سبحانك ماأعظمك
فيصل الشدي
الحمد لله أبداً سرمدا، ولا نشرك معه أحد، تبارك فردا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا شريكا ولا عضدا، الحمد لله على نعمته، الحمد لله على منته، الحمد لله على حكمته، الحمد لله تلألأت بأجل المحامد أسماؤه، وتوالت بأسنى الهبات آلاؤه وتواترت بأبرك الخيرات نعماؤه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق العلي الكبير، تعالى في إلهيته وربوبيته على الشريك والوزير،وتقدس في أحديته وصمديته عن الصاحبة والولد والولي والنصير، وجل في بقاه وديمومته وغناه وقيمومته عن المطعم والمجير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السراج المنير، والبشير النذير أعظم رجل عظّم الله، وقدّس الله، وأجلّ الله، وأكبر الله، وهاب الله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين عظّموا الله.
الله أهل العظمة والكبرياء.. الله تفرد بالبقاء.. وجل عن الشركاء.. وأبدع كل شيء كما يشاء.
الله أهل العظمة والكبرياء.. الله أهل التسبيح والتحميد والتمجيد والتقديس والثناء.
سبحانه ما أعظم شانه.. سبحانه ما أدوم سلطانه.. سبحانه ما أوسع غفرانه.. سبحانه سبحت له السموات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها والأرض وسكانها، والبحور حيتانها، والسادات وعبيدها، والأمطار ورعودها، والأشجار وثمارها، والديار وأطلالها "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ"
سبحانك كل معترف بجودك، فإنك لفطرته خالق، ولفاقته رازق، وبناصيته آخذ، وبعفوك من عقابك عائذ، وبرضاك من سخطك لائذ، إلا الذين حقت عليهم كلمة العذاب.. فالقضاء فيهم نافذ.. ووالله ورب الكعبة لو سبحانك ليلاً ونهاراً وسرا جهارا ما بلغنا حقك وعظمتك ومجدك وكبريائك مثقال ذرة.
"فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"
سبحان من هو لا يزال مسبّحاً *** أبداً وليس لغيره السبحان
سبحان من لاشيء يحجب علمه *** فالسر أجمع عنده إعلان
سبحان من تجري قضاياه على *** ما شاء منها غائب وعيان
سبحان من هو لا يزال ورزقه **** للعالمين به عليه ضمان
سبحان من في ذكره طرق الرضى *** منه وفيه الروح والريحان
لماذا الحديث عن الله أهل العظمة والكبرياء؟ لأن الحديث عنه أعظم كلام، وأجمع كلام، وأحلى كلام، لماذا الحديث عن الله؟ لأن القرآن كله جاء في الحديث عنه في عظمته في خلقه في أمره في نهييه في قضائه في تصريفه في تدبيره.
لماذا الحديث عن عظمة الله؟ لأن عظمة العظيم العزيز الجبار ضعفت في قلوب كثير من البشر، فاعتدوا على محارم الله وطغوا، وفرطوا في جنب الله وبغوا، فضعفت في قلوبهم هيبة الله، وتناسوا سطوة الله، وتغافلوا عن جبروت الله، وما قدروا قوة الله وبطش الله، فها نحن اليوم نتكلم عنه والحياء يملأ وجوهنا، والخجل يعم قلوبنا، فمن نحن حتى نمدحه أو نمجده أو نثني عليه لكن نقدم العذر بين يديه أننا لا نستطيع أن نتكلم عن كل عظمته أو نحيط بها قدراً وعلماً، لكن حديثنا اليوم ما هو إلا ذرة في عظمته، وبيانا لهمسته من جلالته وهيبته.
الله أحق من مدح وأجل من ذكر وأعظم من عُبد:
"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ..."
فهذا الكون كله جباله ووديانه، صحراؤه وبحاره، كل هذا الكون إنما هو على أصابع القوي القهار يوم القيامة. ومن عظمته ما ورد في بعض الآثار الإسرائيلية يقول عز وجل: "أيؤمل للشدائد غيري والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم؟ ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات، وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ ومن ذا الذي أمّلني لنائبة فقطعت به؟ أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه؟ أو من ذا الذي طرق بابي فلم أفتح له؟ أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أليست الدنيا والآخرة، والكرم والفضل كله لي؟ فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟ لو جمعت أهل السموات والأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلّغت كل واحد منهم أمله، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، كيف ينقص ملك أنا قيّمه؟ فيا بؤساً للقانطين من رحمتي ويا بؤساً لمن عصاني، وتوثب على محارمي.
عظمة علم الله:
الله أكبر إذا كانت هذه المواهب والقدرات والفهوم والعقول هي خلق من خلقه، ورزق من رزقه فكيف بقدرة مانحها؟ وعلم معطيها؟ وعظمة واهبها.
علمه سبحانه علم من اطلع على السرائر، وكشف ما في الضمائر، وأحاط بالأول والآخر، والباطن والظاهر.. "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ".
سبحانه علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون،سبحانه الورقة تسقط بعلمه، الهمسة تنبس بعلمه، الكلمة تقال بعلمه، النية تعقد بعلمه، والقطرة تنزل بعلمه، والخطوة تنقل بعلمه، جاءت خولة بنت ثعلبة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها، تُسرّ إليه بحديثها وعائشة في ناحية الغرفة ما تسمع حديثها، وينزّل الله على رسوله "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ"، فماذا أمام عائشة أن تقول إلا: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات.
أرسل موسى إلى فرعون فشكا له موسى جبروت فرعون، وظلمه وبطشه فقال الله "إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى". بات نفر من المنافقين يحيكون الدسائس للمسلمين فأنزل الله "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً".
عظمته في كمال قهره وعزه وجبروته:
سبحان الله من سجد لعظمته العظماء، ووجل من خشيته الأقوياء، وقامت بقدرته الأرض والسماء، يا الله أي عظمة تلك في ملائكته، وأي خلقة تلك خلقتهم، جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُذن لي أن أتحدث عن ملك من ملائكة العرش قرناه عند عرش الرحمن، ورجلاه تخطان في الأرض السابعة، وما بين أذنه ومنكبه مسيرة سبعمائة عام".
يا الله هذا ملك من ملائكته عبد من عبيده فكيف بمالك الملائكة؟ جاء في الحديث: "خلق الله الملائكة أصنافاً وإن منهم لملائكة قياماً صافّين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعاً خشوعاً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجوداً منذ خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلّى الله تبارك وتعالى، ونظروا إلى وجه الكريم، قال سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".
وأي شيء تلك هي جهنم تجر يوم القيامة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، ما أعظم شفيرها وما أبعد قعرها وما أعظم خلقها، وما أشد بأسها "تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ" ومع هذا كله أي شيء هو خوفها من ربها، له خاضعة وبين يديه طائعة، في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم تقول هل من مزيد ؟! حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط، وعزّتك، ويزوي بعضها إلى بعض".
يا سبحانه ما أعظمه شديد القهر، عليّ القدر، المتكبر، "إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ"، "إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" من الذي أرغم أنوف الطغاة عداه، ومن الذي خفض رؤوس الظلمة سواه، أهلك الفراعنة، وكسر الأكاسرة، وقصر الأقاصرة، ومزق الجبابرة، شمخت عاد واستكبرت، واغترت وعلى العظيم تألّت، وقالوا من أشد منا قوة فأجابهم الله قولاً وفعلاً: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ".
نافع مانع قوي شديد *** قاصم ظهر كل باغٍ وعات
كم تألّى ذوو عناد وكفر *** فاستحالت عروشهم خاويات
كم أتى بطشه فأردى شعوباً *** لاهيات في دورها آمنات
وله الكبرياء هل من ولي *** غيره قد أباد كل الولاة
صمدية الله:
"قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ"
الله صمد تقصده الملوك إذا اضطربت الأمور، ووقع المحذور، وضاقت بالحوادث الصدور.
الله صمد ترتفع إليه أكف الضارعين تطلبه الغيث إذا تأخر نزوله، وتسأله الرزق إذا أبطأ حلوله، وترجوه رفع الضر إذا خيّم بظلاله، ومن للمبتلي إذا اشتدت بليته وأدلهمت كربته، وانعقدت غمته، من له غير الصمد يصمد إليه، من له غير الصمد يشكو إليه، من له غير الصمد يفضي إليه، من للمريض على فراشه إذا بارت الحيل، وانقطعت السبل، وضعف الأمل، وعم القلب الوجل، وقال الطبيب لا مفر قد حان الأجل، من له عندها إلا العظيم الصمد، صمد إليه وبكى بين يديه، وألح عليه، فإذا بالصمد يشافيه، ومن المرض يعافيه، وصدق وربي صدق يوم أن قال: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ".
الله صمد يصمد إليه الفقير إذا أوصدت أمامه الأبواب، وأسدل دون حاجته الحجاب، وألصق بطنه بالتراب، فيأتي الفرج من الصمد، ويأتي المخرج من الصمد، فيكتب غناه بقلم القدر، ويغنيه عن كل البشر، "وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ".
صمد تصمد البرايا إليه *** وأنيس الضمائر الموحشات
خالق رازق سميع مجيب *** ويداه تفيض بالأعطيات
عظمته في خلق الموت:
الموت مخلوق عجيب، شجاع يتسلق الجدران، ويصعد الحيطان، لا يُحتمى منه بقلاع، ولا يُمتنع منه بحصون، "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ"، زائر لا يستأذن، وليس له وقت معلوم، يدلف في السحر، ويقدم في الظهيرة، لا يرجئ الجائع حتى يشبع، ولا الظامئ حتى يروى، ولا النائم حتى يستيقظ، ولا المسافر حتى يقيم، "فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ" يصيّر الأفراح أتراحاً، والأنس حزناً، إذا اجتمع الوالد بولده وأنست الأم بأبنائها وطاب اللقاء وحصل الوصال إذا بالموت يدخل فجاءة! فيأخذ الأب، ويلتقم الأم، ويحمل الابن ليضعه في حفرة الموت، يأخذ الطفل وفمه في ثدي أمه، تصيح الأم، ينوح الأب، فلا يقف ولا يرجع، يحوز المرء المال فيفرح بتجارته، ويعدد ماله، ظن أن ماله أخلده، فإذا بالموت يضع خده على التراب، وينثر دنانيره، ويمزق أكياسه. إذا استوى الشاب على سوقه، وصلب عوده، وقوي متنه، واهتزت كتفاه، وترنح عطفاه، طرحه الموت أرضاً، هذا هو الموت لا يستحي، ولا من أحد يرعوي، "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ"، احتمى الملوك بالجنود فنجو إلا من الموت، "حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ"، يموت الكل إلا واحد، ويذهب الجميع إلا واحد، نعم، إنه الواحد الأحد أوجد الفناء، ليرث أهل الأرض والسماء، ولا يخلق الموت إلا عظيم ولا عظيم حق إلا العظيم سبحانه، "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".
عظمة لا إله إلا الله:
هي البداية والنهاية، هي قصة الحياة، وحديث العمر، لا إله إلا الله لها في القلوب هيبة، وفي النفوس جلال، تفتح بها أبواب علاّم الغيوب، وتغفر بها الذنوب، وتلين عند ذكرها القلوب، إذا قال العبد في الأرض: لا إله إلا الله، قال الله في السماء: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، هي فطرة الله التي فطر الناس عليها.
لا إله إلا الله، من أجلها قام سوق الجنة وسوق النار، وبسببها مد الصراط، وتطايرت الصحف، ووضع الميزان، ورفع علم الجهاد، وسقطت جماجم الأبطال، وطارت أرواح الشهداء، ولذّ طعم الموت.
لا إله إلا الله، لو هبطت على جبل لتصدع، ولو نزلت على صخر لتفجع، خير ما قال الأحياء، وأحسن ما ذهب به الأموات.
لا إله إلا الله، جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فصدقها أبو بكر ليكون صدّيق الأمة، وأيقن بها ليرجح إيمانه بإيمان الأمة كلها، واهتز لها قلب عمر فاهتزت الدنيا بيقينه، وأنصتت المعمورة لصوته، وذاقها عثمان فأنفق من أجلها طارفه وتليده، وتعلمها علي فلبس قميص يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وبآثارها غُسِّل حنظلة بين السماء والأرض، ولأجلها قال أنس إني لأجد ريح الجنة من دون أُحد، ولها أنشد جعفر يا حبذا الجنة واقترابها.
لا إله إلا الله، نافية للشركاء، مثبتة : "يا رب علمني دعاءًا أدعوك بهuللإلوهية والعبودية لفاطر الأرض والسماء، قال موسى وأناجيك. قال: يا موسى قل لا إله إلا الله، قال موسى: كل الناس يقولون لا إله إلا الله، قال: يا موسى لو أن السموات السبع والأرضين في كفّة، ولا إله إلا الله في كفّة، لمالت بهن لا إله إلا الله"، وروى الترمذي والنسائي وأحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً مثل مدّ البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ قال: فإنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء".
إشارات تدل على عظمة الله:
"قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ".
ويا عجباً كيف يُعصى الإله *** بل كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
إذا سكن الليل، وهدأت العيون، وغارت النجوم، ذكرنا عظمة الله، "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ".
إذا بزغ الفجر وسطع الضياء، وأشرقت الشمس ذكرنا عظمة الله، "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ".
إذا رأينا الجبال الشاهقة، والأعلام الشامخة، ذكرنا عظمة الله، "وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ".
إذا رأينا مملكة النحل وإبداعها، ومجموعات النمل وأنواعها، وكل ما خلق الله من مخلوقات عجيب، وحيوانات بديعة وهوام ودواب وفراش وزواحف وطيور وسباع وغيرها، ذكرنا عظمة الله.
تأمل سطور الكائنات فإنها *** من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خطّ فيها لو تأملت خطها *** ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها *** فصامتها يهدي ومن هو قائل
انظر إلى السماء وهيبتها، والنجوم وفتنتها، والشمس وحسنها، والكواكب وروعتها، والبدر وإشراقه، والفضاء برحابته، لترى ورب الكعبة جمالاً لا ينفد، وحسناً لا ينتهي، "فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ".
بل انظر إلى نفسك التي بين جنبيك،فيا سبحان من خلقك، وعلى ما شاء شكلك، وأسمعك وأبصرك، وأضحكك وأبكاك، وأضعفك وقواك، وأصبحك وأمساك، "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ".
كيف عظّموا الله؟!:
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صياماً ولا حجّاً ولا اعتماراً، لكنهم عقلوا عن الله مواعظاً، فوجلت منه قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسهم، وخشعت له جوارحهم، فقاموا في الناس بطيب المنزلة، وعلو الدرجة عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة.
نعم، هذا هم السلف لهم في جانب التعظيم أخبار وأخبار، أخمصوا البطون عن المطاعم الحرام تعظيماً لله، وأغمضوا الجفون عن مناظر الآثام تعظيماً لله، واجتنبوا قبائح الأفعال والكلام تعظيماً لله، فلله هم، فلله حياتهم، فلله هيبتهم من ربهم.
• هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل الأسيف البكّاء، سبق الأمة بإيمان عميق، وتصديق وثيق، لما حضرته الوفاة قالوا له: ألا ندعوا لك طبيباً؟ قال: إن الطبيب قد رآني، فقال: إني فعّال لما أريد.
• هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي وجهه خطّان أسودان من كثرة البكاء، عند وفاته يقول لابنه عبدالله: يا بني ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني، ثم قال بل ويل أمي إن لم يغفر لي، ويل أمي إن لم يغفر لي.
• وهذا سفيان الثوري رحمه الله طاف بالبيت الحرام، وصلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه فنظر إلى السماء فوقع مغشيّاً عليه خوفاً وخشيةً وإجلالاً ومهابةً لله، وكان شديد التفكر في عظمة الله وقدرته.
• هذا بلال بن رباح يوم أن عَمَر فؤاده بجلال الله، وعظمة الله، هان لديه كل عظيم.. يوضع في رمضاء مكة الحارقة، توضع الصخور الكبيرة على صدره وهو يهتف بنداء التعظيم أحد.. أحد.
• وهذا محارب بن دثار يقول أحد جيرانه: كنا إذا أظلم الليل، ونامت العيون، نسمع محارب بن دثار وهو يدعو ويرجو ويهتف ويبكي في ظلمة الليل، وهو يقول: يا الله أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، أنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، أنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، أنا الغريب الذي وصيته فلك الحمد، أنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، أنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، أنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، أنا السائل الذي أعطيته فلك الحمد، أنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد، فلك الحمد ربنا حمداً كثيراً على حمدٍ لك.
• وهذا عبدالرحمن بن يزيد قال: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينك لا تجف من البكاء؟ قال يزيد: إن الله عز وجل توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام كنت حريّاً أن لا يجف لي دمع.
عظمة رحمته وجوده وعفوه:
الله أرحم الراحمين، يعرض رحمته جلّ في علاه على عباده، ويحذرهم من القنوط منها: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ".
ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل وينادي: هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه.
غفر سبحانه لامرأة بغي من بني إسرائيل لما سقت كلباً يلهث من شدة العطش، وغفر لمن تاب بعدما قتل مائة نفس بغير حق لما علم صدق توجهه، وشكر لرجل وغفر لأنه أزاح غصن شجرة عن طريق الناس، وهو الذي قال وأثبت عن نفسه: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ".
وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يقول: اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني، ورحمتك وسعت كل شيء، وأنا شيء فتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين.
ولما خلق الخلق كتب في كتاب هو عنده فوق العرش "إن رحمتي تغلب غضبي".
روي أن أحد العابدين العارفين حدثت منه بعض الذنوب، فخرج هائماً على وجهه مهموماً حزيناً فرأى في أحد الطرق باباً قد فُتِح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكراً، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مغلقاً، فتوسد عتبة الباب ووضع خدّه عليها ونام، فخرجت أمّه، فلما رأته على تلك الحال، لم تملك أن رمت نفسها عليه، وإلتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي، أين تذهب عني؟ ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلتُ عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.
