طيف الأحبة
طيف الأحبة
الحلقة الحادية عشرة :

في الحلقة الماضية سألت سلمى عن مجموعة من ذكرياتها مع عدي صدام حسين ، وعن طباعه التي كان العراقيون جميعا يتحدثون عنها ، في مجالسهم الخاصة حسبما سمعت من الكثير من العراقيين الذين عرفتهم خلال سنوات حكم صدام حسين وولديه .
وقد حكت لنا سلمى عن ايمان عدي الغريب بالشعوذة والسحر الى درجة انه سمع كلام ساحر افريقي فابتعد عن النساء وعن سلمى تحديدا عشرة ايام ، وبعد أن رضيعدي عن سلمى تماما سمح لها أن تحتفظ بولدها الذي دفعتها عودته اليها للتفكير من جديد في الهروب من الجحيم ، وهاهي اليوم تواصل سرد قصتها التي أصرت هي على أن تسميها مأساة .
- مدام تقولين إنك بدأت تفكرين بالهرب من جديد ، هل تقصدين الهرب من عدي أم الهرب من العراق؟
- يعني أستاذ الهرب من عدي إذا لم يكن الى خارج العراق فكيف يكون هروباً ؟ طبعا فكرت بالهروب من العراق وبشكل نهائي ، يعني صارت حياتي مستحيلة ، اصلا انا لن اقدر على العيش بين الناس بعد كل ماحدث لي ، وفعلا بدأت التخطيط ، قبل سنوات حين فكرت بالهروب استعني بتماضر ، وأنا صراحة لم أكن راغبة في لقائها بعد هذا الغياب وما سببتُه لها وللمحيطين بها من مشاكل ولذلك فقد قررت الاعتماد على نفسي ، ولكن كيف ؟ هذا ما كان يحيرني ، يعني كيف ممكن اعتمد على نفسي في مثل هذه القصة التي يفشل الرجال في تحقيقها ، فكرت بالسفر الى الموصل ، والفرار منها الى الجبال ، يعني الى المناطق الكردية ، ومن هناك يمكن أن أخرج ، لكن اذا علم عدي بسفري الى الموصل فسوف يقوم بمنعي ، أصلا انا لن اقدر على السفر اطلاقا دون ان يعلم عدي بالأمر .في تلك الفترة كان عدي مرتبكا كثيرا ومشغولا بعد ماحدث مع حسين كامل وشقيقه صدام ، حين فرا الى الأردن وعادا وبعد ذلك قتلا بطريقة قاسية ، صار الناس يتحدثون عن علاقته هو شخصيا بما حدث ، ولذلك فقد كان طيلة الوقت وحتى في الحفلات التي كان يقيمها في قصره أو في واحدة من المزارع الكثيرة لتي كان يمتلكها ، كان كل الوقت يبدو متضايقا ، ومنزعجا ،وأصغر كلمة ممكن أن تجعله يثور ويبدأ يشتم الحاضرين بطريقة سيئة ، وإذا حاول أحد التخفيف عنه فسيدفع الثمن بإرساله الى الرضوانية ، كان يصيح مهتاجا : روحوا ، ابتعدوا ، لاأريد أن أرى هذه الوجوه العفنة ، كلكم متآمرون ، كلكم منافقون ، وكان يشرب كثيرا في تلك الفترة ، يشرب وينام على الكرسي الذي ينام عليه ، حدث هذا في الكثير من المرات ، ورغم وجود الصوت والضجيج إلا أنه كان ينام بعمق، فيبدأ الجميع بمغادرة المكان ، ولا يبقى إلا من طلبهم هو شخصيا للحضور ، أذكر أنه وفي إحدى المرات استيقظ ولم يجد مهند وهو مغن كان يحب صوته كثيرا أقام الدنيا ولم يقعدها لأن مهند لم يكن موجودا ، وأرسل سيارة أحضرت المغني المسكين الذي أمضى الليلة كلها يغني في الحديقة على الرغم من الطقس البارد والمطر ، ربما هذا الوضع الذي كان يمر به عدي شجعني أكثر على التفكير بالبحث عن طريقة للهرب ، فهو وكما قلت لك كان منشغلا وكان يمر أسبوع وأحيانا أكثر دون أن يسأل عني ، لكن كيف يمكن أن أفر من عيونه التي أحس بها في كل مكان .
