كيف نرضى عن الله للاستاذة اناهيد السميري
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لازلنا بمحض فضله ونعمته نتدارس أسماءه وصفاته -سبحانه وتعالى- التي مَنّ علينا بتعليمنا إياها، فله الحمد أوّلاً وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا -سبحانه وتعالى-، وهذه مِن أعظم المنن التي تُذكر فتُشكر، أن يُعرّفك الملك الكريم بنفسه يا أيها العبد الضعيف، ويجعل شهودك لآثار أسمائه وصفاته بين عينيك شاخصًا واضحًا، فأنت كل ما تعلّمت عنه، وجدت في الحياة ما يشهد لوصفه ?سبحانه وتعالى- بكمال الصفات.
ودائما يتردّد سؤال -وربما كان هذا السؤال مِن الأسابيع الماضية-: كيف نرضى عن الله؟ خصوصًا ونحن في طيّات كلامنا عن باب الأسماء والصفات نردّد دائمًا: ((فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا)) ونردّد دائمًا أن القوم اعتلّوا بعلّة جعلتهم يفسّرون الحياة على غير حقيقتها.
أنت مُنْعَمٌ عليك، وكلّ الأقدار التي تجري عليك إنما تنقلك مِن نعمة إلى نعمة، لكن نظرك الضيق السطحي المحدود إلى أفعال الله يجعلك تنظر للنعم على أنها نقم!
وكم مِن ناظر لنعمة على أنّها نقمة، كان جزاؤه مِن الله أن يكدّر عليه صفو هذه النعمة، أن يذهبها عنه!
وكم مِن المرّات نظرنا إلى النِّعَم بِنَظر البطْران، فلما أُخذت منّا، تحسّرنا تحسّر عبد يتقطّع قلبه، ولو قُدّر أن يموت أحد بحسرة، كان مات هذا الشخص حسرة!.
كم مِن قصص وحكايات تسمع الكبار يقولون فيها للصغار: لا تبطر، ترى أنا فعلت مثلك وذُقتُ ثمن هذا البطر، ((فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا)).
السؤال: كيف نرضى عن الله؟
هذا سؤال دائمًا يتكرّر، كلما تكلمنا في الأسماء والصفات قلنا أن النتيجة المهمة والأثر المهم بعد أن تعرفه أن ترضى عنه، كل ما تعلّمت، المفروض يكون منك الرضا عن الله، فإذا رضيت رضي الله عنك. ثم أنك تعلم أن هذا الذي يرضى هو صاحب النفس المطمئنة.
أي أنك لو رضيت ستخرج بنتيجتين:
1. في الحياة، ستكون صاحب النفس المطمئنة، ووقت القبض تكون مطمئنًا.
2. مِن جهة أخرى، إذا رضيت ورضي الله عنك في الحياة فمِن المؤكّد أن آخرتك ستكون من هذا الرضا.
أي أن ((فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا)) في الدنيا والآخرة.
فبقي السؤال: كيف نرضى عن الله؟ نقابل هذا السؤال بسؤال آخر: ما أسباب سخط الناس على الله؟ لِماذا تجدهم غير راضيين عن ربهم؟ متى تجد شخصًا ساخطًا على الله ولا يوجد في قلبه رضا؟
وقتما يبتلى، وقتما يأتي شيء على غير هواه. تتحرّك في الناس مسألة الرضا وعدم الرضا وقتما يُبتلوا بأشياء، وقتما يأتيهم شيء ليس على هواهم، فيحصل لهم أمران عندما يأتي شيء على غير هواهم، يصبح هذا الشيء ملء سمعهم وبصرهم، لا يرون غير هذا الشيء الناقص، وماذا يفعلون بكمية النعم التي أُعطوها؟ النسيان.
يجمعون بين أمرين:
1. نسيان النعم العظيمة الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى.
2. وإبقاء المكدّر هذا ملء السمع والبصر، لدرجة أنه قد تخرج على الألسنة كلمات تقول: "لو ربنا أخذ مني كل شيء فليس مُهمًّا، أهم شيء هذا!" وهذا كذب محض؛ لأنه لو أخذ منك فقط الصحة -وليس كل الصحة- لو فقط أثار عليك سِنًّا مِن أسنانك، ترى أن كل شيء لا شيء في مقابل هذا، وستعيش طيلة الوقت في هذه الدوامة! فكذب محض لو قلت أنك مستعد أن تتنازل عن كل شيء في مقابل هذا الشيء.
سأعيد مرة أخرى.
دائمًا ونحن نطرح باب الأسماء والصفات نخرج من كل اسم وصفة نذكرها لله بأن نقول: يجب عليك أن ترضى عن الله، إذا عرفته لابد أن ينشرح صدرك لكل أفعاله.
فيأتي سؤال: كيف أرضى عن الله؟ ما هي الصورة العملية للرضا عن الله؟ كيف أناقش نفسي بحيث أرضّيها؟ المورد والشريان الأساسي للرضا عن الله هو العلم عن الله، لكن العلم مرحلة تحتاج إلى تفعيل، تصبح فعلاً حقًّا، فلا يكون في الذاكرة، بل مكانه الشريان، العمل، كل الحياة، يجري فيك، بحيث أنك تضيّق على عدوك الذي يجري فيك مجرى الدم؛ لأن الذي يسخطك عن الله عدوك، يثير فيك مكنونات تجعلك تسخط، فنحن نريد أن يجري هذا العلم مجرى الدم بحيث أنه يضيّق على العدو.