قارن هذا الحدث ورحمة الأم تلك بقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباد من الوالدة بولدها"، وما هو الظن عمن هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها؟ ما هو الظن إذا فرّ العبد إليه؟ وألقى نفسه طريحاً ببابه، يمرغ خده في ثرى أعتابه، باكياً بين يديه، يقول: يا رب يا رب، ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك، وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت معاذه وبك ملاذه.
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره *** ولا يهيضون عظماً أنت جابره
عظمته في إجابة الدعاء:
"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ".
الله أكبر إذا سألك الناس عن ربهم وخالقهم ومليكهم، فأخبرهم أنه قريب سميع مجيب، من دعاه لباه، ومن سأله أعطاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن ركن إليه قوّاه، ومن اعتزّ به قرّبه واجتباه، عرفه الأعرابي في فلاته، والسجين في زنزانته، والمبيتلى في بليته، والمكروب في كربته، والفقير في مسألته، والجائع في جوعته، والمظلوم في مظلمته، كل هؤلاء وغيرهم رفعوا إليه أكف الضراعة فإذا بالمجيب يسمع ويرى، ويأتي بالجواب "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ".
يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم *** يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا *** وأنت عينك يا قيوم لم تنم
هب لي بجودك فضل العفو عن جرمي *** يا من إليه أشار الخلق في الحرم
إن كان عفوك لا يدركه ذو سرف *** فمن يجود على العاصين بالكرم
هذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنّى أبا معلق، وكان تاجراً يتّجر بماله، ويضرب به الآفاق، وكان ناسكاً ورعاً، فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال له ضع ما معك فإني قاتلك،قال: ما تريد من دمي؟! شأنك بالمال، قال: أما المال فلي، ولست أريد إلا دمك، قال: أما إذ أبيت فذرني أصلّ أربع ركعات، قال: صلّ ما بدا لك، فتوضأ ثم صلّى أربع ركعات، فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعّالاً لما تريد، أسألك بعزّك الذي لا يرام، وعلمك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تقيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني.. يا مغيث أغثني.. يا مغيث أغثني.. فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه، فلما بصر باللص أقبل نحوه فطعنه فقتله، ثم أقبل إليه فقال: قم! فقلت: من أنت بأبي أنت وأمي؟ قد أغاثني الله بك اليوم، قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل الضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله، فسبحانه ما أعظمه، ملاذ السائلين، وملجأ القاصدين، ومجيب دعوة المضطرين.
إخوتي يا رعاكم الله، هذا هو الله أهل العظمة والكبرياء، هذا هو الله له الحمد والذكر والشكر والثناء، هذا هو الله تصمد إليه المخلوقات والأكوان والأرجاء.
هذا هو الله تفرد بالبقاء، هذا هو الله آياته ودلالات عظمته مبثوثة في مناحي الأرض وطبقات السماء وذرات الهواء، هذا هو الله عظمة الصالحون والأولياء، فضجوا إليه بالبكاء، ومدوا إليه الأيادي بالرحمة والدعاء.
ووالله وتالله وبالله إني أعترف بالعجز أمامكم، وكيف لي أن أتكلم عن العظيم..
تاه لبي وذاب قلبي لربي *** فهو حبي وسلوتي في حياتي
أنت أهل الثناء والمجد فامنن *** بجميل من الثناء المواتي
ما ثنائي عليك إلا امتنان *** ومثال للأنعم الفائضات
حبنا وامتداحنا ليس إلا *** ومضة منك يا عظيم الهبات
لو برينا الأشجار أقلام شكرٍ *** بمداد من دجلة والفرات
لو نقشنا ثناءنا من دمانا *** أو بذلنا أرواحنا الغاليات
ما أبنّا عن همسة من معان *** في حنايا نفوسنا ماكنات
أو أتينا لذرة من جلال *** أو شكرنا آلائك الغامرات
أي شيء يقوله الشعر لما *** يتغنى بخالق الكائنات

مصيبة موت العلماء
ابراهيم الدويش
الحمد لله على جزيل نعماه، أحمده سبحانه وأساله التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد، عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله،فمن اتقى الله وقاه،ومن توكل عليه كفاه، أيها المسلمون! ولذا كان ذهاب العلماء مصيبة على الناس وعلى الأمة كلها، خاصة في زمن الفتن والشهوات، وكثرة البدع والخرافات، فهم حراس العقيدة والدين، وهم مصابيح الدجى، وعلامات الهدى، وهم شمس الدنيا ونورها؛ فعن عبد الله بن عمرو هللا يضر هنع قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"متفق عليه.وعن أبي أمامة هللا يضر هنع ،عن رسول الله هللا ىلص ملسو هيلع أنه قال: ((خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ)) قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟! قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ:"ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ".ولقد كان شيخنا العلامة ابن جبرين رحمه الله من أفذاذ حملة العلم في زماننا، ومن نوادر العلماء العاملين في زماننا، لقد كان الشيخ كما عرفته عن كثب مدرسة قائمة لوحده، فقضى ما يقارب من ثمانية عقود في العلم والتعليم والتربية، والدعوة والفقه والإرشاد، لقد كان بحق نمطًا صعبًا من الرجال، نذر نفسه لله والدعوة، وإحياء السنة وإماتة البدعة، ونشر العلم،
ما زلتُ أذْكُرُ صَوْتَهُ يسري إلى أعماقنا بمودّةٍ وحنانِ
يُفتي وينصح مرشداً وموجّهاً ومعلّماً للناسِ دونَ تَوانِ
ياربّ قد أصغتْ إليكَ قلوبُنا وتعلّقتْ بك يا عظيمَ الشّانِ
"الشيخ مات" عليه أنْدى رحمةٍ وأجلّ مغفرةٍ من الرحمـنِ
لقد تميز الشيخ رحمه الله عن جميع أقرانه من العلماء المعاصرين، بميزة عجيبة نحن معاشر الطلاب والشباب بأمس الحاجة إليها اليوم، فقد تميز: بعزيمة وهمة علية، وبجلد عجيب لا يكاد يُصدق، فلا أبالغ أبداً إذا قلت أنه لا يعرف الكلل والملل، ولا يعرف التعب في العمل، لقد كان يُزينه صبر فولاذي لا يُرى له مثيلاً، وشاهد هذا: كثرة دروسه اليومية، وكثرة رحلاته العلمية والدعوية، فقد كان يجوب الأرض بطولها رغم أن الشيخ في الثمانين، لكنه يفوق بصبره وجلده من هو في الثلاثين، وله في ذلك حكايات وقصص يرويها من صحبه في رحلاته الدعوية والعلمية، وهي غير خافية على من عرف الشيخ، وجلس بين يديه.، وقد أثمرت هذه الرحلات أجيالاً وربت رجالاً، فما من مدينة وقرية وهجرة إلا وله فيها تلامذة وطلاب، منهم الكثير ممن يحمل الدكتوراه لكنهم يعتزون بما تلقوه من الشيخ أكثر من اعتزازهم بالشهادات العليا،حتى صار بعض تلامذة الشيخ وطلابه علماء نجباء كبار في حياته:
فقيدُ العلم في الناس الفقيدُ وحاضرُه المغيـّب والشهيدُ
يموت المرء بينـهم فينُـْسَى ويعقبه التنـكر والجحود
ويُقبض عالم فترى تراثــًا تقلبه القرون وتستعيد
تراث نبوة وتراث علــم وصاحبه هو الرجل الرشيد
هو الجبل الأشم يكون فيهم فَتَتَّزِنُ الحياة فلا تميـد
هو القبس الأتم يضيء فيهم فتنـتظم المسيرة لا تحيد
وهذا هو الأمر الثاني الذي تميز به الشيخ رحمه الله: فقد كان قبساً يضيء بسعة فقهه، والتيسير في الفتوى، وهذا من تمكنه في العلم ورسوخه فيه، وليس المراد بالتيسير هنا تتبع رخص العلماء وزلاتهم، فإن ذلك تلاعب بدين الله، وإنما أعني بالتيسير هنا التيسير الذي هو سمة من سمات الشريعة، وأصل من أصولها الأساسية، كقول الفقهاء:1-المشقة تجلب التيسير.2-إذا ضاق الأمر اتسع.3-الحاجة تنزل منزلة الضرورة، وغير ذلك من القواعد التي تُعبر عن سماحة الشريعة ويسرها،ولها أدلة كثيرة في نصوص الشرع،كقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.وعن عائشة رضي الله عنها قالت:«مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ هللا ىلص ملسو هيلع بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ - وَفِي رِوَايَةٍ:اخْتَارَ- أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ»إنه التيسير الذي دعت إليه الشريعة، ودلت عليه النصوص، رفعًا للحرج عن المكلف ما دام لا يصادم نصاً شرعياً، مراعاة للظرف والحال، والزمان والمكان والوضع الاجتماعي، والسياسي الذي حصلت فيه الواقعة ما دام أن هناك مخرجاً شرعياً يسنده دليل شرعي، ومن تتبع الهدي النبوي وجد ذلك جلياً في هديه.وعليه مشى الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، قال عمر بن إسحاق:"لمَنْ أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لمن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة، ولا أقل تشديداً منهم".وقال سفيان بن عيينة، عن معمر:"إنما العلم أن تسمع بالرخصة من الثقة، فأما التشديد فيحسنه كل واحد".وقال الشعبي:"إذا اختلف عليك الأمران، فإن أيسرهما أقرب إلى الحق"هكذا كان الشيخ رحمه الله في تيسيره فقيه عالم بأحوال الزمان مدرك لظروفه ومستجداته، وهو الراسخ في شتى العلوم، في الفقه، والأصول، والفرائض، والحديث والتفسير، فقد كان رحمه الله موسوعيًّا، وجبلاً في العلم، عجيب استحضاره للأدلة، وعجيب استنباطه للتعليل، فعلا كان عالماً ربانيًّا بشهادة الأمة وأهل العلم والفضل.ومن أهم ما تميز به رحمه:التواضع العجيب،ولين الجانب، والبساطة وعدم التكلف، وملازمة خشية الله، وكل هذا دليل على أن علم الشيخ كان علماً مثمرًا، فهذه الصفات ثمرات للعلم النافع.ومما يتميز به الشيخ أيضا وبرز فيه: الجرأة في كلمة الحق، وعدم الخوف في الله لومة لائم، فقد كان صريحًا كل الصراحة، لا يماري ولا يداهن، فالحق شعاره ودثاره، وهذه صفة العالم الرباني الذي لا يمكن أن يجعل العلم سلًّمًا لأغراض الدُّنيا، ونيل حطامها، من جاه وغنًى وشهرة وظهور وغيرها مما يُكدر صفو النية، وما أكثر ما يتميز به الشيخ رحمه الله،فقد كان مدرسة بحق بسمته وعلمه وحياته، ذكرت تلك المميزات وغيرها كثير للاعتبار والاستفادة، فحياة العلماء وسيرهم من أفضل منابع التربية ومدراس الأخلاق لطلاب العلم، وللشباب، بل ولكل الناس، فإذا كانت حياة هؤلاء الكبار نفعًا للأمة ونورًا لها، فإن في موتهم أيضاً حياةً للكثير، فقد حرك موت الشيخ في النفوس الهمة وشحذ العزيمة، وحرك الساحة العلمية والدعوية إلى بذل المزيد، ومحاولة سد الفراغ الكبير الذي تركه الشيخ في ميدان الدعوة، نسأل الله أن يرحم الشيخ رحمة واسعة، وأن يحشره في زمرة العلماء الربانيين، وهل مات من كان هذا سمته وآثاره وعلمه!
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
فالحمد لله الحي الذي لا يموت، توحَّدَ بالديمومة والبقاء، وتفرَّدَ بالعزة والكبرياء، وأحسن الله عزاء الجميع، فالمصاب مصاب أمة، فـإِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى"،وإنا لله وإنا إليه راجعون، إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنَا، فرحمك الله يا شيخنا فكل القلوب نارها تتأجج، وكل الألسن لك تلهج، فاللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا خيرًا منها، وحسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم ارحم الشيخ برحمتك، وأسكنه فسيح جنتك، واكتبه عندك في المحسنين، واجعل كتابه في عليين، واخلفه في أهله في الغابرين، اللهم اشكر حسناته، واغفر سيئاته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له برحمتك الأمن من عذابك،واكفه كل هول دون الجنة، اللهم وعد عليه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين ،اللهم لا تحرمنا أجره،ولا تفتنا بعده. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان،إخوة الإيمان: لقد وقف نبيكم محمد هللا ىلص ملسو هيلع على شفير قبر فبكى حتى بلّ الثرى ثم قَالَ: (( يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا)). وسأله رجلٌ فقال: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: ((أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ )). فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، نسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة أجمعين، وأن يخلف الأمة خيرًا، وأن يصلح أبناءها،وأن يجمع كلمة علمائها ودعاتها، وأن يؤلف بين قلوبهم. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:فاتقوا الله عباد الله، وطهروا قلوبكم فإن الله يطلع على القلوب والضمائر، وأكثروا من الأعمال الصالحة فاليوم عمَل، وغداً أمل، فاعمل ولا تمل، واستبقوا الخيرات، وأحسنوا، ولنملأ قلوبنا بحب الله، ولنتزود من تقوى الله خير زاد على الدوام، جعلني الله وإياكم من المتقين الأبرار، اللابسين لباس التقوى في الليل والنهار، إنه سميع مجيب عزيز غفار، اللهم أصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، اللهم واقض الدين عن المدينين، وفرج هم المهمومين، وصلي وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.والحمد لله رب العالمين .
ابراهيم الدويش
الحمد لله على جزيل نعماه، أحمده سبحانه وأساله التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد، عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله،فمن اتقى الله وقاه،ومن توكل عليه كفاه، أيها المسلمون! ولذا كان ذهاب العلماء مصيبة على الناس وعلى الأمة كلها، خاصة في زمن الفتن والشهوات، وكثرة البدع والخرافات، فهم حراس العقيدة والدين، وهم مصابيح الدجى، وعلامات الهدى، وهم شمس الدنيا ونورها؛ فعن عبد الله بن عمرو هللا يضر هنع قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"متفق عليه.وعن أبي أمامة هللا يضر هنع ،عن رسول الله هللا ىلص ملسو هيلع أنه قال: ((خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ)) قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟! قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ:"ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ".ولقد كان شيخنا العلامة ابن جبرين رحمه الله من أفذاذ حملة العلم في زماننا، ومن نوادر العلماء العاملين في زماننا، لقد كان الشيخ كما عرفته عن كثب مدرسة قائمة لوحده، فقضى ما يقارب من ثمانية عقود في العلم والتعليم والتربية، والدعوة والفقه والإرشاد، لقد كان بحق نمطًا صعبًا من الرجال، نذر نفسه لله والدعوة، وإحياء السنة وإماتة البدعة، ونشر العلم،
ما زلتُ أذْكُرُ صَوْتَهُ يسري إلى أعماقنا بمودّةٍ وحنانِ
يُفتي وينصح مرشداً وموجّهاً ومعلّماً للناسِ دونَ تَوانِ
ياربّ قد أصغتْ إليكَ قلوبُنا وتعلّقتْ بك يا عظيمَ الشّانِ
"الشيخ مات" عليه أنْدى رحمةٍ وأجلّ مغفرةٍ من الرحمـنِ
لقد تميز الشيخ رحمه الله عن جميع أقرانه من العلماء المعاصرين، بميزة عجيبة نحن معاشر الطلاب والشباب بأمس الحاجة إليها اليوم، فقد تميز: بعزيمة وهمة علية، وبجلد عجيب لا يكاد يُصدق، فلا أبالغ أبداً إذا قلت أنه لا يعرف الكلل والملل، ولا يعرف التعب في العمل، لقد كان يُزينه صبر فولاذي لا يُرى له مثيلاً، وشاهد هذا: كثرة دروسه اليومية، وكثرة رحلاته العلمية والدعوية، فقد كان يجوب الأرض بطولها رغم أن الشيخ في الثمانين، لكنه يفوق بصبره وجلده من هو في الثلاثين، وله في ذلك حكايات وقصص يرويها من صحبه في رحلاته الدعوية والعلمية، وهي غير خافية على من عرف الشيخ، وجلس بين يديه.، وقد أثمرت هذه الرحلات أجيالاً وربت رجالاً، فما من مدينة وقرية وهجرة إلا وله فيها تلامذة وطلاب، منهم الكثير ممن يحمل الدكتوراه لكنهم يعتزون بما تلقوه من الشيخ أكثر من اعتزازهم بالشهادات العليا،حتى صار بعض تلامذة الشيخ وطلابه علماء نجباء كبار في حياته:
فقيدُ العلم في الناس الفقيدُ وحاضرُه المغيـّب والشهيدُ
يموت المرء بينـهم فينُـْسَى ويعقبه التنـكر والجحود
ويُقبض عالم فترى تراثــًا تقلبه القرون وتستعيد
تراث نبوة وتراث علــم وصاحبه هو الرجل الرشيد
هو الجبل الأشم يكون فيهم فَتَتَّزِنُ الحياة فلا تميـد
هو القبس الأتم يضيء فيهم فتنـتظم المسيرة لا تحيد
وهذا هو الأمر الثاني الذي تميز به الشيخ رحمه الله: فقد كان قبساً يضيء بسعة فقهه، والتيسير في الفتوى، وهذا من تمكنه في العلم ورسوخه فيه، وليس المراد بالتيسير هنا تتبع رخص العلماء وزلاتهم، فإن ذلك تلاعب بدين الله، وإنما أعني بالتيسير هنا التيسير الذي هو سمة من سمات الشريعة، وأصل من أصولها الأساسية، كقول الفقهاء:1-المشقة تجلب التيسير.2-إذا ضاق الأمر اتسع.3-الحاجة تنزل منزلة الضرورة، وغير ذلك من القواعد التي تُعبر عن سماحة الشريعة ويسرها،ولها أدلة كثيرة في نصوص الشرع،كقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.وعن عائشة رضي الله عنها قالت:«مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ هللا ىلص ملسو هيلع بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ - وَفِي رِوَايَةٍ:اخْتَارَ- أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ»إنه التيسير الذي دعت إليه الشريعة، ودلت عليه النصوص، رفعًا للحرج عن المكلف ما دام لا يصادم نصاً شرعياً، مراعاة للظرف والحال، والزمان والمكان والوضع الاجتماعي، والسياسي الذي حصلت فيه الواقعة ما دام أن هناك مخرجاً شرعياً يسنده دليل شرعي، ومن تتبع الهدي النبوي وجد ذلك جلياً في هديه.وعليه مشى الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، قال عمر بن إسحاق:"لمَنْ أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لمن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة، ولا أقل تشديداً منهم".وقال سفيان بن عيينة، عن معمر:"إنما العلم أن تسمع بالرخصة من الثقة، فأما التشديد فيحسنه كل واحد".وقال الشعبي:"إذا اختلف عليك الأمران، فإن أيسرهما أقرب إلى الحق"هكذا كان الشيخ رحمه الله في تيسيره فقيه عالم بأحوال الزمان مدرك لظروفه ومستجداته، وهو الراسخ في شتى العلوم، في الفقه، والأصول، والفرائض، والحديث والتفسير، فقد كان رحمه الله موسوعيًّا، وجبلاً في العلم، عجيب استحضاره للأدلة، وعجيب استنباطه للتعليل، فعلا كان عالماً ربانيًّا بشهادة الأمة وأهل العلم والفضل.ومن أهم ما تميز به رحمه:التواضع العجيب،ولين الجانب، والبساطة وعدم التكلف، وملازمة خشية الله، وكل هذا دليل على أن علم الشيخ كان علماً مثمرًا، فهذه الصفات ثمرات للعلم النافع.ومما يتميز به الشيخ أيضا وبرز فيه: الجرأة في كلمة الحق، وعدم الخوف في الله لومة لائم، فقد كان صريحًا كل الصراحة، لا يماري ولا يداهن، فالحق شعاره ودثاره، وهذه صفة العالم الرباني الذي لا يمكن أن يجعل العلم سلًّمًا لأغراض الدُّنيا، ونيل حطامها، من جاه وغنًى وشهرة وظهور وغيرها مما يُكدر صفو النية، وما أكثر ما يتميز به الشيخ رحمه الله،فقد كان مدرسة بحق بسمته وعلمه وحياته، ذكرت تلك المميزات وغيرها كثير للاعتبار والاستفادة، فحياة العلماء وسيرهم من أفضل منابع التربية ومدراس الأخلاق لطلاب العلم، وللشباب، بل ولكل الناس، فإذا كانت حياة هؤلاء الكبار نفعًا للأمة ونورًا لها، فإن في موتهم أيضاً حياةً للكثير، فقد حرك موت الشيخ في النفوس الهمة وشحذ العزيمة، وحرك الساحة العلمية والدعوية إلى بذل المزيد، ومحاولة سد الفراغ الكبير الذي تركه الشيخ في ميدان الدعوة، نسأل الله أن يرحم الشيخ رحمة واسعة، وأن يحشره في زمرة العلماء الربانيين، وهل مات من كان هذا سمته وآثاره وعلمه!
