همسات ساقطة تتردد بين أروقة القاعة الدراسية يحاول أن يهرب منها .. أن يتجاهلها .. لا يمكن أن يكون مثلهم و لا أن يسير على دربهم .. انهم حثالة .. هكذا همس لنفسه ..
ولكن هل خفتت همساتهم ؟
لا .. فذاك البيت المشبوه في آخر الشارع أصبح مشهورا أكثر من البيت الأبيض في أمريكا ..والجميع يتهامس عن رقيق ابيض يباع ويشترى في غفلة عن العيون..
قال له صديقه :
تعال معي .. ستعرف أشياء لا تخطر لك على بال ..
قال :
اتركني أرجوك ..
باغته صديقه مغريا :
لا تقلق .. سأدفع عنك الفاتورة .. فقط أريد أن أخرجك من هذه الحياة الكئيبة المسيطرة عليك ..
أجابه و هو يتحسس جيبه :
لا ..إنها مسألة مبدأ .. أخلاقي لا يمكن أن تنحدر إلى هذا الحضيض ..
أجابه صديقه وهو يبتعد عنه :
كما تريد .. ولكن اكتشف على الأقل هذا العالم .. أدخل للفرجة فقط .. للفرجة يا .. أبا المبادئ ..
قالها ساخرا .. وانسحب ..
وغرق صاحبنا في صمت عميق .. حاصرته الأفكار .. دس يده في جيبه .. انها بضع ورقات نقدية استدانها من شقيقته ليكمل بقية الأسبوع بها .. يفكر في بيته .. أمه .. أخته .. شقيقه الصغير .. كل هؤلاء ينتظرون منه أن يتخرج من الجامعة ليبحث عن عمل و يصرف عليهم .. أخته سبقته إلى التخرج وحملت شيئا من العبء .. أصبحت تعمل صباح مساء في أحد المستشفيات لتوفر له لقمة هانئة و وسادة مريحة ينام عليها آخر النهار .. بقي هو .. عليه أن ينتحر في المذاكرة لينهي دراسته بامتياز ..
ولكن .. هؤلاء اخوة الشيطان لا يتركونه .. وان ابتعدوا عنه فإن كلماتهم لا زالت ترفرف فوق رأسه :
أدخل و اتفرج يا أبا المبادئ ..
نعم .. فقط أريد أن أعرف ماذا في الداخل ..
قالها لنفسه وهو يسير إلى نهاية الشارع بخطوات مرتبكة .. يعلم جيدا موقع البيت .. ولكن .. هل يملك الجرأة لدخوله .. ؟
وقف بجانب البناء الذي يحتضن البيت المشبوه .. تسمرت قدماه .. نظر حوله .. الحركة تضج في الشارع .. للحظة شعر أن كل العيون ترقبه .. و كل الأصابع تشير إليه و كل اتهامات الدنيا تطوق عنقه .. هل يدخل المبنى ..؟
تذكر أمه .. أخته .. أخوه الصغير .. تذكر أباه الذي يرقد في مقبرة مجاورة لهذا المكان .. تراجع .. ولكن ..
( سأتفرج .. لن أرتكب أي حماقة .. أريد أن أعرف أي بيئة ساقطة هذه ) ..
كلمات قليلة همس بها لنفسه كانت كفيلة بأن تجعله يتسلل بهدوء إلى العمارة و يهبط الى القبو الأرضي منها .. باب واحد فقط أمامه ..امتدت يده ليقرع الجرس .. تراجع .. أوشك أن يصعد .. كل شيء داخله يقول له :
هذا ليس مكانك .. ولكن كلمة الشيطان البشري لا زالت تدور فوق رأسه :
تفرج .. فقط تفرج ..!!
قرع الجرس .. ووقف لبرهة قبل أن يسمع صوتا أنثويا خلف الباب يقول : من ؟
اضطرب .. أمطر جبينه عرقا .. قلب قفز من صدره .. أوشك أن يطلق ساقيه للريح لولا أن الباب فتح بسرعة لتطل سيدة تكاد تقترب من الخمسين من العمر ..
تأملها .. تأملته .. أرخى عينيه في الأرض .. خجلا ؟ .. رعبا ؟ .. حزنا ؟ ربما كل هذا ..
قالت له : أهلا .. أهلا .. تفضل ..
هل ( يتفضل ) ؟ .. انه لم يأت ليقف عند الباب .. دلف إلى الداخل .. العتمة توشك أن تحتضن كل شيء .. لم يتبين ملامح البيت .. جلس .. وجلست السيدة بجواره ..
لحظات صمت خالها صاحبنا دهرا ..
قالت له : يبدو انك مهموم .. لم أرك من قبل هنا ..ما اسمك ؟
قال مرتبكا : لا داعي للأسماء يا ( طنط ) ..
قالت له : نعم يا روح أمك ؟؟ طنط ؟؟
قال : آسف .. آسف .. يبدو أني ..
انه ماذا ؟؟ لقد حاول أن يكذب ويوهمها أنه يبحث عن صديق له..
قالت : ها .. أطلب .. أؤمر .. طلباتك كلها متوفرة ..
قال : أنا .. أنا .. لا أدري ..
نعم .. لا يدري .. لا يدري كيف اقنع نفسه بالوصول إلى هنا ودخول هذا البيت و الجلوس هنا مع هذه السيدة ..
قالت له : واضح انك محرج .. وأنا عندي التي تفك عقدتك ..
انظر ذاك الباب .. افتحه .. ستجد من تنسيك هموم الدنيا كلها ..
قال ولا زال الاضطراب يخنقه : ولكن .. أنا .. لا أريد أن ..
قاطعته : لا بأس .. هذا الاضطراب سيزول فور دخولك هنا .. انتبه .. لا تفزعها .. لا تستخدم العنف معها .. إياك من أي تصرف خاطئ .. إنها بشر هي أيضا ..
قام من مقعده .. و امتدت يده إلى الباب .. فتحه .. ودخل .. فتح عينه جيدا .. إنها هناك .. لم تنبته لدخوله .. قال على استحياء : احم .. احم ..
انتبهت له .. رفع عينيه إليها .. يا للكارثة .. إنها أخته ..!!
همسات ساقطة تتردد بين أروقة القاعة الدراسية يحاول أن يهرب منها .. أن يتجاهلها .. لا يمكن أن يكون...
تابعت الأحدث بألمٍ بالغ، تخيلت كل شيء، إلا هذه النهاية البالغة في القسوة......
الواجهة هذه المرة تحمل الكثير من المعاني المباشرة و غير المباشرة....أحسنت في تصوير الصراع الداخلي..- كما هي عادتك - لكنك ( ربما) تسرعت قليلاً في إنهاء القصة.....
أما المعنى الذي حملته القصة فيستحق من التأمل ! الأخلاق لا تقبل العبث...وكما تدين تدان!
ملامح أسلوبك أصبحت ثابتة...يسهل التعرف عليها لمن يتابع..والكل هنا متابع....و لو كنت مكانك لآثرت التنويع....و قد تعتبر هذه القصة خروجاً لك عن مألوف أسلوبك المتميز.
أتمنى لك التوفيق ومزيداً من الإبداع