لما نأتي نشخّص مرض عدم الرضا، اتفقنا على أن هذا المرض يصيب الناس عامة وقتما يأتي القدر على غير هواهم، فماذا يحصل لما يأتي القدر على غير هواهم؟ هذا أول عامل عندي: أن يأتي القدر على غير الهوى، فماذا يحدث؟ ينسى الإنسان النعم مِن جهة، ويصبح القدر الذي على غير الهوى ملء السمع والبصر، فلا ترى غيره، ويكبر ويعظم، يصبح مصيبة عظيمة، بحيث يصاب الإنسان العاقل المتّزن بالخروج عن عقله، ويقول كلمات لا تصلح مِن مثله! فما سبب مثل هذا؟
كأن عندي ثلاثة أحداث:
1. الهوى، لأن الأمر الذي أتاك على غير هواك، وهذا أول عامل.
2. النسيان، نسيان النعم.
3.تعظيم المفقود، تعظيم الأمر الغير الموجود.
نبدأ بأخطرها على الإطلاق التي تسبب عدم الرضا عن الله (الهوى). نفسّر هذا الهوى، ما هو الهوى؟
عبد، ضعيف، عقله ناقص، يرى أن تقديره واختياره للأمور خير مِن اختيار الملك العظيم كامل الصفات وتقديره، مثلاً: أريد أن أزوّج ابني فلانة، ثم نذهب إلى فلانة وترفضنا، أو يحصل أن يصلهم خبر فيترددون، فانظر إلى مشاعري وقتما يتردّدون أو يرفضون، أشعر أن اختياري وأن هذه البنت هي التي تصلح، وأن غيرها لا يصلح، وأشعر أن هذا الاختيار -اختياري أنا- خير من اختيار الملك الذي صَرَفَ عني هذه البنت.
ضربت مثل الخطوبة لأن غالبنا يتفق على أن أي أحد ينصرف فهذا خير، فعلى هذا قِس كل شيء. فإذا كنت مؤمنًا أن انصراف هذه البنت من حياة ولدك خير وبركة، وبما أننا لم نتّفق فأكيد أنه خير، وربي هو الذي يختار، قبولك بمثل هذا، يسبّب الرضا عن الله، فاختيار الله خير من اختياري، فهذا المقياس ما دُمْت راضِ عنه وتشعر أنك اخترت فصَرَفَ الله اختيارك ثم اختار غيره لك، ضَعْ هذه قاعدة وقس عليها كل الحياة: كل شيء تختاره ويوافق هواك، لما يُصرف عنك، أو تنصرف عنه: بيت، زوج، أموال، تجارة، كل شيء، صغير الأمر أو كبيره، يكون اختيار الله -عز وجل- خيرًا من اختيارك.
ما الذي يجعلك تسخط؟
تشعر أن عدم وجود الأمر الذي تريده سيسبّب لك كدرًا، سيسبّب لك نقصًا في الحياة. تصوّر المطر لما أتى على شخص عنده فرح في مكان مكشوف، ما هي مشاعره؟ كم يكره هذا المطر! هذه هي مشاعر الجالس في الموقف. أنت تظنّ أن هذا مجرد حَدَث يجب أن ينزل علينا، فأنا حددت زواج ابني أو ابنتي في هذا اليوم وجاء المطر، فتتصور أن مجرد مصادفة أن يأتي المطر مع هذا الزواج في المكان المكشوف، وإذا أراد الناس أن يطبطبوا عليك يقولون لك: هذا حظك، المنحوس منحوس! إلى آخر ما يقال، هذا التطبيب الذي على أصوله! فهل تظن أن عبثًا يحصل في أقدار الملك العظيم؟! والله ليس عبثًا.
قد تقول: يجب أن تجيبني، ماذا يمكن أن تكون الحكمة من نزول مطر على أناس عندهم فرح؟! نقول: والله لا أجيب، وهل يستطيع العبد الضعيف الناقص العقل والتفكير والإحاطة بشؤونه فضلاً عن شؤون الخلق أن يجيب على هذا السؤال؟! مهما قلت فهو كلام في الهواء، لا تستطيع إدراك أبعاد الحكمة، وكم أحياك سنين وأنت عنه ساخط، ثم أراك كمال حكمته، كم مرة دعونا في سنين كثيرة ثم لما نضجنا حمدناه وحده لا شريك له أن لم يستجب دعاءنا لأننا كانت لدينا اختيارات فاسدة، كانت ستفسد حياتنا، لولا أنه -سبحانه وتعالى- شملنا برحمته لكان قضى علينا دعاؤنا، لكن هذا من معاملة خلقه بالرحمة.
أنت ترى أن هواك يحقق لك المصالح، ترى أن هواك يوصلك للمراد، أنت معظم للهوى، لهوى نفسك ورغباتك، لما تراه من عقلك صواب وحكمة، ترى اختيارك الذي يوافق هواك هو الصواب، فلما عظـُم الهوى -أي الشيء الذي أريده- وأتت أفعال الحكيم العليم تخالف الهوى، بسبب عظمة الهوى في نفسك، التفتّ إلى العظيم -سبحانه وتعالى- فلم ترضَ عنه؛ لأن هواك هو المعظَّم عندك، فأصبحت أول طرق الرضا عن الله معرفة أنك عبد ضعيف، ما تهواه قد يكون سببًا لهلاكك وأنت لا تدري.
في أحد مناطق المملكة -كما أتت الأخبار في الأسابيع الماضية- طفلة كانت تلعب في السيل ثم جرّها -أسأل الله أن يرحمها ويجبر قلب أهلها والمسلمين أجمعين- لما كانت تلعب في السيل -سواء بموافقة أهلها أو عدم موافقتهم إنما أضرب هذا كمثال- أليس اللعب في السيل موافقًا لهواها؟ فانظر ماذا فعل الهوى؟ ذهب بها!