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
فالحمد لله الحي الذي لا يموت، توحَّدَ بالديمومة والبقاء، وتفرَّدَ بالعزة والكبرياء، وأحسن الله عزاء الجميع، فالمصاب مصاب أمة، فـإِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى"،وإنا لله وإنا إليه راجعون، إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنَا، فرحمك الله يا شيخنا فكل القلوب نارها تتأجج، وكل الألسن لك تلهج، فاللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا خيرًا منها، وحسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم ارحم الشيخ برحمتك، وأسكنه فسيح جنتك، واكتبه عندك في المحسنين، واجعل كتابه في عليين، واخلفه في أهله في الغابرين، اللهم اشكر حسناته، واغفر سيئاته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له برحمتك الأمن من عذابك،واكفه كل هول دون الجنة، اللهم وعد عليه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين ،اللهم لا تحرمنا أجره،ولا تفتنا بعده. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان،إخوة الإيمان: لقد وقف نبيكم محمد هللا ىلص ملسو هيلع على شفير قبر فبكى حتى بلّ الثرى ثم قَالَ: (( يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا)). وسأله رجلٌ فقال: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: ((أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ )). فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، نسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة أجمعين، وأن يخلف الأمة خيرًا، وأن يصلح أبناءها،وأن يجمع كلمة علمائها ودعاتها، وأن يؤلف بين قلوبهم. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:فاتقوا الله عباد الله، وطهروا قلوبكم فإن الله يطلع على القلوب والضمائر، وأكثروا من الأعمال الصالحة فاليوم عمَل، وغداً أمل، فاعمل ولا تمل، واستبقوا الخيرات، وأحسنوا، ولنملأ قلوبنا بحب الله، ولنتزود من تقوى الله خير زاد على الدوام، جعلني الله وإياكم من المتقين الأبرار، اللابسين لباس التقوى في الليل والنهار، إنه سميع مجيب عزيز غفار، اللهم أصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، اللهم واقض الدين عن المدينين، وفرج هم المهمومين، وصلي وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.والحمد لله رب العالمين .

وبالوالدين احسانا
ابراهيم الدويش
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه،صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .أما بعد أيها المسلمون: أقف متأملاً متعجباً مع قول الحق عز وجل:"واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا" ،كيف قرن حق الوالدين بحقه جلا وعلا ،فعطف الإحسان على الوالدين ،بأعظم غاية خلق الناس من أجلها وهي عبادته وتوحيده ،فيا الله ما أشد غفلتنا عن هذه العبادة العظيمة فليس شيء أعظم بعد التوحيد من القيام بحق الوالدين، إنها وصية الله تعالى للأبناء:"ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها" وقال سبحانه:"ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن" أي جهداً على جهد:في الحمل ثم الولادة،ثم العناية والرضاعة،ثم التربية والرعاية،"أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير" قال ابن عباس:لا يقبل الله الأولى حتى يعمل بقرينتها،فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه،أسمعتم معاشر الأبناء: من شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه ؟! بل إن الله لا يرضى على العبد حتى يرضى والداه عليه،وقد أكد هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال:"رضا الرب من رضا الوالد، وسخط الرب من سخط الوالد"رواه البخاري في الأدب المفرد. ولم العجب أيها الأبناء! إنه دين الإحسان،وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان،أبوان ضعيفان ، شقيا لتسعد،وسهرا لتنام، وجاعا لتشبع ،وتجرعا الآلام ، أبوك يكدح في الليل والنهار، ويُفني السنين والأعمار ،عليك يغار ويدفع عنك الأخطار،وأما أمك فليس حقها واحد بل أمك وأمك وأمك ،حملتك كرهاً على كره ،ووهناً على وهن ،تسعة أشهر تسكن في أحشائها،وتتغذى من دمها وآلامها،ولذا فقد حكم الله وأمر وألزم الأبناء،باللين والرفق والإحسان للأباء،بكل ما تحمله هذه المباني،من مقاصد ومعاني،فجاء الحكم الرباني،والأمر القرآني:"وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما،واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً " سبحان الله آية في غاية الرقة والاستعطاف،"فلا تقل لهما أف" ،"واخفض لهما جناح الذل"،وهل للذل جناح ،وهل هناك كلمة أقل من (أف)،فأف ثم تف لأولئك العاقين الذين نسمع عن مواقفهم مع آبائهم ،وكلماتهم لأمهاتهم !! تصور أن للذل جناح وقد خفضته وفرشته على الأرض ليطئه الأبوان ،ذل لهما وخضوع مهما بدرا منهما، ومهما أخطأا أو فعلا ،ومهما ضربا أو غضبا، وإن كان عاصيين أو فاسقين ،بل حتى أو كافرين ،فإن أمراكا بمعصية الله فلا تطعهما ولكن لا تُغضبهما بل صاحبهما في الدنيا معروفاً "وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً"سبحان الله إنها عظمة القرآن ،وآداب دين الإسلام،قال ابن عباس:لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار. (الطبري15/48 ).وقال مجاهد في قوله تعالى:"ولا تقل لهما أف": إن بلغا عندك من الكبر فيبولان ويخريان فلا تتقززهما،ولا تقل لهما: أف،وأمط عنهما الخراء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيراً ولا يتأففان.فأف وأف وأف لمواقف نسمعها ،وأخبار نقرأها،غريبة على مسامعنا،دخيلة على مجتمعنا،تنكرها قلوبنا،وتتألم لها نفوسنا،تحرق أكبادنا ،وتُدمع عيوننا،تحقيقات كثيرة تلك التي وقفت عليها في عدد من الصحف والمجلات ،يبث فيها الأباء والأمهات همومهم وأحزانهم ،لا أدري كيف أبدأ ،ولا ماذا أختار منها ؟ففي الصفحة الواحد عشرات الآهات،فكيف بالصفحات،بل كيف بالوقائع والأحداث التي نعرفها ونقف عليها:ففي الخط العريض نقلت إحدى الصحف صرخات أم تطلب بر ابنها قبل أن توافيها المنية،وشبهته بالريح الهوجاء وحذرته من عقوق أبنائه ،ومما قالت:"..إن دموع جميع الأمهات تشاركني الآلام والعذاب الذي سببته لي في حياتي يا آلمي،ولن أقول :أملي ..،لقد تفننت معي في أنواع العذاب،سهري أثناء وجودك، قلقي أثناء سفرك،واستعطافي ورجائي لك وأنت أمامي وبقربي،طحنت حبيبات قلبي بعنادك وكبريائك،واستنفدت دموع عينيَ حتى بدأ يخبو نورهما،فأصبحت لا أكاد أحتمل،مزقت مشاعري وأحاسيسي فأصبحت تائهة الفكر لا أكاد أجمع أمري ،ماذا أبقيت لي ؟أطفأت شمعة شبابي،وسرقت الضحكة والبسمة من شفتي ،فتساوت الأفراح والأحزان عندي..إلى أن قالت: ابني حبيبي فلذة كبدي إلى متى أنت تركض وأنا ألهث خلفك ؟وأنت تُحطم وأنا ألملم ما بعثرته ..وختمت بقولها: أخوف ما أخاف عليك أن تُرزق بأبناء يُسقونك الكأس نفسها التي سقيتني منها مضافاً إليها ألمك وحزنك وحسرتك عليَ حين تطلب الصفح فلا تجدني أمامك ..". ووقعتها بكلمة (أمك). وأم أخرى في الستين تقول: أعيش حياة قاسية في رعاية أولادي فكل واحد منهم لا يتحمل وجودي معه في المنزل أكثر من أسبوع ليستقر الحال بي عند أكبرهم الذي خصص لي الملحق الخارجي للسكن،وتتابع والدموع في عينيها:الطعام يقدم إلي في أطباق من ورق وكأنني مصابة بمرض خطير،ما زلت أعاني من هذا السجن ،ولكن أشكر جارتي التي مازالت تقوم علي رعايتي ونظافتي الشخصية فأنا لا أقوى على الحركة.(الرياض 25/4/1423هـ عدد 12430) .وتقول إحدى الأخوات : بعد أن وضعت أمها ذي الخمسة والستين سنة في دار العجزة : لقد عاشت والدتي حياتها بما فيه الكفاية والآن أصبح الدور لأبنائي فقط ؟! آهٍ على البر والأخلاق، إنه العقوق ، ولكن كما قال (ص) :"لتؤدَّن الحقوق يوم القيامة .." ؟! إنها الأم كلمة يخفق لها الوجدان ،الطريق إلى رضا الرحمن ،وإلى الجنة دار الرضوان، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما:"إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة.(الأدب المفرد للبخاري)، فما الذي أستطيع أن أفعله يا أماه لأرضيك ؟وما الذي أستطيع أن أقدمه لأواسيك وأسليك ،فمهما صنعت وربي فلن أستطيع أن أُوفيك أو أجزيك ؟
يا مقلةً سهرتْ ..يادمعةً سُكبتْ يا أنةً جَمُدَتْ من حرِّها النار
أفديك أماه يا نبضَ الهوى بدمي إن كنت لؤلؤةً فالقلب محّار
رباه لا تحرمَنِّي حسنَ طلعتها مالي إذا فُقدت عيناي إبصار
أماه يا بسمةَ الدنيا وزينتَها مشاعري من شموخ الحب تنهار
أنت المليك لكم عرشٌ ومملكةٌ بساح قلبي وتيجانٌ وأسوارُ
أنت السواد بعيني أنت دفء دمي أنت الهوى لقِفَارِ القلب أمطار
أنا الجَحود نسيت الجود من يدكم إني بفضلك يا أماه كفَّار
رضاك عني مُنَى نفسي وغايتها واللهُ ـ إن تغفري يا أم ـ غفار
عباد الله :أما الأباء فيقول أحد هم وقد بلغ ستين عاماً: أولادي عاملوني كالطفل ثم طردوني فأصر عليَ سائقي الهندي أن أقيم معه في عزبته ، واهتم بي كثيراً حتى تمنيت أنه ابناً لي؟! (الرياض عدد12430) .
()وآخر يقول : أخبرني الطبيب بالحقيقة المرة وهي: أن أبنائي رفضوا الحضور لإخراجي من المستشفى وطالبوا بتحويلي لدار المسنين ،فأصر جاري على إخراجي والبقاء معهم ؟!
()وثالث يقول: من المضحك والغريب في نفس الوقت عندما يكون لديك أبناء متعلمون وذو مراكز مرموقة في المجتمع ويتعاملون مع أبيهم بهذا الشكل..يقول:وعلى الرغم من كثرة الخدم في المنزل إلا أن زوجة ابني قد خصصت لي السور لتنظيفه يومياً..؟! إنه العقوق في زمن العلم
والتحضر ؟! ولقد أوكل الكثير منا البر بالأباء والأمهات،للخدم والخادمات، لقد كبرنا وانشغلنا،وأصبحنا وكنا،حتى غاب الاحتساب والتعبد في خدمتهم والقيام عليهم عندما احتاجوا لنا،فعفوك اللهم عنا ؟!
()ورجل في السبعين من عمره يتوكأ على عصاه ،ويجر خطاه حتى وقف على باب السجن فسأل: متى يخرج ابني من السجن ؟فبشره المسئول فقال:في النصف الأول من رمضان !! فرأى الحزن قد بدا على وجه ذلك الأب،فأراد أن يُهون عليه فقال:وقد يشمله العفو فيخرج قبل ذلك ؟ فيفاجأه الرجل الكبير بقوله:الحق أنني لا أريد أن يخرج ابني من السجن ! أتمنى أن يبقى فيه أطول مدة ممكنة،فها أنا كما ترى وأمه كذلك ،وقد أتعبنا كثيراً،وأتلف أعصابنا وأصابنا بالأمراض والأسقام،وفي بقائه في السجن رحمة لنا،فعلى الأقل نعلم أنه في أيدٍ أمينة ،ثم إن خروجه في رمضان سيحرمنا من لذة هذا الشهر الكريم ومن لذة التفرغ للعبادة لكثرة مشاكله.انتهى كلامه.(الجزيرة 24/8/1421هـ /عدد 10280بتصرف من مقال حينما يأتي الشقاء من فلذة الكبد لعلي بن زيد القرون )، وأقرأ أيضاً بالخط العريض: السجن تسعة أعوام وثلاث آلاف جلدة لشاب ضرب والده، الابن دخل السجن أربع عشرة مرة ،والأب أصيب بجلطتين ؟! ويقول الخبر : شاب يبلغ ثمانية وعشرين عاماً ضرب والده عدة مرات وهدد بقتله ..وكان قد أُخذ عليه عدد من التعهدات ألا يتعرض لوالده بأي شر،وإلزامه بالسكن بعيداً عن والده .. وأشار الخبر إلى أن الوالد يعيش دوماً في رعب وخوف واكتئاب نفسي نتيجة المشاكل المتتالية من ابنه العاق .. (الاقتصادية عدد 3282) ،
أما الشيء الذي لا يصدق ولا يعقل ،ولا يمكن أن يكون إلا من مجنون أن تمتد يد العقوق لتستل سكين الخسة والفجور،واللؤم والانحدار،لتطعن الوفاء وتقتل الأباء: أقرأ بلا شعور ، عنواناً يقول:( ابن يقتل أباه أمام محراب المسجد طعناً بالسكين)،فبينما كان المصلين في الجمعة يستمعون للخطيب جلس شاب يبلغ اثنين وأربعين عاماً بجوار والده الذي كان في المحراب كعادته ،فإذا بالولد يُخرج سكيناً ويحتضن أباه،ويطعنه ثلاث طعنات،ليسقط الوالد ميتاً على يد ولده ..؟ ( الجزيرة 29/7/1423هـ /عدد 10965). وآخر يقتل أمه المسنة ،ويحملها في كيس النفيات ليدفنها في خربة بمدينة أخرى ،لكن الله له بالمرصاد فافتضح أمره،فإنا لله وإنا إليه راجعون،
قالوا بعينكَ عبرةٌ قلتُ: الأسى دمعٌ ودمْ
قالوا بقلبك حرقةٌ قلتُ: المواجع تضطرمْ
قالوا حروفُكَ لوعةٌ قلت: الصبابةُ والألـمْ
لا تسألوني فالجوا بُ يزيدُ في قلبي الألـمْ
ولكم وضعتُ يدي على عيني وكسَّرت القلم
ونذرت أن أدع الأسى وعقدتُ نذري بالقسم
لكنني دوماً أعــودُ فأكتب الشكوى بـدمْ
إي وربي فلا أدري أأسكب الدمع أو الدم ؟! أيعقل أيها المسلمون أن يكون هذا بيننا،وفي مجتمعنا،أين آيات القرآن ألا تهز تلك القلوب؟! أين أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ألا تُحرك تلك النفوس ؟! أين تقاليدنا وعاداتنا النبيلة ؟ أين العرفان بالجميل؟! أين الشهامة والرجولة ؟! أين الرأفة والرحمة،أيمكن أن يحملَ هؤلاء كلمة: إنسان ،أم هم كما قال بعض السلف:لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً.اللهم إنا نبرأ إليك مما يفعل هؤلاء، ونسألك اللهم براً بالأمهات والأباء،واغفر لنا التقصير ببرهم والغفلة عن حقهم.أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب،فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،وعلى آله وأصحابه ومن والاه ،أما بعد :عباد الله : إننا لا نشك أبدأ أن هناك الكثير والكثير من الصور العجيبة للبر والإحسان بالوالدين، بل هي الأصل في مثل هذا المجتمع المحافظ ،ولكن شهوات الدنيا سودت بعض القلوب ،فكثر عندها العقوق والذنوب،وهي والله نذير شؤم،وناقوس خطر ،"فكل الذنوب يؤخر الله فيها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات "(البخاري في الأدب المفرد،والطبراني والحاكم )،ومهما كانت الدوافع والأسباب فلا يمكن أن تصل لهذه النهايات البشعة لو كان في تلك النفوس حبة خردل من إيمان،ألم يسمع هؤلاء أنه لا يدخل الجنة قاطع رحم ، فكيف بمن شتمها وضربها،بل وقتلها نعوذ بالله من الخذلان والخسران، فالوالدان بابان للجنة مفتوحان ،أما سمعتم عن إياس بن معاوية وقد بكى عند موت أمه ؟ فلما سئل عن ذلك ،قال:ولم لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة ؟! فرَغِمَ أَنْفُهُ ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ،ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ! قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ "،فمن أراد الجنة،و"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(أحمد بسند صحيح من حديث أَنَس بْن مَالِك ) ،وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار ،قصة عجيبة لابن بار ، اسمعوه يقول:" اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ وَإِنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا،وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قبلهما ، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فَرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ اللَّهُ فَرَأَوْا السَّمَاءَ..".إنه الإحسان للأباء،فأين الأبناء ؟ أين من يريد إجابة الدعاء ؟ لقد كانت حفصة تترحم على هذيل-ابنها-فقد كان يعمد إلى القصب فيقشره ويجففه في الصيف لئلا يكون له دخان،فيؤذيها عندما يوقد لها لتدفأ. سبحان الله يخاف أن يؤذيها الدخان ،إنه الإيمان ،يوم يتحرك في قلب الإنسان!.(البر والصلة لابن الجوزي53،ففيهما فجاهد40).وقال أنس بن النضر: استقت أم ابن مسعود ماءاً في بعض الليالي،فذهب فجاءها بشربة،فوجدها قد ذهب بها النوم،فوقف بالشربة عند رأسها حتى أصبح،مخافة أن تنتبه تريد الماء وهو نائم.(ابن الجوزي ص54).وقال أبو بكر ابن عياش:ربما كنت مع منصور بن المعتمر في منزله جالسا فكان تصيح به أمه وكانت فظة غليظة:فتقول: يا منصور، يريدك ابن هبيرة (الوزير)على القضاء فتأبى،وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها أدباً.(ابن الجوزي ص85.ففيهما فجاهد ص 40). وكان حيوة بن شريح يقعد في حلقته يعلم الناس،فتقول له أمه :قم يا حيوة فألق الشعير للدجاج فيقوم ويقطع حلقة التعليم طاعة لها،ويخشى أن يؤخر ذلك قليلا فيكتب عاقا لها.وابن عوف نادته أمه فأجابها ولكن بصوت مرتفع فندم وأعتق رقبتين ؟! الله أكبر ما أعظم برهم ،وما أرق قلوبهم ،وما أشد خوفهم !!
