بسم الله الرحمن الرحيم
سأضحك ملء الحزن
المقدمة :
ليت أن القلم سباته في تواصل مع أناملي , وليت أني أضحك على غفوة منه في كل توسد لفكرة حتى يرتاح .
وليت أني خلف السطور أختبيء حتى لا يراني حزني المسفوك على طرقات أيامي .
وليت وليت ..
أني أولد ألف مرة قبل أن أرى بكائي ضحكاً وضحكي بكاء .
فقد عشت
لأضحك ملء الحزن
على شبه حياة ..
.
صباح الضامن
7/2/2006 م
الموافق 8 محرم /1427ه
إهداء
إلى حامل القلم
و إلى من يتنفس أثير الكلام فيغدو عليه السحاب فينديه فيطل طللاً
وإلى كل من يحسو من ماء الكلم ويخاف نضوباً .
إلى الذي يضحك ملء الحزن على حروف تخنق ..
ويحزن ملء الضحك على غلالات شرنقية النسيج بأيد تمسك المبضع للحرف فتذبحه فلا يخرج فراشاً مبثوثا .
إليهم ........
بعضاً من ضحكات .........بملء الحزن .
إلى كل الأدباء .......... مع التحية
--------------------------------------------------------------------------------------------------
صباح الضامن

صباح الضامن @sbah_aldamn
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.


سكارلت :
نتابع بشوقنتابع بشوق
4-
ساعات العمل المملة كان يقطعها بعض الحادثات الصغيرة .
كل ما كان يتمناه يحيى ألا يناقشوه في الأدب .
ثلاثة من رفاقه في الغرفة يعرفون عن الأدب كمعرفتهم عن سعر السكر والأرز في الجمعية التعاونية وعن ستار أكاديمي وآخر أغنيات السوق الهابطة .
إلا رجا ..
زميله الذي نقل من الدائرة لمشادة بينه وبين الرئيس المغيب عن كل تقدم فكري .
رجا المشاغب المتألق لا يعجب يحيى كثرة صراخه ومشاغبته ولكنه يشتاق لجلساته . وعلت سحابة وجهه لما استدعى آخر حوار بينهما قبل يومين :-
- أنت كضفدع الماء يا رجا .
- ولم كالضفدع ؟
- أرى الضفدع المائي لا فائدة ترجى منه يكثر من النقيق ولا يفيد أحداً .
- ومن أين جمعت معلوماتك البحرية يا أديب ؟
- أتسخر مني ؟
- لا معاذ الله ! فأنت ربان ما وراء البحار, وقائد سفين الكلم الطيب بلا نقيق , ورائد الخيال المجنح المخدر الغائب عن معارك النضال في دنيا ........
- كفى كفى أهذه نظرتك في ؟؟
- أنا أعلم يا صديقي أنك أديب راقي المنحى , عالي اللغة , لك القدرة الهائلة في تطويع اللفظ , سرمدي الوصال مع القمر, سامق العلو مع الوسن, مسافر بريبعك عن أرض لسماء, ملاح بسفينة فمرساتك قلم وصواريك رق وحلمك لؤلؤي مدفون بصدف هارب يوشوشك لما تصم القلب عن رعود خلفك ..و..
- وكفى ....حالم إذا أنا بعيد عنكم قريب من خرافات الوهم !
- صديقي أنت فهل أقفز من سور المجاملات لأرمي بقنبلة عبر حدودك حتى أجرح فيك النوم فتستيقظ ؟
- أمغيب أنا عن الواقع إلى هذا الحد ؟
- بل نائم هارب ....
- جديدة هذه النظرة
- قديمة كقدم قلمك .
لم يكملا الحوار فقد صدأت نفس يحيى فجأة لسماعه رأي رجا غير المتوقع .
تمنى يحيى أن يكون صديقه رجا الآن معه فالرعود تطرق الدائرة وتناثر الثلج الأبيض يراكم على نفس يحيى ثقلاً هائلاً , وكأن كل سقطة هي في نفسه فالدفء خارجاً وداخلاً لايسعف فما ران قد ران وأمامه مشوار اليوم العائد حيث..
رعود بشرية من زوجته , ووجوه نتاج عمره المصفر تنتظر جيوبه الثلجية لعل الربيع أسفلها يأت بفاكهة مثمرة أو جذوة من نار ..
وفي طريق العودة والحافلة تثاقل أرضاً بين بدايات الثلوج يتقدم أبو علي من يحيى ويجلس جواره بأعطافه المكتنزة التي تخفي المقعد وراءها , ولا تخفي نظرة مختلسة ليحيى تنم عن افتتاح جلسة من الحوار .
5-
رغم أن يحيى طويل القامة إلا أنه رأى نفسه جد ضئيلا أمام هذا المد اللحمي الضخم من أبي علي .