فصوّر نفسك دائمًا بهذه الصورة: الذي على هواي كأن شخصًا يلعب في سيل، فإذا تركناك على هواك جرفك السيل، وإذا منعناك مِن اللعب في السيل حفظناك حتى وأنت تكره أن نمنعك!
أي أن هواك يدفعك لأن تغامر بنفسك، بقلبك، بإيمانك، يجعلك تبيع جنات النعيم بعرض من الدنيا! قد تقول: "لكن هواي ليس بهذه الدرجة، هواي أن يجتمع أهلي مثلاً في هذا المكان ثم أتى المطر وما اجتمعوا، هواي أن أشتري كذا وما اشتريت، ليست مسألة مخالفة للشريعة" نقول: لابأس، الحكيم أعلم بقلبك، الحكيم أعلم بما يسبّب لك الصلاح في الدنيا والآخرة، كم من اجتماعات كانت سببًا لافتراقٍ عظيم، وكم من لقاءات كانت سببًا لإعراض جسيم، فلا تفكر بهذه الصورة، لا تظنّ أنك أحكم من العليم الحكيم. كلما عرضت الأمور على هواك ووجدت أنه يوافقها وأردتها وجمعت قلبك عليها فقدّر الحكيم أن لا تكون لك، كن راضيًا عمّن يصرّف الأمور؛ لأننا دائمًا نحسب الحسابات على قدر عقولنا الضعيفة، فلو أتيت أسمّع لك جدول الضرب: ماهو آخر رقم تعرف تضرب فيه؟ كل شخص على قدر ثقافته، وأحيانا يكون لنا في العلم الكثير، لكن بسبب الآلات الحاسبة نسينا الموضوع، فأبعد حساباتي أني أعرف لو ضربت هذا بهذا ماذا ستكون النتيجة، أبعد الحسابات توصلني لرابع أو خامس أو عاشر شخص لي علاقة به، لكن هل توصلك لمصالحك الكاملة؟ الجواب: لا.
نحن حساباتنا ضيقة، ودائمًا عمياء من زاوية، هناك شيء لابد أنك لا تراه، فكم من إنسان مسؤول ومشغول معتنٍ بالأمانة التي عُلّقت في عنقه -وهذه مواقف حقيقة يحكيها أهلها-، تكون مسؤولة في التعليم وتهتم ثم تنسى ابنتها في المدرسة! لماذا؟ لأنني حتى أفكر في المصالح ما عندي إلا قدرة محدودة فأحيانا أنسى مصالح عظيمة بسبب أني لا أستطيع التفكير إلا بمحدودية في المصالح، فكونك ترفض هواك يبدأ من صغير الأمور قبل كبيرها.
كيف نرضى عن الله؟
لا تجعل الهوى مصدر رضاك. الهوى أحد البلايا، ما تحبه وتهواه أحد البلايا التي تعيشها، فاعلم أن جعلك الهوى ورغبتك وما تريده مصدر رضاك عن الله يعني أنك لن ترضى أبدًا، وستوافق أولئك القوم الذين وُصفوا بالنفاق، ذاك الذي ((إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ)) أحد مقاييس الإيمان والنفاق أن المؤمن راضٍ عن ربه دائمًا، والمنافق متذبذب، وقتما يُعطى شيئًا على هواه يرضى، ووقتما لا يُعطى لا يرضى! أي أنه يشكر ربنا وقتما يعطيه، وإذا ما أعطاه يقول: دائما أدعُ ربي ولا يستجِب لي، تقولون أن ربنا سميع وبصير وقريب وأنا ما أرى ذلك! يُنكر حتى قُربه وسمعه وبصره! لأنه ما رأى أثره -في تصوّره-. والشهر الماضي والذي قبله والذي قبله؟ كل هذه شواهد في حياتك تُنسى مادام هواي الآن لم يُحقق!
فأول عدو للرضا عن الله هو الهوى، وسبب تمكن الهوى من الخلق أنهم يرون الكمال لعقولهم، فأكون مرتّبًا للمسألة ترتيبًا معيّنًا، في ترتيبي أن هذا الطريق يوصل للصواب، فلما ينقلب الترتيب أظن أني لا أصل إلا إلى فساد، في مقابل أنك لو أحسنت الظن بالله وقلت: "الله -عز وجل- أعلم بمقصدي ومرادي، وهو الذي يسبّب الأسباب للوصول إلى مرادي" فسلّم له الأمر، ولهذا ستجد في النقاش حول الرضا لابد أن يدخل الكلام حول التوكل وهو قلب التوحيد، التوكل قلب التوحيد النابض. إذا كان التوحيد له قلب فقلبه التوكل، وإذا التوكل قلب فسويداؤه الثقة بالله. كيف تتوكل على الله؟ لما تعرفه فتثق به.
سائلة تسأل عن شخص ليس ساخطًا ولا راضيًا، لا حامدًا ولا ساخطًا، لا يوجد لجوء لله ولا بُعد عنه.
الجواب: هذا فقط يحتاج إلى تحريك جيد للجوء إلى الله، كأنه مستعد للجوء إلى الله وبقي عليك أن تحرك فيه هذا.
سائلة تسأل: هل الناس درجات في الرضى؟
الجواب: نعم على قدر علمهم عن الله.
لازلت أناقش النقطة الأولى: كيف نرضى عن الله؟
بدأ الجواب بتحرير العكس: لماذا يسخط الناس على الله؟ أين تظهر مواطن السخط ؟ لما تأتي الأحداث على خلاف الهوى.
