( 10 ) خزعبلات العجوز !!
لم أحتمل هذا القول .. فقمت من مكاني غضبى إلى الداخل فوجدت زوجة الولي تسرّح شعرها !!
إنها عجوز أيضاً .. سلمتُ عليها بريبة وتخوّف .. ربما كانت ذات عقل .. أفضل من زوجها ..
إنها تقبع وحيدة .. وبما هي لا توافق زوجها ولا تقتنع بصنيعه مثلي !!
قلت لها باسمة : كيف حالك يا خالة ؟
فبادرتني بالتحية .. وأجلستني بجانبها وقالت :
ـ بحال طيبة .. أهذه أول زيارة لك في بيتنا ؟ .. وجهك غير مألوف لدي !
فقلت : نعم .. هذه أول مرة .. ( وخاطبت نفسي ) وآخر مرة إن شاء الله !!
قالت بدهاء :
ـ وما رأيك بالولي ؟ إنه علامة وعارف بالله .. إن له أموراً لا يصدقها البشر ! ..
عندما تجلسين معه مرة ستأتين أكثر من مرة .. صدقيني .. ثم قالت :
ـ هل تعلمين أنه في يوم ما .. كان يحدّث الناس ويعظهم .. وفجأة سكت !
فنظر إليه الجالسون وقالوا : ما بك يا ولينا العظيم .. ما بك ؟ فقال :
ـ انتظروا لقد دُعيت .. ويجب أن ألبي النداء .. ( وكان الجميع ينظرون إليه ) ..
وفجأة تبلّل كمّه الأيمن بالماء !! فهاج الحضور وصاحوا وقالوا له :
ـ ماذا حدث يا ولينا .. وما بال كمّك امتلأ بالماء ؟ فقال :
ـ كان هناك رجل يسبح في البحر فغرق .. فاستغاث بي .. فأخبرته بيدي الآن .. والحمد لله لقد نجا من موت محتم !! .. فقالوا وهم يُكبرون عمله :
ـ ولكن كيف ؟ وأنت تجلس معنا يا ولينا العظيم .. يا إلهي ما أعظمك !!! إنك عظيم كبير قادر على كل شيء !! يا ولينا !
قال مزهواً بنفسه :
ـ هذه من الكرامات الخارقة .. فلا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم !!!
( انتظرتْ مني رداً .. وأنا كالمصعوقة مما أسمع ! ) هل أصاب عقلي شي ؟! .. هل أنا في كامل وعيي ؟
هل أعيش كابوساً مروّعاً ؟ .. أم أنا موجودة حقاً بين هؤلاء ؟!
بدأ عقلي يضعف فقلت لها بذهول :
ـ ولكن !! .. كيف ؟!!!!!! .. هل يستطيع ؟! ..
كيف يُرسل يده إلى البحر وهو يجلس في مكانه ؟!!! .. كيف …… ؟!
نظرتُ إليها بتوجس .. رأيتها تضحك !! .. رأيت عينيها الغائرتين تنظران إلي بنظرات تعني شيئاً ما !! ..
هل أقنعوها بأن تفعل معي ذلك ؟! .. هل سلّطوها علي هي أيضاً ؟! يـا رب .. يـا رب .. سمعت صوت الزوج ينـادي .. فخرجت أستجمع ما بقي من عقل ودين !!
ركبت السيارة .. لم أنطق ولم ينطق .. ماذا يحدث حولي ؟!! ماذا يحصل ؟ أين أنا ؟ ..
أشعر بأن ما يدور هنا هي قصة نسجها الخيال إلى أبعد مدى !!!!
عدنا إلى المنزل .. أول ما عمله الزوج هو أن وضع قطعة القماش تحت وسادتي .. وقال بتوسل :
ـ أرجو أن تعتقدي فيها ! .. فهي ستنير لك طريقك وستقتنعين فيما بعد ! .. أرجوك !!
أومـأت برأسي بالإيجاب .. وتمالكت نفسي .. ما أصعب هذا الموقف .. من سينتصر ؟
ومن سيرفع راية الاستسلام البيضاء ؟! .. ويطأطئ رأسه خيبة وخذلاناً !!!
لم يغمض لي جفن طوال الليل .. تضرعت إلى الله باكية .. رجوت الله أن يثبتني ..
فلو رأيت الحلم الذي نسجه لي ذلك الرجل الأرعن فأخشى أن أؤمن بهم ! .. يا رب أنت ملجأي .. يا رب أنت ملاذي .. يا رب وجهني إلى طريق الخير والصواب .. لقد ظهرت خيوط الصبح وأنا لم أنم !! ..
أخشى أن أحلم .. يا رب ساعدني .. ثم .. انسدلت أجفاني تغطي عيني بدون وعي مني !!
وفي الصباح .. فتحت عيني بثقل شديد .. رأيته .. يزرع الغرفة ذهاباً وإياباً .. إنه ينتظر نهوضي بفارغ الصبر .. وقفت أنظر إليه .. تذكرت !! .. جاء يهرول إلي .. راجياً .. باسماً ..
ـ هاه ماذا رأيتِ ؟! هل صدق ؟ بالطبع صدق !!
أخبريني بالتفاصيل .. هيا أسرعي .. لا أطيق الانتظار !!
أخبريني .. فصّلي رؤياك .. هيا ..
يا إلهي .. تذكرت ماذا يقصد .. تنهدت بعمق .. ثم ابتسمتُ أخيراً ابتسامة نصر وثقة واختيال وعُجْب .. وازدراء !!!
ـ لا .. لا .. لا لم أحلم بما قاله وليّك ذاك !! لم أحلم .. الحمد لله .. الحمد لله ..
ربي لك الحمد والشكر والثناء .. فقام من مكانه مدحوراً مذموماً .. قال باهتمام :
ـ ليس من المشترط أن تكون الرؤيا في الليلة الماضية .. من الممكن أن تكون الليلة أو غداً .. أو بعد غد .. أو .. قاطعته بتحد :
ـ ولكن هذا الرجل أكّد لي بأنها ستكون الليلة الماضية .. فلا مجال إذاً ! .. آه يا رب لك الحمد ..
خرج من الغرفة غاضباً .. وسمعته يتمتم بكلمات ساخطة .. فضحكتُ في قرارة نفسي على خذلانهم !

( 11 ) القطب والغوث !!
بعد يومين .. ذهبوا بي عند أعظمهم بلاءاً .. وأكثرهم شهرة .. ووقفوا بي الساعات الطوال ينتظرون الإذن بالدخول ! .. سبحان الله !! ألهذا الحد يُمنع دخول أي شخص إليه ؟! .. هل هو إله مقدس ؟ ..
هل يختلف تكويناً عن البشر ؟!
طال الانتظار .. وهم ينظرون إلي بين اللحظة والأخرى .. إنهم ينتظرون اهتماماً مني أو سؤالاً ! ..
ترددت كثيراً في طرح السؤال أو إبداء الاهتمام والقلق يساورني .. تًرى أي نوع من الناس يكون هذا أيضاً ؟!
أخيراً .. فُتح الباب الكبير على مصراعيه !! .. ارتجفـوا !! .. فتح كبير ونصر بالدخول إليه أكبر ! ..
تسارعت خطاهم .. أي مغفرة ستقع لهم ؟
أي رضى عنهم بفتح الباب والسماح بالدخول إليه ؟ ( تساءلت باستهتار في نفسي ) !!! تقدّمني الجميع وأنا أنظر في دهشة .. ثم عادوا يمسكون بي وقالوا :
ـ أنتِ ولية من أولياء الله الصالحين .. لقد فُتح الباب بسببك !!
كم حاولنا الدخول ولكنه لم يسمح لنا ولم يسمع لرجائنا ؟!!
دخلت بخطوات مترددة .. البيت مظلم .. ساكن .. لا حراك فيه مطلقاً .. ولا أصوات تبدّد وحشة المكان ..
بدأت المخاوف تنتابني شيئاً فشيئاً ؟
وعندما فتح الباب الداخلي .. ركضوا .. فتبعتهم بتردد وتخوف شديد .. ما نوع الكائن الموجود بالداخل ؟!!!
وفجــأة .. رأيتـه !!!
شخص قرب موته كثيراً .. لا حراك .. ينام على سرير وكأنه جثة هامدة ! ..
هو لا يتكلم .. لا يتحرك .. لا ينظر .. لا يعلم من دخل إليه ومن خرج ؟!
لا يفقه شيئاً .. إنه شبه ميت !!!
توجهت أنظر فيمن معي .. أي عقول معتوهة يحملون ؟ تهافتوا عليه كالمصروعين ؟! .. ما هذا ؟ ..
إنهم يلمسونه .. يتباركون به .. أوه .. حتى النساء يلمسنه .. يقبّلن يديه ورأسه ووجهه !!! ..
يمسحون على وجهه الهرم .. رباه .. إنهم يبكون ! .. بل ينتحبون ؟! ..
علا بكاؤهم ودوّت صيحاتهم !!! .. إنهم يلهجون بالدعاء .. لمن له يتوسلون ؟!
أما أنا .. فقد وقفت وحدي .. هائمة على وجهي .. ماذا حدث ؟ لم كل هذا التبجيل والتعظيم ؟!
إنه بشر مثلنا .. بل هو أشلاء إنسان !!
وفيما أخذ التفكير مني والتأمل والتعجب وقتاً طويلاً .. إذ بالزوج يقول من بين أدمعة وشهيقه :
ـ هيا تعـالي وألمسيه .. فرصتك الذهبية .. لا يحصل عليها أي كان !
انظري إلى وجهه .. ونور الصـوفية الظاهر عليه .. يا إلهي لو تعلمين ماذا كسبنا وماذا جنينا !!!
فخاطبت نفسي بتشكك :
ـ هل كسبوا الجنة مثلاً ؟!! .. ربما !! .. لسان حالهم يجزم بذلك !
بقيت جامدة في مكاني .. كيف لي أن أمسك برجل ؟! حتى وإن كان الموت يتهافت لخطفه ! .. لا .. لن أسمح لنفسي بذلك ! فأنا أخاف من الله .. كفاني إلى هذا الحد .. كفاني ..
ثم .. أكرهوني .. وأجبروني بغضب وأحرجوني ..
فتوقفت أمام هذه البقايا الهامدة .. أخاطبها :
ـ بم تشعرين ؟!! .. هل أنتِ على حق ؟!! .. أم أنك خارجة عن جادة الطريق القويم ؟!!!!!
أمسك الزوج بيدي وهو غارق في البكاء :
ـ هيا سارعي بالإمساك به .. بيديه .. قبّليهما .. قبلّي رأسه .. أمسكي بجسده وألمسي وجهه !!
انظري بربك إلى هذا النور والإيمان .. انظري !!!
نظرت إليهم وقد عكفوا على أقدامه أذلاء صاغرين .. ماذا جرى لهم ؟ .. قام الزوج بأمري مرة أخرى ..
فقمت وبحركة آلية لا شعورية .. ثم بحركة متعمدة .. وسترت يدي بإدخالها في ثنايا العباءة .. وأمسكت بيد الصوفي بطريق غير مباشر .. ثم .. تصنعتُ تقبيلها حتى لا يفعلوا بي ما ينوون فعله أكثر من ذلك ..
تطاير الشرر من عينيه الباكيتين فخفت ! .. وقبض على يديه بقوة كادتا منها أن تتهشم ! ..
انتفض جسده رغبة في الانتقام مني ! .. رأيت التقريع والتأنيب يتفجران من أنفاسه !!
يا إلهي ! .. ما الخطأ الجديد الذي ارتكبته ؟! أهو الستر أيضاً ؟! .. ربـاه ما العمل ؟! .. ما العمل ؟! ..
عدنا إلى المنزل وما أن دخلنا من عتبة الباب حتى انفجر كالبركان قائلاً والكل يؤيده :
ـ والآن ! .. لم فعلتِ ما فعلتيه أيتها الـ ………… ؟ هل تتحدينني ؟!
فقلت بهدوء وذهول يطويان الخوف والهلع منه :
ـ وماذا .. وماذا فعلت ؟ أنا لم أفهم ؟!
قال حانقاً منفجراً :
ـ لِم لَم تتركي يديك تلامس يديه الطاهرتين ؟ يديه الشريفتين ؟ لم ؟ لم ؟ أجيبي !! ..
ثم قال مردفاً قبل أن أجيب :
ـ نعم .. لو كان أباكِ أو خالك أو عمك أو أنا .. لما توانيتي مطلقاً عن تقبيل أيدينا !! صح ؟! .. ولكن هذا الولي الصالح الغوث القطب تضعين بينك وبينه حجاب !! سبحان الله !!
وبحركة لا شعورية استدرتُ نحوه قائلة :
ـ أي غوث وقطب تعني ؟
رفع رأسه وهو يتقدم نحوي ببطء .. ثم قال بعد صمت ثقيل وبلهجة متلعثمة :
ـ أقصد أن الله عندما يريد إنزال أمر ما بالعباد من غضب أو حكم يُظلم به الناس .. فإن الغوث يغيث هؤلاء العباد ويخفف عنهم الحكم ويعد له .. ثم ينزله إلينا .. أو أنه يلطّف بقدرته من قسوة وقوة حكم الله علينا .. أفيكون هذا جزاؤه ؟!!