أبو علي .. مدير الأرشيف
شخصية جامدة كورق الأرشيف المرصوص المغبر . سطر هو بين السطور المقروءة غير المحبوبة لدى يحيى .
كل ما يعرفه يحيى عن أبي علي أن له ابنة من زوجته المتوفاة حديثاً , صبية في الثانوية وهذا كل ما يعرفه . ولا يدري لم لا يحبه ! ألأنه يعرف تاريخ عمله فهو سيد قابض على كل حكايا الدائرة !
أيكره يحيى أن يكون مكشوفا لغيره ؟!!
ربما ......
ويميل أبو علي على يحيى مفتتحاً حواراً ثلجياً :
- الجو بارد جداً ..
هز يحيى رأسه مؤيداً دون حروف من صانع الكلم .
- فصل الشتاء ضيق على الجميع رغم أنه فرج في نهايته .
وهز يحيى مرة أخرى موافقاً على بديهية الرجل وكأنه يعلن صراخاً مكبوتا أن قل ما عندك يا جاري فقد مللت .
- أود أن أحادثك بأمر يا يحيى .
- تفضل قالها يحيى متنفساً نافثاً زفيراً بارداً ثقيلاً .
- لي ابنة في الثانوية وهي في القسم الأدبي وبحاجة لمدرس خصوصي لها لتجتاز الامتحان فهل ترضى أن تعطيها الدروس بعد المغرب ..ما رأيك ؟؟
لم يدر يحيى بم يجيب وتلعثم ...
- ربما لا بأس لم لا ؟
- سأعطيك مبلغاً من المال على وقتك هل نبدأ اليوم ؟
هز يحيى رأسه .
لم يسأله كم ستعطيني
لم يسأله كم درساً تريد لم يسأله أين بيته ؟
فقط تذكر أولاده ووافق رأساً .
- هناك بيتي , اقتحم أبو علي صمت الأديب يحيى وأشار له سأنتظرك اليوم بعد صلاة المغرب , اتفقنا ؟
- اتفقنا , وصافحه ونزل من الحافلة مع عاصفة من الهواء البارد أثارها سكنت وجدان يحيى أشعلت فيه توقا مناقضاً لكل ما حوله ,
توقاً أن يحضن طفلته الصغيرة ويضع جديلتيها بين يديه ويقول لها :
- من أجلك يا ريما من أجلك فقط .........
وعند سفح الجبل الغربي وقف الباعة رغم الثلج الهطال يصرخون فأدموا نقاء التواجد الأبيض برغباتهم الحرى للبيع ليعودوا بدفء ليوتهم وقليل من عيش .
ويحبس يحيى مداد دمعه عنوة في ملفه الأخضر يقبض عليه دون أن يريقه فلا وقت لديه .
6-
لا طعام في الثلاجة ...ولا دفء في المدفأة
وجوه أولادك صفراء كورقك الأصفر.
ضجت كلماتها في أذنه تصر على أن تخوض في نفسه معركة حزن وترددت قدماه في الإسراع ليمر على بقالة جاره خليفة
ويتوقف !
هل سيقبل أن يعطيني اليوم بالدين أم سيزوي شفته الغليظة تذمراً ؟
وجمع يديه واضعاً جدائل ريما بينهما لتراق الدمعة على ذهبيتهما
فتقول :
- من أجلك يا ريما ..
ومن أجل ريما كانت النفس تذوب أمام خليفة وهي تحمل أكياس العدس والأرز والخبز والسكر .
ولتصمت زوجته قليلاً فيتركها مع إعداد طبق الأرز بالعدس الشهير ..
وعند بوابة قلبه وقفت الصغيرة ريما تطرق دفء الأب الحاني .
- آه كم تقت لك يا حلوة المذاق ويضمها يحيى , وتحيط بذراعيها النحيلتين رقبته قائلة :
- أبي ..
- نعم يا حلوة المذاق .
- لم لا تحضر لي الحلوى ؟
- سأفعل إن شاء الله
- وأريد ثوبا ً أيضا .
- سأفعل يا ريما .
وتوشوشه مقرقرة :
- أبي لقد زارنا خالي سعيد اليوم
خالي يقول لأمي قولي لزوجك أن يبيع قصصه . لم لا تبيعها يا أبي وتحضر لي الحلوى ؟
وابتسم يحيى .
تلك الابتسامة التي تزعج رجا فيصرخ دوما قائلاً :
- كم أكره أن يكون خاتمة حوارنا ابتسامتك هذه .
- لم ؟ بم توحي لك ؟
- مريرة هي أو ربما لتقول لي وما الحيلة ؟؟
فأنا لا أحب السكون ولا التقنع وراء ابتسام حزين ولا شعور العوز المسرف الذي يلف كينونة الرجال .
