^_^ تومي!
^_^ تومي!
الجزء الرابع

الفصل الأخير






"ما رأيك ؟" نطق قصي بهذه العبارة .. قبل أن يرفع يديه .. ليرتشف ما تبقى من كوب القهوة التركية اللذيذة .. وراح ينظر في نزار الذي اتسعت ابتسامته .. ولاحت في عينيه تلك البقعة الداكنة السوداء والتي كانت عيباً خلقياً منذ الولادة .. والذي قال .. وهو يحرك يديه : قصي .. ما بك ؟

لم يحرك قصي ساكناً من مكانة .. ولكن ابتسامته الساخرة راحت ترتسم على شفتيه .. وراحت قطرة من العرق تنزل من على جبينه في هذا الجو الساخن على نهاية السقالة في كبائن الكناري ..

ثم راح يطالع في البحر .. وقال : لا أدري يا نزار .. شيء غريب يحصل .. لم يحصل هذا ؟ ولم أفعل كل هذا لهذه البنت .. لا أدري .. ولكن هذا ما جاء في بالي ..

أخذ نزار يفرقع أصابعه ثم يقول : أنت كالعادة .. تخطط بشكل محترف .. وتصل إلى النتيجة .. وهذه المرة .. أنا متأكد أيضاً أنك سوف تنجح .. ولكن لأول مرة .. أراك تحاول أن تساعد بنتاً ..

هبت نسمة حركت القليل من ركود الهواء .. قبل أن يقول قصي : لا يهم كثيراً .. فأنا لا أفعل هذا من أجلها .. وإنما لإرضاء شيء في نفسي ..

ابتسم نزار .. الذي تعود على شخصية قصي الغريبة .. التي يبدو أنها تعج بالنرجسية .. ولكن أمثال نزار .. يعلمون أن قصي فعلاً يتصرف بحقيقية .. وأنه لا يمثل دور القوة .. لأنه قوي بالفعل .. نفوذاً .. وثراءً .. وبدنياً حتى .. وربما هذه الأسباب التي جعلت نزار يتمسك بصداقة قصي .. عوضاً عن تقدير قصي لنزار .. وللصداقة التي تجمع بينهما .. ولكنه راح يفكر في نفسه ويقول : كم أنت غريب يا قصي ..



كان قصي قد قضى يوماً في كبائن الكناري مع نزار .. لتغيير الجو .. ولأنه أراد أن يركب الـjet .. ثم عاد في نفس اليوم إلى جدة .. ولمن لا يعرف .. فالكبائن .. في منطقة تبعد عن جدة الآهلة بالسكان والناس والأسواق قليلاً .. وكأنما هي معزولة .. بجنونها .. وخبثها .. ومساكينها ..



رجع قصي إلى جدة .. ودخل منزله .. وراح يطالع الجوال .. وعلى شفتيه ابتسامة واسعة .. هذه هي الرسالة الثالثة من أمل التي تسأله فيها عمن يكون ..

ففي خلال الأيام التي مضت .. كان يرسل لها .. وكثيراً جداً .. رسائلاً من مختلف الأنواع .. وكان يخبرها عن نفسها بحسب ما يعرف .. معتمداً على ما يسمعه من ياسمين ..

وأما علاقته بياسمين .. كان فيها شيء مختلف .. كان يبدو كأب لها .. كأنه من يعيد صياغتها من جديد .. كأنه يفتح عينيها على العالم القبيح .. وعلى الشياطين الموجودة .. ويريها كم هو العالم أسود كالح .. يمتليء بنفايات بشرية لا بد أن تحتمي منها ..





وفي يوم الأربعاء .. كان قصي يجلس مع ياسمين في مطعم بارنيز بالتحلية .. دخل قصي وهو يلبس بنطالاً أسوداً .. وقميصاً قصيراً أزرق اللون .. وكانت معه ياسمين بعد أن أوقفها سائق ياسمين جوار المطعم .. وكأن هذا المشهد يوضح أن ياسمين تعلمت الدرس جيداً .. كانت عباءتها هذه المرة عادية .. ولم تضع سوى القليل من قلم الحواجب ..



دخلت مع قصي المطعم .. وجلسواً هناك على طاولة في نهاية المطعم ..

وأخذ قصي يطلب الطعام .. ثم أخذت ياسمين .. تختار .. وبعد أن انتهى قصي من الطلبات .. قال قصي للنادل : وأحضر لي بيبسي ..

فنظرت فيه ياسمين وابتسمت وقالت : لا .. لا تطلب بيبسي ..

فنظر لها قصي .. فقالت مبتسمة بخجل : إنه مضر بصحتك ..

ووقف النادل .. وقبض على يديه أمام وسطه .. ينظر بلا مشاعر .. أو أي تعبير .. منتظراً من قصي أن يختار ما يشاء .. إنه لا يهتم لما يجري أمامه .. نظر قصي إلى ياسمين .. وكأنه يحدق إلى مخ جمجمتها حتى يعرف بم تفكر هذه البنت .. ثم ابتسم ابتسامته الساخرة .. ونظر إلى النادل وقال : إذا .. عصير ليمون بالنعناع لو سمحت ..

كأنه ليس مستعداً للخوض في جدال سخيف حول البيبسي ومضاره ..

وبعد أن مشى النادل .. نظر إلى ياسمين .. وراح يفكر :

تباً .. يبدو أن ما كنت أخشى منه قد حصل .. يبدو أن البنت وجدت فيّ رجلاً تحبه ..

إنها الطريقة التي يعبر بها الفتيات أحياناً عن حبهن .. لهؤلاء الأشخاص .. إنها الطريقة التي يعبرون فيها .. أنهن يصلحن أن يكن أزواجاً بطريقة لبقة ولطيفة ..

حتى في الآونة الأخيرة .. انتشرت هذه الظاهرة .. التي تقوم فيها البنت بإيقاظ حبيبها على صلاة الفجر .. ليصلي .. حتى بات الأمر موضة ..

ابتسم قصي ولكنه راح يقول في نفسه مرة أخرى : سوف تجعلين الأمور صعبة يا ياسمين .. وتجعلينني أستعجل كثيراً .. وأبداً .. لنهاية هذا الموضوع بأكمله ..



ثم نظر إلى عيني ياسمين وقال : ياسمين ..

فنظرت فيه ياسمين وقالت : ماذا ؟

نظر لها بعين ضيقة .. راحت تلمع عليها أضواء المكان وقال : لا تتدخلي في شؤوني ..

نظرت فيه ياسمين قليلاً .. وأحست بجرح في داخلها .. وراح قصي ينظر فيها وهو يقول في نفسه : اكرهيني .. نعم .. اكرهيني أكثر ..

ولكن ياسمين لم تتحمل .. وذهبت ببصرها إلى الجهة المقابلة .. وكأنها تنظر إلى الناس ..

وبعد قليل .. كان النادل .. يحمل الأطباق البيضاء الواسعة المذهبة الأطراف .. ويضعها على الطاولة .. بذلك الصوت الكلاسيكي لرنين الأطباق مع الشوك والسكاكين .. صوت يسيل اللعاب قبل أن ننظر للطعام حتى ..

وكأنما كانت ياسمين منهمكة في الطعام .. ولكن قصي قال لها : هل تعرفين ما حل بأحمد ؟

فنظرت له ياسمين باستفهام .. وراحت ترمش بعينيها ثم قالت : هل عرفت حقاً ؟

فابتسم لها قصي وقال : هل تريدين أن تري بأم عينيك ؟

راحت ياسمين .. تنظر في قصي .. وهي تحس في عينيه أمراً يخفيه .. ولكنه ليس بسار بالتأكيد ..

ابتسم قصي .. وقال : غداً .. سأقابلك في كورال مول .. بعد صلاة العشاء ..



وبالفعل .. في اليوم التالي .. كانت ياسمين بعد صلاة العشاء في كورال مول .. وكان قصي هناك أيضاً .. وراح يمشي معها .. وهو يبحث عن شيء معين .. فقالت له : عم تبحث؟

ولكن يبدو أن قصي كان قد وجد المكان .. كان محلاً للعباءات .. دخل قصي مع ياسمين .. ثم قال للرجل : هل لديك طرحة طويلة ؟

فقال الرجل : أظن أن لدي واحدة عريضة ..

فقال قصي : جيد .. أجل .. وأريد أيضاً عباءة مختلفة عن هذا النوع الذي تلبسه ..

وأشار إلى ياسمين ..

فقال الرجل : هناك أنواع كثيرة ..

فقال قصي : أريدها عادية جداً ..

فأخرج الرجل عباءة .. مطرزة بفراشات ذهبية على اليدين .. وفي الظهر أيضاً تطريز بخرز بنفس اللون .. لفراشة كبيرة .. فنظر له قصي بسخرية وقال : هذه عباءة عادية ؟

فقال الرجل وهو يعدل من نظارته الطبية : الكثير يلبسون مثل هذه العباءات ..

فقاطعه قصي باستخفاف .. ودون أن يهتم بكلامه وقال : إذا .. أريد عباءة محترمة لمطوعة .. ربما هكذا .. تستطيع أن تفهم .. أني أريد عباءة عادية ..

حدق الرجل قليلاً في قصي .. ثم راح يبحث بين الأنواع وكأنما لم يسمع اللهجة الحادة في نبرة قصي .. أو إن شئنا الدقة .. أنه تجاهلها لأنه يسمع الكثير مثلها كل يوم .. وبعد قليل .. أخرج عباءة .. فيها خرزات سوداء لامعة في أطراف العباءة السفلية .. وفي الأكمام .. فقال قصي : هذا أكثر شيء محترم لديك ؟

فقال الرجل : إنه نوع لا يلبسه البنات هذه الأيام ..

نظر قصي له باحتقار .. ثم قال : ضعها في كيس ..



وبعد أن خرج قصي من المحل .. نظرت فيه ياسمين وقالت : ما الذي تفعله ؟

فقال قصي بابتسامة : بقي شيئين آخرين ..

نظرت فيه ياسمين باستفهام .. ولكن قصي لم يعرها اهتماماً .. وكان هذا يزيد من احتراق ياسمين .. التي كانت تمشي وراءه دون أن تفهم ..

وعلى نفس المنوال .. اشترى قصي لها حذاءً رياضياً عوضاً عن ذلك الذي كانت تلبس وحقيبة يد .. ثم قال لها : أريدك أن تدخلي إلى حمام النساء .. وتبدلي بهذه الأشياء الجديدة .. ولكن ياسمين توقفت وقالت : قصي .. ما الموضوع ؟ إنك تسحبني من ساعة .. ولا تتحدث لي .. من حقي أن أعرف ؟

نظر لها قصي وقال : ألا تريدين أن تعرفي أين أحمد ؟ ألا تريدي أن تتكلمي معه ؟

حدقت فيه ياسمين قليلاً .. وكأن أصوات المارة من ورائها خلفية موسيقية لفلم غامض ..

ثم أخذت من يديه الأغراض ودخلت إلى حمام النساء .. وفي هذه الأثناء .. رفع قصي جواله السوني أريكسون وراح يبحث بين الأسماء .. إلى أن وصل إلى اسم معين وأجرى اتصالاً .. استغرق قليلاً .. ثم أنهى مكالمته .. مضت بضع دقائق حين خرجت ياسمين من الحمامات .. فقال لها قصي : أريدك .. أن تغطي وجهك كاملاً ..

نظرت فيه ياسمين وقالت : ولكن ..

قاطعها هذه المرة قصي بقسوة وبصوت عالٍ وقالت : ياسمين .. أطيعي دون مناقشة .. وإلا فاذهبي .. ليس لدي وقت لأضيعه معك ..

نظرت فيه ياسمين .. بعيون مملؤة بالدموع .. وقالت : قصي .. أنا لم أقل شيئاً .. فقط طلبت أن توضح لي .. لم يكن من الضروري .. أن تتكلم معي بهذه الطريقة ..

وراح قصي يكلم نفسه : أجل هكذا يا ياسمين .. اكرهيني .. أكثر .. وأكثر ..

ورغم أن هذا ما كان يصبو إليه قصي .. إلا أن مخرزاً .. كان يخترق قلبه .. وكان يحس بألم .. كان يحس بأنين .. واحتياج لمن يفهمه .. ورغبة في الانفراد بنفسه قليلاً .. ولكن لا بد أن يكمل للنهاية ..

لم يرد قصي على ياسمين .. وإنما اكتفى بالسير نحو السيارة .. وراحت ياسمين تتبعه ..

وعندما وصلوا إلى السيارة .. قال لها : اركبي ..

ولكن ياسمين نظرت فيه وكأنما تقارن بين كلام قصي في البداية .. عن كيف تركب مع رجل ما في سيارته .. وبين ما يقوله الآن ..

أما قصي فنظر فيها مستفهماً وقال : ماذا ؟

ولكن ياسمين .. لم تفكر .. وطردت كل هذه الأفكار .. وركبت في السيارة .. وركب معها قصي ..

وبعد لحظات كانت السيارة تمرق في شوارع جدة ..

وداخل السيارة .. كانت ياسمين .. تحس بإحساس غريب .. كانت تحس بقلق رهيب .. إنها لأول مرة تركب مع رجل في سيارته .. رجل أجنبي عنها .. لا صلة لها به أبداً .. أحست أنها تكره نفسها .. ياه كم تتمنى أن تعود إلى المدينة الآن .. كم تريد أن تكون في بيتها الآن .. بين إخوانها الصغار .. ما الذي سلكها في هذا المنحدر؟ بل لم مددت إقامتها أكثر؟ وانسلت من تحت الطرحة دمعة ساخنة .. تلوم بها نفسها على غباءها .. على اليوم الذي جاءت فيه إلى جدة .. كانت تحس بخوف من هذا الرجل الذي معها .. وراحت خيالاتها تفعل الأعاجيب .. وتسرد القصص المأساوية .. وتضع لنفسها العناوين في صفحات الانترنت : ضحية أخرى .. مأساة ياسمين .. وازدادت ضربات قلبها حين وصلت إلى هذا الحد .. وانقبضت يدها على الباب .. كأنها تقول لنفسها .. إن حاول أن يفعل شيئاً .. سأهرب .. كانت تظن الأمر بهذه البساطة .. لم تكن تدري أنها إن حاولت فقط .. فسوف تموت حين تسقط على الشارع .. وسوف تدهسها السيارات بلا هوادة ..

وربما هذا الشعور .. عززه طريقة تعامل قصي معها في ذاك الوقت .. وبالقسوة التي كان يكسو بها عباراته ..

وبعد قليل .. كانوا قد وصلوا إلى شارع صاري .. ولاح مطعم تيمبورا الياباني .. بلوحته السوداء والحمراء في أناقة .. أوقف قصي السيارة .. ثم قال لياسمين : هنا يا ياسمين ..

نظرت فيه ياسمين .. فقال قصي : سوف يأتي أحمد هنا ..

فقالت ياسمين : وكيف عرفت ؟

فقال قصي : الليلة يا ياسمين ستفهمين ما قد تقضين سنوات طوال من عمرك لمحاولة فهمه .. انزلي يا ياسمين وسوف أنتظرك .. قد يطول انتظارك .. وقد تجدينه عندما تدخلين فوراً .. ولكن .. تحت أي ظرف .. ومهما حصل .. فلا تنزعي الطرحة .. إلا حين يأتي أحمد .. هل فهمت ؟ تحت أي ظرف يا ياسمين .. مهما رأيتِ ..

فقالت ياسمين : حاضر ..

ونزلت ياسمين من السيارة .. ودخلت إلى المطعم .. وتوجهت نحو قسم العائلات الذي كان على اليمين .. الذي كان دون حواجز ودون فواصل .. وكأنهم يقولون .. سنبيح لمن يدخل ومعه نساء أن يكون في مكان يستطيع فيه رؤية نساء الغير طالما يستطيع الآخرون رؤية نساءه ..

أستغرب بقوة .. ألا توجد حواجز بين الطاولات في كثير من المطاعم .. أم أن هذا يعطي المطعم أفضلية .. ومظهراً حضارياً أكثر ..

إنما هو مظهر متفسخ أكثر لا غير ..

احتلت ياسمين مكاناً بعيداً .. وجلست تنتظر .. على الطاولات السوداء .. وراحت تنظر في الستائر البيضاء الجميلة .. وما هي إلا دقائق .. حتى قدم لها النادل قائمة الطلبات .. واحتارت .. فهي لم تأكد أبداً في حياتها طعاماً يابانياً .. ولا تعرف أي شيء فيه .. فاتصلت على قصي الذي أخبرها ببعض أنواع السوشي ..

وجلست ياسمين وحدها تنتظر .. وراح الملل يتسرب إلى نفسها قليلاً .. ولم تعرف ما تفعل .. وراحت تفكر في حياتها .. وفي المكان الذي وصلت إليه وإلى الحال الذي آلت إليه ..

لا بد أن تنتهي من كل هذه الخرابيط .. مذ أتت إلى جدة .. وحياتها مقلوبة .. حياتها رأساً على عقب في حال لا يعلم بحالها إلا الله .. ولكن ..

ثم نظرت إلى الأفق .. وكأنها تبحث عن سيارة قصي التي ذهبت .. وراحت في نفسها تقول : أحس بحنين نحوه .. بل إني أحبه .. صحيح أنه يعاملني بقسوة .. ولكن لا بد أن هذا في مصلحتي .. هذا مؤكد .. وإلا لم يهتم بي بهذه الطريقة .. وراحت الأحلام والخيالات تداعب عقلها في رقة .. فابتسمت في نفسها .. ولكنها للحظة تذكرت أحمد .. وضاعت في حيرتها .. ترى أيهما تحب هي؟

مشكلة حقيقية .. أن تتوهم الفتيات هذه العلاقات العاطفية .. لمجرد شعور بالارتياح والاهتمام .. مشكلة حقيقية .. أنهن ينخرطن في هذه الحالة من السكر .. من الضياع .. من الانسلاخ عن عالم الحقيقية .. في خيالات العاطفة .. فياسمين مثلاً .. تاهت في أوهام الحب .. بين رجلين .. لم يكنا لها أي مقدار من العاطفة .. ربما قصي قد كان في نفسه شيء من الشفقه عليها .. ولكنه قطعاً لا يحمل لها الحب .. أو أي شيء من هذا القبيل ..

مشكلة أنهن يخترن فيما هو ليس في يدهن .. وفي النهاية يتهمن المجتمع بالخيانة .. في حين أنهن قد خن أنفسهن قبل كل الناس .. وقبل كل شيء .. وكانت مشاعرهم عبارة عن إحساس بسيط .. قاموا بتضخيمه .. وفي النهاية صار حباً من لا شيء ..



وبعد قليل .. جاء النادل .. ووضع طبقاً مصنوعاً من الخشب .. وعليه .. بعض القطع الخضراء المستديرة .. في وسطها أرز .. وبعض السمك الذي لم تستطع ياسمين أن تعرف ما هو ..

راحت تنظر إلى الطعام في غباء .. ولم تعرف ماذا تفعل .. وفي النهاية اتصلت بقصي الذي قال لها بملل حقيقي .. ضعيه في فمك بيديك وامضغيه ..

كان واثقاً أنها لن تستطيع أن تتقن استخدام العصا .. وفعلاً .. تشجعت ياسمين .. ودفعت باللقمة في فمها .. ثم راحت التعابير في وجهها تتغير .. وأغمضت عينيها .. وبسرعة .. بلعت اللقمة .. وهي تحس بأسوء طعم في حياتها .. ثم نظرت بقرف في الطعام .. وقالت في نفسها : سحقاً .. أهذا الطعام يؤكل حقاً ؟

أشارت للنادل .. وابتسمت من خلف الطرحة وقالت في سذاجة : أظن أن الطعام بارد ..

نظر لها الرجل بعين متهكمة وقال : إنه يقدم بهذه الطريقة ..

احتارت ياسمين ولم تعرف ما تقول .. ويبدو أن الرجل قد مر عليه الكثيرين من الذين لا يروق لهم الطعام الياباني .. وقال لها : ما رأيك في أن أطلب لك شيئاً تقليدياً .. تستطيعين تناوله ..

فقالت ياسمين وكأنها وجدت من ينقذها : أجل .. أرجوك ..

فقال لها الرجل : ما رأيك في النودلز ؟

نظرت فيه ياسمين مرة أخرى .. فابتسامة النادل وقال : إنها معكرونة تقدم بالطريقة اليابانية .. ولكنها عادية ..

فقالت له بخوف : ألن تكون مثل هذه الأكلة العجيبة ..

فقال الرجل : اطمئني ..

وضعت ياسمين بعضاً من الماء .. وشربته بقوة .. عل ذلك الطعم المريع يختفي من فمها وهي تقول : من يتناول طعاماً نيئاً؟

"نعم لقد كان رائعاً .. أرأيت التعبير على وجهها؟" كان هذا الصوت هو أول ما لفت انتباه ياسمين .. رفعت رأسها وفجأة .. وجدتها : إنها أمل ..