آه .. ماذا يقول هذا الأرعن ؟! ربـاه .. ما للموازين اختلّت ؟ ..
قلت بلهجة متهدّجة :
ـ ولكن الله هو المتحكم بالكون ولا سلطة لأحد سواه عليه !!
سيطر عليه الارتباك .. ثم قال :
ـ تباً لكم من وهّـابـين !! .. إن القطب هو أكمل إنسان .. وهو نظر الله في الأرض .. وفي كل زمان !
عليه تدور أحوال الخلق .. ويلجأ إليه الملهوف عند حاجته .. أفهمتي ؟!
قاطعته باعتراض :
ـ ولكن .. إن هذه معتقدات كالأساطير الخرافية .. أقصد .. !!!
صرخت أمه في وجهي غاضبة : الويـل لك ! ماذا تقولين ؟! إنك حمقـاء !!
دقّ قلبي بشدة .. فقلت أستحث الكلمات على الخروج :
ـ ولكن .. هذه الصفـات .. تنزع إلى تجريد الله .. من .. الربوبية والإلهية .. !!
قال مدافعاً وبلهجة حادة :
ـ ألا تعلمين أيتها العنيـدة بأن مما أكرم الله به هذا القطب أنه علّمه ما قبل وجود الكون .. وما وراءه .. وما لا نهاية له ؟! وألا تعلمين أنه علّمه وخصصه بأسرار الإحاطة بالغيب ؟ وأنه مكنه من إدارة الوجود بيده كيفما شاء ؟!!
قلت بمرارة وتألم :
ـ كفى .. كفى .. كفى أرجوكم .. لا أريد سماع المزيد .. لا أريد ..
صرخ بأعلى صوته في وجهي :
ـ بل يجب أن تعلمي كل شي .. فأنتِ تعيشين في وهم مع هؤلاء الجهلة الضلاليين !!
تقدم أحد اخوته بثقة مفرطة أراد بها أن يزعزع بقايا مشاعري فقال :
ـ حسناً .. لا تتعجلي الأمور .. أنا سأثبت لكِ .. ألا تعلمين أن في الوجود ديواناً باطنياً يحكم فيه القطب الأكبر بما يشاء ويصرّف أقدار الوجود ؟!
التفتُّ إليه متعجبة .. فسألته بهدوء :
ـ أي ديوان تعني ؟ وأي أقدار هذه التي تخضع لقدرة غير الله ؟! .. إن هذا غير صحيح ولا يمكن أن ………….. قاطعني بهدوء أكثر :
ـ استمعي إلي .. عند الصوفية محكمة عليا يحاكم فيها الأقطاب أقدار الله دون أن تستطيع أية قدرة إلهية نسخ حكم لها .. فهل تعلمين مكان وجود هذا الديوان ؟ ومن يحضـره ؟!
صرختُ بقلب قد مـلأه الوجـل .. فهمت إلى أين يريدون الوصول بي ..
نظرتُ إليه بتخوّف .. انقبض قلبي .. وهن عقلي .. هل أعيش في واقعي ؟ لا أصدق ..
ساد صمت قاتل فيه انتظار حارق لإجابتي على السؤال المطروح .. أصبحت لا أميّز شيئاً ..
ليطل انتظارهم .. ارتجفت .. هممت بالدفاع عن نفسي والاحتجاج على ما يتفوّهون به .. تصوّرت ما سيفعلونه بي إن نطقت بخلاف ما يعتقدون .. تحدّيتهم ووافقت على مجاراتهم فقلت بانقباض :
ـ لا .. ولا أريد أن ..
تدخل الزوج في هذه اللحظة وأجاب بحماس ظاهر :
ـ إن الديوان في غـــار حـــراء ! .. ويحضره النساء .. وبعض الأموات ..
فالأموات حاضرون في الديوان ينزلون من البرزخ يطيرون طيرانـاً بطيران الروح ! .. وتحضره الملائكة والجن ..
أكملت أمه بفـرح :
ـ ليس هذا فحسب .. ففي بعض الأحيان يحضره النبي .. وكل ذلك يكون في الساعة التي ولد فيها النبي من كل عام .. أما الأنبياء فيحضرونه في ليلة واحدة هي ليلة القدر .. وتحضره كذلك أزواج النبي الطاهرات ..
ابتسمتُ .. فظن الجميع بأني آمنت أخيراً وأيقنت .. نظروا إلى بعضهم .. توقفوا عن الكلام .. انفرجت أساريرهم .. فقلت أخاطب الجميع :
ـ حقـاً ؟! هل تحضره أزواج النبي الطاهرات ؟!
ـ أجل .. أجل .. ألم نقل لكِ بأنك ستقتنعين ؟!
استبشر الجميع .. أخيــــــراً !!! .. فقلت بعد أن أخفيت تلك الابتسامة عن الوجود :
ـ وهل كانت أزواج النبي الطاهرات تحضرن هكذا في وسط الرجال ؟! أي هـراء هذا ؟!
أطبق الصمت !! .. حملقوا فيّ بنيـران نظراتهم .. ولكني لم أعد أحتمل .. دعوني وشأني .. دعوني ..
وقف الزوج هائجاً بصول ويجول .. يريد الإمساك بي .. وإخفائي عن الدنيا .. فأمسك به أخوه بسرعة ..
وفهمت على الفور بأنني ارتكبت في نظرهم خطأ جسيماً في سخريتي من حديثهم .. لا بأس .. إلى متى هذا الخوف ؟ .. إلى متى هذا التراجع ؟!
بادرت بالاعتذار فوراً تخفيفاً من وطأة الغضب الجامح :
ـ أنا آسفة .. آسفة .. لم أقصد إغضابك .. ولكنك فتحت باب النقاش ..
أعتذر منك مرة أخرى .. أعتذر .. لم أنتظر المزيد من الجدل .. انطلقت بسرعة .. أخذت أصعد السلم .. لا مكان لي هنا .. يجب أن أرحــل .. !!
بعد يومين .. ذهبوا بي عند أعظمهم بلاءاً .. وأكثرهم شهرة .. ووقفوا بي الساعات الطوال ينتظرون الإذن بالدخول ! .. سبحان الله !! ألهذا الحد يُمنع دخول أي شخص إليه ؟! .. هل هو إله مقدس ؟ ..
هل يختلف تكويناً عن البشر ؟!
طال الانتظار .. وهم ينظرون إلي بين اللحظة والأخرى .. إنهم ينتظرون اهتماماً مني أو سؤالاً ! ..
ترددت كثيراً في طرح السؤال أو إبداء الاهتمام والقلق يساورني .. تًرى أي نوع من الناس يكون هذا أيضاً ؟!
أخيراً .. فُتح الباب الكبير على مصراعيه !! .. ارتجفـوا !! .. فتح كبير ونصر بالدخول إليه أكبر ! ..
تسارعت خطاهم .. أي مغفرة ستقع لهم ؟
أي رضى عنهم بفتح الباب والسماح بالدخول إليه ؟ ( تساءلت باستهتار في نفسي ) !!! تقدّمني الجميع وأنا أنظر في دهشة .. ثم عادوا يمسكون بي وقالوا :
ـ أنتِ ولية من أولياء الله الصالحين .. لقد فُتح الباب بسببك !!
كم حاولنا الدخول ولكنه لم يسمح لنا ولم يسمع لرجائنا ؟!!
دخلت بخطوات مترددة .. البيت مظلم .. ساكن .. لا حراك فيه مطلقاً .. ولا أصوات تبدّد وحشة المكان ..
بدأت المخاوف تنتابني شيئاً فشيئاً ؟
وعندما فتح الباب الداخلي .. ركضوا .. فتبعتهم بتردد وتخوف شديد .. ما نوع الكائن الموجود بالداخل ؟!!!
وفجــأة .. رأيتـه !!!
شخص قرب موته كثيراً .. لا حراك .. ينام على سرير وكأنه جثة هامدة ! ..
هو لا يتكلم .. لا يتحرك .. لا ينظر .. لا يعلم من دخل إليه ومن خرج ؟!
لا يفقه شيئاً .. إنه شبه ميت !!!
توجهت أنظر فيمن معي .. أي عقول معتوهة يحملون ؟ تهافتوا عليه كالمصروعين ؟! .. ما هذا ؟ ..
إنهم يلمسونه .. يتباركون به .. أوه .. حتى النساء يلمسنه .. يقبّلن يديه ورأسه ووجهه !!! ..
يمسحون على وجهه الهرم .. رباه .. إنهم يبكون ! .. بل ينتحبون ؟! ..
علا بكاؤهم ودوّت صيحاتهم !!! .. إنهم يلهجون بالدعاء .. لمن له يتوسلون ؟!
أما أنا .. فقد وقفت وحدي .. هائمة على وجهي .. ماذا حدث ؟ لم كل هذا التبجيل والتعظيم ؟!
إنه بشر مثلنا .. بل هو أشلاء إنسان !!
وفيما أخذ التفكير مني والتأمل والتعجب وقتاً طويلاً .. إذ بالزوج يقول من بين أدمعة وشهيقه :
ـ هيا تعـالي وألمسيه .. فرصتك الذهبية .. لا يحصل عليها أي كان !
انظري إلى وجهه .. ونور الصـوفية الظاهر عليه .. يا إلهي لو تعلمين ماذا كسبنا وماذا جنينا !!!
فخاطبت نفسي بتشكك :
ـ هل كسبوا الجنة مثلاً ؟!! .. ربما !! .. لسان حالهم يجزم بذلك !
بقيت جامدة في مكاني .. كيف لي أن أمسك برجل ؟! حتى وإن كان الموت يتهافت لخطفه ! .. لا .. لن أسمح لنفسي بذلك ! فأنا أخاف من الله .. كفاني إلى هذا الحد .. كفاني ..
ثم .. أكرهوني .. وأجبروني بغضب وأحرجوني ..
فتوقفت أمام هذه البقايا الهامدة .. أخاطبها :
ـ بم تشعرين ؟!! .. هل أنتِ على حق ؟!! .. أم أنك خارجة عن جادة الطريق القويم ؟!!!!!
أمسك الزوج بيدي وهو غارق في البكاء :
ـ هيا سارعي بالإمساك به .. بيديه .. قبّليهما .. قبلّي رأسه .. أمسكي بجسده وألمسي وجهه !!
انظري بربك إلى هذا النور والإيمان .. انظري !!!
نظرت إليهم وقد عكفوا على أقدامه أذلاء صاغرين .. ماذا جرى لهم ؟ .. قام الزوج بأمري مرة أخرى ..
فقمت وبحركة آلية لا شعورية .. ثم بحركة متعمدة .. وسترت يدي بإدخالها في ثنايا العباءة .. وأمسكت بيد الصوفي بطريق غير مباشر .. ثم .. تصنعتُ تقبيلها حتى لا يفعلوا بي ما ينوون فعله أكثر من ذلك ..
تطاير الشرر من عينيه الباكيتين فخفت ! .. وقبض على يديه بقوة كادتا منها أن تتهشم ! ..
انتفض جسده رغبة في الانتقام مني ! .. رأيت التقريع والتأنيب يتفجران من أنفاسه !!
يا إلهي ! .. ما الخطأ الجديد الذي ارتكبته ؟! أهو الستر أيضاً ؟! .. ربـاه ما العمل ؟! .. ما العمل ؟! ..
عدنا إلى المنزل وما أن دخلنا من عتبة الباب حتى انفجر كالبركان قائلاً والكل يؤيده :
ـ والآن ! .. لم فعلتِ ما فعلتيه أيتها الـ ………… ؟ هل تتحدينني ؟!
فقلت بهدوء وذهول يطويان الخوف والهلع منه :
ـ وماذا .. وماذا فعلت ؟ أنا لم أفهم ؟!
قال حانقاً منفجراً :
ـ لِم لَم تتركي يديك تلامس يديه الطاهرتين ؟ يديه الشريفتين ؟ لم ؟ لم ؟ أجيبي !! ..
ثم قال مردفاً قبل أن أجيب :
ـ نعم .. لو كان أباكِ أو خالك أو عمك أو أنا .. لما توانيتي مطلقاً عن تقبيل أيدينا !! صح ؟! .. ولكن هذا الولي الصالح الغوث القطب تضعين بينك وبينه حجاب !! سبحان الله !!
وبحركة لا شعورية استدرتُ نحوه قائلة :
ـ أي غوث وقطب تعني ؟
رفع رأسه وهو يتقدم نحوي ببطء .. ثم قال بعد صمت ثقيل وبلهجة متلعثمة :
ـ أقصد أن الله عندما يريد إنزال أمر ما بالعباد من غضب أو حكم يُظلم به الناس .. فإن الغوث يغيث هؤلاء العباد ويخفف عنهم الحكم ويعد له .. ثم ينزله إلينا .. أو أنه يلطّف بقدرته من قسوة وقوة حكم الله علينا .. أفيكون هذا جزاؤه ؟!!
آه .. ماذا يقول هذا الأرعن ؟! ربـاه .. ما للموازين اختلّت ؟ ..
