سراب
سراب
مات قلبي البارحة .. كنت وحيدا في منزلي عندما استيقظت على أنين هامس .. ودموع صامتة .. تفقدت المكان .. تفقدت الزمان .. لا شيء سوى الأنين .. لا شيء سوى الدموع .. مات قلبي البارحة .. كنت محاطا بالأصدقاء و الأحباب عندما شعرت بجثة تسقط داخلي .. هرعت اليها .. أنجدها .. اساعدها .. وجدت قلبي في رمقه الأخير يقول لي : ساعد نفسك يا صديقي .. حتى تساعدني ..!! مات قلبي البارحة .. كنت أقف على الشرفة .. تحت الظلام .. فوق الغيوم .. بين الهموم .. سمعت أنينا يبرق بين السحب .. قلت : ستمطر .. قال قلبي : انه انين الفراق يا صديقي .. قلت : ستمطر حتما قال قلبي : انه لحن الوداع يا رفيقي .. قلت : انها ستمطر لا محالة .. قال قلبي : انها مواكب الموت يا عزيزي .. مددت يدي الى السماء أبحث عن نقطة مطر .. وجدت نقطة ساخنة تهوى على أصابعي .. تحرقها .. تسحقها .. وصوت يشق عنان الظلام : وداعا .. يا قاتلي ..
مات قلبي البارحة .. كنت وحيدا في منزلي عندما استيقظت على أنين هامس .. ودموع صامتة .. تفقدت...
صباح جميل .. أو هكذا أحسسته .. كل شيء عادي من حولي وأنا ألتهم بسيارتي الطريق السريع لأصل إلى عملي .. أعبث بمؤشر الراديو لعل هناك صوتا ينعش صباحي .. سيارتي تشق الريح وهي تصعد فوق الجسر .. لا زلت أعبث بالمؤشر ..
وفجأة .. اضطرب كل شيء أمامي .. الصورة تهتز بشدة .. كل ما حولي يتأرجح .. سيارتي تحولت فجأة إلى طائرة .. هكذا أحسستها .. لا شيء تحتي سوى الهواء و الفراغ و الهلع ..
هل كانت ثوان ..؟
بل دقائق هزت الأرض هزا .. كنت وصلت إلى نهاية الجسر لأدفع بقدمي بشدة نحو كابح السيارة لأرى ما الذي حدث ..؟
هل إختل توازن السيارة و أنا أعبث بالمؤشر ..؟
هل إختل توازني أنا شخصيا عندما ملت نحو المذياع ..؟
أم انفجر إطار السيارة بسبب سرعتي التي تجاوزت المسموح ..؟
خرجت من السيارة و أنا أدور حول نفسي ..؟
هناك شيء لا زال يتخبطني .. ارتميت على سيارتي أحتضنها .. لعلي أحتفظ بالبقية الباقية من توازني ..
ألتقط أنفاسي .. ألتقط ذاتي .. ألتقط أي شيء حولي لأعرف ماذا حدث ..
أدور ببصري حول المكان .. لا شيء سوى الغبار .. لا شيء سوى الصراخ .. لا شيء سوى الركام .. سيارات فجأة أصبحت فوق بعضها البعض .. الجسر من حولي تلاشى سوى بقية باقية وقفت عندها عشرات السيارات لا تتجاوزها ..
انهار كل شيء من حولي .. ذاك المبنى الضخم هو الآن مجرد كومة من الحديد و الإسمنت .. معالم الطريق اختفت .. ومعالم مدينتي التي أعرفها ضاعت .. الجسور من حولي مالت بنفسها وعشرات السيارات و البشر يتراكضون في كل اتجاه ..
فجأة تتصاعد أصوات سيارات الإسعاف .. بل المطافئ .. بل النجدة .. أصوات تشق غبار الصباح الدامي ..
الأنين في كل مكان .. هل أستطيع أن أتحرك للمساعدة ..؟
انه زلزال مدمر .. هكذا يبدو .. أتحرك في كل اتجاه .. أنين في كل شبر .. و عيني لا تخطيء جثثا تكومت في سيارات انقلبت بفعل السرعة والهزة .. أركض بسرعة أبحث عن شيء لا أعرفه .. لا أرى بشرا .. لا أرى سوى الركام والدماء و الأشلاء .. الطريق أمامي تحول فجأة إلى مقبرة ضخمة نبشت قبورها و الجثث في كل مكان .. قدماي توشك على خيانتي .. أواصل الركض .. لا أرى طريقي .. لا أرى مستقبلي .. لا أرى يومي .. لا أرى شيئا من اللحظة القادمة .. فقدت أثر الاتجاهات .. و تساوت الدروب المحترقة تحت ناظري ..