- ماذا تحب إذاً ... الصراخ ... العويل .. السرقة ...او بيع ال...؟
- أكمل بيع ماذا ؟؟ ماذا نبيع نحن الرجال في زمن قهر الرجال إننا في سوق شرس وعلى أبواب حكمة ضالة نقرض بأسنانا الضعيفة خشبية الحياة لندلف إلى غرفها ونعيش .
- أفئران نحن ؟
- بل نحن لدينا بضاعة لا نحسن عرضها .
- ماذا تعني ؟
- أنت تعرف ما أعني .
وخرج من صمته بقبلة من حلوة المذاق ريما تهزه فيها تسأله :
- هل ستبيع أبي قصصك لتحضر لي ........
ولم تكمل فالرعد على الباب يعلن وقت غذاء لم يسدد ثمنه .
يتبع


سكارلت :
نتابع بشوقنتابع بشوق
(7)
و كأن الثلج لم يقنع يحيى بأن الخروج للنادي مستحيل هذا العصر ,
ولا حتى حذاءه البالي أقنعه وهو يضرب دنياه بسخرية من كل مانع يمنع تواجده في نادي الأدباء.
هروب من كل شيء ليرمي نفسه في المكتبة ويغرق رأسه في الأجنحة المتكسرة وحلم خريف وسقوط عرش الكلام .
ومرة هي الأيام يا شعر القوافي
وحلوة هي العبارات يا خدر الجمل القمرية المشبعة أدباً المحلقة بعيداً عن تساكب مطر وتناحبه خارجا .
ستغفين يا نفس مع أحلامك قليلا ولا تستيقظي واقرأي سطر الحبور في لوعة عناق لما وراء الواقع .
وأمسك يحيى بقلمه ليبدأ في تحليق يكتب قصة بيع
بيع ماذا ؟ ماذا يريدون أن أبيع ؟
هز قلمه غاضباً ورمى به بعيداً ليعود بين يدي رجا :-
- ها هو ضحية سخطك رأيته فخشيت أن يرفع عليك قضية وأنت لا تملك في جيبك أجرة المحامي .
- ولا أملك أيضا ثمن الحلوى لريما ولا الثوب الذي تحلم به ولا جذوة نار لمدفأة ولا حياة ليوم لا مع القلم ولا بدونه .
- بل مع القلم تجد .
- كيف يا صاحبي الضفدع ؟
سأطلق النقيق عليك ولن يكون بلا فائدة , بع قصصك يا رجل .
- لمن ؟ دور النشر ترفض نشرها .
- صاحب تلك الدار أديباً كبيراً قرأها
قال لي :
- ويحك يحيى ما هذا الفكر الرائع
ويحك يحيى قرأت وقرأت حد الرواء أدباً من قلمك
ويحك يحيى لم لا تكتب دائماً فأنت محلق في سماءات الأدب
ولما طلبت منه نشرإنتاجي
قام ومشى وقعد ثم أدبر ثم أسفر ثم قام ثم قعد ثم قال وقد اختلطت دماء الحماسة ببرودة كلماته فأطفأت نبرته حتى لخلته قادماً من يوم لم يكن تاريخاً بل لعنة على كل قلم حملته
- ماذا قال ؟
وضحك يحيى
ضحك وضحك وقال لرجا :
- أرأيت ؟ أنا لم أبتسم بل ضحكت يا صديقي المشاغب ضحكت وسأقوم للرقص أيضاً .
- كفاك يحيى وقل ماذا قال لك ؟
- قال :
إسمع أيها الأديب العبقري , أدبك لا سوق له .
(8)
وعند مدفأة النادي المشتعلة وألسنة النار تحاول أن تلتهم برودة الحزن القابعة في قلبي الصديقين قال يحيى :
- أرأيت يا صديقي أدبي لا سوق له ؟
- ألم تناقش نفسك العلية لم ؟
ونظر يحيى لرجا لائماً :
- هل أنا المسؤول عن هبوط الأذواق يا أخي؟؟
هل أنا المسؤول عن تردي الأوضاع وضيق الأحوال الاقتصادية فمن سيقرأ أدباً وبطنه خاو.
- من يحادثه الأدب , من يقول له الأدب أنا معك , من يعرض له الأدب مرآة تعكس سفن خلاص في بحر واقع لا سحابات خيال .
- من أراد أن يحادثه الأدب فقد استطاع أن يشتري الكتاب .
ومن استطاع أن يشتري يذهب لخليفة بقروشه الضعيفة يكتب
في أكياس ورقية قصة جوع طفلة أو شحوب أم .
- كم تختزل الدنيا بهذا يا صديقي أو بدار نشر واحدة ؟ تحرك يا رجل .