قلت بلهجة متهدّجة :
ـ ولكن الله هو المتحكم بالكون ولا سلطة لأحد سواه عليه !!
سيطر عليه الارتباك .. ثم قال :
ـ تباً لكم من وهّـابـين !! .. إن القطب هو أكمل إنسان .. وهو نظر الله في الأرض .. وفي كل زمان !
عليه تدور أحوال الخلق .. ويلجأ إليه الملهوف عند حاجته .. أفهمتي ؟!
قاطعته باعتراض :
ـ ولكن .. إن هذه معتقدات كالأساطير الخرافية .. أقصد .. !!!
صرخت أمه في وجهي غاضبة : الويـل لك ! ماذا تقولين ؟! إنك حمقـاء !!
دقّ قلبي بشدة .. فقلت أستحث الكلمات على الخروج :
ـ ولكن .. هذه الصفـات .. تنزع إلى تجريد الله .. من .. الربوبية والإلهية .. !!
قال مدافعاً وبلهجة حادة :
ـ ألا تعلمين أيتها العنيـدة بأن مما أكرم الله به هذا القطب أنه علّمه ما قبل وجود الكون .. وما وراءه .. وما لا نهاية له ؟! وألا تعلمين أنه علّمه وخصصه بأسرار الإحاطة بالغيب ؟ وأنه مكنه من إدارة الوجود بيده كيفما شاء ؟!!
قلت بمرارة وتألم :
ـ كفى .. كفى .. كفى أرجوكم .. لا أريد سماع المزيد .. لا أريد ..
صرخ بأعلى صوته في وجهي :
ـ بل يجب أن تعلمي كل شي .. فأنتِ تعيشين في وهم مع هؤلاء الجهلة الضلاليين !!
تقدم أحد اخوته بثقة مفرطة أراد بها أن يزعزع بقايا مشاعري فقال :
ـ حسناً .. لا تتعجلي الأمور .. أنا سأثبت لكِ .. ألا تعلمين أن في الوجود ديواناً باطنياً يحكم فيه القطب الأكبر بما يشاء ويصرّف أقدار الوجود ؟!
التفتُّ إليه متعجبة .. فسألته بهدوء :
ـ أي ديوان تعني ؟ وأي أقدار هذه التي تخضع لقدرة غير الله ؟! .. إن هذا غير صحيح ولا يمكن أن ………….. قاطعني بهدوء أكثر :
ـ استمعي إلي .. عند الصوفية محكمة عليا يحاكم فيها الأقطاب أقدار الله دون أن تستطيع أية قدرة إلهية نسخ حكم لها .. فهل تعلمين مكان وجود هذا الديوان ؟ ومن يحضـره ؟!
صرختُ بقلب قد مـلأه الوجـل .. فهمت إلى أين يريدون الوصول بي ..
نظرتُ إليه بتخوّف .. انقبض قلبي .. وهن عقلي .. هل أعيش في واقعي ؟ لا أصدق ..
ساد صمت قاتل فيه انتظار حارق لإجابتي على السؤال المطروح .. أصبحت لا أميّز شيئاً ..
ليطل انتظارهم .. ارتجفت .. هممت بالدفاع عن نفسي والاحتجاج على ما يتفوّهون به .. تصوّرت ما سيفعلونه بي إن نطقت بخلاف ما يعتقدون .. تحدّيتهم ووافقت على مجاراتهم فقلت بانقباض :
ـ لا .. ولا أريد أن ..
تدخل الزوج في هذه اللحظة وأجاب بحماس ظاهر :
ـ إن الديوان في غـــار حـــراء ! .. ويحضره النساء .. وبعض الأموات ..
فالأموات حاضرون في الديوان ينزلون من البرزخ يطيرون طيرانـاً بطيران الروح ! .. وتحضره الملائكة والجن ..
أكملت أمه بفـرح :
ـ ليس هذا فحسب .. ففي بعض الأحيان يحضره النبي .. وكل ذلك يكون في الساعة التي ولد فيها النبي من كل عام .. أما الأنبياء فيحضرونه في ليلة واحدة هي ليلة القدر .. وتحضره كذلك أزواج النبي الطاهرات ..
ابتسمتُ .. فظن الجميع بأني آمنت أخيراً وأيقنت .. نظروا إلى بعضهم .. توقفوا عن الكلام .. انفرجت أساريرهم .. فقلت أخاطب الجميع :
ـ حقـاً ؟! هل تحضره أزواج النبي الطاهرات ؟!
ـ أجل .. أجل .. ألم نقل لكِ بأنك ستقتنعين ؟!
استبشر الجميع .. أخيــــــراً !!! .. فقلت بعد أن أخفيت تلك الابتسامة عن الوجود :
ـ وهل كانت أزواج النبي الطاهرات تحضرن هكذا في وسط الرجال ؟! أي هـراء هذا ؟!
أطبق الصمت !! .. حملقوا فيّ بنيـران نظراتهم .. ولكني لم أعد أحتمل .. دعوني وشأني .. دعوني ..
وقف الزوج هائجاً بصول ويجول .. يريد الإمساك بي .. وإخفائي عن الدنيا .. فأمسك به أخوه بسرعة ..
وفهمت على الفور بأنني ارتكبت في نظرهم خطأ جسيماً في سخريتي من حديثهم .. لا بأس .. إلى متى هذا الخوف ؟ .. إلى متى هذا التراجع ؟!
بادرت بالاعتذار فوراً تخفيفاً من وطأة الغضب الجامح :
ـ أنا آسفة .. آسفة .. لم أقصد إغضابك .. ولكنك فتحت باب النقاش ..
أعتذر منك مرة أخرى .. أعتذر .. لم أنتظر المزيد من الجدل .. انطلقت بسرعة .. أخذت أصعد السلم .. لا مكان لي هنا .. يجب أن أرحــل .. !!

( 12 ) الحلف والاستغاثة
مضت أيام قلائل بعد النقاش والصراع .. خفّت حدة التوتر قليلاً ..
ذهبنا جميعاً إلى البحــر في وقت الفجـر .. آه ما أجمـله !! ..
كانت النجـوم ما تزال تلمع في كبد السماء .. وأشعة الشمس .. لقد بدأت بالظهور شيئاً فشيئاً ..
دخل الزوج مع اخوته إلى البحـر .. يتــلاعبون .. يتمــازحـون .. تذكرت اخوتي ….. ؟! كم أشتاق إليهم .. ناداني الجميع لأشاركهم المـرح واللعـب في البحـــر .. اعتذرت وعللت بقائي برغبتي في الجلوس مع والدة الزوج قليلاً .. ولكن الرفض كان سببه أني لا أريد كسر طوق الجليد مع اخوته ! ..
فكيف أوافق على اللعب معهم إذاً ؟!
بقيت مع والدته .. استرقت النظر إليها .. إنها تتأمل أبناءها ..
تذكرت أمي .. اخوتي .. أبي .. تنهدت بعمق .. مسحت دمعة حزينة كادت أن تفتح باباً لأنهار الدمع بداخلي .. آآه .. عائلتي تعتقد بأن السعادة ترفرف على أرجاء حياتي !! .. إنها لا تعلم بمعاناتي !!
حدّقت في البحــــر .. في الزرقة الممتدة أمامي بلا نهاية .. آآآآآآه .. أشتــــاق كثيراً لسمـاع صــوت أمي .. لمداعبات أبي واخوتي .. أووووه .. أفقتُ من أحــلامي الجميلة عندما تحركت والدة الزوج ونظرت إليّ !!! .. تحركتُ بحذر .. ثم قلت بابتهاج مصطنع :
ـ خالتي .. هل تريدين أن أعدَّ لك بعض الطعام ؟!
ـ لا …. لا أشعر بالجوع الآن .. شكراً لك .. فقط أريد كوباً من الشاي .. فالطقس يساعد على الانشراح .. ابتسمتُ بصدق .. وأحضرت لها كوب الشاي لتشربه .. إنها تفضله دائماً من صنع يدي ..
ناولتها الكوب .. حذّرتها من إمكان وقوعه .. فالأرض غير مستوية ..
عبّرت عن امتنانها لي بابتسامة مسرورة .. وقامت بوضعه أمامها ..
أما أنا فعدت ثانية لتأمل ظهور قرص الشمس كاملاً ..
تحركت الأم وهي تحدّق في أبنائها مسرورة .. فانسكب الشاي على قدمها وأحرقها .. فتمتمت قائلة بغضب وهي تحدث نفسها :
ـ ( يا فلان بن فلان ) .. تتوسّل بأحد الأموات وتستنجد به !!
استولى الاستياء عليّ .. فأدرت ظهري للبحـر وقابلتها مباشرة .. ثم قلت لها بلطف :
ـ خالتي .. ماذا تقصدين بـ ( فلان بن فلان ) ! ولم هو بالذات ؟!
نظرت إلي باستغراب وكأنها لم تكن تنتظر مني مثل هذا السؤال .. ثم قالت بعد صمت وتلعثم :
ـ إنه .. إنه .. أحد أولياء الله الصالحين المقربين إلى الله .. آه لقد مات منذ زمن بعيد ..
نستنجد به ونتوسل إليه .. وهذا أمر واجب ومفروض يا ابنتي ..
واجب ديني يجب علينا وعليك أيضاً عمله !!
حدّقتُ بها .. شككت في صحة معلوماتها فقلت :
ـ ولكنك كما قلتِ مات !! فماذا تطلبين من ميت أو ترجين منه يا خالتي ؟!!!!!!!
شعرت بأنها تأخذ نفساً عميقاً .. ضمّت يديها وقالت بتعجرف :
ـ ولكن روحه تخرج إلينا .. وتساعدنا وتجيب ملهوفنا .. لذلك نطلب منه ومن غيره من أولياء الله ما نريد !
ـ تطلبون منه ما تريدون ؟!! .. مثل ماذا ؟
ـ مثل .. مثل .. الرزق .. الأولاد .. الزواج .. النجاح .. الشفاء من الأمراض والأوجاع ..
حبستُ أنفاسي في مكان ما حول قلبي الذي كان يطرق بقوة وعنف .. هناك صوت صغير بداخلي قد يئس منهم يهتف بي بقوة بأن هذه حقائق زائفة .. ولا يهمني سماعها ..
ألا يجب أن تكون أكثر عقلانية في مثل هذه السن ؟ .. قلت بقلـق :
ـ خالتي الحبيبة .. فكري معي قليلاً .. أرجوكِ .. حسناً لنتبادل وجهات النظر ونؤيد أصحها ..
ألا ترين معي أن سؤال الميت أو الغائب يعد منكراً لنفوسنا ؟ .. لا نرتضيه لأنفسنا !! ثم إنه لم يأمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا فعله أحد من الصحابة أو التابعين .. فكيف نفعله نحن ؟
قاطعتني بجدية وهي تؤمن بكلمة تقولها :
ـ أووووه .. ماذا تقولين ؟ ما هذا الهراء ؟! .. إننا قد تعودنا أن نستغيث بهم إذا نزلت بنا ترة أو عرضت لنا حاجة ! .. إني أقول لميت من الأولياء ( يا سيدي فلان بن فلان ) أنا في حسبك أو اقضِ لنا حاجتنا .. وسرعان ما يقضيها ..
تجهّم وجهي على الفور فقلت بغيظ كظيم :
ـ ولكن أحداً من الصحابة لم يستغث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ( وهو نبي ) !!
ولا بأحد من الأنبياء أو بغيرهم .. والاستغاثة بغير الله عز وجل محرمة ..
فقدت أعصابها عند سماع كلماتي .. فلم تجد بداً من الإدلاء بدليل تحاول به تشويه الواقع :
ـ لن أقتنع .. هلاّ علمتي بأن أحد أئمة الصوفية العظماء كان قد دعا الله ستّ سنوات أن يرزقه الولد .. فلم يُرزق !! فذهب إلى ولي صالح .. فما أن استغاث به وطلب منه الولد حتى رُزق بطفلين توأمين !!!!!!!!!!!!!!!!!!
حملقت فيها بعيني .. شعرت بأن لمعات البرق تكاد أن تمزق السماء ! .. شحب وجهي .. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. هل بعد هذا الشرك من شرك ؟!
وبحركة لا شعورية .. تابعت قولها وهي ترتعد غضباً مني .. وأنفاسها تتمزق ..
ـ ألا تصدقين ؟! حسناً .. بجاه فلان وفلان .. وبحق النبي .. أن هذا ما حدث له !! ولكن ما أدراكِ أنت ؟!! .. إن تربيتك الدينية كانت غير سليمة .. أعانك الله عليها يا بني !!!!!!!
امتقع وجهي فأصبح كالغمام .. طالت فترة الصمت .. وساد صمت آخر .. إنها تحلف !! بمن ؟
أيضاً بغير الله !!
ـ خالتي .. خالتي نحن نتجاذب أطراف الحديث !! .. يجب أن تُقنع إحدانا الأخرى .. كيف .. كيف تدعين وتستغيثين بغير الله ؟! ..
خالتي إنك تفتقرين إلى غير الله .. ألا تعلمين أن في ذلك إذلال للنفس وظلم لها ؟ ثم .. ثم .. إنك تحلفين أيضاً بغير الله .. خالتي ……..