لما تحرّر مسألة الهوى تذكر قصة موسى -عليه السلام- مع الرجل الصالح وانظر إلى المواقف الثلاث، ما الهوى في السفينة؟ أن تبقى سليمة. أتدري أن خُرقًا في سفينة يُرقع بأيسر الأمور سبب لسلامتها؟ لكن عقلك يقول: كيف؟ كيف تخرقها وتقول أن هذا سبب السلامة؟ ومثله: كيف يُقال لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} ؟
ما سويداء هذا التوكل؟ الثقة به -سبحانه وتعالى-، أن تكون شخصًا مليئًا بالثقة بالله. من أين تأتي الثقة؟ من المعرفة. تعرف وتثق، فلما تثق ستقرأ الحدث بلغة واضحة.
مشكلتنا أننا نقرأ الأحداث بلغات ضعيفة! هذه الأحداث التي تدور حولك مكتوبة بلغة خاصة، كيف تفكها؟ بالعلم عن الله، والثقة به. فلما تقرأ حدثًا وتكون على ثقة تامة بالله لا بد أن تقرأه بأسلوب صحيح، لا بد أن تقول: وراء هذا الحدث الغير المفهوم أو الذي لا يوافق الهوى ما يرضيني ويرفعني، وكم مِن خلق تراهم ضعفاء في قيامهم وصيامهم لكنهم منطوون على قلوب راضية عن الله، وهذا الرضا هو الذي يسبّب لهم أعالي الدرجات، ليس بسبب كثرة الصيام والقيام، لكن بقوة اليقين والثقة بالله، وهذه فوارق لا يشعر بها كثير من المستقيمين، كثير مِن الناس يقيسون الاستقامة بمقدار العمل، لا يعرفون أن هناك كثيرون في الزوايا والبيوت موجودون، منازلهم في الجنة عالية بمقدار ما في قلوبهم مِن رضا عنه -سبحانه وتعالى-.
فكلما أتى أمر على خلاف الهوى رضّوا أنفسهم أن الذي اختاره هو الحكيم العليم كامل الصفات واختياره خير من اختياري، ولو رأيت هذا جيّدًا سترى كثيرًا من الأمراض النفسية تذهب؛ لأن القوم الآن يصيبهم التردّد مثلاً، وهذا أحد الإشكالات، أني كلما أردت أن أقدم على خطوة أتردد وأقلق وأبقى قبل الحدث بأسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع في حالة اضطراب شديد، مع أنك لو أحسنت معرفة الله وتوكلت عليه ووثقت به، لنمت قرير العين، استخرته وكنت هادئًا بعيدًا عن التردّد، هذه حال، فالقلق يأتيني من التردّد، وحالات الاكتئاب أيضًا تأتي من عدم الثقة بأن المستقبل بيد الله، وأنّ المُلك مُلك الله، فهذا كله يسبّب لك أن ترى أحداث تحدث في الحاضر فتقول: إذا كان هذا أولها فمعروف تاليها، إذا اليوم الناس متخرجين من الجامعات وما عندهم وظائف فغدًا سيكون كذا كذا، وتتكلم عن المستقبل. كل هذا له سبب واحد: أنّ هواك هو حكمك في السخط و الرضا.
فكيف تعالجه؟ هل تعالجه بأن لا تهوى ؟
لا، ستهوى، هذا طبعك، لابد أن تهوى و تتمنى وترجو وتحب، لكن لا تجعل هواك حكمًا على أفعاله -سبحانه وتعالى-، أهوى هُنا أي: (أحب، وأرجو، وأتمنى)، أتمنى أن أتخرج من كلية كذا، أتمنى أن ألتحق بكذا، أن أسكت في بيت كذا، وأحيانا تجتمع هذه الأماني وتكبر، فنجمع المال لنشتري بيت أو أرض أو شقة، فأذهب وأجدها بيعت، فأمام هذا الموقف يحصل انهيار نفسي "أنا دائمًا حظي كذا!" أو تبيع أرضك قبل أن تغلى الأرض بقليل، فتبيعها بمبلغ زهيد، و الذي بَعدك يبيعها بمبلغ عالٍ، فتكاد تنقطع حسرة، لا، ليس هذا ما يُتحسر عليه! كان هواك أن تكسب هذا المبلغ، لكن لا تدري لو دخل عليك هذا المبلغ كم سيفسدك، كم سيقطّع أرحامنا، كم من بيوت وأموال قطعت الأرحام، كم من إخوان كانوا مجتمعين فلما دخل عليهم المال قطع قلوبهم. المقصد: اختياره خير من اختياري.
أنا أهوى هذا الأمر، أتمناه، لا أحد يقول لك لا تهوى، لكن لما تهوى ويأتي قدر الله -عز وجل- مخالف لما تهواه، مباشرة يكون عندك مشاعر أن الذي قضى هو الأحكم الأعلم، الذي قدّر هو الملك العظيم، الذي أخذ هو الذي يعطي في كل حين.
ما الذي يسخطنا؟
هوى نريده، وأحداثًا وأقدارًا تأتي خلاف ما نريده، فهذّب هواك، تمنّى لا بأس، لكن لما يأتي الأمر على خلاف أمنيتك، لا تكن ضعيفا، يجب أن تكون مشحونًا، إذا أتى فالحمد لله، عسى الله أن يكتب فيما أتمنى ما أريده، وإذا لم يأتِ فاختيار العليم الحكيم خير من اختياري.