تاقت إلى الحور والفردوس أنفسُهم فذلّلوا دربهم للخلد تذليلا
تُذيقنا المرَّ دنيانيا وقد وجــدوا طعم السعادة بالإيمان معسولاً
قد أُدخلوا جنة الدنيا فوالهفــي ممن يُقاسي لظى الحرمان مغلولا
معاشر المسلمين: اعلموا أن عبادة الطائعين وإن عظمت،وزهادة الزاهدين وإن كثرت لا توازي يسير العقوق، فإن الله لم يتجاوز للعابد جريج احتجابه عن أمه عندما نادته،وقد كان من أعبد بني إسرائيل وأفضل أهل زمانه،خرقت له العادة وكوشف بالكرامة فقال للمولود:من أبوك ؟ قال: الراعي. ثم عوقب مع ذلك لأنه لم يجب نداء أمه فما الظن بمن كان دونه في الفضل وفوقه في العقوق ؟(الطرطوشي في كتابه بر الوالدين ص 138).وصور عقوق الوالدين تتفاوت،وربما يجهل بعض الناس كثيراً منها:كرفع الصوت عليهما،وحدة النظر إليهما،وإدخال المنكرات في بيتهما،أو التخلي عنهما، وإحزانهما بتأجيل طلبهما أو تأخير قضاء حوائجهما،أو ترك السلام عليهما،أو هجر الحديث معهما،أو هجر الأكل والشرب معهما،أو الانشغال بالقراءة عند لقائهما،أو قلة زيارتهما،أو تقديم رضا الزوجة والأولاد على إرضائهما،بل احرص على كل ما يرضيهما واجتنب كل ما يسخطهما،وأطعهما وأكثر الجلوس معهما أو على الأقل أكثر الاتصال بهما،وقبّل رأسيهما،احرص على قضاء حوائجهما ،لا تعتذر عند طلبهما، بادر بالهدية لهما،لا تسافر إلا بإذنهما،وتفصيل هذا يطول ولكن إن أردت معياراً للهروب من العقوق "فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما،واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً " ،وعند ابن حبان أن جبريل عليه السلام قال:"يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار،فأبعده الله قل آمين، فقلت آمين .فيا معاشر الأولاد والبنات: اتقوا الله في الأباء والأمهات ،فإن برهم يكفر الذنوب والسيئات فعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ قَالَ لَا قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَبِرَّهَا "(رواه الترمذي واحمد وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه)،وقال الإمام أحمد رحمه الله :"بر الوالدين كفارة الكبائر" ، ويا معاشر المعلمين والمعلمات ذكّروا الأبناء والبنات بحقوق الأباء والأمهات،ويا من تحملون أمانة الإعلام: أين البرامج والحملات من أجل حقوق الأباء والأمهات ؟! وأنتم معاشر الأباء الله الله بتربية الأبناء على الإيمان والقرآن،وادعوا لهم بالصلاح فدعوة الوالد لولده لا ترد ، وكونوا قدوةً لهم بالصلاح كما قال تعالى :" وكان أبوهما صالحاً" ، وعاملوهم باللين والرفق ،ولا تفرقوا بينهم في العطية أو تُفضلوا بعضهم على بعض،وأحسنوا إلى أبنائكم يُحسن لكم أبناؤكم .وأنتم أيها الأبناء: قوموا اليوم بالذي عليكم،يأتيكم غداً الذي لكم،والجزاء من جنس العمل ؟! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا،و بارك لهما فيما رزقتهما،وارحمهما وأطل عمرهما،وأصلح عملهما،وآتهما الصحة والعافية، اللهم ارزقنا برهما ،والإحسان إليهما،اللهم اجمعنا بهما في الجنان،برحمتك يارحيم يا رحمن، اللهم وفقنا إلى ما فيه صلاحنا وسعادتنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة ،اللهم احفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، واحفظنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن ،اللهم انصر المسلمين المستضعفين،وكن عوناً لهم برحمتك يا أرحم الراحمين،وانتقم لهم من الظالمين ،اللهم إن اخواننا في فلسطين محاصرين ومهددين ،اللهم ففك الحصار عنهم ،واجعل لهم من كل ضيق مخرجا،اللهم ثبتهم وانصرهم على عدوك وعدوهم ، اللهم سدد رميهم ،واجعل لهم منفذاً، اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ، اللهم عليك باليهود فرق صفهم ، وشتت شملهم ،واملأ قلوبهم رعباً وخوفاً ، وخالف بين قلوبهم ،واضربهم ببعضهم ،وأخرج المسلمين من بين أيديهم سالمين غانمين،إنك على كل شيء قدير،اللهم انصر جندك وكتابك وسنة نبيك ،وأعلي كلمة الحق في كل مكان يارب العالمين،اللهم أصلح ولاة أمورنا،ووفقهم لما تحبه وترضاه وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، واجعلهم نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع بهم كلمة المسلمين على التوحيد يارب العالمين.اللهم اشف مرضانا وجميع مرضى المسلمين،وارفع عنهم البلاء برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل اللهم على النبي الأمين،وآله وصحبه أجمعين،وخلفائه الراشدين، والحمد الله رب العالمين .
ابراهيم الدويش
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه،صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .أما بعد أيها المسلمون: أقف متأملاً متعجباً مع قول الحق عز وجل:"واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا" ،كيف قرن حق الوالدين بحقه جلا وعلا ،فعطف الإحسان على الوالدين ،بأعظم غاية خلق الناس من أجلها وهي عبادته وتوحيده ،فيا الله ما أشد غفلتنا عن هذه العبادة العظيمة فليس شيء أعظم بعد التوحيد من القيام بحق الوالدين، إنها وصية الله تعالى للأبناء:"ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها" وقال سبحانه:"ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن" أي جهداً على جهد:في الحمل ثم الولادة،ثم العناية والرضاعة،ثم التربية والرعاية،"أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير" قال ابن عباس:لا يقبل الله الأولى حتى يعمل بقرينتها،فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه،أسمعتم معاشر الأبناء: من شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه ؟! بل إن الله لا يرضى على العبد حتى يرضى والداه عليه،وقد أكد هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال:"رضا الرب من رضا الوالد، وسخط الرب من سخط الوالد"رواه البخاري في الأدب المفرد. ولم العجب أيها الأبناء! إنه دين الإحسان،وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان،أبوان ضعيفان ، شقيا لتسعد،وسهرا لتنام، وجاعا لتشبع ،وتجرعا الآلام ، أبوك يكدح في الليل والنهار، ويُفني السنين والأعمار ،عليك يغار ويدفع عنك الأخطار،وأما أمك فليس حقها واحد بل أمك وأمك وأمك ،حملتك كرهاً على كره ،ووهناً على وهن ،تسعة أشهر تسكن في أحشائها،وتتغذى من دمها وآلامها،ولذا فقد حكم الله وأمر وألزم الأبناء،باللين والرفق والإحسان للأباء،بكل ما تحمله هذه المباني،من مقاصد ومعاني،فجاء الحكم الرباني،والأمر القرآني:"وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما،واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً " سبحان الله آية في غاية الرقة والاستعطاف،"فلا تقل لهما أف" ،"واخفض لهما جناح الذل"،وهل للذل جناح ،وهل هناك كلمة أقل من (أف)،فأف ثم تف لأولئك العاقين الذين نسمع عن مواقفهم مع آبائهم ،وكلماتهم لأمهاتهم !! تصور أن للذل جناح وقد خفضته وفرشته على الأرض ليطئه الأبوان ،ذل لهما وخضوع مهما بدرا منهما، ومهما أخطأا أو فعلا ،ومهما ضربا أو غضبا، وإن كان عاصيين أو فاسقين ،بل حتى أو كافرين ،فإن أمراكا بمعصية الله فلا تطعهما ولكن لا تُغضبهما بل صاحبهما في الدنيا معروفاً "وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً"سبحان الله إنها عظمة القرآن ،وآداب دين الإسلام،قال ابن عباس:لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار. (الطبري15/48 ).وقال مجاهد في قوله تعالى:"ولا تقل لهما أف": إن بلغا عندك من الكبر فيبولان ويخريان فلا تتقززهما،ولا تقل لهما: أف،وأمط عنهما الخراء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيراً ولا يتأففان.فأف وأف وأف لمواقف نسمعها ،وأخبار نقرأها،غريبة على مسامعنا،دخيلة على مجتمعنا،تنكرها قلوبنا،وتتألم لها نفوسنا،تحرق أكبادنا ،وتُدمع عيوننا،تحقيقات كثيرة تلك التي وقفت عليها في عدد من الصحف والمجلات ،يبث فيها الأباء والأمهات همومهم وأحزانهم ،لا أدري كيف أبدأ ،ولا ماذا أختار منها ؟ففي الصفحة الواحد عشرات الآهات،فكيف بالصفحات،بل كيف بالوقائع والأحداث التي نعرفها ونقف عليها:ففي الخط العريض نقلت إحدى الصحف صرخات أم تطلب بر ابنها قبل أن توافيها المنية،وشبهته بالريح الهوجاء وحذرته من عقوق أبنائه ،ومما قالت:"..إن دموع جميع الأمهات تشاركني الآلام والعذاب الذي سببته لي في حياتي يا آلمي،ولن أقول :أملي ..،لقد تفننت معي في أنواع العذاب،سهري أثناء وجودك، قلقي أثناء سفرك،واستعطافي ورجائي لك وأنت أمامي وبقربي،طحنت حبيبات قلبي بعنادك وكبريائك،واستنفدت دموع عينيَ حتى بدأ يخبو نورهما،فأصبحت لا أكاد أحتمل،مزقت مشاعري وأحاسيسي فأصبحت تائهة الفكر لا أكاد أجمع أمري ،ماذا أبقيت لي ؟أطفأت شمعة شبابي،وسرقت الضحكة والبسمة من شفتي ،فتساوت الأفراح والأحزان عندي..إلى أن قالت: ابني حبيبي فلذة كبدي إلى متى أنت تركض وأنا ألهث خلفك ؟وأنت تُحطم وأنا ألملم ما بعثرته ..وختمت بقولها: أخوف ما أخاف عليك أن تُرزق بأبناء يُسقونك الكأس نفسها التي سقيتني منها مضافاً إليها ألمك وحزنك وحسرتك عليَ حين تطلب الصفح فلا تجدني أمامك ..". ووقعتها بكلمة (أمك). وأم أخرى في الستين تقول: أعيش حياة قاسية في رعاية أولادي فكل واحد منهم لا يتحمل وجودي معه في المنزل أكثر من أسبوع ليستقر الحال بي عند أكبرهم الذي خصص لي الملحق الخارجي للسكن،وتتابع والدموع في عينيها:الطعام يقدم إلي في أطباق من ورق وكأنني مصابة بمرض خطير،ما زلت أعاني من هذا السجن ،ولكن أشكر جارتي التي مازالت تقوم علي رعايتي ونظافتي الشخصية فأنا لا أقوى على الحركة.(الرياض 25/4/1423هـ عدد 12430) .وتقول إحدى الأخوات : بعد أن وضعت أمها ذي الخمسة والستين سنة في دار العجزة : لقد عاشت والدتي حياتها بما فيه الكفاية والآن أصبح الدور لأبنائي فقط ؟! آهٍ على البر والأخلاق، إنه العقوق ، ولكن كما قال (ص) :"لتؤدَّن الحقوق يوم القيامة .." ؟! إنها الأم كلمة يخفق لها الوجدان ،الطريق إلى رضا الرحمن ،وإلى الجنة دار الرضوان، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما:"إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة.(الأدب المفرد للبخاري)، فما الذي أستطيع أن أفعله يا أماه لأرضيك ؟وما الذي أستطيع أن أقدمه لأواسيك وأسليك ،فمهما صنعت وربي فلن أستطيع أن أُوفيك أو أجزيك ؟
يا مقلةً سهرتْ ..يادمعةً سُكبتْ يا أنةً جَمُدَتْ من حرِّها النار
أفديك أماه يا نبضَ الهوى بدمي إن كنت لؤلؤةً فالقلب محّار
رباه لا تحرمَنِّي حسنَ طلعتها مالي إذا فُقدت عيناي إبصار
أماه يا بسمةَ الدنيا وزينتَها مشاعري من شموخ الحب تنهار
أنت المليك لكم عرشٌ ومملكةٌ بساح قلبي وتيجانٌ وأسوارُ
أنت السواد بعيني أنت دفء دمي أنت الهوى لقِفَارِ القلب أمطار
أنا الجَحود نسيت الجود من يدكم إني بفضلك يا أماه كفَّار
رضاك عني مُنَى نفسي وغايتها واللهُ ـ إن تغفري يا أم ـ غفار
عباد الله :أما الأباء فيقول أحد هم وقد بلغ ستين عاماً: أولادي عاملوني كالطفل ثم طردوني فأصر عليَ سائقي الهندي أن أقيم معه في عزبته ، واهتم بي كثيراً حتى تمنيت أنه ابناً لي؟! (الرياض عدد12430) .
()وآخر يقول : أخبرني الطبيب بالحقيقة المرة وهي: أن أبنائي رفضوا الحضور لإخراجي من المستشفى وطالبوا بتحويلي لدار المسنين ،فأصر جاري على إخراجي والبقاء معهم ؟!
()وثالث يقول: من المضحك والغريب في نفس الوقت عندما يكون لديك أبناء متعلمون وذو مراكز مرموقة في المجتمع ويتعاملون مع أبيهم بهذا الشكل..يقول:وعلى الرغم من كثرة الخدم في المنزل إلا أن زوجة ابني قد خصصت لي السور لتنظيفه يومياً..؟! إنه العقوق في زمن العلم
والتحضر ؟! ولقد أوكل الكثير منا البر بالأباء والأمهات،للخدم والخادمات، لقد كبرنا وانشغلنا،وأصبحنا وكنا،حتى غاب الاحتساب والتعبد في خدمتهم والقيام عليهم عندما احتاجوا لنا،فعفوك اللهم عنا ؟!