رفعت حاجبها باستغراب بسرعة .. ترددت قليلاً قبل أن تجيب :
ـ كوني على ثقة ويقين بأنك عندما تطلبين اليمين بالله منا نحن الصوفيون فإننا نعطيك ما تريدين صدقاً أو كذباً .. بينما .. عندما تطلبين منا اليمين بالشيخ أو الولي أو صاحب القبر فإننا نصدق معك ولا نجرؤ على الكذب أبداً .. وذلك لعظمتهم وجلالة قدرهم .. !!!!
تملكتني موجة من الغضب والانفعال اللاإرادي ..
فهتفتُ وأنا أقف وأجمع حاجياتي رغبة في الهروب منها :
ـ ولكن هذا لا يجوز !! حرام أن تسألي بمخلوق يا خالتي !! عودي إلى رشدك يا خالتي .. افهميني أرجوك ! .. ألم تسمعي قوله تعالى " ادعوني أستجب لكم " ؟ ..
ألم تستمعي إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم " من حلف بغير الله فقد أشرك " ؟!!
لم ترد .. لم تتحدث !! فضلت السكوت للحظات .. لقد بلغ الصمت حداً يثير الأعصاب !! لا طيور تزقزق !
ولا أوراق تهتز مع نسيم الريح الخفيف .. حتى صوت البحر بدا مكتوماً !!
قلت لها قبل أن أفترق عنها بلطف ورجاء :
ـ خالتي .. لقد شاهدت قبل قليل ولادة لنهار جديد .. وأعتقد أنه باستطاعة المرء أن يُولد مرة أخرى .. إذا فتح صفحة جديدة .. ناسياً كل الأمور والأحداث الماضية !!
خففت لهجتي الهادئة من اضطرابها وغضبها .. فنقلت نظرها إلى البحر .. خلفي .. واعتقدت أنها تتأمله !!!
قالت بدون أن تنظر إلي .. وقد ركّزت نظرها خلفي :
ـ إنها فكرة جيدة لم تخطر ببالي يوماً ولكن .. لا تظني بأنها ممكنة !!
شعرت بخيبة أمـل عنيفة .. تنهّدت بأسى من الأعماق .. وبحركة لا شعورية .. التفت إلى الوراء .. خلفي .. حيث كانت نظراتها مسلّطة .. وإذا بي أجده ورائي .. وقد بدت عليه إمارات الغضب الشديد !!!!!!!!!
نعم ( لقد كانت والدته تنظر إليه هو ولم تكن تتأمل البحـر ) !!
اكتفيت بالنظر إليه وقد اتسعت عيناي تعجباً وتحجّر قلبي تخوّفاً .. فلم أجد الكلمات المناسبة للدفاع .. !!
فضّلت الصمت .. منذ متى وهو يقف خلفي ؟!
شعرت بالوهن الشديد أمام نظراته التي كانت تنم عن حقد دفين وقهر شديد !!
( 13 ) العودة المفاجئة من الرحلة !
وقف ساكناً وقد اختفت من وجهه كل آثار السرور السابقة .. تقارب حاجباه وهو يتقدم نحوي غاضباً .. لقد سمع الحديث بأكمله !! أما الآن .. فأنا في نظره أستحق القتل والصلـب والسحـق !!
رفع يده بقوة وهوى بها على وجهي بقوة أشد .. فقدتُ القدرة على الصمود والتحمل أمام غضبه الجامح !! .. استجمعتُ كل قواي لأتمكن من الثبات واقفة على الأرض .. فأخفقت !! وقعت أرضاً .. جثوت على ركبتي أستجمع ما بقي من قوتي .. ثم أجهشت ببكـاء مرير يتبعه أنين مؤلم .. لاقيت صعوبة في إدراك ما يدور حولي من شدة الألم ..
انسحب بدون أن ينطق بكلمة واحدة .. الجميع ينظر إلي !! .. هل تجسّد نظراتهم الشفقة أم التشفّي ؟ .. أم تُراها تصوّر انتصاراً لمذهبهم ودحراً لسنتي ؟!!!!
أمر الجميع بجمع الأمتعة وأعلن لهم عن قطع رحلتهم الممتعة والإسراع الفوري بالاستعداد للعودة ! .. فأطاعوه !! .. عاد إلي مرة أخرى .. أمرني بالوقوف .. فشلت .. ثم وقفتُ أترنح !! ..
أمسـك بيدي بكل قوته وشدّني نحو إحدى الغرف القريبة من البحـر ..
حبس الجميع أنفاسهم .. وسرت قشعريرة مريرة في جسدي ! .. اعتراني توتر يحمل تحذيراً خافتاً .. كنت أعلم أنه يجب علي أن أمتثل له .. ولكني لم أشأ ذلك !!!
أمرني بالجلوس .. فجلست فوق إحدى المقاعـد .. وضعت يدي على ركبتي كطفلة دون أن أنبس بكلمة ! .. فأخذ هو يزرع الغرفة ذهاباً وإياباً .. لقد ثار علي وتصرّف معي تصرفاً مجرداً من الإنسانية والرحمة !! .. ولكني واثقة من أن ذلك لن يغيّر شيئاً من موقفي ! .. فخططهم واضحة .. ومفهومة .. إنهم يحاولون بكل الطرق معاقبتي على تمسكي بسنتي !
لم يجرؤ على الحديث معي مع أنه احترق لمعرفة ما يجول في ذهني من أفكار تجاهه !
نظر إلي بقلق عندما طال صمتي .. وبنوع من الارتباك صرخ قائلاً وأنا أرتجف من حدة صوته :
ـ والله لأعملنّ على تغيير هذه الأفكار الضالة التافهة ! وأردّك إلى صوابك !! ..
ضبطتُ نفسي وقلت بشكل حازم دون أن أنظر إليه :
ـ ولكنها ليست بالأفكار التافهة .. وأنت تعلم ذلك جيداً .. إنها الحقائق التي لا يريد أحد سماعها ..
هزّني بعنف قائلاً :
ـ أولاً من الأدب أن تنظري إلي عندما أوجه إليكِ الحديث !!
ثانياً : أي حقائق هذه التي تتشدقين بها ؟ .. هل تقصدين حقائق العته والضلال ؟ حقائق الجنون ؟ ..
أرجوك .. كفى .. إلى متى سنظل مختلفين في هذه الأمور ؟!!!!! .. أرجوكِ هلاّ أسديتي إلي معروفاً ؟ هلاّ ………..
قاطعته بحزن وتوسل وقد أصابني ما أصابني من الهذيان واليأس :
ـ بل أرجوك أنت أن تسدي إلي معروفاً .. أرجوك .. ابق بعيداً عني أنت وأهلك !
نحن لا نتفق إطلاقاً اتركني .. وما دمنا نختلف دوماً كما تقول .. فلماذا لا تتركني أذهب من حيث أتيت ؟!
لماذا تحتفظ بحطامي ؟! .. لماذا ونحن متناقضان في كل شيء ؟! .. لماذا ؟ .. لا أريد البقاء معك أرجوك .. لقد تعبت .. تعبت .. تعبت .. ثم وضعتُ رأسي بين يدي .. أجمع دمعاتي الملتهبة ..
ربـاه .. ربـاه .. لم أعد أستطيع أن أقاوم .. أريد الخلاص .. أصابني اليأس والهلاك يا الله .. ارحمني يا رب ..
سيطر عليه الارتباك فقال :
ـ إنكِ .. إنك تحاولين اختلاق الأعذار من أجل تبرير تصرفاتك .. لا داعي لتحميلي مسئولية تهورك وعنادك الآن .. أنا لا أسيء إليك ولا أريد إيذاءك .. أنت السبب .. إنك لا تؤمنين مطلقاً بما أقوله لك ولا تصدقين ؟! .. أخاف أن تكوني من الهالكين ؟!!!!!
أغمضت عيني .. تذكرت قول الله تعالى ( ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد )
خاطبت نفسي وأنا أراهم يتهامسون .. ستظلّون يا ضحايا الصوفية عُمي البصائر والقلوب .. مختوماً على سمعكم فلا تسمعون من أحد كلمة حق تجادل باطلاً صوفياً !!!!
عدنا إلى المنزل المشؤوم .. جلست على الأريكة .. أفكر في حياتي .. في مصيري .. يا رب .. إن مع العسر يسرا .. وقفت أتهاوى .. مشيت بخطىً وئيدة نحو المرآة .. نظرت إلى نفسي فيها .. لا أكاد أصدق عيني !! لقد طرأ تغيير كبير علي !! ..
ارتميت على الفراش .. أخذت أنفاسي تنتظم .. ومشاعري تهدأ .. وقلبي يسكن .. ثـم ..
مضت أيام قلائل بعد النقاش والصراع .. خفّت حدة التوتر قليلاً ..
ذهبنا جميعاً إلى البحــر في وقت الفجـر .. آه ما أجمـله !! ..
كانت النجـوم ما تزال تلمع في كبد السماء .. وأشعة الشمس .. لقد بدأت بالظهور شيئاً فشيئاً ..
دخل الزوج مع اخوته إلى البحـر .. يتــلاعبون .. يتمــازحـون .. تذكرت اخوتي ….. ؟! كم أشتاق إليهم .. ناداني الجميع لأشاركهم المـرح واللعـب في البحـــر .. اعتذرت وعللت بقائي برغبتي في الجلوس مع والدة الزوج قليلاً .. ولكن الرفض كان سببه أني لا أريد كسر طوق الجليد مع اخوته ! ..
فكيف أوافق على اللعب معهم إذاً ؟!
بقيت مع والدته .. استرقت النظر إليها .. إنها تتأمل أبناءها ..
تذكرت أمي .. اخوتي .. أبي .. تنهدت بعمق .. مسحت دمعة حزينة كادت أن تفتح باباً لأنهار الدمع بداخلي .. آآه .. عائلتي تعتقد بأن السعادة ترفرف على أرجاء حياتي !! .. إنها لا تعلم بمعاناتي !!
حدّقت في البحــــر .. في الزرقة الممتدة أمامي بلا نهاية .. آآآآآآه .. أشتــــاق كثيراً لسمـاع صــوت أمي .. لمداعبات أبي واخوتي .. أووووه .. أفقتُ من أحــلامي الجميلة عندما تحركت والدة الزوج ونظرت إليّ !!! .. تحركتُ بحذر .. ثم قلت بابتهاج مصطنع :
ـ خالتي .. هل تريدين أن أعدَّ لك بعض الطعام ؟!
ـ لا …. لا أشعر بالجوع الآن .. شكراً لك .. فقط أريد كوباً من الشاي .. فالطقس يساعد على الانشراح .. ابتسمتُ بصدق .. وأحضرت لها كوب الشاي لتشربه .. إنها تفضله دائماً من صنع يدي ..
ناولتها الكوب .. حذّرتها من إمكان وقوعه .. فالأرض غير مستوية ..
عبّرت عن امتنانها لي بابتسامة مسرورة .. وقامت بوضعه أمامها ..
أما أنا فعدت ثانية لتأمل ظهور قرص الشمس كاملاً ..
تحركت الأم وهي تحدّق في أبنائها مسرورة .. فانسكب الشاي على قدمها وأحرقها .. فتمتمت قائلة بغضب وهي تحدث نفسها :
ـ ( يا فلان بن فلان ) .. تتوسّل بأحد الأموات وتستنجد به !!
استولى الاستياء عليّ .. فأدرت ظهري للبحـر وقابلتها مباشرة .. ثم قلت لها بلطف :
ـ خالتي .. ماذا تقصدين بـ ( فلان بن فلان ) ! ولم هو بالذات ؟!
نظرت إلي باستغراب وكأنها لم تكن تنتظر مني مثل هذا السؤال .. ثم قالت بعد صمت وتلعثم :
ـ إنه .. إنه .. أحد أولياء الله الصالحين المقربين إلى الله .. آه لقد مات منذ زمن بعيد ..
نستنجد به ونتوسل إليه .. وهذا أمر واجب ومفروض يا ابنتي ..
واجب ديني يجب علينا وعليك أيضاً عمله !!
حدّقتُ بها .. شككت في صحة معلوماتها فقلت :
ـ ولكنك كما قلتِ مات !! فماذا تطلبين من ميت أو ترجين منه يا خالتي ؟!!!!!!!
شعرت بأنها تأخذ نفساً عميقاً .. ضمّت يديها وقالت بتعجرف :
ـ ولكن روحه تخرج إلينا .. وتساعدنا وتجيب ملهوفنا .. لذلك نطلب منه ومن غيره من أولياء الله ما نريد !
ـ تطلبون منه ما تريدون ؟!! .. مثل ماذا ؟
ـ مثل .. مثل .. الرزق .. الأولاد .. الزواج .. النجاح .. الشفاء من الأمراض والأوجاع ..
حبستُ أنفاسي في مكان ما حول قلبي الذي كان يطرق بقوة وعنف .. هناك صوت صغير بداخلي قد يئس منهم يهتف بي بقوة بأن هذه حقائق زائفة .. ولا يهمني سماعها ..
ألا يجب أن تكون أكثر عقلانية في مثل هذه السن ؟ .. قلت بقلـق :
ـ خالتي الحبيبة .. فكري معي قليلاً .. أرجوكِ .. حسناً لنتبادل وجهات النظر ونؤيد أصحها ..