- يا رجا تحركت .. ولكنهم يريدون كتباً وفكراً مثل الرقص في النوادي الرخيصة أتعلم قبل أيام قال لي أحد الناشرين , نكرة في عالم النشر ولا أدري من أين انبثق ؟
- ماذا قال ؟
- قال لي : يا أديب يحيى علمت انك أديب تكتب حكايات , تخيل هذا ؟؟ حكايات !! فقلت له نعم وابتسمت
- آه ابتسامتك الشهيرة
- كان يحتاجها
- أكمل
- قال لي سآخذ بعض حكاياتك أنشرها ولكن قبل ذلك سأعطيها لمنتج سينمائي .
- ماذا ؟ جيد هكذا تنتشر أكثر..
- ولكن ...
- ماذا ؟؟
- أريدك أن تضع بعض المشاهد العاطفية وقليلاً من القبلات وقليلاً من المشاهد في الملاهي الليلية وسنحضر أفضل راقصة على وجه الأرض وسترى يا يحيى ستصبح من ذوي الثروات ..ما رأيك لقد وافقت يا رجا !
- سأخنقك لو فعلت .
- وقال لي : خفف يحيى من نبرتك العالية , خفف من هذه الألفاظ التي لا يفهمها إلا أنت , خفف من نقدك اللاذع لأحوال الناس وال.........
خفف يحيى ..خفف تثقل جيوبك
هذا هو البيع الذي عرض علي فلم لا أبيع ؟!!
- لم لا تبيع فعلا يا يحيى؟ بع وكن من أصحاب الثروة واشتر لابنتك الحلوى والثوب ولكن تذكر أنها نقود مرة أو ..
- قذرة أليس هذا هو البيع الذي تريدون أن ألجأ له؟
- من أوحى لك يحيى بهذا أو كل الناس على شاكلة هذا الرجل ؟ إسمع لقد أتيتك اليوم ومعي مفتاح ذهبي .
- نعم كجدائل ريما حلوة المذاق ..
- نعم كجدائلها ..فاستمع لي يا صديقي الحالم الساخر .
(9)
وماذا سيسمع يحيى ..؟
كل ما كان يهمه أن يرى أدبه ينتشر , لقد تعرض كثيراً لنقد النقاد بسبب غموض بعض عباراته وعن إيغاله حينا بالرمزية وحتى أن بعضاً قد اتهمه بأنه يعيش في برج عاجي .
وتعدى نقدهم إلى تجريحه بأن اتهموا أدبه بترف خيال , وترف قلم فالفائدة المرجوة منه قطع الوقت ولإثراء اللغة بزخم الصور والتشابيه .
لم يكن نقداً منصفا في كل إنتاجه . لربما الآن نعم ولكن سابقا كان يحمل هماً دفيناً يسقيه من
حاضر مؤلم يتخبط فيه الكل , فانعكس أدبه إلى تصوير مر للواقع المتردي من فقر وانحلال واغتصاب للحقوق وضياع الهوية بأسلوبه غير المباشر و أحياناً بقلمه الساخر الذي أزعج الكثير.
و لم يعرف يحيى فك طلاسم النفوذ والنفاذ إلى معقل ليس بقدرته التنازل عند أبوابه .
فجنحوا إلى رفض كل ما يكتب حتى لا يصطدموا مع من يعطي رخصة العيش ..
فأسكن فكره غياهب أدراجه حتى لا يحرم حلوة المذاق أبسط أنواع العيش الذي يؤمنه لها هي وأخوتها وقبع يحلم .
ليس بقدرة يحيى أن يعطي فكراً متزناً يصور حالة مشوهة دون أن يضع مبضعه الجراحي من لفظ ساخر أو يحمل مرآة تكشف سوءات المتنفذين وأصحاب الجيوب المنتفخة على حساب الحملان .
وليس بمقدوره اختزال هم صنعه تمزق وتفرق واستعباد واستعمار وضغط يثقل على صدر الخلائق ويكتفي هو بإشارات مبهمة ونفاق خرفان لذئاب متسلطة , تلك الذئاب التي يرى مبسمها يقطر دماً من أخ له أو ابن عم أو جار بعد أو قرب .
ليس بمقدوره لا هذا ولا ذاك .
فلما رأى أن خبزه احترق وأقصي حرفه قصداً ودون قصد ,وحمل أوزار القوم وقلمت أجنحته الهائجة , قرر اللجوء للحلم .
ماأجمل الخدر
لا يطعمه
لا يسقيه
ولكنه أيضا لا يقتله ويقتل أطفاله .
هو هناك في زاوية بعيدة يقول لقلمه تعال فقد تصالح يحيى مع نفسه وعقد معها هدنة
ألا مساس..
لن تمس مناطق حمرية قانية
لن ترسف في قيودهم فحريتك لا تزعجهم .
فدغدغ رغائبه وتوقه للكتابة
بلا مساس ...