- تقصدين أن المراقبة التي كان يفرضها عليك من قبل مازالت موجودة ؟
- لا لم يعد هناك مراقبة مثل قبل ، لكن كنت أحس بأن عدي يعرف كل شيء أقوم به ، حتى أني شككت بزينب أن تكون هي من يوصل اخباري اليه ، لكن زينب مستحيل ، فكرت في الكثير من الناس الذين يمكن أن استعين بهم في الموضوع ، لكن صدقني ، خوية ، ومن خوفي عليهم ابعدتهم عن تفكيري تماما ،يعني الأمر يعنيني أنا فلماذا أورط فيه غيري ، في إحدى الليالي كنا أنا وزينب نتفرج على التلفزيون ، الوقت متأخر ، ولا أدري كيف خطرت لي فكرة سؤالها : زينب اسمعي ، أنا أريد أن أحصل على جواز سفر مزورا ، هل تعرفين أحدا يمكن أن يساعدني ؟ سكتت قليلا ، والغريب أني لم ألمح على وجهها أية علامة تدل على أنها فوجئت بطلبي بل على العكس قالت ، وبلكنتها المحببة الى قلبي والتي لايمكن أنساها : كنت متوقعة تطلبين هذا الطلب ، يعني ليس هذا الطلب تماما لكن توقعت أنك ستفكرين بالسفر ، قلت لها مستغربة :ولكن كيف عرفت ؟ قالت بهدوء : إنسانة تتعرض للظروف التي تعرضت لها لازم تفكر تسافر خارج البلد ، تدرين مدام ابن خالتي لديه صديق أستاذ كبير في التزوير ، لكن هو يطلب الكثير ، ابن خالتي يقول عنه : رحيم ، مثل الختم الأصلي ماممكن أن يكتشف أحد تزويره ، بلهفة قلت لها : أريد أن أراه ،هزت زينب رأسها وردت : صار مدام غدا أروح الى بيت خالتي وأطلب من ستار ابن خالتي يدلنا على الطريقة التي يمكن أن نلتقي بها صديقه وكم يطلب من المال ، و(مايصير خاطرج إلا طيب مدام) لايمكن أن أصف لك مدى الارتياح الذي أحسسته بعدما قالته زينب ، تصور وقبل أن يتم الموضوع أحسست بأني حرة ،أقصد بأني تخلصت من عدي . في اليوم التالي ، ذهبت زينب الى بيت خالتها وعادت بعد حوالي الساعة ومعها ابن خالتها ، وكان يبدو عليه الشر ، يعني تدري بعض الناس تحس من وجوههم بأنهم مجرمون ، لكن ما يهمني ، هكذا قلت في نفسي ، يكون شريرا أو لايكون ، المهم أن أحصل منه على ما أريد ، طلب مني ستار أن أعطيه مهلة أسبوع حتى يسافر الى الحلة ويلتقي بصديقه ويتفق معه على تفاصيل الجواز ، وطلب مني مقدم أتعابه هو مئة دولار تكاليف سفره وعودته من الحلة ، طبعا المبلغ كان كبيرا جدا لكني كنت أبحث عن خلاصي من الجحيم وأظن أي مبلغ هو قليل تجاه خلاصي مما أعانيه .
- عفوا للمقاطعة مدام ، ولكن هل أعطيته ؟ أقصد من أين حصلت على النقود ؟
تضحك بهدوء وتقول : - معقولة أستاذ أنا كنت قريبة من عدي ، يعني كل ماأريده كان يصلني قبل أن أقول ، تصدق كان كل يوم تقريبا يرسل لي نقودا ، هو وللحقيقة لم يكن يبخل عليّ بشيء ،هدايا ومجوهرات ونقود فوق حاجتي ، كل شيء عنده أكثر من الحاجة ، تصدق كان عندي سيارتان وكان كل فترة يبدل لي سيارتي ، يرسل لي سيارة جديدة ويعطي القديمة لأحد مرافقيه ، كان يغدق على الجميع بدون حساب ، ولكن حين كان يغضب من أحدهم كان يدمره ، أكثر كلمتين كان يرددهما هي اعطوه ، أو خذوه .
- إذا أعطيت للمدعو ستار المئة دولار التي طلبها ؟
- بكل تأكيد ، وسافر الى الحلة لأن صديقه رحيم المزور كان يقيم هناك بعد خروجه من السجن ، يعني لاأدري الرجل كان من الحلة أو من سكانها ، لكن هكذا قال لي ستار .