يطوقني الصراخ .. يطوقني الأنين .. يطوقني زلزال احتل يومي و ابتلع غدي ..
يارب .. ما العمل .. ؟
لم يعد لي عمل هذا الصباح ..
وتركت ورائي بيتا لا أعلم ألا زال قائما أم أنه غفا فوق صغاري ..
ولكن .. أنا بخير .. أو هكذا أظن ..
لا زلت أحرّك يدي ..
لا زلت أحرك عيني ..
ولازال بين جوانحي قلب ينبض ..
لم أصب .. لم يجرحني الزلزال .. ولكن .. طعنني في مقتل ..
مدينتنا ساحلية جميلة .. لا تاريخ لها مع الزلازل .. ولم تحفظ كتب الأيام أي حكاية لها مع هزات ولو خفيفة ..
ماذا حدث اليوم ..؟
هل غدرت بنا كتب التاريخ ..؟
أم غدر بنا حزام صخري في باطن البحر ..؟
أم إندس بين جبالنا السمراء جبل بركاني شرخ قشرة أرضنا فزلزل كياننا و قلوبنا ..؟
وأين أنت يا ريختر لتأتي بمقياسك العجيب وتقيس مقدار فاجعتنا و ألمنا و رعبنا و خوفنا ..؟
أين أنت يا هذا و أين " ترمومترك " ليقس أوجاعنا و مقدار الشرخ الذي حصل في نفوسنا و بيوتنا ..؟
هل أبقى هنا أندب حظي و مدينتي .. لا ..لا ..
أركض من جديد على غير هدى .. أركض فوق الريح .. فوق الركام .. فوق الألم ..
وأقف فجأة .. تصطدم قدمي بأمواج متلاطمة .. لقد وصلت البحر .. انه يصرخ .. يزأر .. يتلون بكل الألوان القاتمة .. لقد ماتت زرقته .. ومات هدوءه .. وهاأنا محاصر بين زلزال قاتل وبحر ثائر ..
الموج يزحف نحو الطرقات .. يبتلع كل ما حوله .. انه يتسلل إلى مدينتي الحبيبة .. يطوقها .. يلتهمها .. ولا أملك سوى الركض من جديد ..
إلى أين الهروب ..؟
أرفع رأسي فجأة ..
انه مبنى ضخم يتمايل للحظات ..
يدك الأرض دكا .. يوشك أن يخر صريعا فوق جسدي .. لا .. لا .. لا .. وأصرخ بأعلى صوتي : لا ..
وأهب من مكاني لأواصل الهروب .. ولكن ..
أي هروب ..
أنا هنا في غرفتي ..
صوت التلفاز يسبح في المكان ..
أضع يدي على قلبي .. انه يدق بعنف .. بل بقسوة ..
أين الزلزال ..؟
أتأمل مكاني من جديد .. كل شيء كما هو وبنفس الملل القديم ..
نعم .. إنها تلك الصحيفة التي كنت أقرأها قبل غفوتي هذه ..
لقد هزني ذاك " المانشيت " الغريب :
" جدة ليست بمعزل عن الزلازل "
يا الله .. ارحم عبادك ..
دموع تبتســم
دموع تبتســم
مات قلبي البارحة .. كنت وحيدا في منزلي عندما استيقظت على أنين هامس .. ودموع صامتة .. تفقدت المكان .. تفقدت الزمان .. لا شيء سوى الأنين .. لا شيء سوى الدموع .. مات قلبي البارحة .. كنت محاطا بالأصدقاء و الأحباب عندما شعرت بجثة تسقط داخلي .. هرعت اليها .. أنجدها .. اساعدها .. وجدت قلبي في رمقه الأخير يقول لي : ساعد نفسك يا صديقي .. حتى تساعدني ..!! مات قلبي البارحة .. كنت أقف على الشرفة .. تحت الظلام .. فوق الغيوم .. بين الهموم .. سمعت أنينا يبرق بين السحب .. قلت : ستمطر .. قال قلبي : انه انين الفراق يا صديقي .. قلت : ستمطر حتما قال قلبي : انه لحن الوداع يا رفيقي .. قلت : انها ستمطر لا محالة .. قال قلبي : انها مواكب الموت يا عزيزي .. مددت يدي الى السماء أبحث عن نقطة مطر .. وجدت نقطة ساخنة تهوى على أصابعي .. تحرقها .. تسحقها .. وصوت يشق عنان الظلام : وداعا .. يا قاتلي ..