()ورجل في السبعين من عمره يتوكأ على عصاه ،ويجر خطاه حتى وقف على باب السجن فسأل: متى يخرج ابني من السجن ؟فبشره المسئول فقال:في النصف الأول من رمضان !! فرأى الحزن قد بدا على وجه ذلك الأب،فأراد أن يُهون عليه فقال:وقد يشمله العفو فيخرج قبل ذلك ؟ فيفاجأه الرجل الكبير بقوله:الحق أنني لا أريد أن يخرج ابني من السجن ! أتمنى أن يبقى فيه أطول مدة ممكنة،فها أنا كما ترى وأمه كذلك ،وقد أتعبنا كثيراً،وأتلف أعصابنا وأصابنا بالأمراض والأسقام،وفي بقائه في السجن رحمة لنا،فعلى الأقل نعلم أنه في أيدٍ أمينة ،ثم إن خروجه في رمضان سيحرمنا من لذة هذا الشهر الكريم ومن لذة التفرغ للعبادة لكثرة مشاكله.انتهى كلامه.(الجزيرة 24/8/1421هـ /عدد 10280بتصرف من مقال حينما يأتي الشقاء من فلذة الكبد لعلي بن زيد القرون )، وأقرأ أيضاً بالخط العريض: السجن تسعة أعوام وثلاث آلاف جلدة لشاب ضرب والده، الابن دخل السجن أربع عشرة مرة ،والأب أصيب بجلطتين ؟! ويقول الخبر : شاب يبلغ ثمانية وعشرين عاماً ضرب والده عدة مرات وهدد بقتله ..وكان قد أُخذ عليه عدد من التعهدات ألا يتعرض لوالده بأي شر،وإلزامه بالسكن بعيداً عن والده .. وأشار الخبر إلى أن الوالد يعيش دوماً في رعب وخوف واكتئاب نفسي نتيجة المشاكل المتتالية من ابنه العاق .. (الاقتصادية عدد 3282) ،
أما الشيء الذي لا يصدق ولا يعقل ،ولا يمكن أن يكون إلا من مجنون أن تمتد يد العقوق لتستل سكين الخسة والفجور،واللؤم والانحدار،لتطعن الوفاء وتقتل الأباء: أقرأ بلا شعور ، عنواناً يقول:( ابن يقتل أباه أمام محراب المسجد طعناً بالسكين)،فبينما كان المصلين في الجمعة يستمعون للخطيب جلس شاب يبلغ اثنين وأربعين عاماً بجوار والده الذي كان في المحراب كعادته ،فإذا بالولد يُخرج سكيناً ويحتضن أباه،ويطعنه ثلاث طعنات،ليسقط الوالد ميتاً على يد ولده ..؟ ( الجزيرة 29/7/1423هـ /عدد 10965). وآخر يقتل أمه المسنة ،ويحملها في كيس النفيات ليدفنها في خربة بمدينة أخرى ،لكن الله له بالمرصاد فافتضح أمره،فإنا لله وإنا إليه راجعون،
قالوا بعينكَ عبرةٌ قلتُ: الأسى دمعٌ ودمْ
قالوا بقلبك حرقةٌ قلتُ: المواجع تضطرمْ
قالوا حروفُكَ لوعةٌ قلت: الصبابةُ والألـمْ
لا تسألوني فالجوا بُ يزيدُ في قلبي الألـمْ
ولكم وضعتُ يدي على عيني وكسَّرت القلم
ونذرت أن أدع الأسى وعقدتُ نذري بالقسم
لكنني دوماً أعــودُ فأكتب الشكوى بـدمْ
إي وربي فلا أدري أأسكب الدمع أو الدم ؟! أيعقل أيها المسلمون أن يكون هذا بيننا،وفي مجتمعنا،أين آيات القرآن ألا تهز تلك القلوب؟! أين أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ألا تُحرك تلك النفوس ؟! أين تقاليدنا وعاداتنا النبيلة ؟ أين العرفان بالجميل؟! أين الشهامة والرجولة ؟! أين الرأفة والرحمة،أيمكن أن يحملَ هؤلاء كلمة: إنسان ،أم هم كما قال بعض السلف:لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً.اللهم إنا نبرأ إليك مما يفعل هؤلاء، ونسألك اللهم براً بالأمهات والأباء،واغفر لنا التقصير ببرهم والغفلة عن حقهم.أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب،فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،وعلى آله وأصحابه ومن والاه ،أما بعد :عباد الله : إننا لا نشك أبدأ أن هناك الكثير والكثير من الصور العجيبة للبر والإحسان بالوالدين، بل هي الأصل في مثل هذا المجتمع المحافظ ،ولكن شهوات الدنيا سودت بعض القلوب ،فكثر عندها العقوق والذنوب،وهي والله نذير شؤم،وناقوس خطر ،"فكل الذنوب يؤخر الله فيها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات "(البخاري في الأدب المفرد،والطبراني والحاكم )،ومهما كانت الدوافع والأسباب فلا يمكن أن تصل لهذه النهايات البشعة لو كان في تلك النفوس حبة خردل من إيمان،ألم يسمع هؤلاء أنه لا يدخل الجنة قاطع رحم ، فكيف بمن شتمها وضربها،بل وقتلها نعوذ بالله من الخذلان والخسران، فالوالدان بابان للجنة مفتوحان ،أما سمعتم عن إياس بن معاوية وقد بكى عند موت أمه ؟ فلما سئل عن ذلك ،قال:ولم لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة ؟! فرَغِمَ أَنْفُهُ ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ،ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ! قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ "،فمن أراد الجنة،و"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(أحمد بسند صحيح من حديث أَنَس بْن مَالِك ) ،وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار ،قصة عجيبة لابن بار ، اسمعوه يقول:" اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ وَإِنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا،وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قبلهما ، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فَرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ اللَّهُ فَرَأَوْا السَّمَاءَ..".إنه الإحسان للأباء،فأين الأبناء ؟ أين من يريد إجابة الدعاء ؟ لقد كانت حفصة تترحم على هذيل-ابنها-فقد كان يعمد إلى القصب فيقشره ويجففه في الصيف لئلا يكون له دخان،فيؤذيها عندما يوقد لها لتدفأ. سبحان الله يخاف أن يؤذيها الدخان ،إنه الإيمان ،يوم يتحرك في قلب الإنسان!.(البر والصلة لابن الجوزي53،ففيهما فجاهد40).وقال أنس بن النضر: استقت أم ابن مسعود ماءاً في بعض الليالي،فذهب فجاءها بشربة،فوجدها قد ذهب بها النوم،فوقف بالشربة عند رأسها حتى أصبح،مخافة أن تنتبه تريد الماء وهو نائم.(ابن الجوزي ص54).وقال أبو بكر ابن عياش:ربما كنت مع منصور بن المعتمر في منزله جالسا فكان تصيح به أمه وكانت فظة غليظة:فتقول: يا منصور، يريدك ابن هبيرة (الوزير)على القضاء فتأبى،وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها أدباً.(ابن الجوزي ص85.ففيهما فجاهد ص 40). وكان حيوة بن شريح يقعد في حلقته يعلم الناس،فتقول له أمه :قم يا حيوة فألق الشعير للدجاج فيقوم ويقطع حلقة التعليم طاعة لها،ويخشى أن يؤخر ذلك قليلا فيكتب عاقا لها.وابن عوف نادته أمه فأجابها ولكن بصوت مرتفع فندم وأعتق رقبتين ؟! الله أكبر ما أعظم برهم ،وما أرق قلوبهم ،وما أشد خوفهم !!
تاقت إلى الحور والفردوس أنفسُهم فذلّلوا دربهم للخلد تذليلا
تُذيقنا المرَّ دنيانيا وقد وجــدوا طعم السعادة بالإيمان معسولاً
قد أُدخلوا جنة الدنيا فوالهفــي ممن يُقاسي لظى الحرمان مغلولا
معاشر المسلمين: اعلموا أن عبادة الطائعين وإن عظمت،وزهادة الزاهدين وإن كثرت لا توازي يسير العقوق، فإن الله لم يتجاوز للعابد جريج احتجابه عن أمه عندما نادته،وقد كان من أعبد بني إسرائيل وأفضل أهل زمانه،خرقت له العادة وكوشف بالكرامة فقال للمولود:من أبوك ؟ قال: الراعي. ثم عوقب مع ذلك لأنه لم يجب نداء أمه فما الظن بمن كان دونه في الفضل وفوقه في العقوق ؟(الطرطوشي في كتابه بر الوالدين ص 138).وصور عقوق الوالدين تتفاوت،وربما يجهل بعض الناس كثيراً منها:كرفع الصوت عليهما،وحدة النظر إليهما،وإدخال المنكرات في بيتهما،أو التخلي عنهما، وإحزانهما بتأجيل طلبهما أو تأخير قضاء حوائجهما،أو ترك السلام عليهما،أو هجر الحديث معهما،أو هجر الأكل والشرب معهما،أو الانشغال بالقراءة عند لقائهما،أو قلة زيارتهما،أو تقديم رضا الزوجة والأولاد على إرضائهما،بل احرص على كل ما يرضيهما واجتنب كل ما يسخطهما،وأطعهما وأكثر الجلوس معهما أو على الأقل أكثر الاتصال بهما،وقبّل رأسيهما،احرص على قضاء حوائجهما ،لا تعتذر عند طلبهما، بادر بالهدية لهما،لا تسافر إلا بإذنهما،وتفصيل هذا يطول ولكن إن أردت معياراً للهروب من العقوق "فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما،واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً " ،وعند ابن حبان أن جبريل عليه السلام قال:"يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار،فأبعده الله قل آمين، فقلت آمين .فيا معاشر الأولاد والبنات: اتقوا الله في الأباء والأمهات ،فإن برهم يكفر الذنوب والسيئات فعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ قَالَ لَا قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَبِرَّهَا "(رواه الترمذي واحمد وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه)،وقال الإمام أحمد رحمه الله :"بر الوالدين كفارة الكبائر" ، ويا معاشر المعلمين والمعلمات ذكّروا الأبناء والبنات بحقوق الأباء والأمهات،ويا من تحملون أمانة الإعلام: أين البرامج والحملات من أجل حقوق الأباء والأمهات ؟! وأنتم معاشر الأباء الله الله بتربية الأبناء على الإيمان والقرآن،وادعوا لهم بالصلاح فدعوة الوالد لولده لا ترد ، وكونوا قدوةً لهم بالصلاح كما قال تعالى :" وكان أبوهما صالحاً" ، وعاملوهم باللين والرفق ،ولا تفرقوا بينهم في العطية أو تُفضلوا بعضهم على بعض،وأحسنوا إلى أبنائكم يُحسن لكم أبناؤكم .وأنتم أيها الأبناء: قوموا اليوم بالذي عليكم،يأتيكم غداً الذي لكم،والجزاء من جنس العمل ؟! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا،و بارك لهما فيما رزقتهما،وارحمهما وأطل عمرهما،وأصلح عملهما،وآتهما الصحة والعافية، اللهم ارزقنا برهما ،والإحسان إليهما،اللهم اجمعنا بهما في الجنان،برحمتك يارحيم يا رحمن، اللهم وفقنا إلى ما فيه صلاحنا وسعادتنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة ،اللهم احفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، واحفظنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن ،اللهم انصر المسلمين المستضعفين،وكن عوناً لهم برحمتك يا أرحم الراحمين،وانتقم لهم من الظالمين ،اللهم إن اخواننا في فلسطين محاصرين ومهددين ،اللهم ففك الحصار عنهم ،واجعل لهم من كل ضيق مخرجا،اللهم ثبتهم وانصرهم على عدوك وعدوهم ، اللهم سدد رميهم ،واجعل لهم منفذاً، اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ، اللهم عليك باليهود فرق صفهم ، وشتت شملهم ،واملأ قلوبهم رعباً وخوفاً ، وخالف بين قلوبهم ،واضربهم ببعضهم ،وأخرج المسلمين من بين أيديهم سالمين غانمين،إنك على كل شيء قدير،اللهم انصر جندك وكتابك وسنة نبيك ،وأعلي كلمة الحق في كل مكان يارب العالمين،اللهم أصلح ولاة أمورنا،ووفقهم لما تحبه وترضاه وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، واجعلهم نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع بهم كلمة المسلمين على التوحيد يارب العالمين.اللهم اشف مرضانا وجميع مرضى المسلمين،وارفع عنهم البلاء برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل اللهم على النبي الأمين،وآله وصحبه أجمعين،وخلفائه الراشدين، والحمد الله رب العالمين .

انه الله
ابراهيم الدويش
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد
عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم
أما بعد :
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته شكر الله لكم حضوركم ونسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم في هذا المجلس العلم النافع
والعمل الصالح وشكر الله لأخواني في جمعية تحفيظ القرآن الكريم في محافظة عنيزة هذا المنشط المبارك هذا الملتقى الذي هو الملتقى الثاني للقرآن الكريم
وهكذا دائما كتاب ربنا جل وعلى بركات تلوى بركات وخيرات تلوى خيرات نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن وممن يتدبر القرآن ويعمل به
أيها الأخوة والأخوات ( أفلا يتدبرون القرآن ..) إنه القرآن كلام الرحمن
أنت الذي يا رب قلت حروفه....... ووصفته بالوعظ والتبيان
ونظمته ببلاغة أزليـــة .......تكييفها يخفى على الأذهان
وكتبت في اللوح الحفيظ حروفه .......من قبل خلق الخلق في أزمان
أشرح به صدري لمعرفة الهدى....... وأعصم به قلب من الشيطان
يسر به أمري وقض مآربي....... وأجر به جسدي من النيران
واحطط به وزري واخلص نيتي .......واشدد به أزري وأصلح شأني
امزجه يارب بلحمي مع دمي .......واغسل به قلبي من الأضغان
هكذا معاشر المؤمنين هكذا أيها المسلم هكذا يا عبد الله بقلبك قبل اللسان إقراء القرآن لتجد عذوبة ترويك من ماء البيان ورقة تستروح منها نسيم الجنان
(ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ))
القرآن هو الذي يحقق السعادة للإنسان ..القرآن ينشر الأمن والاطمئنان عز وفخر ورفاهية وأمان كل هذا يحققه تطبيق القرآن وسنة خير الأنام عليه
الصلاة والسلام ((لقد تركت فيكم أمرين ما أن تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي كتاب الله
وسنتي )) يتساءل الناس عن المخرج في زمن الفتن والشبهات والشهوات في زمن المغريات كيف نحافظ على إيماننا في الغربة ؟ كيف نحافظ على
إيماننا في غربة الشهوات وغربة الشبهات في زمن العولمة والانفتاح والتقنيات ؟ كيف نربي أبنائنا وبناتنا في مثل هذه الأوقات ؟ لماذا انصرفت
القلوب عن علام الغيوب ؟ لماذا تكالب الناس على الدنيا حتى ربما ظن البعض أنا لا نموت ؟ يشكو الناس من قسوة القلوب ومن كثرة الذنوب ..يشكو
الناس من الخواء خواء الروح والفراغ الإيماني ..وأقول الطريق أن يتعرف الناس على الله حق المعرفة أن تملئ القلوب بمحبة الله عز وجل
أشار القلب نحوك والضمير....... وسر السر أنت به خبير
وإني إن نطقت بكم أنادي .......وفي وقت السكوت لكم أشير
من لم يعرف الله حق المعرفة فهو جاهل ومسكين وهو معدم وفقير وأعظم طريق لمعرفة الله هو معرفة كتاب الله جل وعلا من عرف الله من كلامه
وآياته فإنه يعرف رب قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال منزه عن المثال برئ من النقائص والعيوب له كل اسم حسن وكل وصف
كمال ..فعال لما يريد ..أكبر من كل شيء ..وأجمل من كل شيء ..أرحم الرحمين .. وأقدر القادرين .. وأحكم الحاكمين .. القرآن أنزل للتعريف للتعريف
به جل جلاله لتعريف عباده به وبصراطه الوصل إليه وبحال السالكين بعد الوصول إليه فآيات الله القرآنية تنطق بالتعريف بالله تعالى كما أن آيات الله
الكونية تنطق بعظمة الله التفكر ..التدبر .. طريق لمعرفة الله سبحانه وتعالى معرفة الله طريق لمحبة الله محبة الله طريق السعادة والراحة والاطمئنان ..
