامحه .. فهو لا يستحق ذلك .. لم تخطيء في حقه مرة .. ولكنه أخطأ جداً .. ودخل الطائرة
وأقلعت الطائرة .. وغادرت بذلك مطار جدة وللأبد ..
وفي الطائرة .. كان وحيداً .. فلم يكن أحد على قمرة الدرجة الأولى إلا هو .. كان قصي يجلس ويفكر .. وفجأة .. انتبه أنه لن يستطيع أن يرى فرح مرة أخرى .. وربما لأول مرة تظهر له هذه الحقيقة على شكل إحساس .. انتابه بقوة .. وأحس بشيء من الضيق .. وفجأة ازدادت حدة الضيق .. وراح يكح .. ويكح .. حتى تناثرت قطرات الدم مرة أخرى ..
أحس قصي أنه يريد أن يبكي .. ولكن ما عاد يفيد البكاء .. وما عاد يفيد الندم .. وراح يقول : يا ليتني أستطيع أن أفعل أي شيء من أجلك يا فرح ..
"وماذا تستطيع أن تفعل من أجلها ؟"
التفت قصي إلى مكان الصوت .. كانت فرح هناك .. راح قصي يفتح عينيه بقوة .. ولكن يبدو أن هذه هي الحقيقة .. كانت فرح موجودة هناك ..
ومن فرط المفاجأة لم يستطع قصي أن يقول كلمة ..
أكملت فرح .. بعين جامدة : ربما كل ما تستطيع أن تفعله من أجل فرح .. هو أن تدمر حياتها أكثر من الآن ..
كان قصي لا يدري هل يحلم هو أم أن فرح أمامه ؟
كيف جاءت إلى الطيارة .. لا بد أن هذا حلم ..
كانت فرح بعيدة عنه .. وراحت تلعب في خيط انسل من أحد المقاعد .. نظرت إليه .. وامتلأت عينها بالحقد .. والكره ..
وقف قصي .. وراحت عينه تلف بألف كلمة .. اقترب منها .. كأنه يريد أن يتأكد من أن فرح حقيقة ..
اقترب حتى بدت على بعد خطوتين منه فقط ..
مد يده إليها .. واهتزت عينه بالدموع .. ولكن فرح لم تتحرك من مكانها ..
مد يده أكثر .. حتى لمس كتفها من فوق عباءتها السوداء .. فاقشعرت يده كأنه تعرض لتيار كهربائي ..
وعرف أنها حقيقة .. وأنه لا يحلم ..
وضع يديه على شكل هرم أمام وجهه .. وراح يضغط بحافة يده تحت عينيه ..
نظرت فرح إلى النافذة .. بوجه جامد خال من المشاعر .. ثم التفتت إليه .. وقالت : لم يا قصي؟
وبدأ صوتها بالاختناق ..
نظر لها قصي بحزن حقيقي وقال : لأني أحببت من كل قلبي .. وما ظننت أني سأحب مرة أخرى يا فرح ..
قالت فرح : هل تعلم مقدار الألم الذي أصابني ..
وصارت الدموع تنزل من عيني فرح ..
فقال قصي : أعرف .. ولكن ثقي .. أني ذقت سمه أكثر يا فرح .. أعلم أنك لن تسامحيني في حياتك .. أعلم .. ولك الحق .. ما فعلت بك كان حقيراً ..
لم يحس قصي بشيء في هذه اللحظات .. إلا بفرح ..
لم يحس بغرابة الموقف .. ولا غرابة المكان .. ولا حتى المضيفة والمضيف اللذان حاولا أن يفضا النقاش .. ولم يحس حتى بمحمد أخو فرح الذي تناقش معهما على انفراط ..
كل ما كان يشغل قصي في تلك اللحظة هو فرح .. التي راحت تقول في استهزاء: هل كنت تقول مثل هذه الكلمات لكل البنات اللواتي كنت تعرفهن ؟
احمرت عينا قصي وهو يحس بكلمات فرح كالخناجر وقال بصوت متحشرج : نعم كنت أقول .. ولكني والله اليوم يا فرح صادق .. والله العظيم ..