ألا ترين معي أن سؤال الميت أو الغائب يعد منكراً لنفوسنا ؟ .. لا نرتضيه لأنفسنا !! ثم إنه لم يأمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا فعله أحد من الصحابة أو التابعين .. فكيف نفعله نحن ؟
قاطعتني بجدية وهي تؤمن بكلمة تقولها :
ـ أووووه .. ماذا تقولين ؟ ما هذا الهراء ؟! .. إننا قد تعودنا أن نستغيث بهم إذا نزلت بنا ترة أو عرضت لنا حاجة ! .. إني أقول لميت من الأولياء ( يا سيدي فلان بن فلان ) أنا في حسبك أو اقضِ لنا حاجتنا .. وسرعان ما يقضيها ..
تجهّم وجهي على الفور فقلت بغيظ كظيم :
ـ ولكن أحداً من الصحابة لم يستغث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ( وهو نبي ) !!
ولا بأحد من الأنبياء أو بغيرهم .. والاستغاثة بغير الله عز وجل محرمة ..
فقدت أعصابها عند سماع كلماتي .. فلم تجد بداً من الإدلاء بدليل تحاول به تشويه الواقع :
ـ لن أقتنع .. هلاّ علمتي بأن أحد أئمة الصوفية العظماء كان قد دعا الله ستّ سنوات أن يرزقه الولد .. فلم يُرزق !! فذهب إلى ولي صالح .. فما أن استغاث به وطلب منه الولد حتى رُزق بطفلين توأمين !!!!!!!!!!!!!!!!!!
حملقت فيها بعيني .. شعرت بأن لمعات البرق تكاد أن تمزق السماء ! .. شحب وجهي .. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. هل بعد هذا الشرك من شرك ؟!
وبحركة لا شعورية .. تابعت قولها وهي ترتعد غضباً مني .. وأنفاسها تتمزق ..
ـ ألا تصدقين ؟! حسناً .. بجاه فلان وفلان .. وبحق النبي .. أن هذا ما حدث له !! ولكن ما أدراكِ أنت ؟!! .. إن تربيتك الدينية كانت غير سليمة .. أعانك الله عليها يا بني !!!!!!!
امتقع وجهي فأصبح كالغمام .. طالت فترة الصمت .. وساد صمت آخر .. إنها تحلف !! بمن ؟
أيضاً بغير الله !!
ـ خالتي .. خالتي نحن نتجاذب أطراف الحديث !! .. يجب أن تُقنع إحدانا الأخرى .. كيف .. كيف تدعين وتستغيثين بغير الله ؟! ..
خالتي إنك تفتقرين إلى غير الله .. ألا تعلمين أن في ذلك إذلال للنفس وظلم لها ؟ ثم .. ثم .. إنك تحلفين أيضاً بغير الله .. خالتي ……..
رفعت حاجبها باستغراب بسرعة .. ترددت قليلاً قبل أن تجيب :
ـ كوني على ثقة ويقين بأنك عندما تطلبين اليمين بالله منا نحن الصوفيون فإننا نعطيك ما تريدين صدقاً أو كذباً .. بينما .. عندما تطلبين منا اليمين بالشيخ أو الولي أو صاحب القبر فإننا نصدق معك ولا نجرؤ على الكذب أبداً .. وذلك لعظمتهم وجلالة قدرهم .. !!!!
تملكتني موجة من الغضب والانفعال اللاإرادي ..
فهتفتُ وأنا أقف وأجمع حاجياتي رغبة في الهروب منها :
ـ ولكن هذا لا يجوز !! حرام أن تسألي بمخلوق يا خالتي !! عودي إلى رشدك يا خالتي .. افهميني أرجوك ! .. ألم تسمعي قوله تعالى " ادعوني أستجب لكم " ؟ ..
ألم تستمعي إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم " من حلف بغير الله فقد أشرك " ؟!!
لم ترد .. لم تتحدث !! فضلت السكوت للحظات .. لقد بلغ الصمت حداً يثير الأعصاب !! لا طيور تزقزق !
ولا أوراق تهتز مع نسيم الريح الخفيف .. حتى صوت البحر بدا مكتوماً !!
قلت لها قبل أن أفترق عنها بلطف ورجاء :
ـ خالتي .. لقد شاهدت قبل قليل ولادة لنهار جديد .. وأعتقد أنه باستطاعة المرء أن يُولد مرة أخرى .. إذا فتح صفحة جديدة .. ناسياً كل الأمور والأحداث الماضية !!
خففت لهجتي الهادئة من اضطرابها وغضبها .. فنقلت نظرها إلى البحر .. خلفي .. واعتقدت أنها تتأمله !!!
قالت بدون أن تنظر إلي .. وقد ركّزت نظرها خلفي :
ـ إنها فكرة جيدة لم تخطر ببالي يوماً ولكن .. لا تظني بأنها ممكنة !!
شعرت بخيبة أمـل عنيفة .. تنهّدت بأسى من الأعماق .. وبحركة لا شعورية .. التفت إلى الوراء .. خلفي .. حيث كانت نظراتها مسلّطة .. وإذا بي أجده ورائي .. وقد بدت عليه إمارات الغضب الشديد !!!!!!!!!
نعم ( لقد كانت والدته تنظر إليه هو ولم تكن تتأمل البحـر ) !!
اكتفيت بالنظر إليه وقد اتسعت عيناي تعجباً وتحجّر قلبي تخوّفاً .. فلم أجد الكلمات المناسبة للدفاع .. !!
فضّلت الصمت .. منذ متى وهو يقف خلفي ؟!
شعرت بالوهن الشديد أمام نظراته التي كانت تنم عن حقد دفين وقهر شديد !!
( 13 ) العودة المفاجئة من الرحلة !
وقف ساكناً وقد اختفت من وجهه كل آثار السرور السابقة .. تقارب حاجباه وهو يتقدم نحوي غاضباً .. لقد سمع الحديث بأكمله !! أما الآن .. فأنا في نظره أستحق القتل والصلـب والسحـق !!
رفع يده بقوة وهوى بها على وجهي بقوة أشد .. فقدتُ القدرة على الصمود والتحمل أمام غضبه الجامح !! .. استجمعتُ كل قواي لأتمكن من الثبات واقفة على الأرض .. فأخفقت !! وقعت أرضاً .. جثوت على ركبتي أستجمع ما بقي من قوتي .. ثم أجهشت ببكـاء مرير يتبعه أنين مؤلم .. لاقيت صعوبة في إدراك ما يدور حولي من شدة الألم ..
انسحب بدون أن ينطق بكلمة واحدة .. الجميع ينظر إلي !! .. هل تجسّد نظراتهم الشفقة أم التشفّي ؟ .. أم تُراها تصوّر انتصاراً لمذهبهم ودحراً لسنتي ؟!!!!
أمر الجميع بجمع الأمتعة وأعلن لهم عن قطع رحلتهم الممتعة والإسراع الفوري بالاستعداد للعودة ! .. فأطاعوه !! .. عاد إلي مرة أخرى .. أمرني بالوقوف .. فشلت .. ثم وقفتُ أترنح !! ..
أمسـك بيدي بكل قوته وشدّني نحو إحدى الغرف القريبة من البحـر ..
حبس الجميع أنفاسهم .. وسرت قشعريرة مريرة في جسدي ! .. اعتراني توتر يحمل تحذيراً خافتاً .. كنت أعلم أنه يجب علي أن أمتثل له .. ولكني لم أشأ ذلك !!!
أمرني بالجلوس .. فجلست فوق إحدى المقاعـد .. وضعت يدي على ركبتي كطفلة دون أن أنبس بكلمة ! .. فأخذ هو يزرع الغرفة ذهاباً وإياباً .. لقد ثار علي وتصرّف معي تصرفاً مجرداً من الإنسانية والرحمة !! .. ولكني واثقة من أن ذلك لن يغيّر شيئاً من موقفي ! .. فخططهم واضحة .. ومفهومة .. إنهم يحاولون بكل الطرق معاقبتي على تمسكي بسنتي !
لم يجرؤ على الحديث معي مع أنه احترق لمعرفة ما يجول في ذهني من أفكار تجاهه !
نظر إلي بقلق عندما طال صمتي .. وبنوع من الارتباك صرخ قائلاً وأنا أرتجف من حدة صوته :
ـ والله لأعملنّ على تغيير هذه الأفكار الضالة التافهة ! وأردّك إلى صوابك !! ..
ضبطتُ نفسي وقلت بشكل حازم دون أن أنظر إليه :
ـ ولكنها ليست بالأفكار التافهة .. وأنت تعلم ذلك جيداً .. إنها الحقائق التي لا يريد أحد سماعها ..
هزّني بعنف قائلاً :
ـ أولاً من الأدب أن تنظري إلي عندما أوجه إليكِ الحديث !!
ثانياً : أي حقائق هذه التي تتشدقين بها ؟ .. هل تقصدين حقائق العته والضلال ؟ حقائق الجنون ؟ ..
أرجوك .. كفى .. إلى متى سنظل مختلفين في هذه الأمور ؟!!!!! .. أرجوكِ هلاّ أسديتي إلي معروفاً ؟ هلاّ ………..
قاطعته بحزن وتوسل وقد أصابني ما أصابني من الهذيان واليأس :
ـ بل أرجوك أنت أن تسدي إلي معروفاً .. أرجوك .. ابق بعيداً عني أنت وأهلك !
نحن لا نتفق إطلاقاً اتركني .. وما دمنا نختلف دوماً كما تقول .. فلماذا لا تتركني أذهب من حيث أتيت ؟!
لماذا تحتفظ بحطامي ؟! .. لماذا ونحن متناقضان في كل شيء ؟! .. لماذا ؟ .. لا أريد البقاء معك أرجوك .. لقد تعبت .. تعبت .. تعبت .. ثم وضعتُ رأسي بين يدي .. أجمع دمعاتي الملتهبة ..
ربـاه .. ربـاه .. لم أعد أستطيع أن أقاوم .. أريد الخلاص .. أصابني اليأس والهلاك يا الله .. ارحمني يا رب ..
سيطر عليه الارتباك فقال :
ـ إنكِ .. إنك تحاولين اختلاق الأعذار من أجل تبرير تصرفاتك .. لا داعي لتحميلي مسئولية تهورك وعنادك الآن .. أنا لا أسيء إليك ولا أريد إيذاءك .. أنت السبب .. إنك لا تؤمنين مطلقاً بما أقوله لك ولا تصدقين ؟! .. أخاف أن تكوني من الهالكين ؟!!!!!
أغمضت عيني .. تذكرت قول الله تعالى ( ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد )
خاطبت نفسي وأنا أراهم يتهامسون .. ستظلّون يا ضحايا الصوفية عُمي البصائر والقلوب .. مختوماً على سمعكم فلا تسمعون من أحد كلمة حق تجادل باطلاً صوفياً !!!!
عدنا إلى المنزل المشؤوم .. جلست على الأريكة .. أفكر في حياتي .. في مصيري .. يا رب .. إن مع العسر يسرا .. وقفت أتهاوى .. مشيت بخطىً وئيدة نحو المرآة .. نظرت إلى نفسي فيها .. لا أكاد أصدق عيني !! لقد طرأ تغيير كبير علي !! ..
ارتميت على الفراش .. أخذت أنفاسي تنتظم .. ومشاعري تهدأ .. وقلبي يسكن .. ثـم ..

( 14 ) مراسم المولد النبوي الشريف
طُرق البـاب .. استدرت نحوه بعينين أثقلهما النوم .. قلت بإعياء :
ـ من الطـارق ؟!
سمعت صوت أخت الزوج تستأذن بالدخول .. نظرتُ إلى الحائط .. الساعة الثانية عشر والنصف ظهراً ..
ساعتان مضتا منذ أن عدنا من البحر .. حلّقت أفكاري حول ما حدث اليوم ..
طرق الباب مرة أخرى .. أووه تذكرت !! وثبتُ واقفة وأدرت مفتاح الباب وقلت لها بإرهاق :
ـ تفضلي .. عذراً .. كنت نائمة ..
قالت بصوت ينم عن بهجتها الخفية :
ـ هل .. هل ستذهبين معنا اليوم ؟!!
ترددت برهة ثم ابتسمت وأنا أسألها بفضول :
ـ إلى أين ؟ هل سنتنزه قليلاً مثلاً ؟ أشعر بالضجر !
قالت بمكـر :
ـ لا أعلم .. لا أعلم .. ألم .. ألم يخبرك زوجك عن ذهابنا اليوم ؟
أحسست بانقباض في صدري لا أعرف له سبباً :
ـ لا يا عزيزتي .. حتى الآن لم يخبرني أحد إلى أين سنذهب ! ألا تعلمين !!!!!
بعد تردد أجابـت :
ـ لا أعلم .. أقصد .. حسناً أراكِ فيما بعد .. سوف .. حسناً أعتقد أن والدتي تناديني .. بالإذن .. !!!!
