عسل الجبل
عسل الجبل

الحلقة التاسعة

- 9 -
دقت الساعة معلنة الخامسة.. فقفزت سوندا من فراشها كالمجنونة.. صاحت الخامسة؟!.. ابتدأ العمل دون أن أكل وألبس؟!.. فتحت سامورا عينيها فوق السرير وهي تقول: أوه.. ما أجمل الإجازة.. غطّت نفسها.. ثم راحت في نوم عميق..
نهضت سامورا بهدوء.. وخرجت من الغرفة بعد أن لبست ثياب العمل.. تفقدت البيت كله بهدوء.. ثم راحت تنظفه وترتبه.. الطاولات مشعثة.. بعضها عليه كؤوس مقلوبة، وبعضها عليه زجاجات خمر فارغة.. وصحون طعام.. بعضها على الطاولات.. وبعضها على الأرض.. وأشرطة الموسيقى مرمية بعضها على الأرض.. وبعضها على طاولة قريبة.. وبعض الثياب مبعثرة هنا وهناك.. منها بنطالان رجاليان، وقميص نسائي، وجرابان نسائيان.
أسرعت.. فوضعت كل شيء في مكانه.. ورتبت القاعة ثم مسحتها.. ومسحت الطاولات.. واقتربت من غرفتها القديمة.. لم تجد فيها سريرها.. ولا سرير أخيها بورجيه، رأت الغرفة قد تحولت إلى مستودع للخمور، لها رفوف مملوءة بزجاجات الخمر..
دخلت المطبخ وراحت تنظفه وتغسل الصحون.. وتهيئ فطوراً للجميع.. هيأت طاولة الطعام لخمسة أشخاص.. ثم عادت إلى غرفتها تسير على رؤوس أصابعها..
لم تجد سوندا في فراشها.. عجبت لذلك.. هجمت عليها سوندا من الخلف.. وتضاحكت الاثنتان كان يوماً سعيداً..
قالت سامورا: سأعمل خادمة عند أمي.. لاشك أنها أرحم من إدارة المشفى.. همست: لا أدري أين ذهب أبي!! وأين هو أخي!!
قالت سوندا: كم تقدرين أن تدفع لك أمك؟
أجابتها: سأقبل منها أن تطعمني وتؤويني.. ريثما أفكر في عمل مناسب.. لا أريد أن أطلب منها فرنكاً فوق ذلك.. إنها أمي..
همست سوندا: ما أروعك يا سامورا!! هل ترين أن ندخل معهد السكرتارية معاً؟.. لم تنتظر إجابتها بل بادرت تقول: عزمت على ذلك.. وانتهى الأمر.. وفكرت أن نعمل في عمل ما ونجمع منه بقية الرسوم لي ولك..
قالت سامورا: تعيشين في الأحلام يا سوندا؟.. أطلت من النافذة إلى الحديقة فرأت سيارة أطفال فيها ممرضة تتناول من جيرانهم طفلاً رضيعاً.. فراحت تتابع المنظر حتى تحركت السيارة مبتعدة.. ثم وقفت أمام بيت آخر على بابه امرأة تحمل بيدها طفلاً آخر.. وما زالت السيارة تنتقل من بيت إلى بيت حتى جمعت عشرة أطفال.. كانت تتابع المنظر معها.. جلست سامورا على كرسي وقالت: لقد وجدت المال اللازم لمعهد السكرتارية يا سوندا..
نظرت سوندا إليها بدهشة، لم تجد بين يديها شيئاً، قالت وهي تبتسم: وهل نزل المال عليك من السماء يا سامورا؟ كأنك نبيّة من الأنبياء؟! همست سامورا: نبيّة من الأنبياء؟! ما معنى هذا الكلام؟! لا أفهم ما تقولين.. قاطعتها سوندا لا بأس.. سأفهمك معناه يوماً.. لكن قولي لي الآن: أين المال الذي تتحدثين عنه؟!..
ضحكت سامورا لأول مرة منذ ثلاثة شهور، وقالت: سأفاوض أمي أن تفتح في بيتها هذا دار حضانة تؤدي فيها خمسين طفلاً من أطفال الحي. قفزت سوندا وصاحت: فكرة مدهشة، قاطعتها: كم تأخذ دور الحضانة أجوراً عن كل طفل في الشهر؟! قالت سوندا بحماس: عشرين فرنكاً، مع تكاليف الطعام وأجور السيارة. أما أجور السيارة فيأخذها صاحب السيارة لأنك لا تمتلكين سيارة. قالت سامورا: لا.. إن أمي تملك سيارة.. انظري إليها. نظرت سوندا إلى الحديقة فرأت سيارة صغيرة. تابعت سامورا: عظيم.. عظيم. ستقود أمي السيارة، وأتناول أنا الأطفال، ثم ننقلهم إلى بيتنا، وأعتني أنا بهم.. ضمتها سوندا إلى صدرها بعنف، فشدّت سامورا بنطالها، ولما رأت سوندا ذلك منها.. نظرت إليها بدهشة، ثم ضحكتا معاً ضحكة رائعة..
قالت سامورا: والآن تعالي ندرس أين سنضع أسرة الأطفال، حتى تكون فكرتنا واضحة تماماً، لا تثير عند أمي سانيت أي اعتراض..
سألت سوندا: كم غرفة في بيتكم يا سامورا؟ أجابتها: أربع غرف عدا قاعة الرقص وغرفة النوم التي تلاصقها. قالت سوندا: حسناً تعالي نشاهد الغرف الأربعة.. رأتا غرفتين كبيرتين، وغرفة صغيرة قربها مطبخ، وغرفة أصبحت مستودعاً للخمور. قالت سامورا: إنها كانت تنام فيها مع أخيها بورجيه.
اتفقتا أن الغرفتين الكبيرتين تتسع كل واحدة منهما لعشرين سريراً ويمكن أن توضع عشرة أسرّة في الغرفة الصغيرة مع خزانة الألبسة وزجاجات الإرضاع.
كانت الغرف الثلاثة تطل على الحديقة، تدخلها الشمس حتى الظهر، وهن فارغات إلا من بعض عفش البيت وأدواته المعطلة، مع خزانة ألبسة أبيها وأخيها، وثيابها هي، وثياب أمها العتيقة والمهجورة.
يتبع .....
عسل الجبل
عسل الجبل
الحلقة العاشرة