وكلما هبت رياح الحزن تحمل لواقح أمراض يعجز عن أن يئدها فيلجأ إلى مراعاة ضميره بقصص ومقالات في غرفة عمليات خاصة جداً ثم إنعاش ثم يقتل ظهورها ويخفيها في أدراجه .
لتبقى
بلا مساس ..
و كأن الثلج لم يقنع يحيى بأن الخروج للنادي مستحيل هذا العصر ,
ولا حتى حذاءه البالي أقنعه وهو يضرب دنياه بسخرية من كل مانع يمنع تواجده في نادي الأدباء.
هروب من كل شيء ليرمي نفسه في المكتبة ويغرق رأسه في الأجنحة المتكسرة وحلم خريف وسقوط عرش الكلام .
ومرة هي الأيام يا شعر القوافي
وحلوة هي العبارات يا خدر الجمل القمرية المشبعة أدباً المحلقة بعيداً عن تساكب مطر وتناحبه خارجا .
ستغفين يا نفس مع أحلامك قليلا ولا تستيقظي واقرأي سطر الحبور في لوعة عناق لما وراء الواقع .
وأمسك يحيى بقلمه ليبدأ في تحليق يكتب قصة بيع
بيع ماذا ؟ ماذا يريدون أن أبيع ؟
هز قلمه غاضباً ورمى به بعيداً ليعود بين يدي رجا :-
- ها هو ضحية سخطك رأيته فخشيت أن يرفع عليك قضية وأنت لا تملك في جيبك أجرة المحامي .
- ولا أملك أيضا ثمن الحلوى لريما ولا الثوب الذي تحلم به ولا جذوة نار لمدفأة ولا حياة ليوم لا مع القلم ولا بدونه .
- بل مع القلم تجد .
- كيف يا صاحبي الضفدع ؟
سأطلق النقيق عليك ولن يكون بلا فائدة , بع قصصك يا رجل .
- لمن ؟ دور النشر ترفض نشرها .
- صاحب تلك الدار أديباً كبيراً قرأها
قال لي :
- ويحك يحيى ما هذا الفكر الرائع
ويحك يحيى قرأت وقرأت حد الرواء أدباً من قلمك
ويحك يحيى لم لا تكتب دائماً فأنت محلق في سماءات الأدب
ولما طلبت منه نشرإنتاجي
قام ومشى وقعد ثم أدبر ثم أسفر ثم قام ثم قعد ثم قال وقد اختلطت دماء الحماسة ببرودة كلماته فأطفأت نبرته حتى لخلته قادماً من يوم لم يكن تاريخاً بل لعنة على كل قلم حملته
- ماذا قال ؟
وضحك يحيى
ضحك وضحك وقال لرجا :
- أرأيت ؟ أنا لم أبتسم بل ضحكت يا صديقي المشاغب ضحكت وسأقوم للرقص أيضاً .
- كفاك يحيى وقل ماذا قال لك ؟
- قال :
إسمع أيها الأديب العبقري , أدبك لا سوق له .
(8)
وعند مدفأة النادي المشتعلة وألسنة النار تحاول أن تلتهم برودة الحزن القابعة في قلبي الصديقين قال يحيى :
- أرأيت يا صديقي أدبي لا سوق له ؟
- ألم تناقش نفسك العلية لم ؟
ونظر يحيى لرجا لائماً :
- هل أنا المسؤول عن هبوط الأذواق يا أخي؟؟
هل أنا المسؤول عن تردي الأوضاع وضيق الأحوال الاقتصادية فمن سيقرأ أدباً وبطنه خاو.
- من يحادثه الأدب , من يقول له الأدب أنا معك , من يعرض له الأدب مرآة تعكس سفن خلاص في بحر واقع لا سحابات خيال .
- من أراد أن يحادثه الأدب فقد استطاع أن يشتري الكتاب .
ومن استطاع أن يشتري يذهب لخليفة بقروشه الضعيفة يكتب
في أكياس ورقية قصة جوع طفلة أو شحوب أم .
- كم تختزل الدنيا بهذا يا صديقي أو بدار نشر واحدة ؟ تحرك يا رجل .
- يا رجا تحركت .. ولكنهم يريدون كتباً وفكراً مثل الرقص في النوادي الرخيصة أتعلم قبل أيام قال لي أحد الناشرين , نكرة في عالم النشر ولا أدري من أين انبثق ؟
- ماذا قال ؟
- قال لي : يا أديب يحيى علمت انك أديب تكتب حكايات , تخيل هذا ؟؟ حكايات !! فقلت له نعم وابتسمت
- آه ابتسامتك الشهيرة
- كان يحتاجها
- أكمل
- قال لي سآخذ بعض حكاياتك أنشرها ولكن قبل ذلك سأعطيها لمنتج سينمائي .
- ماذا ؟ جيد هكذا تنتشر أكثر..