مات قلبي البارحة .. كنت وحيدا في منزلي عندما استيقظت على أنين هامس .. ودموع صامتة .. تفقدت...
كان يجب ان اتوقف هنا ..

واهنيك .. على الفكره الرائعه والاسلوب الجميل ..


كم اشعر بالحزن .. بعد قرأتها ..


تحياتي لك..


دمـــــــــــوع .. :44:
دموع تبتســم
دموع تبتســم
يا ساعي البريد توقف .. أفرغ حقيبتك عند أول حاوية .. قدم استقالتك .. فما عاد العشاق ينتظرونك عند المفارق .. ولا عاد الأحباب يترقبونك على النوافذ .. ولا عاد المتيمون يترصدونك عند المعابر .. يا ساعي البريد .. ولى زمانك .. وولى عهدك .. وولى يومك .. الم تسمع بالإيميل ؟ رسائل تقتحم مخدعك في غفلة منك .. رسائل تشغلك .. تشاغلك .. تناورك .. تداعبك .. تحاربك .. تسرقك .. تراودك .. تعبث بقلبك .. بعينيك .. بجيبك .. بفكرك .. بأحلامك .. بأوهامك .. بغرائزك .. بكل شيء فيك قابل للسرقة .. رسائل تحاصرك .. لم يأت بها ساع مثلك .. و لم يبعث يها عاشق مثلي .. ولكن قذفت بها مصالح و أوهام .. يا ساعي البريد .. احفر قبرك .. فما عادت حقيبتك الفارهة تكفي لهذه الرسائل التي يزدحم بها بريدي كل لحظة ..وما عادت أقدامك قادرة على عبور هذه المحيطات التي تعبرها سطوري و أفكاري .. فتوقف يا صاحبي عن عبور الأزقة و الأرصفة .. فشبابيك العشاق لم تعد تفتح الا على غرف ( الشات ) .. و أنامل العشاق لم تعد تعانق سوى ( كيبورد ) ينبض بكل اللغات و يعزف كل النغمات .. و رسائل العشاق لم تعد تكتب على ضوء القمر .. ولا تحت سلالم الدرج .. بل على شاشة تسطع بكل لون وجهاز يحوي سراديب الدنيا و دهاليزها .. فلم يعد أمامك يا صديقي سوى ان تبعث الى نفسك برسائل عزاء ومواساة على ماض جميل .. لن يعود ..
يا ساعي البريد توقف .. أفرغ حقيبتك عند أول حاوية .. قدم استقالتك .. فما عاد العشاق ينتظرونك...
للأسف .. اننا لم نعش زمن ساعي البريد ... وقتها كان لكل شي طعم مختلف الحب الانتظار الاخلاص ..

تحياتي ...


دمــــــــــــــوع :44:
دموع تبتســم
دموع تبتســم
أضواء باهرة تصطدم بعيني .. وجوه تركض هنا و هنا .. أين المشرط .. أين المخدّر ؟؟ أين الكمّامة ؟ أين الأوكسجين .. أطباء و ممرضات يتدافعون هنا و هناك و بعضهم يتحلق حولي أنا المسجّى في غرفة العمليات .. ممرضة تهمس لي بصوت يتصنع الثبات : لا تخف .. إنها عملية بسيطة جدا .. لا تفكر فيما حولك .. حاول أن تتذكر أحلى أيام عمرك .. قلت لها بهدوء : ماذا ستفعلون ؟؟ قالت : سيقومون بتغيير عدة صمامات في قلبك ..!! قلت : هل سيفتحون قلبي ؟ قالت بدهشة : طبعا .. قلت : و أين أخبئها الآن ؟؟ أين أبعدها عن العيون ؟؟ قالت : من هي ؟؟ قلت : أين الطبيب .؟ نادت عليه فيما هو يرتدي القفازات الطبية .. قال وهو يتصنع ابتسامة غطتها سحب القلق : خيراً عزيزي .. ؟؟ قلت : أنت ستفتح قلبي .. ستتجول بين أروقته .. ستطأ أرضه و تقتحم جدرانه و غرفه .. أدخل بصمت أيها الطبيب .. لا تفزعها بمشارطك و أسلحتك .. لا تزعجها بطنين أدواتك .. لا تؤلمها بوخز سيوفك و عتادك .. ستجدها هناك .. وحيدة .. يتيمة .. سامحها أيها الطبيب .. لقد عبثت هذه الصبية بقلبي .. أحالته إلى ساحة معركة .. إلى أشلاء ممزقة .. أتظن أنك ستجد قلباً ؟؟ لا .. لا يا طبيبي .. بل ستجد بقايا قلب .. ستجد بقايا عمر .. ستجد بقايا إنسان .. لقد مَارَسَتْ شتى صنوف العنف و العدوان على هذا الخافق الضعيف بين الحنايا ..ولكن .. لم أنهرها .. لم أعاتبها .. سبحان الله .. أيعاتب المرء ذاك الهواء الذي يتنفسه ؟ أيعاتب الإنسان ذاك الليل الذي يغفو على نافذته كلما داهمته الهموم ؟؟ أتركها يا طبيبي بين أن أنقاض قلبي .. دعها تعبث كما تريد ..دعها ترسم خريطة حياتها هنا .. قل لها أن النقش على القلب أحلى و أجمل من الكتابة على الأوراق أو صفحات الماء ..و قل لها أن تلك الصمامات التي دمرتها هي أحلى ذكرى لاعتلائها هذه القلب العليل .. طبيبي .. لا تزدحم أنت و ممرضاتك على باب قلبي فتفزعوها ..أنقر الأبواب قبل اقتحامها .. و استأذنها قبل أن تمد يدك بمشرط أو خيط .. قل لها لقد آن أوان هذا القلب أن يُرمّم و يُعاد بعثه للحياة .. قل لها ان تلك الصمامات هوت أخيرا بعد أن عجزت عن استيعاب هذا حب الذي يقوم على زرع القنابل و الألغام بين الحنايا و الضلوع .. قال الطبيب : أنت تهذي .. ابتسمت له وقلت : إنها أجمل هذيان و أحلى وهم .. قال : سنضطر إلى أخذ شريان من جسدك لنزرعه في قلبك .. قلت :لن تجد الشريان الذي تنشده .. أبحث عن شريان لم تمزقه اللوعة و لم ينسفه الحزن و لم يبليه الهوى ..لن تجد سوى شرايين تنزف من كل اتجاه .. تنزف شكوى و ألما و بكاء ..يا سيدي لا أملك لك أي شرايين ولا أحمل داخلي أي نبض .. أنت تضيع وقتك مع عاشق متهدم كذاك الجبل الذي زرعوا بين جوانبه على حين غفلة قنابل و مفرقعات فتهاوى فجأة في لمح البصر .. خذ يدي .. هل تجد نبضاً ؟ خذ بصري هل تجد نوراً ؟ خذ عمري هل تجد أملا ؟ أنظر إلى سمائي هل تجد شمساً ساطعة ؟ أنظر في بحري هل تجد مرافئ آمنة ؟؟ أنظر في أرضي هل تجد سوى القبور و الأشلاء ؟؟ يا طبيبي .. اتركني و شأني .. خذ أسلحتك و أدواتك و أجمع ممرضاتك و اتركني وحيداً ..فأنت لن تزيد دقيقة واحدة من عمري .. اتركني معها .. لقد غدرت بصمامات قلبي .. و غدرت بابتسامات عمري .. ولم يبق على النهاية الكثير .. فهذه الدقات المتهالكة التي يضج بها كياني تقول بأن الدرب على آخره و أن القمر إلى محاق و أن الشمس إلى كسوف و أن النور إلى زوال و أن الغد إلى انقضاء و أن العمر إلى فناء و أن القبر أصبح أقرب من ذي قبل ..
أضواء باهرة تصطدم بعيني .. وجوه تركض هنا و هنا .. أين المشرط .. أين المخدّر ؟؟ أين الكمّامة ؟ أين...
ما اجمل ما كتبت يا استاذي ..


اعجز عن التعبير ...


أدامك الله لقرائك ..


اختكم في الله ..