راحت تحدق فيها .. وهي تحس بالدهشة .. ثم تذكرت وقالت في نفسها : أجل .. لقد قالت لي أن عمار يعزمها على مطعم ياباني في كل يوم خميس .. هل يعقل أن تكون مصادفة ؟ لا يهم سأذهب لأجلس معها .. سأتخلص من الملل أخيراً .. وعندما همت بالنهوض .. جاء النادل بالنودلز .. ووضعه أمامها .. راحت تنظر فيه .. كانت معكرونة .. عليها بعض البيض والخضار وقطع صغيرة من الجمبري ..

ثم راحت تنظر في أمل .. وهمت مرة أخرى بالنهوض .. وهنا رن جوالها .. رفعت ياسمين السماعة .. " لا تتحركي من مكانك .. ابقي فيه .. وأكملي طبقك " كان قصي يتكلم .. لم ترد ياسمين لبرهة .. ثم قالت : ولكن ..

فقالت قصي : ياسمين .. اسمعي الكلام .. ولا تدعيني أغضب منك ..

قالها بلهجة آمرة .. قاطعة ..

فقالت : حاضر ..

فتابع : وإياك أن تنزعي الطرحة .. كلي من تحتها كما أكلت السوشي ..

فقالت مرة أخرى بحقد : حاضر ..

وأقفلت السماعة ..

وراحت من تحت الطرحة .. تأكل النودلز .. وفي الحقيقة .. لم يكن هذا جديداً على ياسمين .. التي كانت في المدينة تفعل هذا .. وكانت في أحيان تأكل من تحت الطرحة..

وبعد أن تناولت بعضاً منه .. وضعت الشوكة في الطبق وراحت تفكر .. ترى ما الذي يجعل هذا الطبق مختلفاً كثيراً عن الإندومي؟

هنا ارتفعت ضحكات أمل مع عمار .. اللذبن كانا في حالة من الانسجام .. وإن الذي ينظر قليلاً .. يعرف أي واحدة هي أمل .. أو حتى عمار الذي كان شعره يشبه سلك النحاس المنفوش .. نحيلاً إلى الحد الذي يجعله أشبه بتلك الأداة البلاستيكية التي نغسل بها الحمام .. وتلك القلادات الغريبة التي في رقبته .. مظهر حقير .. لإنسان تافه .. ولكنه موجود .. وعلى كل .. كلاهما يليق للآخر ..



وهنا حدثت الصاعقة .. التي كانت تنتظرها ياسمين ..

فتح الباب .. ليدخل منه أحمد بجسمه الممتليء .. وذقنه العريضة .. وسوالفه الطويلة ..

نهضت ياسمين من مكانها .. وهي تحس بأنها ترتجف .. إنه أحمد أخيراً ..

ولكن المفاجأة التي لم تكن ياسمين بانتظارها .. أن أحمد لم ينتبه لها .. طبعاً لأنها كانت خلف طرحتها .. ولكنه بدلاً توجه إلى طاولة أمل وعمار .. وبدون مقدمات قال : أتعلمين أنك حقيرة .. وسافلة أيضاً ..

راحت أمل تنظر في أحمد .. والمفاجأة قد ألجمت لسانها .. حتى عمار لم يتحرك من مكانه .. ثم نظر إلى عمار وقال : أترى هذه البنت .. إنها مجرد حيوانة ..

هنا اشتعلت الرجولة التي يخرجها الشباب من أجل المباهاة وحب إظهار القوة .. ووقف عمار وقال : ماذا ..

وبكل بساطة قاطعه أحمد المليء بدفعة قوية .. أجلست عمار الذي كان كالريشة أمامه في المقعد مرة أخرى .. ثم نظر مرة أخرى في أمل وقال لها : إن كنت تواعدين الآخرين؟ لم كنت تجرين ورائي؟ لم طلبت مني أن أتوقف عن ملاقاة قريبتك الغبية؟

استجمعت أمل بعضاً من قوتها وقالت : لأنك ستخدعها ..

ضحك أحمد بقوة وقال : ومتى هبط عليك مثل هذا الحنان ؟ أنت الوحيدة بالذات تعلميننا أجمعين معنى الخداع .. أم لأني اشتريت لها تلك الساعة الغالية؟ لم تقاومي .. وغرت منها ..

هنا نهض عمار مرة أخرى مستجمعاً ما بقي من كرامته المهدورة .. وقال بعصبية : اسمع يا ..

قاطعه أحمد وهو يمسك بتلابيبه ويقترب منه .. ويقول : إن لم تغلق فمك الآن .. كسرته لك .. أتفهم ..

وأمسكه .. وألقى به على الباب ..

اصطدم عمار بالباب .. ثم قال : سأريك من هو الرجل الآن .. وخرج من المكان ..

وجاء مدير المطعم وراح يتكلم مع أحمد الذي قال بلهجة حادة : سوف أخرج .. لا أقدر أن أكون في مكان واحد مع هذه القذارة ..

فقالت أمل : إنك لم تشتري لها الساعة لأجل عينيها ..

نظر فيها أحمد بوقاحة وقال : لكل شيء ثمن .. وهي ما تزال جديدة .. وساعة مثل هذه كافية .. لم تكن طماعة مثلك ..

كان حديثاً مقززا عن أغلى ما يمتلكه البشر .. كان حديثاً لا يقال .. كان نزقاً .. هابطاً لأبعد مستوى ..

لم تمضي ثوان على كلمة أحمد الأخيرة .. حتى دخل عمار إلى المطعم .. ومعه عصا بيسبول .. واندفع نحو أحمد .. يحاول ضربه .. وكل عمال المطعم أمسكوه في اللحظة الأخيرة .. واتصل واحد منهم على الشرطة .. فقد كاد الأمر أن يتحول إلى مذبحة ..



كل هذا حدث .. أمام عيني ياسمين .. التي وقفت منذهلة .. وقفت .. ولم تستطع أن تتنفس .. وهي لا تصدق ما رأته أمام عينيها .. لم تصدق كل الذي حصل بهذه السرعة ..

أمل ! أمل هي التي طلبت منه ألا يواعدني ؟! أمل! .. وهو اشترى لي ساعة لأجل ماذا؟ هل يمكن ؟

مستحيل .. لا هذا مستحيل ..

راحت دموع ياسمين تنزل في قوة .. نهضت .. وراحت تجري .. وخرجت من المكان .. دون أن تدفع الحساب .. لم تهتم لأي شيء .. فقد كانت مجروحة .. وعندما وجدت نفسها في الخارج .. كانت تحس أنها وحدها .. كانت تحس أنها تريد أن تنشق الأرض وتبتلعها .. رفعت جوالها بيد مرتجفة .. واتصلت على قصي .. وقبل أن يتم الاتصال .. كان قصي جوارها .. ركبت السيارة دون كلمة .. وفي السيارة .. وضعت رأسها على الزجاج .. وأسلمت نفسها للبكاء .. بكل حرقتها .. بكل ألمها .. بكل أوجاعها .. بكل ما حمله هذا الشهر من أحداث .. من تفاصيل .. من كرامة نازفة .. ومن احترام ضائع .. ومن روح مغدورة ..

لم يكلمها قصي .. ولم يقل لها شيئاً .. أوصلها حتى كورال مول .. ولكن ياسمين لم تنزل من مكانها جلست في السيارة تبكي .. ثم نظرت في قصي وقالت بصوت مليء بالدموع : كيف عرفت ؟

نظر لها بعين جامدة وقال : لقد بحثت ..

فقالت وهي تصرخ : كيف ؟ قل لي ..

نظر لها بحدة وقال : لا ترفعي صوتك ..

راحت ياسمين تبكي مرة أخرى .. وهنا ارتفعت نغمات جوال قصي .. رفع قصي جواله الآي ميت وقال : أهلا حبيبتي ..

نظرت ياسمين في قصي وكأن هذا آخر ما كانت تتوقع ..

وقصي كأنما لا يشعر بها .. راح يقول : لا لن أتأخر كثيراً .. عشرة دقائق .. وأنتهي .. وأتصل عليك مرة أخرى ..

أقفل الخط .. ثم ندت منه نظرة إلى ياسمين .. التي راحت تحدق فيه بغضب .. بكره حقيقي .. وراح قصي في نفسه يقول : أجل اكرهيني هكذا .. حد الموت ..

وراحت ياسمين تقول : حتى أنت ؟ يبدو أني كنت مخدوعة من الجميع ..

قال لها قصي في قوة : لا .. لم يخدعك أحد .. إنما هذه هي قوانين هذا العالم .. عالم تعارف الأولاد على البنات .. الجميع .. يتحدثون مع أكثر من فتاة .. والكثيرات يتحدثن مع أكثر من شاب ..

إنها ليست خيانة ولا غدراً .. ولكنها العادة ..

ألا تعلمين .. أني أعرف أمل؟ وأتحدث معها ..

ثم أخرج من جيبه جواله الآخر السوني أريكسون .. وأظهر قائمة الاتصالات الصادرة والواردة .. وكان رقم أمل مسجلاً به يملأ نصفه ..

حدقت ياسمين بعين يتطاير منها الشرر .. وقالت : لم ساعدتني إذاً إن لم تكن تحبني؟

فقال قصي : هل تتوقعين .. أن يحب الشباب بنتاً .. تتعرف على شبان قبلها؟

هل تتخيلين .. أن أحب الفتاة التي تركب معي؟

أفيقي يا ياسمين .. قلتها لك قبلاً .. لسنا نعيش في عهد الرومانسية .. لسنا في عهد قصص الحب التي تنتهي بالزواج .. لسنا في فلم مصري .. نحن في السعودية في عالم الواقع .. في عالم الأولاد والبنات .. لا تحلمي بأن هذه العلاقات سوف تكون بريئة شريفة طاهرة .. الحب هذه هي الكلمة التي تنخدعون بها .. وهي ذاتها التي نخدع بها أنفسنا .. ونبرر بها زلاتنا .. ولكن في قرارة أنفسنا .. نعلم ما نفعل ..

ثم بلع قصي ريقه .. وقال كلمة لا يعرف كيف خرجت منه .. إلا أنه قالها : لكل شيء ثمن ..

وبعدها أحس قصي بألم يعتصر صدره .. بحريق يملأ تكوينه على النهاية .. إنها أكثر كلمة يكرهها في حياته .. ولكنه كان مضطراً ..

فقالت ياسمين بحقد يكاد يؤجج الأرض سعيراً : الله يلعن هذا العالم ..

فقال قصي بدون أن يبدو عليه أي تعبير : أنت من اختار الدخول فيه .. أنت من أردت أن تتعرفي .. وأن تحبي .. وألا تكوني ساذجة بلهاء ..

أحست ياسمين أنها تختنق .. وأنها تكره الناس أجمعين .. فتحت الباب وخرجت وصفقته بقوة ..



تابعها قصي بعينيه .. حتى ذابت وسط السوق .. وهنا راح يكح .. وبقوة .. حتى امتلأ المقود بالدم .. وأحس أن صدره يتمزق .. وأنه يغيب عن الوعي .. ولكنه حاول أن يتمالك نفسه .. وضع السيارة على الـ D .. وراح يمشي ببطء .. ولكنه لم يتوقف عن الكح أو نثر الدم .. كان يحاول أن يعود إلى المنزل بسرعة .. إنه مرهق .. ولأقصي حد ..

وراحت في مخيلته تدور الأحداث منذ استلم الفاكس .. الفاكس الذي كان يحمل فاتورتي أمل وأحمد وهي الأرقام التي استخلصها من جوال ياسمين ذاك اليوم في المقهى .. وهو أمر يتم في العادة بطريقة سهلة .. بأن يخرج الواحد فاتورة بدل فاقد .. ولكنه اتصل على السيد ناظم .. حتى يضمن أن يتم الأمر في سهولة .. وراح يستخرج الأرقام الأكثر تكراراً .. حتى يعرف بمن تتصل كل من أمل وأحمد .. وبالأخص أمل التي كان يريد أن يدمرها .. بأن يجمع كل الشباب الذين تعرفهم في مكان واحد .. وأن يفضح بعض خياناتها لهم .. إذ إن هذا الصنف من البنات .. تخفي علاقاتها .. لأنها تجني الهدايا وبعض الأموال حتى من هذه العلاقات على أن تكون الحبيبة الأزلية .. والفتاة الخالصة لهذا الشاب .. وتعيش حياة رمية على ما يعطونه إياها .. ولكن المصادفة أتت حين وجدت رقم أحمد قد تكرر كثيراً في جوال أمل والعكس .. مما يدل أن أمل على علاقة أكثر من جيدة بأحمد .. ومن المؤكد أنها تستغله .. فقرر أن يلقي بهم أجمعين في بؤرة جحيم .. وبأن يجمع أحمد وعمار وأمل في مكان واحد .. وبالطبع لابد أن تكون ياسمين موجودة .. حتى ترى بأم عينيها خيانة قريبتها لها .. وعلاقتها بأحمد حتى تستمع إلى الفضائح .. ولقد كانت تصب في الصميم ..

فكر قصي .. أن يصيب أمل في مقتل .. فكر أن يصور هذا الأمر في جواله .. وبعد أيام .. وبواسطة البلوتوث .. لن تجد جوالاً إلا وفيه هذا المقطع .. ولكنه سبق أن قال بأنه لن يحطم البنت .. ولكنه فقط سيبعدها عن أمل .. ويلقنها درساً قاسياً ..

وكان لا بد لياسمين أن تكرهه .. وأن تكره هذا العالم .. أن تكره التعرف على الشباب .. وأن تعرف أين سيجن بها هذا العالم .. وكيف سوف يحرقها كورقة شجر جافة ..

كان يحس أنه يفعل الصواب .. ولكنه أحس أنه ليس بإنسان .. أحس أنه بالغ في قسوته .. أحس هذه المرة بوحدته .. أن قام بأمر عظيم .. ولكن من المؤكد .. أن ياسمين ستلعنه ألف مرة ومرة وسيكون في نظرها الحقير السافل .. سيعيش بطلاً لنفسه فقط .. ولكن عزاءه الوحيد أن الطفلة يوماً ما ستكبر .. وتفهم .. وتعرف ..



وفجأة .. وبدون مقدمات .. كان الضباب يحيط بالحديقة ذاتها .. وراح المشهد يتكرر أمام عينيه ويتكون .. وكأنما يعيشه ألف مرة ومرة ..

لم الآن ؟ لم يتذكر الآن ؟



أحس قصي أن الدنيا من حوله تبهت .. وأنها تسير ببطء .. وأمامه شيء رمادي اللون طويل .. ما هذا ؟ لم انطفأت الأنوار؟



وفي شارع التحلية .. كانت سيارة من طراز لكزس .. قد ارتطمت بعمود في الشارع .. فقد فيها السائق وعيه .. وكانت الوسائد الهوائية مفتوحة .. والشارع في هرج ومرج .. ومن بعيد .. راحت أبواق الشرطة تقترب رويداً رويداً ..











الجزء القادم هو الأخير



قصي الحديدي وفرح العسل



وهذا الجزء سيكون مختلفاً تماماً ..

سيكون هدية لعشاق الرومانسية ..

وأعدكم أنكم سوف تحلقون فيه بعيداً نحو الشمس ..

فقط مع روايتي الخبير

د.خالد أبوالشامات



^_^ تومي!
^_^ تومي!
بسم الله الرحمن الرحيم





منذ زمن بعيد أكتب ..

نعم كم أعشق الكتابة ..

فيها أجد نفسي .. وأحياناً .. أُوجد نفسي ..

قد أكون لئيماً .. حين أقول .. بأني أغار .. أغار ممن يكتبون .. أغار ممن تكون الكلمات في يديهم طوعاً ..

ربما لأن الكتابة .. هي أجمل شيء أستظل به من حرارة الدنيا ..

ربما لأنها النعيم الذي وجد لتتيه فيها روحي الضائعة .. في سنوات الألم .. وتواريخ الحرمان ..



ولكن الشيء الوحيد الأكيد .. أني أستمتع .. وبكامل هذه الكلمة من معنى .. حين أكتب ..

أستمتع .. حين تخرج من بين يدي الكلمات .. دون أن أفكر في الكثير منها .. تخرج من قلبي دفعة واحدة .. بهوجائيتها .. بطريقتها وأسلوبها .. دون أن يكون لي فيها حظ أو نصيب ..



أجمل الكلمات .. تلك التي كتبت .. دون أن يُعدل عليها ..

أجمل الهمسات تلك التي في وقت الصدق خرجت دون أن تحتاج إلى من يستجلب فيها الإحساس .. ويستخرج منها الصدق .. بل إنها كتبت .. لأنها تريد الخرج للعلن .. لأنها تريد أن تعبر عن نفسها .. بالأخطاء اللغوية المتخمة فيه .. والأغلاط النحوية .. وحتى الزمكانية ..

لا يهم .. فقط حب الكتابة .. وحب التعبير ..

وتفسير الذات بالطريقة التي أهواها ..

في كل قصة .. في كل شيء .. لا بد أن يكون هناك لي منها نصيب .. لابد أن تكون مشاعري .. لابد أن أكون واحداً من الأحداث .. لابد أن أكون النافورة التي تطلق الماء .. وتنشر من رذاذها تلك القطيرات اللامعة ..

لابد أن أكون الهواء الذي يحيط بالأبطال .. والشمس التي تشرق عليهم .. ولحظة الهم التي تقتلهم .. والسيارة التي تقلهم .. والكحل في أعين فاتنات رواياتي ..

لا بد أن أكون موجوداً .. في كل ركن .. في كل كلمة وهمسة والتفاتة .. وإلا ما كانت القصة تنبض .. وإلا أحسست أني رسمت لوحة جامدة .. خالية من الإحساس .. خالية من المشاعر .. والذي هو ما يحركنا في الحياة





















( هذا الجزء أطلعني عليه قصي بنفسه )



بمناسبة الجزء الأخير لهذه القصة والذي يتكون من عدة فصول .. القصة .. التي استمتعت فيها بكتابتها .. وبالإضافات الجديدة على القصة .. قررت أن أهدي لكم .. أكثر الأجزاء رومانسية على الإطلاق ..



وسترون بأعينكم كيف تكون الرومانسية .. وكيف سأجعلكم تعيشون مع عشقي في بحر الكلمات .. وكيف سيتمنى كل شخص هنا .. أن يكون بطل قصتي .. وكيف كل فتاة أن تكون هي البطلة .. فهذا الجزء ليس ككل الأجزاء ولكني ما أطلب منكم سوى القليل من الهدوء ..
والإحساس ..
والخيال ..

والانتظار ..
اقرؤوا أيها السادة والآنسات الكلمات بقلوبكم ولا تدعوا أعينكم فقط تقرأها .. وانتظروا حتى يأخذكم بحر الحب ..





























الفصل الأخير

الجزء الأول













فرح العسل .. صاحبتنا تلك .. التي رسمت طريقاً آخر .. للعلاقات التي تنزلق نحو الهاوية في العادة ..

فرح العسل .. التي استطاعت في آخر لحظة أن تنقذ نفسها .. بعد أن أيقظ الله فيها ضميرها ..

هي بطلة الجزء الأخير ..



واسمحوا لي .. أن أعيد رسم فرح أمامكم من جديد .. بذات الكلمات في الجزء الثالث :

إنها ليست فاتنة في شكلها .. ولكنك تحس بأشياء كثيرة جداً للوهلة الأولى التي تراها فيها .. تحس براحة غريبة تتسرب إلى نفسك في لطافة .. تدهشك حقاً براءتها المتناهية .. التي تلوح في عينيها السوداء صفاء بلا حدود .. وعندما تضحك .. تصغر عيناها في جمال ممتع ساحر .. يجعل النظر فيها .. فرصة نادرة .. تستحق إسعادها بأي شكل كان .. وجهها المستدير الوضاء يناسب تسريحة شعرها الأسود القصير .. الذي يرقص كما ترقص السيدات الراقيات .. بكل هدوء وكثافة .. ينساب من بين كتفيها في نعومة فائقة .. ونغزة صغيرة في ذقنها .. تجعلها أكثر طفولة وبراءة ..
وإذ ما دققت النظر في شفتيها .. أحسست بأن الكرز قد نبت من شفتيها لامعاً .. تخلبك ابتسامتها الطيبة .. وكأنها ملاك وردي .. منزهة من الآثام والأخطاء .. حتى أخطاؤها .. تريد أن تبحث لها عن أي عذر .. إنها ناعمة .. وتستحق لقب أنثى عن جدارة واستحقاق ..
صوتها .. صدق .. أنك ستتمكن من سماعه من جسدك كله .. حتى إنه يعبر الجدران والحدود كلها كأنها عزف وتر لقيثارة سحرية ..
وجسدها مثالي في درجة ما بين النحول والامتلاء ..
ورغم ذلك تدهشك الهالات السوداء التي تبدو جلية في كثير من الأحيان عندما تنزع تلك النظارة الرقيقة .. التي لا يحدها برواز ما .. تكسو محياها كلما رأيتها وحدها سمات الحزن الشفاف .. مع أنها تبتسم كلما طالعتها ..
تحادثها .. فتجدها مهذبة بعفوية .. تنقصها الخبرة في تعاملاتها .. بل ينقصها فعلاً .. سوء الظن .. والنظرة السلبية .. والواقعية التي تمكنها من العيش في زمننا .. ولكنها ليست غبية .. يمكنها أن تفهم وتتعلم .. ولكن الأذكياء الذين عاشروا الحياة .. يلقبون هذا النوع من الناس بـ ساذجة .. كم هو عجيب منطق البشر .. منطق يحاول أن يقلل من شأن الآخرين دوماً .. إذ ما كان متفوقاً عليهم .. وصدقوا أننا لو فتحنا قلوب الناس .. لرأينا بجلاء .. كم الحسد يملأ النفوس .. وكم احتقار النفس يكاد يخنقها ..