- ولكن ...
- ماذا ؟؟
- أريدك أن تضع بعض المشاهد العاطفية وقليلاً من القبلات وقليلاً من المشاهد في الملاهي الليلية وسنحضر أفضل راقصة على وجه الأرض وسترى يا يحيى ستصبح من ذوي الثروات ..ما رأيك لقد وافقت يا رجا !
- سأخنقك لو فعلت .
- وقال لي : خفف يحيى من نبرتك العالية , خفف من هذه الألفاظ التي لا يفهمها إلا أنت , خفف من نقدك اللاذع لأحوال الناس وال.........
خفف يحيى ..خفف تثقل جيوبك
هذا هو البيع الذي عرض علي فلم لا أبيع ؟!!
- لم لا تبيع فعلا يا يحيى؟ بع وكن من أصحاب الثروة واشتر لابنتك الحلوى والثوب ولكن تذكر أنها نقود مرة أو ..
- قذرة أليس هذا هو البيع الذي تريدون أن ألجأ له؟
- من أوحى لك يحيى بهذا أو كل الناس على شاكلة هذا الرجل ؟ إسمع لقد أتيتك اليوم ومعي مفتاح ذهبي .
- نعم كجدائل ريما حلوة المذاق ..
- نعم كجدائلها ..فاستمع لي يا صديقي الحالم الساخر .
(9)
وماذا سيسمع يحيى ..؟
كل ما كان يهمه أن يرى أدبه ينتشر , لقد تعرض كثيراً لنقد النقاد بسبب غموض بعض عباراته وعن إيغاله حينا بالرمزية وحتى أن بعضاً قد اتهمه بأنه يعيش في برج عاجي .
وتعدى نقدهم إلى تجريحه بأن اتهموا أدبه بترف خيال , وترف قلم فالفائدة المرجوة منه قطع الوقت ولإثراء اللغة بزخم الصور والتشابيه .
لم يكن نقداً منصفا في كل إنتاجه . لربما الآن نعم ولكن سابقا كان يحمل هماً دفيناً يسقيه من
حاضر مؤلم يتخبط فيه الكل , فانعكس أدبه إلى تصوير مر للواقع المتردي من فقر وانحلال واغتصاب للحقوق وضياع الهوية بأسلوبه غير المباشر و أحياناً بقلمه الساخر الذي أزعج الكثير.
و لم يعرف يحيى فك طلاسم النفوذ والنفاذ إلى معقل ليس بقدرته التنازل عند أبوابه .
فجنحوا إلى رفض كل ما يكتب حتى لا يصطدموا مع من يعطي رخصة العيش ..
فأسكن فكره غياهب أدراجه حتى لا يحرم حلوة المذاق أبسط أنواع العيش الذي يؤمنه لها هي وأخوتها وقبع يحلم .
ليس بقدرة يحيى أن يعطي فكراً متزناً يصور حالة مشوهة دون أن يضع مبضعه الجراحي من لفظ ساخر أو يحمل مرآة تكشف سوءات المتنفذين وأصحاب الجيوب المنتفخة على حساب الحملان .
وليس بمقدوره اختزال هم صنعه تمزق وتفرق واستعباد واستعمار وضغط يثقل على صدر الخلائق ويكتفي هو بإشارات مبهمة ونفاق خرفان لذئاب متسلطة , تلك الذئاب التي يرى مبسمها يقطر دماً من أخ له أو ابن عم أو جار بعد أو قرب .
ليس بمقدوره لا هذا ولا ذاك .
فلما رأى أن خبزه احترق وأقصي حرفه قصداً ودون قصد ,وحمل أوزار القوم وقلمت أجنحته الهائجة , قرر اللجوء للحلم .
ماأجمل الخدر
لا يطعمه
لا يسقيه
ولكنه أيضا لا يقتله ويقتل أطفاله .
هو هناك في زاوية بعيدة يقول لقلمه تعال فقد تصالح يحيى مع نفسه وعقد معها هدنة
ألا مساس..
لن تمس مناطق حمرية قانية
لن ترسف في قيودهم فحريتك لا تزعجهم .
فدغدغ رغائبه وتوقه للكتابة
بلا مساس ...
وكلما هبت رياح الحزن تحمل لواقح أمراض يعجز عن أن يئدها فيلجأ إلى مراعاة ضميره بقصص ومقالات في غرفة عمليات خاصة جداً ثم إنعاش ثم يقتل ظهورها ويخفيها في أدراجه .
لتبقى
بلا مساس ..