المشكلة الأكبر لو أتى: كم من أمنية تمنيتها وأتتك ابتلاء؟ كم أمنية تمنيناها فقلت: "والله لو تزوجت رجلا صالحًا سأفعل وأفعل"، وتتزوج المرأة رجلاً صالحًا فتفسد عليه صلاحه!، ياما شهدنا نساءً كُنّ سببًا في إفساد الزوج الصالح، أو بالعكس. كم من الأماني حُققت لك فكانت بلاء عليك
ثم اعلم أن هذا أحد الابتلاءات في الحياة: أن يرجو الإنسان ويلح ويلح فيعطيه الله اختبارًا له، وهذه مسألة أخرى تحتاج إلى نقاش آخر؛ لأنه لما يأتيك ما هو على هواك ندخل في زاوية أخرى من الأخطار: إما قانون الجذب عند مَن يفكر بنقص عقل، وقانون الجذب ليس كلامًا جديدًا بل قديم، وهذا بلية، وكل يوم نسمع من البلايا الشيء الجديد. قانون الجذب يقول لك: "لو فكرت في الشيء كثيرًا أتيت به، لو فكرت في أمر كثيرًا وطلبته جذبته إليك، حتى لو أردت أن تسيطر على أحد محبة ففكر به حتى تأتي به!"، و هذا يتحقق ابتلاء منه -سبحانه وتعالى- هذه قضية أخرى تحتاج إلى نقاش بصورة أخرى.
سؤال ورد من الحاضرات: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)) هل شرطًا أن يصبر ليكون خيرًا له؟ وهل الخير في الدنيا والآخرة؟
الجواب: نعم، لا يكون خيرًا إلا إذا صبر. إذا قبلت عن الله قرأت ما يرضيك، و إذا لم تقبل ما استطعت أن تفك شفرة الأمر ووجدت نفسك من دوامة إلى دوامة.
إذن أول علة تسبب عدم الرضا عن الله: (هوانا). هوانا وهوى أبناءنا مستحكم فينا، يريدون هذا السفر أو المكان، ولما لا يأتي على ما يريدون تجده ساخطًا وهم ساخطون! فلا يستحكم فيك الهوى، تمنّى وارجُ وخذ بأسبابه لكن اختيار الله خير من اختيارك.
المسألة الثانية : النسيان.
وأخبر الله -عز وجل- عن هذه الصفة في بني آدم كما في طه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} النسيان وما أدراك ما النسيان! ماذا نقصد بالنسيان؟ نسيان النعم، وهذا النسيان ابتلينا به مِن عند آدم -عليه السلام- هذه علة عليلة كلنا نشترك فيها (نسيان النعم).
ما تفاصيل هذا الطبع ؟
نحن عندنا ذاكرة، المفروض أن نغتنمها في أن نُبقِي الذكر الحسن لربنا، كل مرة أخرجك الله مِن الأزمة لا تتذكر الأزمة، تذكر الإخراج، ولك في ذلك سلفٌ حسن، يوسف -عليه السلام- قال في وصف الأحداث؟ {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ما قال: ودخلت وخرجت، فقط تكلم عن الخروج، فهكذا العبد الراضي عن ربه الذي يعلم أن ربّه لطيف، عنده ذاكرة حسنة، ذاكرة: كيف خرجنا من الأزمة.
كل آخر شهر يمر ذوي الدخل المحدود بالأزمات ويخرجهم الله، ويأتيهم الرزق مِن حيث لا يحتسبون، ويجدون مائة أو مائتين محشورة هنا أو هنا، فتكون فرجًا عظيمًا، أو يأتيهم أحد يقول لهم: استدنت منكم قبل سنتين، فنقول: تعال جزاك الله خيرًا، وهناك مشاعر بهجة أن فرجًا أتى. فتأتي الشهر القادم وقد فُرّج عنك الشهر الماضي فتقول: هل كل مرة ستُعاد الكرة وسيأتي شخص استدان منا؟! فبدلًا من أن تزداد ثقة بالملك الرزاق يُنسيك الشيطان الفرج الأول، وليس ذلك فقط، بل يجعله لا شيء، يجعله بسبب الدين الماضي، لكن مَن ذكّره في ذاك الوقت بالدين؟ كيف قلبت الصفحات فوجدت هذه الـ 100 ريال داخل الكتاب؟ مالُك قد يكون محبوسًا عند أشخاص فيأتيك الله به في الوقت المناسب، فالنسيان طبع ابن آدم.
نحن نستخدم ذاكرتنا في الأحزان، نطرب بإعادة سلسلة الأحزان، وكل شخص له دفتر يكتب فيه مآسيه! على مَن تكتب مآسيك؟! على الرحمن الرحيم ؟! على الملك القدوس السلام؟! على الجبار الذي جبر قلبك؟! هل لما يجبر قلبك وينسيك تقوم أنت تقلب صفحات الأسى ؟! وهذا الكلام أخُص به الشباب؛ لأن الشيطان قد تخبطهم، شياطين الإنس والجن بالطبع، و هناك مَن رسم لهم رسما. في كثير من دفاتر الشباب التي أطّلع عليها في المناسبات كلامًا لو حاسبنا الله عنه لذهبت بركات البلاد والعباد!
لماذا ؟ كلها كفران بالنعمة، لا تكلمك إلا عن شخص كأنه في سجن كبير و قحط عظيم! ما هكذا تعامل ربك! حتى أنك تحرر الأسى ولا تحرر كيف أكرمك وأنعم عليك وأعطاك وأغناك وجعلك محفوظ النسب ومكرمًا وجعلك من أهل السنة والدين طريقك! هل كل هذا تنساه ولا تذكر إلا ما نقص من هواك؟! نعم يمر الناس بأزمات لكن أليس لهذه الأزمات الرب الكريم الذي يخرجك منها؟ فعندما تريد أن تتذكر وتُبقي لك ذاكرة تذكر عطاءه ورحمته، لا أن تبقي في ذاكرتك كل الأسى الذي عشته! عشت قبل 10 سنوات أسى وها أنا أراك بصحة جيدة فما بالك لا تذكر عطاياه؟ ما بالك تنسى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ؟ أين أنت من هذه الآية؟
الأسى إنما هو منزلة عالية، كل ما مررت به من آلام لن يذهب، ستجده في الصفحات مكتوبًا صبرًا يعليك في منازل الجنة، لا تتصور أن ربك ينسى شيئًا {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} ، لكن لا تُبقي في كتابك وذاكرتك إلا ما يزيدك رضا عن الله.