ما بها ؟ .. لم هي مرتبكة ؟ .. لا يهم أشعر برغبة في الاستلقاء وأخذ قسط من الراحة بعد القراءة .. قرأت قليلاً .. ثم أعدت وضع كتبي في الدرج الخاص بي .. وفيما أنا أفعل .. دخل الزوج :
ـ ماذا تفعلين ؟! ألم تنامي بعد ؟!
ـ سأفعل .. فضلت قراءة بعض الكتب .. سآخذ قسطاً من الراحة الآن ..
ـ قراءة بعض الكتب ؟! .. أي كتب تقصدين ؟!!
نهض من مكانه وشعرت بأنه يفضل الإطلاع على الكتب بنفسه .. لم أمانع .. من حقه أن يراها !
فتح الدرج .. أخرج الكتب .. امتقع وجهه وهو يقرأ العناوين بصوت خافت :
ـ الكلم الطيب لابن تيمية .. الأذكار للنووي .. جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم .. الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض .. فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية .. رسالة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في حكم الاحتفال بالمولد ……
صاح بي قائلاً وصدره يتأجّج غضباً :
ـ من أين جاءت هذه الكتب ؟!!
ـ جئت بها من منزل عائلتي .. ما بك ؟!!!!
اعترض على وجودها معي بإصرار :
ـ كان يجدر بك استشارتي في قراءة هذه الكتب السخيفة !!
ألقى نظرة إلى الكتب مرة أخرى وأضاف حانقاً وهو يلقي بها أرضا :
ـ كان بإمكاني أن أختار لك الكتب التي يجب عليك قراءتها والتدبر فيها ….. !!
إنه يتضايق كثيراً عندما أبدي اهتماماً بالغاً بالكتب والمطالعة !!!!!!
كرر حديثه مرة أخرى وقال بإصرار :
ـ لا أريد أن أرى هذه الكتب في الحجرة ولا في البيت بأكمله ! .. أنا سآتي لك بالكتب التي أرغب في قراءتك لها !
ابتسمتُ لهذه الفكرة وأجبت :
ـ ولكن لا أظن بأننا نفضل نوعية الكتب نفسها .. أليس كذلك ؟!
لم يجد أي تعليق يضيفه على كلامي سوى :
ـ لن تقرأي هذه الكتب مرة أخرى .. هذا أمر .. لا أريد تكرار الكـلام .. تخلّصي منها بأسرع وقت .. فهذه الكتب هي التي تغسل أفكارك .. وتحجّـر معتقداتك !!!
آه .. لا مجال للمناقشة .. لا أريد الدخول في حلقة مفرغة جديدة .. لن أنازعه .. قلت باستسلام :
ـ حسناً .. لك ما تريد .. سأحرقها إن أردت !!!
رأيت ومضياً راقصاً في عينيه !!
استيقظتُ على صوت آذان العصر .. ما زالت الكتب في مكانها !! .. أخذتها بسرعة .. خبأتها تحت السرير .. في مكان لن يراها فيه !
أيقظته .. قام كالملدوغ وهو ينظر إلى الساعة !! .. ما باله ؟! .. هل خاف أن تفوته صلاة العصر في المسجد ؟! .. مستحيل !!!!!! .. لم أسأله …
قال لي وعيناه ما تزالان مغمضتين :
ـ هيا بسرعة .. استعدي سنذهب بعد نصف ساعة .. لا تعتذري عن الذهاب .. لا أريد اعتراضات ! .. بسرعة سأذهب إلى أمي لأستحثها على الاستعداد بسرعة .. أمامـك متسع من الوقت .. تزيني بأفضل الملابس !!!! .. ثم .. خرج ..
ماذا يقصـد ؟ .. لم يخبرني أحد بأن هناك وليمة أو حفلة زفاف !!!
عــــاد ..
ـ هل أنت جاهزة ؟
ـ تقريباً ! .. ولكن أريد أن أصلي العصر أولاً .. انتظر ..
قال وكأنه قد تذكر شيئاً مهماً …
ـ آه ….. نسيت أن أصلي !! هيا سأصلي أمامك .. تراجعي إلى الخلف ..
قلت في نفسي : ( أين الصلاة في المسجد ؟ لماذا لا تلبّي داعي الله إلى المسجد .. واحسرتاه !!!! ) .
التفت إلي قبل أن يكبّـر وقال :
ـ هيا .. اجهري بنية الصلاة .. وبصوت مسموع .. كي أسمعـك .. ردّدي خلفي .. نويت أن أصلي لله تعالى أربع ركعات لصلاة العصر إماماً ..
ثم سكت .. رفعت حاجبي استغراباً .. وذهلت ! التفت مرة أخرى إلي وقال :
ـ ما بالك ؟! .. ألم تستمعي إلى قولي ؟!
قلت مذهولة :
ـ بلى !! .. ولكن الجهر بالنية والتلفظ بها ………
قاطعني بغضب :
ـ سنــة !! وليس بدعة كما تعتقدين .. هيا ردّدي ما قلته .. ألا تسمعين ؟!
ـ ولكني نويتها في قلبي مثلما نويت الوضوء الذي قبلها وهذا يكفي ! ..
ضرب كفّيه ببعضهما في نفاذ صبر وقال :
ـ وماذا بعد ؟ .. قلت لك تلفظي والآن أمامي .. أريد أن أسمع .. تبـاً لكم من وهّـابـيـن .. كل مستقيم تجعلونه أعوجـاً !! .. هيا انطقي بها ..
نطقت بها مكرهة ! .. فتظاهرت بالصلاة معه .. وقد كنت أصلي بمفردي .. آه .. لقد شككت حتى في صلاتي .. وهي ما أشعر فيها بالراحة والسعادة !!!
أنهينا الصلاة .. وعند التسليم لاحظت كفيه يتحركـان يمنة ويسرة .. ما باله ؟ لماذا يحركها مع التسليمة ؟ .. أردت السؤال فامتنعتُ .. لا أريد المزيد من الجدل .. تظاهرت بالتسليم معه حتى لا يقيم غضبه الدنيا .. فأنا لم أعد أحتمل .. كفاني .. قلت :
ألن تخبرني إلى مكان ذهابنا ؟
ـ ستعرفين فيما بعد .. لا نريد التأخر .. بقيت لنا عشر دقائق فقط .. أين ملابسي ؟
ـ جاهـزة .. ولكن أرجوك أخبرني .. إلى أين ؟ لا أعرف لماذا أنا غير مطمئنة .. !
تمالك نفسه وأراد الخروج فأوقفته :
ـ انتظر أرجوك .. أخبرني أولاً .. إلى أين ؟! إلى أين ؟!
أجاب وهو يبتعد خارجاً من الغرفة :
ـ سنذهب إلى مكان يقام فيه مولد نبوي .. هل اطمأننتي ؟
أوقفته مرة أخرى .. نظرت إليه بتشكك ووجل :
ـ مولد نبوي ؟! .. ماذا تعني بذلك ؟!!!
ـ لن أخبرك سترين بنفسك .. ستسعدين بحضوره .. والآن هيا حتى أغلق الحجرة .. تقدمي ..
أغلق الحجرة .. هرول هابطاً قبلي إلى الدور السفلي .. فكرت في كلماته ملياً .. ماذا يقصد ؟
هبطت السلالم ببطء شديد ! .. هل لهذه المناسبة ارتباط بمعتقدات الصوفية ؟!! .. لماذا لا يريد إخباري ؟ .. هناك شيء ما أجهله !!
قابلت أمه في البهو .. إنها بكامل زينتها .. وكذلك أخته !! نظراتها شاردة .. لا تريد أن تلتقي بنظراتي المرتابة !! .. لماذا ؟!
قالت الأم لابنتها بلطف وهي تتأملها :
ـ إنك جميلة يا ابنتي بهذا الثوب .. هل أخذتِ معك كل الكتب المطلوبة ؟
أجابت ابنتها وقد أشرق وجهها بابتسامة تنم عن فرحها بحضور هذه المناسبة :
ـ نعم يا أمي .. كل شي جاهز .. كتاب دلائل الخيرات .. والبردة .. وكتاب الغزالي .. ومجالس العرائس .. وكذلك أخذت معي .. الدفـوف .. والمزامير .. لا تخافي .. لم أنس شيئاً أمي !!
قلت في نفسي :
ـ عجباً .. عمّ تتحدثان ؟! .. كتبهم الدينية مع دفوف ومزامير ؟! .. ما هذا التناقض ؟!!!!! .. تذكرت بسرعة ما تحتويه تلك الكتب من زيغ وضلال .. عرفت إذاً أن ذهابنا لشيء ما غير سوي !!! ..
لا أريد الذهاب .. ولكن ستقلب الدنيا إن رفضت !!
واجهته قبل خروجه من المنزل .. وقلت له متوسلة :
ـ أرجوك .. لا أريد الذهاب .. أرجوك .. اذهب أنت وعائلتك .. سوف أنتظركم هاهنا ! .. أتركوني فأنا لن أستطيع الذهاب .. اذهبوا أنتم إلى أي مكان ترغبون !
ابتسم ابتسامة ماكـرة تحمل ألوان الدهاء والخبث :
ـ ألا تريدين الذهاب معنا يا عزيزتي ؟!! .. حسناً ..
صدقته وقد امتلأ قلبي بالفرح .. أخيراً فهم ؟!! أحسست بأني أطير في السماء من شدة الفرح والحبور .. ولكن للأسف .. وئدت تلك الفرحة للتو فلم تعرف النور !!!
كزّ على أسنانه بقوة .. ونطقت عيناه بالوعيد الذي عهدته لهما .. واحمـر وجهه غضباً .. وشعرت بحرارة أنفاسه الساخطة وهو يهمس بصوت يرعـد :
ـ لن أطيل الصبر في السيارة !! .. بسرعة تقدمي قبل أن أفقد صبري معك !!!!!!!!!!!!!
آه …. لا مجال أيضاً للمراوغة .. اضطررت للذهاب .. كم رجوتهم بأن يتركوني .. لهم دينهم ولي ديني .. لا فائدة .. ذهبت معهم ..
دخلنا في حـارة ضيقة مفتوحة الطرفين .. متعرجة .. طويلة .. مضاءة .. ذات طابع خاص .. أهم ما فيها الهدوء والنظافة ..
كنت مطرقة متجهمة بليدة في السيارة .. ولكني أدركت أنني على وشك أن أفقد كل شي !!
فاجأني صوت أمه تقول بابتهاج :
ـ هل أنتِ على ما يرام ؟!!
أومأت برأسي إيجاباً ولم أستطع الرد !
سوف تبتهجين معنا الليلة .. أليس كذلك ؟
أطرقت ساهمة .. ولم أجب ! .. فأمرني الزوج بأن أتحدث قائلاً وهو ينظر إلي من خلال مرآة السيارة الأمامية :
ـ ألم تسمعي ؟ .. ألستِ على ما يرام ؟! .. تكلمي !!
ـ بلى .. بلى .. على ما يرام .. على ما يرام .. !!
اقترب من والدته وبدأ الهمس الذي عهدته كثيراً في حضرتي بينهما .. فطلبت من الله العون والمساندة ..
كان صوتي كسيراً عندما نطقت .. فانزويت أحتضن حقيبتي وأغمضت عيني .. وكأنني غريبة مسافرة وحدي .. بيد أني اليوم بدأت أفكر في النهاية .. ووجدت نفسي أهتف :
ـ النهاية .. النهاية .. ترى ماذا ستكون ؟!!!!
توقفت السيارة أمام منزل متواضع .. رأيت الناس يتزاحمون في الدخول إليه ! ..
سترك يـا الله ! .. ما الذي سيفاجئني هنا أيضاً ؟!!
خرج الجميع فاستبقاني ! .. ماذا يريد الآن ؟! ألا يكفيه ما يفعله بي ؟ .. ألا يكفيه ما مضى ؟!!!
التفت نحوي .. كان قلبي يدق بعنف .. أنا لست مطمئنة لما يجري حولي !!
فقال بتشكك :
ـ أصلحي نيتك .. ولا تسخري من شي .. هل ستفعلين ؟!!
ـ نعم .. نعم سأفعل !
خرجتُ بسرعة .. أغلقت الباب بهدوء .. لم أنتظر المزيد من الحديث .. لقد سئمت .. تنهدت من الأعماق ..
شعر الزوج كأن سهماً بارداً اخترق حناياه حين رآني أهبط من السيارة دون أن أنظر إليه .. سمعته ينادي .. وينادي .. لم ألتفت إليه .. لم أوجّه إليه كلمة واحدة .. إنه لا يستحق .. لا يستحق .. لا يستحق !!!
وجدت أمامي سلماً طويلاً .. صعدته بتكاسل .. الحماس .. التحدي .. لم يعد لهما مكان لدي !!
دخلت إلى دورة المياه .. غسلت وجهي وكأنما أغسل أحزاني .. خرجت وقد نزعت عني حجابي .. سألت إحدى العابرات بصوت ضعيف :
ـ أين تجلس النســوة ؟!
ـ هنا .. من هذا الباب .. ثم اصعدي بعد ذلك إلى سطح المنزل .. ففيه سيقام المولد .. أسرعي قبل أن يبدأ !!
أمسكت دمعة كادت أن تفلت من عقالها .. ثم قلت :
ـ شكراً لك .. شكراً ..
