الوائلي
الوائلي
تخرجت من كلية الطب منذ عدة سنوات وجلست بعدها في البيت أنتظر التعيين أو النصيب .. !! وذات يوم دق جرس الهاتف لأجـد شخصا يقول لي : " تم تعيينك في مستشفى المواساة .. يجب أن تباشري غدا وإلا …!!" قلت له : " لا .. لا داعي لـ " وإلا " هذه .. سأكون أول من يدخل باب المستشفى صباح الغد بمشيئة الله .. لم أنم ليتها جيدا .. ألف صورة تعبر مخيلتي و ألف شعور يغمرني وألف " وإلا " قفزت أمام عيني .. ولذلك لم أذق طعم النوم .. جاء الصباح وجاء يوم العمل الأول .. عندي " بالطو " أبيض أحتفظت به من أيام الجامعة .. حاولت أن أرتديه .. جيد .. لا زلت أحتفظ برشاقتي .. أتأمل نفسي في المرآة .. نعم .. يبدو أن زمن الرشاقة قد ولّى .. !! رميت البالطو جانبا لألحق بالعمل الجديد .. عندما وصلت المستشفى كنت حقا أول من وصل من الموظفين و الممرضات و العمال .. لم أبالي .. يجب أن أثبت جدي و اجتهادي من أول يوم .. بحثت عن المكان الذي سأمارس فيه عملي .. سأكون صيدلية بإذن الله .. هكذا كنت أحلم طوال عمري .. و اليوم سيتحقق احلم .. سألت : أين سأعمل ؟؟ لا أحد يعرف .. بدأ الموظف المختص بتقليب الأوراق و الدفاتر و المعاملات .. ثم نظر إليّ بعد حيرة طويلة وقال : " انه هنا .. هذا اسمك .. ستعملين تحت .. في البدروم .. في الدور الأرضي " قلت : " هل هناك صيدلية في البدروم ؟" تأملني كاتما ضحكة أوشكت أن تفلت منه وقال : " عفوا .. الصيدلية هنا .. خلف مكتبنا .. ولكن أنت ستعملين في ثلاجة الموتى .." انتفضت أطرافي و تلعثم لساني وأوشكت قدماي أن تهويا بي .. تماسكت ولملمت أشلائي لأقول له : " ثلاجة موتى .. ولكن .. أنا صيدلانية .. والموتى حسب معلوماتي يحتاجون للدعاء والترحم ولا يحتاجون إلى صيدلانية مثلي " قال : هذا صحيح .. ولكن .. لست أنا من وضعك في هذا العمل .. وان أردت نصيحتي باشري عملك بضعة أيام ثم حاولي أن تطلبي نقلك إلى مكان آخر بالتفاهم مع مديرك " قلت : " عفوا .. ولكن لا أصلح في هذا المكان " قال بعد أن ألقى بظهره على الكرسي ووضع رجلا على رجل: " وهل أنا أصلح هنا .. وذاك هل يصلح هناك .. قولي لي يا سيدتي هل هناك شخص مناسب في مكان مناسب في هذا الزمان ؟! إنها مسألة أكل عيش .. وعلينا أن نعمل في أي مكان وإلا " ..!! أطلقت تنهيدة من أعماق قلبي وقلت له : " ما حكاية " إلا " هذه ..؟ لا بأس ..أمري إلى الله .. " أنهيت إجراءات مباشرة العمل ثم نزلت إلى المكان الذي سيضم خطواتي القادمة .. مكان كئيب .. إضاءة خافتة تخلق الرعب في النفس .. دخلت الغرفة التي تحتضن الثلاجة وأنا أجر قدمي جرا .. وجدت زميلة تنتظرني .. أفهمتني أن عملي سهل جدا .. " سيأتي أهل المتوفى بورقة يفترض أن تطابقيها ببيانات موجودة على باب الثلاجة التي تضم جثمان متوفاهم .. وإن تطابقت عليهم عندها أن يأخذوا ميتهم من هنا " أطلقت زميلتي ضحكة عالية و هي تحاول أن تزرع الشجاعة في قلبي لتضيف قائلة : " لن تلمسي أمواتا و لن تحملي جثثا .. فقط ستتعاملين مع بيانات .." قالت كلمتها و هي تتوجه نحو الباب .. أطبقت على يدها بفزع و قلت : " إلى أين ؟" قالت : " المعذرة .. لدي مشوار تم تأجيله أربع مرات لحين مباشرتك العمل .. لا تقلقي .. سأعود خلال ساعة و ربما أقل .. إلى اللقاء " وتبخّرت من أمام عيني في لحظة و تركتني زائغة العينين أشم رائحة الموت من كل اتجاه .. هربت من الغرفة .. سحبت كرسيا و جلست في الممر ..