- ولكن أسبوع فترة طويلة ليتفاوض معه من أجل جواز السفر ، أليس كذلك مدام ؟
- نعم هذا ماقلته له أنا أيضا ، وحين ألححت عليه أخذ صورتي الشخصية ، ومعلومات عني ، ولكني لم أعطه اسمي الحقيقي ، أسميت نفسي سعاد ، قبل أن يخرج سألني ستار : ست سعاد هل أنت أيضا كنت في السجن وتريدين الهرب ، يعني شغل سياسة ، قلت له : لا ، أنا عملت مشكلة مع أهلي ، وهم يريدون قتلي ، لم أكن أريده أن يعلم أي شيء قريب من قصتي ، يعني كنت أسمع أن أغلب المجرمين هم مخبرين للدولة ، يعني لو قلت له بأني شغل سياسة كما قال ، فربما أخبر الأمن وساعتها سيفتحون لي تحقيقا ، وربما وصل الأمر الى عدي ، ولن أستطيع بعدها الافلات ، بل ربما دفعت حياتي ثمنا لمحاولتي ، المهم سافر ستار ، وكانت زينب تسأل عنه يوميا في بيت خالتها ، إذا كان عاد أم لا ، وكنت أنا على أحر من الجمر أنتظر بفارغ الصبر عودته ، مر أسبوع ، ثم مرت عشرة أيام دون أن يعود ، فعلمت بأني تعرضت لعملية نصب ، وفقدت الأمل ، وكانت زينب تشعر بالخجل وتعتبر نفسها مسؤولة عما حدث ، طبعا أنا حاولت التخفيف عنها لأنها امتنعت تماما عن النظر في وجهي ، وصارت تتكلم معي بطريقة فيها اعتذار دائما ، يعني تتصور البنت كانت تعتبر نفسها مسؤولة على الرغم من أني قلت لها مئة مرة أنت لا علاقة لك بابن خالتك إذا كان هو نصابا فما ذنبك أنت ، بعد مرور ست عشرة يوما ، اتصل بي عدي وطلب مني الحضور الى مزرعته ركبت سيارتي وذهبت ، وبقيت في المزرعة يومين دون أن ياتي عدي ، بقيت وحيدة ، صحيح أنه كان هناك خادمة تقوم بخدمتي لكنها كانت لاتفتح فمهابكلمة واحدة ، تعرف أتصور أن تلك المرأة كانت خرساء . في اليوم الثالث جاء عدي ظهرا ، وكان يركب سيارته البورش الذهبية ، أمضى فترة بعد الظهر معي ثم خرج مندفعا بسيارته ، عدت الى البيت وقبل أن أدخل الى الحمام للاستحمام جاءت زينب وكان يبدو عليها الذهول اقتربت مني وقالت : مات ، قتلوه ، ثم انفجرت باكية ، طبعا أنا لم أفهم شيئا ، لكن تفكيري قادني الى ستار ، قلت أكيد أن الذي مات هو ستار ابن خالتها ، بعد قليل عادت الى الوعي ، يعني هي لم تكن فاقدة الوعي لكن كانت تبكي بحزن ، قالت وهي تجهش والبكاء يخنقها : قتلوا الاستاذ عدي ، قتلوه . طبعا هنا توقفت الأرض عن الدوران بالنسبة لي، وتجمدت في مكاني ، ولم أعد قادرة على الحراك ، مات ، قتلوه ، عدي ، كيف من متى ؟؟ صرت أهز زينب كي تتكلم لكنها لم تكن تملك إجابات لأسئلتي ، كلماكانت تردده هو مات أطلقوا عليه الرصاص وقتلوه ، مسكين قتله المجرمون ، السفلة ، قتلوا الأستاذ ، هل تتخيل ، أستاذ، بأني عاجزة تماما عن وصف حالتي في ذلك اليوم ، لا أصدق وكأن ذاكرتي توقفت تماما ، لاأريد أن أقول بأن الخبر زلزل كياني ونزل مثل الصاعقة على رأسي ، طبعا أنا لم أكن حزينة ، لكن كنت أكثر من مذهولة ، يعني شيء لا يمكن وصفه ، ولكن كيف قتلوا عدي لقد كنا معا قبل أقل من ساعتين ، أين ؟ من هم ؟ ظللت مدهوشة ومذهولة طيلة اليوم ، وأما زينب فهي لم تفتح فمها لتقول كلمة واحدة كانت صامتة ويبدو الحزن والألم على وجهها ، في الليل لم أستطع أن أنام كان هناك قلق يجعلني أتحرك ، لست حزينة ولست فرحة ، لاأدري ماذا تسمى تلك الحالة التي أصابتني ، حالة غريبة حقاً ، ذهبت الى غرفة زينب ، عانقتها ، وسألتها :هل كنت تحبينه يازينب ؟ نظرت الى وجهي باستغراب وقالت بصوت مبحوح : طبعاً هذا عدي ابن صدام ، كيف لاأحبه ، هو ابن السيد الرئيس ولازم أحبه مدام ، كل العراقيين لازم يحبون عدي لأنه ابن صدام ، ابن الرئيس .في تلك اللحظة عرفت كم هي طيبة زينب ، يعني هي ورغم ماعرفته عن عدي من خلال ما كنت تراه وتعرفه ، يعني أقصد أثناء عملها إلا أنها لا تستطيع أن تكرهه لأنه ابن الرئيس ، تخيل هل هناك طيبة في العالم أكثر من هذه ، في الصباح كنت أشعر بشعور غريب لقد تخلصت من ذلك الكابوس دون أن أكون مضطرة للسفر والذهاب بعيدا عن العراق ،يعني أنت لا تتخيل كم أحب العراق ، وكم أنا مشتاقة له الآن ، فكرت في حمل ولدي والذهاب مباشرة الى بيتي القديم أو حتى السفر الى الرمادي ،المهم أني صرت أشعر بأني حرة ولا شيء يمكن يمنعني من فعل ما أريد ، لكن التلفزيون بدد كل ما فكرت فيه طيلة الليل وفي الصباح ، لقد قالوا بأنه نجا من محاولة الغدر الحاقد وهو بخير وصحته جيدة ، هذا ما قالوه على التلفزيون ، وهذا ما جعلني أعود للانهيار مرة أخرى ، قدري أن يبقى هذا الرجل جاثما على صدري ، في تمام الساعة الواحدة ظهرا ، وكنت أحبس نفسي في غرفتي ، جاءت زينب لتقول وبشيء من الفرح : ست ، تدرين من جاء ، إنه ستار وهو يحمل الجواز بيده . سرعة زينب في قول ماقالته جعلتني أقفز بدون وعي وأنقض عليها ، صرت أقبلها ، وصرت أبكي ، اعذرني أستاذ ، لاأدري يمكن أنا لاأقدر أن أعبر عن كل ماعشته خلال ذلك اليوم واليوم الذي سبقه ، يعني أول شيء خبر اغتيال عدي ، وثم جواز السفر ، وبعدما فقدت الأمل حين أذاعوا أن عدي نجا من محاولة اغتياله شعرت ، لكن وجود جواز السفر جعل حزني وخيبة أملي يتبددان ، إذن فإن فرصتي بالفرار من هذا الجحيم مازالت قائمة ، قابلت ستار وسلمني جواز السفر ، وقبض مني ألفاً وخمسمئة دولار، وبعد أن انصرف الرجل ، أخرجت المجوهرات كلها التي أعطاني إياها عدي ، وقررت بيعها لأجل تأمين لوازم السفر ، ولكن هناك مشكلة لم أفكر بها من قبل ، وهي كيف سيمكنني إخراج الصغير معي من العراق ، فأنا بحاجة الى موافقة أهله ، أقصد أهل زوجي الله يرحمه ، وكان الوقت يمر وأن يعطوني موافقتهم فهذا كان صعبا للغاية ، استطعت عن طريق أم ثريا وهي امرأة تعمل في تجارة الآثار والأشياء الثمينة أن أبيع مجوهراتي بحوالي الستة آلاف دولار ، ثم بدأت التفكير بطريقة لإخراج الصغير ، وفعلا تقدمت بطلب للسفر ، وكانت الأخبار ترد كل يوم عن علاج عدي وعن شفائه السريع ، حصلت على موافقة السفر ، بسرعة غريبة عرفت بعدها أن رمضان قريب زينب هو الذي ساعد في سرعة منحي الإذن بالسفر عن طريق بعض معارفه ، وهكذا بدأت الدقائق التي تفصلني عن الرحيل والخلاص تمر بطيئة ، لكن ماذا كنت سأفعل بخصوص الصغير ؟ هذا ماكان يعطل فرحتي ، ولهفتي للخلاص .

في الحلقة الأخيرة :
وهكذا انطلقت السيارة ، وتركت كل شيء ورائي.

يتبع
__________________
طيف الأحبة
طيف الأحبة
الحلقة الأخيرة :

في الحلقة الماضية روت لنا سلمى كيف بدأت أمورها تأخذ منحى آخر فبعد عودة ولدها اليها عادت لتفكر بالفرار من العراق ، وفعلا صارحت زينب الفتاة المكلفة بخدمتها بالأمر ، وسألتها إن كانت تعرف أحدا يقوم بتزوير جواز لها ، وحدث ما أرادته ، لكن قبل ذلك حكت كيف تعرض عدي لمحاولة اغتيال وكان ذلك في العام 1996م . وكيف نجا عدي من تلك المحاولة ، وعادت هي لتفكر بالهرب ، فهل تنجح ؟ سلمى تتابع اليوم سرد قصتها التي أصرت هي على أن تسميها مأساة .