كان السكون مخيماً جداً في الممر .. أخيراً وجدت باب السطح .. ارتجفت يداي وارتعشت أناملي .. أمسكت بمقبض الباب .. آه .. كأنني أسمع من الخارج ابتهالات النساء بصوت موحد !!! ..
ترددت قليلاً ثم .. فتحت الباب ببطء .. توجهت أنظارهن إلي .. شد انتباهي ارتداء الجميع لحجاب الرأس .. ثم الابتهالات التي كن يرددنها خلف فتاة حسناء ذات صوت جميل ! .. ماذا يقلن ؟! ..
دققت النظر في الفتاة .. ثم في النساء .. وجدت مكاناً خالياً .. جلست .. امتعضت النساء من وجودي !! .. ما بهن ؟! .. أقبلت بعض النسوة مسرعـات إلي … أرى في نظراتهن استنكاراً لعمل ما عملته !!! .. همست إحداهن في أذني والجميع يرتقبن ردة فعلي وكأنني لست من البشر :
ـ إذا سمحتي يجب أن ترتدي حجابك على رأسك قبل الدخول ؟!
ـ لماذا ؟ .. هل سيدخل رجال هنا مثلاً ؟!
تبادلت النظرات اليائسة مع رفيقتها ثم قالت :
ـ بل لأنه مجلس ذكر ! .. والملائكة تفر من المجلس الذي تكون فيه امرأة غير مرتدية لغطاء الرأس .. اتسعت حدقتاي فقلت بتعجـب :
ـ وما شأن الذكر وقبوله بالحجاب ؟! .. إن الله يُذكر في أي حال ووضع ومكان ولا يشترط فيه الحجاب حتى يُقبل !!!
أجابت بنفاذ صبر :
ـ بل لن يستجيب الله لدعائنا .. ولن ينظر إلينا .. والملائكة لن تحضر مجلسنا ولن ترضى عن هذا !!
اعتذرتُ عن وضعه .. فيئستا مني وذهبتا حانقتين .. وعادت النساء تحدّقن بي وتتهامسن في وجودي .. ولكني لم أعد أكترث .. لقد يئست من كل شي .. فرضى الناس غاية لا تدرك ..
استمرت النسوة في الابتهالات .. فنظرت إليهن .. سمعتهن يقلن ألفاظاً غريبة :
ـ هو .. هو .. هو .. الله .. الله .. حي .. حي .. !!
ماذا يقصدن ؟ .. لا أفهم ماذا يفعلن !! .. لقد أخذ الوجد منهن مأخذاً عظيماً .. وبلغ التفاعل بينهن مبلغاً أعظم !!
تغير بعد ذلك المجرى .. فتناولت بعضهن الطار والدف والمزمار .. وأخذن ينشدن المدائح والقصائد الشعرية !! .. ما هذا التغيير المفاجئ ؟ .. وما هذا التناقض ؟ .. مدائح نبوية ومزامير ؟!!!!! .. آه .. أحسست وكأن مطرقة هوت على رأسي ! ..
قلت للمرأة التي تجاورني بلهجة أسف لم تخل من النقد :
ـ ما مناسبة هذا الاجتماع ؟
قالت باستغراب :
ـ إنه ذكرى لمولد النبي الشريف !!!
سألتها بفضول :
ـ وهل هو خاص بوقت معين ؟ .. فمولد النبي كان في شهر ربيع الأول في الثاني عشر منه .. وهو لا يصادف اليوم !!!
ـ آه نعم .. ولكن لا يشترط ذلك ! فهو يقام عند وجود أي مناسبة من موت أو حياة أو تجدد حال .. لم تسألين ؟! ألم تحضري مولداً من قبل ؟!
قلت بدون أن ألتفت إليها .. متجاهلة سؤالها :
ـ وما مناسبة اليوم يا ترى ؟!!
ـ لقد انتقلوا إلى هذا المنزل منذ وقت قريب .. وفرحاً بالمناسبة أقاموا اليوم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف !!! .. أحسست في هذه الوهلة بأني وحيدة .. فليس هناك عزلة أشد من عزلة الرأي .. ولا انفراد أقوى من انفراد العقيدة والدين .. نظرت إلى كفّي المعروقة .. مسحتها .. آه لحزنك يا قلباه .. ما أتعسك !!!
أقبلت صاحبات المنزل وقدمن الطعام .. وقد دعون إليه الأصدقاء والأقارب والقليل من الفقراء !!! ..
فأكلن وتلذّذن بالطعام .. أما أنا فقد اكتفيت بأكل القليل من الفاكهة ..
ما للوقت يمشي كئيباً .. بطيئاً ؟! زاد يقيني أن الذين حولي لا يشاركوني إحساسي بالاغتراب !!
رفعت رأسي نحو الحائط .. وجدت صوراً لطالما رأيتها في الكثير من المنازل .. إنها صور أوليائهم !! .. يتبركون بها !!
لقد نصبوها في المنازل كلها وكأنها أوثان تعبد .. ما الفائدة منها يا ترى ؟! .. هل يعتقدون فيها ؟ ..
هل تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً ؟! .. إنهم جاهلون .. غارقون في الوهم حتى الثمالة !!!!!
انتهت النساء من الطعام .. فجلسن للاستماع للأشعار المنشودة والترنم بالمدائح والشمائل المحمدية ومعرفة النسب الشريف .. ولكن مهلاً .. إن جل المدائح والقصائد التي أسمعهن يتغنين بها لا تخلوا من ألفاظ شركية إنهم يطرون الرسول الكريم كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ؟! .. هل أخبرهم بذلك ؟! ..
ولكني لن آمن العقاب ! .. ربـاه ساعـدني !!
طُرق البـاب .. استدرت نحوه بعينين أثقلهما النوم .. قلت بإعياء :
ـ من الطـارق ؟!
سمعت صوت أخت الزوج تستأذن بالدخول .. نظرتُ إلى الحائط .. الساعة الثانية عشر والنصف ظهراً ..
ساعتان مضتا منذ أن عدنا من البحر .. حلّقت أفكاري حول ما حدث اليوم ..
طرق الباب مرة أخرى .. أووه تذكرت !! وثبتُ واقفة وأدرت مفتاح الباب وقلت لها بإرهاق :
ـ تفضلي .. عذراً .. كنت نائمة ..
قالت بصوت ينم عن بهجتها الخفية :
ـ هل .. هل ستذهبين معنا اليوم ؟!!
ترددت برهة ثم ابتسمت وأنا أسألها بفضول :
ـ إلى أين ؟ هل سنتنزه قليلاً مثلاً ؟ أشعر بالضجر !
قالت بمكـر :
ـ لا أعلم .. لا أعلم .. ألم .. ألم يخبرك زوجك عن ذهابنا اليوم ؟
أحسست بانقباض في صدري لا أعرف له سبباً :
ـ لا يا عزيزتي .. حتى الآن لم يخبرني أحد إلى أين سنذهب ! ألا تعلمين !!!!!
بعد تردد أجابـت :
ـ لا أعلم .. أقصد .. حسناً أراكِ فيما بعد .. سوف .. حسناً أعتقد أن والدتي تناديني .. بالإذن .. !!!!
ما بها ؟ .. لم هي مرتبكة ؟ .. لا يهم أشعر برغبة في الاستلقاء وأخذ قسط من الراحة بعد القراءة .. قرأت قليلاً .. ثم أعدت وضع كتبي في الدرج الخاص بي .. وفيما أنا أفعل .. دخل الزوج :
ـ ماذا تفعلين ؟! ألم تنامي بعد ؟!
ـ سأفعل .. فضلت قراءة بعض الكتب .. سآخذ قسطاً من الراحة الآن ..
ـ قراءة بعض الكتب ؟! .. أي كتب تقصدين ؟!!
نهض من مكانه وشعرت بأنه يفضل الإطلاع على الكتب بنفسه .. لم أمانع .. من حقه أن يراها !
فتح الدرج .. أخرج الكتب .. امتقع وجهه وهو يقرأ العناوين بصوت خافت :
ـ الكلم الطيب لابن تيمية .. الأذكار للنووي .. جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم .. الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض .. فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية .. رسالة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في حكم الاحتفال بالمولد ……
صاح بي قائلاً وصدره يتأجّج غضباً :
ـ من أين جاءت هذه الكتب ؟!!
ـ جئت بها من منزل عائلتي .. ما بك ؟!!!!
اعترض على وجودها معي بإصرار :
ـ كان يجدر بك استشارتي في قراءة هذه الكتب السخيفة !!
ألقى نظرة إلى الكتب مرة أخرى وأضاف حانقاً وهو يلقي بها أرضا :
ـ كان بإمكاني أن أختار لك الكتب التي يجب عليك قراءتها والتدبر فيها ….. !!
إنه يتضايق كثيراً عندما أبدي اهتماماً بالغاً بالكتب والمطالعة !!!!!!
كرر حديثه مرة أخرى وقال بإصرار :
ـ لا أريد أن أرى هذه الكتب في الحجرة ولا في البيت بأكمله ! .. أنا سآتي لك بالكتب التي أرغب في قراءتك لها !
ابتسمتُ لهذه الفكرة وأجبت :
ـ ولكن لا أظن بأننا نفضل نوعية الكتب نفسها .. أليس كذلك ؟!
لم يجد أي تعليق يضيفه على كلامي سوى :
ـ لن تقرأي هذه الكتب مرة أخرى .. هذا أمر .. لا أريد تكرار الكـلام .. تخلّصي منها بأسرع وقت .. فهذه الكتب هي التي تغسل أفكارك .. وتحجّـر معتقداتك !!!
آه .. لا مجال للمناقشة .. لا أريد الدخول في حلقة مفرغة جديدة .. لن أنازعه .. قلت باستسلام :
ـ حسناً .. لك ما تريد .. سأحرقها إن أردت !!!
رأيت ومضياً راقصاً في عينيه !!
استيقظتُ على صوت آذان العصر .. ما زالت الكتب في مكانها !! .. أخذتها بسرعة .. خبأتها تحت السرير .. في مكان لن يراها فيه !
أيقظته .. قام كالملدوغ وهو ينظر إلى الساعة !! .. ما باله ؟! .. هل خاف أن تفوته صلاة العصر في المسجد ؟! .. مستحيل !!!!!! .. لم أسأله …
قال لي وعيناه ما تزالان مغمضتين :
ـ هيا بسرعة .. استعدي سنذهب بعد نصف ساعة .. لا تعتذري عن الذهاب .. لا أريد اعتراضات ! .. بسرعة سأذهب إلى أمي لأستحثها على الاستعداد بسرعة .. أمامـك متسع من الوقت .. تزيني بأفضل الملابس !!!! .. ثم .. خرج ..
ماذا يقصـد ؟ .. لم يخبرني أحد بأن هناك وليمة أو حفلة زفاف !!!
عــــاد ..
ـ هل أنت جاهزة ؟
ـ تقريباً ! .. ولكن أريد أن أصلي العصر أولاً .. انتظر ..
قال وكأنه قد تذكر شيئاً مهماً …
ـ آه ….. نسيت أن أصلي !! هيا سأصلي أمامك .. تراجعي إلى الخلف ..
قلت في نفسي : ( أين الصلاة في المسجد ؟ لماذا لا تلبّي داعي الله إلى المسجد .. واحسرتاه !!!! ) .
التفت إلي قبل أن يكبّـر وقال :
ـ هيا .. اجهري بنية الصلاة .. وبصوت مسموع .. كي أسمعـك .. ردّدي خلفي .. نويت أن أصلي لله تعالى أربع ركعات لصلاة العصر إماماً ..
ثم سكت .. رفعت حاجبي استغراباً .. وذهلت ! التفت مرة أخرى إلي وقال :
ـ ما بالك ؟! .. ألم تستمعي إلى قولي ؟!
قلت مذهولة :
ـ بلى !! .. ولكن الجهر بالنية والتلفظ بها ………
قاطعني بغضب :
ـ سنــة !! وليس بدعة كما تعتقدين .. هيا ردّدي ما قلته .. ألا تسمعين ؟!
ـ ولكني نويتها في قلبي مثلما نويت الوضوء الذي قبلها وهذا يكفي ! ..
ضرب كفّيه ببعضهما في نفاذ صبر وقال :
ـ وماذا بعد ؟ .. قلت لك تلفظي والآن أمامي .. أريد أن أسمع .. تبـاً لكم من وهّـابـيـن .. كل مستقيم تجعلونه أعوجـاً !! .. هيا انطقي بها ..
نطقت بها مكرهة ! .. فتظاهرت بالصلاة معه .. وقد كنت أصلي بمفردي .. آه .. لقد شككت حتى في صلاتي .. وهي ما أشعر فيها بالراحة والسعادة !!!
أنهينا الصلاة .. وعند التسليم لاحظت كفيه يتحركـان يمنة ويسرة .. ما باله ؟ لماذا يحركها مع التسليمة ؟ .. أردت السؤال فامتنعتُ .. لا أريد المزيد من الجدل .. تظاهرت بالتسليم معه حتى لا يقيم غضبه الدنيا .. فأنا لم أعد أحتمل .. كفاني .. قلت :
ألن تخبرني إلى مكان ذهابنا ؟
ـ ستعرفين فيما بعد .. لا نريد التأخر .. بقيت لنا عشر دقائق فقط .. أين ملابسي ؟
ـ جاهـزة .. ولكن أرجوك أخبرني .. إلى أين ؟ لا أعرف لماذا أنا غير مطمئنة .. !
