
الحديث الواحد والثلاثون
- عن أبي العبَّاسِ -سَهْلِ بنِ سَعْدٍ الساعديِّ- رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: (جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقالَ: يا رسولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللهُ وأَحبَّنِيَ النَّاسُ.
فَقَالَ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)). حديثٌ حَسَنٌ رواهُ ابنُ ماجَه وغيرُهُ بأسانيدَ حَسنةٍ.
الشرح
هذا الحديث فيه ذكرُ الزُّهد، الزُّهد في الدنيا، والزُّهد فيما في أيدي الناس وهو حديث أصل في بيان كيف يكون المرءُ محبوباً عند الله -جلّ وعلا- وعند الناس وهو أيضاً من أحاديث الوصايا؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب عن سؤال مضمونه طلبُ الوصيةقال سهلُ بن سعد -رضي الله عنه-: (جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس).
وهذا السؤال يدل على عُلوِّ الهمّة؛ لأنَّ محبّةَ الله -جلّ وعلا- غايةُ المطالب، ومحبةُ الناس للعبد معناها أداءُ حقوقهم.
والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدَّى حقَّ الله -جل وعلا- أحبه الله ومن أدَّى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان فإنه يثوب بمحبة الناس له.
وهذا الذي يجمعُ بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأنَّ الصالح هو الذي يقوم بحقِّ الله وحقِّ العباد، والصّلاحُ هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.
فهذا الحديث فيه ما يحصلُ به محبة الرّب -جل وعلا- للعبد فقال: (دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله) وهذا فيه تنبيه إلى أصل وهو أنَّ همّة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به يُحِبُّ اللهُ العبدَ، وليس أن تكون مصروفة لمحبته هو لله -جل وعلا- فالعباد كثيرون منهم من يُحبون الله -جل وعلا- بل كُلُّ مُتديِّنٍ بالباطل أو بالحق فإنه ما تدين إلا لمحبة الله -جل وعلا- وليس هذا هو الذي يميزُ الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله -جل وعلا- هو من الذي يُحبّهُ الله -جل وعلا-.
وقد قال بعض أئمة السّلف -رحمهم الله-: (لَيس الشأنُ أن تُحِبَّ ولكن الشأنَ كُل الشأنِ أن تُحَبَّ) ، يُريد أنَّ محبة العبد لربه -جل وعلا- هذه تحصلُ إمّا بموافقة مرادِ الله أو بمخالفةِ مُراد الله، فالنصارى يُحبون الله وعباد اليهود يُحبون الله وعُبّاد المِلل يُحبون الله وعبّاد جهلة المسلمين يُحبون الله ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله -جل وعلا- إلا إذا كانوا على ما يُحبه الله -جل وعلا- ويرضاه من الأقوال والأعمال، إذاً فحصل من ذلك أنَّ السَّعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب وهذا إنما يكون بالرَّغب في العلم ومعرفة ما يُحبُّهُ الله -جل وعلا- ويرضاهُ، فإذا عرفت بم يُحبُ اللهُ -جل وعلا- العبد حَصَل لكَ السَّعي في محابِّ الله -جل وعلا- وقد قال تعالى: {قُل إن كُنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكمُ الله ويغفر لكم ذُنوبكم} فصَرفَهم عن الدعوى إلى البرهان.
قال هنا: (دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله) وفي قوله: (دُلني على عمل) ما يُشعرُ أن الصحابي فَقِهَ أنّ محبة الله -جل وعلا- للعبد تكون بالعمل، وهذا خلافُ ما يدعيه بعضهم أنه يُكتفى بما يقوم في القلب وإن كانت الأعمال مخالفة لذلك، بل إنما يحصلُ حب الله -جل وعلا- للعبد بعمل قلبي وعمل بدني من العباد وقد قال -جل وعلا-: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله..} الآية.
فقال: ازهد في الدنيا يُحبَّك الله)
(يُحِبَّ) هذه مجزومة ولكن لأجل التقاء الساكنين صارت مفتوحة ولا تقرأها بالضم؛ لأنّ المعنى يتغير، كما تقول لم يُحبَّ فلان كذا؛ لأن الحرف إذا كان مشدداً فإنه إذا دخل عليه جازم يُصبحُ مفتوحاً لأجل التقاء الساكنين -كما هو معلوم في النحو- (ويحبك) مجزومٌ؛ جواب الطلب أو جواب الأمر.
قال: (ازهد في الدنيا يُحبك الله وازهد فيما عند الناس يُحبَّك الناس) الوصية جمعت الزُّهد.
والزُّهد في اللغة: هو الأمْرُ القليل الذي لا يُؤبَه له.
وكذلك زَهِد في الشيءِ يعني إذا جعلهُ شيئاً قليلاً لا يؤبهُ له، وسعر زهيد إذا كان قليلاً ليس مثلهُ ممَّا يُلتفتُ إليه وهكذا، فالزُّهد في الدنيا ألا تكون الدنيا في القلب.
واختلفت عبارات العُلماء كثيراً في تفسير الزُّهد، ففسَّرهُ طائفة بأنَّ الزُّهد هو: (أن تكون فيما في يدي الله -جل وعلا- وبعطاء الله أوثق ممّا في يدك) يعني أن يصح اليقين بأنَّ ما عند الله -جل وعلا- أوثق ممّا في يَديك، وهذا تفسير رُوي عن بعض الصحابة، ورُوي مرفوعاً -أيضاً- للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لكن الصحيح أنه عن بعض الصحابة، وهو عن أبي صُبيح الخولاني قال فيه: (إن الزهد: أن تكون فيما في يدي الله أوثق مما في يدك) وهذا يعني أن ما عند الله -جل وعلا- في الدنيا مما وعد به عباده وما عنده في الآخرة تكون الثقة به أعظم ممّا تمارسُهُ في الدنيا، وهذا ينشأ عن قلبٍ قد عَظُمَ يقينهُ بربه -جل وعلا-، وعظمَ يقينهُ وتصديقهُ بوعده ووعيده، وعظم توكلهُ على الله -جل وعلا-، وهذا حقيقة الزُّهد.
وأيضاً فُسِّر الزُّهد بأنَّهُ: (الإعراض عن الحرام والاكتفاء بالحلال) وهذه طريقةُ من قال: (إنَّ كلَّ مقتصد من عباد الله زاهد) يعني كل من ابتعد عن الحرام، وأقبل على الحلال واقتصر عليه؛ فإنه زاهد، وهذا عندهم زهْد في المحرم فيصح الوصف بأنه زاهد، إذا زهد في المحرم، وهذا نوع من الزهد، وليس هو الزُّهد في نصوص الشريعة.
ومنهم من فسر الزُّهد بعامة: بإن الزهد: (ترك الدنيا والإقبال على الآخرة) ترك الدنيا بفضول مباحاتها والإقبال على الآخرة والتعبد، فالزّاهد هو الذي ترك الدنيا وأقبل على الآخرة، وهذا أيضاً من التعاريف المعروفة لكنّهُ ليس بصحيح؛ لأنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم- هم سادة الزهاد ولم يتركوا الدنيا بل عملوا بما يحب الله -جل وعلا- ويرضاه وأخذوا نصيبهم من الدنيا كما قال -جل وعلا-: {وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} وأيضاً فُسِّر الزهد بتفسيرات كثيرة متعددة نصل إلى آخرها وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو أصح ما قيل في الزُّهد لصحة اجتماعه مع ما جاء في الأحاديث وكذلك ما دلت عليه الآيات وكذلك ما كان عليه حال الصحابة وحال السَّلف الصالح -رِضوانُ الله عليهم- قال: (الزُّهد: هو تركُ ما لا ينفعُ في الآخرة) فمن قام بقلبه الرَّغبُ في الآخرة، وأنهُ لا يعملُ العمل إلا إذا كان نافعاً له في الآخرة، وإذا لم يكن نافعاً له في الآخرة، فإنه يتركُه فهذا هو الزاهد، فعلى هذا يكون الزَّاهد غنيّاً، وعلى هذا يكون الزاهد مشتغلاً ببعض المباحات إذا كان اشتغاله بها ممَّا ينفعه في الآخرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (رَوِّحُوا عن القلوب ساعةً بعد ساعة) فمن استعان بشيء من اللهو المباح على قُوَّتِه في الحق فهذا لا يخرجُ عن وَصْفِ الزَّهادة لأنه لم يفعل ما لا ينفعه في الآخرة، وهذا حاصله أنَّ إقبالهُ على الآخرة فقط؛ فلا يتأثر بمدح الناس ولا يتأثر بذمهم ولا بثنائهم ولا بترك الثناء وإنما هو يعمل ما ينفعه في الآخرة، ويترك الاشتغال بكل المباحات؛ لأن الاشتغال بكل المباحات لا يستقيم مع ترك الرَّغبة في الدنيا.
وكل المباحات لا تنفع في الآخرة، وإنما الذي ينفع بعض المباحات، ولهذا ذهب قائل هذا القول -وهو الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله- إلى أن الاشتغال بفضول المباحات، والإكثار منها لا يجوز، يعني أنه كلما أقبل عليه مباح غشيه دون مُواربة.
واستدل على ذلك بقوله -جل وعلا-: {لا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزقُ رَبِّك خيرٌ وأَبقى} والاستدلال ظاهر، حَيث نُهي -عليه الصلاة والسلام- والنهي لأمته على وجه التبع أن يمدَّ المرءُ عينيه إلى ما مُتع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، ومن مدّ عينيه إلى ما مُتع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته الزهد في الدنيا؛ لأنه لابدَّ وأن يحصل في القلب نوعُ تعلق بالدنيا، وهو خلاف الزهادة.
فتحصل من ذلك أنّ الزهد ليس معناه الفقر وليس معناه ترك المال .
وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلقه بالآخرة، وتجانفه وابتعاده عن الدنيا من حيث التعلُّق فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده وليست في قلبه؛ فيخلص قصده ونيته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعاً له في الآخرة فإذا عامل مثلاً بالبيع والشراء فإنه يستعين به على الحق وعلى ما ينفعه في الآخرة.
وقد قال رجل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: (هل يكون الغني زاهداً؟ قال: نعم؛ إذا لم يَأْسَ على ما فاته من الدنيا ولم يفرح بما كَثُر عنده منها) قد يكون الرجل عنده مال وفير جداً ولكنه إن نقص ما تأثر، وإن زاد ما فرح به زيادته ونقصه واحد لإقباله على الآخرة، وإنما حصل هذا بيده فيستعمله فيما ينفعه في الآخرة، وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأمة فظنوا أن الزَّهادة: الإعراض عن المال والإعراض عما يحصلُ للمرء به نفع في الآخرة.
وسُئل الحسن أو غيره فقيل له: (من الزاهد؟ فقال: الزاهد هو الذي إذا رأى غيره ظنَّ أنَّهُ خيرٌ منه)وهذا من عظيم المعاني التي اخترعها الحسن رحمه الله حيث قال: إن الزاهد هو الذي يفضِّل غيره عليه إذا رأى أحداً من المسلمين ظنَّ أنه خير منه عند الله -جل وعلا-، وهذا يعني أنه غير متعلِّق بالدنيا مُزدرٍ نفسه في جنب الله -جل وعلا- غير مُترفعٍ على الخلق وهذا إنما يحصل لمن منّ الله عليه فَعمر قلبه بالرَّغب في الآخرة وبالبعد عن التعلق بالدنيا، والكلام على تعريف الزهد كثير.
إذا تقرر هذا فنرجعُ إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: (ازهد في الدنيا يُحبك الله) والزهد في الدنيا معناهُ أن تكون الدنيا قليلة حقيرة في قلبك فلا ترفعُ بها رأساً يعني أنه إذا تصرف لا يتصرف للدنيا، إذا فعل لا يفعل للدنيا وإنما يكون لله -جل وعلا-، فينقلب حامِدهُ وذامه من الناس سواءً، رضي عنه الناس أو لم يرضوا عنه فإنه يُعامِل ربَّه -جل وعلا- بما أمر الله -جل وعلا- به من التصرفات والأعمال.
(2) فإذاً: ((ازهد في الدنيا يُحبك الله)) يعني ليكن تعلُّقكَ بالآخرة، وأخرج الدنيا من قلبك أو قللها في قلبك؛ لأنَّ: (ازهد) معناه: قلل وإذا كان كذلك حصلت لك محبَّةُ الله، لأنه إذا اجتمع في القلب الرَّغبُ في الآخرة فإنهُ يكون معه الإقبال على الله -جل وعلا- والابتعاد عن دار الغرور.