- مدام اذن فكرت في الطريقة التي ستتمكنين فيها من اخراج صغيرك معك . فهل توصلت الى تلك الطريقة ؟
- قبل أن أخبرك عن موضوع ولدي أريد أن أقول بأن أحد المقربين من عدي واسمه نظيم أو نظمي ، فمرة كان عدي وفي حضوري يناديه نظيم ومرة نظمي المهم أن نظيم هذا جاء الى البيت وقال لي بأنهم يحققون في موضوع محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها عدي وأن الجماعة يسألون أين كان الاستاذ قبل تنفيذ العملية فهل تعرفين شيئا عن هذا الموضوع ؟ طبعا أنا ارتبكت كثيرا ، ولم أدر ماذا أقول لكنه وفر علي التفكير وقال لي حتى إذا كان الاستاذ معك فلا تقولي وإذا سألوك ، وهذا ربما لن يحدث، فقولي بأنك كنت في منطقة المسبح في بيت أم زياد ، وأم زياد سيدة في الخمسين من عمرها تعمل مترجمة مع مفتشي الأمم المتحدة ، قولي بأنك ذهبت لزيارتها لتؤمن لك عملا ، اتفقنا مدام ، وأم زياد عندها فكرة كاملة عن الموضوع وسوف تقول الكلام نفسه الذي قلته ، ولكن أهم شيء ، لا ترتبكي ولا تخافي ، مدام أوكيه ، أنا لم أرد عليه أبدا ، بل هو قال الـ(أوكيه) وخرج دون أن يشرب فنجان القهوة الذي قدمته له زينب ، مر يومان وأنا أنتظر أن يأتي المحققون الى البيت لسؤالي أو أن يقوموا باستدعائي ، لكن لم يحدث شيء من هذا ، وكنت خلال هذين اليومين أغلي ، يعني لا أعرف ما الذي عليّ فعله تماماً ، هل أبدأ بتجهيز أموري للسفر أم أنتظر ريثما تنتهي القضية ويعرف الجناة ، بعد انقضاء اليومين بدأت فعلا بتجهيز نفسي للسفر فأعددت حقائبي وحاولت الاعتياد على اسم سعاد الذي اخترته ليوضع على جوازي ، وأخيراً موضوع الصغير ماذا سأفعل به ، يعني كيف سأخرجه من العراق ، عليّ أن أحصل على موافقة أهله ، أقصد أهل زوجي رحمه الله ، وهي موافقة من المستحيل أن أحصل عليها ، طلبت من زينب أن تستدعي قريبها كي يزور لي جواز سفر للصغير أيضاً لأخرجه معي لكن ذلك كان صعباً جداً فستار كان مقبوضاً عليه في إطار التحقيق ، تصدق لم أستطع الوصول الى حل على الرغم من كل النقود التي صرفتها ، وفي يوم كنت جالسة وقد قررت الإقلاع عن فكرة السفر ، قالت لي زينب : مدام أنا سأقترح عليك اقتراحا وأرجو أن تفكري فيه كثيرا قبل أن تردي علي ، قالت : بما أن الأستاذ بخير ولم يمت ، فهو أكيد بعد أن يشفى تماما سيعود لملاحقتك ، ولن تستفيدي شيئا من كل محاولاتك السابقة ، للنجاة من الوضع الذي كنت تعيشينه ، وبما أنك لم تستطيعي الوصول الى طريقة تضمن لك أخذ الصغير معك ، أصلا أنت ذاهبة إلى مكان لا تعرفينه ، يعني ممكن ، لا قدر الله ، تتعرضين لمشاكل أو ظروف سيئة، ولذلك فأنا سأقترح عليك هذا الاقتراح وأرجو ألا تتسرعي بالرد عليه : ما رأيك أن تتركي الصغير عندي حتى تؤمني وضعك في الخارج ، يعني في المكان الذي ستذهبين اليه ، وحين تستقرين أعدك بأن أوصله اليك بنفسي . قاطعتها غاضبة : أترك ولدي لاشك أنك جننت ، كيف أترك ولدي وأرحل ، إنه روحي هل تطلبين مني أن أترك روحي هنا وأذهب ؟ ردت بصدق : تتركينه بأمان هنا أفضل من أن تحمليه وتمضي به الى بلاد غريبة ، يعني الى المجهول تماما . كلامها جعلني أفكر ، نعم هي معها حق في كل ما قالته وأنا أعرف بأنها إنسانة مخلصة ، ولا تقول هذا الكلام بسوء نية ، أنا واثقة بأنها تريد حقاً الخير لي ولولدي ، بقيت طيلة الليل أفكر فيما قالته زينب ، لم أنم لحظة واحدة ، كانت زينب محقة في كل ما قالته ، يعني ما الذي يدريني ما الذي يخبئه لي المستقبل ، كل ما أعرفه أني إنسانة سيئة الحظ وقد يرافقني سوء الحظ في سفري ، وربما أتعرض لمشاكل أكثر مما تعرضت له حتى ذلك اليوم ، في الصباح لم أعد قادرة على الحركة كنت متعبة من السهر والتفكير وكثرة التدخين ،تحاشيت النظر الى عيني زينب كيلا تسألني عن الموضوع ، وظللت أتهرب منها حتى المساء حين جاء سائق السيارة الذي اتفقت معه زينب لينقلني الى عمان ، جلسنا مع ابو محمد وكنت أنا مثل الغائبة عن الوعي ، لم أسمع ماقالا ، تولت زينب مسألة الاتفاق معه وبقيت أنا شاردة الذهن ، أدخن وأراقب وجه الرجل البغدادي اللطيف ، الذي كان يتحدث كثيرا ، ويدخن كثيرا أيضا ، اتفقت زينب معه على الأجرة وعلى وقت الانطلاق ، تعرف، كانت زينب ورغم صغر عمرها تمتلك من الذكاء الشيء الكثير ، ولديها حنكة ،تعرف،كانت كأنها سيدة أعمال ، المهم أنا يمكن لم أتدخل في الحديث بين زينب وأبو محمد كيلا أنفجر وأرفض كل شيء ، كان هناك هاجسان اثنان في داخلي : الأول يقول بأني يجب أن أسافر والثاني يقول والصغير . بعد أن انصرف أبو محمد انزويت في غرفتي بانتظار أن تطرق زينب الباب وتدخل ، كان الصغير يحدق في وجهي باستغراب ، وكأنه كان يسألني ماذا ستفعلين يا أمي . في الحادية عشرة ليلاً فتحت زينب باب الغرفة ودخلت ، وقالت وهي تحتضن الصغير : مدام صدقيني ، الصغير سيكون مثل ولدي ، لن أفرط فيه أبدا ولن أجعله يحتاج الى شيء ، أنت تعرفين كم أحبه ولست بحاجة لأقول لك ، والله لو كان عندي أطفال فلن أحبهم مثل ابنك ، ولا تقلقي أرجوك ، فأموره ستكون بخير ، صدقيني مدام ، لن تندمي ، كلام زينب أسكت أية محاولة للرفض عندي ،لكني لم أقل أية كلمة ظللت ساكتة ، استمع اليها ، وأراقب ولدي كنت أحبس الدموع في عيني كيلا انفجر باكية امامه ، فهو في الفترة الاخيرة لا يراني إلا باكية قلقة دائمة التوتر ، وهذا ما أثر على نفسيته ، وجعله مضطربا وخائفا طيلة الوقت ، خوية ، يعني انت تدري الاطفال حساسون اكثر من الكبار ، وصحيح انهم لا يفهمون كل ما يحدث من حولهم لكن أكيد هم يتأثرون ، بما يرونه ويسمعونه ، وهذا ما كنت ألاحظه على ولدي ، فقد كان يبدو عليه الخوف والاضطراب ، وكان يستيقظ في الليل باكياً ، بسبب كل هذه الأشياء ، قررت أصعب قرار في حياتي ، كان عليّ أن أترك الصغير عند زينب كما طلبت هي مني ، على أن ترسله لي حين أستقر وتتمكن هي من تأمين جواز سفر أو طريقة ما لإرساله إليّ ، وهكذا ........... جاء يوم الرحيل ، وقفت أتأمل وجهه حاولت ألا أبكي كيلا أؤلمه ، كان أهون علي أن أموت ، ولكن ربما حرك قدمي الشيطان ، ربما حجم الخوف والرعب الذي كان في داخلي هو ما جعلني أنسى كل شيء ، وأمضي في رحلتي تاركة صغيري الذي كتب له أن يكون بلا أم ، قلت لزينب وأنا أعانقها : قولي له أمك ماتت ، لأني ميتة ، نعم أنا ميتة ، أنا أم سيئة ، حاولت زينب تهدئتي ، وعدتني بأن ترعى الصغير رعاية عظيمة ، وأن تعمل ما بوسعها كي تجعله يكون سعيدا حتى تتمكن من نأمين وسيلة لإيصاله إليّ ، حتى ولو كنت في الصين ، حسبما قالت . توقفت السيارة فصعدت دون أن أنظر الى الخلف ، تركت كل شيء ورائي ورحلت ، تحركت السيارة متجاوزة طرقات بغداد الغافية فجرا إلا من بعض الحركة ، ومع خروجنا الى الطريق الدولي زاد ابو محمد السرعة ، وزادت المسافة بعدا ، لم أنظر الى الوراء ، ولا مرة ، كنت أدفن وجهي في راحتي وأبكي .