الصفحة الأخيرة
(1)
سأضحك ملء الحزن
صباح ينذر بمطر شديد أو ثلج كثيف بالرغم من ممارسة الشمس لعبة الاختفاء والظهور مع عيون أهل البلدة الكبيرة المليئة بكل التناقضات . و الجو في هذا اليوم يشك في ثباته , فها هي الشمس تطل تارة لتقنع ذوي الأعمال الحرة أن اسعوا بلا خوف من تبلل بضاعتكم الرخيصة . وتغريهم بتخطي حاجز التوجس لتضحك عليهم باختفاء وراء جيش قاس من سهام الريح النافذة إلى مخ عظمهم حاملة تلك الريح بهبوبها غطاء سماوياً كثيف الاسوداد . فيرتدوا متوجسين تعزز خوفهم غيمة سوداء تكشر عن نابها الأسود لتبدي قليلا من خداع شمس فيضيع توازن التوقع بيوم ماطر .
تلك هي بلدة يحيى العمر ..تقبع منسية في أطراف تاريخ وجغرافيا الوطن المليء بركامات الفقر والثراء . تراك تبصر بعين الحب اخضرار واحاتها الفتية فتهفو النفس لامتداد فكر يشبع من خيرها لتصدمك بأكوام القمامة حول برميل البلدية ( برميل النظافة ) .
تسير عالي الرأس تنظر لشموخ أبنيتها البنكية التجارية حتى تخال انك بطولها الممشوق المتلأليء مساحات في قلبك المحب لوطنك . فما أن ترخي أعنة جيادك الجامحة حباً لها حتى ترمد من مشهد متسولة عجوز ترتجف برداً من برودة زجاج الشواهق .
تلك هي بلدة يحيى العمر .. وفي زاوية محشورة غربها بيته الصغير بعمارة قديمة من إسكانات الدولة الكبيرة . بيت لا تشرق عليه شمس ولا تغزوه ريح دفيئة شرقية فهو القابع غرباً فكيف يشرق وتشرق .
وهو ككل من حوله يمارس لعبة التردد في الخروج اليوم فما يمنعه ليس ذاك المطر المتواري يتصيد المغامرين , ولا ذاك الثلج الذي يقف على قمة جبال البلدة ينتظر أول ضحية فينقض عليها . بل ذاك الحذاء..!!
نعم إنه الحذاء البالي الذي بات يحكي خطايا إسفلت البلدة الخشن وحجارة الجبل الغربي لما كان يحيى يتساقط من عليه . هو وكل ما سمحت له رجله من حمل لصغير الحجارة يدكها نزولاً سريعاً سريعاً ليلحق بحافلة العمل .
ذاك ما كان يؤرق يحيى ويحجمه عن المضي لعمله .... هز رأسه بتبلد اللامبالاة , وتأبط ملفه الأخضر القديم مصفراً في زواياه كورقة في أول الخريف, وتوكل على الله ليخرج رافعاً ياقة معطفه الجلدي القديم لأذنيه وما أن هم بالخروج ............... حتى سمع رعداً .
(2)
قصف .......وجلبة عالية ........ يا إلهي ابتدأ الجو بالسوء .
عاد يحيى لنافذة الصالة ليزيح ستارتها القديمة المهترئة فينظر , وعجباً!!
لا مطر !! حقا لا يرى الشمس ولكن ....لا مطر , أرعد دون مطر ؟! ربما يحصل هذا
زوى شفتيه واستدار ليخرج .
صوت الجلبة يخف قليلا ثم يعود قريباً منه , يبدو أنه قد توهم , لا..لا يمكن أن يكون واهماً فقد سمع صوتاً رهيباً كأنه الرعد .
هز رأسه فلا وقت فالحافلة على وشك الوصول , وإذا لم يلحقها فلن يسعفه حذاؤه البالي في الوصول إلى الدائرة إلا متأخراً .
آآه ويل قلبك يا يحيى من عبارات رئيسك الفاتنة أقل عبارة:-
- تحت الخط الأحمر يحيى ...تحت الخط الأحمر تُوقع متأأأأأأأأأأأأأأأأخر !!!!!
وسارع حتى لا يسمع صوت صفير الرئيس الصحراوي ولكن الصوت لا زال يقرع
في طبلة أذنيه .
ويقترب ويقترب ليقفز من هوله :-
- ويحك يحيى أما زلت هنا !!!!
آه ! ما أغباك يا يحيى ألم تتعود على رعودها بعد ؟ لو أن القلم بيدك الآن لوصفت حالتها بقطعة نثرية تهز رواق النادي ,
وسيضحك الجميع ........ليتخدر يحيى من كلمات الإعجاب من رفاقه :-
- رائع يحيى ...رائع ...كم تتقن رسم القذائف الكلامية في وجه زوجتك الورقي حتى يخيل أننا نرى ألوان الضربات كمساحيق من نوع غال الثمن لاتزول بسرعة .