دمـــــــــــــــــــــوع :44:
سراب
سراب
أضواء باهرة تصطدم بعيني .. وجوه تركض هنا و هنا .. أين المشرط .. أين المخدّر ؟؟ أين الكمّامة ؟ أين الأوكسجين .. أطباء و ممرضات يتدافعون هنا و هناك و بعضهم يتحلق حولي أنا المسجّى في غرفة العمليات .. ممرضة تهمس لي بصوت يتصنع الثبات : لا تخف .. إنها عملية بسيطة جدا .. لا تفكر فيما حولك .. حاول أن تتذكر أحلى أيام عمرك .. قلت لها بهدوء : ماذا ستفعلون ؟؟ قالت : سيقومون بتغيير عدة صمامات في قلبك ..!! قلت : هل سيفتحون قلبي ؟ قالت بدهشة : طبعا .. قلت : و أين أخبئها الآن ؟؟ أين أبعدها عن العيون ؟؟ قالت : من هي ؟؟ قلت : أين الطبيب .؟ نادت عليه فيما هو يرتدي القفازات الطبية .. قال وهو يتصنع ابتسامة غطتها سحب القلق : خيراً عزيزي .. ؟؟ قلت : أنت ستفتح قلبي .. ستتجول بين أروقته .. ستطأ أرضه و تقتحم جدرانه و غرفه .. أدخل بصمت أيها الطبيب .. لا تفزعها بمشارطك و أسلحتك .. لا تزعجها بطنين أدواتك .. لا تؤلمها بوخز سيوفك و عتادك .. ستجدها هناك .. وحيدة .. يتيمة .. سامحها أيها الطبيب .. لقد عبثت هذه الصبية بقلبي .. أحالته إلى ساحة معركة .. إلى أشلاء ممزقة .. أتظن أنك ستجد قلباً ؟؟ لا .. لا يا طبيبي .. بل ستجد بقايا قلب .. ستجد بقايا عمر .. ستجد بقايا إنسان .. لقد مَارَسَتْ شتى صنوف العنف و العدوان على هذا الخافق الضعيف بين الحنايا ..ولكن .. لم أنهرها .. لم أعاتبها .. سبحان الله .. أيعاتب المرء ذاك الهواء الذي يتنفسه ؟ أيعاتب الإنسان ذاك الليل الذي يغفو على نافذته كلما داهمته الهموم ؟؟ أتركها يا طبيبي بين أن أنقاض قلبي .. دعها تعبث كما تريد ..دعها ترسم خريطة حياتها هنا .. قل لها أن النقش على القلب أحلى و أجمل من الكتابة على الأوراق أو صفحات الماء ..و قل لها أن تلك الصمامات التي دمرتها هي أحلى ذكرى لاعتلائها هذه القلب العليل .. طبيبي .. لا تزدحم أنت و ممرضاتك على باب قلبي فتفزعوها ..أنقر الأبواب قبل اقتحامها .. و استأذنها قبل أن تمد يدك بمشرط أو خيط .. قل لها لقد آن أوان هذا القلب أن يُرمّم و يُعاد بعثه للحياة .. قل لها ان تلك الصمامات هوت أخيرا بعد أن عجزت عن استيعاب هذا حب الذي يقوم على زرع القنابل و الألغام بين الحنايا و الضلوع .. قال الطبيب : أنت تهذي .. ابتسمت له وقلت : إنها أجمل هذيان و أحلى وهم .. قال : سنضطر إلى أخذ شريان من جسدك لنزرعه في قلبك .. قلت :لن تجد الشريان الذي تنشده .. أبحث عن شريان لم تمزقه اللوعة و لم ينسفه الحزن و لم يبليه الهوى ..لن تجد سوى شرايين تنزف من كل اتجاه .. تنزف شكوى و ألما و بكاء ..يا سيدي لا أملك لك أي شرايين ولا أحمل داخلي أي نبض .. أنت تضيع وقتك مع عاشق متهدم كذاك الجبل الذي زرعوا بين جوانبه على حين غفلة قنابل و مفرقعات فتهاوى فجأة في لمح البصر .. خذ يدي .. هل تجد نبضاً ؟ خذ بصري هل تجد نوراً ؟ خذ عمري هل تجد أملا ؟ أنظر إلى سمائي هل تجد شمساً ساطعة ؟ أنظر في بحري هل تجد مرافئ آمنة ؟؟ أنظر في أرضي هل تجد سوى القبور و الأشلاء ؟؟ يا طبيبي .. اتركني و شأني .. خذ أسلحتك و أدواتك و أجمع ممرضاتك و اتركني وحيداً ..فأنت لن تزيد دقيقة واحدة من عمري .. اتركني معها .. لقد غدرت بصمامات قلبي .. و غدرت بابتسامات عمري .. ولم يبق على النهاية الكثير .. فهذه الدقات المتهالكة التي يضج بها كياني تقول بأن الدرب على آخره و أن القمر إلى محاق و أن الشمس إلى كسوف و أن النور إلى زوال و أن الغد إلى انقضاء و أن العمر إلى فناء و أن القبر أصبح أقرب من ذي قبل ..