فأين الباحثون عن السعادة ؟ أين القلوب التي تعلقت بغير الله تعالى ؟ أين هي عن الله ؟ نعم أين هي عن الله ؟ فالله محسن يحب المحسنين ..شكور يحب
الشاكرين .. جميل يحب الجمال .. طيب يحب كل طيب .. كريم يحب الكرم.. تواب يحب التائبين .. حيي يحب أهل الحياء .. يستحي من عبده إذا مد
يديه إليه أن يردهما صفرا عفو يحب العفو عن عباده .. غفور يغفر لهم إذا استغفروه .. تكثر الذنوب تعظم العيوب تقسو القلوب ويخشى الإنسان من
الخسران ويخاف من الحرمان فيناديه الرحيم الرحمن ((قل يا عبادي الذين أسرف على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه
هو الغفور الرحيم )) ينادي عبده نداء المتلطف به ..من الذي يناديك ؟ إنه ملك الملوك جل وعلا .. إنه الغني عن العالمين .. من الذي يناديك أيها العبد
الفقير ؟ إنه اللطيف الخبير ينادي عبده نداء المتلطف به يدعوه دعاء المشفق عليه (( يا ابن آدم إنك ما دعوتني و رجوتني غفرت لك على ما كان منك
ولا أبالي , يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي , يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني
لاتشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة , ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا , ومن تقرب إلي ذرعا تقربت إليه باعا , وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت
إليه أهرول )) هكذا هو ربنا جل وعلا الباب مفتوح ولكن من يلج ؟ المجال مفسوح ولكن من
يقبل ؟ الحبل ممدود ولكن من يتشبث به ؟ الخير مبذول ولكن من يتعرض له ؟ أين من يملئ قلبه هيبة من الله ؟ أين من يملئ قلبه خشية من الله ؟ أين
من يعظم الله ؟ فالله عظيم .. الله عظيم والعظمة صفة من صفاته وآية من آياته وتعظيم الله يعني تعظيم حرماته (( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى
القلوب )) من كان بالله أعرف ..من كان بالله أعرف كان لله أخوف .. تأملوا تأملوا آية عظيمة في كتاب الله تعظم الله آية جليلة القدر عظيمة الشأن
رفيعة المنزلة بعيدة المكانة لها حلاوة وعليها طلاوة تنزل على القلب برد وسلام يسعد بها الفؤاد تأنس لها النفوس تستروح بها الروح حبيبه إلى الرحمن
حافظة للإنسان طاردة للشيطان حفظها أمن وأمان وقراءتها روح وريحان الترنم بها نعيم وسلوان هي أعظم أجل و آية في القرآن سأل النبي صلى الله
عليه وسلم أبي ابن كعب (( أي آية في كتاب الله أعظم )) فقال أبي : الله ورسوله أعلم فرددها عليه الحبيب صلى الله عليه وسلم ثم قال أبي : آية
الكرسي يا رسول الله . فقال عليه الصلاة والسلام : ((ليهنك العلم أبا المنذر , والذي نفسي بيده إن لها لسان وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ))
كما عند أحمد . أيها المسلم يا عبد الله يا أمة الله أيها الحبيب هل فكرت في معانيها وأنت ترددها ؟ هل سألت نفسك لماذا سميت بآية الكرسي ؟ وما
المقصود بالكرسي ؟ ولماذا هي أعظم آية ؟ ولماذا نقرأها في الصباح والمساء وعند النوم وربما في أدبار الصلوات ؟ هل تدبرتها ؟ هل وقفت مع
معانيها ؟ أليس الله تعالى يقول ( أفلا يتدبرون القرآن ) ألست تقرأها في اليوم مرات ؟ آية الكرسي بعيدة أسرارها .. عظيمة أخبارها حتى الشياطين
عرفت مقدارها ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وسع كرسيه
السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم )) إذا أويت إلى فرشاك فإقراء آية الكرسي فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولايقربنك
شيطان حتى تصبح هكذا علمنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم...)) يكفي هذه الآية العظمة عظمة استفتاحها بلفظ الجلالة
الله .. العلم الخاص بذات الله عز وجل لا يطلق على غيره سبحانه وتعالى (( هل تعلم له سميا )) لقد ورد هذا الاسم الله ورد في القرآن أكثر من ألف
وسبع مئة مرة وهو التعريف الذي عرف الله جل وعلا به نفسه (( أنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ))
الله يا أعذب الألفاظ في لغتي....... ويا اجل حروف في معانيها
الله يا أمتع الأسماء كم سعدت نفسي .......وفاض سروري حين أرويها
الله كلمة جميلة وعظيمة قريبة من النفس ساكنة في الوجدان ,,الله محفورة في الضمير ممتزجة بالدم واللحم والعصب .. الله تطمئن بها القلوب تأنس بها
النفوس تسكن بها الآلام والهموم .. الله تعلقت بها القلوب عظمتها النفوس لهجت بها الألسن ..الله ..الله .. الله .. ما أعذب الكلمة ما أحسن الاسم ما أجل
المسمى
فاستمع يا زمان هذا محب .......سوف يتلو أنشودة للرواة
يا خلايا الفؤاد يا كل نبض....... هات ما عندكم من الحب هات
تاه لبي وذاب قلبي لربي...... فهو حبي وسلوتي وحياتي
وله كل ذرة في كياني .....ومماتي ومنسكي وصلاتي
يقصر اللفظ عن بيان الحب .....ومعان في مهجتي مضمرات
الله لا إله إلا هو .. بداية مشرقة جاءت فيها أول هذه الآية آية الكرسي جاءت كالتاج على الرأس ثم أتى بعدها مباشرة بالصفة الأسما بالقضية العظمى
جاءت كلمة التقوى عنوان الدين أساس الملة الكلمة التي من أجلها أنزلت الكتب من أجلها أرسلت الرسل أقيم سوق الجنة والنار .. لا إله إلا الله .. فلا
يستحق العبودية إلا الله هو المتفرد بالإلهية على جميع الخلائق ..لا إله إلا هو ..جملة فيها النفي والإثبات تفيد الحصر بأقوى صيغة بأن لا إله إلا الله
الحي القيوم .. الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا فحياته كاملة لم تسبق بعدد ولا يلحقها زوال (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والإكرام )) يقول الحق عز وجل (( توكل على الحي الذي لا يموت )) ويقول (( كل شيء هالك إلا وجهه )) سبحانه وتعالى -القيوم- أي القائم بنفسه
القائم على غيره . قيامه بنفسه يستلزم استغنائه عن كل شيء والله غني حميد . لا يحتاج إلى أكل ولا إلى شرب وهو يطعم ولا يطعم وهو يجير ولا
يجار عليه .. لا يحتاج إلى معين ولا ناصر فهو سبحانه قائم بنفسه أما غيره فمحتاج إليه الكل محتاج إلى الله عز وجل في إيجاده في إمداده فجميع
الموجودات مفتقرة إلى الله
من يعيد الرواء للأرض لما....... يطمس الجدب أوجه ضاحكات
من يعافي المريض من بعد سقم .......وقنوط من طب المستشفيات
من يبث السرور في كل بيت ......بالبنين والأطهار أو البنات
من يسلي النفوس بالصبر لما....... تبتلى بالنوازل القاصمات
من يغيث القلوب مما دهاها .......من هموم بئيسة جاثمات
إنه الله .. إنه الله الحي القيوم فيا الله .. يا لله برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ..لا إله لنا غيرك فنرجوه ولا رب لنا سواك فندعوه (( يا
ءايها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشاء يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز )) (( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا
مسكم الضر فإليه تجأرون )) إنه الحي القيوم ..الحي القيوم هما اسمان لله اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وقد ذكر في القرآن في ثلاثة مواضع
هذا أحدها والثاني في بداية سورة آل عمران (( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )) والثالث في سورة طه (( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل
ظلما )) وإنما كان اسم الله الأعظم في اجتماع هاذين الاسمين الحي القيوم لأنه فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني فالذاتي في قوله .. الحي ..
والسلطاني في قوله .. القيوم .. فهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال
قابض باسط معز مذل .......لم يزل مرغما أنوف الطغاة
شافع واسع حكيم عليم....... بالنوايا والغيب والخاطرات
خافض رافع بصير سميع ......لدبيب النمل فوق الحصاة
ظاهر باطن حسيب رقيب....... ليس يخفى عليه مثل القذاة
أول آخر علي غني .......كيف نحصي آلائه الوافرات
باعث وارث كفيل وكيل....... وأمان للأنفس الخائفات
إنه الله ...إنه الله لا تأخذه سنة ولا نوم ..لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا
يغيب عنه شيء لا تخفى عليه خافية .. ومن تمام القيومية أنه لا يعتليه سنة ولا نوم .. والسنة هي النعاس والوسن ولهذا قال .. ولا نوم ..لأنه أقوى من
السنة .. والنوم صفة نقص فلكمال حياته جل جلاله وكمال قيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : (( إن الله عز وجل لا ينام , ولا ينبغي له أن ينام )) إنه الله .. إنه الله .. ((له ما في السموات وما
في الأرض)) إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وله أن يتصرف فينا كما يشاء لأننا وما نملك ملكه أفلا يخض العبد الفقير منا لمالكه وسيده أفلا يصبر
لقضائه وقدره .. عجبا والله .. عجبا كيف يصر العبد على معصية سيده كيف يتكبر ..كيف يطغى ويتنكر (( إن كل من في السموات والأرض إلا آتي
الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا))
كل ما في السموات السبع والأراضين السبع وما بينهما له وحده لا شريك له ..هو الذي له الملك والتصرف ..هو الذي له السلطان والكبرياء .((قل كل
من عند الله )) إنه الله ..إنه الله .. ((له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه .. استفهام
وتحدي ..وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل ..أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا أن يؤذن له بالشفاعة .. وهل هناك أعظم جاه ومكانه
من حبيبنا وأسوتنا وقدوتنا رسولنا عليه الصلاة والسلام ؟؟ ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله .. لكمال سلطان الله وهيبته جل وعلا كما في حديث
الشفاعة يقول عليه الصلاة والسلام ((فآتي تحت العرش فأخر ساجدا , فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع يا محمد وقل يسمع وسل تعطى
واشفع تشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة )) الله أكبر .. أين الوجهاء ..أين الشفعاء .. أين الكبراء أين العظماء كلهم عبيد لله جل جلاله ((وكلهم آتيه يوم
القيامة فردا )) كلهم عبيد له مماليك لا يقدمون على شفاعة حتى يؤذن لهم ولابد من رضا الله عز وجل عن الشافع والمشفوع له
يا منى خاطري وسلى فؤادي....... ليس إلا أإلى رضاك التفاتي
من حولي وقوتي و أتكالي .......يا نصيري فلا تكلني لذاتي
يا غياث الملهوف من كل كرب ......يا معين للمرء في المعضلات
اهدي قلبي يا خالقي وارض عني....... فالرضا منك منتهى الأمنيات
إنه الله.. إنه الله .. اللهم ارض عنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض .. اللهم إنا نسألك رضاك والجنة
((يعلم مابين أيديهم وما خلفهم )) دليل على إحاطة علمه .. فهو يعلم مابين أيدينا من حاضر ومن مستقبل ويعلم ما خلفنا من الماضي ((يعلم ما يلج في
الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير )) يا لها من معاني تأخذ بالألباب يا لها من
كلمات تهز النفوس يا لها من كلمات تزرع العظمة والهيبة في القلوب سبحان الله لا تغيب عنه ذرة خلجات النفوس خواطر القلوب التفاتات العيون لا
تخفى عليه خافية ((يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )) يعلم ماضيها وحاضرها ومستقبلها .. يعلم مابين أيدينا وما خلفنا ومابين ذلك(( وما كان
ربك نسيا )) فأين المفر ..أين المفر أخوة الإيمان ؟ أين الملجأ أين الملاذ ؟ سبحان الله إذا خفت من المخلوق فررت منه وإذا خفت من الخالق فررت
إليه .. انكسرت بين يديه تناجيه تدعوه تستغفر من ذنبك ترجوه ليس لكم إلا الله ففروا إليه انطرحوا بين يديه قفوا ببابه انكسروا لجنابه .. حقيقة
العبودية التي يحبها من عبده إنه الانكسار والخضوع لملك الملوك جل وعلا يوم يجد العبد لذة الانكسار والخضوع ويمرغ الجبين للرب جل جلاله
لا رب أرجوه سواك إذ...... لم يخب سعي من رجاك
أنت الذي لم تزل خفيا .......لم تبلغ الأوهام منتهاك
إن أنت لم تهدنا ظللنا .......يا رب إن الهدى هداك
أحط علما بنا جميعا....... أنت ترانا ولا نراك
إن الله يراك .. إن الله يراك ...إن الله مطلع عليك ..أتستطيع أن تختفي عن عين الله ؟ افعل ما شئت قل ماشيت تكلم بما شئت حدث بما شئت لكن أعلم
أن الله يراك يسمع كلامك مطلع على أفعالك
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل..... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة....... ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت...... ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى .......ويأذن في توباتنا فنتوب
الخلق كلهم .. الخلق كلهم لا يعلمون عنه شيئا إلا ما أطلعهم عليه (( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء )) لايطلع أحد على شيء من علم الله إلا
بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه .. ولا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كما قال (( يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا
يحيطون به علما )) فالخلق مهما أتوا من علم مهما أتوا من قدره ..مهما بلغت التقنيات مهما وصلوا للمخترعات لا يحيط أحد بشيء من علم الله ولاعن
صفات وذات الله إلا بما شاء الله وقد قال أعلم الخلق به وهم الرسل والملائكة ((سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا )) إنه الله .. إنه الله ((وسع كرسيه
السموات والأرض )) سبحان الله .. سبحان الله .. عجبا وسع كرسيه السموات والأرض هل وقفتم هنا ؟ هل فهمتم المعنى ؟ هل تدبرتم الم تتساءلوا في
يوم من الأيام في أحد الأيام وأنت يا عبد الله تقراء هذه الآية ربما كل يوم مرتين أو أكثر هل سألت نفسك ..أي كرسي هذا الذي يسع السموات السبع
والأرضين السبع ؟ ما الفرق بين الكرسي والعرش ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما :الكرسي موضع قدمي الله عز وجل .. سبحان الله .. الكرسي
موضع قدمي الله عز وجل .. فإذا كان موضع قدمي الرحمن بهذه العظمة يسع السموات السبع والآراضين السبع فكيف إذا بالعرش الذي يستوي عليه
الرحمن ؟ ماصفته ؟ ما هيئته ؟ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أن السموات السبع والآراضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة
من الأرض , وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة )) فلا إله إلا الله (( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم
القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون)) سبحان الله السموات السبع والآراضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة
ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة .. فكيف إذا بمن يستوي على العرش .... إنه الله ..إنه العظيم جل جلاله فتفكر أخي فالله تفكر في آلاء الله
و لا تفكر في الله املئوا قلوبكم بالهيبة والإجلال والتعظيم والخشية ولكن لا تتصورا الكيفية ولا تمثلوه بالمخلوقين
حاشا الإله بأن تكيف ذاته....... فالكيف والتمثيل منتفيان
والأصل أن الله ليس كمثله شيء...... تعالى الرب ذي الإحسان
فالله على كل شيء قدير (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) إنه الله .. إنه الله العظيم يطوي عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيمينه ثم
يقول (( أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الآراضين بشماله ويقول أنا الملك أبن الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟)) كما في صحيح
مسلم . وعند مسلم أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال ((يأخذ الله عز وجل سماواته وأراضيه بيديه فيقول أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها
ويقول أنا الملك يقول ابن عمر: حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني لأقول : أساقط هو برسول الله
صلى الله عليه وسلم . وروي عن ابن عباس قال : ما السموات السبع والأراضون السبع في كف الرحمن إلا كخردله في يد أحدكم .... إنه الله .. إنه
الله ..(( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ))
فهو رب من يضاهيه.... في صفات وذات
ما أتى من صفاته فهو حق ......وكمال برغم أنف النفاة
إنه الواحد الذي لا يضاها .....في معاني اسمائه والصفات
إذن في آية الكرسي أعظم آية يخبر الله عن عظمته وجلاله أن كرسيه شمل وأحاط السموات والأرض وهذا يدل على عظم هذه المخلوقات وعظم
المخلوق يدل على عظم الخالق فالله تعالى عظيم ..الله تعالى عظيم فملئوا القلوب بعظمته ((ولا يئوده حفظهما )) لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السموات
والأرض ومن فيها ومن بينهما بل ذلك سهل عليه يسير جل جلاله عليه فهو الفعال لما يريد الذي (( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون )) إنه الله .. لا إله
غيره ولا رب سواه وهو- العلي – ذو العلو المطلق .. علي بذاته على جميع مخلوقاته وهو العلي بعظمة صفاته وكمالها ولله المثل الأعلى فصفاته كلها
عليا ليس فيه نقص بوجه من الوجوه هو العلي الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات وخضت له الصعاب وذلت له الرقاب .. إنه الله .. إنه الله
العظيم ..العظيم .. العظمة الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء ... العظيم الجامع لجميع صفات المجد والبهاء فمالكم لا تملئون القلوب بمحبته ..مالكم
لا تملئون النفوس بعظمته ..مالكم لا تملئون الأرواح بهيبته وخشيته ((ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ))
إنه الله جل جلاله .. إنه الله العظيم ..إن آية الكرسي تملئ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله فهل وقفنا معها ؟ أفلا يتدبرون القرآن هذه آية وحدة في
كتاب الله كم فيها من المعاني كم فيها من العظمة ؟ كم فيها من الإيمان ؟ كم فيها من علو الإيمان وعلو الروح ؟ لمن تدبر حقا القرآن . السنا نرددها
صباح مساء ؟ أليس البعض منا ربما رددها في أدبار الصلوات ؟ فأين نحن من التدبر فيها وفي معانيها ؟أين نحن ونحن نتلوها ؟ ونرددها من أثرها
في قلوبنا وخشية الله تعالى وتعظيمه من أراد تعظيم الله حقا فليقرءا بتدبر آية الكرسي .من أراد حفظ الله له فليقرءا بتدبر آية الكرسي من أراد أن يعتمد
في كل شئونه على الخالق لا المخلوق فليردد آية الكرسي فحق لآية الكرسي أن تكون أعظم آيات القرآن لما احتوته من المعاني وحق لمن قرأها متدبرا
متفهما أن يمتلئ قلبه من اليقين ومن العرفان والأيمان وحق لمن قراء آية الكرسي بتدبر أن يكون محفوظا بها من شرور الشيطان .. فلنحفظ هذه الآية
نحفظها في صدورنا ولتعظم في قلوبنا ولتهز وجداننا ولتسر في عروقنا ودمائنا ولنربي عليها أنفسنا وأهلنا وأزواجنا ولنحفظها بناتنا وأولادنا
ولترتوي عليها نفوسنا وأرواحنا هكذا آيات القرآن هكذا هو كتاب الله عز وجل
إنني أسمو بروحي حين أتلو .......آية الكرسي والسبع المثاني
اللهم أجعل القرآن ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وجلاء همومنا وأحزاننا اللهم أجعلنا من أهل القرآن وممن يتدبر القرآن وممن يعيش مع القرآن وآيات
القرآن اللهم أرفعنا بالقرآن اللهم عظم قلوبنا بالإيمان وبهيبتك وجلالك يا رحمن السموات والأرض
سبحانك الهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
ابراهيم الدويش
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد
عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم
أما بعد :
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته شكر الله لكم حضوركم ونسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم في هذا المجلس العلم النافع
والعمل الصالح وشكر الله لأخواني في جمعية تحفيظ القرآن الكريم في محافظة عنيزة هذا المنشط المبارك هذا الملتقى الذي هو الملتقى الثاني للقرآن الكريم
وهكذا دائما كتاب ربنا جل وعلى بركات تلوى بركات وخيرات تلوى خيرات نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن وممن يتدبر القرآن ويعمل به
أيها الأخوة والأخوات ( أفلا يتدبرون القرآن ..) إنه القرآن كلام الرحمن
أنت الذي يا رب قلت حروفه....... ووصفته بالوعظ والتبيان
ونظمته ببلاغة أزليـــة .......تكييفها يخفى على الأذهان
وكتبت في اللوح الحفيظ حروفه .......من قبل خلق الخلق في أزمان
أشرح به صدري لمعرفة الهدى....... وأعصم به قلب من الشيطان
يسر به أمري وقض مآربي....... وأجر به جسدي من النيران
واحطط به وزري واخلص نيتي .......واشدد به أزري وأصلح شأني
امزجه يارب بلحمي مع دمي .......واغسل به قلبي من الأضغان
هكذا معاشر المؤمنين هكذا أيها المسلم هكذا يا عبد الله بقلبك قبل اللسان إقراء القرآن لتجد عذوبة ترويك من ماء البيان ورقة تستروح منها نسيم الجنان
(ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ))
القرآن هو الذي يحقق السعادة للإنسان ..القرآن ينشر الأمن والاطمئنان عز وفخر ورفاهية وأمان كل هذا يحققه تطبيق القرآن وسنة خير الأنام عليه
الصلاة والسلام ((لقد تركت فيكم أمرين ما أن تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي كتاب الله
وسنتي )) يتساءل الناس عن المخرج في زمن الفتن والشبهات والشهوات في زمن المغريات كيف نحافظ على إيماننا في الغربة ؟ كيف نحافظ على
إيماننا في غربة الشهوات وغربة الشبهات في زمن العولمة والانفتاح والتقنيات ؟ كيف نربي أبنائنا وبناتنا في مثل هذه الأوقات ؟ لماذا انصرفت
القلوب عن علام الغيوب ؟ لماذا تكالب الناس على الدنيا حتى ربما ظن البعض أنا لا نموت ؟ يشكو الناس من قسوة القلوب ومن كثرة الذنوب ..يشكو
الناس من الخواء خواء الروح والفراغ الإيماني ..وأقول الطريق أن يتعرف الناس على الله حق المعرفة أن تملئ القلوب بمحبة الله عز وجل
أشار القلب نحوك والضمير....... وسر السر أنت به خبير
وإني إن نطقت بكم أنادي .......وفي وقت السكوت لكم أشير
من لم يعرف الله حق المعرفة فهو جاهل ومسكين وهو معدم وفقير وأعظم طريق لمعرفة الله هو معرفة كتاب الله جل وعلا من عرف الله من كلامه
وآياته فإنه يعرف رب قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال منزه عن المثال برئ من النقائص والعيوب له كل اسم حسن وكل وصف
كمال ..فعال لما يريد ..أكبر من كل شيء ..وأجمل من كل شيء ..أرحم الرحمين .. وأقدر القادرين .. وأحكم الحاكمين .. القرآن أنزل للتعريف للتعريف
به جل جلاله لتعريف عباده به وبصراطه الوصل إليه وبحال السالكين بعد الوصول إليه فآيات الله القرآنية تنطق بالتعريف بالله تعالى كما أن آيات الله
الكونية تنطق بعظمة الله التفكر ..التدبر .. طريق لمعرفة الله سبحانه وتعالى معرفة الله طريق لمحبة الله محبة الله طريق السعادة والراحة والاطمئنان ..