هذه هي بطلة جزءنا هذا .. الجزء الأخير ..
وكانت فرح قد أنهت دراستها الثانوية لتتخرج بنسبة 94.6 %.. كانت أمنية فرح أن تكون طبيبة .. إنها تود أن تكون طبيبة أطفال .. لأنها تحب الأطفال كثيراً .. وكانت عائلتها تلقبها بالدكتورة فرح .. وتقدمت فعلاً لكلية الطب في جامعة الملك عبد العزيز في جدة .. كانت فرحة أهلها بها عظيمة .. كيف لا ؟!وهي الوحيدة بين أخواتها التي قدمت على كلية الطب ..



وجاءت النتائج .. للأسف لم تقبل فرح في كلية الطب .. ولكنها قبلت في قسم الصيدلة .. لم تعارض فرح كثيراً .. استسلمت لأمر ربها .. فهي قد استخارت .. وعمّ الفرح بيت الأستاذ أيمن العسل بابنته .. فقاموا بحفلة مصغرة .. من أجلها .. جاءت فيها أختها منى من الرياض .. كان اجتماعاً عائلياً لطيفاً .. تجتمع فيه المودة والألفة .. وبعض من الحميمية التي خلت منها البيوت .. وبالطبع .. قدم الكل لفرح هدية خاصة .. فوالدها قد أتحفها بالاب توب الجديد من نوع dell .. ووالدتها .. تكفلت بتغيير غرفتها بأثاث جديد .. استعداداً لحياتها الجديدة .. أما أخوها محمد فقدم لها هدية نقدية .. حتى تشتري بها ما تشاء .. ألف ريال .. وأختها منى حضرت ومعها خاتم صغير ذو فص ماسي بسيط .. حتى أختها الصغيرة ريم قدمت لها مجموعة من الحلويات قامت بتغليفها في البيت بيدها ..

غمرت الدموع عيني فرح .. واحتضنتهم جميعاً في حب .. وإنه لا فرحة لأي إنجاز في الحياة .. ما لم يشاركك فيه من يحبونك حقاً .. وهم ينظرون في عينيك .. وكأنهم هم الذين أنجزوا .. وهم الذين عبروا صوب النجوم .. ولست وحدك ..




وعلى العشاء .. امتلأت المائدة .. بشهي الطعام المنزلي .. وتورتة كبيرة بالفراولة التي تحبها فرح كثيراً .. وجلسوا يتكلمون .. ولم يكن موضوعهم إلا عن فرح .. وكيف ستكون حياتها .. في الكلية .. وما هي نظرة الناس لهم .. وكيف تغيرت .. فقالت والدة فرح في بهجة : سأكلم خالتك أسيل .. فأنت تعلمين أن قصي يدرس أيضا في الصف الثالث لكلية الصيدلة ..




هنا نبدأ قصتنا أيها السادة .. فقصي لم يكن غريباً عن هذه الفتاة ..
إنه ابن خالتها ..
إنه الخبير بنفسه ..
بشحمه ولحمه ..
إنه قصي ..




صمتت فرح قليلاً وقالت : على راحتك يا ماما ..
ولكن محمد قال وهو يتناول الليمون .. ليغرق به قطع الدجاج الصغيرة : أنا أكره قصي هذا .. إنه متعجرف جداً .. ومغرور كثيراً .. ولا يحب الحديث معنا .. علام يرى نفسه ؟صحيح أن الله قد أنعم عليهم .. ولكن كلنا في النهاية عبيد الله ..
قالت أم فرح : ولكنه مهذب .. لا يخطأ على أحد ..
قال أبو فرح أيمن : أنا مع محمد .. هذا الفتى لا يعجبني ..
وهنا قطبت أم فرح حاجبيها وقالت في شيء من الضيق : إننا لن نطلب منه إحساناً .. كل ما نطلبه بعض المعلومات .. وإن لم يكن راغباً .. فلسنا بحاجة إليه ..
فرح هي الوحيدة التي ضحكت وقالت : خلاص يا ماما .. لا عليك سنكلم خالتي أسيل .. والله أنا أحبها كثيراً .. ولكننا لا نرها باستمرار ..
تهلل وجه أم فرح وقالت وقد وجدت أخيراً من يوافقها الرأي : إنها دائما تكلمني وتسألني عنكم ..





كان من الواضح أن ثمة هوة كبيرة بين العائلتين وانقطاعاً طويلاً .. ولكن الكل يعلم .. بأمر المشكلة الكبيرة التي قامت على الميراث .. والتي وصلت إلى المحاكم الشرعية .. الأمر الذي أدى إلى تشتت العائلة التي حوت كل من أم فرح .. وأم قصي .. كان الكل يعرف هذا الموضوع بجلاء .. حتى قصي وفرح ..
)هذه أول مرة أكتب اسميهما معا (
ولكن العلاقة بين هاتين الأختين مقبولة .. كانت هناك اتصالات من آن لأخر .. وكانت أسيل قد رأت اسم فرح في الجريدة .. فباركت لأختها .. وهي التي أتت على أختها .. بأن تسألها في حال احتاجت إلى أمر ما .. فحين كانت تحدثها قالت لها : لا عليك يا أختي .. سأكلم قصي .. وأتمنى ألا تتردي في طلب أي شيء .. معلومات أو أي أمر آخر ..
قالت لها أختها : بالطبع يا أسيل لن نستغني عنك ولا عن قصي .. بالمناسبة كيف حاله الآن ؟
ضحكت أسيل أم قصي وقالت : إنه الآن في ألمانيا .. من أسبوع ونصف قبل أن تبدأ الدراسة .. وسيرجع بعد 3 أيام ..
الحمد لله أن الحادث الأخير .. لم يكن خطيراً .. ولكنه كما تعلمين أحياناً يصاب بإرهاق شديد .. ففضل إجراء بعض الفحوصات هناك ..
فقالت أم فرح : يرجع بالسلامة عن شاء الله ..
وبعد الكلام التقليدي .. أقفلت السماعة ..





هاهي الطائرة تحط رحالها على مطار جدة الدولي .. وهاهي الطائرة القادمة من ألمانيا تفتح أبوابها .. وينزل منها المسافرون الواحد تلو الآخر .. ومنها خرج قصي .. بابتسامة على شفتيه فيها كل السخرية .. متململاً في مشيته .. وكأنما الدنيا لا تعنيه ..



وبينما هو ينزل حاملاً حقيبة يده الصغيرة على كتفه في أناقة .. كانت الأفكار تمر عليه في سلاسة .. فهذه هي المرة الأولى التي يذهب فيها إلى مكان في الخارج .. ولا يتعرف فيها على فتاة .. بل إنه رفض أن يتكلم مع أي فتاة على غير العادة ..



لقد كان تأثير أخر علاقتين فيه مروعاً .. علاقته الثلاثية .. وخصوصاً مع روان التي لم يتمنى قصي أن يؤذيها .. وياسمين .. التي حاول أن يلقنها درساً تستفيد منها في حياتها .. حتى لو كان الثمن حزنها لأشهر قليلة ..

إلا أنه كان يدرك في أعماقه .. أنه ظلم بنتين .. لم يكن ضمن التصنيف الذي وضعه قصي في عقله لمن يريد أن يتعرف عليهم من بنات ..



وبعد الحادث .. كانت أمور حقيقة قد جدت في نفسيته وأفكاره .. وجلس في المستشفى لمدة يومين من الإرهاق .. لم يصب إلا برضوض خفيفة .. وبعدها سافر إلى ألمانيا .. لإجراء فحوصات أكثر دقة .. ولكن لم يكن هناك شيء جديد .. نصحوه وشددوا عليه .. بأن يتجنب الانفعالات ..


وقبل أن يسافر قام بمسح أرقامه القديمة .. وأبدلها برقم واحد جديد .. إنه يريد أن ينسى .. إنه يفكر في الاعتزال .. كان يقول في نفسه .. بأن كفى .. وأنه حان الوقت للتوقف بعد هذا المشوار الطويل .. وهذا العدد من النساء الكبير .. ولكن الأفكار كانت تدور في رأسه .. وإنه لم يقرر بعد بشكل حاسم ..



وحين خرج من المطار .. كان نزار في استقباله .. ويبدو أن نزار .. لن يفكر في حياته أبداً في الاعتزال .. فها هو يلاحق الفتيات بنظراته بفظاعة .. وطريقة التحديق التي أتمنى أحيانا أن أخرق أعين أصحابها ..




وصل إلى منزله .. وبعد أن سلم على والديه .. في نوع من الرسمية .. وبعيداً عن الحميمة .. ربما لأنهم قد تعودوا على سفره مع والده أحيانا .. وأحياناً وحده .. حتى بات الأمر غير جديد .. ذهب إلى غرفته .. دخلها .. وأضاء أنوار الصالة الصامتة إلا من أنفاسه .. ومر بخطوات حذائه الغالي .. إلى أن وصل إلى البيانو ..
ومر بإصبعه بسرعة على أصابعه .. وكأنما يقول له .. ها قد أتيت ..



أخذ حماماً سريعاً .. ولبس ثياباً تليق بالمنزل .. وذهب إلى والدته .. وجلس يتكلم معها .. إنه يريد أن لا يبدأ على الأقل الآن في العزف .. أو حتى بالتذكر .. إنه يريد أن يريح نفسه .. وعلقه وبدنه ..
كانت والدته تشاهد برنامج opera .. وكان قصي يكره هذه أوبرا هذه من كل قلبه .. ولكنه جلس ساكناً .. ولما أحست أسيل أمه بوجوده .. التفتت إليه .. بعد أن خفضت الصوت وقالت له : قصي .. ابنة خالتك فرح قد قبلت في كلية الصيدلة ..

كانت الحماسة في عينيها وهي تتكلم .. وكأنها أتت بأمر خلاب ..
نظر لها بتساؤل وهو يحتضن المخدة الصغيرة : فرح ؟
قالت له : نعم .. خالتك .. .
قاطعها وهو يشير بيده : تذكرت .. ما شاء الله مبروك ..

قالها ببرود وبدون اكتراث .. وراح يطالع الإعلان في التلفزيون .. ولكن والدته لم تهتم أبداً ..
قالت له : أريدك أن تساعدها .. فأنت تعلم .. لا يعرفون أحداً من كلية الصيدلة إلا سواك ..
قال لها بامتعاض : وماذا تحتاج .. إنها كلية كبقية الكليات ..
قالت له والدته بعتاب : خالتك لم تطلب منا شيئاً .. أكثير عليها أن تكلم الفتاة فقط قليلاً حتى تقول لها كيف هي أنظمة الكلية ..
نظر لها وقال لينهي النقاش : حسناً .. دعيها تكلمني .. وسوف أقول لها ما تريد ..
قالت له : سوف تأتي غداً ..
قال لها لينهي النقاش الذي صار في نظره مصدراً للقلق : كما تريدين ..






وفي اليوم التالي بعد العشاء .. كانت أم فرح وبناتها الثلاثة .. قد جاؤوا إلى منزل خالتهم أسيل .. وكعادة الناس .. كانوا يقولون : ما شاء الله ..
ففيلا السيد مناف .. كانت تتغير من فترة للأخرى .. وكانت قد مضت فترة ليست بالبعيدة على آخر دخول لأم فرح .. لمنزل أختها ..
كانت الفيلا تقع في مواجهة البحر تماماً .. في أكثر المواقع حيوية في جدة كلها .. الكورنيش .. بصخبه .. وجنونه .. اتصلت أم قصي على ابنها في الملحق لتخبره أن خالته قدمت ..
وبعد قليل دخل قصي .. وعائلة قصي ككثير من العائلات السعودية .. التي يكشف فيها ابن الخالة على ابنة خالتها مع حجاب يغطي الشعر .. ولم يهتم كثيراً لهذه المقابلة .. ولذلك لم يهتم أن يلبس شيئاً مميزاً ..
لبس جينزا أسوداً .. وقميص أبيض قصير الأكمام سادة تزينه المربعات السوداء ..ودخل .. وسلم على خالته ..
وعلى الرغم من أنها خالته إلا أن هناك كان جو من الرسميات .. إن قصي لا يحب أن يذهب أبداً إلى أي اجتماع عائلي .. إلا ما ندر ..




ثم حانت منه التفاتة إلى بنات خالته ..

عندها رأى قصي فرح للمرة الأولى منذ كانت طفلة .. وأصيب بالذهول ..
ولأول مرة في حياة قصي .. بل إنه ظل يتطلع فيها للحظات .. حتى أن فرح ارتبكت كثيراً .. واحمر خداها .. فقالت أسيل لتنقذ ابنها :وهذه منى يا قصي .. لم ترها منذ زمن ..
انتبه قصي أنه يحدق في فرح التي أشاحت بوجهها إلى الأرض في خجل .. ورحب بمنى .. وبعدها ألقى التحية على الصغيرة ريم ..

وهذه المرة .. انطلق قصي .. لا إرادياً .. وفي لحظات .. كان قصي سيد الحوار والكلمات .. وأصبح هو البؤرة التي يتمركز حولها الجميع .. بل إن والدته استغربت منه كثيراً .. إنها بعيدة عنه تماماً .. لا تعرف إلا أن ابنها يعرف بعضاً من الفتيات .. ولكنها لا تعرف أنه الخبير .. الذي لانت له أصناف البنات ..
أما قصي .. فجلس يتكلم .. ويضحك الجميع في قالب ما بين الجدية والمتعة .. والإثارة .. إنه منفعل بحق ..
أول مرة يفقد الخبير هدوء أعصابه .. ولكنه يعلم أنه يتحدث من باب خبرة .. واخذ يشرح لها عن الكلية .. ويتكلم .. حتى ارتوت فرح من الكلمات ..

هذه الفتاة .. مختلفة تماماً عن كل البنات اللواتي قابلتهن .. لم ينبع منها طيف ساحر .. لم فيها جاذبية لا تقاوم ..



لم يدرك قصي .. أن هذا هو سحر الفضيلة .. لم يعرف .. أن هذه الهالة .. لا تنبع إلا من فتاة مثل فرح .. تلك الملاك الصغير .. تلك الفتاة التي ما لوثتها العلاقات الساقطة .. والمحادثات التافهة .. لم يدرك قصي هذا السر إلا بعد فترة من ذلك اليوم ..
وكانت فرح بينما هو يتكلم .. تختلس النظر إليه .. كانت خجلة منه .. لم تستطع أن تباشر تلك النظرات الذكية .. لم تستطع أن تحتمل تلك العيون التي كانت تضج بالحيوية .. وبالانفعال ..
ولم تدرك أن كل هذه النظرات وتلك الأعين الخجلة التي كانت تملكها .. بأن قصي يعرف معانيها ويحفظها .. ويعرف أنه استرعى انتباهها وحفيظتها .. ولكنه لم يبدي أنه يفهم ذلك .. ولم يتعامل معها على هذا الأساس ..

لم يكن وقحاً .. ولم ينظر فيها بنظرات خبيثة .. لم يحدق .. ولكن شيئاً في النظرات كان ساحراً ..

وانتهى الحديث .. بعد أن جاء محمد .. والحق يقال .. كان قصي قد تغير تماماً في المعاملة الباردة ..
أخذ يتكلم مع محمد على غير العادة .. لدرجة أن محمد تفاجأ .. ولكنه كان سعيداً بهذا التحول .. رغم الأفكار التي راحت تدور في رأسه .. إلا أنه كان يحس بالارتياح ..



استطاع قصي في جلسة واحدة .. أن يغير نظرة عائلة أيمن العسل ويسلب احترامهم وودهم في وقت واحد .. وكل ذلك .. من أجل فرح .. من أجل فتاة .. أحس قصي .. أنها ليست فتاة عادية تمر عليه .. بل إنها أمر جديد مختلف عن كل ما قابله قبلاً ..




وبعد العشاء .. ذهبت فرح وأهلها .. وجاءت أم قصي إلى ابنها.. وقالت باستذكاء :لقد كبرت فرح .. أنت لم ترها منذ زمن ..

فلم تمر مثل تلك التغيرات على قصي مرور الكرام ..
تطلع فيها قصي بنظراته الساخرة وقال : كلنا نكبر .. وكلنا نتغير ..
فقالت له والدته في جدية : ما رأيك أن أخطبها لك ..
نظر لها وقال في هدوء : أخبرتك سلفاً .. إن الزواج هو آخر ما أفكر فيه ..
قالت له : ولكن الإمكانيات متوفرة .. ثم إنني أريد أن ..
قال لها منهياً الحديث مقاطعاً لها : ولكني لا أريد ..
صمتت قليلاً وقالت : على راحتك ..
لم يعقب بكلام .. ولكنه ذهب إلى غرفته ..




"ما هذا .. لأول مرة يقف أمام فتاة هكذا .. إنها ليست جميلة .. ولكن شيئاً يشع منها .. شيء غريب لم ألحظه قبلاً .. شيء لم أره في كل الفتيات التي تعرفت عليهن .. "

وما لبث قصي أن وقعت عيناه على البيانو .. تنهد .. وتوجه إلى دولابه .. وما بين الرسائل المتناثرة .. أخذ العلبة المخملية .. وفتحها .. وأخرج خاتمه البلاتيني .. لقد قرر اليوم أن يلبسه إلى نهاية اليوم .. وجلس على البيانو .. يعزف موسيقاه التي يحبها .. مليئة بالرومانسية .. كلها عاطفة .. وهو مغمض لعينيه .. وتلوح من تلك العيون .. دموع تخرج من الجفون المغمضة .. لتستقر كخط على الرموش .. إلى أن توقف عن العزف .. وقرر الخروج .. وخرج .. وأخذ يبحث عن ضالته كعادته .. فتاة يتسلى عليها ..

عبر الشوارع .. ومر بالأسواق الكبيرة .. ولكن على الرغم من شعوره ذلك الطاغي .. كان يحس على النقيض .. ببرودة تطفيء تلك النيران المستعرة .. ولم يقدر .. كان هناك طيف يشغل باله .. إنها فرح .. تلك العيون الخجلة .. تلك النظرات المختلسة .. الحياء الذي غمرها كلها .. حين كان يوجه لها كلاماً .. الأنوثة التي كانت تقطر منها .. هناك شيء مختلف .. لم يره قصي في كل الذين قابلهم ..



ولكن لا .. إنها ابنة خالته .. وعند قصي قاعدة .. "إن كنت سافلاً .. وكان لابد أن تمارس سفالتك .. فلتكن بعيدة عن اهلك .. "
هذا أقل ما يمكنك أن تفعله من اجلهم .. ولأول مرة يرجع على منزله دون أن تكون فتاة قد وقعت في شباكه ..
أول مرة يرجع إلى بيته مبكراً ..
قرر عدم التفكير في اصطياد سمكة كما يحلو لصديقه نزار أن يعبر .. قرر أن لا يمارس في ذلك اليوم مشوار السخافة ذلك ..



ومضت الأيام .. وبدأت الدراسة .. وبدأ قصي يرتاد الجامعة كعادته وحيداً .. وحين كان ذلك الدكتور الممل يحاضر .. كان يروق لقصي .. أن يجلس في نهاية القاعة .. ليفكر وحيداً .. وعلى دفتره الأنيق .. يكتب بالإنجليزية اسم فرح أكثر من مرة .. من بين تلك الشخابيط الكثيرة وتلك الدوائر التي يحب رسمها لسيارة أودي .. أو حتى تلك الأفكار التي يكتبها على شكل مقالات قصيرة .. بل لا يدري لم .. صار يستلذ أحياناً في دخولها بين قائمة الأفكار .. كان طيف فرح يمر على خياله .. فيجد نفسه يبتسم بدون سبب .. ولكنه لم يكن يهتم بطريقة مبالغة .. كان يحس أنها مجرد أيام قبل أن ينتهي تأثيرها ..




بعد أيام .. اتصلت به رقم غريب ..
"غريبة! .. لا يعرف هذا الرقم سوا نزار فقط .. وهذا ليس رقمه بالتأكيد .. "
رفع السماعة ..
وكانت .. .. .. .. .. .. .. . !منى .. أخت فرح ..
قالت له بصوت فيع ثقة : آسف على الإزعاج .. أنا منى ابنة خالتك ..
قال لها : مرحبا .. أهلا يا منى ..
قالت له بجمود : أهلا يا قصي .. لقد أحببت أن أسألك عن الكتب فقط .. التي من المفترض أن تشتريها فرح ..
قال لها وهو يفكر في نفسه .. لم لم تتصل فرح بنفسها؟ :لا داعي لأن تشتري إلا كتاب الكيمياء فقط وكتاب الإنجليزي الخاص بالمصطلحات الطبية اسمه :
The ************************************************ of medicine
أما بقية الكتب .. فلها ملخصات تباع في المكاتب القريبة من الجامعة ..
قالت له : شكراً .. وآسفة إذا كنت أزعجتك ..
فقال لها : لا عليك .. وإذا احتاجت فرح أي شيء .. تستطيع أن تكلمني ..
وأقفلت منى الخط ..