- عفوا مدام ولكن ألم يكن ثمة ركاب آخرون في السيارة ؟
- لا ، كنت الراكبة الوحيدة ، هكذا اشترطت على ابو محمد ، ودفعت له أجرة السيارة كاملة .
- وأين كانت وجهتك؟
- الأردن .. هناك أصدقاء أردنيون من أيام الجامعة ، كانوا يدرسون معي في بغداد ، ولدي عناوينهم، فكرت أن التجأ إليهم كي يساعدوني ، حين وصلنا الى عمان ، طلبت من السائق أن يتجه الى جبل الحسين ، حيث تسكن هناء الطراونة وهي كانت أكثر الصديقات قربا لي أيام الجامعة ، حين وصلنا الى المنطقة ، سألنا صاحب سوبر ماركت عن بيت هناء ، فصعد معنا الرجل في السيارة واخذنا الى البيت ، كان صاحب السوبر ماركت هو شقيق هناء الأكبر ، استقبلتني هناء استقبالا حارا وحميمياً، والحقيقة أني كنت اتوقع أن تكون قد نسيتني ، لكنها تذكرتني فور رؤيتي على الرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على آخر لقاء بيننا ، لاحظت هناء تعبي ، فأدخلتني الى غرفة الضيوف وطلبت مني أن أرتاح ، قالت لي الآن ارتاحي ، وفي المساء سنتحدث ، من شدة تعبي ، ارتميت على الاريكة وغرقت في النوم ، ايقظتني هناء مساء ، وبعد أن تناولنا العشاء ، دخلنا أنا وهي الى غرفتها وسألتني عن سبب هذا الحزن العميق الذي في وجهي ، في البداية خفت إن أنا حكيت لها ما جرى لي ألاّ تصدقني وأن تعتبرني بعت نفسي رخيصة لعدي ، ولكني حكيت لها كل ما حدث فصارت تبكي ، قالت لي منذ أيام الجامعة كان لدي شعور غريب بأنك ستعيشين حياة مختلفة عن كل البنات اللواتي كن في دفعتنا ، ولكني لم أكن أتوقع أن تكون حياتك مأساوية الى هذه الدرجة ، جعلني تعاطف هناء معي أشعر ببعض الارتياح ، وخف تأنيبي لضميري قليلاً ، يعني هناك من يقدر بأني كنت ضحية من ضحايا عدي صدام حسين الكثيرات ، ويتعاطف معي ، لأنك تعرف أن المرأة عندنا نحن العرب دائما مسؤولة عن كل ما يحدث لها حتى وإن لم تجد سبيلا ، يعني هل هو ذنبي أن يكون الله خلقني جميلة ، وجعلت عيني عدي تقعان عليّ ، وجعلته يسعى لاصطيادي ، وكأني أرنب ، أمضيت أسبوعا أقيم في بيت هناء الطراونة ، وبعدها أخذتني هناء وبناء على إلحاحي الى مكتب الأمم المتحدة، وهناك استقبلوني فحكيت قصتي للسيدة باربارة المسؤولة عن شؤون العراقيين ، ومباشرة تعاطفت معي ، وسجلت أمام اسمي للتحقيق ، ثم طلبت مني العودة بعد أسبوعين ، خلال اسبوعين مررت بظروف نفسية سيئة ، فلم أعد أستطيع النوم ولا تناول الطعام ولا القيام بأي شيء ، أخذتني هناء الى صديقتها الدكتورة خولة وهي مختصة بالأمراض العصبية والنفسية ، وأخضعتني الدكتورة خولة لمجموعة من جلسات العلاج النفسي ، لكنها أخبرت هناء بأني مصابة بنوع من الانهيار العصبي الحاد ، والكآبة الشديدة ، ونصحتني الدكتورة بالسفر الى الخارج للعلاج ، حصلنا من الدكتورة خولة على تقرير طبي مفصل عن حالتي ، وقدمناه للأمم المتحدة ، ضمت السيدة باربارة التقرير الى ملفي ، كنت في حالة لا يمكن وصفها ، بكاء وصراخ طيلة الليل ، وامتنعت تماما عن مغادرة غرفة هناء ، أهلها استغربوا ولكنهم كانوا أناسا رائعين حقا ، لقد عوضوني خلال الأيام التي أمضيتها معهم عن افتقادي للعائلة ، كانت أم هناء أما حقيقية ، لقد كانت تدخل كل ساعة لتراني وتطمئن أني بخير ، وكانت تذيب لي السكر في الماء وتجبرني على شربه ، حتى لا تموتي كانت تقول ، لا تفكري بنفسك فقط فكري بولدك