تمالك نفسه وأراد الخروج فأوقفته :
ـ انتظر أرجوك .. أخبرني أولاً .. إلى أين ؟! إلى أين ؟!
أجاب وهو يبتعد خارجاً من الغرفة :
ـ سنذهب إلى مكان يقام فيه مولد نبوي .. هل اطمأننتي ؟
أوقفته مرة أخرى .. نظرت إليه بتشكك ووجل :
ـ مولد نبوي ؟! .. ماذا تعني بذلك ؟!!!
ـ لن أخبرك سترين بنفسك .. ستسعدين بحضوره .. والآن هيا حتى أغلق الحجرة .. تقدمي ..
أغلق الحجرة .. هرول هابطاً قبلي إلى الدور السفلي .. فكرت في كلماته ملياً .. ماذا يقصد ؟
هبطت السلالم ببطء شديد ! .. هل لهذه المناسبة ارتباط بمعتقدات الصوفية ؟!! .. لماذا لا يريد إخباري ؟ .. هناك شيء ما أجهله !!
قابلت أمه في البهو .. إنها بكامل زينتها .. وكذلك أخته !! نظراتها شاردة .. لا تريد أن تلتقي بنظراتي المرتابة !! .. لماذا ؟!
قالت الأم لابنتها بلطف وهي تتأملها :
ـ إنك جميلة يا ابنتي بهذا الثوب .. هل أخذتِ معك كل الكتب المطلوبة ؟
أجابت ابنتها وقد أشرق وجهها بابتسامة تنم عن فرحها بحضور هذه المناسبة :
ـ نعم يا أمي .. كل شي جاهز .. كتاب دلائل الخيرات .. والبردة .. وكتاب الغزالي .. ومجالس العرائس .. وكذلك أخذت معي .. الدفـوف .. والمزامير .. لا تخافي .. لم أنس شيئاً أمي !!
قلت في نفسي :
ـ عجباً .. عمّ تتحدثان ؟! .. كتبهم الدينية مع دفوف ومزامير ؟! .. ما هذا التناقض ؟!!!!! .. تذكرت بسرعة ما تحتويه تلك الكتب من زيغ وضلال .. عرفت إذاً أن ذهابنا لشيء ما غير سوي !!! ..
لا أريد الذهاب .. ولكن ستقلب الدنيا إن رفضت !!
واجهته قبل خروجه من المنزل .. وقلت له متوسلة :
ـ أرجوك .. لا أريد الذهاب .. أرجوك .. اذهب أنت وعائلتك .. سوف أنتظركم هاهنا ! .. أتركوني فأنا لن أستطيع الذهاب .. اذهبوا أنتم إلى أي مكان ترغبون !
ابتسم ابتسامة ماكـرة تحمل ألوان الدهاء والخبث :
ـ ألا تريدين الذهاب معنا يا عزيزتي ؟!! .. حسناً ..
صدقته وقد امتلأ قلبي بالفرح .. أخيراً فهم ؟!! أحسست بأني أطير في السماء من شدة الفرح والحبور .. ولكن للأسف .. وئدت تلك الفرحة للتو فلم تعرف النور !!!
كزّ على أسنانه بقوة .. ونطقت عيناه بالوعيد الذي عهدته لهما .. واحمـر وجهه غضباً .. وشعرت بحرارة أنفاسه الساخطة وهو يهمس بصوت يرعـد :
ـ لن أطيل الصبر في السيارة !! .. بسرعة تقدمي قبل أن أفقد صبري معك !!!!!!!!!!!!!
آه …. لا مجال أيضاً للمراوغة .. اضطررت للذهاب .. كم رجوتهم بأن يتركوني .. لهم دينهم ولي ديني .. لا فائدة .. ذهبت معهم ..
دخلنا في حـارة ضيقة مفتوحة الطرفين .. متعرجة .. طويلة .. مضاءة .. ذات طابع خاص .. أهم ما فيها الهدوء والنظافة ..
كنت مطرقة متجهمة بليدة في السيارة .. ولكني أدركت أنني على وشك أن أفقد كل شي !!
فاجأني صوت أمه تقول بابتهاج :
ـ هل أنتِ على ما يرام ؟!!
أومأت برأسي إيجاباً ولم أستطع الرد !
سوف تبتهجين معنا الليلة .. أليس كذلك ؟
أطرقت ساهمة .. ولم أجب ! .. فأمرني الزوج بأن أتحدث قائلاً وهو ينظر إلي من خلال مرآة السيارة الأمامية :
ـ ألم تسمعي ؟ .. ألستِ على ما يرام ؟! .. تكلمي !!
ـ بلى .. بلى .. على ما يرام .. على ما يرام .. !!
اقترب من والدته وبدأ الهمس الذي عهدته كثيراً في حضرتي بينهما .. فطلبت من الله العون والمساندة ..
كان صوتي كسيراً عندما نطقت .. فانزويت أحتضن حقيبتي وأغمضت عيني .. وكأنني غريبة مسافرة وحدي .. بيد أني اليوم بدأت أفكر في النهاية .. ووجدت نفسي أهتف :
ـ النهاية .. النهاية .. ترى ماذا ستكون ؟!!!!
توقفت السيارة أمام منزل متواضع .. رأيت الناس يتزاحمون في الدخول إليه ! ..
سترك يـا الله ! .. ما الذي سيفاجئني هنا أيضاً ؟!!
خرج الجميع فاستبقاني ! .. ماذا يريد الآن ؟! ألا يكفيه ما يفعله بي ؟ .. ألا يكفيه ما مضى ؟!!!
التفت نحوي .. كان قلبي يدق بعنف .. أنا لست مطمئنة لما يجري حولي !!
فقال بتشكك :
ـ أصلحي نيتك .. ولا تسخري من شي .. هل ستفعلين ؟!!
ـ نعم .. نعم سأفعل !
خرجتُ بسرعة .. أغلقت الباب بهدوء .. لم أنتظر المزيد من الحديث .. لقد سئمت .. تنهدت من الأعماق ..
شعر الزوج كأن سهماً بارداً اخترق حناياه حين رآني أهبط من السيارة دون أن أنظر إليه .. سمعته ينادي .. وينادي .. لم ألتفت إليه .. لم أوجّه إليه كلمة واحدة .. إنه لا يستحق .. لا يستحق .. لا يستحق !!!
وجدت أمامي سلماً طويلاً .. صعدته بتكاسل .. الحماس .. التحدي .. لم يعد لهما مكان لدي !!
دخلت إلى دورة المياه .. غسلت وجهي وكأنما أغسل أحزاني .. خرجت وقد نزعت عني حجابي .. سألت إحدى العابرات بصوت ضعيف :
ـ أين تجلس النســوة ؟!
ـ هنا .. من هذا الباب .. ثم اصعدي بعد ذلك إلى سطح المنزل .. ففيه سيقام المولد .. أسرعي قبل أن يبدأ !!
أمسكت دمعة كادت أن تفلت من عقالها .. ثم قلت :
ـ شكراً لك .. شكراً ..
كان السكون مخيماً جداً في الممر .. أخيراً وجدت باب السطح .. ارتجفت يداي وارتعشت أناملي .. أمسكت بمقبض الباب .. آه .. كأنني أسمع من الخارج ابتهالات النساء بصوت موحد !!! ..
ترددت قليلاً ثم .. فتحت الباب ببطء .. توجهت أنظارهن إلي .. شد انتباهي ارتداء الجميع لحجاب الرأس .. ثم الابتهالات التي كن يرددنها خلف فتاة حسناء ذات صوت جميل ! .. ماذا يقلن ؟! ..
دققت النظر في الفتاة .. ثم في النساء .. وجدت مكاناً خالياً .. جلست .. امتعضت النساء من وجودي !! .. ما بهن ؟! .. أقبلت بعض النسوة مسرعـات إلي … أرى في نظراتهن استنكاراً لعمل ما عملته !!! .. همست إحداهن في أذني والجميع يرتقبن ردة فعلي وكأنني لست من البشر :
ـ إذا سمحتي يجب أن ترتدي حجابك على رأسك قبل الدخول ؟!
ـ لماذا ؟ .. هل سيدخل رجال هنا مثلاً ؟!
تبادلت النظرات اليائسة مع رفيقتها ثم قالت :
ـ بل لأنه مجلس ذكر ! .. والملائكة تفر من المجلس الذي تكون فيه امرأة غير مرتدية لغطاء الرأس .. اتسعت حدقتاي فقلت بتعجـب :
ـ وما شأن الذكر وقبوله بالحجاب ؟! .. إن الله يُذكر في أي حال ووضع ومكان ولا يشترط فيه الحجاب حتى يُقبل !!!
أجابت بنفاذ صبر :
ـ بل لن يستجيب الله لدعائنا .. ولن ينظر إلينا .. والملائكة لن تحضر مجلسنا ولن ترضى عن هذا !!
اعتذرتُ عن وضعه .. فيئستا مني وذهبتا حانقتين .. وعادت النساء تحدّقن بي وتتهامسن في وجودي .. ولكني لم أعد أكترث .. لقد يئست من كل شي .. فرضى الناس غاية لا تدرك ..
استمرت النسوة في الابتهالات .. فنظرت إليهن .. سمعتهن يقلن ألفاظاً غريبة :
ـ هو .. هو .. هو .. الله .. الله .. حي .. حي .. !!
ماذا يقصدن ؟ .. لا أفهم ماذا يفعلن !! .. لقد أخذ الوجد منهن مأخذاً عظيماً .. وبلغ التفاعل بينهن مبلغاً أعظم !!
تغير بعد ذلك المجرى .. فتناولت بعضهن الطار والدف والمزمار .. وأخذن ينشدن المدائح والقصائد الشعرية !! .. ما هذا التغيير المفاجئ ؟ .. وما هذا التناقض ؟ .. مدائح نبوية ومزامير ؟!!!!! .. آه .. أحسست وكأن مطرقة هوت على رأسي ! ..
قلت للمرأة التي تجاورني بلهجة أسف لم تخل من النقد :
ـ ما مناسبة هذا الاجتماع ؟
قالت باستغراب :
ـ إنه ذكرى لمولد النبي الشريف !!!
سألتها بفضول :
ـ وهل هو خاص بوقت معين ؟ .. فمولد النبي كان في شهر ربيع الأول في الثاني عشر منه .. وهو لا يصادف اليوم !!!
ـ آه نعم .. ولكن لا يشترط ذلك ! فهو يقام عند وجود أي مناسبة من موت أو حياة أو تجدد حال .. لم تسألين ؟! ألم تحضري مولداً من قبل ؟!
قلت بدون أن ألتفت إليها .. متجاهلة سؤالها :
ـ وما مناسبة اليوم يا ترى ؟!!
ـ لقد انتقلوا إلى هذا المنزل منذ وقت قريب .. وفرحاً بالمناسبة أقاموا اليوم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف !!! .. أحسست في هذه الوهلة بأني وحيدة .. فليس هناك عزلة أشد من عزلة الرأي .. ولا انفراد أقوى من انفراد العقيدة والدين .. نظرت إلى كفّي المعروقة .. مسحتها .. آه لحزنك يا قلباه .. ما أتعسك !!!
أقبلت صاحبات المنزل وقدمن الطعام .. وقد دعون إليه الأصدقاء والأقارب والقليل من الفقراء !!! ..
فأكلن وتلذّذن بالطعام .. أما أنا فقد اكتفيت بأكل القليل من الفاكهة ..
ما للوقت يمشي كئيباً .. بطيئاً ؟! زاد يقيني أن الذين حولي لا يشاركوني إحساسي بالاغتراب !!
رفعت رأسي نحو الحائط .. وجدت صوراً لطالما رأيتها في الكثير من المنازل .. إنها صور أوليائهم !! .. يتبركون بها !!
لقد نصبوها في المنازل كلها وكأنها أوثان تعبد .. ما الفائدة منها يا ترى ؟! .. هل يعتقدون فيها ؟ ..
هل تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً ؟! .. إنهم جاهلون .. غارقون في الوهم حتى الثمالة !!!!!
انتهت النساء من الطعام .. فجلسن للاستماع للأشعار المنشودة والترنم بالمدائح والشمائل المحمدية ومعرفة النسب الشريف .. ولكن مهلاً .. إن جل المدائح والقصائد التي أسمعهن يتغنين بها لا تخلوا من ألفاظ شركية إنهم يطرون الرسول الكريم كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ؟! .. هل أخبرهم بذلك ؟! ..
ولكني لن آمن العقاب ! .. ربـاه ساعـدني !!
الصفحة الأخيرة
بحور 217
اشكر لكن المتابعه وفقكن الله ( حمستوني كثير احس فيه احد ينتظر قصتي )
الله يبارك فيكن ويجمعنا واياكن في جنات النعيم
والقادم احلى وافضل فتابعوا معي للنهايه