فأين الباحثون عن السعادة ؟ أين القلوب التي تعلقت بغير الله تعالى ؟ أين هي عن الله ؟ نعم أين هي عن الله ؟ فالله محسن يحب المحسنين ..شكور يحب
الشاكرين .. جميل يحب الجمال .. طيب يحب كل طيب .. كريم يحب الكرم.. تواب يحب التائبين .. حيي يحب أهل الحياء .. يستحي من عبده إذا مد
يديه إليه أن يردهما صفرا عفو يحب العفو عن عباده .. غفور يغفر لهم إذا استغفروه .. تكثر الذنوب تعظم العيوب تقسو القلوب ويخشى الإنسان من
الخسران ويخاف من الحرمان فيناديه الرحيم الرحمن ((قل يا عبادي الذين أسرف على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه
هو الغفور الرحيم )) ينادي عبده نداء المتلطف به ..من الذي يناديك ؟ إنه ملك الملوك جل وعلا .. إنه الغني عن العالمين .. من الذي يناديك أيها العبد
الفقير ؟ إنه اللطيف الخبير ينادي عبده نداء المتلطف به يدعوه دعاء المشفق عليه (( يا ابن آدم إنك ما دعوتني و رجوتني غفرت لك على ما كان منك
ولا أبالي , يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي , يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني
لاتشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة , ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا , ومن تقرب إلي ذرعا تقربت إليه باعا , وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت
إليه أهرول )) هكذا هو ربنا جل وعلا الباب مفتوح ولكن من يلج ؟ المجال مفسوح ولكن من
يقبل ؟ الحبل ممدود ولكن من يتشبث به ؟ الخير مبذول ولكن من يتعرض له ؟ أين من يملئ قلبه هيبة من الله ؟ أين من يملئ قلبه خشية من الله ؟ أين
من يعظم الله ؟ فالله عظيم .. الله عظيم والعظمة صفة من صفاته وآية من آياته وتعظيم الله يعني تعظيم حرماته (( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى
القلوب )) من كان بالله أعرف ..من كان بالله أعرف كان لله أخوف .. تأملوا تأملوا آية عظيمة في كتاب الله تعظم الله آية جليلة القدر عظيمة الشأن
رفيعة المنزلة بعيدة المكانة لها حلاوة وعليها طلاوة تنزل على القلب برد وسلام يسعد بها الفؤاد تأنس لها النفوس تستروح بها الروح حبيبه إلى الرحمن
حافظة للإنسان طاردة للشيطان حفظها أمن وأمان وقراءتها روح وريحان الترنم بها نعيم وسلوان هي أعظم أجل و آية في القرآن سأل النبي صلى الله
عليه وسلم أبي ابن كعب (( أي آية في كتاب الله أعظم )) فقال أبي : الله ورسوله أعلم فرددها عليه الحبيب صلى الله عليه وسلم ثم قال أبي : آية
الكرسي يا رسول الله . فقال عليه الصلاة والسلام : ((ليهنك العلم أبا المنذر , والذي نفسي بيده إن لها لسان وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ))
كما عند أحمد . أيها المسلم يا عبد الله يا أمة الله أيها الحبيب هل فكرت في معانيها وأنت ترددها ؟ هل سألت نفسك لماذا سميت بآية الكرسي ؟ وما
المقصود بالكرسي ؟ ولماذا هي أعظم آية ؟ ولماذا نقرأها في الصباح والمساء وعند النوم وربما في أدبار الصلوات ؟ هل تدبرتها ؟ هل وقفت مع
معانيها ؟ أليس الله تعالى يقول ( أفلا يتدبرون القرآن ) ألست تقرأها في اليوم مرات ؟ آية الكرسي بعيدة أسرارها .. عظيمة أخبارها حتى الشياطين
عرفت مقدارها ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وسع كرسيه
السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم )) إذا أويت إلى فرشاك فإقراء آية الكرسي فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولايقربنك
شيطان حتى تصبح هكذا علمنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم...)) يكفي هذه الآية العظمة عظمة استفتاحها بلفظ الجلالة
الله .. العلم الخاص بذات الله عز وجل لا يطلق على غيره سبحانه وتعالى (( هل تعلم له سميا )) لقد ورد هذا الاسم الله ورد في القرآن أكثر من ألف
وسبع مئة مرة وهو التعريف الذي عرف الله جل وعلا به نفسه (( أنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ))
الله يا أعذب الألفاظ في لغتي....... ويا اجل حروف في معانيها
الله يا أمتع الأسماء كم سعدت نفسي .......وفاض سروري حين أرويها
الله كلمة جميلة وعظيمة قريبة من النفس ساكنة في الوجدان ,,الله محفورة في الضمير ممتزجة بالدم واللحم والعصب .. الله تطمئن بها القلوب تأنس بها
النفوس تسكن بها الآلام والهموم .. الله تعلقت بها القلوب عظمتها النفوس لهجت بها الألسن ..الله ..الله .. الله .. ما أعذب الكلمة ما أحسن الاسم ما أجل
المسمى
فاستمع يا زمان هذا محب .......سوف يتلو أنشودة للرواة
يا خلايا الفؤاد يا كل نبض....... هات ما عندكم من الحب هات
تاه لبي وذاب قلبي لربي...... فهو حبي وسلوتي وحياتي
وله كل ذرة في كياني .....ومماتي ومنسكي وصلاتي
يقصر اللفظ عن بيان الحب .....ومعان في مهجتي مضمرات
الله لا إله إلا هو .. بداية مشرقة جاءت فيها أول هذه الآية آية الكرسي جاءت كالتاج على الرأس ثم أتى بعدها مباشرة بالصفة الأسما بالقضية العظمى
جاءت كلمة التقوى عنوان الدين أساس الملة الكلمة التي من أجلها أنزلت الكتب من أجلها أرسلت الرسل أقيم سوق الجنة والنار .. لا إله إلا الله .. فلا
يستحق العبودية إلا الله هو المتفرد بالإلهية على جميع الخلائق ..لا إله إلا هو ..جملة فيها النفي والإثبات تفيد الحصر بأقوى صيغة بأن لا إله إلا الله
الحي القيوم .. الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا فحياته كاملة لم تسبق بعدد ولا يلحقها زوال (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والإكرام )) يقول الحق عز وجل (( توكل على الحي الذي لا يموت )) ويقول (( كل شيء هالك إلا وجهه )) سبحانه وتعالى -القيوم- أي القائم بنفسه
القائم على غيره . قيامه بنفسه يستلزم استغنائه عن كل شيء والله غني حميد . لا يحتاج إلى أكل ولا إلى شرب وهو يطعم ولا يطعم وهو يجير ولا
يجار عليه .. لا يحتاج إلى معين ولا ناصر فهو سبحانه قائم بنفسه أما غيره فمحتاج إليه الكل محتاج إلى الله عز وجل في إيجاده في إمداده فجميع
الموجودات مفتقرة إلى الله
من يعيد الرواء للأرض لما....... يطمس الجدب أوجه ضاحكات
من يعافي المريض من بعد سقم .......وقنوط من طب المستشفيات
من يبث السرور في كل بيت ......بالبنين والأطهار أو البنات
من يسلي النفوس بالصبر لما....... تبتلى بالنوازل القاصمات
من يغيث القلوب مما دهاها .......من هموم بئيسة جاثمات
إنه الله .. إنه الله الحي القيوم فيا الله .. يا لله برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ..لا إله لنا غيرك فنرجوه ولا رب لنا سواك فندعوه (( يا
ءايها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشاء يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز )) (( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا
مسكم الضر فإليه تجأرون )) إنه الحي القيوم ..الحي القيوم هما اسمان لله اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وقد ذكر في القرآن في ثلاثة مواضع
هذا أحدها والثاني في بداية سورة آل عمران (( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )) والثالث في سورة طه (( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل
ظلما )) وإنما كان اسم الله الأعظم في اجتماع هاذين الاسمين الحي القيوم لأنه فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني فالذاتي في قوله .. الحي ..
والسلطاني في قوله .. القيوم .. فهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال
قابض باسط معز مذل .......لم يزل مرغما أنوف الطغاة
شافع واسع حكيم عليم....... بالنوايا والغيب والخاطرات
خافض رافع بصير سميع ......لدبيب النمل فوق الحصاة
ظاهر باطن حسيب رقيب....... ليس يخفى عليه مثل القذاة
أول آخر علي غني .......كيف نحصي آلائه الوافرات
باعث وارث كفيل وكيل....... وأمان للأنفس الخائفات
إنه الله ...إنه الله لا تأخذه سنة ولا نوم ..لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا
يغيب عنه شيء لا تخفى عليه خافية .. ومن تمام القيومية أنه لا يعتليه سنة ولا نوم .. والسنة هي النعاس والوسن ولهذا قال .. ولا نوم ..لأنه أقوى من
السنة .. والنوم صفة نقص فلكمال حياته جل جلاله وكمال قيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : (( إن الله عز وجل لا ينام , ولا ينبغي له أن ينام )) إنه الله .. إنه الله .. ((له ما في السموات وما
في الأرض)) إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وله أن يتصرف فينا كما يشاء لأننا وما نملك ملكه أفلا يخض العبد الفقير منا لمالكه وسيده أفلا يصبر
لقضائه وقدره .. عجبا والله .. عجبا كيف يصر العبد على معصية سيده كيف يتكبر ..كيف يطغى ويتنكر (( إن كل من في السموات والأرض إلا آتي
الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا))
كل ما في السموات السبع والأراضين السبع وما بينهما له وحده لا شريك له ..هو الذي له الملك والتصرف ..هو الذي له السلطان والكبرياء .((قل كل
من عند الله )) إنه الله ..إنه الله .. ((له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه .. استفهام
وتحدي ..وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل ..أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا أن يؤذن له بالشفاعة .. وهل هناك أعظم جاه ومكانه
من حبيبنا وأسوتنا وقدوتنا رسولنا عليه الصلاة والسلام ؟؟ ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله .. لكمال سلطان الله وهيبته جل وعلا كما في حديث
الشفاعة يقول عليه الصلاة والسلام ((فآتي تحت العرش فأخر ساجدا , فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع يا محمد وقل يسمع وسل تعطى
واشفع تشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة )) الله أكبر .. أين الوجهاء ..أين الشفعاء .. أين الكبراء أين العظماء كلهم عبيد لله جل جلاله ((وكلهم آتيه يوم
القيامة فردا )) كلهم عبيد له مماليك لا يقدمون على شفاعة حتى يؤذن لهم ولابد من رضا الله عز وجل عن الشافع والمشفوع له
يا منى خاطري وسلى فؤادي....... ليس إلا أإلى رضاك التفاتي
من حولي وقوتي و أتكالي .......يا نصيري فلا تكلني لذاتي
يا غياث الملهوف من كل كرب ......يا معين للمرء في المعضلات
اهدي قلبي يا خالقي وارض عني....... فالرضا منك منتهى الأمنيات
إنه الله.. إنه الله .. اللهم ارض عنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض .. اللهم إنا نسألك رضاك والجنة
((يعلم مابين أيديهم وما خلفهم )) دليل على إحاطة علمه .. فهو يعلم مابين أيدينا من حاضر ومن مستقبل ويعلم ما خلفنا من الماضي ((يعلم ما يلج في
الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير )) يا لها من معاني تأخذ بالألباب يا لها من
كلمات تهز النفوس يا لها من كلمات تزرع العظمة والهيبة في القلوب سبحان الله لا تغيب عنه ذرة خلجات النفوس خواطر القلوب التفاتات العيون لا
تخفى عليه خافية ((يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )) يعلم ماضيها وحاضرها ومستقبلها .. يعلم مابين أيدينا وما خلفنا ومابين ذلك(( وما كان
ربك نسيا )) فأين المفر ..أين المفر أخوة الإيمان ؟ أين الملجأ أين الملاذ ؟ سبحان الله إذا خفت من المخلوق فررت منه وإذا خفت من الخالق فررت
إليه .. انكسرت بين يديه تناجيه تدعوه تستغفر من ذنبك ترجوه ليس لكم إلا الله ففروا إليه انطرحوا بين يديه قفوا ببابه انكسروا لجنابه .. حقيقة
العبودية التي يحبها من عبده إنه الانكسار والخضوع لملك الملوك جل وعلا يوم يجد العبد لذة الانكسار والخضوع ويمرغ الجبين للرب جل جلاله
لا رب أرجوه سواك إذ...... لم يخب سعي من رجاك
أنت الذي لم تزل خفيا .......لم تبلغ الأوهام منتهاك
إن أنت لم تهدنا ظللنا .......يا رب إن الهدى هداك
أحط علما بنا جميعا....... أنت ترانا ولا نراك
إن الله يراك .. إن الله يراك ...إن الله مطلع عليك ..أتستطيع أن تختفي عن عين الله ؟ افعل ما شئت قل ماشيت تكلم بما شئت حدث بما شئت لكن أعلم
أن الله يراك يسمع كلامك مطلع على أفعالك
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل..... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة....... ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت...... ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى .......ويأذن في توباتنا فنتوب
الخلق كلهم .. الخلق كلهم لا يعلمون عنه شيئا إلا ما أطلعهم عليه (( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء )) لايطلع أحد على شيء من علم الله إلا
بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه .. ولا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كما قال (( يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا
يحيطون به علما )) فالخلق مهما أتوا من علم مهما أتوا من قدره ..مهما بلغت التقنيات مهما وصلوا للمخترعات لا يحيط أحد بشيء من علم الله ولاعن
صفات وذات الله إلا بما شاء الله وقد قال أعلم الخلق به وهم الرسل والملائكة ((سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا )) إنه الله .. إنه الله ((وسع كرسيه
السموات والأرض )) سبحان الله .. سبحان الله .. عجبا وسع كرسيه السموات والأرض هل وقفتم هنا ؟ هل فهمتم المعنى ؟ هل تدبرتم الم تتساءلوا في
يوم من الأيام في أحد الأيام وأنت يا عبد الله تقراء هذه الآية ربما كل يوم مرتين أو أكثر هل سألت نفسك ..أي كرسي هذا الذي يسع السموات السبع
والأرضين السبع ؟ ما الفرق بين الكرسي والعرش ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما :الكرسي موضع قدمي الله عز وجل .. سبحان الله .. الكرسي
موضع قدمي الله عز وجل .. فإذا كان موضع قدمي الرحمن بهذه العظمة يسع السموات السبع والآراضين السبع فكيف إذا بالعرش الذي يستوي عليه
الرحمن ؟ ماصفته ؟ ما هيئته ؟ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أن السموات السبع والآراضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة
من الأرض , وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة )) فلا إله إلا الله (( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم
القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون)) سبحان الله السموات السبع والآراضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة
ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة .. فكيف إذا بمن يستوي على العرش .... إنه الله ..إنه العظيم جل جلاله فتفكر أخي فالله تفكر في آلاء الله
و لا تفكر في الله املئوا قلوبكم بالهيبة والإجلال والتعظيم والخشية ولكن لا تتصورا الكيفية ولا تمثلوه بالمخلوقين
حاشا الإله بأن تكيف ذاته....... فالكيف والتمثيل منتفيان
والأصل أن الله ليس كمثله شيء...... تعالى الرب ذي الإحسان
فالله على كل شيء قدير (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) إنه الله .. إنه الله العظيم يطوي عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيمينه ثم
يقول (( أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الآراضين بشماله ويقول أنا الملك أبن الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟)) كما في صحيح
مسلم . وعند مسلم أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال ((يأخذ الله عز وجل سماواته وأراضيه بيديه فيقول أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها
ويقول أنا الملك يقول ابن عمر: حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني لأقول : أساقط هو برسول الله
صلى الله عليه وسلم . وروي عن ابن عباس قال : ما السموات السبع والأراضون السبع في كف الرحمن إلا كخردله في يد أحدكم .... إنه الله .. إنه
الله ..(( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ))
فهو رب من يضاهيه.... في صفات وذات
ما أتى من صفاته فهو حق ......وكمال برغم أنف النفاة
إنه الواحد الذي لا يضاها .....في معاني اسمائه والصفات