قال: ((يُحبَّك الله)) وحبُّ الله -جل وعلا- صفة من صفاته التي يثبتها أهل السنة والجماعة له على الوجه الذي يليق بجلال الله -جل وعلا- وعظمته وقد جاء إثباتها في القرآن في آيات كثيرة وكذلك في السنة وهو -جل وعلا- يُحبُّ كما يليقُ بجلاله وعظمته يُحبُّ لا لحاجته لمحبوبه أو لِضعْفِهِ مَعَ محبوبه وإنمَّا يُحبُّ -جل وعلا- لخير يسوقُه إلى من يُحبُّ، فحبه -جل وعلا- كمال لا لحاجة بل هو عن كمال غنى وعن كمال اقتدار، فيحبُّ عبدهُ لتقربِ العبد منه، وحُبُّه -جل وعلا- للعبد من ثمراته أن يكون مع العبد المعية الخاصة.
(3) قال -عليه الصلاة والسلام-: ((وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس))، لا يكن قلبك مُتعلقاً فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك فأخرجت ما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له سواء أعظمُ أم قلَّ فإنه بذلك يُحبَّك الناس؛لأنَّ الناس يَروْن فيك أنَّك غيرُ متعلق بما في أيديهم لا تنظرُ إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة ولا نظر طلب وإنما تسألُ الله -جل وعلا- لَهُمُ التخفيف من الحساب وتحمدُ الله -جل وعلا- على ما أعطاك وما أنت فيه، فهذا إخراجُ ما في أيدي الناس من القلب هذه حقيقةُ الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرءُ أحبه الناس لأنَّ الناس جُبلوا على أنهم لا يُحبون من نازعهم ما يختصون به ممّا يملكون أو ما يكون في أيديهم، حتى إذا دخلت بيت أحدٍ ورأيت شيئاً يُعجبُك وظهر عند ذاك أنَّك أُعجبت بكذا وكذا فإنه يكون في نفس ذَاك الآخر بعض الشيء وهذا يُعكِّرُ صَفوَ المحبة، فوطِّن نفسك على أنَّ ما عند الناس في قلبك شيءٌ قليلٌ حقير لاقيمة له مهما بَلَغَ وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلبٍ زاهد متعلق بالآخرة أمّا من ينظرُ إلى الدنيا فإنه يكون متعلقاً بما في أيدي الناس، فإذا نظر إلى مُلْك هذا تعلَّق به وإذا نظر إلى ملك هذا تعلَّق به ولا يزال يسأل أو ينظرُ إليه أو يتمتَّع به حتى لا يكون محبوباً عند الناس.
فإذاً هذه الوصيّة جمعت ما يكون فيه أداء حقِّ الله -جل وعلا- والتخلُّص من حقوق الناس، فحق الله -جل وعلا- عظيم، وطريقهُ أن تزهد فيما ابتلي به الخلقُ من الدنيا؛ أن تُقلِّل الدنيا في قَلبك وكذلك أن تُقلل شأْنَ ما في أيدي الناس فتكون مُعلَّقاً بالآخرة فهذه هي حقيقةُ هذه الوصية العظيمة، ولا شك أننا بحاجة لذلك خاصَّةً في هذا الزمن الذي صار أكثرُ الخلق متعلقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبة للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلقه بالآخرة، وتعلقه بما يُحبُّ الله -جل وعلا- ويرضى، فعظموا الآخرة وقللوا من شأن الدنيا فبذلك يكون الزُّهد الحقيقي والإقبال على الآخرة والتجانف عن دار الغرور.

الحديثُ الثاني وَالثَّلاثُونَ
عَنْأَبِي سعيدٍ -سعدِ بنِ سِنانٍ- الخُدْريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ , أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)).
حديثٌ حسَنٌ رواهُ ابنُ ماجَه والدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُهُما مُسْنَدًا، ورواهُمالكٌ في الْمُوَطَّأِ مُرْسَلاً, عَنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى, عَنْ أبيهِ , عَنِ النبيِّ صلّى اللهُ علَيْهِ وسلَّم، فأَسْقَطَ أبا سعيدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّي بعضُها بعضًا.
الشرح
هذا الحديث وهو الحديث الثاني والثلاثون من الأحاديث الجامعة التي جمعت أحكاماً كثيرة وقاعدةً من قواعد الدين عظيمة.
ومن جهة ثبوته تنازع العلماء فيه؛ هل الصواب فيه الوصل أم الإرسال، وقد أشار لك النووي _رحمه الله_ إلى بعض هذا الاختلاف والصواب أنه حديث حسن كما قال النووي -رحمه الله تعالى- لكثرة شواهده، والإرسال فيه لا يُعلُّ الوصل، لأنَّ لكل منهما جهة بما هو معروف في علل الحديث وليس من شرط هذا الشرح التعرض لتحقيق مثل هذه المسائل.
قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: ((لا ضرر ولا ضرار)).
وقوله: ((لاضرر)) (لا) هنا نافية للجنس ومن المعلوم أن النفي لا بد أن يكون متسلطاً على شيء، وقد تسلَّط هنا على الضرر والضرار، لكن أين الخبر؟
((لا)) النافية للجنس تطلبُ خبراً -كما هو معلوم- وقد يحذف خبرها، وشاع ذلك كثيراً إذا كان خبرها معلوماً يعني إذا كان يُدرك فلا يُذكر اختصاراً للكلام فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عِدة أحاديث كقوله مثلاً: (لا عَدوْى ولا طيرة ولا هَامة ولا صَفَر ولا نوء ولا غول..) كلُّ هذه أين أخبارها؟ الخبر غير مذكور، (لاإله إلا الله) خبر (لا) النافية للجنس غير مذكور، وهذا معروف في اللغة شاع إسقاط الخبر كما قال ابن مالك في (الألفية)في آخر باب (لا) النافية للجنس:
وشاع في ذا البابِ إسقاط الخبر = إذا المرادُ مع سقوطه ظهر
فهنا يَشيع إسقاط خبر (لا) النافية للجنس إذا كان المُرادُ معلوماً، إذا تقررّ هذا فما المراد هنا؟ المراد أنهُ لا ضرر في الشرع، لا ضَرر كائن في الشريعة.
وهذا النفي مُنصب على جهتين:
جهة العبادات.
وجهة المعاملات وما بعدها.
أمّا جهة العبادات فإن الشريعة لم يأتِ فيها عبادة يحصلُ بها للمرء ضرر، فإذا: لاَ ضَررَ في الشرع يعني أنَّ الضَّرر منتف شرعاً فيما شُرِع في هذه الشريعة، ففي العبادات لم يُشرعْ لنا شيء فيه ضَرر على العبد، ولا مُضارَّة على العبد فمثلاً إذا نظرت: المريض يُصلي قائماً فإن تضررَ بالقيام صلى قاعداً، يتطهر بالماء فإن كان الماء يضرهُ ينتقل منه إلى التراب، وهكذا في أشياء متنوعة.
فإذاً هذا القسم الأول: أن الضَّرر منتفٍ شرعاً؛وانتفاؤهُ في العبادات بأنهُ لم تُشْرع عبادة فيها ضرر بالعبد بل إذا وجد الضَّرر جاء التخفيف.
والقسم الثاني: نفىُ الضَّرر شرعاً في أمور المعاملات، والأمور الاجتماعية من النكاح وتوابعه… إلخ، وهذه كلُّها أيضاً في تشريعات الإسلام نُفِيَ فيها الضَّرر من جهة التشريع، فقال -جل وعلا- مثلاً في:
بيان العلاقة الزوجية قال: {ولا تمسكوهنّ ضِراراً لتعتدوا}.
وقال في الرضاعة: {لا تُضارَّ والدةٌ بولدها ولا مولود له بولده}
وقال-جل وعلا- في الوصية: {من بعد وصيةٍ يُوصي بها أو دين غير مُضار} فإذاً في أحكام الشريعة جاء نفى الضَّررِ في نفس الأحكام وهذا من جهة الشارع.
النوع الثاني من القسم الثاني يعني في المعاملات: أنّه طُلب بهذا النص نفي الضّرر والضرار من العباد؛ يعني أن العبد أيضاً إذْ نُفي وجودُ الضَّرر والضرار شرعاً فهم أيضاً لا يجوزُ لهم أن يسْعَوْا في الضرر ولا في الضرار لأنَّ هذا منفي شرعاً فتحصَّل لنا أنّ دخول هذا النفي: (لاضرر ولا ضرار) في المعاملات رَجع إلى جهتين:
الجهة الأولى: جهة التشريع.
والجهة الثانية: جهة المكلف، فالمكلف لا يسعى في شيء فيه ضَرر ولا ضِرار؛ لأنَّ الله -جل وعلا- نفى وجود الضّرر شرْعاً بقول المُصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لاضرر ولاضِرار)).
إذا تبين هذا فما معنى الضرر وما معنى الضرار؟
اختلفت عبارات العلماء في ذلك وفي الفرق بين الضَّرر والضرار.
فمنهم من قال أن الضَّرر والضرار واحد لكن كُرر للتأكيدِ، فالضرر والضرار بمعنى واحد: وهو إيصال الأذى للغير.
وقال آخرون من أهل العلم الضَّرر والضرار مختلفان فالضَّرر هو الاسم والضرار هو الفعل، يعني: نفى وجود الضرر ونفى فعل الضرر. فيكون على هذا القول:
الأول: متجه إلى الشرع بنفي الضَّرر في الشريعة.
والثاني: متجه إلى المكلف فلا فعْلَ للضَّرر والإضرار مأذونٌ به شرعاً، ويؤيَّدُ هذا بأنه جاء في بعض الروايات: (لاضَرَر ولا إضرار) يعني بالغير.
وقال آخرون من أهل العلم -وهو، القول الثالث-: إن الضرر هو إيصال الأذى للغير بما فيه منفعة للموصِل، والضِّرار إيصال الأذى للغير بما ليس لموصل الأذى نفع فيه، يعني أن الضرّر على هذا القول هو أن تُضر بأحدٍ لكي تنتفع فإذا وصله ضرر أذى معين انتفعت أنت بذلك إمَّا في الأمور المالية أو غيرها، والنوع الثاني الذي هو الضِّرار: أن توصل الأذى -نسألُ الله العافية- دون فائدة لك ولا مصلحة، وهذا قول عدد من المحققين منهم العلامة: ابن الصلاح وقبله ابن عبد البر وجماعة من أهل العلمِ، وهذا التعريف أولى وأظهر لعدة أمور منها: أنَّ فيه تفريقاً بين الضَّرر والضَّرار والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد.
والثاني: أنّ لفظ الضَّرر يختلف عن لفظ الضرار في أنَّ الضَّرر ظاهر منه أنَّ الموصل لهذا الضَّرر منتفع به.
وأمَّا المُضار بالشيءِ فإنَّهُ غير منتفع به لمعنى المفاعلة في ذلك، وهذا أيضاً -من جهة اللغة- بيِّن، ومنها أيضاً -يعني ممَّا يَترجَّح به هذا المعنى- أنَّ الأفعال مختلفة ولا ضَرر ولا ضِرار إذا انتفى في الشرع يعني أنه لن يصل الأذى إلى المكلف أو نُفي إيصال الأذى للمكلف هذا يشمل الحالات التي ذكرنا جميعاً وهذا يتضح مع تقسيم يأتي، وإذا قلنا إنه لا ضرر في الشريعة، أي يَصلُ أذى لأحد لانتفاع المؤذي فإن الله -جل وعلا- لا ينتفع بأذى عباده بل هو سبحانه يبتليهم لحكمةٍ يعلمها -جل وعلا-.
فالضَّرر منفي في التشريع وكذلك الإضرار أيضاً منفي في التشريع.
إذا تقرر هذا فإنَّ الضَّرر والضِّرار يعني في عدم اعتباره فيما يدخُل في فعْل المكلف على قسمين:
الأول: أنَّ المكلَّف يُدخِل الضَّرر على غيره وهو لا ينتفع بهذا الإدخال يعني يكون مضارّاً على التعريف هذا، وهذا بإجماع أهل العلم أنه لا يجوز ومحرم يعني أن يضرَّ غيره بما لا نفع له فيه وهو المُضارَّة على تعريفنا وهو الضرار، وهذا له أمثلة كثيرة في الفقه معلومة.
الثاني: أن يُدخلَ الضَّرر على مكلَّف آخر على وجه ينتفعُ هو، منه وهذا اختلف فيه العلماء هل يسوغُ مِثلُ هذا أم لا يسوغ؟
فمنهم: من قال إنَّ الحديث دلَّ على أنَّه لا يجوز الضَّرر فإذا أدخل على غيره ضَرراً على وجه ينتفع هو منه فإنَّه دلَّ الحديث على انتفائه فيعني أنَّ هذا غير معتبر، وهذا مذهبُ جماعةٍ من أهل العلم منهم أبو حنيفة -رحمه الله- والشافعي -رحمه الله- قالوا إن إدخال الضَّرر على أي مسلم ولو لك فيه انتفاع فإنَّه لا يجوز ويجبُ إزالةُ الضَّرر ووجود الضَّمان لو حصل ما يوجبه، مثاله: أن يحتاج إلى فتح نوافذ لتهوية بيته على جهة بيت جاره، والجارُ يتضرر من فتح هذه النوافذ لأنه بها يَطَّلِعُ الجَارُ على حُرُماتِ جاره، فهذا عند أبي حنيفة والشافعي ممنوع لأنه قد دخل الضَّرر على الغير، مثلاً: يحتاج إلى أن يعمل شيئاً في بيته يشب ناراً لغرض من الاغراض يتأذى بها جاره، فهذا ضَرر دخل على الجار وصل إليه أذى؛ وهو منتفع بذلك، عند هؤلاء، هذا الضَّرر منتف ويجبُ رَفعهُ وإذا اشتكى الجار جاره عند القاضي أمره بإزالة ما يلحقه من أذى.
والقول الثاني -وهو قول الإمام أحمد، ووافقه الإمام مالك في بعض المسائل- أنَّ إيصال الضَّرر للغير ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يكون معتاداً والمصلحةُ فيه ظاهرة.
والثاني: ألاّ يكون معتاداً والمصلحة فيه غير ظاهرة، فإن كان معتاداً والمصلحةُ فيه ظاهرة فيجوز أن يفعله؛ لأنَّ الناس لا يُمكن أن يفعلوا فيما بينهم أشياء إلا وثَمَّ أذى يُصيبُ الآخر منه، يبني لابد أنه يشب ناراً ويعمل أشياء.. يصل لو رائحة كريهة للآخر؛ لكن هذا شيء معتاد لابدَّ منه، يريد أن يعمر مثلاً بجانب جاره لابد أنه من الصباح وهم يضربون، حتى يتأذى الجار ولا يستطيع الجار أن ينام صباحاً من جرَّاءِ العمل، فهذا عمل معتاد، ومثلُ هذا ولو وصل الضَّرر عند هذا غيرُ منفيِّ لأنَّهُ لا تصلحُ أمُورُ الناس إلا بهذا.
وأمَّا إذا كان إيصال الضَّرر غير معتادٍ في أمرٍ لا مصلحة لك فيه وغير معتاد فإنَّهُ يجبُ إزالتهُ في أشياء كثيرة من الأمثلة مثل ما ذكرنا -سابقاً- الأبواب والشبابيك على الجار؛ عند الإمام أحمد هذا مما جرت العادة به؛ لأن الغرف تحتاج إلى تهوية.. إلخ، فلا يمنع منه وهو المعمول به عندنا في ضوابط معلومة، وأما إذا عمل عملاً يوصل إليه الضرر بشيء غير معتاد فإنه لا يُقر عليه مثل أن يحفر قليباً بجنب قليب صاحِبه فَسَحَبت الماء عليه، والماء لِمن سبق، فهذا يؤمر المتأخر بأن يُزيل هذا الضرر لأنهُ غير معتاد ولا مصلحة فيه ظاهرة له؛ لأنَّ مصلحة الأول متقدمة عليه، مثال آخر: لو أراد أن يحفر في بيته أو يبني فيذهب ويأتي بـ(ديناميت) مثلاً أو بأشياء يتضَّرر معها بيت المجاور بتهدُّمِ بَعْضِه أو بخَلَلٍ في أركانه أو في أسسه أو ما أشبه ذلك فهذا مما لا يكون معتاداً فيُمنع منه وهذا القول؛ قول الإمام أحمد هو التحقيق وهو الصواب؛ لأنَّ العمل جرى عليه، ولأنَّ مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، والبحث في هذا يطول لأنه قاعدة عظيمة يدخل فيها كثير من أبواب المعاملات والأمور الاجتماعيه مثل النكاح والوصية والطلاق وإلى آخره- تحصّل لنا من هذا أنَّ الضَّرر والضِّرار مختلفان وأن هذا له معنى وهذا له معنى، وأنَّه منتفٍ الضَّرر والضرار في التشريع وكذلك يجبُ على العباد أن لا يَضر بعضهم بعضاً، وأنَّ الضَّرر منه ما هو للعبد فيه مصلحة؛ فهذا لا يجوز باتفاق، والضِّرار الذي لا مصلحة للعبد فيه ولم تجرِ به العادة فهذا أيضاً منفي وأمَّا ما يحصُلُ به نوعُ أذى مع بقاء المصلحة وجَريان العادة بذلك فإنه لا يُنفى شرعاً ولا يجبُ به إزالةُ الضرار.
هذا ملخص ما في هذا الحديث من مباحث وهو يستدعي أطول من هذا بكثير من جهة التقسيمات والأمثلة لأنه داخل أيضاً ضمن قاعدة فقهية وهي: "الضرر يزال" ولها تفريعات كثيرة ربما مر معكم بعضها.
عَنْأَبِي سعيدٍ -سعدِ بنِ سِنانٍ- الخُدْريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ , أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)).
حديثٌ حسَنٌ رواهُ ابنُ ماجَه والدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُهُما مُسْنَدًا، ورواهُمالكٌ في الْمُوَطَّأِ مُرْسَلاً, عَنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى, عَنْ أبيهِ , عَنِ النبيِّ صلّى اللهُ علَيْهِ وسلَّم، فأَسْقَطَ أبا سعيدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّي بعضُها بعضًا.
الشرح
هذا الحديث وهو الحديث الثاني والثلاثون من الأحاديث الجامعة التي جمعت أحكاماً كثيرة وقاعدةً من قواعد الدين عظيمة.
ومن جهة ثبوته تنازع العلماء فيه؛ هل الصواب فيه الوصل أم الإرسال، وقد أشار لك النووي _رحمه الله_ إلى بعض هذا الاختلاف والصواب أنه حديث حسن كما قال النووي -رحمه الله تعالى- لكثرة شواهده، والإرسال فيه لا يُعلُّ الوصل، لأنَّ لكل منهما جهة بما هو معروف في علل الحديث وليس من شرط هذا الشرح التعرض لتحقيق مثل هذه المسائل.
قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: ((لا ضرر ولا ضرار)).
وقوله: ((لاضرر)) (لا) هنا نافية للجنس ومن المعلوم أن النفي لا بد أن يكون متسلطاً على شيء، وقد تسلَّط هنا على الضرر والضرار، لكن أين الخبر؟
((لا)) النافية للجنس تطلبُ خبراً -كما هو معلوم- وقد يحذف خبرها، وشاع ذلك كثيراً إذا كان خبرها معلوماً يعني إذا كان يُدرك فلا يُذكر اختصاراً للكلام فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عِدة أحاديث كقوله مثلاً: (لا عَدوْى ولا طيرة ولا هَامة ولا صَفَر ولا نوء ولا غول..) كلُّ هذه أين أخبارها؟ الخبر غير مذكور، (لاإله إلا الله) خبر (لا) النافية للجنس غير مذكور، وهذا معروف في اللغة شاع إسقاط الخبر كما قال ابن مالك في (الألفية)في آخر باب (لا) النافية للجنس:
وشاع في ذا البابِ إسقاط الخبر = إذا المرادُ مع سقوطه ظهر
فهنا يَشيع إسقاط خبر (لا) النافية للجنس إذا كان المُرادُ معلوماً، إذا تقررّ هذا فما المراد هنا؟ المراد أنهُ لا ضرر في الشرع، لا ضَرر كائن في الشريعة.
وهذا النفي مُنصب على جهتين:
جهة العبادات.
وجهة المعاملات وما بعدها.
أمّا جهة العبادات فإن الشريعة لم يأتِ فيها عبادة يحصلُ بها للمرء ضرر، فإذا: لاَ ضَررَ في الشرع يعني أنَّ الضَّرر منتف شرعاً فيما شُرِع في هذه الشريعة، ففي العبادات لم يُشرعْ لنا شيء فيه ضَرر على العبد، ولا مُضارَّة على العبد فمثلاً إذا نظرت: المريض يُصلي قائماً فإن تضررَ بالقيام صلى قاعداً، يتطهر بالماء فإن كان الماء يضرهُ ينتقل منه إلى التراب، وهكذا في أشياء متنوعة.
فإذاً هذا القسم الأول: أن الضَّرر منتفٍ شرعاً؛وانتفاؤهُ في العبادات بأنهُ لم تُشْرع عبادة فيها ضرر بالعبد بل إذا وجد الضَّرر جاء التخفيف.
والقسم الثاني: نفىُ الضَّرر شرعاً في أمور المعاملات، والأمور الاجتماعية من النكاح وتوابعه… إلخ، وهذه كلُّها أيضاً في تشريعات الإسلام نُفِيَ فيها الضَّرر من جهة التشريع، فقال -جل وعلا- مثلاً في:
بيان العلاقة الزوجية قال: {ولا تمسكوهنّ ضِراراً لتعتدوا}.
وقال في الرضاعة: {لا تُضارَّ والدةٌ بولدها ولا مولود له بولده}
وقال-جل وعلا- في الوصية: {من بعد وصيةٍ يُوصي بها أو دين غير مُضار} فإذاً في أحكام الشريعة جاء نفى الضَّررِ في نفس الأحكام وهذا من جهة الشارع.
النوع الثاني من القسم الثاني يعني في المعاملات: أنّه طُلب بهذا النص نفي الضّرر والضرار من العباد؛ يعني أن العبد أيضاً إذْ نُفي وجودُ الضَّرر والضرار شرعاً فهم أيضاً لا يجوزُ لهم أن يسْعَوْا في الضرر ولا في الضرار لأنَّ هذا منفي شرعاً فتحصَّل لنا أنّ دخول هذا النفي: (لاضرر ولا ضرار) في المعاملات رَجع إلى جهتين:
الجهة الأولى: جهة التشريع.
والجهة الثانية: جهة المكلف، فالمكلف لا يسعى في شيء فيه ضَرر ولا ضِرار؛ لأنَّ الله -جل وعلا- نفى وجود الضّرر شرْعاً بقول المُصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لاضرر ولاضِرار)).
إذا تبين هذا فما معنى الضرر وما معنى الضرار؟
اختلفت عبارات العلماء في ذلك وفي الفرق بين الضَّرر والضرار.
فمنهم من قال أن الضَّرر والضرار واحد لكن كُرر للتأكيدِ، فالضرر والضرار بمعنى واحد: وهو إيصال الأذى للغير.
وقال آخرون من أهل العلم الضَّرر والضرار مختلفان فالضَّرر هو الاسم والضرار هو الفعل، يعني: نفى وجود الضرر ونفى فعل الضرر. فيكون على هذا القول:
الأول: متجه إلى الشرع بنفي الضَّرر في الشريعة.
والثاني: متجه إلى المكلف فلا فعْلَ للضَّرر والإضرار مأذونٌ به شرعاً، ويؤيَّدُ هذا بأنه جاء في بعض الروايات: (لاضَرَر ولا إضرار) يعني بالغير.
وقال آخرون من أهل العلم -وهو، القول الثالث-: إن الضرر هو إيصال الأذى للغير بما فيه منفعة للموصِل، والضِّرار إيصال الأذى للغير بما ليس لموصل الأذى نفع فيه، يعني أن الضرّر على هذا القول هو أن تُضر بأحدٍ لكي تنتفع فإذا وصله ضرر أذى معين انتفعت أنت بذلك إمَّا في الأمور المالية أو غيرها، والنوع الثاني الذي هو الضِّرار: أن توصل الأذى -نسألُ الله العافية- دون فائدة لك ولا مصلحة، وهذا قول عدد من المحققين منهم العلامة: ابن الصلاح وقبله ابن عبد البر وجماعة من أهل العلمِ، وهذا التعريف أولى وأظهر لعدة أمور منها: أنَّ فيه تفريقاً بين الضَّرر والضَّرار والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد.
والثاني: أنّ لفظ الضَّرر يختلف عن لفظ الضرار في أنَّ الضَّرر ظاهر منه أنَّ الموصل لهذا الضَّرر منتفع به.
وأمَّا المُضار بالشيءِ فإنَّهُ غير منتفع به لمعنى المفاعلة في ذلك، وهذا أيضاً -من جهة اللغة- بيِّن، ومنها أيضاً -يعني ممَّا يَترجَّح به هذا المعنى- أنَّ الأفعال مختلفة ولا ضَرر ولا ضِرار إذا انتفى في الشرع يعني أنه لن يصل الأذى إلى المكلف أو نُفي إيصال الأذى للمكلف هذا يشمل الحالات التي ذكرنا جميعاً وهذا يتضح مع تقسيم يأتي، وإذا قلنا إنه لا ضرر في الشريعة، أي يَصلُ أذى لأحد لانتفاع المؤذي فإن الله -جل وعلا- لا ينتفع بأذى عباده بل هو سبحانه يبتليهم لحكمةٍ يعلمها -جل وعلا-.
فالضَّرر منفي في التشريع وكذلك الإضرار أيضاً منفي في التشريع.
إذا تقرر هذا فإنَّ الضَّرر والضِّرار يعني في عدم اعتباره فيما يدخُل في فعْل المكلف على قسمين:
الأول: أنَّ المكلَّف يُدخِل الضَّرر على غيره وهو لا ينتفع بهذا الإدخال يعني يكون مضارّاً على التعريف هذا، وهذا بإجماع أهل العلم أنه لا يجوز ومحرم يعني أن يضرَّ غيره بما لا نفع له فيه وهو المُضارَّة على تعريفنا وهو الضرار، وهذا له أمثلة كثيرة في الفقه معلومة.
الثاني: أن يُدخلَ الضَّرر على مكلَّف آخر على وجه ينتفعُ هو، منه وهذا اختلف فيه العلماء هل يسوغُ مِثلُ هذا أم لا يسوغ؟
فمنهم: من قال إنَّ الحديث دلَّ على أنَّه لا يجوز الضَّرر فإذا أدخل على غيره ضَرراً على وجه ينتفع هو منه فإنَّه دلَّ الحديث على انتفائه فيعني أنَّ هذا غير معتبر، وهذا مذهبُ جماعةٍ من أهل العلم منهم أبو حنيفة -رحمه الله- والشافعي -رحمه الله- قالوا إن إدخال الضَّرر على أي مسلم ولو لك فيه انتفاع فإنَّه لا يجوز ويجبُ إزالةُ الضَّرر ووجود الضَّمان لو حصل ما يوجبه، مثاله: أن يحتاج إلى فتح نوافذ لتهوية بيته على جهة بيت جاره، والجارُ يتضرر من فتح هذه النوافذ لأنه بها يَطَّلِعُ الجَارُ على حُرُماتِ جاره، فهذا عند أبي حنيفة والشافعي ممنوع لأنه قد دخل الضَّرر على الغير، مثلاً: يحتاج إلى أن يعمل شيئاً في بيته يشب ناراً لغرض من الاغراض يتأذى بها جاره، فهذا ضَرر دخل على الجار وصل إليه أذى؛ وهو منتفع بذلك، عند هؤلاء، هذا الضَّرر منتف ويجبُ رَفعهُ وإذا اشتكى الجار جاره عند القاضي أمره بإزالة ما يلحقه من أذى.
والقول الثاني -وهو قول الإمام أحمد، ووافقه الإمام مالك في بعض المسائل- أنَّ إيصال الضَّرر للغير ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يكون معتاداً والمصلحةُ فيه ظاهرة.
والثاني: ألاّ يكون معتاداً والمصلحة فيه غير ظاهرة، فإن كان معتاداً والمصلحةُ فيه ظاهرة فيجوز أن يفعله؛ لأنَّ الناس لا يُمكن أن يفعلوا فيما بينهم أشياء إلا وثَمَّ أذى يُصيبُ الآخر منه، يبني لابد أنه يشب ناراً ويعمل أشياء.. يصل لو رائحة كريهة للآخر؛ لكن هذا شيء معتاد لابدَّ منه، يريد أن يعمر مثلاً بجانب جاره لابد أنه من الصباح وهم يضربون، حتى يتأذى الجار ولا يستطيع الجار أن ينام صباحاً من جرَّاءِ العمل، فهذا عمل معتاد، ومثلُ هذا ولو وصل الضَّرر عند هذا غيرُ منفيِّ لأنَّهُ لا تصلحُ أمُورُ الناس إلا بهذا.
وأمَّا إذا كان إيصال الضَّرر غير معتادٍ في أمرٍ لا مصلحة لك فيه وغير معتاد فإنَّهُ يجبُ إزالتهُ في أشياء كثيرة من الأمثلة مثل ما ذكرنا -سابقاً- الأبواب والشبابيك على الجار؛ عند الإمام أحمد هذا مما جرت العادة به؛ لأن الغرف تحتاج إلى تهوية.. إلخ، فلا يمنع منه وهو المعمول به عندنا في ضوابط معلومة، وأما إذا عمل عملاً يوصل إليه الضرر بشيء غير معتاد فإنه لا يُقر عليه مثل أن يحفر قليباً بجنب قليب صاحِبه فَسَحَبت الماء عليه، والماء لِمن سبق، فهذا يؤمر المتأخر بأن يُزيل هذا الضرر لأنهُ غير معتاد ولا مصلحة فيه ظاهرة له؛ لأنَّ مصلحة الأول متقدمة عليه، مثال آخر: لو أراد أن يحفر في بيته أو يبني فيذهب ويأتي بـ(ديناميت) مثلاً أو بأشياء يتضَّرر معها بيت المجاور بتهدُّمِ بَعْضِه أو بخَلَلٍ في أركانه أو في أسسه أو ما أشبه ذلك فهذا مما لا يكون معتاداً فيُمنع منه وهذا القول؛ قول الإمام أحمد هو التحقيق وهو الصواب؛ لأنَّ العمل جرى عليه، ولأنَّ مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، والبحث في هذا يطول لأنه قاعدة عظيمة يدخل فيها كثير من أبواب المعاملات والأمور الاجتماعيه مثل النكاح والوصية والطلاق وإلى آخره- تحصّل لنا من هذا أنَّ الضَّرر والضِّرار مختلفان وأن هذا له معنى وهذا له معنى، وأنَّه منتفٍ الضَّرر والضرار في التشريع وكذلك يجبُ على العباد أن لا يَضر بعضهم بعضاً، وأنَّ الضَّرر منه ما هو للعبد فيه مصلحة؛ فهذا لا يجوز باتفاق، والضِّرار الذي لا مصلحة للعبد فيه ولم تجرِ به العادة فهذا أيضاً منفي وأمَّا ما يحصُلُ به نوعُ أذى مع بقاء المصلحة وجَريان العادة بذلك فإنه لا يُنفى شرعاً ولا يجبُ به إزالةُ الضرار.
هذا ملخص ما في هذا الحديث من مباحث وهو يستدعي أطول من هذا بكثير من جهة التقسيمات والأمثلة لأنه داخل أيضاً ضمن قاعدة فقهية وهي: "الضرر يزال" ولها تفريعات كثيرة ربما مر معكم بعضها.

الحديثُ الثالثُ وَالثَّلاثُونَ
عنْابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُما، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْواهُمْ، لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)). حديثٌ حَسَنٌ رواه البيهقيُّ وغيرُه هكذا، وبعضُه في الصحيحينِ.
الشرح :
هذا الحديث أصل في باب القضاء والبينات والخصومات، قال: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (لو يُعطى الناس بدعْواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم)).
((لو يعطى الناس بدعواهم)) يعني أنَّهُ لو كانت المسألةُ في الحكم مبنية على مجرد الدَّعوى فإنه سيأتي لأجل البغضاء والشحناء التي بين الناس من يدَّعي مال غيره بل ويدَّعي دَمه إذا مات بأيِّ طريقة، أدَّعى أنّ فلاناً هو القاتل، ولو أعطي الناس بمجرَّد الدَّعوى بلا بَينة لحصَلَ خَلَل كثير في الأمة وفي الناس؛ لأنَّ نفوس الناس مبنيَّة على المُشاحة وعلى البغضاء وعلى الكراهة، وقد ينتجُ من ذلك أن يدَّعي أَناسٌ أموال قوم ودماءهم فقال عليه الصلاة والسلام: ((لو يُعطى الناس بدعواهم)) يعني بلا بينة على ما ادعو ((لادعى رجالٌ أموال قوم ودماءهم))، وهذا الادعاء بلا بينة مرفوض، ولهذا كان لزاماً على المدعي أن يأتي بالبينة وعقَّب عليه كتفسير لذلك فقال عليه الصلاة والسلام: ((ولكن البينة على المُدعي واليمينُ على من أنكر)).
قوله: (البينة على المدَّعي) البينة: اسمٌ لكلِّ ما يُبِينُ الحقَّ ويظهرهُ، على الصحيح المختار.
فالبيناتُ إذاً كثيرة، فالشهود من البينات، والإقرار من البينات، والقرائن الدالة على المسألة من البينات، وفهم القاضي للمسألة باختبار يختبر به الخصمين فيظهرُ به له وجه الحق؛ هذا من البينات، فإذاً: البينات على الصحيح ليست منحصرةً في أوْجُهٍ من أوجه الثبوت، بل هي عامَّةٌ في كل ما يُبينُ الحقَّ ويظهرهُ، وهذه تستجد مع الأزمان، وكل زمنٍ له بينات تختلف أيضاً وتزيد عن الزمن الذي قبله أو تختلف. فلا بُدَّ إذاً في البينات من رعاية الحال ورعاية البلاد ورعاية أعراف الناس.. إلخ.
فإذا تقرَّر هذا فالبينة في اللغةاسمٌ للبيان، وما يبينُ به الشيءُ يُقال له بينة، وأرفعُ منها البرهان، وأرفعُ من البرهان الآية، وقد قال جلّ وعلا: {ما جئتنا ببيّنة وما نحنُ بتاركي آلهتنا عن قولك} يعني ما جئتنا بشيءٍ يُبينُ أنّك صادقٌ في دعوى النبوة ودعوى الرسالة-، وقال جلّ وعلا: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتينهم البينةُ؛ رسولٌ من الله يتلو صُحُفاً مطهرة} فجعل البينة هي الرسول، وفي الآية الأولى البينة يُؤتاها الرسول، فتنوعت البينة؛ لأنَّ البينةَ اسم لما يُظهرُ الحق ويدل عليه، فلهذا قيل للرسول إنّه بينة، وللكتاب إنَّه بينة، وللشاهد إنَّه بينة، وهكذا..
فالبينةُ إذاً: -على التحقيق- أنها: اسم عامٌّ جامِعٌ لكلِّ ما يُبينُ الحق ويُظهرهُ.
قال: (ولكنَّ البينة على المُدّعي، واليمينُ على من أنكر) والعلماء يعبرون عن ذلك بقولهم -أيضاً-: البينة على المدعي، واليمين على المدّعى عليه، وهذا من باب التصرف في العبارة، وروي أيضاً في بعض روايات هذا الحديث.
وأجمَع أهل العلم على ما دل عليه هذا الحديث؛ من أن البينة على المُدَّعي؛ وأنّ المدعي لا تُؤخَذ دعواه ولا يُلتفتُ لها -من حيث مطالبته بشيءٍ- حتى يأْتي ببينة تُثبتُ له هذا الحق، والمُدَّعي والمُدَّعى عليه اختلفت فيهما عبارات أهل العلم، لكن التحقيق فيها أوالصواب أنَّ المدَّعي: من إذا سكت تُركَ، والمدَّعى عليه: من إذا سكت لم يُترك.
ويعبّر طائفة من أهل العلم في كتب الفقه -في القضاء- في آخره عن المدّعي والمدّعى عليه: بالداخل والخارج.
المقصود أنَّ المدعي في قوله: (ولكن البينة على المدّعي) أن المدّعي هو من إذا سكت عن القضية تُرك؛ لأنه هو صاحبها، فيدَّعي على غيره شيئاً، فلوقال:سكت عن هذه الدعوى ترك؛ إذ لا مطالب له بشيءٍ، وقد ينقلب المدعي مدَّعىً عليه إذا كان الخصمُ لا يسكتُ عنه فإذا سكتَ أحدُ الخصمين، وبسكوته يُترك؛ صار مُدَّعياً، وإذا سكت وبسكوته لم يُترك، صار مدَّعىً عليه، وقد ينقلب -كما ذكرت لك- المدعي إلى مدعىً عليه في بعض الحلات.
قال: (البينةُ على المدَّعي) يعني إذا أتى أحد وقال: أنا أدعي على فلان بأنه أخذ أرضي، أو أخذ سيارتي، أو أنه أخذ من مالي كذا وكذا، أو أني أقرضته بكذا وكذا وأطالبه برده، فيُقال: أين البينة التي تُثبتُ ذلك؛ هل عندك شهود، هذا نوع من البينات، هل عندك ورقة مشهود عليها، أو أشباه ذلك تُثبتُ هذا الحق؟ ما دليلك أو ما بينتك على هذا؟ فلا يُنظر إلى دعواه مجردة حتى يأتي ببينة. هناك بعض الحالاتُ لا يكون ثمَّ بينة للمدَّعي، وهي الأمور المالية- يتوجه فيها اليمين على المدَّعى عليه، يعني أنه يقول هذا خصمي، فيأْتي فيُقال: هذا ليس له عندي شيء؛ فهُنا يُنْكرُ المدَّعى عليه أحقية المُدعي بشيء ولا بينة للمدَّعي على ذلك، فيرى القاضي أن تتوجه اليمينُ إلى المنْكِر يعني إلى المدَّعى عليه الذي يقول: ليس له عندي شيء وهذا معنى قوله: (واليمينُ على من أنكر) أو: (اليمينُ على المدعى عليه) يعني: من أنكر حقاً طُولِبَ به؛ ولا بينةَ ثابتة تدلُّ عليه -يعني: بينة واضحة- وإنما هناك نوع بينة لكنها لم تَكمُل، أو ما يرى القاضي فيه: أن فيه حاجة لطلب اليمين؛ فإنه تتوجه اليمينُ للمدعى عليه لأنه مُنْكِر.
نفهم من هذا أن المدعي لا يُطالب باليمينُ؛ لأنه هو صاحب الدعوة، فإنما عليه البينة، وكذلك المدعى عليه إذا أنكر؛ فإنما عليه اليمين، ويبرأ.
طبعاً إذا كان المدعى عليه عنده بينات أُخر، فيدلي بها وتكون بينته أقوى من بينة خصمه.
المقصود من هذا الحديث أنّ الشريعة جاءت في القضاء بإقامة العدْل وإقامة الحق، وأنّ هذا إنما يكونُ باجتماع القرائن والدلائل والبينات على ثبوت الحق لأحد الخصمين، وأنَّ الحاكم لا يحكم بمجردِ رأيه ولا بِعِلْمهِ.
فلا يجوز للحاكم -يعني للقاضي- أن يحكم بعلمه، وإنما يحكم بما دلت عليه الدَّلائل. فلو أتاه رجل من أصدق الناس وأصلحهم؛ وقال: أنا لي على فلان كذا وكذا؛ ولا بينة له؛ فإنه لا يحكم بعلمه في ذلك، ولو كان هو يعلم بعض ما في المسألة من الأمور.
فلا بد من البينة من المدعي، ولابد من إثبات ذلك؛ فيحكم له؛ أو اليمينُ على من أنكر في بعض المسائل.
وقد ثبت في (الصحيح)أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخصومة وإدلاء كُلٍ بحجته: (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من خصمه؛ فأقضي له، فإنما أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيءٍ؛ فإنما هو قطعة من النار فليأخذ أو ليدع) فحُكم القاضي لا يجعلُ لمن ليس لهُ الحق حقاً له، فهذا عند بعض العامة، والناس يظنون أن القاضي إذا حَكم فمعناه أن من حُكمَ له فله الحق مطلقا، ولو كان مبطلاً في نفس الأمر، وهذا باطل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال هنا: (فمن قضيتُ له من حق أخيه فإنما هو قطعة من النار فليأخذ أو فليدع) وهذا يعني أن المرء لا يحصل له الحق بمجرد حكم القاضي؛ بل لابد أن يعلم هو أن هذا حق في نفسه، أو أن المسألة مترددة يحتاج فيها إلى حكم القاضي.
أما إذا كان مُبطلاً فلا يجوز له أن يستحلّ الأمر بحكم القاضي، فإنما هي قطعة من النار يأخذها؛ وما أعظم ذلك!
عنْابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُما، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْواهُمْ، لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)). حديثٌ حَسَنٌ رواه البيهقيُّ وغيرُه هكذا، وبعضُه في الصحيحينِ.
الشرح :
هذا الحديث أصل في باب القضاء والبينات والخصومات، قال: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (لو يُعطى الناس بدعْواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم)).
((لو يعطى الناس بدعواهم)) يعني أنَّهُ لو كانت المسألةُ في الحكم مبنية على مجرد الدَّعوى فإنه سيأتي لأجل البغضاء والشحناء التي بين الناس من يدَّعي مال غيره بل ويدَّعي دَمه إذا مات بأيِّ طريقة، أدَّعى أنّ فلاناً هو القاتل، ولو أعطي الناس بمجرَّد الدَّعوى بلا بَينة لحصَلَ خَلَل كثير في الأمة وفي الناس؛ لأنَّ نفوس الناس مبنيَّة على المُشاحة وعلى البغضاء وعلى الكراهة، وقد ينتجُ من ذلك أن يدَّعي أَناسٌ أموال قوم ودماءهم فقال عليه الصلاة والسلام: ((لو يُعطى الناس بدعواهم)) يعني بلا بينة على ما ادعو ((لادعى رجالٌ أموال قوم ودماءهم))، وهذا الادعاء بلا بينة مرفوض، ولهذا كان لزاماً على المدعي أن يأتي بالبينة وعقَّب عليه كتفسير لذلك فقال عليه الصلاة والسلام: ((ولكن البينة على المُدعي واليمينُ على من أنكر)).
قوله: (البينة على المدَّعي) البينة: اسمٌ لكلِّ ما يُبِينُ الحقَّ ويظهرهُ، على الصحيح المختار.
فالبيناتُ إذاً كثيرة، فالشهود من البينات، والإقرار من البينات، والقرائن الدالة على المسألة من البينات، وفهم القاضي للمسألة باختبار يختبر به الخصمين فيظهرُ به له وجه الحق؛ هذا من البينات، فإذاً: البينات على الصحيح ليست منحصرةً في أوْجُهٍ من أوجه الثبوت، بل هي عامَّةٌ في كل ما يُبينُ الحقَّ ويظهرهُ، وهذه تستجد مع الأزمان، وكل زمنٍ له بينات تختلف أيضاً وتزيد عن الزمن الذي قبله أو تختلف. فلا بُدَّ إذاً في البينات من رعاية الحال ورعاية البلاد ورعاية أعراف الناس.. إلخ.
فإذا تقرَّر هذا فالبينة في اللغةاسمٌ للبيان، وما يبينُ به الشيءُ يُقال له بينة، وأرفعُ منها البرهان، وأرفعُ من البرهان الآية، وقد قال جلّ وعلا: {ما جئتنا ببيّنة وما نحنُ بتاركي آلهتنا عن قولك} يعني ما جئتنا بشيءٍ يُبينُ أنّك صادقٌ في دعوى النبوة ودعوى الرسالة-، وقال جلّ وعلا: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتينهم البينةُ؛ رسولٌ من الله يتلو صُحُفاً مطهرة} فجعل البينة هي الرسول، وفي الآية الأولى البينة يُؤتاها الرسول، فتنوعت البينة؛ لأنَّ البينةَ اسم لما يُظهرُ الحق ويدل عليه، فلهذا قيل للرسول إنّه بينة، وللكتاب إنَّه بينة، وللشاهد إنَّه بينة، وهكذا..
فالبينةُ إذاً: -على التحقيق- أنها: اسم عامٌّ جامِعٌ لكلِّ ما يُبينُ الحق ويُظهرهُ.
قال: (ولكنَّ البينة على المُدّعي، واليمينُ على من أنكر) والعلماء يعبرون عن ذلك بقولهم -أيضاً-: البينة على المدعي، واليمين على المدّعى عليه، وهذا من باب التصرف في العبارة، وروي أيضاً في بعض روايات هذا الحديث.
وأجمَع أهل العلم على ما دل عليه هذا الحديث؛ من أن البينة على المُدَّعي؛ وأنّ المدعي لا تُؤخَذ دعواه ولا يُلتفتُ لها -من حيث مطالبته بشيءٍ- حتى يأْتي ببينة تُثبتُ له هذا الحق، والمُدَّعي والمُدَّعى عليه اختلفت فيهما عبارات أهل العلم، لكن التحقيق فيها أوالصواب أنَّ المدَّعي: من إذا سكت تُركَ، والمدَّعى عليه: من إذا سكت لم يُترك.
ويعبّر طائفة من أهل العلم في كتب الفقه -في القضاء- في آخره عن المدّعي والمدّعى عليه: بالداخل والخارج.
المقصود أنَّ المدعي في قوله: (ولكن البينة على المدّعي) أن المدّعي هو من إذا سكت عن القضية تُرك؛ لأنه هو صاحبها، فيدَّعي على غيره شيئاً، فلوقال:سكت عن هذه الدعوى ترك؛ إذ لا مطالب له بشيءٍ، وقد ينقلب المدعي مدَّعىً عليه إذا كان الخصمُ لا يسكتُ عنه فإذا سكتَ أحدُ الخصمين، وبسكوته يُترك؛ صار مُدَّعياً، وإذا سكت وبسكوته لم يُترك، صار مدَّعىً عليه، وقد ينقلب -كما ذكرت لك- المدعي إلى مدعىً عليه في بعض الحلات.
قال: (البينةُ على المدَّعي) يعني إذا أتى أحد وقال: أنا أدعي على فلان بأنه أخذ أرضي، أو أخذ سيارتي، أو أنه أخذ من مالي كذا وكذا، أو أني أقرضته بكذا وكذا وأطالبه برده، فيُقال: أين البينة التي تُثبتُ ذلك؛ هل عندك شهود، هذا نوع من البينات، هل عندك ورقة مشهود عليها، أو أشباه ذلك تُثبتُ هذا الحق؟ ما دليلك أو ما بينتك على هذا؟ فلا يُنظر إلى دعواه مجردة حتى يأتي ببينة. هناك بعض الحالاتُ لا يكون ثمَّ بينة للمدَّعي، وهي الأمور المالية- يتوجه فيها اليمين على المدَّعى عليه، يعني أنه يقول هذا خصمي، فيأْتي فيُقال: هذا ليس له عندي شيء؛ فهُنا يُنْكرُ المدَّعى عليه أحقية المُدعي بشيء ولا بينة للمدَّعي على ذلك، فيرى القاضي أن تتوجه اليمينُ إلى المنْكِر يعني إلى المدَّعى عليه الذي يقول: ليس له عندي شيء وهذا معنى قوله: (واليمينُ على من أنكر) أو: (اليمينُ على المدعى عليه) يعني: من أنكر حقاً طُولِبَ به؛ ولا بينةَ ثابتة تدلُّ عليه -يعني: بينة واضحة- وإنما هناك نوع بينة لكنها لم تَكمُل، أو ما يرى القاضي فيه: أن فيه حاجة لطلب اليمين؛ فإنه تتوجه اليمينُ للمدعى عليه لأنه مُنْكِر.
نفهم من هذا أن المدعي لا يُطالب باليمينُ؛ لأنه هو صاحب الدعوة، فإنما عليه البينة، وكذلك المدعى عليه إذا أنكر؛ فإنما عليه اليمين، ويبرأ.
طبعاً إذا كان المدعى عليه عنده بينات أُخر، فيدلي بها وتكون بينته أقوى من بينة خصمه.
المقصود من هذا الحديث أنّ الشريعة جاءت في القضاء بإقامة العدْل وإقامة الحق، وأنّ هذا إنما يكونُ باجتماع القرائن والدلائل والبينات على ثبوت الحق لأحد الخصمين، وأنَّ الحاكم لا يحكم بمجردِ رأيه ولا بِعِلْمهِ.
فلا يجوز للحاكم -يعني للقاضي- أن يحكم بعلمه، وإنما يحكم بما دلت عليه الدَّلائل. فلو أتاه رجل من أصدق الناس وأصلحهم؛ وقال: أنا لي على فلان كذا وكذا؛ ولا بينة له؛ فإنه لا يحكم بعلمه في ذلك، ولو كان هو يعلم بعض ما في المسألة من الأمور.
فلا بد من البينة من المدعي، ولابد من إثبات ذلك؛ فيحكم له؛ أو اليمينُ على من أنكر في بعض المسائل.
وقد ثبت في (الصحيح)أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخصومة وإدلاء كُلٍ بحجته: (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من خصمه؛ فأقضي له، فإنما أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيءٍ؛ فإنما هو قطعة من النار فليأخذ أو ليدع) فحُكم القاضي لا يجعلُ لمن ليس لهُ الحق حقاً له، فهذا عند بعض العامة، والناس يظنون أن القاضي إذا حَكم فمعناه أن من حُكمَ له فله الحق مطلقا، ولو كان مبطلاً في نفس الأمر، وهذا باطل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال هنا: (فمن قضيتُ له من حق أخيه فإنما هو قطعة من النار فليأخذ أو فليدع) وهذا يعني أن المرء لا يحصل له الحق بمجرد حكم القاضي؛ بل لابد أن يعلم هو أن هذا حق في نفسه، أو أن المسألة مترددة يحتاج فيها إلى حكم القاضي.
أما إذا كان مُبطلاً فلا يجوز له أن يستحلّ الأمر بحكم القاضي، فإنما هي قطعة من النار يأخذها؛ وما أعظم ذلك!

هنا صفحة التسميع
هنا مسابقتنـــا الثالثة
الحديثُ الرابعُ وَالثلاثونَ
عَنْ أَبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ , وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَانِ)). رواه مسلِمٌ.
الشرح
هذا الحديث حديث عظيمٌ -أيضاً- في بيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهو حديثٌ معلومٌ لديكم بتفاصيل الكلام عليه؛ لأنّه كثر بيانه وبيان ما فيه، لكن نختصر.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)).
((المنكر)): اسم لما عرف في الشريعة قُبحه والنهي عنه، فلا يكون منكراً حتى يكون محرماً في الشريعة، وهنا قال: (من رأى منكم منكراً فليُغيره بيده) وهنا شرْطٌ، وجواب الشرط؛ أما جواب الشرط، فهو الأمر بالتغيير باليدِ، وهذا الأمر على الوجوب -مع القدرة-، وأما فعل الشرط فهو قوله: (من رأى منكم مُنكراً) والفعل (رأى) هو الذي تعلق به الحكم، وهو وجوب الإنكار، و(رأى) هنا بصرية لأنها تعدت إلى مفعول واحد، فحصل لنا بذلك: أن معنى الحديث:
من رأى منكم منكراً بعينه فليغيرهُ بيده، وهذا تقييد لوجوب الإنكار بما إذا رُئى بالعين، وأما العلم بالمنكر فلا يُكتفى به في وجوب الإنكار، كما دل عليه ظاهرُ هذا الحديث.
قال العلماء ظاهرُ الحديث على أنهُ لا يجب حتى يرى بالعين، ويُنزَّل السمع المحقق منزلة الرأي بالعين، فإذا سمع منكراً سَماعاً محققاً، سمع صوت رجل وامرأة في خلوة محرمة سَماعاً محققاً، يعرف بيقين أن هذا محرم، وأنه كلامه إنما هو مع أجنبية وأشباه ذلك؛ فإنه يجب عليه الإنكار لتنزيل السماع المحقق منزلة النظر، كذلك إذا سمع أصوات معازف أو أصوات ملاهي أو أشباه ذلك، بسماع محقق؛ فإنه يجب عليه هنا الإنكار، وأمّا غير ذلك فلا يدخل في الحديث.
فإذا علم بمنكر فإنه هنا لا يدخل في الإنكار، وإنما يدخُل في النصيحة؛ لأنَّ الإنكار عُلِّق بالرؤية في هذا الحديث، وينزّل -كما قال العلماء- السماع -المحقق- فقط منزلة الرؤية.
قال: ((من رأى منكم منكرا)) وفي قوله: (منكراً) يظهر تعليق الأمر بالمنكَر دون الواقع فيه، فالحكم بالأمر بالتغيير باليد، هذا راجع إلى المنكر، أما الواقع في المنكر فهذا له بحثٌ آخر.
قال: ((فليغيره)) يعني: فليغير المنكر، فلا يدخل في الحديث عِقابُ فاعِلُ المنكر؛ لأنَّ فاعِل المنكر تكتنفهُ أبحاث أو أحوال متعددة فقد يكون الواجبُ معه الدعوة بالتي هي أحسن، وقد يكون التنبيه، وقد يكون الحيلولة بينة وبين المنكر والاكتفاء بزجره بكلام ونحوه، وقد يكون بالتعزير، إلى آخر أحوال ذلك المعروفة في كل مقام بحسب ذلك المقام وما جاء فيه من الأحكام.
المقصود: أنَّ الحديث دلَّ بظاهره على تعليق وجوب التغيير باليد بالرُّؤية، وما يقوم مقامها، والثاني بالمنكر نفسهِ، فتُغَيِّر المنكر، مثلاً: رجل أمامه زجاجة خمر، أو أمامه شيء من الملهيات المحرَّمة؛ فإنكار المنكر ليس هو التعنيف للفاعل، وإنما هو تغيير هذا المنكر من الخمر، أو من الملاهي المحرمة، أو من الصور المحرمة، أو أشباه ذلك بتغييره باليد -مع القدرة-، وأما الفاعل له فهذا له حكم آخر.
(2) قال: ((فليغيره بيده)) هنا أوجب التغيير باليد، وهذا مقيدٌ بما إذا كان التغيير باليدِ مقدوراً عليه، وأما إذا كان غير مقدور عليه؛ فإنه لا يجب، ومن أمثلة كونه مقدوراً عليه: أن يكون في بيتك الذي لك الولاية عليه؛ يعني في زوجك وأبنائك وأشباه ذلك، أو في أيتام لك الوِلاية عليهم، أو في مكانٍ أنت مسؤول عنه وأنت الوليُّ عليه، فهذا نوع من أنواع الاقتدار، فيجبُ عليك هنا أن تغيره؛ وإذا لم تغيره بيدك فإنك تأثم، أمَّا إذا كان في ولايةِ غيرك فإنه لا تدخل القدرةُ هنا، أو لا توجدُ القدرةُ عليه؛ لأنَّ المقتدر هو من له الوِلاية، فيكون هنا باب النصيحة لمن هذا تحت ولايته ليغيره من هو تحت ولايته.
والتغييرُ في الشرع ليس بمعنى الإزالة؛ التغيير: اسمُ يشمل الإزالةَ، ويشمل الإنكارَ باللسان بلا إزالة، يعني أن يُقال: هذا حرام، وهذا لا يجوز، ويشمل أيضاً الاعتقاد أنَّ هذا مُنكر ومُحرّم، ولهذا جاء في هذا الحديث بيان هذه المعاني الثلاث.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((فإن لم يستطع)) التغيير بيدهِ (فبلسانه) يعني: فليغيره بلسانه، ومن المعلوم أنَّ اللسان لا يُزِيلُ المنكرَ دائماً؛ بل قد يزولُ معه بحسب اختيار الفاعل للمنكر، وقد لا يزول معه المنكر، تقول مثلاً: -لفلان- هذا حرام، وهذا منكر لا يجوز لك، قد ينتهي وقد لا ينتهي، فإذا أخبرت المكلف الواقع في هذ المنكر- بأنه منكر وحرام فقد غيرت، وإذا سكتَّ فإنك لم تغير، وإن كنت لا تستطيع باللسان؛ فتغيِّره بالقلب تغييراً لازماً لك لا ينفكُّ عنك، ولا تُعْذر بالتخلفِ عنه، وهو اعتقاد أنه منكر ومحرم.
والبراءة من الفعل يعني: بعدم الرضا به؛لهذا جاء في (سنن أبي داود) أنه عليه الصلاةُ والسلام قال: (إذا عُملت الخطيئة كان من غاب عنها وَرَضيها كمن عَمِلَها، وكان من شهدها فلم يفعلها كمن فعلها)وهذا يعني أنَّ الرَاضي بالشيء كفاعله؛ لأن المنكر لا يجوز أن يُقره المرءُ ولو من جهة الرضى، وهذا ظاهر في قوله جل وعلا: {فلا تقعدوا معهم إنكم إذاً مثلهم}، وفي الآية الأخرى: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظلمين} فمن جلسَ في مكانٍ يستهزأ فيه بآيات الله وهو جالس لا يُفارق ذلك المكان فهو في حكم الفاعل من جهة رضاه بذلك؛ لأنَّ الرّاضي بالذنب كفاعله كما قال العلماء.
إذا تبين ذلك فها هنا مسائل تتعلّق بهذا الحديث، وهي:
أن وجوب الإنكار متعلقٌ بالقدرة بالإجماع، ومتعلقٌ بِظن الانتفاع عند كثير من أهل العلم.
قال طائفة من العلماء: إنما يجبُ الإنكار إذا غلب على ظنه أن ينتفع المُنكَر عليه باللسان -فيما لا يدخل تحت ولايته- أما إذا غلب على ظنَّه أنَّهُ لا ينتفع فإنَّه لا يجب الإنكار، وذلك لظاهر قول الله جل وعلا: {فذكر إن نفعت الذكرى} فأوجب التذكير بشرط الانتفاع، وهذا ذهب إليه جماعة من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهُ.
ودلَّ عليه عمل عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- كابن عمر وابن عباس وغيرهما لمَّا دخلوا على الولاة وأُمراء المؤمنين في بيوتهم وكان عندهم بعض المنكرات في مجالسهم فلم يُنْكروها، وذلك لِغَلبةِ الظن أنَّهم لا ينتفعون بذلك؛ لأنَّها من الأمور التي أقروها وسرت فيما بينهم، وهذا خِلاف قول الجمهور.
والجمهورعلى أنه يجبُ مُطلقاً، سواءً غلب على الظن أم لم يغلب على الظن؛ لأنَّ إيجاب الإنكار لحق الله جل وعلا، وهذا لا يدخل فيه غلبةُ الظن.
والقول الثاني: وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -كما ذكرت لكم- وجماعة: من أنَّهُ يجبُ مع غلبة الظن، هذا أَوْجَهُ من جهة نصوص الشريعة؛ لأنَّ أعمال المكلَّفين مبنية على ما يغلبُ على ظنهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه…)) وعدم الاستطاعة هذه تشمل عدة أحوال ويدخل فيها غلبة الظن ألا ينتفع الخصم، مثلاً: إذا قابلت حليقاً للحية أو قابلت امرأة سفرت وجهها ونحو ذلك؛ في بعض الأمكنة نجد حرجاً؛ هل ننكر أم لا ننكر؟ يغلبُ على ظننا في بعض الأحوال أننا لو أنكرنا لما انتفع أولئك بذلك لعلمهم بهذه المسألة؛ فيكتفى هنا بالإنكار بالقلب من جهة الوجوب، ويبقى الاستحباب في أنَّهُ يستحب أن تبقى هذه الشعيرة وأن يفعلها من أراد فعل المستحب.
وكما ذكرت لك هذا خلاف قول الجمهور، لكنهُ يتأيد بمعرفة حال الصحابة -رضوان الله عليهم- من أنّهم إنما أَنكروا ما غلب على ظنهم الانتفاع به، وإلا للزم منه أن يؤثمَّوا بترك كثيرٍ من الواجبات في أحوال كثيرة ومعلومة.
(3) قال في آخره: ((فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)): (فإن لم يستطع فبقلبه): يعني ينكر بقلبه، والإنكار بالقلب معناهُ بغضُ المنكَر وكراهته واعتقاد أنه محرم وأنه منكر.
((وذلك أضعفُ الإيمان)): يعني هذا أقلُّ درجات الإيمان؛ لأنه هو الذي يَجبُ على كلِّ أحد.
(وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبةُ خرْدل)لأن المنكر المجمع عليه إذا لم يعتقد حرمته ولم يبغضه مع اعتقاد حرمته فإنه على خطر عظيم في إيمانه.
هذا الحديث يدخل في بحثه الإنكار على الولاة، والإنكار على عامة الناس، ويدخل -أيضاً- مراتبُ الإنكار، والقواعد التي تحكم ذلك وفروعه كثيرة يطول المَقامُ بذكرها، لكن أنبِّه على مسألةٍ مُهمَّة، ذكرتها عدة مرات:
هي أنَّ هناك فرقاً بين النصيحة والإنكار في الشريعة، وذلك أن الإنكار أضيق من النصيحة، فالنصيحةُ اسم عام يشمل أشياء كثيرة -كما مر معنا في حديث (الدين النصيحة) ومنها الإنكار.
فالإنكار حالٌ من أحوال النصيحة، ولهذا كان مقيداً بقيود، وله ضوابطهُ، فمِن ضوابطه: أنَّ الإنكار الأصل فيه أن يكون عَلناً لقوله: (من رأى منكم منكراً فليغيرهُ بيده فإن لم يستطع فبلسانه) وهذا بشرط رؤية المنكر.
وهنا ندخلُ في بحث مسألة بحثناها مِراراً وهي أنَّ الولاة ينكر عليهم إذا فعلوا المنكر بأنفسهم، ورآه من فعل أمَامه ذلك الشيء، وعلى هذا يحمل هَدْي السَّلف في ذلك وكل الأحاديث التي جاءت -وهي كثيرة أكثر من عشرة أو اثني عشر حديثاً- في هذا الباب؛ فيها إنكار طائفة من السَّلف على الأمير أو على الوالي، كلها على هذا الضابط، وهو أنَّهم أنكروا شيئاً رأوه من الأمير أمامَهم، ولم يَكُن هدْي السَّلف أن يُنكروا على الوالي شيئاً أجراهُ في وِلايته، ولهذا لمّا حصَل من عثمان -رضي الله عنه- بعض الاجتهادات، وقيل لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: ألا تنصَح لعثمان! ألا ترى إلى ما فَعل! قال: (أما إني بذلتُه له سِراً؛ لا أكونُ فاتِحَ باب فتنة) ففرَّق السّلف في المنكر الذي يُفعل أمام الناس، كحال الأمير الذي قدَّم خُطبتي العيد على الصلاة وكالذي أتى للناس وقد لبسَ ثوبين وأحوال كثيرة في هذا، فرقوا بين حصول المنكر منه أمام الناس علناً وبين ما يُجريه في ولايته، فجعلوا ما يُجريه في ولايته باباً من أبواب النصِيحة، وما يفعَلهُ عَلناً يأتي هذا الحديث (فمن رأى منكم منكراً فليغيره بيده..) مع الحكمة في ذلك، لهذا قال رجلٌ لابن عباس -رضي الله عنهما-: (ألا آتي الأمير فآمرهُ وأنْهاهُ؟ قال: لا تفعل، فإن كان ففيما بينك وبينه، قال: أرأيت إن أمرني بمعصية قال: أمَّا إن كان ذاك فعليك إذاً) فدلَّ هذا على أنَّ الأمر والنهي المتعلق بالوالي إنَّما يكون فيما بين المرْء وبينه فيما يكون في ولايته؛ وأمّا إذا كان يفعلُ الشيء أمام الناس فإنَّ هذا يجبُ أنَّ ينكره من رآه بحسب القدرة وبحسب القواعد التي تحكم ذلك.
إذا تقرر هذا فثمَّ مسألة متصلة بهذه، وهي أن قاعدة الإنكار مبنيَّةٌ على قاعدةٍ أُخرى ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: وهي أنه لا يجوز إنكار منكر حتى تتيقن أنَّهُ لن ينتقل المنكَرُ عليه إلى منكرٍ أشد منه.
قال شيخ الإسلام: (ومن أنكر ظانًّا أنَّهُ ينتقل إلى منكر أشد منه فإنه يأثم حتى يتيقن أن إنكارهُ سينقل المنكرُ عليه إلى ما هو أفضل).
وقد قال بعضُ أهل العلم: (إنّ هذا مُجْمعٌ عليه).
ومثَّل لهذا ابن القيم بمسائل كثيرة في كتابه (إعلام الموقعين) فقال مثلاً: (لو أتيت إلى أُناسٍ يلعبون لَعِباً محرماً، أو يشتغلون بكُتب مُجون فإن أنكرت عليهم ذلك فإنه يكتنفهُ أحوال:
الأول: أن ينتقلوا من هذا المنكر إلى ما هو أنكرُ منهُ، فهذا حرامٌ بالإجماع يعني يخرج من لَهْوه بالكتب إلى الاتصال بالنساء مباشرة، أو إلى رؤية النساء مباشرة، أو ما أشبه ذلك؛ فهذا منكر أشد منه، فبقاؤهُ على المنكر الأول أقل خطراً في الشريعة من انتقالهِ إلى المنكر الثاني.
الحالة الثانية: أن ينتقل إلى ما هو خيرٌ ودين، فهذا هو الذي يجبُ معه الإنكار.
والثالث: أن ينتقل منه إلى منكرٍ يساويه، فهذا محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل منه إلى منكرٍ آخر.
ذكرنا أربعة: منكر أشد منه، ومنكر آخر، ومنكر مساويه، وإلى خير، هذه أربعة أقسام.
فتحصَّل منه: أنَّ ثم حالتين يَحرمُ فيها الإنكار وهي: إذا انتقل من منكر إلى منكر آخر غير مساوي، يعني: أنت ما تدري أنه مساو؛ وإلى منكر أشدُّ منه بيقينك، فهذه حرام بالإجماع، والثالث: أن ينتقل إلى منكر مساوي، فهذا فيه محل اجتهاد، والرابع: أنَّ ينتقل إلى خير، وهذا يجب معه الإنكار.
وذكر قصَّة عن شيخ الإسلام ابن تيمية؛ أنَّهُ مرَّ وطائفة من أصحابه على قوم من التَّتر يلعبون بالشطرنج ويشربون الخمر في شارع من شوارع دمشق علنا، فقال أحد أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ألا ننكر على هؤلاء؟ فقال شيخ الإسلام: (دعْهُم فإنّ انشغالهم بذلك أهون من أن يعيثوا في المسلمين أو أن يعتدوا عليهم) وهذا من الفقه العظيم؛ لأنَّ هذا منكر ومحرم، لكنه قاصِر، والإنكار عليهم قد يكون معه أن ينتقلوا إلى منكرٍ متعد على بعض المسلمين، ومعلومٌ أنّ المنكر القاصر أهون من المنكر المتعدي.
هذه بعض المباحث التي يحسن ذكرها عند هذا الحديث.
الصفحة الأخيرة
الحديث الثلاثون
حقوق الله
عَن أَبي ثَعْلبةَ الْخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ ناشرٍ- رَضِي اللهُ عَنْهُ- عَن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إنَّ اللهَ تَعَالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْها)). حديثٌ حسنٌ رواه
الدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُه.
الشرح :
هذا الحديث أيضاً من الأحاديث الأصول العظيمة: عن أبي ثعلبة الخُشني (جُرثوم بن ناشر)، وجُرْثوم وجُرثومة معناها: الأصل الذي يُرجعُ إليه فـ(جرثوم) اسم له دِلالتهُ القوية في اللغة يعني: هو أصْلٌ لغيره.
و(الجُرْثومة) هي الأصل، وليست كلمة ذم، وإنمّا هي في اللغة: ما يدل على أنه أصلٌ لغيره.
قال جُرثوم بن ناشر -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تعالى فرض فرائض فلا تُضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها…)) الحديث.
قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها)) يُعنى هنا بالفرائض: ما جاء إيجابه في القرآن.
قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها))، ((فرضَ))يعني: أوجب واجبات فلا تُضيِّعوها، ومن المعلوم أنَّ كلمة (فرض) في القرآن قليلة، والفرض قليل في الكتاب والسنة، وما دلَّ القرآن على وجوبه فهو فرْض، فقوله عليه الصلاة السلام هنا: ((إنَّ الله فرض فرائض فلا تُضيعوها)) يعني ما أوجبه الله -جل وعلا- في القرآن، فما ثبت في القرآن وجوبُه فيسمى فرضاً بهذا الحديث.
ولهذا ذهب جماعةٌ من أهل العلم، منهم الأمام أحمد: على أنَّ الفرض أعظم من الواجب من جهة أن ما أوجب الله -جل وعلا- يُقال له: (فرض)، وما دلت السُّنة على وجوبه يُقال له: (واجب) إلا إذا أتى بصيغة الفرض، ففرَّق أحمد وجماعة من أهل العلم بين الفرض والواجب من جهة الدليل لا من جهة المرتبة، فهما من حيث الحكم التكليفي واحد، حكمهما: الوجوب.
- (الفرض) واجب. و(الواجب) فرض.
لكن ما كان من جهة الدليل من القرآن سمِّي (فرضاً).
وما كان من جهة الدليل من السنة سمِّي (واجباً).
وقال بعض أهل العلم: إنّ الفرض أرْفعُ درجة من الواجب، وهو المعروف من مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- فإنَّ (الفرض) عنده: ما ثبت بدليل قطعي، و(الواجب): ما ثبت بدليل غير قطعي، فحصل عنده أنه فرَّق بين الفرض والواجب من جهة الدليل عليه، ومن جهة مرتبته، فالفرض عنده أرفع من الواجب.
وقال طائفة من أهل العلم -وهو قول الجمهور-: إنّ الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة:
- فيُقال: الصلوات الخمس فرائض، ويُقال: هي واجبة.
- ويُقال: صوم رمضان واجب، ويُقال: فرض.
- ويقال: الحج واجب وفرض.
- ويقال: بر الوالدين واجب وفرض.
وهكذا على هذا القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأنَّ الفرائض والواجبات معناهما واحد.
فالفرض معناه الواجب ولهذا نقول إنّ قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إنَّ الله تعالى فرض فرائض فلا تُضيعوها)) يعني: ما أوجبه الله -جل وعلا- في القرآن فنهى -عليه الصلاة والسلام- عن تضييعه، وما أمر به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل، وهو بدليل قول الله -جلّ وعلا-: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
- وبقوله -جلّ وعلا-: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم تُرحمون} والآيات كثيرة في هذا الباب.
- وبقوله -عليه الصلاة والسلام-((إلا وإني أوتيت الكتاب ومثلهُ معه))إلى أن قال: ((ألا وإنَّ ما حرَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله))الحديث المعروف؛ حديث تحريم الحمر الأهلية في خيبر.
المقصود أنَّ قوله: (فلا تضيعوها) يعني امتثلوا وأدّوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإنَّ الله ما فرضها إلا لتُمتثل، وهذا يدل على أنّ من ضيع أَثَم، لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة: (أنَّ ترك الواجب مُحرم).
(2) قال: ((وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها)) هذا اللفظ: ((حدّ حدوداً فلا تعتدوها))يدخُل فيه البحث من جهاتٍ كثيرة، لكن ألخصُ لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسُّنة التي جاء فيها لفظ الحدّ والحدود.
وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:
الأول: أن يُؤتى بلفظ الحدود بإطلاق يعني بلا أمر أو نهيٍ بعدها، كقوله تعالى في سورة النساء: {تلك حُدود الله ومن يطع الله ورسوله}.
الثاني: تأتي ويكون بعدها النهي عن الاعتداء كقوله -جل وعلا-: {وتلك حُدود الله ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه}، وكقوله: {تلك حُدودُ الله فلا تَعتدوها}.
والثالث: أن يكون بعد ذكر الحُدود النهي عن المُقاربة: {فلا تقربوها} كقوله في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف {تلك حُدود الله فلا تقربوها} فهذه ثلاثة أنواع في القرآن.
وفي السنة أتى الحد أيضا، ويُرادُ به:
- العُقوبات المقدَّرة.
- أو: يُرادُ به الذنوب التي عليها عقوبات، يعني: المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يُعاقب.
إذا تقرَّر ذلك فنرجعُ إلى تأصيل هذا في أنّ الحدود لفظ استعمل في الكتاب والسنة واستعمل في كلام الفقهاء، وكلامي السالف في التقسيم إلى الأنواع، هذا إنمَّا هو لنصوص الكتاب والسنة، وأمَّا التعبير بالحدود في كتب أهل العلم وأهل الفقه فهذا استعمال اصطلاحي ليس هو استعمال (الحدود) في نصوص الكتاب والسنة.
فإذا ذكر الحدود بلا كلمة بعدها يعني نهي عن الاعتداء، أو ذكر بعدها النهي عن الاعتداء؛ فإنّ المُراد بالحدود هنا الفرائض أو ما أُذنَ به، فما أذن به فرضاً كان أو مستحبّاً أو مُباحاً فالحدود هنا يُرادُ بها هذه الأشياء، ولهذا جاء بعدها {فلا تعتدوها} فالذي يخرج من دائرة المأذون به إلى خارجٍ عن المأذون به فقد تَعدى الحد، وقد خَرج عنْهُ، وهذا الحد هو حد المأذونِ به؛ فهذا نوع، {تلك حُدود الله} جاءت بعد بيان ما فرض الله -جل وعلا- في التركات {يوصيكمُ الله في أولادكُم..} الآيات في سورة النساء لما أتمها في آيتين قال: {تلك حُدود الله ومن يطع الله ورسوله..} يعني هذا ما أمر الله -جل وعلا- به وشرعه، وهذا معناه أن هذه حُدود المأمور، ولهذا عقَّبها بالطاعة قال: {ومن يطع الله ورسوله}، {وتلك حُدود الله ومن يتعد حُدود الله فقد ظلم نفسه}، هذه الحدود هي ما أُذن به وأمر به هذا هو النوع الأول، فالحدود هنا ليست هي المُحرمات، الحدود هي: ما أُذن به يدخل فيها الواجبات والمستحبات والمباحات.
الحُدود بالمعنى الثاني: -إذا جُعلت للمُحرمات- فلها ضابطان:
- الأول: أن يكون بعدها{فلا تقربوها}
- وأن يكون بعدها أو معها ذكر عقوبة، وهذا يعني أنّ الحدود هنا هي المُحرمات، لهذا ناسب أن يكون معها النهي عن الاقتراب؛ {تلك حُدود الله فلا تقربوها} يعني المحرمات لا تُقرب.
ولأجل هذا النوع قيل في العُقوبات التي شُرعت تطهيراً لمن انتهك المُحرمات قيل لها حُدوداً من قبيل رؤية هذا النوع دون غيره، وهذا شائع كثير في اللغة وفي الشريعة.
فإذاً العقوبات التي شُرعت لمن ارتكب محرمّاً فقارب أو انتهك حدود الله قيل للعقوبة: (حد) لأنه دَخل في الحد، وقيل لها: (حُدوداً) لأنه اقتحم الحُدود.
وأمّا النوع الثالث: وهو العُقوبات التي جاءت في بعض الأحاديث، فهذه المراد منها ما جُعل في الشرع له عِقاب بعينه، فَيُقال: حد السرقة، حدُّ الخمر.. إلى أخره.
كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله)).
((في حد من حدود الله)): يعني إلا في معصيةٍ جاءت الشريعةُ بالعُقوبة فيها، ويدخل في هذا الحدود والتعزيرات عند الفقهاء.
فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا القسم الثالث: ((لا يُجلد فوق عشرة أسواط)) يعني: تأديباً، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يُؤدب من أُبيح له تأديبه فوق عشرة أسواط (إلا في حد من حُدود الله) يعني: إلا في عُقوبة جاء الشرع بها، إما أن تكون حداً على اصطلاح الفقهاء أو أن تكون تعزيراً.
وهذا بحث طويل في كتاب الحدود ومعرفة الحدود والتعزيرات في الفقه لكن ضبطت لك هذا على نحو ما ذكرت لك من التبسيط ليجتمع لك شمل ما أراد به الفقهاء اصطلاحهم الحدود وما جاء في النصوص بكلمة الحدود.
إذا تَقررت هذه القاعدة وهذا التحقيق في فهم هذه الكلمة التي أشكلت على كثير من العلماء، ولعدم فهمها ذهبوا إلى مذاهب شتى.
قال عليه الصلاة والسلام ((وحدّ حُدوداً فلا تعتدوها)) هنا الحُدود على ما ذكرنا هي ما أُذن به؛ الواجبات والمستحبات وما أشبه ذلك لهذا قال: ((فلا تعتدوها))يعني لا تعتدِ ما أُذن لك فكن في دائرة الواجب والمستحب والمباح ولا تنتقل منه إلى غيره:
فالأول: ((فرض فرائض فلا تضيعوها))يعني: امتثِل الفرائض، أد الواجبات.
والثاني: كُن في دائرة المستحب والمباح ولا تتعدَّهُ إلى غيره.
ثم قال: ((وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها)) وهذا من العطف المغاير لأن التحريم غير تعدي الحُدود كما ذكرنا لك من بيان فهم نصوص الكتاب والسنة في هذه المسألة المهمة، فما حرّم الله -جل وعلا- نهانا -عليه الصلاة والسلام- أن ننتهكه والتعبير بالانتهاك أيضاً يُفيد الاعتداء وعدم المُبالاة مِمَّن انتهك المُحرمات وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((حرّم أشياء))يُفيد أن هذه الأشياء المُحرمة قليلة، ولهذا تجد أن أصول المُحرمات في الأطعمة قليلة: {قُل لا أجِدُ فيما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً..} إلى آخر الآية، أو المُحرمات بعامّة: {قُل تعالوا أتل ما حَرم رَبّكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً} الآيات المعروفة بالوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، أو المحرمات في اللباس فهي محدودة بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء، أو محرّمات في الأشربة فهي أيضاً محددة أو محرّمات في المنازل فهي محددة أو مُحرمات في المراكب فهي محدودة، لهذا؛ المحرمات أشياء قليلة بالنسبة لغير المُحرمات لأنَّ دائرة المباح -ولله الحمد- أوسع لهذا قال: ((وحرّم أشياء)) هذه الأشياء قليلة فعجيب أن تُنتهك فقال: ((فلا تنتهكوها)) فيكون هذا المنتهك لهذه الحرمات ينتهك هذا القليل ويُغرى بهذا القليل ولهذا لم يحرم الشرع شيئاً فيه لابن آدم منفعة -في حياته- حاجية أو تحسينية أو ضرورية؛ بل كل المحرمات يمكنه الاستغناء عنها ولا تُؤثر عليه في حياته، فما حرّم الله -جل وعلا- أو حرّمه رسوله صلى الله عليه وسلم من أشياء فإنه لا حاجة لابن آدم إليها في إقامة حياته أو التلذُّذ بحياته فالمباحات والمستحبات يمكنه أن يتلذّذ فيها بأشياء كثيرة تُغنيه عن الحرام.
قال: ((وسكتَ عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) وهذا السُّكوت الذي وُصِفَ الله -جل وعلا- به ليس هو السُّكوت المقابل للكلام يقال تكلم وسكت، وإنمَّا هذا سكوتٌ يُقابَلُ به إظهار الحكم فالله -جل وعلا- سكت عن التحريم بمعنى لم يحرم، لم يُظهر لنا أنّ هذا حرام، فالسكوت هنا من قبيل الحُكم، سكوت عن الحكم وليس سكوتاً عن الكلام، فغلط على هذا من قال: إن هذه الكلمة يستدل بها على إثبات صفة السُّكوت لله -جل وعلا- وهذا مما لم يأتِ في نصوص السلف في الصفات.
وهذا الحديث وأمثاله لا يدل على أنّ السكوت صفة؛ لأنّ السُّكوت قسمان: سُكوتٌ عن الكلام وهذا لا يوصَفُ الله -جل وعلا- به، بل يوصفُ الله سبحانه وتعالى بأنهُ: متكلم ويتكلم كيف شاء إذا شاء متى شاء، وأمَّا صفة السُّكوت عن الكلام فهذه لم تأتِ في الكتاب ولا في السنة فنقف على ما أوقفنا الشارع عليه فلا نتعدى ذلك.
والقسم الثاني من السكوت: السكوت عن إظهار الحكم أو عن إظهار الخبر وأشباه ذلك، فلو فُرِض -مثلاً-: أنا أمامكم الآن وأتكلم باسترسال، سكتُ عن أشياء وأنا مسترسِل في الكلام بمعنى: أني لم أظهر لكم أشياء أعلمها تتعلق بالأحاديث التي نشرحها، وسكوتي في أثناء الشرح عن أشياء لم أظهرها لكم أُوصَفُ فيه بالسكوت فتقول مثلاً: فلان سكت في شرحه عن أشياء كثيرة لم يُبدها لأجل أنّ المقام لا يتسعُ لها مع أني متواصلُ الكلام، والله -جل وعلا- له المثل الأعلى فنصفُه بما وصَف به نفسه أو وصفَهُ به رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا نتجاوز القرآن والحديث، فنصفه بالكلام ولا نصفه بالسكوت الذي هو يقابل به الكلام، وإنما يجوز أن تقول إن الله -جل وعلا- سكت عن أشياء بمعنى لم يُظهر لنا حكمها إذا تقرَّر هذا من جهة البحث العَقدي فنرجعُ إلى قوله: ((سكت عن أشياء)) يدل أن هذه الأشياء قليلة،((رحمة لكم غير نسيان)) السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا رحمة لا نسيان والله -جل وعلا- ليس بنسي كما قال سبحانه: {وما كان رَبُّكَ نسيا}، {في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} فالله سبحانه ليس بذي نسيان بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى وجل وتقدس ربنا، فإذاً هناك أشياء لم يُبين لنا حكمها فالسكوتُ عنها رحمة غير نسيان، أمرنا عليه الصلاة والسلام ألا نبحث عنها فقال: ((فلا تبحثوا عنها)).
إذا تقرّر هذا فالأشياء المسكوت عنها أنواع:
النوع الأول: ما لم يأتِ التنصيصُ عليه من المسائل لكنها داخلةٌ في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه، فهذا النوع ممّا دلت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أُصول الفقه فهذا لا يُقال عنه إنَّه مسكوتٌ عنه لأنَّ الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها الكتاب والسنة بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال إنه مسكوت عنه ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص ففهموا منها الحكم أو في الإطلاق أو في المفهوم وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.
النوع الثاني: أشياء مسكوتٌ عنها لكن داخلة ضِمْن الأقيسة يعني يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس إذا كانت العِلة واضحة، إذا اجتمعت فيها الشروط وكانت منصوصاً عليها فإذا كان القياس صحيحاً فإنّ المسألة لا تعدُّ مسكوتاً عنها.
الحاله الثالثه: أن تكون المسألة مسكوتاً عنها بمعنى أنَّه لا يظْهر إدخالها ضِمْن دليلٍ فكانت في عهده -عليه الصلاة والسلام- ولم يُنصَّ على حكمها ولم تدخُل ضِمن دليل عام فسُكِت عنها فهذا يدل على الإباحة لأنَّ الإيجابَ أو التحريم نقْل عن الأصل فالأصل ألاّ تكليف ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل فلا بد للوجوب من دليل ولا بد للتحريم من دليل فما سُكِت عنه فلا نعلمُ له دليلاً من النص من الكتاب والسنة ولا يدخل في العمومات وليس له قياس فهذا يدل على أنّهُ ليس بواجب ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام- على من سأله عن الحج فقال الرجل: يا رسول الله أفي كلِّ عام؛ هذه مسألة مسكوت عنها وتوجه الخطاب للرَّجُل بألاَّ يبحث عن هذا، فسُكت عن وجوب الحج؛ هل يتكررّ أم لا يتكرر والأصل أنه يحصلُ الامتثال بفعله مرة واحدة فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لو قلتُ نعم لوجبت؛ ذروني ما تركتكم))يعني إذا تركتُ البيان فاسكتوا عن ذلك.
قد ثبت في(صحيح مسلم)أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((إنّ أشد المسلمين في المسلمين جُرْماً رجل سأَل عن شيء فحرِّمُ لأجل مسألته)) فقد قال -جل وعلا-: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكمُ وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها}.
فإذاً هذا النوع ممَّا سُكِت عنه فلا يسوغُ لنا أن نبحث ونتكلف الدليل عليه، تلحظ أحياناً من بعض الأدلة التي يُقيمها بعض أهل العلم أنَّ فيها تكلفاً للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخلُ فيها بوضوح فإنها تبقى على الأصل: ((وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)). وهذا من رحمة الله -جل وعلا- بعباده.
أسأل الله الكريم بأسمائه وصفاته العلى أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يثبت العلم في قلوبنا ويرزقنا زكاته والعمل به وتعليمه والإحسان في ذلك كله