أضواء باهرة تصطدم بعيني .. وجوه تركض هنا و هنا .. أين المشرط .. أين المخدّر ؟؟ أين الكمّامة ؟ أين...
تخرجت من كلية الطب منذ عدة سنوات وجلست بعدها في البيت أنتظر التعيين أو النصيب .. !! وذات يوم دق جرس الهاتف لأجـد شخصا يقول لي :
" تم تعيينك في مستشفى المواساة .. يجب أن تباشري غدا وإلا …!!"
قلت له :
" لا .. لا داعي لـ " وإلا " هذه .. سأكون أول من يدخل باب المستشفى صباح الغد بمشيئة الله ..
لم أنم ليتها جيدا .. ألف صورة تعبر مخيلتي و ألف شعور يغمرني وألف " وإلا " قفزت أمام عيني .. ولذلك لم أذق طعم النوم ..
جاء الصباح وجاء يوم العمل الأول .. عندي " بالطو " أبيض أحتفظت به من أيام الجامعة .. حاولت أن أرتديه .. جيد .. لا زلت أحتفظ برشاقتي .. أتأمل نفسي في المرآة .. نعم .. يبدو أن زمن الرشاقة قد ولّى .. !! رميت البالطو جانبا لألحق بالعمل الجديد ..
عندما وصلت المستشفى كنت حقا أول من وصل من الموظفين و الممرضات و العمال .. لم أبالي .. يجب أن أثبت جدي و اجتهادي من أول يوم ..
بحثت عن المكان الذي سأمارس فيه عملي .. سأكون صيدلية بإذن الله .. هكذا كنت أحلم طوال عمري .. و اليوم سيتحقق احلم ..
سألت : أين سأعمل ؟؟
لا أحد يعرف ..
بدأ الموظف المختص بتقليب الأوراق و الدفاتر و المعاملات .. ثم نظر إليّ بعد حيرة طويلة وقال :
" انه هنا .. هذا اسمك .. ستعملين تحت .. في البدروم .. في الدور الأرضي "
قلت :
" هل هناك صيدلية في البدروم ؟"
تأملني كاتما ضحكة أوشكت أن تفلت منه وقال :
" عفوا .. الصيدلية هنا .. خلف مكتبنا .. ولكن أنت ستعملين في ثلاجة الموتى .."
انتفضت أطرافي و تلعثم لساني وأوشكت قدماي أن تهويا بي .. تماسكت ولملمت أشلائي لأقول له :
" ثلاجة موتى .. ولكن .. أنا صيدلانية .. والموتى حسب معلوماتي يحتاجون للدعاء والترحم ولا يحتاجون إلى صيدلانية مثلي "
قال :
هذا صحيح .. ولكن .. لست أنا من وضعك في هذا العمل .. وان أردت نصيحتي باشري عملك بضعة أيام ثم حاولي أن تطلبي نقلك إلى مكان آخر بالتفاهم مع مديرك "
قلت :
" عفوا .. ولكن لا أصلح في هذا المكان "
قال بعد أن ألقى بظهره على الكرسي ووضع رجلا على رجل:
" وهل أنا أصلح هنا .. وذاك هل يصلح هناك .. قولي لي يا سيدتي هل هناك شخص مناسب في مكان مناسب في هذا الزمان ؟! إنها مسألة أكل عيش .. وعلينا أن نعمل في أي مكان وإلا " ..!!
أطلقت تنهيدة من أعماق قلبي وقلت له :
" ما حكاية " إلا " هذه ..؟ لا بأس ..أمري إلى الله .. "
أنهيت إجراءات مباشرة العمل ثم نزلت إلى المكان الذي سيضم خطواتي القادمة .. مكان كئيب .. إضاءة خافتة تخلق الرعب في النفس .. دخلت الغرفة التي تحتضن الثلاجة وأنا أجر قدمي جرا .. وجدت زميلة تنتظرني .. أفهمتني أن عملي سهل جدا ..