عقدت فرح يدها أمام صدرها وقالت : وما الذي يجعلني أصدقك؟
نظر لها قصي وقال بحيرة حقيقية : أعلم .. أنه لا يوجد شيء في الدنيا يقنعك بان تصدقيني .. ولكن والله هذه هي الحقيقية يا فرح ..
صرخت فيه فرح وقال وهي تقترب منه : حرام عليك .. لقد دمرت حياتي .. حرام عليك ..
وقصي أسلم نفسه لها .. وهو يحس بالذل .. بالانكسار .. قصي خبير البنات .. تكسرت كل نصاله وكل أشراسه .. على يد أرق مخلوقة في الكون .. على يد فرح
ثم أمسكت بقميصه وأخذت تشده نحوها وهي تقول والدمع قد سال من الأحداق : لم جعلتني أحبك؟ لم دخلت حياتي ..
فلم يستطيع قصي أن يحتمل أكثر .. احتضن فرح بقوة .. وقال بصوت مختنق .. سامحيني يا فرح .. أرجوك سامحيني .. والله إني إنسان من لحم ودم .. والله أشعر بالندم .. أشعر بالمهانة .. سامحيني يا فرح .. فوالله ما قصدت أن أمسك بأي سوء ..
كانت فرح في حضن قصي .. وهي تضرب عليه .. وتبكي .. وقصي يحتضنها .. كم كان يتمنى .. ألا يفارق هذا الحضن حتى الموت .. إنه متيقن .. أنها سوف تتركه الآن .. إلى غير رجعه .. إنه مؤمن تماماً .. أن فرح كانت فقط تريد أن تقول ما في قلبها .. كان يتمنى أن يموت هذه اللحظة .. وهو في أحضان فرح .. حتى ينتهي كل شيء .. حتى لا يعيد مشوار الألم .. ومسلسل العذاب الذي لا ينتهي ..
عذاب أن يعيش مرة أنقاض قصة أخرى مدار حياته القادمة ..
التفت إلى يد تربت على كتفه .. نظر إلى صاحبتها .. كانت خالته تقف .. وخلفها أمه .. ابتسمت خالته ابتسامة مصطنعة وقالت : يا ولدي .. ما قد حصل حصل .. ولا بد لنا أن نعيش الحاضر .. وأن ننسى الماضي .. ونحن لا نرضى أن ينحل الميثاق الغليظ بهذه السهولة ..
ثم التفتت إلى أم قصي وقالت : ما رأيك يا أسيل؟
تقدمت أسيل إلى قصي ورفعت يدها وألقتها كالقنبلة على وجه قصي .. ودوى صوت انفجارها على خد قصي .. الذي صار لم يدرك إلا أن طنيناً قوياً راح يرن في أذنه ..
ثم قالت أسيل : أهكذا تتركنا دون أن تقول شيئاً؟ على الأقل ناقشنا .. على الأقل .. قل شيئاً .. تظن نفسك كبيراً .. تتخذ مثل هذه القرارات السخيفة بدون مشورتي أو مشورة أبيك؟
أقسم لك أني لن أرضى عنك .. إن لم تعد .. وفرح معك .. هل فهمتني..
ولكن قصي .. امتلأ بحزن كبير .. هم لا يدركون أن الأمر ليس برغبته .. إنما هي فرح .. وللحظة نظر إلى فرح .. التي مسحت دموعها .. فبدا وجهها وقد احمر أنفها وعيناها .. وهي تصلح حجابها .. ثم قالت وهي تنظر في الأرض : يبدو أني الفتاة العاقلة في النهاية التي تريد أن تصلح بيتها .. وعلى الرغم من أني لم أخطيء في أي شيء .. إلا أني ..
ولم تكمل فرح كلمتها .. لأن قصي احتضنها بكل ما يمتلك من قوة .. دون أن يهتم لأحد .. وراح يبكي .. وهو يقول لها في أذنها : فرح .. أحبك والله يا فرح ..
وراح يخفي نفسه في حضنها .. وكأنه لا يصدق .. ثم راح يطالع في عينيها .. التي صارت حمراء والدموع تتجمع فيها .. فقالت له : لم يهن على ****؟ ولا الأيام الحلوة التي كانت بيننا .. ولم تهن أنت علي يا قصي ..
نظر لها قصي .. بعيون امتلأت بالدموع وهو يقول : كنت مستعداً لأن أدفع عمري فقط لأستمع إلى هذه الكلمة فقط مرة أخرى في حياتي ..
ضحكت فرح ضحكة صغيرة ثم قالت : ولم تهن علي دعوة المشوي التي فعلتها من أجلي ..
ضحك قصي .. من كل قلبه .. ضحك .. وغنت له الدنيا .. ضحك .. وغادرت فلول الليل هاربة .. ضحك قلبه صدق **** .. ونقاوة المطر .. ضحك طهر الرباط المقدس .. ضحك قصي لميلاده الجديد ..
يبدو .. أننا في أحيان كثيرة نخطيء في أحكامنا .. فمن اقترح هذه الفكرة .. هو السيد مناف الحديدي والد قصي .. بعد أن علم بأمر طلاق فرح .. من والدة قصي .. وبعد أن اتصلت بنفسه على فرح ليعرف منها الموضوع .. فاخبرته فرح بكل شيء بعد أن صدمها خبر قرار قصي بالسفر .. كان مؤمناً بحكم تجاربه الواسعة في الحياة .. أن الدنيا لا تنتهي عند هذه الأحداث .. وأن الماضي لا يجب عليه أن يحدد المستقبل .. ولأنه رجل لا يستسلم بسهولة للفشل عند أول الطريق ..
استطاع باتصالاته الواسعة أن يدبر مقعداً لها ولأم قصي .. وأيضاً أمر فرح .. ومحمد أخي فرح .. واستطاع أن يجري اتصالاته بالسيد أيمن العسل .. ليقنعه بالفكرة حفاظاً على الوقت .. فلم يكن قد بقي على الرحلة إلا ساعات قليلة جداً .... ورغم أن السيد أيمن العسل لم يوافق احتفاظاً بكرامته .. إلا أنه وتحت إلحاح السيد مناف ناقش الموضوع بعقلانية .. وأوضح له المشكلة بطريقة مبسطة .. وبأن ما فعله قصي ليس إلا طريقة **** الكلاسيكية التي لا تجري عليها الحياة الحقيقية .. شرح له السيد مناف أن ابنه قد أخطأ وكان خطؤه جسيماً .. وأن فرح أصبحت جزءً من العائلة ولا يحق لقصي أن يتخذ مثل هذه القرار لوحده .. وأنه قد تسرع جداً .. وكيف أن العائلة لا بد أن تسعى للإصلاح بين الزوجين في أول عقبات حياتهما .. لا أن تزيد الهوة .. وتساهم في عدد حالات الطلاق ..
واقتنع أخيراً أيمن على مضض ..
لا يجب أن تنتهي كل القصص الخليجية بنهاية مأساوية .. ولا يجب أن يموت الأبطال في النهاية .. بل يستطيعون أن يكونوا سعداء .. فقط إن قرروا ذلك .. وفرح كانت قد قررت ذلك .. قررت أن تحتفظ بزوجها .. وأن تمنحه فرصة ثانية .. وأن تنسى ماضيه .. فمن منا لم يخطيء .. وإن ظللنا نحاسب كل الناس على الماضي .. فمن المؤكد أننا لن نستطيع أن نعيش مع بني البشر الخطائين ..
هاهو المشهد الأخير ..
على شاطئ البحر في المنطقة الشرقية .. في الهاف مون .. التي انتقل إليها قصي أخيراً .. ليبتعد عن الدنيا كلها .. وينسى الماضي كله .. ويبدأ مع فرح من جديد .. إنساناً آخر ..
وقفت معه فرح بكل **** .. على طرف صخرة .. وهما يشبكان أيديهما ببعض .. وأخرج قصي من جيبه علبه سوداء .. فتحها .. فبرق الخاتم البلاتيني .. ونظر في فرح التي تبسمت له .. فأمسكاه كلاهما .. وبكل القوة .. ألقياه في البحر
نظر قصي في عيني فرح .. التي نظرت له بكل **** .. وراح يشبك يديه في يديها مرة أخرى ويبتعد نحو الأفق ..
النهاية
انشــاءالله عجبتكم وبنااات والله ابي بس رايكم في الرواية بسسسس انا ماابي ردووود بس رايكم فيها انتظر ردودكم :)
الصفحة الأخيرة
منسجمه مررره مع الروايه
عوافي ياعسل