- 10 -
تناول الخمسة طعام الإفطار، وغادر مسيو جان ومسيو أندريه البيت، كانا قد أصبحا صديقين حميمين بعد تلك الليلة الحمراء المشتركة. اتفقا أن يعودا إلى بيت سانيت الأم بعد يومين على الأبعد.. ليسهر الثلاثة معاً.
سألت سانيت الأم: ماذا ستعملين يا سامورا؟! هل وجدت عملاً. لا أستطيع الإنفاق عليك؟!
ارتجفت سوندا من المفاجأة، ما كانت تتوقع أن تكون الأمهات على هذه الشاكلة، إنها معذورة، لأنها لقيطة.. لم تعرف أماً ولا أباً..
ابتسمت سامورا وقالت: سأجعلك تربحين الكثير من المال يا ماما.. فما رأيك؟ انتبهت سانيت الأم بعنف ولانت جلستها وسألت: وكيف ذلك يا سامورا؟ أجابتها: تعلمين أنني قد عملت في رعاية الأطفال في المشفى.. لقد أتقنت هذا العمل بشكل ممتاز.. قاطعتها حسناً.. تابعت سامورا: علمت أن دور الحضانة تأخذ عشرين فرنكاً على الأقل عن كل طفل.. دون أجور السيارة وثمن الطعام!! همست سانيت: فكرة رائعة.. لقد كبرت كثيراً يا سامورا.. ابتسمت سوندا.. وتابعت سامورا: إن خمسين طفلاً يدفعون ألف فرنك.. وأجور السيارة خمسمائة فرنك.. ويتوفر لنا من ثمن الطعام الذي نشتريه بالجملة سبعمائة فرنك أخرى.. فيمكن أن نقول أن الربح سيكون ألفين من الفرنكات.. إذا اعتبرنا أن تكاليف السيارة ستكون مائتي فرنك في الشهر.. فما رأيك؟! هتفت سانيت الأم: عظيم.. عظيم.. لكن كم يكلف ثمن الأسرّة والفرش وثمن الزجاجات. والأدوات اللازمة.. أجابت سوندا: لن يكلف ذلك أكثر من خمسة آلاف فرنك، يمكن أن تدفع تقسيطاً..
قاطعتها سوندا: فإذا اتفقنا أن تأخذ سامورا النصف، وأنت يا سيدتي النصف فيكون ربحكما عظيماً..
أجابت سانيت الأم: قبلت بشرط أن لا تأخذ سامورا خلال الأشهر الثلاثة الأولى فرنكاً واحداً حتى ندفع ثمن التجهيزات.. وبعدها تأخذ نصف الربح..
هتفت سامورا: أنا موافقة.. تعالوا نكتب عقداً لمدة ستة أشهر بهذا المعنى.. لنجرب ما سيجري معنا.. كتبت سوندا العقد.. وقالت: سأسجل هذا العقد في سجلات المخفر.. فما رأيكما؟ وافقت سامورا.. ووافقت سانيت الأم لأنها رغبت أن لا تغير سامورا رأيها.. وفعلاً تم تسجيل العقد في مخفر شرطة الحي.. فأصبح المخفر ضامناً لتنفيذه..
يتبع ....
عسل الجبل
عسل الجبل
الحلقة الحادية عشرة