لماذا لما ندخل الأماكن لا يذكر أهلها في هذه الأماكن إلا ما آساهم؟ نكون عشنا 10 سنوات حياة طيبة ثم افترقنا على نوع أسى، فلماذا لما أراك بعد عشر سنوات لا أتذكر إلا مقطع الأسى؟! ماذا عن مقطع الآمال والحياة الطيبة التي عشناها؟! هل كلها تذهب؟! هذه ليست فقط صفة النسيان، بل أيضًا صفة النكران والجحود، فخَف الله في نفسك وأبنائك.
تكون المرأة متزوجة منذ 30 أو40 عامًا ولا تذكر زوجها إلا بسوء! أبعد هذه العشرة وهذا العمار؟! أتظنّ أن حياة تخلو من كدر؟! ألم تعرف وصف الحياة ووصف خلقك؟ {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} لا يمكن أن تأتي الحياة مخالفة لذلك وهذه سنة الله، والكبد هذا مؤقت، كلها 60 أو 80 سنة، كلمح البصر، كأنك دخلت مِن باب وخرجت من الآخر، ثم -نسأل الله عز وجل من فضله- الخلود في جنات النعيم.
مرحلة تعيشها فلا تكلمني عن الأسى الذي فيها، كلمني عن العطايا واللطف والنقل من ضعف إلى قوة ومن جهل إلى علم، كل شيء يمشي من أجل أن يوصلك إلى الله فهل تنكر نعمة الله؟! هل تنكر أن علمًا انتشر؟! هل تنكر أن جهلاً انكشف؟ هل تنكر أن طعامًا تأكله من أطايب الطعام؟! هل تنكر أن كل نعيم من نعيم أهل الدنيا تراه؟ وكل هذا غمضة عين، اسأل أنعم أهل الدنيا، سيخبرك أن ما مضى من نعيم كالحلم!
اذهب واجمع أموالك واسكن في أفخم فندق، 7 نجوم، واجلس خمسة أيام ثم اخرج في اليوم الخامس، هذه الـ 5 أيام لا شيء، لا جدران الفندق ستحملها معك، ولا الفخامة التي فيها ستكون سببا لسعادتك في مستقبل الأمر، ولا أي شيء، وهكذا الدنيا، كمُقيم في نعيم فغادره سريعًا! فإذا كانت متاع الغرور فما بالك لا ترى فيها عطاء الله؟! ما بالك تنظر فقط للنقص؟! هذه الصفة: (نسيان عطايا الله) توصل العبد أحيانًا إلى جرائم في حق الربّ، وإلى سبّ لله، و إلى أن يكون جحودًا كفورًا بنعمة الله، فلا تكن مثل هذا. ألا ترى أن الله في سورة الإنسان قسم الناس إلى قسمين : {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ثم انظر إلى ما وراءك وكيف نقلك الله وأعطاك الله، وكيف أنه سبحانه وتعالى حفظ عليك بدنك وسمعك وبصرك، وأهمّ مافي هذا كله أنه حفظ عليك قلبك، فهذه كلها من النِّعَم التي تُذكر فتُشكر.
لا تجعل لك ذاكرة سيئة عن الحياة، اجعل لك ذاكرة طيبة عن أفعاله -سبحانه وتعالى-، هو الذي شرح صدرك ومتّعك بالصحة و العافية، وأنامك بلا قلق، وأحياك بلا تعب.
والله كثير ممن يأكلون لا يعرفون معنى أن تأكل هنيئًا مريئًا! هذه القناة التي تدخل فيها اللُّقمة كم من ميّت مات بسبب اختناقه في هذه المنطقة! كم من شخص من المرضى والله لا يهنؤون بلقمة يأكلونها، لا تصل اللقمة للمريء أبدًا، هؤلاء الأشخاص بالآلاف، يرى الناس يأكلون وما يستطيع أن يأكل إلا سوائل، وبالماء يَشْرَق! لابد أن نستعرض كمية الأمراض التي تتصل بأن تأكله هنيئًا مريئًا.
أنت تأكل متى تريد ومتى تشتهي، وهذا مسكين يقول: إذا كان هذا مصنوعًا من الدقيق فلا أستطيع أن آكله لأنه يتجمع فينقبض في المريء، و إذا كان مصنوعًا من كذا فلا أستطيع أن آكله" إلى هذه الدرجة! ثم أن مثل هؤلاء غالباً لا يستطيعون أن يأكلوا إلا شيئًا مُسكّرًا ليذوب سريعًا في الفم، ويكون مصابًا بالسكر فلا يستطيع أن يتهنأ به! فتجده يأكل على أضيق المسائل، وأنت تأكل ما تريد، وقتما تريد، دون أن تفكر!
أليست هذه نِعَم ؟!
مشاهد بسيطة من مثل هذا تجعلك تعرف ما قيمة ما أُنعم عليك، لكن مصيبة النسيان تجعل العبد بمجرد أن يأتي شيء على غير هواه ينسى كل النعم التي كان فيها وينسى كل فضل الله عليه، فاجعل هذه ذاكرة تجترّها ليلاً ونهارًا: حفظك، جعلك من أهل الإسلام، كل مفقود لاشيء، مادامت الفتنة ليست في ديني، كل شيء لا يساوي شيئًا مادمت لازلتُ حيًّا أستطيع أن أتوب وأعود وأشتري جنات النعيم بهذه الساعات الباقية من حياتي.
لابد تفهم أن النسيان علّة عليلة أخذت القوم بعيدًا وخصوصًا النساء أصحاب المشاعر الفياضة وقت الآلام، نعبّر تعبيرًا لا ينتهي، يأتي شخص يقول لك: أنا عاجز عن أن أصف لك المشاعر التي مرّت عليّ في هذه الأزمة، ويجلس ساعة كاملة يصف فقط مشاعره في الأزمة، ثم ماذا بعد أن خرجت؟ صف لي مشاعرك بعد الأزمة؟! يقول: أنا عاجز عن أتكلم، ويسكت! هذا الذي يحصل! حتى لما تجد شخصا يتكلم عن فرج الله يختصر، و لما يتكلم عن المصيبة التي وقع فيها يفصّل بدقة! فما بالك تتكلم عن الكريم الرحيم بهذا الأسلوب؟ ثم أننا غالبا ننسى، فيقول لك: السيل، المطر، الرياح، السحاب، فعل وفعل، وكأن هذه ليست مُسخرة، وكأنها ما وراءها مَن أرسلها! فحالات النسيان التي نعيشها سبب لما نراه من عدم الرضى.
أريد أن نجمع عاملين إلى هنا:
1. ادفع هواك و لا تجعله حاكمًا على أفعال الله، اختيار الله خير من اختيارك.
2. نظِّف ذاكرتك واجعلها قويّة فيما عشته مِن التفريج والخروج مِن الأزمات، وفي المواقف التي عاشها مَن حولك في مثل هذا.
لما تجلس في مجلس لا تكلم الناس عن أقدار وَقَعَت مِن الله على الخلق مِن جانب السوء، كلمهم عن أقدار وَقَعَت من الله على الخلق وكيف فرجها عليهم، حدّث بنعمة الله. وإذا وجدت قومًا يخيفونك مِن الكريم العليم بأن مصيبةً ستحصل، وجفافًا سيكون، وغرقًا سيكون -إلى آخر الكلام الذي تسمعه- كن مؤمنًا به وبرحمته، وكن على يقين أن استغفارًا وتوبة سبب لتفريج هَمٍّ واقع.
اتفقنا على أمرين:
1. انتبه لهواك، ولاتجعله حَكَمًا على أفعال الله، ولا تجعله سببا للرضا والسخط.
2. قَوّي ذاكرتك واجعلها في الخير والبركة، وادفع عنك ذاكرة الأحزان.
مِن النعم أن تكون ممن ينسى فينسى الأحزان ويُبقي فقط مواطن الفرج التي تزيدك ثقة، فالذي ذاكرته قوية في هذا الأمر لما تأتيه أزمة مثل التي أتت قبل 4 أو 5 أو 10سنوات له ولم يكن له شيء يعطيه أولاده، ثم يتذكر أني كنت مثل هذا وأسوأ ففرجها الله، فيأتي أولاده يسألونه: ماذا سنفعل؟! فيقول: "والله ليرزقنا الله، والله سيفرجها الله علينا، والله أن فرجه آتٍ وسيأتي أقرب ما يكون"، ومثل هذا الواثق إذا أقسم على الله أبرَّه، تجده على يقين وثقة بالله، ليس في ذاكرته عن الله إلا كل خير لا عن فلان وفلان؛ لأن فلانًا أعطاني اليوم لكنه لن يعطيني غدًا، لا تحتفظ بذاكرتك اتجاه الناس وتقول: دعني أخرج من ذاكرتي الطبيب الذي كنا معه أو المدير الذي عاشرناه فربما ينفعنا. تبحث عنه فتجده ميّتًا! فيقال لك: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} ، واترك عنك الخلق المرزوقين، وثِق بالرَّزَّاق الكريم -سبحانه وتعالى-.
عندنا ثلاثة أمور:
1. الهوى.
2. النسيان.
3. تعظيم المصيبة.
المسألة الثالثة: تعظيم المصيبة.
تعظيم الناقص طبع لابن آدم في أن يرى ما نقص عليه عظيمًا، والسبب في ذلك ثلاثة أمور، فكلما رأيت شيئًا نقص عليك ورأيته عظيمًا، اعلم أن أحد هذه الثلاثة أمور شاركتك في هذه المشاعر:
1. المحيط، والناس، والعادات و التقاليد، والمجتمع .
2. الطمع.
3. الجهل، أن يكون جاهلاً.
نبدأ بتفصيل النقطة الأولى:
1. (المحيط و العادات و التقاليد).
في كثير من الأحيان تحصل أحداث على خلاف الهوى، لكن فقدان هذا الشيء في إتمام هذا الشيء لا شيء. مثال: يمكن أن يتزوج ابني أو ابنتي دون أن يكون هناك فرحٌ كبير، أو أن هذا مانع للزواج، كنّا قد خطّطنا أن نقيم زواجًا وكل شيء، ولأيّ ظرف كان ما استطعنا، فطيلة الوقت العروسان والأهل يندبون حظّهم أنهم ما استطاعوا أن يقيموا الزواج، ما السبب؟ كل الناس المحيطين حولهم يقولون: كيف ستزوجون ابنكم الأول دون حفل زواج؟ لا يصح هذا!، في شرع مَن لا يصح هذا؟! هل هم لا يستطيعون أن يتزوجوا ويقيموا بيتًا إلا إذا أقاموا هذا الحفل العظيم؟! وكل الناس ينظرون لهم بنظر النقص، وأنكم مساكين وليس لكم حظّ، وحظّك في ابنتك الأولى يا خسارة! ومن هذا الكلام الذي يشعرك أن مصيبة عظيمة حلّت عليك! ثم تعال، ما المشكلة؟ ما بالكم تتكلمون عن أن مصيبة عظيمة حصلت؟ قال: "لأن ابنتنا ستتزوج ولم نستطع عمل هذا كله" وهل هذا من شروط نجاح الزوج؟! ربما العكس، فلا تفعل لهم هذا الأمر العظيم لأن أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أيسرهنّ مَؤُونَةً، فالمسألة أصبحت عكسية! في كثير من الأحيان يكون الناقص لا شيء ولا يكدر الحياة، والناس الذين حولك يوصلون لك مشاعر أن المفقود هذا شيئًا عظيمًا، وكأن لا شيء بدون هذا الشيء! اتركهم، حرِّر المسائل واجعل عندك عقلاً، هل هو حقيقة مفقود أو لا يُعتبر شيئًا؟ وعلى ذلك قِس، كم مِن ناس عندهم قدرة أن يكون لهم بدل الخادمة اثنتين، والزوج غير موافق، وكل الجيران يقولون لهم: لو أنا مثلك أطلب، لماذا يحبس عنك الأموال؟!، وهي قادرة على أن تخدم أهل بيتها، ثم تلزم طلب الحول والقوة من الله. هل أنسى كل فضل وإكرام هذا الزوج والاستقرار العائلي وأقلب الدنيا لأجل هذا الشيء؟ وكل الناس يقولون لك: (الذي هو أقل منك مستوىً عنده!) أرأيتم كيف يحدد لك المجتمع إذا كان هذا شيئًَا عظيمًا أو لا؟ ألقهم وراء ظهرك، ولذلك اترك هذه الاستشارات الأسرية الداخلية في البيوت والمجالس، هؤلاء لو صمتوا -جزاهم الله خيرًا- لحُلّت كثير من مشاكل المجتمع.
2) الطمع.
من الأسباب التي تجعلك ترى المفقود كل شيء أنك طمعان، فقد أعطاك الكثير، وأنت على هذا الناقص القليل ترى أن الحياة كدرت! فقد يقدّر الله -عز وجل- على بعض الأشخاص أن ينقص عليهم شيء من الحياة، وإذا نقص عليك شيء، نقص على غيرك شيء، ثم أنه لما يُنقِص عليك يعطيك ويكملك، فكم من أعمى قوّى الله -عز وجل- فيه عقله وذكاءه، قوّى فيه سمعه ودقته، ألا ترى مِن أمثال هؤلاء الشيخ ابن باز -رحمه الله-؟ فكان يُقرأ عليه أمثال صحيح البخاري ثم يقوله سَرْدًا من قوة ما معه من ذاكرة -رحمه الله-، فهذا كله يُعْلِمْك أنه قد يكون هناك مفقود لكن يقابله عطاء أكثر، فلا تكن طامعًا، ووجود هذا لم يكن ينفعك، وعلى هذا ذرية غير موجودة، بيت ملك غير موجود ..الخ لا تطمع، اقبل بما أعطاك الله إياه.
أذكركم بقصة قديمة: أن مَلكًا كان عنده خادم ووزير، فكان الملك يرى ما في خادمه مِن سعادة، و يرى ما في نفسه مِن كدر، وكان يرى الخادم لا شيء عنده، فما باله سعيد و أنا الملك عندي وعندي ولست سعيدًا؟! فسأل الوزير: ما بال الخادم أسعد مني في حياته؟ فقال له الوزير: جرِّب معه قصة التسعة والتسعين، ضع 99 دينارًا عند بابه في الليل واطرق بابه وانظر ماذا يحدث. فعل الملك ماقاله له، أخذ الرجل تلك الـ 99 دينارا، فلما عدها قال: (أكيد أن الدينار الباقي وقع في الخارج) فخرج هو وأهل بيته كلهم يفتشون، فذهب الليل عليهم، فغضب الأب، يبحث وما وجد، فثار عليهم على دينار بعد أن كان هادئًا! وأصبح اليوم الثاني متكدّر الخاطر؛ لأنه لم ينم الليل! فذهب إلى الملك فعلم الملك ما معنى الـ 99: أنك تنسى 99 نعمة في حق الله وتخرج تبحث ليلك كله على نعمة مفقودة! مابالك تطمع هذا الطمع؟! استمتع بالتسعة والتسعين ثم إن عِوض هذه المفقود جنات النعيم إذا صبرت.
3) الجهل.
جهلك بأن الحياة تسير بدون هذه الأشياء، جهلك أنك يمكن أن تنجح لكن ليس من هذا الطريق، جهلك أن الذي يصلح لك ولقدراتك هذا العطاء وليس هذا، جهلك أنه لا يصلح لك جيران من هذا النوع، جهلك أنك لا تستطيع أن تمسك هذه القيادة. تريد أن تكون مديرًا وتترقّى لكنك جاهل لا تصلح أن تكون مديرًا، ما دمت في مكانك هذا فسمعتك طيبة، لو أصبحت مديرًا ستتشوه سُمْعتك! لأنك لست على قدر تلك المسؤولية، فأنت جاهل بما يصلحك فلا تطمع، لا ترى أن المفقود كل شيء لأنك جاهل ما هو هذا الشيء المستقبلي؛ لأننا لما نكون جهالاً وتكون لدينا مطامع ورغبات ولا نجدها، بسبب جهلنا تتكدر حياتنا، لأننا لانعرف أن ما حُجب عنا فيه الخير الكثير.
أسأل الله لي ولكم أن نكون من الراضين عنه -سبحانه وتعالى- ومن الموفقين في عبادته كما يحب ويرضى.
انتهى اللقاء ولله الحمد والمنة.
666 بدون اسم @666_bdon_asm
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
اختصار
•
مشكوره 🌼
الصفحة الأخيرة