" سيأتي أهل المتوفى بورقة يفترض أن تطابقيها ببيانات موجودة على باب الثلاجة التي تضم جثمان متوفاهم .. وإن تطابقت عليهم عندها أن يأخذوا ميتهم من هنا "
أطلقت زميلتي ضحكة عالية و هي تحاول أن تزرع الشجاعة في قلبي لتضيف قائلة :
" لن تلمسي أمواتا و لن تحملي جثثا .. فقط ستتعاملين مع بيانات .."
قالت كلمتها و هي تتوجه نحو الباب .. أطبقت على يدها بفزع و قلت :
" إلى أين ؟"
قالت :
" المعذرة .. لدي مشوار تم تأجيله أربع مرات لحين مباشرتك العمل .. لا تقلقي .. سأعود خلال ساعة و ربما أقل .. إلى اللقاء "
وتبخّرت من أمام عيني في لحظة و تركتني زائغة العينين أشم رائحة الموت من كل اتجاه ..
هربت من الغرفة .. سحبت كرسيا و جلست في الممر ..وبقيت أضرب أخماساً في أسداس .. بل في أرقام كثيرة بلا نهاية .. ما هذه الورطة ..؟ هل سأقول لأمي و أبي و اخوتي أني أعمل حارسة على بوابة ثلاجة الموتى ..؟ هل الموتى بحاجة إلى من يحرسهم ؟ وهل أفنيت عمري و سهرت الليالي لأكون في هذا المكان ..؟ وأين أذهب بعلم الصيدلة و الأدوية والكيمياء و كل ما تعلمته ؟ هل أذيبه في كوب ماء و أشربه ..؟
انتبهت إلى واقعي .. صمت عميق يكاد يحاصر المكان لولا أصوات بعيدة تتسلل إلى أذني .. بدأت الوساوس تنبت في محيطي ..
كأني سمعت طرقا من داخل الغرفة ..!!
هل هناك من يهمس باسمي ..؟!
كأني رأيت شيئا يتحرك كالبرق أمامي ليختفي .. !!
يا إلهي .. هواجس و ظنون وأوهام خلقتها بنفسي لأداري إحباطي تطوقني وتخنقني .. وفي ما أنا أسيرة هذه الهواجس إذا بصوت عال محتد يصرخ بي :
" السلام عليكم "
قفزت من الكرسي وأنا أردد " وعليكم السلام " ووجهي يدور في كل مكان أبحث عن هذا المخلوق الذي ذبح وحدتي ..
رأيت نفسي فجأة أمام رجل ضخم يحمل ورقة صغيرة جدا يقدمها إليّ ويقول:
" تفضلي "
شعرت وكأن قلبي قفز بين يدي .. هل هذا حلم أم واقع .. ؟ لم أقرأ الورقة .. سألته فقط ..
" ما هذه "
قال :
" انه جدي .. اختفى منذ شهر و نحن نبحث عنه وربما يكون هنا في هذا المكان "
قلت وقد بدأت أشعر بأنفاسي تعلو وتملأ المكان :
" والمطلوب ؟ "
قال بغضب ظاهر :
" سلامة فهمك .. المطلوب أن تفتحي جميع أدراج ثلاجتكم العامرة وتبحثين عنه "
قلت و أنا أظن أني أرد له غضبه بما يستحق :
" المعذرة .. سلامة فهمك .. أنا لا أعرف جدك ولا شكله "
أدخل يده بسرعة في جيبه ليخرج صورة وضعها أمام بؤبؤ عيني وقال :
" هاهو .. "
قلت بارتباك ظاهر :
" تعال إذن وابحث عنه بنفسك "
قال وقد فطن إلى حقيقة الأمر :
" عفوا .. أنت هنا لهذا العمل .. وقد تحوي ثلاجتكم العامرة نساء لا يصح أن أنظر إليهن .. ولهذا سأعود إليك بعد قليل لآخذ الإفادة .."
وهرب من أمامي قبل أن أنطق بحرف ..
تأملت صورة جدّه ، ثم أطلقت نظري في أرجاء الثلاجة التي تحوى أكثر من عشرين درجاً ، تراني هل أتجرأ و أفعلها ؟
ويح قلبي .. أنا التي يهلع قلبي لذكر الموت أجد نفسي فجأة أمامه وفي أكثر من صورة ؟
هل أنسحب ..؟
نعم .. هذا أفضل ..
أفضل ..؟ لمن ..؟
تخطر في ذاكرتي كلمة ( وإلا ) التي ترددت على مسمعي أكثر من مرة بسبب هذا العمل .. أم يقل ذاك الموظف أن المسألة " أكل عيش " ؟
أطل في الصورة مجدداً .. أجد قدماي تقوداني إلى داخل غرفة الثلاجة .. أقترب من أول درج .. أقرأ كلمة ( مجهول .. حادث سيارة ) مكتوبة على ورقة معلقة بإهمال على مقبض الدرج ..
المطلوب مني أن أفتح الدرج وأفتح عيني جيد وأتأمل الموت .. ألاحق تفاصيله .. أستكشف بصمته .. مطلوب مني أن أقارن الموت بصورة .. والمجهول بعلامة استفهام .. يالله .. ماذا أفعل .. قلبي يكاد يتوقف .. أمد يدي إلى الدرج أحاول سحبه .. إنه يترنح في الهواء .. أتراه فارغ ؟ أسحبه بهدوء ..
يا الله .. زلزال يضرب كياني .. إنها جثة طفل صغير .. أتأمله بخشوع .. كل كياني يبكي .. أي جبار عات دهس طفولتك وبراءتك أيها الصغير ؟ أي أرعن أخرق قطف بسمتك وداس فرحة أبويك وقذف بك إلى أحضان الموت ..
أحاول أن أمد يدي إلى جبهته .. لم أتردد .. لأول مرة في حياتي ألمس ميتا وأنا التي كنت أتحاشى الاقتراب من مريض .. لمست جبينه البارد .. عبثت يدي بشعره .. قوة غامضة دفعتني إلى تقبيل خده .. شعرت أني أقبّل عصفورا صغيرا ..
صوت يخترق أذني .. " عفوا ..مكانك ليس هنا " .. نظرت خلفي فإذا به ذاك الموظف الذي قذف بي صباحا إلى هذه الثلاجة ..
قلت وأنا أمسح دموعي وألملم مشاعري : " ألم تقل لي صباحا أن مكاني هنا وأن كشوفاتك تؤكد ذلك " ..
قال مرتبكا : " أرجو أن تعذرنيي .. يبدو أني لم أغسل وجهي جيدا هذا الصباح ولكن عندما سألوا في الصيدلية عن الموظفة الجديدة إكتشفت خطأي .. السماح منك مرة أخرى " ..
لم أفرح بالنبأ .. لم أفرح بالصيدلية .. نظرت إلى جثمان الطفل من جديد .. قلبي مذبوح وكياني مشروخ ويدي لا تريد أن تفارق وجه الطفل .. قلت للموظف :
" ما حكاية هذا الطفل ؟ "
قال : لا توجد حكاية .. طفل مشرد كان يتسول عند إشارة مرور دهسته سيارة طائشة .. لا أحد يعرف شيئا عن هذا الطفل ومنذ سنة والجثة هنا والشرطة ترفض دفنها قبل التعرف على ذويه ، وحتى من ارتكب الحادث لازال حرا طليقا .. على أي حال .. أرجوك .. يجب أن تذهبي إلى الصيدلية فورا قبل أن تحدث لي مشكلة .. "
قال كلماته تلك واختفى من أمامي .. وبقيت أنا وهذا المشرد الصغير .. يا لوعتي عليك أيها الملاك .. عشت مشردا وتموت مشردا .. عشت فقيرا وتموت مكسورا لتغفو وحيدا في ثلاجة من الصقيع .. قتلك الظلم وهرب .. دهستك القسوة واختفت ..
ماذا أفعل الآن يا ربي ..؟ أنا الآن صيدلانية " رسمي " .. ومكاني ليس هنا .. ولكن .. كيف أترك المكان وقلبي هنا .. وكياني هنا .. وإنسانيتي هنا .. كيف أغادر وعصفور يبحث عن الراحة ميتا ولا يريدونها له قبل أن يستكملوا أوراقهم .. هل يتصورن أن ضمير القاتل سيستيقظ بعد سنة ليقول : أنا من دهسه .. خذوني فغلوني ..؟
لن أترك يا صغيري تموت مرتين .. سأسعى إلى إخراجك من هذا القبر البارد ..
انحنيت عليه من .. وقبلته من جديد .. ودموعي تغسل وجهه .. وهمست في أذنه : " أقسم لك يا صغيري أني لن أتركك هنا " وأغلقت درج الثلاجه وكأني أغلق قبرا على روحي ..