ويبتسم يحيى للفكرة لتستيقظ ابتسامته على صوتها الرعدي , أجش هذه المرة من شدة الصراخ :-
- لم لا زلت هنا يحيى ؟؟؟ وما يهمك أنت ...ما يهمك لو خصموا عليك أنا من سيحتمل الخسارة أنا وأولادك
مايهمك أنت يا ........ وانطلقت كأنها إعصار
آخر ما سمعه يحيى كان :
- شتاء قاس ..مدفأة باردة .. ثلاجة بلا طعام ..وجوه أولادك الصفراء كأوراقك الأدبية يا
يا ....... يا يحيى خذ ورقك , خذ ملفك وسارع خطوك فالرعد فوقك وخلفك
سيحتمل حذاؤك هذه المرة سيحتمل
رغم أنفه .......
وينطلق يحيى نزولاً والقلب يسارع الدق مع أول طرقات المطر على معطفه الجلدي البالي ويضمه باحثاً عن دفء رحيم .
وتبدأ سيول الماء مع حصيات صغيرة تتعاون لا توقف مدها على قدميه الغارقتين بوحل دنياه ......ويختفي في آخر مقعد في الحافلة ليراقب المطر في داخله منساباً ببرودة حياة ,وينظر إلى ملفه الأخضر المحمي داخل معطفه الجلدي
- أنت أحسن حظاً مني أيها الملف
ويغمض عينيه يكتب في الهواء ما سيأتي ..
(3)
عند بوابة الدائرة الكبيرة وزرافات الموظفين الكادحين تتكتل أمام بائع الكعك ورائحة المطر والطين تبتلع أية رائحة , سارع يحيى حتى لا يكون تحت الخط الأحمر.
وتوحد مع مقعده الصغير على مكتبه الأصغر .
كان تلاحق المعاملات يقتحم سكون نفسه الخارجية بعبارات التشكي للروتين فتشوش ذهنه .
في كل مرة يقدم يحيى إلى مكتبه ويبدأ العمل يكون بجواره ملفه الأخضر بزواياه الصفراء
يخضع خاطراته فيه لتكون أسيرته فلا تفر مع صفير وزفير من حوله , ويدلي بإبداعه فذاك زاده .
ابتسم بمرارة لرائحة الكعك في الغرفة وللمتحلقين حول صحن الفول والحمص والبصل والفجل .وابتسم ثانية لمن أشار له بمشاركة الغزو فالمواد الإستهلاكية باتت تئن من الفقدان .
ورفض والخوف داخله من أن يعتبروه كالعادة خارج سربهم الغنائي ذي الأصوات غير المتناغمة من مضغ وقصف لصحون وشفط لأكواب الشاي المحمرة جنوناً.
آآآآآآآه حتى ممارسات كهذه في نفسه غير متزنة .
مابالك تبتسم لهم وداخلك كأنه قبر تحفره وتحفره ترمي به نفايات كهذه !!!
يقتحمون خلوتك المشمسة بإشراقات بهذه الرائحة التي تزكم أنف قلمك فيسعل على الورق متأثراً فلا يأت إلا بسخرية . وحتى بسمتك لهم صفراء تسعل ممروضة .
وكيف لاندفاقاتك أن تحيى هنا يا يحيى ؟؟ وكيف تبدع خطاب المشاعر الملونة طيفاً ورأسك مندس بينهم لترى انتهاء معمعة المضغ والضحك السخيف ؟؟
ومن بعيد هناك ..كان المراجعون من كل حدب ينسلون ينفضون رشات المطر من على معاطفهم على سلم الدائرة , فتخرج القطرات على أوراق ثمينة من أيام مراجعات مضنية
ويصيح من معاناتهم داخلاً ..داخلاً لا يخرج منك صوت واحد ...إياك ....حتى لا تعتبر محرضا ًعلى خمودهم . فاصمت في ورقك واصمت في خلوتك ,
ولا تنس وأنت تدفن ما ترى أن تكفنه جيدا ً,
ثم ابتسم فقد نجحت نجاحاً باهراً أن تكون كذاك الثلج المساقط علواً وعجباً أنت تساقط وأنت أسفل فكيف تقارن بمن يهطل من عل ٍ!
ادفن يحيى رأسك الكبير المثقل فكراً على ورقك فهناك الملاذ , ولا تكتب إلا حلماً مخدراً من وراء زجاج رؤيتك حتى لا يكون إلا ضبابيا لا يفهم .
واسترئف النسيم يحيى ... استرئفه وخذه في قلبك المتعلق بجمال عنقائي , وأعلن عنه في حروفك تأتي متهادية تقبل الورق الماثل في قلب قرائك فتغفو أمراضهم لحيظات المعانقة
وتولد لك من كل رحم مؤنسة قبلة وليدة تعشق النوم والسكوت .
فتتخدر فتنسى
أنك يحيى العمر
الموظف المطحون.. دنياك ورق وطعامك ليس ورقاً ..
يتبع