وضاع قصي مجدداً في فرح .. هناك شيء غريب في هذه الفتاة .. ما الذي يجعله يتذكرها بهذه الطريقة ..
هل .. هل هو الحب ؟ولما وصل إلى هذه الفكرة .. أخذ يضحك .. حتى دمعت عيناه .. وأخذ يقول بصوت عالي : الحب ؟وأخذ يضحك مرة أخرى في سخرية .. كانت تخفي وراءها ألماً عميقاً ..



وحاول ألا يفكر في الموضوع .. ولكنه لم يستطع .. وبعد أيام .. اتصلت به خالته وقالت له : كيف حالك يا قصي ؟
تعرف على صوتها بسرعة .. فخالته لها صوت مميز كأنه أحد المدبلجين في المسلسلات المكسيكية وقال : أهلا يا خالتي ..
فقالت له : كيف حال الجامعة معك ? يقولون بأن هذه السنة صعبة عليكم أليس كذلك ؟
قال لها : يقولون ذلك .. ولكن إن شاء الله ستكون بخير ..
فقالت له : كنت أريد أن أسألك .. من أين نستطيع أن نشتري روب المعامل ؟
كان من الواضح أنها تريد أن تسال هذا السؤال من البداية ..
فقال لها : أي مركز للمعدات الطبية .. أو حتى الثوب السعودي .. يبيع مثل هذه الأرواب ..

وتستطيعين أن تجدي في هذه المراكز .. ما تحتاجه فرح من أدوات قد تحتاجها في مادة الأحياء ..





واستمرت المكالمات .. وفي كل مرة كانت خالته تتكلم .. كان يسمع صوت فرح بجوار أمها .. كانت لا تريد التحدث معه .. ولكن لماذا ؟




وبعد مضي شهر من الدراسة .. اتصلت خالة قصي عليه وسألته عن الاختبارات الدورية .. فقال لها : اختبار الـbiology سهل .. ولكن عليها أن تذاكر الـMCQsثم إن هناك chapters مهمة كثيراً ..
قالت له خالته : لحظة .. لحظة ..
وأخذ قصي يسمع .. إنه حوار بين فرح وخالته .. خالته تقول لابنتها .. خذي كلميه ..
وفرح تقول : لا ..
وأمها ترد عليها : لست أفهم ما يقول .. أنت تعرفين كليتك أكثر مني ..
وبعد حوار دام أكثر من دقيقة ..
سمع صوتاً أنثويا من الطرف الآخر .. كان صوتاً خائفاً مرتبكاً وهي تقول : ألو ..
فقال لها :بعد أن سمح للصوت بأن يدخل في أذنه ويستبيح جنبات عقله : فرح ؟
فردت : نعم ..
فقال لها : أهلا فرح ..

وأخذ يتكلم ويشرح لها .. وهي لا ترد بكلمة .. إلى أن انتهى ..

كان يحس بأنها محرجة .. وبأنها قلقة .. لذلك تولى زمام الأمر .. ولم يحملها كثيراً من المشقة في السؤال ..

لقد فعل هذا الأمر على غير العادة حين كان يتكلم مع البنات .. اللواتي كان يجبرهن بأسلوبه على الحديث .. حتى يذوب حاجز الحياء الذي تملكه بعض البنات ..

فقال لها : ألو .. فرح أنت على الخط ؟
فقالت بسرعة : نعم نعم ..
فقال لها : جيد ..
فقالت له : شكراً ..
وأقفلت الخط ..


ابتسم قصي .. إن هذه الفتاة هي الأكثر براءة في حياته .. الأكثر طهراً .. إن هذا الصنف هو الوحيد من الفتيات التي لم يكون يرضى بأن يؤذيه .. ربما .. لذلك كانت فرح مختلفة عن بقية من عرفهم .. إنه لم يسمح لنفسه أبداً .. أن يتعرض لهذه النوعية من البشر ..
إنه الصنف الملائكي .. الصنف الذي تكون فيه الفتاة كالقطة التي لم تستطع أن تفتح عينيها للنور ..
إنه الصنف الذي .. .
عندما وصل قصي بتفكيره إلى هذه النقطة أحس بالدماء تفور في رأسه .. وجلس على البيانو .. وبكل العنف أخذ يعزف .. إن هذا المشهد أصبح مكرراً ومملاً ..
قطرات من الدم تختلط ببعض قطرات العرق ..
وخروج من المنزل .. ولكنه في النهاية لا يستطيع أن يكلم فتاة .. ما الذي حصل له ؟



شهر مذ رجع من فرنسا .. وهو عازف عن الترقيم .. عزف عن هذا كله .. وكان يعرف السبب .. إنها فرح ..

فرح التي دخلت حياته دون استئذان .. دخلتها دون أن يحب هو لها حساباً .. دون أن يخطط كعادته .. أو يدبر للموضوع ..





يا ترى ,,, هل ستكون فرح .. شيئاً جديداً في حياة الخبير قصي ؟؟؟؟
أم ستكون واحدة مثل كثير مثلها ؟؟؟
هل سيحبها قصي ؟؟؟
أم سيخدعها بكل أنانية كعادته ؟؟؟

هذا ما سنعرفه في الفصل القادم

^_^ تومي!
^_^ تومي!
الجزء الأخير

الفصل الثاني







ها هو قصي .. يجلس في غرفته وحيداً كعادته .. تناثرت على جنبات المكتب تلك الكتب الدراسية العقيمة .. التي ما تنتهي من مذاكرتها إلا بعد أن تكون قد نسيت لأولها .. ولكن قصي لم يكن يذاكر .. لقد كان بفكر .. فيمن ؟

في فرح .. الفتاة الرقيقة التي جلس يفكر فيها دون أن يعي ما يفعل ..

لأول مرة يجد فتاة لا يستطيع أن يبعد فكره عنها ..

لأول مرة يجد أول ما تعانق شفاهه في الصباح عند استيقاظه من النوم اسمها .. بدون تفكير .. فإنه صار ما ينظر في مكان إلا ويجدها فيه ..

.

شيء غريب !

قصي الخبير .. الذي لانت له شوكة كل فتاة قابلها .. تأتي فتاة وتفعل به كل هذا .. ترى أتكون نزوة .. ومجرد شعور بحب الامتلاك .. ثم تنتهي مثل سابقاتها .. هل تكون قصة جديدة .. لنهاية .. يتناثر على أطرافها الدم كما هي العادة ؟ أم أنها بداية لأمر آخر ..

وعندما وصل قصي إلى هذه الأفكار .. ابتسم ابتسامة ممزوجة بالحزن .. ولكن إحساساً بارداً منعشاً صار ينبعث من صدره ..



وراح على البيانو .. وراح يعزف مجدداً .. وأحس مجدداً .. أنه والبيانو كائن واحد .. وكأن لسانه صار تلك الألحان التي يعزفها قصي .. إنه يلحن بصوت القلب ما في النفس من أشجان ..



إذ إن الفكرة الأخيرة .. صارت تحتل مساحة كبيرة من عقله .. ترى .. أتكون فرح .. مجرد نزوة! هل لأنها فقط محترمة .. أحس باختلافها .. عن كل اللواتي قابلهن .. هل لأنها مستعففة .. يحس برغبة كبيرة في الحديث معها ..
وعندما وصل التفكير به إلى هذه النقطة .. هوى بقوة على البيانو .. وكأنه يقول : لا ..

نهض من فوق البيانو في ضيق .. وراحت برودة الغرفة تدخل في أطرافه .. ولكنه كان يقول لنفسه : إنها ابنة خالتي .. وأنا لن أؤذيها .. حتى لو كانت مثل ...

وهنا أغمض عينيه .. وعض على أسنانه في حقد دفين ..

توجه مباشرة إلى غرفته .. وفتح الدولاب .. فأضاء ذلك المصباح الصغير داخل الدولاب .. أخرج تي شيرت أخضر اللون .. وارتدى معه جينز سماوي .. واستقل سيارته .. وخرج ..

سار بين الشوارع .. وهو يحس بالضيق .. حتى وصل إلى شارع التحلية : نعم لا بد من ضحية .. لا بد أن يفجر غضبه .. لا بد أن ....

ولقطتها عيناه .. فتاة يانعة .. كانت تركب في كاديلاك في المقعد الخلفي .. ويقود السيارة سائق آسيوي الجنسية .. وراح قصي يقول في نفسه : نعم هذه هي ..

لحق بها .. وعندما وصل إلى الإشارة .. توقف بجوارها .. راح ينظر لها .. وكانت تنظر إليه .. كانت فتاة جميلة .. قد كشفت على وجهها البرونزي الأخاذ .. وكانت تضع المساحيق بمهارة وأناقة .. ومن جانب الطرحة التي تعبر في حد ذاتها فتنة أخرى بعض الشعيرات التي كانت تظاهر إنها تضعها في داخل الطرحة ..

هنا أشار لها قصي أن تفتح النافذة .. وفعلا فتحت النافذة .. وكانت تتظاهر أنها تسأل عما يريده منها قصي .. تردد قصي قليلاً .. ولكنه جمع أنفاسه وقال : هل من الممكن أن أقول لك شيئاً ؟

فقالت الفتاة بتساؤل حقيقي : ماذا؟

فقال : أليس من العيب .. أن تخرج فتاة في مثل سنك .. مع سائق .. وتجوب الشوارع .. ووجهها سافر ؟

عيب عليك .. الله يهديك بس !



فتحت الإشارة .. فأقفل قصي النافذة .. ومشى وترك الفتاة وهي مذهولة .. ثم .. انفجر من الضحك .. راح يضحك .. ويضحك حتى دمعت عيناه .. لم فعل ذلك ؟ لا يدري .. ولكنه في اللحظة الأخيرة .. تراجع ..

ولكن عيناه لمعت في حزن .. إذن .. لم توقفه فرح عن الترقيم .. إنه يستطيع أن يفعل ذلك .. ولكنه لا يريد .. صحيح أن فرح كانت حافزا .. ولكن أيضاً بسبب علاقته بروان .. وبياسمين .. والحادث الأخير .. وبسبب التعب الذي مر به في الأيام الأخيرة .. ربما كل هذه العوامل مجتمعة .. كانت السبب ..



رجع إلى المنزل .. ونزع ثيابه .. وجلس قليلاً .. ثم أصدر جواله تلك النغمة المميزة للرسائل .. فتح قصي الجوال .. فكانت رسالة من فرح :

السلام عليكم .. عفواً للإزعاج ..

كنت فقط أسأل عن أوراق الـ genetics ..

فأنا لم أجدها بين الأوراق التي ابتعتها من مكتبة الأندلس ..

وشكراً ..



لا يدري لم أحس قصي بسعادة .. بذات الإحساس المنعش البارد .. الذي يدخل قلبه دون استئذان .. كان يقرأ حروف فرح .. ولم يكن يريد أن يفارقها ..

وراح يكتب لها رسالة :

أهلاً يا فرح .. كيف حالك؟ وكيف هي أخبارك ؟

أتمنى أن تكون الجامعة بخير ..

لدي أنا ملخص موجود من السنوات السابقة .. أستطيع أن أرسله لك إن شئت ..

وإن كان لديك أي ملخص ناقص .. سأكون ممتناً بإعطائك إياه ..



وكاد أن يرسل .. ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة .. أحس أن كلماته لا تناسب فرح .. لا تناسب هذه البريئة .. فغير هذه الرسالة .. حتى تكون أكثر أدباً وقال :

وعليكم السلام ..

لا عليك .. سوف أجعل السائق يوصل لك الأوراق

احترامي



ابتسم عندما كتب هذه الرسالة .. أحس .. أنه إنسان جيد .. أحس بأنه احتفظ بمبادئه .. ولكن هل لأنه معجب بفرح .. أم فقط لأنها قريبة .. ولأنه لا يريد أن بؤذيها ..



وعلى هذا الحال .. استمر قصي في علاقته بفرح .. بين تضارب الأفكار .. بين الحيرة البادية في نفسه .. وفي روحه .. إنه يحس نحوها بشيء من العاطفة .. ولكنها ليست تلك العاطفة القوية .. ليس ذلك الشعور الأخاذ .. إنه يحس بأنه المتحكم المسيطر على عواطفه .. ولكنها ما إن تمر بنسماتها عليه .. كان يحس يريد أن يتلذذ بنعيم القرب منها ..



وبعد فترة .. كان قصي يجلس في بارنيز كافيه على شارع التحلية .. ويحتسي قهوته التركية باستمتاع .. فلقد أقلع عن الذهاب لستاربكس .. لا لشيء .. إلا أنه تأكد من أن هذه الشركة تخصص عائداً مالياً إلى اليهود .. إن الأمر ليس كما يقول البعض : وهل بإيقافك لشراء ما ينتجونه فائدة ؟! ولكن الأمر أنه أقل ما نستطيع أن نفعله ضد هؤلاء المغضوب عليهم ..



وكان يفكر في علاقته بفرح أيضاً .. إن هذا الموضوع ظل يشغل باله .. لمدة تقارب الشهر حتى الآن .. وهم الآن على بواكير شهر رمضان .. كان يحدث نفسه ويقول : أنا متأكد من أنه مجرد إحساس سوف يزول قريباً .. تلك هي العادة .. عندما نرى شيئاً جميلاً .. ولا نستطيع الوصول إليه وبينما هو كذلك .. جاءته رسالة .. وكانت هذه المرة أيضاً من فرح :

أنا آسفة على الإزعاج .. ولكن لدي اختبار غداً بايولوجي ..

وما زال أمامي الكثير .. كنت أسأل إن كانت هناك أسئلة مكررة ..

أو حتى فصول مهمة لأركز عليها ..

وشكراً ..



وهنا بدون أن يفكر قصي .. وضع الكوب الورقي على الطاولة الزجاجية .. واتصل على فرح .. وراح الجوال يصدر تلك النغمة المتقطعة الرتيبة .. انتظر قصي كثيراً .. وفي النهاية .. ردت فرح .. ولكنها لم تتكلم بكلمة .. فقال لها قصي : السلام عليكم ..

مرت لحظة صمت قالت بعدها فرح بخفوت : وعليكم السلام ..

أحس قصي .. أن فرح لن تتكلم .. وأحس كم هي محرجة .. وبريئة .. فقال :

هناك أوراق طبعاً من السنوات الماضية .. هناك بعض الأسئلة المهمة .. common assays ..

فقالت فرح : لا الاختبار فقط اختيار متعدد MCQs ..

فقال قصي .. وهو يبتسم .. لا يدري لم ولكنه مؤكد لإحساس ناعم وحنون : لا بأس .. سوف آتي لك بها الآن إن شاء الله ..

وهنا سمع فرح تقول بسرعة : لا .. لا .. سوف أطلب من محمد أن يأتي ليأخذها منك ..

ولكن قصي الذي زادت ابتسامته : كلها ربع ساعة وسوف تكون الأوراق عندك ..

صمتت فرح قليلاً ثم قالت : لا نريد أن نتعبك ..

نهض قصي من مكانه فأصدر الكرسي أزيزه .. وسحب مفتاح سيارته وهو يقول : لا عليك يا فرح ..

وكأن قصي قد أحس بأنفاس فرح تزداد .. ثم قالت : جزاك الله خيراً ..

كان قصي يحس بالملائكية .. بطهارة هذه الفتاة .. لا يدري لماذا .. كلما أحس أنه يستطيع أن يستمر في حياته بدونها .. ومن أنها لا تمثل أي شيء بالنسبة له .. وبأنها مجرد فتاة كأي فتاة في العالم .. تأتي هي لتغير هذا المعتقد في لحظات .. في ثواني فقط ..

كانت كل هذه الأفكار .. تمر في بال قصي .. وهو يتوجه إلى بيته .. ويخرج تلك الأوراق التي عاف عليها الزمن .. ثم توجه إلى بيت خالته .. كان يحس بشيء جديد عليه .. لا يدري ما هو .. ربما لأن ما يقوم به .. يقوم به في النور .. وفي العلن .. ولا يخشى أن يعرفه أحد .. بل إنه سيوصل لها هذه الأوراق .. وإلى بيتها وأمام أهلها ..

وصل إلى العمارة التي كانت فيها عائلة زوج خالته أيمن العسل .. وعندما دخل إلى العمارة .. كانت رائحة تجعلك تحس بأنك في مكان وسيع وبراحة .. صعد إلى الدور الثاني .. وضغط على الجرس .. ووقف ينتظر أمام ذلك الباب الخشبي الكبير ذو المقابض المذهبة .. وبعد قليل .. فتح الباب زوج خالته أيمن .. كان يرتدي فوق رأسه تلك الطاقية المخرمة .. كان ممتليء الجسم .. يرتدي نظارة طبية فضية اللون .. ولديه لحية قصيرة جداً تملأ عارضيه .. ثم قال له بابتسامة : تفضل يا ولدي ..

ولكن قصي مد يده بالأوراق وقال : شكراً يا عمي .. لا داعي لذلك ..

ولكن السيد أيمن .. أخذ بيده وهو يتحدث في أمر لا جدال فيه : تفضل .. لا بد أن تشرب لدينا الشاي .. هذه أول مرة تأتي فيها إلينا .. أهلا وسهلاً ..

دخل قصي رغماً عنه .. ولكنه عندما دخل .. أحس بإحساس غريب .. أحس بجو دافئ .. لم يجده ولا مرة في منزله .. أحس بحميمية غير عادية .. وبراحة كبيرة ..

دخل الصالون صحيح أنه ليس بضخامة صالون فيلا قصي .. ولكنه يعتبر وسيعاً عندما نقارنه بشقة .. كان الأثاث الأحمر القاني يزين المكان .. والإضاءة .. كانت لها لمسة خاصة .. تعطي إيحاءً بالفخامة تناسقت مع الجدران التي كانت بنفس اللون .. وكانت المخدات الصغيرة الذهبية تزين الكنبات العريضة ..

جلس قصي .. وهو يحس بحنين عجيب .. وبعد قليل .. جاءه أبو فرح .. ومعه الشاي .. وراحا يتبادلا الحديث .. كان أبو فرح رجلاً بسيطاً .. خفيف الظل حلو المعشر .. يتبادل الأحاديث في ودية وفي أريحية ..

أحس قصي أنه لا يريد أن يغادر هذا البيت .. أحس فيه براحة كبيرة .. أحس أنه المكان الدافئ الذي كان يبحث عنه .. أحس أنه يريد أن ينام هنا .. وأن يرتاح .. وأن يلقي بماضيه .. وللحظة راح يفكر .. أهذا المكان هو الذي تسكن فيه فرح ؟ لا بد أنها جلست أكثر من مرة على هذه المقاعد .. وابتسم لحظتها ..

وبعد دقائق كانت خالته أم فرح قد جاءت ومعها قطع مثلثة من الكيك اللذيذ .. وجلست قليلاً .. وأحس قصي أنه قد قضى ساعة بسرعة خيالية .. فشكر الأستاذ أيمن وخالته .. ثم خرج ..

وعندما وصل سيارته .. جلس قليلاً في المقعد وعلى شفتيه ابتسامة .. أغمض عينيه قليلاً .. ولكنه تحرك بعد دقائق ..



وصل إلى المنزل .. كانت الساعة الثانية عشرة مساءً .. جلس على مكتبه .. وراحت أصابعه تحرك قلم الرصاص الذي يحبه كثيراً بين أصابعه .. وراح يكتب ..





أهرب منك

أهرب منك .. أهرب من تقاسيم وجهك الجميلة ..

التي نقشت في قزحية عيني ..

أهرب من تقاطيع وجهك الذي طبع على جفناي من الداخل ..

أهرب من جنوني .. كلما انطبقت هذه الصورتان ..

عندما أغمض عيناي .. لتفتح بوابة الأحلام السرمدية ..

وكأنها رموز وأسرار .. لا تظهر إلا في عالم الخيال المبهر ..

أهرب منك .. رغم أن كل وجه فاتنة ما هو إلا لوحة مقتبسة منك ..

أهرب منك بكل وسيلة معروفة وغير معروفة ..

أقحمت نفسي في كتاباتي كي أهرب منك .. فوجدتني أكتب فيك ..

وأجبرت نفسي أن أنام ..

فزارتني أطيافك في أحلامك ..

أشغلت كل وقتي في كل شيء ..

فتركت كل شيء في منتصفه .. وضاع وقتي في تأملاتي ..

هذا كله .. لأني أوقن أني بأنني لو جعلتك تصلين إلي ..

ولو لدقائق .. فإني سأحترق ..

وأن التنهيدات ستبحر إلى محيط ليس له من شاطئ ..

أهرب منك لأني أفهم أني إن مسست فكري فقط ..

سينطلق الفؤاد من قفصه الفولاذي .. وستتمرد المشاعر على سلاطين العقل والرزانة ..

أهرب منك .. كي أهيش .. أهرب منك .. ومن كل حلو فيك ..

كي لا أموت ..

أهرب منك رغم أني أبحث عنك ..





ولا بد أن أوضح أن التعقيد في شخصية هذا الإنسان .. قد طغى عليه حتى وصل إلى كتاباته .. إن المقطع الذي يتحدث فيه عن العيون .. والصورة التي طبعت من الداخل .. أستطيع أن أفسره في كلمات بسيطة ..

فوجه فرح قد نقش في جفنه .. في الجهة المقابل للعين .. ولكن هناك صورة أخرى طبعت في عينه هو ..

فمتى تلتقي الصورتان ؟

عندما يغمض عينيه .. أي كلما أغمضاهما كي ينام أو ليفكر ..



وهنا توقف قصي .. وأخذ ينظر بتأمل فيما كتبه .. ويتساءل حقاً حول ما كتبه إن كان حقيقياً .. إن كان هذا ما في قلبه .. أن هذا مجرد إحساس بالسعادة .. بالدفيء والحنان ..



هل الكلام صادق أم مجرد كلام يكتبه ؟

فقصي .. يكتب كثيراً فقط من أجل إشباع نرجسيته المفرطة .. وكثيراً ما يضخم مشاعره .. ويزيد في إحساسه إلى الحد الذي يجعله يكتب خواطراً غاية في الجمال ..

ولكن الحقيقة التي يدركها .. أنه هذه المرة لم يبذل الكثير من الجهد .. كانت الكلمات ترتسم بكل أناقة .. بخطه الجميل الرائع .. ودون أي تكلف ..



ولكن الغريب اليوم بحق .. أن هذه الخاطرة كانت سعيدة .. تطير الكلمات في حب .. على عكس كل خواطره السابقة التي امتلأت بآلام بلا حصر .. بل إن كل خاطرة له في السابق كانت قمة في الكآبة المفرطة ..

وفي النهاية .. أخذ الورقة وطواها .. ورمى بها على الأرض في إهمال .. وذهب إلى سريره لينام .. وكأنما بذلك يثبت لنفسه .. أنه لم يحبها بعد ..









إنه العيد .. عيد الفطر .. بعد شهر رمضان الذي انقضى .. فمن الناس من تزود بالعبادة .. ومنهم من تزود بالمعاصي .. بل بعضهم تفنن في ألوان المعاصي في شهر رمضان ..

وأتى العيد ليغير بعض المقاييس في منظور الناس .. وليجعل بعض من تزود بالعبادة .. ينسى كل ما حصل في هذا الشهر .. ويعود الكتان كما كان ..



قصي .. في حالة تفكير متقطع .. إنه يفكر ولكن ليس بجنون مطبق .. إنه ليس ذلك النوع من الناس الذي يغرق في بحور الحب ويتيه فيه عادة ..

انتهى ترمه الأول .. ونجح كعادته .. بتقدير جيد مرتفع ..



أما فرح فكانت تكلمه من فترة لأخرى .. تسأله عن بعض الأشياء .. لم يكن هناك من اتصال إلا بسبب حقيقي .. وفي كل مرة كان يشعر بأنها قريبة منه .. وبان سعادة كبيرة يحس بها عندما يقترب منها ..



أما قصي ..

أرسل لها بعض الرسائل في رمضان .. ولكنها ما كانت ترد عليها أبداً ..

ما اتصل عليها إلا لمرات قلائل ليشرح لها عن أمر ما .. كانت فرح عندما تتكلم .. شديدة الخجل .. بالغة في الحياء .. وتعتذر أكثر من اللازم .. على إضاعة وقت قصي .. وتحرج من أن تسأله كثيراً ..

وفي كل مرة يزداد قصي تفكيراً بها .. ولكنه ما يلبث أن يعود لأفكاره السابقة .. فهو في أفكاره يتمرجح .. ويتقلب .. ولكن أمراً كان مؤكداً لديه .. أن القرب منها سعادة ..



وجاء العيد .. واجتمعت عائلة أم قصي وأخواله وخالاته ..

ولأول مرة مذ مدة طويلة يذهب قصي .. وجلس هناك .. بثوبه الأبيض النقي .. وبتقاسيم جسمه الرائعة .. وبذقنه الخفيفة .. ولأول مرة يطالع في العائلة بشيء من الألفة .. لأول مرة يجد نفسه يجامل ويتكلم ..

وكان هذا الاجتماع في هذا العيد .. محاولة للم الشتات المتفرق .. بعد أن جرت عدت اتصالات في العائلة .. لتنتهي هذه المشاكل وهذه القطيعة التي استمرت لسنوات ..

وفضلوا أن يكون الاجتماع في مكان كبير .. وبعيداً عن بيوتهم .. ولذلك كان الاجتماع في استراحة على نهاية الكورنيش ..

اسمها الأرض الخضراء ..

كانت استراحة كبيرة وواسعة للغاية .. وعلى اليسار ملحق من طابقين .. وبجواره المسبح ..

وبقية الاستراحة كانت مساحة خضراء ممتدة .. وعلى الركن الأخير ملعب صابوني صغير ..

كانت لطيفة لمثل هذا الاجتماع ..



وجاءت فرح .. وعرف قصي لم تشجّع أن يذهب إلى هذا الاجتماع .. بالتأكيد من أجل فرح ..

كان ينتظر حضورها بفارغ الصبر .. وكان يطالع في الأطفال من أبناء أخواله وخالاته اللذين راحوا يشعلون الطراطيع لتنفجر في السماء بمختلف الألوان والأشكال ..

وبعد ربع ساعة .. وصلت فرح وأهلها .. كان ينظر لها من بعيد .. دون أن تشعر .. كانت تلبس عبائتها الطويلة ذات الأطراف المزينة بقليل من الكروشيه .. وبقيتها كانت سوداء أنيقة تقفل من الجوانب .. لم تضع مكياجاً مثلها مثل بقية بنات العائلة .. لأن هذا الاجتماع يكون فيه العديد من شباب العائلة ورجالهم ..



وبعد قليل .. تحين الفرصة .. وذهب لها .. .

لأول مرة يجد نفسه بشيء من الحذر أن ترده فتاة .. كان دوماً لا يأبه .. ولكن فرح كانت إنسانة غير عادية .. على الأقل في نظر قصي ..



كانت فرح ترتشف عصيراً .. وهي تجلس بجوار المسبح .. تشاهد الأطفال الصغار وهم يسبحون .. إن فرح شخصية محبوبة جداً لدى الصغار .. وكانت تلعب معهم .. وترمي لهم بعض القطع النقدية وتتحداهم فيمن يجلبها أولاً ..



اقترب منها قصي وقال لها بابتسامته الجذابة: السلام عليكم ..

نظرت فيه فرح .. وارتبكت .. وأخذت تتأكد من حجابها .. على الرغم من أنه كان محكماً .. أما قصي فأخذ يتأملها بكل إعجاب .. ويقول في نفسه : كم أنت عذبة ..

قالت وعيناها على الأرض وعلى المسبح ..وهي تتحاشى النظر إليه : وعليكم السلام ..

فقال لها بدون أي تكلف :كيف حال دكتورتنا ؟

وصار خداها بلون الورد القاني وهي تطالع في جهة قصي .. دون أن تنظر إليه .. ثم قالت : بخير .. الحمد لله ..

فتابع قصي وهو يختلق الأحاديث : ما شاء الله .. لقد عرفت النتائج .. جيد جداً .. رائع فعلاً ..

فقالت بتساؤل حقيقي وهي لازالت تنظر إلى المسبح .. وتذوب عيناها الخجولة في اللامكان : أليس تقديراً سيئاً .. أقصد في الثانوية ..

هنا قاطعها قصي بضحكة خفيفة .. وقال لها بكل لطافة : يا فرح .. الكليات الصحية ليست كالثانوية ..

أحس قصي أن فرح قد ارتجف جسمها .. حين نطق باسمها .. وأحس بنبضاتها تتسارع .. ولكنه أحس بصفاءها الذي كان بلا حدود ..

لم تعقب فرح بأي كلمة ..



ولأول مرة مذ زمن طويل .. تبقى ابتسامة قصي بكل صدق على شفتيه .. كان سعيداً .. سعيداً إلى حد لا يوصف .. أحس بأنه يريد أن يطير .. أحس بنفسه بقدرة غير عادية .. أحس أن الحياة قد عادت إليه من جديد .. بل لأول مرة وجد نفسه قادراً على نسيان الماضي .. بكامل إرادته .. وأن تلك الرغبة الماسوشية في تعذيب النفس تتلاشي .. واستمتع كما لم يستمتع من قبل .. أحس أن الحياة حلوة .. يستحق المرء أن يعيش بين جنباتها .. كان يتكلم معها .. ولسانه يتحدث .. وعقله في مكان آخر بالتأكيد .. بل قلبه يحلق في جموح بعيد ..

وفي النهاية قال لها بكل ثقة وثبات :فرح .. إن احتجتِ إلي أي شيء .. فأتمنى أن تتصلي علي في أي وقت .. أنت ابنة خالتي .. ونحن في كلية واحدة .. من سيساعدك إن لم أساعدك أنا ..



وهنا تجرأت فرح أخيراً ونظرت إليه ..

وعندما التقت عينا قصي بها .. تاه في طفولة عينيها ..

بل إن قصي لم يشاهد مثل عينيها قط في حياته .. عينين هي الطيبة بحذافيرها .. هي الخجل والرقة معاً .. هي ابتسامات الدنيا .. بل هي الدنيا كلها ..

وكانت نظرتها له لأقل من ثواني .. أحس فيها قصي بكل هذه الأحاسيس ..

ثم أشاحت بوجهها بسرعة في خجل وقالت : بالتأكيد ..

فنهض قصي وتركتها مضى .. وعلى شفتيه ما زالت الابتسامة مزروعة ..



وعندما خرجوا .. رأى فرح وهي تخرج ..

وتعجب .. لقد كانت تلبس حجاباً كاملاً .. يغطي وجهها كله ..

لكنه عرفها من حذائها الأبيض البسيط ..



و عندما رجع إلى بيته .. دخل غرفته .. بكل سعادة .. وجلس على البيانو .. وجلس يعزف .. وأخذت المقاطع الحلوة تخرج من بين أصابعه .. وهو يعزف بكل نشوة .. يغمض عينيه .. وابتسامة كلها فرح .. عوضاً عن ابتسامته الساخرة .. وهو يعزف أروع الألحان الرومانسية .. وهو يهتف في داخله .. باسمها .. كان يهتف باسم واحد ..

فرح ..





وعندما تعب من العزف .. ذهب إلى أوراقه وأخذ يبحث .. عن ماذا ؟عن خاطرته تلك .. أهرب منك ..

ولما لم يجدها .. اتصل على الخادمة .. ولما أتت .. قال لها : كانت هنالك ورقة هنا قبل أكثر من ..

فجأة قطع كلامه وابتسم لها وقال : لا يهم .. لا بد أنك قد رميتها ..

ثم قال لها : اذهبي .. سأبحث عنها بنفسي ..

استغربت الخادمة التي كانت تتوقع توبيخاً وقسوة في الكلمات كالعادة ..فلأول مرة يخاطبها قصي ببعض اللين ..



جلس على طاولته .. وهو يحس بقلبه ينبض في جنون ..وفجأة أخذ يضحك .. لقد جن يومها قصي كما لم يفعل في حياته .. ونام ليلة .. ما نام مثلها من زمن .. بعد أن اعترف بنفسه أخيراً ..



أحبك .. والله أحبك يا فرح ..





في اليوم التالي .. ذهب إلى والدته .. وجلس معها ليفطر .. وكان قصي أحيانا يفطر مع والدته وأحيانا مع والده .. وليس كثيراً .. فقالت له والدته : ما شاء الله أحس بك وجهك مشرقاً ..

قال لها : هذه عيناك المضيئتان ..

فقالت : الله .. الله .. لأول مرة تقول مثل هذا الكلام ..

وجلسوا يتكلمون ..

فقالت أم قصي :

فقالت له : أتعلم .. بنت خالتك فرح .. ما شاء فتاة الله قمة في الأخلاق .. إنها ما شاء الله تحفظ 5 أجزاء من القرآن .. ولها أدب جم .. والكل يحبها .. كان كل أخوالك سعيدون بدخولها الصيدلة ..



لم تكن والدته تقصد إثارة موضوع .. وإنما لاحظت البارحة كيف كان قصي يتكلم مع فرح .. ولأن ولدها هذا غريب .. كانت تتوقع منه أي شيء .. فليس من المفترض أن يكون كلامه معها دليل على الإعجاب .. ولذلك كانت تجس النبض ..

ولكنها لم تكن تدري أن قصي قد أحبها حقاً .. وأنه أخيراً اعترف لنفسه بهذا الأمر ..



ولكنه ضحك في نفسه وعادت له سخريته ..

فقال لها : هكذا هو أخوالي .. دائماً يكرهونني .. لم لم يكن هذا شعورهم عندما دخلت أنا كلية الصيدلة ؟

في الحقيقة إن قصي لم يكن يفرق معه أصلاً أخواله بأي حال .. ولكنه قال هذه الكلمات فقط كي يجعل أمه تتوقف عن التحدث بتلك الطريقة المتذاكية ويدخل معها في موضوع آخر ..

وبالفعل .. أخذت أمه تدافع عن أخواله ..

أما هو فأخذ يضحك .. بعد أن نجحت خطته ..

ولكنه كان مسروراً جداً من حديث أمه عن فرح ..



شاب فقط مثل قصي .. يدرك كم هو مذهل بحق .. أن تجد فتاة في حاضرنا هذا بهذه الصفات .. بهذا التدين المفرح .. لتدرك أنها على الأقل من الممكن أن تحافظ على بيتها ..

لقد عرف عنها الكثير من الأشياء .. إنها فتاة لا تخرج كثيراً من المنزل .. لأنها تكره الخروج بلا طائل أو فائدة .. شاب مثل قصي يدرك كم تجني هذه الأنثى من حشمتها .. يدرك أن أحداً لم يقاومه مثلما قاومته هذه الفتاة ..

لأنه كان واضحاً من أنها معجبة به .. فلغتها هي أبسط لغة في عالم الحب .. اسم لغتها الخجل .. الذي يصونه العفاف كي لا يخدش الحياء .. صحيح .. أنه لم يعبث معها ولم يحاول .. إلا أنه لم يرضى أبداً .. أن يضع على هذه اللوحة الجميلة أي رتوش .. إن فرح من النوع الذي يستحق أن تضعه في حاوية زجاجية لتتأمل فيها اليوم بأكمله ..

خبير مثله فقط بعرف أن وجود فتاة مثل هذه كنز حقيقي لا يفرط فيه أبداً ..





إنه ما زال الخبير .. مازال قصي .. صحيح أنه أحب فرح .. ولكن هذا لم يقلل من خبرته .. ولا من ذكائه أبداً ..

ولكنه أخيراً قرر .. قرر القرار الأخير .. قرار الاعتزال الحقيقي لأي خبير .. وحتى يكون صريحاً مع نفسه .. لم يكن فرح هو السبب الحقيقي .. صحيح أنه أحب هذه الفتاة .. ولكن ليس بجنون .. أحبهاً .. ولكن ما حدث في السابق .. وما فكر فيه .. كانا أسباباً أكبر .. ولذلك قرر قرراً أكبر.. حتى يؤكد على قراره هذا .. وحتى لا يتراجع فيه أبداً .. وحتى يغير من حياته وإلى الأبد .. بدلاً من سيره نحو الجحيم بيديه .. لماضي عذب حاضره وربما سيعذب مستقبله إن لم يتوقف عنه ..



ترى مالذي قرره قصي ؟

وما الذي ينتوي أن يفعله مع فرح ؟

وهل سيتمكن الخبير من الاعتزال ؟

هل سينسى ماضيه بهذه السهولة ؟

وما الذي تخبأه الأيام لقصي .. وما الذي تخبأه الأقدار لفرح؟
^_^ تومي!
^_^ تومي!
الجزء الأخير

الفصل الثاني







ها هو قصي .. يجلس في غرفته وحيداً كعادته .. تناثرت على جنبات المكتب تلك الكتب الدراسية العقيمة .. التي ما تنتهي من مذاكرتها إلا بعد أن تكون قد نسيت لأولها .. ولكن قصي لم يكن يذاكر .. لقد كان بفكر .. فيمن ؟

في فرح .. الفتاة الرقيقة التي جلس يفكر فيها دون أن يعي ما يفعل ..

لأول مرة يجد فتاة لا يستطيع أن يبعد فكره عنها ..

لأول مرة يجد أول ما تعانق شفاهه في الصباح عند استيقاظه من النوم اسمها .. بدون تفكير .. فإنه صار ما ينظر في مكان إلا ويجدها فيه ..

.

شيء غريب !

قصي الخبير .. الذي لانت له شوكة كل فتاة قابلها .. تأتي فتاة وتفعل به كل هذا .. ترى أتكون نزوة .. ومجرد شعور بحب الامتلاك .. ثم تنتهي مثل سابقاتها .. هل تكون قصة جديدة .. لنهاية .. يتناثر على أطرافها الدم كما هي العادة ؟ أم أنها بداية لأمر آخر ..

وعندما وصل قصي إلى هذه الأفكار .. ابتسم ابتسامة ممزوجة بالحزن .. ولكن إحساساً بارداً منعشاً صار ينبعث من صدره ..



وراح على البيانو .. وراح يعزف مجدداً .. وأحس مجدداً .. أنه والبيانو كائن واحد .. وكأن لسانه صار تلك الألحان التي يعزفها قصي .. إنه يلحن بصوت القلب ما في النفس من أشجان ..



إذ إن الفكرة الأخيرة .. صارت تحتل مساحة كبيرة من عقله .. ترى .. أتكون فرح .. مجرد نزوة! هل لأنها فقط محترمة .. أحس باختلافها .. عن كل اللواتي قابلهن .. هل لأنها مستعففة .. يحس برغبة كبيرة في الحديث معها ..
وعندما وصل التفكير به إلى هذه النقطة .. هوى بقوة على البيانو .. وكأنه يقول : لا ..

نهض من فوق البيانو في ضيق .. وراحت برودة الغرفة تدخل في أطرافه .. ولكنه كان يقول لنفسه : إنها ابنة خالتي .. وأنا لن أؤذيها .. حتى لو كانت مثل ...

وهنا أغمض عينيه .. وعض على أسنانه في حقد دفين ..

توجه مباشرة إلى غرفته .. وفتح الدولاب .. فأضاء ذلك المصباح الصغير داخل الدولاب .. أخرج تي شيرت أخضر اللون .. وارتدى معه جينز سماوي .. واستقل سيارته .. وخرج ..

سار بين الشوارع .. وهو يحس بالضيق .. حتى وصل إلى شارع التحلية : نعم لا بد من ضحية .. لا بد أن يفجر غضبه .. لا بد أن ....

ولقطتها عيناه .. فتاة يانعة .. كانت تركب في كاديلاك في المقعد الخلفي .. ويقود السيارة سائق آسيوي الجنسية .. وراح قصي يقول في نفسه : نعم هذه هي ..

لحق بها .. وعندما وصل إلى الإشارة .. توقف بجوارها .. راح ينظر لها .. وكانت تنظر إليه .. كانت فتاة جميلة .. قد كشفت على وجهها البرونزي الأخاذ .. وكانت تضع المساحيق بمهارة وأناقة .. ومن جانب الطرحة التي تعبر في حد ذاتها فتنة أخرى بعض الشعيرات التي كانت تظاهر إنها تضعها في داخل الطرحة ..

هنا أشار لها قصي أن تفتح النافذة .. وفعلا فتحت النافذة .. وكانت تتظاهر أنها تسأل عما يريده منها قصي .. تردد قصي قليلاً .. ولكنه جمع أنفاسه وقال : هل من الممكن أن أقول لك شيئاً ؟

فقالت الفتاة بتساؤل حقيقي : ماذا؟

فقال : أليس من العيب .. أن تخرج فتاة في مثل سنك .. مع سائق .. وتجوب الشوارع .. ووجهها سافر ؟

عيب عليك .. الله يهديك بس !



فتحت الإشارة .. فأقفل قصي النافذة .. ومشى وترك الفتاة وهي مذهولة .. ثم .. انفجر من الضحك .. راح يضحك .. ويضحك حتى دمعت عيناه .. لم فعل ذلك ؟ لا يدري .. ولكنه في اللحظة الأخيرة .. تراجع ..

ولكن عيناه لمعت في حزن .. إذن .. لم توقفه فرح عن الترقيم .. إنه يستطيع أن يفعل ذلك .. ولكنه لا يريد .. صحيح أن فرح كانت حافزا .. ولكن أيضاً بسبب علاقته بروان .. وبياسمين .. والحادث الأخير .. وبسبب التعب الذي مر به في الأيام الأخيرة .. ربما كل هذه العوامل مجتمعة .. كانت السبب ..



رجع إلى المنزل .. ونزع ثيابه .. وجلس قليلاً .. ثم أصدر جواله تلك النغمة المميزة للرسائل .. فتح قصي الجوال .. فكانت رسالة من فرح :

السلام عليكم .. عفواً للإزعاج ..

كنت فقط أسأل عن أوراق الـ genetics ..

فأنا لم أجدها بين الأوراق التي ابتعتها من مكتبة الأندلس ..

وشكراً ..



لا يدري لم أحس قصي بسعادة .. بذات الإحساس المنعش البارد .. الذي يدخل قلبه دون استئذان .. كان يقرأ حروف فرح .. ولم يكن يريد أن يفارقها ..

وراح يكتب لها رسالة :

أهلاً يا فرح .. كيف حالك؟ وكيف هي أخبارك ؟

أتمنى أن تكون الجامعة بخير ..

لدي أنا ملخص موجود من السنوات السابقة .. أستطيع أن أرسله لك إن شئت ..

وإن كان لديك أي ملخص ناقص .. سأكون ممتناً بإعطائك إياه ..



وكاد أن يرسل .. ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة .. أحس أن كلماته لا تناسب فرح .. لا تناسب هذه البريئة .. فغير هذه الرسالة .. حتى تكون أكثر أدباً وقال :

وعليكم السلام ..

لا عليك .. سوف أجعل السائق يوصل لك الأوراق

احترامي



ابتسم عندما كتب هذه الرسالة .. أحس .. أنه إنسان جيد .. أحس بأنه احتفظ بمبادئه .. ولكن هل لأنه معجب بفرح .. أم فقط لأنها قريبة .. ولأنه لا يريد أن بؤذيها ..



وعلى هذا الحال .. استمر قصي في علاقته بفرح .. بين تضارب الأفكار .. بين الحيرة البادية في نفسه .. وفي روحه .. إنه يحس نحوها بشيء من العاطفة .. ولكنها ليست تلك العاطفة القوية .. ليس ذلك الشعور الأخاذ .. إنه يحس بأنه المتحكم المسيطر على عواطفه .. ولكنها ما إن تمر بنسماتها عليه .. كان يحس يريد أن يتلذذ بنعيم القرب منها ..



وبعد فترة .. كان قصي يجلس في بارنيز كافيه على شارع التحلية .. ويحتسي قهوته التركية باستمتاع .. فلقد أقلع عن الذهاب لستاربكس .. لا لشيء .. إلا أنه تأكد من أن هذه الشركة تخصص عائداً مالياً إلى اليهود .. إن الأمر ليس كما يقول البعض : وهل بإيقافك لشراء ما ينتجونه فائدة ؟! ولكن الأمر أنه أقل ما نستطيع أن نفعله ضد هؤلاء المغضوب عليهم ..



وكان يفكر في علاقته بفرح أيضاً .. إن هذا الموضوع ظل يشغل باله .. لمدة تقارب الشهر حتى الآن .. وهم الآن على بواكير شهر رمضان .. كان يحدث نفسه ويقول : أنا متأكد من أنه مجرد إحساس سوف يزول قريباً .. تلك هي العادة .. عندما نرى شيئاً جميلاً .. ولا نستطيع الوصول إليه وبينما هو كذلك .. جاءته رسالة .. وكانت هذه المرة أيضاً من فرح :

أنا آسفة على الإزعاج .. ولكن لدي اختبار غداً بايولوجي ..

وما زال أمامي الكثير .. كنت أسأل إن كانت هناك أسئلة مكررة ..

أو حتى فصول مهمة لأركز عليها ..

وشكراً ..



وهنا بدون أن يفكر قصي .. وضع الكوب الورقي على الطاولة الزجاجية .. واتصل على فرح .. وراح الجوال يصدر تلك النغمة المتقطعة الرتيبة .. انتظر قصي كثيراً .. وفي النهاية .. ردت فرح .. ولكنها لم تتكلم بكلمة .. فقال لها قصي : السلام عليكم ..

مرت لحظة صمت قالت بعدها فرح بخفوت : وعليكم السلام ..

أحس قصي .. أن فرح لن تتكلم .. وأحس كم هي محرجة .. وبريئة .. فقال :

هناك أوراق طبعاً من السنوات الماضية .. هناك بعض الأسئلة المهمة .. common assays ..

فقالت فرح : لا الاختبار فقط اختيار متعدد MCQs ..

فقال قصي .. وهو يبتسم .. لا يدري لم ولكنه مؤكد لإحساس ناعم وحنون : لا بأس .. سوف آتي لك بها الآن إن شاء الله ..

وهنا سمع فرح تقول بسرعة : لا .. لا .. سوف أطلب من محمد أن يأتي ليأخذها منك ..

ولكن قصي الذي زادت ابتسامته : كلها ربع ساعة وسوف تكون الأوراق عندك ..

صمتت فرح قليلاً ثم قالت : لا نريد أن نتعبك ..

نهض قصي من مكانه فأصدر الكرسي أزيزه .. وسحب مفتاح سيارته وهو يقول : لا عليك يا فرح ..

وكأن قصي قد أحس بأنفاس فرح تزداد .. ثم قالت : جزاك الله خيراً ..

كان قصي يحس بالملائكية .. بطهارة هذه الفتاة .. لا يدري لماذا .. كلما أحس أنه يستطيع أن يستمر في حياته بدونها .. ومن أنها لا تمثل أي شيء بالنسبة له .. وبأنها مجرد فتاة كأي فتاة في العالم .. تأتي هي لتغير هذا المعتقد في لحظات .. في ثواني فقط ..

كانت كل هذه الأفكار .. تمر في بال قصي .. وهو يتوجه إلى بيته .. ويخرج تلك الأوراق التي عاف عليها الزمن .. ثم توجه إلى بيت خالته .. كان يحس بشيء جديد عليه .. لا يدري ما هو .. ربما لأن ما يقوم به .. يقوم به في النور .. وفي العلن .. ولا يخشى أن يعرفه أحد .. بل إنه سيوصل لها هذه الأوراق .. وإلى بيتها وأمام أهلها ..

وصل إلى العمارة التي كانت فيها عائلة زوج خالته أيمن العسل .. وعندما دخل إلى العمارة .. كانت رائحة تجعلك تحس بأنك في مكان وسيع وبراحة .. صعد إلى الدور الثاني .. وضغط على الجرس .. ووقف ينتظر أمام ذلك الباب الخشبي الكبير ذو المقابض المذهبة .. وبعد قليل .. فتح الباب زوج خالته أيمن .. كان يرتدي فوق رأسه تلك الطاقية المخرمة .. كان ممتليء الجسم .. يرتدي نظارة طبية فضية اللون .. ولديه لحية قصيرة جداً تملأ عارضيه .. ثم قال له بابتسامة : تفضل يا ولدي ..

ولكن قصي مد يده بالأوراق وقال : شكراً يا عمي .. لا داعي لذلك ..

ولكن السيد أيمن .. أخذ بيده وهو يتحدث في أمر لا جدال فيه : تفضل .. لا بد أن تشرب لدينا الشاي .. هذه أول مرة تأتي فيها إلينا .. أهلا وسهلاً ..

دخل قصي رغماً عنه .. ولكنه عندما دخل .. أحس بإحساس غريب .. أحس بجو دافئ .. لم يجده ولا مرة في منزله .. أحس بحميمية غير عادية .. وبراحة كبيرة ..

دخل الصالون صحيح أنه ليس بضخامة صالون فيلا قصي .. ولكنه يعتبر وسيعاً عندما نقارنه بشقة .. كان الأثاث الأحمر القاني يزين المكان .. والإضاءة .. كانت لها لمسة خاصة .. تعطي إيحاءً بالفخامة تناسقت مع الجدران التي كانت بنفس اللون .. وكانت المخدات الصغيرة الذهبية تزين الكنبات العريضة ..

جلس قصي .. وهو يحس بحنين عجيب .. وبعد قليل .. جاءه أبو فرح .. ومعه الشاي .. وراحا يتبادلا الحديث .. كان أبو فرح رجلاً بسيطاً .. خفيف الظل حلو المعشر .. يتبادل الأحاديث في ودية وفي أريحية ..

أحس قصي أنه لا يريد أن يغادر هذا البيت .. أحس فيه براحة كبيرة .. أحس أنه المكان الدافئ الذي كان يبحث عنه .. أحس أنه يريد أن ينام هنا .. وأن يرتاح .. وأن يلقي بماضيه .. وللحظة راح يفكر .. أهذا المكان هو الذي تسكن فيه فرح ؟ لا بد أنها جلست أكثر من مرة على هذه المقاعد .. وابتسم لحظتها ..

وبعد دقائق كانت خالته أم فرح قد جاءت ومعها قطع مثلثة من الكيك اللذيذ .. وجلست قليلاً .. وأحس قصي أنه قد قضى ساعة بسرعة خيالية .. فشكر الأستاذ أيمن وخالته .. ثم خرج ..

وعندما وصل سيارته .. جلس قليلاً في المقعد وعلى شفتيه ابتسامة .. أغمض عينيه قليلاً .. ولكنه تحرك بعد دقائق ..



وصل إلى المنزل .. كانت الساعة الثانية عشرة مساءً .. جلس على مكتبه .. وراحت أصابعه تحرك قلم الرصاص الذي يحبه كثيراً بين أصابعه .. وراح يكتب ..





أهرب منك

أهرب منك .. أهرب من تقاسيم وجهك الجميلة ..

التي نقشت في قزحية عيني ..

أهرب من تقاطيع وجهك الذي طبع على جفناي من الداخل ..

أهرب من جنوني .. كلما انطبقت هذه الصورتان ..

عندما أغمض عيناي .. لتفتح بوابة الأحلام السرمدية ..

وكأنها رموز وأسرار .. لا تظهر إلا في عالم الخيال المبهر ..

أهرب منك .. رغم أن كل وجه فاتنة ما هو إلا لوحة مقتبسة منك ..

أهرب منك بكل وسيلة معروفة وغير معروفة ..

أقحمت نفسي في كتاباتي كي أهرب منك .. فوجدتني أكتب فيك ..

وأجبرت نفسي أن أنام ..

فزارتني أطيافك في أحلامك ..

أشغلت كل وقتي في كل شيء ..

فتركت كل شيء في منتصفه .. وضاع وقتي في تأملاتي ..

هذا كله .. لأني أوقن أني بأنني لو جعلتك تصلين إلي ..

ولو لدقائق .. فإني سأحترق ..

وأن التنهيدات ستبحر إلى محيط ليس له من شاطئ ..

أهرب منك لأني أفهم أني إن مسست فكري فقط ..

سينطلق الفؤاد من قفصه الفولاذي .. وستتمرد المشاعر على سلاطين العقل والرزانة ..

أهرب منك .. كي أهيش .. أهرب منك .. ومن كل حلو فيك ..

كي لا أموت ..

أهرب منك رغم أني أبحث عنك ..





ولا بد أن أوضح أن التعقيد في شخصية هذا الإنسان .. قد طغى عليه حتى وصل إلى كتاباته .. إن المقطع الذي يتحدث فيه عن العيون .. والصورة التي طبعت من الداخل .. أستطيع أن أفسره في كلمات بسيطة ..

فوجه فرح قد نقش في جفنه .. في الجهة المقابل للعين .. ولكن هناك صورة أخرى طبعت في عينه هو ..

فمتى تلتقي الصورتان ؟

عندما يغمض عينيه .. أي كلما أغمضاهما كي ينام أو ليفكر ..



وهنا توقف قصي .. وأخذ ينظر بتأمل فيما كتبه .. ويتساءل حقاً حول ما كتبه إن كان حقيقياً .. إن كان هذا ما في قلبه .. أن هذا مجرد إحساس بالسعادة .. بالدفيء والحنان ..



هل الكلام صادق أم مجرد كلام يكتبه ؟

فقصي .. يكتب كثيراً فقط من أجل إشباع نرجسيته المفرطة .. وكثيراً ما يضخم مشاعره .. ويزيد في إحساسه إلى الحد الذي يجعله يكتب خواطراً غاية في الجمال ..

ولكن الحقيقة التي يدركها .. أنه هذه المرة لم يبذل الكثير من الجهد .. كانت الكلمات ترتسم بكل أناقة .. بخطه الجميل الرائع .. ودون أي تكلف ..



ولكن الغريب اليوم بحق .. أن هذه الخاطرة كانت سعيدة .. تطير الكلمات في حب .. على عكس كل خواطره السابقة التي امتلأت بآلام بلا حصر .. بل إن كل خاطرة له في السابق كانت قمة في الكآبة المفرطة ..

وفي النهاية .. أخذ الورقة وطواها .. ورمى بها على الأرض في إهمال .. وذهب إلى سريره لينام .. وكأنما بذلك يثبت لنفسه .. أنه لم يحبها بعد ..









إنه العيد .. عيد الفطر .. بعد شهر رمضان الذي انقضى .. فمن الناس من تزود بالعبادة .. ومنهم من تزود بالمعاصي .. بل بعضهم تفنن في ألوان المعاصي في شهر رمضان ..

وأتى العيد ليغير بعض المقاييس في منظور الناس .. وليجعل بعض من تزود بالعبادة .. ينسى كل ما حصل في هذا الشهر .. ويعود الكتان كما كان ..



قصي .. في حالة تفكير متقطع .. إنه يفكر ولكن ليس بجنون مطبق .. إنه ليس ذلك النوع من الناس الذي يغرق في بحور الحب ويتيه فيه عادة ..

انتهى ترمه الأول .. ونجح كعادته .. بتقدير جيد مرتفع ..



أما فرح فكانت تكلمه من فترة لأخرى .. تسأله عن بعض الأشياء .. لم يكن هناك من اتصال إلا بسبب حقيقي .. وفي كل مرة كان يشعر بأنها قريبة منه .. وبان سعادة كبيرة يحس بها عندما يقترب منها ..



أما قصي ..

أرسل لها بعض الرسائل في رمضان .. ولكنها ما كانت ترد عليها أبداً ..

ما اتصل عليها إلا لمرات قلائل ليشرح لها عن أمر ما .. كانت فرح عندما تتكلم .. شديدة الخجل .. بالغة في الحياء .. وتعتذر أكثر من اللازم .. على إضاعة وقت قصي .. وتحرج من أن تسأله كثيراً ..

وفي كل مرة يزداد قصي تفكيراً بها .. ولكنه ما يلبث أن يعود لأفكاره السابقة .. فهو في أفكاره يتمرجح .. ويتقلب .. ولكن أمراً كان مؤكداً لديه .. أن القرب منها سعادة ..



وجاء العيد .. واجتمعت عائلة أم قصي وأخواله وخالاته ..

ولأول مرة مذ مدة طويلة يذهب قصي .. وجلس هناك .. بثوبه الأبيض النقي .. وبتقاسيم جسمه الرائعة .. وبذقنه الخفيفة .. ولأول مرة يطالع في العائلة بشيء من الألفة .. لأول مرة يجد نفسه يجامل ويتكلم ..

وكان هذا الاجتماع في هذا العيد .. محاولة للم الشتات المتفرق .. بعد أن جرت عدت اتصالات في العائلة .. لتنتهي هذه المشاكل وهذه القطيعة التي استمرت لسنوات ..

وفضلوا أن يكون الاجتماع في مكان كبير .. وبعيداً عن بيوتهم .. ولذلك كان الاجتماع في استراحة على نهاية الكورنيش ..

اسمها الأرض الخضراء ..

كانت استراحة كبيرة وواسعة للغاية .. وعلى اليسار ملحق من طابقين .. وبجواره المسبح ..

وبقية الاستراحة كانت مساحة خضراء ممتدة .. وعلى الركن الأخير ملعب صابوني صغير ..

كانت لطيفة لمثل هذا الاجتماع ..



وجاءت فرح .. وعرف قصي لم تشجّع أن يذهب إلى هذا الاجتماع .. بالتأكيد من أجل فرح ..

كان ينتظر حضورها بفارغ الصبر .. وكان يطالع في الأطفال من أبناء أخواله وخالاته اللذين راحوا يشعلون الطراطيع لتنفجر في السماء بمختلف الألوان والأشكال ..

وبعد ربع ساعة .. وصلت فرح وأهلها .. كان ينظر لها من بعيد .. دون أن تشعر .. كانت تلبس عبائتها الطويلة ذات الأطراف المزينة بقليل من الكروشيه .. وبقيتها كانت سوداء أنيقة تقفل من الجوانب .. لم تضع مكياجاً مثلها مثل بقية بنات العائلة .. لأن هذا الاجتماع يكون فيه العديد من شباب العائلة ورجالهم ..



وبعد قليل .. تحين الفرصة .. وذهب لها .. .

لأول مرة يجد نفسه بشيء من الحذر أن ترده فتاة .. كان دوماً لا يأبه .. ولكن فرح كانت إنسانة غير عادية .. على الأقل في نظر قصي ..



كانت فرح ترتشف عصيراً .. وهي تجلس بجوار المسبح .. تشاهد الأطفال الصغار وهم يسبحون .. إن فرح شخصية محبوبة جداً لدى الصغار .. وكانت تلعب معهم .. وترمي لهم بعض القطع النقدية وتتحداهم فيمن يجلبها أولاً ..



اقترب منها قصي وقال لها بابتسامته الجذابة: السلام عليكم ..

نظرت فيه فرح .. وارتبكت .. وأخذت تتأكد من حجابها .. على الرغم من أنه كان محكماً .. أما قصي فأخذ يتأملها بكل إعجاب .. ويقول في نفسه : كم أنت عذبة ..

قالت وعيناها على الأرض وعلى المسبح ..وهي تتحاشى النظر إليه : وعليكم السلام ..

فقال لها بدون أي تكلف :كيف حال دكتورتنا ؟

وصار خداها بلون الورد القاني وهي تطالع في جهة قصي .. دون أن تنظر إليه .. ثم قالت : بخير .. الحمد لله ..

فتابع قصي وهو يختلق الأحاديث : ما شاء الله .. لقد عرفت النتائج .. جيد جداً .. رائع فعلاً ..

فقالت بتساؤل حقيقي وهي لازالت تنظر إلى المسبح .. وتذوب عيناها الخجولة في اللامكان : أليس تقديراً سيئاً .. أقصد في الثانوية ..

هنا قاطعها قصي بضحكة خفيفة .. وقال لها بكل لطافة : يا فرح .. الكليات الصحية ليست كالثانوية ..

أحس قصي أن فرح قد ارتجف جسمها .. حين نطق باسمها .. وأحس بنبضاتها تتسارع .. ولكنه أحس بصفاءها الذي كان بلا حدود ..

لم تعقب فرح بأي كلمة ..



ولأول مرة مذ زمن طويل .. تبقى ابتسامة قصي بكل صدق على شفتيه .. كان سعيداً .. سعيداً إلى حد لا يوصف .. أحس بأنه يريد أن يطير .. أحس بنفسه بقدرة غير عادية .. أحس أن الحياة قد عادت إليه من جديد .. بل لأول مرة وجد نفسه قادراً على نسيان الماضي .. بكامل إرادته .. وأن تلك الرغبة الماسوشية في تعذيب النفس تتلاشي .. واستمتع كما لم يستمتع من قبل .. أحس أن الحياة حلوة .. يستحق المرء أن يعيش بين جنباتها .. كان يتكلم معها .. ولسانه يتحدث .. وعقله في مكان آخر بالتأكيد .. بل قلبه يحلق في جموح بعيد ..

وفي النهاية قال لها بكل ثقة وثبات :فرح .. إن احتجتِ إلي أي شيء .. فأتمنى أن تتصلي علي في أي وقت .. أنت ابنة خالتي .. ونحن في كلية واحدة .. من سيساعدك إن لم أساعدك أنا ..



وهنا تجرأت فرح أخيراً ونظرت إليه ..

وعندما التقت عينا قصي بها .. تاه في طفولة عينيها ..

بل إن قصي لم يشاهد مثل عينيها قط في حياته .. عينين هي الطيبة بحذافيرها .. هي الخجل والرقة معاً .. هي ابتسامات الدنيا .. بل هي الدنيا كلها ..

وكانت نظرتها له لأقل من ثواني .. أحس فيها قصي بكل هذه الأحاسيس ..

ثم أشاحت بوجهها بسرعة في خجل وقالت : بالتأكيد ..

فنهض قصي وتركتها مضى .. وعلى شفتيه ما زالت الابتسامة مزروعة ..



وعندما خرجوا .. رأى فرح وهي تخرج ..

وتعجب .. لقد كانت تلبس حجاباً كاملاً .. يغطي وجهها كله ..

لكنه عرفها من حذائها الأبيض البسيط ..



و عندما رجع إلى بيته .. دخل غرفته .. بكل سعادة .. وجلس على البيانو .. وجلس يعزف .. وأخذت المقاطع الحلوة تخرج من بين أصابعه .. وهو يعزف بكل نشوة .. يغمض عينيه .. وابتسامة كلها فرح .. عوضاً عن ابتسامته الساخرة .. وهو يعزف أروع الألحان الرومانسية .. وهو يهتف في داخله .. باسمها .. كان يهتف باسم واحد ..

فرح ..





وعندما تعب من العزف .. ذهب إلى أوراقه وأخذ يبحث .. عن ماذا ؟عن خاطرته تلك .. أهرب منك ..

ولما لم يجدها .. اتصل على الخادمة .. ولما أتت .. قال لها : كانت هنالك ورقة هنا قبل أكثر من ..

فجأة قطع كلامه وابتسم لها وقال : لا يهم .. لا بد أنك قد رميتها ..

ثم قال لها : اذهبي .. سأبحث عنها بنفسي ..

استغربت الخادمة التي كانت تتوقع توبيخاً وقسوة في الكلمات كالعادة ..فلأول مرة يخاطبها قصي ببعض اللين ..



جلس على طاولته .. وهو يحس بقلبه ينبض في جنون ..وفجأة أخذ يضحك .. لقد جن يومها قصي كما لم يفعل في حياته .. ونام ليلة .. ما نام مثلها من زمن .. بعد أن اعترف بنفسه أخيراً ..



أحبك .. والله أحبك يا فرح ..





في اليوم التالي .. ذهب إلى والدته .. وجلس معها ليفطر .. وكان قصي أحيانا يفطر مع والدته وأحيانا مع والده .. وليس كثيراً .. فقالت له والدته : ما شاء الله أحس بك وجهك مشرقاً ..

قال لها : هذه عيناك المضيئتان ..

فقالت : الله .. الله .. لأول مرة تقول مثل هذا الكلام ..

وجلسوا يتكلمون ..

فقالت أم قصي :

فقالت له : أتعلم .. بنت خالتك فرح .. ما شاء فتاة الله قمة في الأخلاق .. إنها ما شاء الله تحفظ 5 أجزاء من القرآن .. ولها أدب جم .. والكل يحبها .. كان كل أخوالك سعيدون بدخولها الصيدلة ..



لم تكن والدته تقصد إثارة موضوع .. وإنما لاحظت البارحة كيف كان قصي يتكلم مع فرح .. ولأن ولدها هذا غريب .. كانت تتوقع منه أي شيء .. فليس من المفترض أن يكون كلامه معها دليل على الإعجاب .. ولذلك كانت تجس النبض ..

ولكنها لم تكن تدري أن قصي قد أحبها حقاً .. وأنه أخيراً اعترف لنفسه بهذا الأمر ..



ولكنه ضحك في نفسه وعادت له سخريته ..

فقال لها : هكذا هو أخوالي .. دائماً يكرهونني .. لم لم يكن هذا شعورهم عندما دخلت أنا كلية الصيدلة ؟

في الحقيقة إن قصي لم يكن يفرق معه أصلاً أخواله بأي حال .. ولكنه قال هذه الكلمات فقط كي يجعل أمه تتوقف عن التحدث بتلك الطريقة المتذاكية ويدخل معها في موضوع آخر ..

وبالفعل .. أخذت أمه تدافع عن أخواله ..

أما هو فأخذ يضحك .. بعد أن نجحت خطته ..

ولكنه كان مسروراً جداً من حديث أمه عن فرح ..



شاب فقط مثل قصي .. يدرك كم هو مذهل بحق .. أن تجد فتاة في حاضرنا هذا بهذه الصفات .. بهذا التدين المفرح .. لتدرك أنها على الأقل من الممكن أن تحافظ على بيتها ..

لقد عرف عنها الكثير من الأشياء .. إنها فتاة لا تخرج كثيراً من المنزل .. لأنها تكره الخروج بلا طائل أو فائدة .. شاب مثل قصي يدرك كم تجني هذه الأنثى من حشمتها .. يدرك أن أحداً لم يقاومه مثلما قاومته هذه الفتاة ..

لأنه كان واضحاً من أنها معجبة به .. فلغتها هي أبسط لغة في عالم الحب .. اسم لغتها الخجل .. الذي يصونه العفاف كي لا يخدش الحياء .. صحيح .. أنه لم يعبث معها ولم يحاول .. إلا أنه لم يرضى أبداً .. أن يضع على هذه اللوحة الجميلة أي رتوش .. إن فرح من النوع الذي يستحق أن تضعه في حاوية زجاجية لتتأمل فيها اليوم بأكمله ..

خبير مثله فقط بعرف أن وجود فتاة مثل هذه كنز حقيقي لا يفرط فيه أبداً ..





إنه ما زال الخبير .. مازال قصي .. صحيح أنه أحب فرح .. ولكن هذا لم يقلل من خبرته .. ولا من ذكائه أبداً ..

ولكنه أخيراً قرر .. قرر القرار الأخير .. قرار الاعتزال الحقيقي لأي خبير .. وحتى يكون صريحاً مع نفسه .. لم يكن فرح هو السبب الحقيقي .. صحيح أنه أحب هذه الفتاة .. ولكن ليس بجنون .. أحبهاً .. ولكن ما حدث في السابق .. وما فكر فيه .. كانا أسباباً أكبر .. ولذلك قرر قرراً أكبر.. حتى يؤكد على قراره هذا .. وحتى لا يتراجع فيه أبداً .. وحتى يغير من حياته وإلى الأبد .. بدلاً من سيره نحو الجحيم بيديه .. لماضي عذب حاضره وربما سيعذب مستقبله إن لم يتوقف عنه ..



ترى مالذي قرره قصي ؟

وما الذي ينتوي أن يفعله مع فرح ؟

وهل سيتمكن الخبير من الاعتزال ؟

هل سينسى ماضيه بهذه السهولة ؟

وما الذي تخبأه الأيام لقصي .. وما الذي تخبأه الأقدار لفرح؟
^_^ تومي!
^_^ تومي!
الجزء الأخير

الفصل الرابع







إنه لا شعور أسوأ من أن تحس أن الضربة قد ارتدت إليك .. قاضية في القلب .. من أن تصاب بذات النصل .. من أن تحس أن الماضي .. وكل آثامك .. قد قررت أن تعود إليك بسرب من الجحيم ..

كان هذا هو الإحساس الذي يملأ تكوين قصي .. وهو يستمع إلى صوت الرجل .. ويتأمل في نبراته في تلك الكلمة البسيطة الصغيرة .. ويحس بالاهتزازات التي تصدرها حنجرته .. لحظة مضت عليه .. كأنها تاريخ طويل .. حكى فيه مشواره الذي سقطت فيه البنات واحدة تلو الأخرى ..



راحت أصابع قصي تزيد ضغطها على الجوال .. ولم يتكلم بأي حرف .. راح يستمع إلى الكلام .. عل الرجل يكون مخطئاً .. فقال الرجل : فرح ؟

وأحس قصي لحظتها بما يعتصر قلبه في منتهى الوحشية .. وكأنما يقضي على آخر آماله .. على أحلامه العظام .. وعلى الاسم الذي قرر أن يكون له الخلاص من عذابات الدنيا ووحشياتها .. ومن تأنيب الضمير .. ومن نهايات الدم الأزلية .. زاد ضغطه على الجوال .. حتى سمع صوت صريره .. ثم قال وعيناه اشتعلتا فصارتا لهيباً من الغضب : من أنت يا حيوان ؟

هنا .. أقفل الرجل الجوال ..

أما قصي فأمسك الجوال وصار يضغط عليه حتى سمع بعض القطع الصغيرة تتكسر فيه ..

وراح قلبه يخفق في شدة .. فرح .. معقول يا فرح ؟!

لم يا فرح ؟لم ؟ اخترتك من بين كل الناس .. اخترتك وأحببتك كما لم أحب في حياتي ..

لم يا فرح لم ؟

يبدو أن ذلك الصوت في عقلي .. كان حقيقياً .. يبدو أني كنت مخطئاًَ حين اخترتها .. كل البنات مثل بعض .. كلهن حقيرات .. فقط يحتجن إلى الأسلوب المناسب ..

ليتني ما أقدمت على الزواج منها .. ليتني بقيت طوال حياتي ذئباً وحيداً .. أعيش في عزلتي ..



كان غضبه بلا حدود .. وإحساسه بأن كل خلية فيه تحترق .. وبأن نيران الكون كلها قد امتلأت فيه .. وراحت مخاوفه السابقة .. وكل التردد الذي كان فيه يتحول إلى كيان عظيم .. ومارد شيطاني يسيل من شدقيه السم ..

وما هي إلا لحظات .. ودخلت فرح .. بشعرها القصير .. وابتسامتها الحلوة .. ونظارتها البسيطة .. ولكنها لما رأت قصياً قد احمر وجهه وراحت قطرات العرق تلمع على جبهته .. أحست بقلق .. وتوجهت إلى قصي وهي تقول : قصي .. ما الـ ...

ولكن قصي نظر فيها وينابيع من الحمم البركانية في عينيه ..

أحست فرح أن هناك أمراً جللاً .. توجهت إليه ورفعت يدها الرقيقة .. وكأنها تحمي نفسها بها .. ثم توجهت إليه وحاولت أن تتكلم .. ولكنها لم تعرف ما تقول ..

وعلى الرغم من عقل قصي .. كان يخبره بأن يصبر وبأن يتريث .. وبأن ينتظر ليمسك بها متلبسة بالجريمة ..

إلا أنه لم يصبر .. ولم يقدر أن يحتمل .. كان جرحه كبيراً .. لأنها المرة الثانية ..

حاول أن يحافظ على سكونه .. وعلى أعصابه .. حتى لا يهشمها في يديه مثل وردة جافة وقال : لم يا فرح ؟

لم انسلخت في هذا الطريق ؟

وقفت فرح لا تعرف ما ترد ولكنها قالت : قصي ماذا تقصد ؟

حدق فيها بعينين قاسيتين ثم قال : كيف تسمحين لنفسك بأن تفعلي مثل هذا ؟ كيف تتجرأين أن تفعلي مثل هذا ..

ثم راح يصرخ : لم مثلتي علي دور الحب .. وأنت تحبين غيري .. وأنت تريدين غيري ..

هنا صارت فرح تبكي وهي تقول : قصي والله لم أفعل شيئاً .. ماذا تقول ؟

كان قصي في ثورة من جنون .. لحظة يفقد فيها المرء نفسه .. لحظة يريد فيها أن يشتعل .. أن يتحول إلى كتلة من الغضب تحرق من حوله .. لم يستطع أن يحكم عقله أبداً .. فقال : كم رجلاً عرفتي قبلي .. قولي لي ..

راح صوت فرح يختنق بالدموع وهو يقول : والله يا قصي .. لم أتعرف على أحد قبلك .. والله العظيم ..

فأمسك الجوال .. ووضعه أمام وجهها وقال : من إذا هذا الذي اتصل ؟ من ..

ثم راح قصي يكح .. وراحت قطرات الدم تتناثر على الأرضية .. كانت هذه أول مرة تشاهد فرح قصي بهذه الحالة .. فلم تعرف ما تتصرف .. ولكنها أمسكت به وقالت : قصي ..

واستمر قصي في نوبة من الكحة وجلس على ركبتيه .. وراحت قطرات الدم تتناثر أكثر وأكثر .. وصارت فرح تمسك به وهي تبكي .. ولكنه نهض .. ودفعها عنه بقوة .. وأخيراً لم تحتمل فرح ..كان قصي يصرخ فيها .. انكفأت على الأرض وراحت تبكي .. لم تتحمل فتاة رقيقة مثلها كل هذه القسوة .. كل هذه القوة .. كل هذه الغلظة والغضب ..

أما قصي فقال : أنا المخطيء .. ولست أنت .. نعم أنا ..

ثم أمسك بالجوال .. وألقاه في الأرض فهشمه إلى قطع صغيرة .. وفتح الباب .. وخرج .. وفي الطريق قابل خالته .. فقالت : قصي ..

ولكنه كأن لم يرها .. تجاوزها .. وخرج من الباب .. وأقفله بقوة وراءه وخرج .. دخل سيارته .. وهو يلهث من التعب ..



وقاد سيارته .. وهو يحس بحزن عميق .. ملأ كل أركان جسمه .. لم يجد نفسه إلا في طريق المدينة .. كان يريد طريقاً طويلاً .. ليمشي فيه .. لا يهم مقدار الوقت .. ولكنه يريد أن يهرب .. من الماضي .. ومن الواقع الذي ظنه سينسيه الماضي ..

كان قد وصل إلى شبه قرار .. أن هذه الزيجة كانت مجرد غلطة .. كانت مجرد خطأ في حياته .. لقد تردد كثيراً في اختيارها .. ولكن يبدو أنه قد أخطأ .. حين أحبها .. وحين اختارها ..

لم تكن هذه المكالمة هي السبب في هذه الفكرة .. ولكنها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير .. وكانت اللحظة التي فصلت قصي عن فرح ..

للحظة .. أحس قصي بالراحة .. أنه تخلص أخيراً من أمر لا يدري إن كان صحيحاً أو لا ..

راح ينظر للطريق الطويل أمامه .. بشيء من الحزن الكبير .. من إحساس بالضياع .. وراحت موسيقى ياسر خليفة البحريني .. تسرقه من نفسه .. وتجعله في كوكب آخر ..

راح يتأمل أعمدة النور التي راحت تتابع في سرعة .. وإلى السيارات التي تمشيء ببطء مقارنة بسرعته ..



وبعد أكثر من ساعتين متواصلتين من المسير .. توقف قصي عند محطة ليملأ البنزين .. فتح جواله ليتصل على نزار .. وعندما نظر إلى الجوال .. وجد 56 مكالمة لم يرد عليها .. و 3 رسائل ..

نظر إلى المكالمات .. وجدها من جوال فرح .. وجوال والدتها .. ورقم منزلها ..

فتح الرسائل :

"فرح" 1 :

قصي والله ليس لي شأن بهذه المكالمات .. إنه شاب يتصل منذ فترة ..

والله إني لا أرد عليه .. ولا أعرفه .. قصي لم تحملني أنا الذنب



"فرح " 2 :

قصي .. أرجوك .. رد علي .. أكاد أموت من الخوف ..

قصي أرجوك .. إني أموت .. لن أستطيع أن أتحمل أكثر



"فرح" 3 :

قصي .. أرجوك سامحني والله ليس بيدي ..

سامحني أرجوك .. فقط كلمني .. حتى لو كرهتني .. فقط أريد أن أطمئن عليك ..

لن أزعجك يا قصي باتصالاتي .. إن أحسست أنك تريد أن تتصل فأنا أنتظرك ..

أرجوك لا تتركني هكذا ..



أمسك قصي رأسه .. وراح ينظر إلى الطريق الذي امتلأ بالكثبان الرملية .. وأحس أنه ضائع .. وأنه لا وجود له .. ولا كيان .. كم تمنى لو يسير في هذه الصحراء .. حتى ينقطع به الزاد والماء .. ليموت على أرضها .. عله يجد هناك الراحة الأبدية .. وينتهي أمامه كل شيء ..



إذا فرح كانت مظلومة .. ولكن إحساساً داخل قصي .. كان يشعره بتعاسة تفوق الحدود ..

شعور عامر بالوحدة .. فبعد الأيام التي قضاها في رحابها .. أحس أنه قد انتهى من هذا الأمر .. أحس انه إنسان يستحق أن يعيش .. آه يا فرح .. لم رأيتك ؟

لم قلبت حياتي وغيرتها .. وفعلت ما فعلت ..



ويبدو أن كلا من فرح وقصي لم يدركا .. أنه عندما يقع رقم بنت في يد شاب مثل سعود .. فإنه لن يتورع أبداً في نشره لأصدقاءه .. وكل معارفه .. حتى إن كانت البنت محترمة ..تلك هي سياسة الحقراء وتبادل الأرقام ..





استمر قصي في طريقه .. وبعد فترة من المسير .. وجد قصي نفسه في المدينة المنورة ..

وهناك .. سأل عن فندق الشيراتون .. وقاد السيارة .. إلى هناك .. وصل .. أخذ غرفة .. وصعد إليها ..

واستلقى على السرير .. ونام .. كان يريد ألا يفكر في شيء .. كان يريد فقط أن ينام دون أن يحس بشيء .. ولكنه قبل أن ينام .. اتصل على والدته وأخبرها أنه سيغيب لمدة يومين .. ولم يترك لها تفاصيلاً كعادته .. ولم يستمع لما قالته له .. ونام ..



وبقي قصي في المدينة لمدة ثلاثة أيام .. كان فيها في حالة من الكآبة .. من الإحساس بفقدان متعة الحياة ونشوتها .. كان يحس أن شعور الحب في قلبه كان مزيفاً .. وأنه توهم الحب .. كان يحس أنه غير بقادر على هذا العطاء .. كان يحس في نفسه بشيء من الخواء ..

وكان في كل يوم يستقبل من فرح وأمها أكثر من اتصال .. وفي النهاية .. استقبل بعض الاتصالات من أخوها .. ولكنه لم يرد .. حتى والدته لم يرد عليها ..



وفي العصر .. وكما اعتاد قصي .. نزل إلى مطعم الفندق الفرنسي .. وراح يطلب من القائمة .. وانتظر وصول الطعام وهو يكتب في نوتة صغيرة خاصة بالفندق ويرسم بعض الشخابيط .. وهناك لمحها .. فتاة قصيرة .. يظهر طرف شعرها الأشقر من تحت الطرحة .. عسلية العينين .. على وجهها بعض النمش الذي ظهر عادة من التشميس .. كانت تنظر فيه .. نظر لها قصي للحظة .. والتقت عيناهما .. ولكنه لم يهتم .. راح ينظر في الطاولة من جديد .. وما هي إلا لحظات إلا وكانت الفتاة تجلس في المقعد المواجه له .. كانت في غاية الجرأة .. فقالت : هل من الممكن أن أجلس هنا ؟

فقال قصي بنظرات باردة : ولم ؟

فقالت الفتاة بلكنة شامية قد تكون لأهل الأردن : هل تريد الصراحة .. أثرت فضولي بشكل غير عادي بطريقة جلوسك هنا .. وبقهوتك التركية التي كنت تطلبها وبما تكتب .. أنا سوزان عماد مديرة خدمة العملاء بالفندق .. عل أنت سعودي ؟

هنا انتبه قصي إلى العلامة الموجودة على صدرها والتي كان اسمها منقوشاً عليه بأحرف سوداء ..

ولكن قصي قال وهو يتجاهل سؤالها الأخير : أفضل الجلوس وحدي ..

أحست الفتاة أنها ضيفة غير مرغوب بها .. فقامت بهدوء وهي تقول : أعتذر إن كنت قد ضايقتك ..

فقال قصي لها دون اكتراث : لا عليك ..

فقالت قبل أن تمشي : لا بد أنها محظوظة ..

نظر فيها قصي وهو يستفهم .. فقالت بابتسامة وهي تشير إلى يد قصي : صاحبة الدبلة ..

نظر قصي إلى الدبلة .. وشرد .. وراح يتذكر .. أيام الملكة .. والأيام التي تلتها ..

راح يتذكر .. كم كانت السعادة تجعل من حياته طعماً ولا أحلى .. كم كانت حياته جنة في وجود فرح .. راحت الذكريات تنساب .. وهو يفكر في تعاسته في الأيام التي خلت .. في الأيام التي بقي فيها وحده ..

أدرك لم حتى لم يفكر حتى في أي فتاة .. بل إنه ما فكر أصلاً في جنس النساء من بعدها .. تذكر .. أن عينيه ما صارتا المساح الذي يجمع البنات ويصنفهن .. ليختار منهن الفتاة المناسبة ..

ترى هل هذا هو الحب ؟ ترى أهذا هو الشعور الحقيقي به ؟

ولوهلة راح يفكر فيما يمكن أن يصل لو افترق عن فرح .. ماذا ؟ ينفصل عن فرح ؟!

.. أحس قصي ببرودة في يديه .. لوهلة .. أحس بأنه لا يستطيع أن يعيش من دونها .. لوهلة .. أحس أنه لن يحيا إن لم تكن فرح في قاموس حياته .. وأدرك أن فرح هي قدره ..



كان قصي يحتاج إلى هذه الفرصة من التفكير .. بعيداً ووحيداً .. كان قصي بحاجة إلى التقرير وبشكل حاسم .. ما هي فرح في حياته .. كان قد شعر بشيء نحوها .. ولكنه لم يقرر تماماً أنه كان حباً خالصاً .. من أنه كان شعوراً حقيقياً .. كان في حيرة من أمره .. كانت الأفكار تأخذ به يمينا ويساراً .. ولكنه كان يحتاج إلى هذه الصدمة .. حتى يعرف قيمة فرح في حياته .. ويعرف ما يعنيه فقدها ..

وفجأة .. ودون مقدمات .. نهض قصي من مكانه .. حتى إنه ترك الطعام .. دون أن يتناول منه لقمة واحدة .. وذهب إلى الاستقبال .. وقام بإنهاء الإجراءات .. وبينما هو يخرج .. وجد تلك الفتاة : سوزان ..

ذهب إليها .. وكأنما عاد الخبير .. عاد كما كان .. وراحت ابتسامته الساخرة ترتسم على وجهه وهو يقول : شكراً لك .. لن أنسى لك هذا الجميل ..

نظرت فيه الفتاة بدهشة ..

ولكنه لم ينتظرها كان قد مشى ..

وفي الطريق .. كان يحس بأن الحياة قد عادت إليه من جديد .. بعد قراره الأخير .. نعم لقد قرر أن يعيش مع فرح .. لقد قرر أن تكون فرح هي جنته .. إنه يحبها .. وهذه حقيقة .. وليست مجرد وهم .. إنه يحبها .. ولن يفرط بها بأي شكل كان .. كان يفكر منذ زمن أنه يريد أن يتزوجها فقط .. لكي يتخلص من الماضي .. ولكنه اليوم يتزوجها حتى يبني المستقبل ..

وراحت ابتسامته تتسع .. وراح يرى الأفق صار كوناً أرحب ..



كانت الساعة التاسعة حين وصل قصي إلى منزل فرح .. صعد قصي إلى شقة فرح .. ولما كان هناك .. اتصل على جوال فرح .. وللحظات .. لم ترد فرح .. أحس قصي بالقلق .. أحس أنه ربما قد تسرع ..

ثم فتح الخط من الناحية الأخرى .. ولم يستمع سوى لصوت شهيق حاد .. تردد قصي قليلأً ثم قال : فرح ؟

كان من هناك صوت بكاء مكتوم .. ثم صارت فرح تبكي وهي تقول : قصي ؟ .. قصي ..

كانت فرح تبكي .. كان من الواضح أنها في حالة سيئة .. فقال قصي : اهدئي يا فرح ..

ولكن فرح راحت تقول : قصي .. لم أكن أقصد ..

فقاطعها قصي وقال : فرح أنا أمام باب بيتكم ..

وكأن فرح لم تصدق .. توقفت للحظات لا تتكلم .. ثم سمع قصي صوت سقوط شيء ما .. ثم فتح الباب .. كانت فرح هناك .. وقفت تحملق فيه .. بعينين أعياها الدمع .. وجسد أصابه شيء من النحول .. وشعرها التي لم تهتم هذه المرة بترتيبه .. نظرت في قصي لثواني .. ثم .. راحت وقفزت بين يديه .. وراحت تحتضنه وهي تبكي .. وهي تقول : الحمد لله ..

أحس قصي كم كان غبياً حين ترك فرح .. أحس أن قلبه لم يكن فيه ذرة من العاطفة حين فكر أن يبتعد عن فرح .. أحس بدفء عظيم .. يملأ كيانه .. أحس أنه يريد أن يبقى في أحضانها مدى حياته ..

وهنا لأول مرة منذ سنوات طويلة .. تلألأت على عيني قصي بعض الدموع .. وهو يحتضنها في حب ويقول لها من كل قلبه : بل سامحيني أنا يا فرح .. سامحيني .. سأعوض عليك كل شيء سامحيني ..



وبعدها بيوم تغير رقم فرح .. وقام قصي باتصالاته .. ليُفصل رقم ذلك الشاب من الخدمة نهائياً .. وبارك على هذا العمل بالتأكيد السيد ناظم ..





كانت هذه الحادثة بمثابة النقلة التاريخية في حياة قصي .. اللحظة التي قرر فيها على إنهاء حياة الخبير .. والبدء من جديد .. بحياة جديدة .. حياة قصي وفرح ..

قصي .. الذي كان أستاذاً في عالم البنات .. ماهراً إلى حد الإعجاز .. بارع براعةً منقطعة النظير .. فجاءت فرح تلك الملاك الصغير .. وحولت حياة قصي بكل فصولها وغيرتها إلى الأبد .. وجعلت حياته جنة سحرية .. توقع قصي أن يعيش فيها في يوم من الأيام ..



ولقصي حياة رومانسية .. تفجرت ينابيعها أنهاراً بعد ذلك اليوم .. عندما قرر أخيراً .. أن يترك عنان المشاعر لينطلق بلا هوادة ليكون بكل الحب .. بمنتهى الجموح .. وبلا توقف .. وكل هذا من أجل فرح ..



فرح .. تلك الأميرة الصغيرة .. التي مذ عقد عليها قصي كتب فيها .. عشرات الخواطر .. فرح .. التي حتى قصي استحى من أن يخاطبها قبل عقد القران كثيراً .. كان يحس أن كلماته .. لا يحق لها أن تلامس هالة النور في وجناتها .. كم هي تكوين لطيف .. لها في قلب قصي محبة تبلغ حدودها القصوى ..

فرح .. التي غرقت في الحب حتى أطراف شعرها .. وباتت الدنيا لها أكثر روعة وجمالاً .. وطارت بها سحب الدنيا إلى جنة من المشاعر .. وعرف كل من كان بجوارها أنها عاشقة .. إلى حد الهوس .. عاشقة بأسلوبها الرقيق .. ببراءتها المتناهية .. وطيبتها الآسرة ..



ولقد أعطاها ما لا تحلم به أنثى أبداً .. أعطاها حباً لا يعطى لامرأة أبداً .. بكل تهور .. بلا عقل أبداً .. واسمحوا لي أن أخبركم عن رومانسيته المفرطة .. التي ولأول مرة يقوم بها قصي بلا افتعال .. بل بصدق حقيقي ..



كيف كان يكلمها ؟ كان يتحدث معها بكل رقة .. بكل حنان .. يكلمها في التلفون .. لساعات طوال .. قد تبلغ أحيانا بدون مبالغة 6 ساعات في اليوم .. تبدأ بعد الساعة الواحدة .. وتنقطع في الرابعة والنصف صباحاً وقت الصلاة .. وتعود لتكتمل حتى السابعة أو الثامنة .. وهي كانت تتحدث معه وتنسى الدنيا كلها .. وأختها الصغيرة ريم .. تأتي كل قليل .. وتقول في ملل .. ألم تنتهي بعد من المكالمة ؟

كانت تستغرب كيف يقضي كلاهما كل هذا الوقت .. في كلام .. مجرد كلام .. ولم تكن تعرف ريم .. أي كلام حب كان بينهما .. لم تعرف ريم .. أنهما أحبا بعض بطريقة غير اعتيادية على الإطلاق .. لم تعرف أن الوقت في الحديث لا يكاد أحدهما يشعر به أصلاً ..

لقد تسرب قصي إلى حياة فرح كلها .. وأدخلته هي في كل صغيرة وكبيرة في حياتها .. حتى ذوقها في اختيار الألوان .. وشراء الملابس ..

وهو كان يقول لها من كلام الحب أروعه .. وأحلاه .. وأعذبه .. حتى أن فرح كان قلبها ينبض ما بين كل نبضة وأخرى ..







ذات يوم قالت له :قصي ..

فقال لها : أنا ليس اسمي قصي .. أنا اسمي .. حبيبي ..

فقالت له بغنج : لاااا .. لا أقدر أن أقولها لك ..

فقال : وأنا لن أرد عليك ..

وجلس يغني ..

وهي تضحك وتقول له : قصي .. قصي ..

ولكنه استمر في الغناء ..

صمتت قليلاً .. واحمرت وجنتاها وهي تقول : حبيبي ..

فرد عليها بسرعة وقال :

أنا هنا يا حبي ..

فابتسمت وأخذت تلعب بشعرها الناعم .. وقالت : لقد كتبت شيئاً .. هل أقدر أن أسمعك إياه ؟

أما هو فأحس أن الدنيا كلها له تتبسم .. وأن الحب قد ملأ أروقة قلبه كلها .. وقال لها بحماس حقيقي :يا الله .. جميل جداً .. أنا أنتظر هيا قولي ..

فقالت : حسناً .. ولكنه كلام بسيط .. ليس ككلامك أبداً ..

فقال لها : وهل أنطق إلا بما تغرق فيه أنفاسي ..

فقالت : لم أسمع في حياتي كلها كلاماً مثل كلامك ..

فرد عليها: وهل رأيت أنا أحداً في مثل بهاءك .. في روعتك أو حتى في نقاء سماءك ؟

فقالت له : هل ستقول في خاطرة مرة أخرى ..

فضحك وقال :لا .. فأنا أريد أن أسمعك أنت ..

قالت : لا تضحك إن كان كلامي بسيطاً ..

فقال لها : لن أضحك عليك أبداً يا عمري .. أيضحك الإنسان على قلبه ؟

أما فرح .. قد ذابت كلياً .. فلا أظن أنها يوماً كانت تحلم أن تسمع مثل هذا الكلام أبداً ..

فقالت : اسمع :





ساذجة أنا وبسيطة ..

لا أعرف كيف أكتب بطريقة منمقة إليك ..

أخط لك مشاعري بكل عفوية على صحف بيضاء ..

أملأها بالشخابيط تحاكي خط يدي السيئ ..

بسيطة أنا .. لا أعرف كيف أزين كلماتي بلمستك المذهبة ..

كل حروفي من قلبي ..

بلا تكلف أو مجاملات ..

أتعامل مع من أحب بكل طفولة ..

بسيطة أنا .. لا أعرف كيف أهدي الوردة في كيس وردي ناعم ..

بل أخبئها في صدري ..

وأعطيها إياك .. بكل عفوية ..

لا أعرف كيف أتكلم معك بأسلوب خرافي ..

يكل ما في قلبي على لساني ..



أما أنت ..

لم أسمع بمن جدل الكلمات مثلك أبداً ..

وأروع من تضيف عليها قطرات من عطر الحب ..

تقدم هديتك بكل سحر ..



ورغم كل ما في تحبي ..

لو أعطيتك عمري كله ..

فلن أعبر لك ..

عن مشاعري ..

لن أعبر لك عن حبي ..







وهنا وقف قصي في مكانه .. وقال لها : فرح .. سوف آتيك حالاً .. أريد أن أخرج معك

قالت فرح : أتتكلم حقاً ؟إنها الواحدة صباحاً !

قال لها : لا يهمني أبداً ..

قالت : لا بد أنك تمزح .. والدي سيقتلني ..

كان يعرف قصي أن الأستاذ أيمن العسل بالفعل شديد في هذه الأمور بحق .. ولا يحب التهاون خصوصاً فيما يخص بناته .. ولكن قصي لم يكن يهتم لشيء أبداً إلا فرح .. فرح وفقط ..

فقال لها : وأنا زوجك .. وأريد أن أخرج معك .. لا يهمك يا حياتي .. سأتدبر الأمر .. ومهما قال لك .. قول لي إنه قصي ..

قالت وهي تحس بحماسة غير طبيعية .. ولكن بخوف : لا يا قصي .. ستحصل مشكلة ..

قال لها : أتريدين مني بعد كل كلامك هذا .. أن أقف ساكناً في محلي .. لا بد أنك لا تعرفيني أبداً .. هيا تجهزي الآن .. دقائق وأكون تحت البيت ..

وأقفل السماعة ..

كان في حالة من النشوة الغير طبيعية .. إنه في حالة من السكر .. لقد ثمل من قارورة آدمية .. اسمها فرح ..

ارتدى حلة ولا أروع .. بنطال بيج فاتح أنيق جداً .. وحذاء أبيض في غاية الروعة .. وقميص أسود ملتصق بجسمه .. تبرز منه تقاسيم عضلاته ..

وبينما هو يخرج .. فتح دولاب الرسائل .. الذي به الخاتم .. ليأخذ الساعة .. وكأنما فاق قصي من لحظة سكر .. توقف برهة .. وهو ينظر إلى الخاتم .. وأحس بالذكريات .. تبدأ من جديد .. في عرض نفسها كفلم سينمائي .. ولكنه ولأول مرة قال بصوت عالي : لا .. يكفي .. سأعيش وأفرح .. وسأنسى كل الماضي ..



وخرج .. وهو لا يفكر .. كان سعيداً بهذه القوة الجديدة .. ثم انتقل بفكره إلى فرح ..كان يريد أن يعمل لها أمراً غير تقليدي .. ماذا يفعل؟

ثم بزغت في رأسه فكرة رائعة ..وصل إلى مركز الدانوب في شارع حراء .. واشترى بعض الأشياء ..

وبعد 10 دقائق من خروجه من الدانوب كان جوار البيت .. ونزلت فرح وهي خائفة .. بعد أن أخبرت ريم .. إن استيقظ والدها أو والدتها .. بأن تقول لهم بأنها خرجت مع قصي .. وعندما ركبت مع قصي .. أعطاها ابتسامته الجذابة .. وقال لها : أهلا يا حياتي ..

أما هي فلا زالت خائفة من أبيها .. ومتوترة وقالت : قصي .. والله سوف تحصل لنا مشكلة ..

فقال لها : لا عليك أبداً ..

قامت فرح لأول مرة بهذه المغامرة بذلك الجو من الخوف .. والمتعة في عمل ما هو ممنوع .. على الرغم من أنه ليس محرماً على الإطلاق .. وهذا ما كان يسعد قصي حقاً .. لأول مرة يفعل كل ما هو صحيح فقط .. وخرجا معاً .. وفرحة الدنيا لا تكاد تسعهما .. ووضعت يداها في يديه .. وأحست بالأمان والدفء .. إنها حتى نسيت أباها .. بل نسيت كل شيء .. ومشى قصي بالسيارة حتى وصل إلى البحر .. وهناك بعد ميدان التوحيد .. كانت الدنيا فارغة حقاً ..

قصي .. يحب أن يخرج في هذا الوقت .. لأنه لا يوجد الكثير من الناس .. تستطيع فرح أن تأخذ حريتها .. وتكشف وجهها إن أرادت .. ونزلت إلى تلك المنطقة المنخفضة جوار البحر .. وجلس معها .. ما كانت المفاجأة ؟

كانت حفلة شواء .. كان قصي قد أتى بمرجل .. واشترى الفحم .. ولحم الشواء .. وبعض العصيرات والسلطة الرائعة المذاق .. وخبز .. من الدانوب ..

أما فرح فلم تتمالك نفسها من الفرحة .. كان شيئاً مختلفاً في حياتها .. لم تعتد على فعله ..

فقالت لقصي : أنا سأطبخ لك ..

فقال لها : أبداً .. هذه الحفلة لك أنت ..

وجلسا يشويان .. وعيونهما فيها فرحة وسعادة وابتهاجقمة الرومانسية .. تكمن في الحياة الزوجية .. إذ ما كان الزوجان يحبان بعضهما ..

والحمد لله أن فرح رجعت إلى المنزل قبل استيقاظ والديها .. صلى قصي معها في منزلها صلاة الفجر .. ورجع .. إنها رومانسية الحياة الزوجية .. حتى في العبادة ..







وذات يوم .. جاء قصي إلى منزل فرح ..

وقالت له خالته أم فرح .. بأنها نائمة .. وسوف توقظها حالاً ..

ولكنه قال لها : هل تسمحين أن أوقظها أنا ..

تبسمت خالته وقالت: كما تحب ..

ودخل غرفتها .. وكان هناك حمام صغير لها .. ولم يشعر قصي يوما بنشوة كهذه المرة .. دخل الحمام .. ورأى معجون أسنانها .. وصندل الحمام على شكل أرنب لطيف وردي .. ومغسلتها تراصت عليه بعض الكريمات .. خرج من هناك ..ومكتبها الصغير عليه كتب الصيدلة التي يعرفها ..

ومصباح صغير .. ودولاب أبيض لامع .. ومرآة كبيرة .. وفي الطاولة الخاصة بها .. أدوات زينتها .. وحقيبة يدها ..

أما السرير فكان يتوسط جدار غرفتها .. وراحت ستائر بيضاء في تغطي زجاج النوافذ ..



أما هي .. فكانت ملكوتاً آخر .. كانت نائمة على السرير .. ووجد نفسه قصي لا يكاد ينطق من جمالها .. إنه لا شيء أجمل من أن ترى هذه الصغيرة .. فرح وهي نائمة .. إنه حتى لم يستطع أن يحول ناظريه عنها .. عيونها المغمضة .. شفاهها الوردية .. وجناتها الناعمة .. شعرها الكثيف .. وأحلى ما كان فيها يديها .. حتى أن قصي أخذ يفكر :

أي سحر في يديك يجعلنني أريد ألا أفارقها أبداً .. أي جمال فيها يجعلها مجسماً في قمة الفتنة .. فأخذ يديها .. وقبلها بكل الحب .. وهنا استيقظت فرح .. وكان أول ما طالعته .. هو قصي .. فتبسمت ..

وقالت بابتسامة ملائكية : قصي ؟

فقال لها : يا عيون قصي ..

قالت : منذ متى وأنت هنا ؟

قال لها : منذ ساعة ..

فطالعت فيه باستغراب وقالت :ولم لم توقظني ؟

قال لها : جلست أتأمل فيك ..

قالت له : تتأمل في شعري المنكوش ؟

قال لها : ما أحلاك وأنت نائمة ..

فقال له بدلع : قصي .. يكفي هذا الكلام .. من أين لك به ؟

قال لها: من وسط عينيك .. ورحيق شفتيك ..

فقالت له وهي تنهض: طيب .. دعني أغسل وجهي ..

فقال لها : دعيني أغسله لك ..

قالت له بخجل : قصي .. أنا أستحي ..

فقال لها : أنا سوف أريك الحياء ..

وأخذ المخدة .. وأخذ يرميها بها .. فقامت وهي تلقيها عليه .. وتجري من الغرفة .. إلى أن خرجت ..

وذهبت إلى المغسلة ..

فقال لها : يجب أن أغسل لك وجهك ..

فترددت قليلاً .. فقال لها : ألا تحبينني ؟

فقالت بحياء : بلى ..

قال : إذا دعيني أغسله ..

وأغمضت عينيها .. ووضعت يديها خلف ظهرها .. فبدت كما الأطفال الصغار .. وضع قصي الصابون في وجهها .. ثم أقفل الماء ..

فقالت : قصي ؟ هيا ..

فقال لها : ما أجملك وأنت هكذا ..

فقالت : هيا .. وجهي كله صابون .. وأنا أخاف أن أفتح عيني في الصابون ..

وكانت أم فرح قد جاءت .. وأخذت تتأملهم في سعادة ..

قال لها : أولاً قولي لي أحبك ..

فقالت في استحياء : ليس هذا وقته ..

قال لها : بلى .. قوليها أولاً ..

فقالت بابتسامة : والله أحبك ..

فغسل لها وجهها ..

وعندما فتحت عيناها .. رأت والدتها .. فذابت من الخجل .. إذ أنها لم تعتد أن تقول مثل هذا الكلام أمام والدتها .. أما قصي وأمها فأخذوا يضحكون عليها ..



في ذلك لك اليوم كتب قصي خاطرة رائعة بحق :



وأحبها ..

من أعماق قلبي أحبها ..

أحب فرشاة أسنانها ..

والزهرة التي توشي سريرها ..

والغرة التي يتفتق منها جبينها ..

كم أحب أن أقتني دفاترها .. أن أقرأ مذكراتها ..

أن أسرق كشكولها ..

لأقرأ .. لأرى حرفها .. وآثار أناملها ..

وأحس بغضبها على ورقة مسكينة ..

قد تهتك نسيجها ..

وفرحها .. في صفحة طارت منها كلمات الجذل روح أريجها ..

وحزنها في دمعة قلم .. احترقت لطباع الحبر أطرافها ..

وحبها .. في صفحة بلورية .. تضيع فيها عبارات الحب وروداً ..

تحيلها منشوراً .. يشع طيفاً عطراً لطهارة مشاعرها ..

أحبها من نخاع أضلعي أحبها ..

أحب مخدعها .. وحقيبة يدها .. وخماراً يغطي أبصارها ..









ألا ترون معي في كل هذا رومانسية ناعمة ؟ألا ترون كيف أن قصي قد أحبها بحق ؟وفرح التي ما عاد حياتها تعني لها شيئاً بدون قصي .. ما عاد الدنيا تهمها بقدر قصي .. لم تدري أي ماضي يحمله شاب مثله .. لم تدري أنه كان الخبير .. كان سيد المعاكسات الذكية .. كان قصي الحديدي ..







وفي يوم .. رن جوال قصي .. فأيقظه من النوم .. بعد أن سهر البارحة يكلم فرح .. رد وقال : ألو ..

وراح من بين الأصوات صوت مألوف لقصي وهو يتسائل : قصي ؟

قال لها : من ؟

ردت عليه الفتاة من الطرف الآخر .. بصوت كأنه فحيح الثعابين وقالت : أنسيتني يا قصي ؟نسيت سارة ..

وهنا اعتدل قصي .. وقام من نومه .. وأغمض عينيه .. أحس أنه يحلم .. ولكنه ما لبث في لحظات أن تمالك برودة أعصابه .. وقال : أهلا يا سارة .. كيف حالك ؟

قالت له بصوت حاقد : مبروك على عروستك ..

قال لها بكل قوة وثبات جأش : الله يبارك فيك ..

وهنا قالت الفتاة : سأجرعك الظلم يا قصي .. سأريك أن سارة تأخذ حقها بذراعها .. وأنها لا تنسى من يهينها .. انتظر .. فسأدمر لك حياتك .. كما خدعتني .. ولن يرحمك أحد مني أبداً ..



وأقفلت الخط ..

أما قصي .. فظل الجوال في أذنيه مدة طويلة .. أغمض عينيه .. وأقفل الجوال .. وقال : لا حول ولا قوة إلا بالله .. يبدو أن الماضي لا يريد أن ينساني ..



من هي سارة ؟

ولماذا تريد الانتقام ؟

وهل ستنجح فعلاً ؟

وكيف سيغير هذا مجرى حياة قصي ؟

وما السر الذي لم يتضح حتى الآن ؟

كل هذا سنعرفه في الجزء القادم