أيضاً هو يحتاجك يا ابنتي ، انت لاحق لك بنفسك ، يجب أن تفكري بولدك قبل أن تفكري بنفسك ، كلام أم هناء كان يمنعني من الانتحار ، ولكنه لم يكن يجعلني قادرة على المقاومة ، ذات ليلة حاولت هناء إيقاظي فلم أستيقظ، نقلوني الى المستشفى ، وبقيت تحت المراقبة الدقيقة ثلاثة أيام ، كنت قد فقدت أكثر من ستة كيلو غرامات من وزني ، وكان وجه صغيري لا يفارقني لحظة واحدة ، في المستشفى ، ابلغوني بأنه تم قبولي لاجئة في الأمم المتحدة ، وبعد أيام من الإقامة في المستشفى ، تقريبا ثمانية أيام ، جاءت هناء وأهلها جميعا والدكتورة خولة لتوديعي في المطار وأنا أستقل الطائرة في الرحلة المتجهة من عمان الى امستردام ، اعطتني الدكتورة خولة عنوان المصح الذي سأقيم فيه ست سنوات بعد ذلك في مدينة ماستريخت ، قالت لي بأن علي ان اراجع المصح كي أتخلص من كآبتي ومن حالة الانهيار العصبي التي يمكن أن تصيبني مرة أخرى إن لم تعالج بشكل سريع .
- مدام ، إذن هكذا سارت أمورك حتى صرت في المصح ، وولدك لماذا لم تتصلي بزينب وتطلبي إرساله إليك ؟
- أطلب إرساله إليّ ! تتصور أستاذ بأن حالتي كانت تتراجع باستمرار ، حين وصلت الى امستردام كان في انتظاري ، واحد من معارف الدكتورة خولة ، هو شاب سوري ، ولكنه يقيم في هولندا منذ عشر سنوات ، عرفني على العرب الموجودين هناك ، وأخذني بنفسه الى المصح في مدينة ماستريخت، ومنذ اليوم الذي دخلت فيه الى المصح ،أي في الشهر الثالث من عام 1997 لم أخرج حتى اليوم الذي قتل فيه عدي ، تعلمت الهولندية وحصلت على الجنسية ، والتقيت بالكثيرين الذين زاروا المصح مرضى وغادروا منهم بعد أيام ، ومنهم بعد شهور ، ومنهم من بقي سنة أو سنتين ، كنت أنا وشاب فنزويلي كان يعاني من عقدة الاضطهاد أقدم الموجودين ، وقد غادر الشاب الفنزويلي المصح قبلي بحوالي الأسبوعين .
- مدام سلمى ، هل سألت عن ولدك خلال هذه السنوات السبع ؟
- نعم اتصلت السنة الماضية بزينب وطمأنتني عنه ، قالت لي إذا كنت أحب أن ترسله لي فقلت لها لا، يعني الى أين ترسله ؟ الى أم نصف مجنونة وأنا الان ذاهبة لأراه لأضمه الى صدري ، لأقول له بأني أحبه كثيرا ، وأرجو أن يصدقني ، فأنا أحبه اكثر من شيء في الحياة.
وهكذا غادرتنا سلمى بهدوء كما دخلت أول مرة ، استمر تسجيل هذه الحلقات أربعة أيام متتالية ، كنا نجتمع أنا وهي بمعدل ثلاث ساعات إلى أربع ساعات يوميا تقريباً ، لم أتدخل فيما قالته إلا حين يكون ما تقوله ليس مفهوماً، حاولت قدر المستطاع أن أترجم لهجتها العراقية الى العربية الفصيحة كي تكون مفهومة للجميع ، قالت سلمى وهي تودعني مغادرة : أستاذ أشكرك لأنك استمعت إليّ ، وأنا بدوري أقول لسلمى التي عادت الى العراق لتلتقي بولدها : أرجوأن تجدي ولدك ، وأرجو أن يفارقك سوء الحظ.
بلوك: قالت سلمى وهي تودعني مغادرة : أستاذ أشكرك لأنك استمعت إليّ .

النهاية
Onasis
Onasis
لا حول ولا قوه الا بالله العلي العظيم... والله لا توجد كلمات تعبر .... لكن الله موجود والله مع المظلوم... لا حول ولا قوه الا بالله
جنـان
جنـان
لاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ...
حقاً كما قالت سلمى تلك مأساة وليست بقصه ...
مسكينة عانت الكثير الله يعوضها بأيام مشرقة بنور أبنها الصغير ...


:26:
شمس الكون
شمس الكون
طيف الأحبة
اشكر لك اتمام القصة