صراع مع الموج

من ركن قصيًّ في القاعة .. أخذ يرقبها بطرف خفي ..
كان يعلم أنها تقترب .. وتقترب .. فازداد تركيزه المزعوم على كتاب ( الكالكلس ) الذي يتصفحه …
ـ بيردون " آبدول " …
قالتها بنبرة هادئة خافتة تستأذنه ـ بلغتها الـ " مكسيكية " القوية ـ في الجلوس على مقعد مجاور .. وكان قد اعتاد مناداتهم له في الولايات المتحدة بآبدول لثقل كلمة " عبد الله " على ألسنتهم ..
رفع عينيه إليها ……….
ـ أوه ! " خوليانا " ؟! تفضلي ….
فجلست لتنهمك في حل بعض مسائل الكتاب ، وبحث النتائج على آلتها الحاسبة … وعاد عبد الله لسابق حاله وقد استحالت كلمات الكتاب إلى رموز لم يكلّف نفسه بمحاولة فكّها …
كان يغرق .. أكثر فأكثر .. لكنه في هذه المرة ، قرر أن يترك الصراع !
ثلاثة أعوام من صراع أمواج الغربة ليست سهلة إطلاقاً !
عندما يجرفك تيار الحياة ، ويسحبك تراجع الموج إلى عمق المحيط …
عندما تفارق قدماك أرض وطنك اليابسة الثابتة الصلبة ، وتُحجب عنك أشعة الشمس ، فتتركك مبللاً .. رطباً .. ترتجف ..
عندما تمضي ثلاثة أعوام بفصولها الأربعة تشهد الناس سعداء بعناق سلاسل الفضة المائجة ،
بينما أنت في صراع معها ، تصرُّ وحدك دون الآخرين على الخروج منها … على صراعها للوصول إلى أرض اليابسة ..
عندما تعاني …. فتملّ ساقاك مواصلة الرّفس ، وتتمزق رئتاك من فرط الإجهاد ونقص الأكسجين ، ويختنق قلبك وقد جفّت شرايينه فما عادت تصله حاجته من الدماء .. عندها .. ستجد في الاستسلام للموج لذة عسلية النكهة .. سيتوق جسدك المنهك إلى الاسترخاء .. وإلى إغماض عينيه .. وستتجاهل أنك بموافقتك على عناق سلاسل الفضة الممتدة من الماء .. مثلهم .. إنما تعلن نهايتك .. نهايتك كإنسان ذي مبدأ ، وقيمة ..
وتطلب الغرق !
…………
اكتظّت القاعة كعادتها بما يقارب المائة طالب وطالبة .. خلاف عادته ، لم يشعر ( عبد الله ) في يومه هذا بتلك الرغبة الملحّة في أن يلقي نظرة يتيمة تجاه الركن القصي من القاعة ،
فخوليانا كانت تشاركه للمرة الأولى ركنه الذي يجلس فيه !
كانا يتشابهان إلى حد مثير للانتباه .. فكلاهما يعشق الأركان ، ويبتسم للجميع دون أن يضحك لأحد على وجه الخصوص ..
كلاهما كانت تلاحقه لمزات الساخرين لاستغراقه الشديد في الدراسة وعدم مشاركته في احتفالات السكن الطلابي الصاخبة ..
كلاهما كانت تتناوله الألسنة فتصمه بالشذوذ إذ لم يكن هو ليصادق الفتيات ، وما كانت معرفتها بالشباب تتعدى حدود الزمالة داخل القاعات ..
وكلاهما كان يحضر إلى تلك المحاضرة بالذات ، قبل حضور الجميع ، ويدرس الآخر من على بعد !
وظل الخاطر يلح على عبد الله .. ما الذي دفعها لترك ركنها ، و استئذانه في الجلوس وهي تعلم أن المقعد ليس لأحد ؟!!
ــــــــــــــ
ضجّت القاعة بالحياة بعد هدوء نسبي ..
لملم " البروفيسور هيكس " أوراقه وخرج من القاعة يتبعه بعض الطلبة ، بينما البعض الآخر يتناقش داخل القاعة حول مسائل استعصت وغمضت عليه ..
وما كانت بعبد الله رغبة في الاتجاه إلى غرفته _ إن صح التعبير _ في السكن ، والانضمام إلى زميله في الحجرة " جيسن " وعصبة المجانين التي تزوره هذا الوقت من كل يوم !
في القوت نفسه ، لم يكن يرغب في الذهاب إلى مقهى الحيّ الطلابي ، ليزداد رثاء حاله وهو يجلس وحيداً يرقب الطاولات وقد ضمت من الأعداد اثنين اثنين .. بينما هو في مقعده البارد يرتشف قهوته المرة بلا سكر !
انتبه من أفكاره على صوتها .. ها هو الموج يدنو .. وهو يحرق علم الصراع .. ويستسلم ..
ـ نعم ؟! .. التفت صوبها متسائلاً ..
ـ أنت عربي .. أليس كذلك ؟!
ـ وأنتِ مكسيكية ( قالها بلهجة من يعني : كلنا يعلم .. فلم تسألين !! )
ـ مسلم ؟
اكتفى بهزّ رأسه ….. يتنظر منها الوصول إلى صلب الموضوع …
ـ قريب من مكة ؟
ـ جداً !
أطرقت تفكر برهة ، وتقلّب أوراقها وهي تتشاغل بترتيبها .. وسمح عبد الله لنفسه بأن يتأملها .. يتأملها بتلك النظرات التي طالما حرّمها على نفسه حتى ما عاد يطيق الاحتمال !
وتلاشت خيالات " عيون المها " في فكره ، وهو يطالعها . كانت لها عينان ضيقتان حادتا الرسم .. يفيض لضيقهما الدفء بهدوء غامض ، لا يحظى به إلا من يقترب منهما ويتجاوز بنظراته أمواج رموشها السوداء وهما تنبلجان تارة عن بدر لفّه الظلام والسحاب في ليلة عاصفة ، وتارة أخرى توصدان بوابتهما لتدفعانه خارجهما فيلفه البرد ..
عادت للحديث وهي ترفع حقيبتها على كتفيها ، وتحتضن ملفها استعداداً للانصراف ..
ـ حظاً موفقا في اختبار الأسبوع القادم !
وخرجت بخطوات رشيقة سريعة ، ليس لوقع حذائها الرياضي أدنى دبيب .
ـ امتحان ؟!! .. وأي امتحان ؟!!! ..
ساءل نفسه قبل أن يردد ضاحكا ..
ـ إيه أيها البدويّ .. قد ولّت أيام القحط ، وها أنت أمام البحر تلقي إليه بعقلك وقلبك دفعة واحدة !!!
ـــــــــــــ
مر أسبوعان وخوليانا تكرر صنيعها ، فتجلس في نفس الركن .. وتواصل طرح الأسئلة الغريبة ذاتها عن تقاليد مجتمع عبد الله ، وعدد أفراد عائلته ، وطريقتهم في الحياة ومفاهيمهم .. احتفالاتهم ..
يتبع .............