إذن في آية الكرسي أعظم آية يخبر الله عن عظمته وجلاله أن كرسيه شمل وأحاط السموات والأرض وهذا يدل على عظم هذه المخلوقات وعظم
المخلوق يدل على عظم الخالق فالله تعالى عظيم ..الله تعالى عظيم فملئوا القلوب بعظمته ((ولا يئوده حفظهما )) لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السموات
والأرض ومن فيها ومن بينهما بل ذلك سهل عليه يسير جل جلاله عليه فهو الفعال لما يريد الذي (( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون )) إنه الله .. لا إله
غيره ولا رب سواه وهو- العلي – ذو العلو المطلق .. علي بذاته على جميع مخلوقاته وهو العلي بعظمة صفاته وكمالها ولله المثل الأعلى فصفاته كلها
عليا ليس فيه نقص بوجه من الوجوه هو العلي الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات وخضت له الصعاب وذلت له الرقاب .. إنه الله .. إنه الله
العظيم ..العظيم .. العظمة الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء ... العظيم الجامع لجميع صفات المجد والبهاء فمالكم لا تملئون القلوب بمحبته ..مالكم
لا تملئون النفوس بعظمته ..مالكم لا تملئون الأرواح بهيبته وخشيته ((ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ))
إنه الله جل جلاله .. إنه الله العظيم ..إن آية الكرسي تملئ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله فهل وقفنا معها ؟ أفلا يتدبرون القرآن هذه آية وحدة في
كتاب الله كم فيها من المعاني كم فيها من العظمة ؟ كم فيها من الإيمان ؟ كم فيها من علو الإيمان وعلو الروح ؟ لمن تدبر حقا القرآن . السنا نرددها
صباح مساء ؟ أليس البعض منا ربما رددها في أدبار الصلوات ؟ فأين نحن من التدبر فيها وفي معانيها ؟أين نحن ونحن نتلوها ؟ ونرددها من أثرها
في قلوبنا وخشية الله تعالى وتعظيمه من أراد تعظيم الله حقا فليقرءا بتدبر آية الكرسي .من أراد حفظ الله له فليقرءا بتدبر آية الكرسي من أراد أن يعتمد
في كل شئونه على الخالق لا المخلوق فليردد آية الكرسي فحق لآية الكرسي أن تكون أعظم آيات القرآن لما احتوته من المعاني وحق لمن قرأها متدبرا
متفهما أن يمتلئ قلبه من اليقين ومن العرفان والأيمان وحق لمن قراء آية الكرسي بتدبر أن يكون محفوظا بها من شرور الشيطان .. فلنحفظ هذه الآية
نحفظها في صدورنا ولتعظم في قلوبنا ولتهز وجداننا ولتسر في عروقنا ودمائنا ولنربي عليها أنفسنا وأهلنا وأزواجنا ولنحفظها بناتنا وأولادنا
ولترتوي عليها نفوسنا وأرواحنا هكذا آيات القرآن هكذا هو كتاب الله عز وجل
إنني أسمو بروحي حين أتلو .......آية الكرسي والسبع المثاني
اللهم أجعل القرآن ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وجلاء همومنا وأحزاننا اللهم أجعلنا من أهل القرآن وممن يتدبر القرآن وممن يعيش مع القرآن وآيات
القرآن اللهم أرفعنا بالقرآن اللهم عظم قلوبنا بالإيمان وبهيبتك وجلالك يا رحمن السموات والأرض
سبحانك الهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
الصفحة الأخيرة
عبدالعزيز الفوزان
يستقبل المسلمون في هذه الأيام وافداً حبيباً، طالما انتظرته القلوب المؤمنة، وتشوقت لبلوغه النفوس الزاكية، وتأهبت له الهمم العالية، وافد قد رفع الله شأنه، وأعلى مكانه، وخصه بمزيد من الفضل والكرامة، وجعله موسما عظيما لفعل الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وافد تواترت النصوص والأخبار بفضله، منوهةً بجلالته ورفعة قدره، ومعلنة عن محبة الله تعالى له وتعظيمه لشأنه. وافد قد يكلفك اليسير، ولكنه يجلب لك الخير الكثير والثواب الجزيل والأجر الكبير، إن أنت عرفت قدره، وأحسنت استقباله، وأكرمت وفادته، واستثمرته فيما يقربك إلى الله تعالى ويرفع درجاتك عنده.
إنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، إنه سيد الشهور وأفضلها على الدوام، إنه شهر القرآن والصيام والقيام، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا وفضيلة، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين ومردة الجان.
شهر المغفرة والرحمة والعتق من النار، شهر الصبر والمواساة، شهر التكافل والتراحم، شهر التناصر والتعاون والمساواة، شهر الفتوحات والانتصارات، شهر ترفع فيه الدرجات، وتضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، شهر فيه ليلة واحدة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فهو المحروم.
فهنيئا لكم أيها المسلمون برمضان، والسعد كل السعد لكم بشهر الصيام والقيام، ويا بشرى لمن تعرض فيه لنفحات الله، وجاهد نفسه في طاعة الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر المبارك، ويبين لهم فضائله، حتى يتهيئوا له ويغتنموه. فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: "كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه، يقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" رواه الإمام أحمد والنسائي والبيهقي، وحسنه الألباني. فدل هذا الحديث على مشروعية التبشير برمضان، وتهنئة الناس بعضهم بعضا بحلوله. قال ابن رجب – رحمه الله-: "وكيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟ وكيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان، ومن أين يشبه هذا الزمان زمان؟".
وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين" وزاد في رواية للترمذي وابن ماجه وغيرهما: "وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على بعض خصائص هذا الشهر وفضائله ومنها ما يأتي:
أولاً: أنه تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وذلك لكثرة ما يعمل فيه من الخير والأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة، ولقلة ما يقع فيه من المعاصي والمنكرات التي هي سبب لدخول النار. وتفتح أبواب الجنة أيضاً ترغيباً للعاملين في استباق الخيرات، والمسابقة إلى الباقيات الصالحات، فهذا أوان الجد والاجتهاد، وهذا هو وقت العمل والجهاد، وأن يري المسلم ربه من نفسه خيراً، والموفق من وفقه الله، والمحروم من حرمه الله.
وتغلق أبواب الجحيم، ترغيباً للعاصين المفرطين في جنب الله، أن يتوبوا ويعودوا إلى الله، وأن يتبعوا السيئات بالحسنات، التي تزيل آثار الذنوب من القلوب، وتمحوها من ديوان الحفظة، فإن الحسنات يذهبن السيئات، والخير يرفع الشر، والنور يزيل الظلمة، والمرض يعالج بضده.
ثانياً: أنه تصفد فيه الشياطين، أي تغل وتوثق، وتقيد بالسلاسل والأصفاد، فلا يصلون فيه إلى ما يصلون إليه في غيره. ولا يتمكنون من إغواء عباد الله وإضلالهم كما يتمكنون منهم في غيره.
ولهذا ما إن يطل رمضان بطلعته البهية، حتى يظلل المجتمع الإسلامي كله جو من الطهارة والنظافة، والخشية والإيمان، والإقبال على الخير وحسن الأعمال، ويعم انتشار الفضائل والحسنات، وتكسد سوق المنكرات، ويعتري الحياء أهلها من اقترافها، أو على الأقل من المجاهرة بها وإعلانها.
وهذه رحمةٌ من الله بعباده، ولطفٌ عظيم بهم، حيث أعانهم على أنفسهم، وحماهم من كيد مردة الجن والشياطين.
على أن هناك نفوسا شريرة قد تأصل فيها الشر، وتشربت الباطل، واستمرأت الفساد، وأسلمت للشيطان القياد، فأبعدها عن كل خير، وحرمها من كل فضيلة وبر، وساقها إلى كل رذيلة وشر، فلا تعرف لهذا الشهر حرمة، ولا تقدر له مكانته وفضله، ولا تعظم شعائر الله، ولا ترجو لله وقارا!!
بل وصل الحال ببعضهم إلى أن يكون أسبق من الشيطان في الشر والإفساد، كما قال قائلهم:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال، حتى صار إبليس من جندي
وقد سمعنا عن أناس لا يبالون بالفطر في رمضان، وربما جاهروا بالفطر بين أولادهم وأهليهم، ومنهم من لا يتورعون فيه عن فعل المنكرات والقبائح، والموبقات والكبائر، بل لربما اجتمع بعض هؤلاء الممسوخين، المطموس على قلوبهم ليالي عشر الأخير من رمضان، والتي هي أفضل ليالي الدهر، وفيها ليلة خير من ألف شهر، فيسهرون على اللهو والغناء، وشرب الخمر وارتكاب الزنا، نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ به من عمى البصيرة ورين القلوب. وقد صدق القائل:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وأصحاب هذه الحال، أنواع شتى:
1 فمنهم المحارب لله ورسوله، الذي جند نفسه للصد عن سبيل الله، والاستهزاء بآياته، والاستهتار بشعائره وحرماته، والسخرية بالصائمين والصائمات، ووصفهم بالتخلف والرجعية، والتحجر والظلامية. هكذا يزعمون، وبمثل هذا الباطل يتفوهون: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}، والحقيقة أنهم هم الجهلة الضالون، والمتخلفون الرجعيون، والمحرومون المخذولون.
2 ومنهم المنافق ذو الوجهين، الذي يتأكّل بالكفر والإسلام، ويتظاهر بالصلاح والالتزام، ويخادع الناس بمعسول الكلام، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها غير هياب ولا وجل، وبلا خوف ولا حياء من الله عز وجل: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
3 ومنهم المعرض عن شرع الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، بل هو مشغول بدنياه عن آخرته، ينفق عمره كله، وأوقاته كلها في اللهاث وراء حطام هذه الدنيا وجمع متاعها الزائل، يرتع كما ترتع البهائم، ويأكل كما تأكل الأنعام، كأنه مخلوق عبثا، أو متروك سدى.
4 ومنهم الماجن الفاسق الذي قطع أنفاسه بالمجون والفجور، واللهو والفساد، فأصبح لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه.
وفي هؤلاء وأمثالهم، يقول الحق تبارك وتعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ويقول تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، ويقول تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}.
ثالثاً: أنه من أعظم أوقات العتق من النار، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة".
رابعاً: أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وفي الحديث الصحيح عن أنس بن مالك – رضي الله عنه - قال: دخل رمضان، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم" رواه ابن ماجه.
وقد حسب بعض العلماء ألف شهر فوجدوها تساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، فالعبادة في هذه الليلة المباركة تعدل العبادة في مدة تزيد على ثلاث وثمانين سنة، مع أنها ليلة واحدة قد لا تزيد ساعاتها عن عشر ساعات، لكن من وفق لإحيائها بأنواع الطاعات من صلاة وذكر، وصدقة وإحسان، وبر وقراءة قرآن، وغيرها، فكأنما ظل يفعل هذه الطاعات مدة تزيد على ثلاث وثمانين سنة، فياله من فضل عظيم، وثواب وافر جزيل، ولا يحرم خيره إلا محروم.
خامساً: أنه من أرجى أوقات إجابة الدعاء، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره: "لكل مسلم دعوة مستجابة، يدعو بها في رمضان"، وفي رواية صحيحة للبزار: "وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة"، وإذا وقعت هذه الدعوة وقت الصيام، وبخاصة قبيل الإفطار، فما أحراها بالإجابة والقبول، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم" رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن. ويقول عليه الصلاة والسلام: "إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد" رواه ابن ماجه بسند صحيح والحاكم والبيهقي.
سادساً: أنه شهر القرآن، ففيه أنزل، وفيه تتأكد تلاوته وتدبره، وحفظه وتعاهده، والعناية به والعمل بما فيه، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
والمراد بإنزال القرآن فيه: إنزاله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً حسب الوقائع والحوادث. وهذا القول مروي عن ابن عباس وغيره.
وقيل: المراد بإنزال القرآن فيه: ابتداء نزوله على النبي – صلى الله عليه وسلم- وأن أول ما نزل منه كان في ليلة القدر من رمضان.
ولعل الصواب مجموع القولين، حيث أنزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في رمضان، ثم كان أول ما نزل منه في ليلة القدر من رمضان.
سابعاً: من خصائص هذا الشهر المبارك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر لها ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
وقوله: "إيمانا واحتسابا"، أي: إيمانا بالله تعالى وبما أوجب من الصيام، ورضي بذلك واطمأن به قلبه، وانقادت له نفسه. واحتساباً، أي: امتثالاً لأمر الله، وطلباً للأجر والمثوبة من عنده، فهو لم يصم رياء أو سمعة، أو طلبا لعرض من أعراض الدنيا، أو عادةً وموافقةً للناس، واستيحاشاً من مخالفتهم والشذوذ عنهم.
ثامناً: أن العمرة فيه تعدل في أجرها حجة، بل تعدل أجر حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" وفي رواية: "تعدل حجة معي" متفق عليه.
تاسعاً: إيجاب صيامه على كل من توفرت فيه شروطه، من الإسلام، والبلوغ، والعقل، والقدرة، والإقامة، والخلو من الموانع كالحيض والنفاس.
يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، فصيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه العظام، فمن جحد وجوبه، فهو كافر مرتد عن الإسلام بإجماع المسلمين، لأن مقتضى جحده لوجوبه إنكار جميع الآيات والأحاديث الدالة على وجوبه، ومن أنكر آية من كتاب الله أو بعض آية فهو كافر، فكيف بمن ينكر كل الآيات والأحاديث الدالة على وجوب صيام رمضان؟! فكان الواجب إقامة الحجة عليه واستتابته، فإن تاب وإلا قتل كافراً والعياذ بالله، لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
أما إن تركه تهاوناً وكسلاً، واتباعاً للهوى والشهوة، مع إقراره بوجوبه، فإنه لا يكفر بذلك، ولكنه مرتكب لكبيرة من أكبر الكبائر، وموبقة من أشنع الموبقات، وتارك لركن من أركان الإٍسلام، وواجب من آكد الواجبات، وهو على خطر عظيم، ومتوعد بالعذاب الأليم، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعراً، فقال لي: اصعد. فقلت: إني لا أطيقه. فقالا: إنا سنسهله لك. فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار. ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققةً أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً. قال قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم" رواه الطبراني والحاكم والبيهقي، وصححه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان.
وإذا كانت هذه بعض خصائص هذا الشهر وفضائله، فجدير بكل مسلم موفق أن يفرح بقدومه، ويحسن استقباله، ويتعرض فيه للنفحات والرحمات، ويجتهد في فعل الخيرات، واستباق الباقيات الصالحات، وأن يبادر بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والسيئات، فإن التوبة من آكد ما يُستقبل به هذا الشهر الكريم، وهي واجبة في كل وقت، ومن كل ذنب، ولكنها في مثل هذه المواسم الفاضلة آكد وأوجب، وصاحبها أحرى بالقبول والإجابة، وأن تكفر سيئاته، وتقال عثراته، وتدمح زلاته، بل وأن تبدل سيئاته حسنات، فإنه إذا اجتمع للعبد توبة صادقة، مع عمل صالح، في وقت فاضل، كان ذلك عنوان الفلاح والتوفيق، قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}. وإذا لم يتب العاصي في هذا الموسم المبارك فمتى يتوب؟ وإذا لم يتعرض لرحمات ربه ونفحاته، ويطلب عفوه ومغفرته في هذا الشهر الكريم فمتى يفعل؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف من أدرك رمضان ثم خرج فلم يغفر له"، أي: لصق أنفه في التراب، كناية عن شدة الذلة والفقر.
فمن حرم الخير في هذا الشهر فهو المحروم، ومن أدركه فخرج ولم يغفر له فهو المذموم، وفي الحديث الصحيح: "أتاني جبريل فقال: من أدرك شهر رمضان، فلم يغفر له، فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت آمين..." رواه ابن ماجه وابن خزيمة.
ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان، وذلك لما يعلمون فيه من الخيرات والبركات، وما يعملون فيه من الطاعات والقربات. أسأل الله تعالى كما بلغنا رمضان أن يوفقنا لإتمامه، وأن يعيننا على صيامه وقيامه، ويجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الفائزين بأعلى الدرجات، وأن يغفر لنا ولوالدينا وسائر المسلمين والمسلمات.