- 11 -
وزع الثلاثة دعوة مطبوعة على بيوت الحي.. وتم التعاقد مع أهل خمسين طفلاً.. واشترت سوندا و سامورا التجهيزات اللازمة.. وغادرت سوندا البيت في اليوم التالي وهي في غاية الفرحة، إنها ستدخل مع سامورا معهد السكرتارية بعد ستة شهور أو سبعة..
مضت الشهور الثلاثة الأولى بسلام عرفت سامورا خلالها أن أباها يعاني من أزمة مالية.. وعلمت أن أمها سانيت قد طردته من بيتها الذي ورثته عن أبيها على أمل أن يقطع علاقاته مع عشيقاته.. لكنه كان قد ملّ هو من عشاقها.. فترك البيت.. وأمها سانيت لم تأسف عليه. أما أخوها بورجيه فقد حزن على فقدان أبيه وأخته، فطردته أمه من البيت بحجة أنه قد أصبح له من العمر ثمانية عشر عاماً وأصبح مسؤولاً عن نفسه. زار أخته سامورا، وزار أمه، ورضي أن يكون سائقاً لسيارة أمه التي تحمل أطفال الحضانة، من بيوتهم إلى بيت سانيت، مقابل أن تعطيه أمه ثلاثمائة فرنك في كل شهر أجراً، مع طعامه، كان يتابع دراسته في قسم الأديان في الجامعة.
أخبرتها سوندا أن معهد السكرتارية قد قبل طلبهما مشروطاً برؤيتهما في مقابلة اختبارية أمام لجنة قبول السكرتيرات في المعهد.


يتبع .....
عسل الجبل
عسل الجبل

الحلقة الثانية عشرة

- 12 -
كانت أمسية رائعة حينما قبضت سامورا أول ألف فرنك في نهاية الشهر الرابع: قبلتها سوندا ألف قبلة.
عجب بورجيه أخوها، لماذا تأخذ ألف فرنك؟ همس في أذن أمه لماذا تأخذ سامورا أخته نصف الأرباح.. لو أحضرت ممرضة بدلاً منها لرضيت منك بخمسمائة فرنك في كل شهر، العمل لا يزيد عن أربع ساعات كل يوم، طاش صواب سانيت الأم وقالت في نفسها: صدق بورجيه، استدعت سامورا وصرخت بها: سامورا إما أن تقبلي بخمسمائة فرنك كل شهر أجراً، أو أطردك من بيتي. بكت سامورا وقالت: لكننا اتفقنا هكذا يا أمي، أريد أن أجمع قسط المعهد خلال الشهور الثلاثة التي اتفقنا عليها. صاحت بها أمها: أنا لا أعرف، أنت مخادعة، إما أن تقبلي بخمسمائة فرنك راتباً كل شهر، أو أطردك. وتدخلت الشرطة وأجبرت سانيت الأم على إتمام عقدها مع ابنتها سامورا لمدة ستة أشهر بالشروط السابقة، وما إن انتهت الشهور الستة حتى قبضت سانيت الأم على عنق سامورا وقالت لها: ها قد صار معك ثلاثة آلاف فرنك، اخرجي من بيتي. قالت لها سامورا وهي تجمع ثيابها: والله لو لم أكن بحاجة لهذه الآلاف لدخول معهد السكرتارية لأعطيتك إياها كلها يا أمي. صرخت بها أمها: كاذبة.. كاذبة.. اخرجي من بيتي.
خففت سوندا عنها، وقالت لها: لا بأس.. غداً سنبدأ الدوام في المعهد، سننام هناك، ونأكل لمدة سنة كاملة، وقد نجد عملاً نملأ به ما لدينا من وقت. أجابتها سامورا: لكنهم لم يقبلونا بعد يا سوندا!! قد يرفضوننا، قاطعتها سوندا: لا.. لا.. إنهم يشترطون أن لا تدخل المعهد إلا الجميلات، ولن يروا أجمل منك. أما أنا فمقبولة. ضحكت سامورا وشدت بنطالها، وضحكت سوندا معها من كل قلبها، وفعلاً رأت سامورا على باب المعهد حين دخلته لافتة مكتوب عليها: عفواً، نرجو من غير الجميلات ألا يتقدمن لمعهدنا.. شاع في نفسها أسى بالغ..
قالت لسوندا: مسكينات غير الجميلات.. كيف يعشن؟! المعاهد لا تقبلهن، والرجال لا يقبلون عليهن، فليس أمامهن كي يعشن إلا الأعمال الشاقة طوال العمر، مع الحرمان من كل عاطفة احترام أو حب.


يتبع .....
الأريج
الأريج
كملي الله يجزيكي كل خير..كملي :42: