فيضٌ وعِطرْ
فيضٌ وعِطرْ
وهذا مثل للذي ترك دينه وآثر دنياه بعد أن كان مهتدياً
واتبع سبيل الشيطان :
قال تعالى:
{ وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا،
فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ،
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ
وَاتـَّــبَعَ هَوَاهُ،
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث
ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا
فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ
سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } الأعراف١٧٥ /١٧٦ /١٧٧.
قال ابن القيم رحمه الله:
فشبَّه سبحانه مَن آتاه كتابه وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيرَه فترك العمل به واتَّبع هواه وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق
بالكلب ولهاثه ، وفي حال لهثه سِرٌّ بديعٌ،
وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله مِن انسلاخه مِن آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لـهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله
والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها،
ولـهفه نظير لـهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه.
واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلبُ منقطعُ الفؤاد، لا فؤاد له،
إنْ تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهُدى،
لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطعٌ.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنَّه ليس له فؤادٌ
يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها
فهذا يلهف على الدنيا مِن قلة صبره عنها،
وهذا يلهث مِن قلة صبره عن الماء،
فالكلب مِن أقل الحيوانات صبراً عن الماء،
وإذ عطش أكل الثرى من العطش،
وإنْ كان فيه صبرٌ على الجوع.
وعلى كلِّ حالٍ فهو مِن أشدِّ الحيوانات لـهثاً،
يلهث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً،
وذلك لشدَّة حرصه، فحرارةُ الحرصِ في كبده
توجبُ له دوام اللهث.
فهكذا مشبَّههُ في شدةُ الحرص وحرارةُ الشهوة في قلبه
وانسلاخه عن الهدى ، واتباع هواه . ‬

اخت المحبه
اخت المحبه

سورة يونس – مثل الحياة الدنيا كماء أُنزل من السماء


المثل اليوم تردد في القرآن الكريم أكثر من مرة بصيغ قريبة من بعضها ، أولها ما نحن بصدده من سورة يونس آية 24 ، ومثله ما جاء في سورة الكهف آية 45 وغيرها مما سيأتي، وهو وصف للحياة الدنيا وزينتها الزائلة يستحق النظر والتفكر فيه من قبل كل الخلق ، ومن الذين خلدوا إلى الراحة فيها ، حتى ألهتهم عن النبأ العظيم.

فهذا المثل العجيب ضربه سبحانه لمن يغتر بالدنيا، ويشتد تمسكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة، ويترك التأهب لها .
وصف سبحانه الحياة وزينتها في موضعين من كتابه، بأنها: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (آل عمران:185) ، أي وما الحياة الدنيا إلا متعة زائلة، فلا تغترُّوا بها.



وفي هذه الآية في سورة يونس يمثل لنا الحياة الدنيا بصورة معروفة متكررة يراها كل الناس في كل زمان ومكان، فقال جل من قائل: ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (يونس:24). وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة عن الحياة الدنيا، وأنها عرض زائل في ثلاث أيات غير هذه الآية في القرآن الكريم، وهي:


-الثانية :قوله تعالى: ** وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا) (الكهف:45)


-الثالثة: قوله سبحانه: ** أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ** (الزمر:21)


-الرابعة: قوله عز وجل: ** اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ** (الحديد:20).
ما هو المثل؟

في الآيات الأربع السابقة يصور لنا ربنا الحياة الدنيا تصويرًا حسيًا واقعيًا، فيصور لنا الحياة التي نحياها ونظن ونشعر أنها باقية لن تفنى، فليبِّين لنا حقيقتها يقول أنها هي مثل ماء ينـزل من السماء على الأرض اليابسة الجرداء ، فينبت به الزرع، الذي يأكل الناس منه والأنعام، وتصبح الأرض به خضراء ناضرة، بعد أن كانت جرداء قاحلة، فيفرح أهلها بخيرها وثمارها أشد الفرح ويسرون بمنظرها وجمالها غاية السرور، ويؤمِّلون خيرًا في إنتاجها ومحصولها. وبينما هم على تلك الحال من السرور والفرح والأمل، إذا بريح شديدة عاتية، تهب على ذلك الزرع فتهلكه، وتجعله رمادًا كأن لم يكن شيئًا مذكورًا، وتُذهب بخضرته ونضرته، وتفني إنتاجه ومحصوله . وهكذا مثل الحياة الدنيا، تبدو لأهلها وطلابها حلوة تسر الناظرين، وتفتن المغرورين. ولكن سرعان ما تزول تلك الحلاوة، وتذبل تلك النضارة؛ إذ من طبيعة هذه الحياة الدنيا الهرب من طالبها والساعي إليها.

ما المشبه ، والمشبه به؟

فشبه الحياة الدنيا ، بالماء الذي ينزل من السماء، ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ )، وجاء بصريح أداة التشبيه فقال ( مَثَلُ )
تفسير الآية:ـ
قوله تعالى: ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ) معنى الآية التشبيه والتمثيل:ـ أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء


( أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) صفة الماء، ( فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي فاختلط بالماء، ( نَبَاتُ الْأَرْضِ) أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألوانا من النبات، أو أي اختلط النبات بالماء المنزل من السماء، أي شرب منه فتندى وحسن وأخضر. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض. وقوله تعالى: ( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ) من الحبوب والثمار والبقول للناس، ومن الكلأ والتبن والشعير للأنعام، ( حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا) أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب : زخرف. (وَازَّيَّنَتْ) أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به.
قوله تعال: ( وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ ) أي أيقن أهلها أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنى النبات إذ كان مفهوما وهو منها.
( عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ) أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها، ( فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا) أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها ، ( كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) أي لم تكن عامرة؛ من غني إذا أقام فيه وعمره. والمغاني في اللغة : المنازل التي يعمرها الناس.


يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا ( كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) أي نبينها لمن يتفكر في آيات الله.
لم شبه تعالى الحياة الدنيا بالماء النازل من السماء ؟
قال القرطبي في تفسيره : قالت الحكماء : إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن:ـ

1-الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد
2- ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا
3-ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى
4-ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها


5-ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر.
وأهل البلاغة يقولون: في هذه الآية تشبيه تمثيل؛ لأنه سبحانه شبّه حال الدنيا في قِصَرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل من السماء، فارتوتْ به الأرض، وأنبتتْ ألواناً من الزروع والثمار، ولكن سرعان ما يذبلُ هذا النبات ويصير هشيماً مُتفتتاً تذهب به الريح.


لم أطلق الله تعالى على هذه الحياة صفة أنها الدنيا:


1 ـ مجرد تأمل اسم الحياة الدنيا يوحي بحقيقتها ومعناها ، فاسمها " الدنيا " لأنها :
أ ـ إنها أولى وستعقبها أخرى .
ب ـ إنها هذه الحياة فانية، وهناك حياة بعدها باقية .
ج ـ إنها في المنزلة الدنية، أي أقل في القيمة، والزمن، والزينة والمتع والقدر.
كل الصفات التي ذكرنا موجودة في الحياة الدنيا حقيقة فهي أولى من حيث الزمن وستعقبها أخرى وهي فانية ، وهي كذلك دنية المنزلة .
أوجه الشبه بين الحياة الدنيا وما ضرب لها من الأمثال:
فلذلك ففي الأمثلة التي ضربها الله للحياة الدنيا نلاحظ أن الفناء أصل فيها لا ينفك عنها، فقد شبه الله تعالى الدنيا بـ :
- نزول الماء من السماء له بداية ونهاية .
- والغيث وتكونه ونزول الأمطار فيه له بداية ونهاية .
- وبالنبات واخضراره ثم اصفراره ، وهذه الحالات للنبات لها بداية ونهاية .
وكذلك الحياة الدنيا ركبها الله على الفناء ولها بداية ونهاية .


2 ـ ووجه آخر للشبه بين الحياة الدنيا بالماء والنبات، ففي كل ما شبه به الحياة الدنيا مما يغتر به الإنسان ويفتتن بالمنظر الخلاب وبما يرجوه منه من الخير، فالخضرة البهية والروض الباسم هو مما تدعو للاغترار؛ لأن الأرض أخذت زينتها وزخرفها وتزيَّنت ، وكذلك الحياة الدنيا لها من البهرج والزينة والمنظر ما يدعو للاغترار بها ، ولذلك حذَّر من الإغترار بها، كما حذَّر من الإغترار بالشيطان وتزينه للغواية للإنسان، كما قال تعالى: ( فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ) ( فاطر5 )



3 ـ قد تلبس الأرض ثوباً أخضر فيه من كل أنواع الزينة والأعشاب والأزهار الطبيعية وجدوال الماء فأشجار تتعانق في العلو، وأعشاب تتسابق في فرش الأرض بمنظر يزيل الهم حتى يصل الأمر إلى أن الحقائق التي عند بعض الناس قد تتزعزع فيظن المسكين أن هذا المنظر لا فناء له ، فمتى يفنى منظر بهذه الصورة، وكيف ؟ ! كما قال الله عن بعض المخدوعين: ( وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ ) فتبدلت حتى حقيقة الفناء التي يؤمن بها الجميع لكن لم تتبدل تلك الحقيقة إلا لمؤثر أكبر، وهو شدة ما رأى مما يبهر العقل من ذلك المنظر .


وكذلك الدنيا قد تقبل على شخص وتنفتح عليه حتى يظن أنها لن تدبر ولن تزول، بل وكيف تدبر ؟! وفي النهاية يتبين أنها غرور وخداع لا يملك منها شيء .


4 ـ الأمثلة المذكورة فيها سرعة تغير حال الأرض من الاخضرار إلى الاصفرار إلى الحطام الذي تذروه الرياح.
وكذلك الحياة الدنيا تتغير من حال إلى حال، وتتبدل من سرور إلى حزن في مدة وجيزة قد تفوق تبدل الأرض، فسبحان العليم الخبير .
5 ـ الأمثلة المذكورة فيها شدة تبدل الأرض لما أذن الله بتبدلها حتى ( كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) فبالأمس تلك الخضراء الفاتنة ، واليوم حصيداً هشيماً بالية لا تشابه الماضي في لون ولا وصف .


وكذلك الحياة الدنيا إذا أدبرت عن شخص وولت ما كأنها يوماً من الأيام كانت بين يديه يفعل فيها ما يشاء ويملك منها ما يريد ، فعجباً كيف يركن لها ؟ ويطمئن بها ؟! وهي بهذه الصفة .


7 ـ الأمثلة السابقة في كتاب الله نلاحظ فيها قصر مدة ذلك الروض الأخضر، فما هي إلا أيام أو بالأصح شهور ما بين خضرته وتحطمه .


وكذلك الحياة الدنيا مهما طالت فهي قصيرة سواء كان المراد أن عمر الشخص فيها قصير، أو كان المراد عمرها بذاتها فهي مهما طالت قصيرة، ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ) ( الأحقاف 35)
8 ـ الأمثلة نلاحظ فيها تنوع المتاع فيها والملذات ويؤخذ هذا من قوله تعالى: ( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ ) أي: أخرج الله بذلك الماء أنواع النباتات والأشجار التي يأكل منها الناس والحيوانات، فكم ياترى أنواع ذلك المتاع والأشجار؟!!
وكذلك الحياة الدنيا فيها من أنواع المتاع والملذات ما لا يحصى ويدرك، ومع ذلك كما أن متاع ذلك المطر له أجل وسيفنى ويتحطم فكذلك متاع وملذات الحياة الدنيا؛ لأنها ممثلة بها .
ولكن ، فكيف تؤخذ الدنيا؟


لا أجد أبلغ مما حدّث به من لا ينطق عن الهوى ، وما وصى به من جاء يسأله عنها، اسمع للمصطفىﷺ ما قال :ـ
- في حديث النبي ﷺ قال له رجل قال: يا رسول الله، إني أريد أن أكون من الفائزين؛ قال : (ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي). وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه)
- يؤكد الرسول الكريم على هذا المثل أيضا ففي الحديث الصحيح قوله ﷺ: ( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون) (رواه مسلم) فالدنيا دار عمل ليست دار خلود إلى النعم، فاعمل للدار الباقية يا ابن آدم لتنجو، وكل سيرى الله عمله ويحاسب عليه، إما خيرا فخير، أو سوى ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه
فيضٌ وعِطرْ
فيضٌ وعِطرْ
والأن مع هذا المثل من سورة هود :
( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ۚ
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ )٢٤ هود


شبه القرآن فريقي الكفر والإيمان

كمثل الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئًا ،
والأصم الذي لا يسمع شيئًا ،
فكذلك فريق الكفر لا يبصر الحق فيتبعه ويعمل به،
لشغله بكفره بالله ، وغلبة خذلان الله عليه،
لا يسمع داعي الله إلى الرشاد، فيجيبه إلى الهدى فيهتدي به،
فهو مقيمٌ في ضلالته، يتردَّد في حيرته.
والسميع والبصير فذلك فريق الإيمان ،
أبصر حجج الله، وأقر بما دلت عليه من توحيد الله ،
والبراءة من الآلهة والأنداد ،
ونبوة الأنبياء عليهم السلام ،
وسمعَ داعي الله فأجابه وعمل بطاعة الله.
اخت المحبه
اخت المحبه
يقول الله تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) (الرعد:14).


يقول الطبري هذا: مثل المشرك بالله غيره فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه.


وفي رواية قالها آخرون أسندت إلى ابن عباس يقول: مثل الذين يعبدون الأوثان من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفّاه في
الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه يقول الله: لا تستجيب الآلهة ولا تنفع الذين يعبدونها حتى يبلغ كفَّا هذا فاه وما هو ببالغه، قال: لا ينفعونهم بشيء إلا كما ينفع هذا بكفيه يعني بسطهما إلى ما لا ينال أبدًا.

والمثل عنده هو الآلهة التي يعبدها الكفار من دون الله وأن استجابتهم له..

كباسط كفيه إلى الماء، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم، وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائه لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشرًا أصابعه، فلم تلق كفاه منه شيئًا ولم يبلغ طلبته من شربه.

وقد أشار إلى هذا الغرناطي غير أنه أضاف: أن الضمير في قوله: (وما هو) للماء، وفي (ببالغه) للفم. والعرب تضرب المثل لمن سعى في أمر لا يدركه بالقابض على الماء، وقد جرى هذا المعني على ألسنة الشعراء، فقال أحدهم:
فأصبحت مما كان بيني وبينها

من الود مثل القابض الماء باليد لكن إذا شبه الداعون بمن أراد أن يغرف الماء بيديه.. الذي رآه العطشان فبسط كفيه يناديه والظمأ يزداد وما هو بمدرك شيئًا.
اخت المحبه
اخت المحبه
ومن سور الرعد آية 14: (كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه).


قال ابن عباس: مثل المشرك الذي عبد مع الله إلها غيره كمثل العطشان ينظر إلى خياله في الماء من بعيد يريد تناوله فلا يقدر، وفي رواية البخاري: «يتناوله ولا يقدر»، والعطشان الذي ينظر، وهو يريد أن يتناوله.


ومن هنا جاء حكم الله على هؤلاء الداعين: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)، أي في خسران وضياع، فمن اتجه إلى غير الله ماذا ينتظر؟ وهم في كل حال لا تستجاب لهم دعوة سواء دعوا الله و دعوا الآلهة، فالله لا يجيبهم لحقارة أمرهم عنده، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم كما يقول النيسابوري.


هذا المثل القرآني صور المشرك بصورة محسوسة مرئية، وجعل هذا الأمر المعقول أمرًا مجسما يرَى، فالمشرك الذي عبد غير الله فاتجه إليه، ودعاه وطلب منه النفع والخير، فلم يجبه ولم يستمع إليه، كان مثله كمثل هذا الذي وقف على شفير البئر، وبسط كفيه إلى الماء ليصل إليه ويبلغ فاه، وأنى للماء أن يستجيب، فالظمأ يحرق جوفه، والماء لا يسمع، والأيدي قد امتدت لتطلب، والماء لا يستجيب لطلبه فماذا تكون النتيجة؟.. النتيجة: الهلاك والضياع، فلا سمع ولا إجابة، فكذلك المشرك بالله. إنه تصوير في غاية الإبداع