وبقيت أضرب أخماساً في أسداس .. بل في أرقام كثيرة بلا نهاية .. ما هذه الورطة ..؟ هل سأقول لأمي و أبي و اخوتي أني أعمل حارسة على بوابة ثلاجة الموتى ..؟ هل الموتى بحاجة إلى من يحرسهم ؟ وهل أفنيت عمري و سهرت الليالي لأكون في هذا المكان ..؟ وأين أذهب بعلم الصيدلة و الأدوية والكيمياء و كل ما تعلمته ؟ هل أذيبه في كوب ماء و أشربه ..؟ انتبهت إلى واقعي .. صمت عميق يكاد يحاصر المكان لولا أصوات بعيدة تتسلل إلى أذني .. بدأت الوساوس تنبت في محيطي .. كأني سمعت طرقا من داخل الغرفة ..!! هل هناك من يهمس باسمي ..؟! كأني رأيت شيئا يتحرك كالبرق أمامي ليختفي .. !! يا إلهي .. هواجس و ظنون وأوهام خلقتها بنفسي لأداري إحباطي تطوقني وتخنقني .. وفي ما أنا أسيرة هذه الهواجس إذا بصوت عال محتد يصرخ بي : " السلام عليكم " قفزت من الكرسي وأنا أردد " وعليكم السلام " ووجهي يدور في كل مكان أبحث عن هذا المخلوق الذي ذبح وحدتي .. رأيت نفسي فجأة أمام رجل ضخم يحمل ورقة صغيرة جدا يقدمها إليّ ويقول: " تفضلي " شعرت وكأن قلبي قفز بين يدي .. هل هذا حلم أم واقع .. ؟ لم أقرأ الورقة .. سألته فقط .. " ما هذه " قال : " انه جدي .. اختفى منذ شهر و نحن نبحث عنه وربما يكون هنا في هذا المكان " قلت وقد بدأت أشعر بأنفاسي تعلو وتملأ المكان : " والمطلوب ؟ " قال بغضب ظاهر : " سلامة فهمك .. المطلوب أن تفتحي جميع أدراج ثلاجتكم العامرة وتبحثين عنه " قلت و أنا أظن أني أرد له غضبه بما يستحق : " المعذرة .. سلامة فهمك .. أنا لا أعرف جدك ولا شكله " أدخل يده بسرعة في جيبه ليخرج صورة وضعها أمام بؤبؤ عيني وقال : " هاهو .. " قلت بارتباك ظاهر : " تعال إذن وابحث عنه بنفسك " قال وقد فطن إلى حقيقة الأمر : " عفوا .. أنت هنا لهذا العمل .. وقد تحوي ثلاجتكم العامرة نساء لا يصح أن أنظر إليهن .. ولهذا سأعود إليك بعد قليل لآخذ الإفادة .." وهرب من أمامي قبل أن أنطق بحرف .. تأملت صورة جدّه ، ثم أطلقت نظري في أرجاء الثلاجة التي تحوى أكثر من عشرين درجاً ، تراني هل أتجرأ و أفعلها ؟ ويح قلبي .. أنا التي يهلع قلبي لذكر الموت أجد نفسي فجأة أمامه وفي أكثر من صورة ؟ هل أنسحب ..؟ نعم .. هذا أفضل .. أفضل ..؟ لمن ..؟ تخطر في ذاكرتي كلمة ( وإلا ) التي ترددت على مسمعي أكثر من مرة بسبب هذا العمل .. أم يقل ذاك الموظف أن المسألة " أكل عيش " ؟ أطل في الصورة مجدداً .. أجد قدماي تقوداني إلى داخل غرفة الثلاجة .. أقترب من أول درج .. أقرأ كلمة ( مجهول .. حادث سيارة ) مكتوبة على ورقة معلقة بإهمال على مقبض الدرج .. المطلوب مني أن أفتح الدرج وأفتح عيني جيد وأتأمل الموت .. ألاحق تفاصيله .. أستكشف بصمته .. مطلوب مني أن أقارن الموت بصورة .. والمجهول بعلامة استفهام .. يالله .. ماذا أفعل .. قلبي يكاد يتوقف .. أمد يدي إلى الدرج أحاول سحبه .. إنه يترنح في الهواء .. أتراه فارغ ؟ أسحبه بهدوء .. يا الله .. زلزال يضرب كياني .. إنها جثة طفل صغير .. أتأمله بخشوع .. كل كياني يبكي .. أي جبار عات دهس طفولتك وبراءتك أيها الصغير ؟ أي أرعن أخرق قطف بسمتك وداس فرحة أبويك وقذف بك إلى أحضان الموت .. أحاول أن أمد يدي إلى جبهته .. لم أتردد .. لأول مرة في حياتي ألمس ميتا وأنا التي كنت أتحاشى الاقتراب من مريض .. لمست جبينه البارد .. عبثت يدي بشعره .. قوة غامضة دفعتني إلى تقبيل خده .. شعرت أني أقبّل عصفورا صغيرا .. صوت يخترق أذني .. " عفوا ..مكانك ليس هنا " .. نظرت خلفي فإذا به ذاك الموظف الذي قذف بي صباحا إلى هذه الثلاجة .. قلت وأنا أمسح دموعي وألملم مشاعري : " ألم تقل لي صباحا أن مكاني هنا وأن كشوفاتك تؤكد ذلك " .. قال مرتبكا : " أرجو أن تعذرنيي .. يبدو أني لم أغسل وجهي جيدا هذا الصباح ولكن عندما سألوا في الصيدلية عن الموظفة الجديدة إكتشفت خطأي .. السماح منك مرة أخرى " .. لم أفرح بالنبأ .. لم أفرح بالصيدلية .. نظرت إلى جثمان الطفل من جديد .. قلبي مذبوح وكياني مشروخ ويدي لا تريد أن تفارق وجه الطفل .. قلت للموظف : " ما حكاية هذا الطفل ؟ " قال : لا توجد حكاية .. طفل مشرد كان يتسول عند إشارة مرور دهسته سيارة طائشة .. لا أحد يعرف شيئا عن هذا الطفل ومنذ سنة والجثة هنا والشرطة ترفض دفنها قبل التعرف على ذويه ، وحتى من ارتكب الحادث لازال حرا طليقا .. على أي حال .. أرجوك .. يجب أن تذهبي إلى الصيدلية فورا قبل أن تحدث لي مشكلة .. " قال كلماته تلك واختفى من أمامي .. وبقيت أنا وهذا المشرد الصغير .. يا لوعتي عليك أيها الملاك .. عشت مشردا وتموت مشردا .. عشت فقيرا وتموت مكسورا لتغفو وحيدا في ثلاجة من الصقيع .. قتلك الظلم وهرب .. دهستك القسوة واختفت .. ماذا أفعل الآن يا ربي ..؟ أنا الآن صيدلانية " رسمي " .. ومكاني ليس هنا .. ولكن .. كيف أترك المكان وقلبي هنا .. وكياني هنا .. وإنسانيتي هنا .. كيف أغادر وعصفور يبحث عن الراحة ميتا ولا يريدونها له قبل أن يستكملوا أوراقهم .. هل يتصورن أن ضمير القاتل سيستيقظ بعد سنة ليقول : أنا من دهسه .. خذوني فغلوني ..؟ لن أترك يا صغيري تموت مرتين .. سأسعى إلى إخراجك من هذا القبر البارد .. انحنيت عليه من .. وقبلته من جديد .. ودموعي تغسل وجهه .. وهمست في أذنه : " أقسم لك يا صغيري أني لن أتركك هنا " وأغلقت درج الثلاجه وكأني أغلق قبرا على روحي ..
تخرجت من كلية الطب منذ عدة سنوات وجلست بعدها في البيت أنتظر التعيين أو النصيب .. !! وذات يوم دق...
بارك الله فيك

قصة ممتعة ومؤثرة

ننتظر المزيد

و ((( إلا )))
سراب
سراب
تخرجت من كلية الطب منذ عدة سنوات وجلست بعدها في البيت أنتظر التعيين أو النصيب .. !! وذات يوم دق جرس الهاتف لأجـد شخصا يقول لي : " تم تعيينك في مستشفى المواساة .. يجب أن تباشري غدا وإلا …!!" قلت له : " لا .. لا داعي لـ " وإلا " هذه .. سأكون أول من يدخل باب المستشفى صباح الغد بمشيئة الله .. لم أنم ليتها جيدا .. ألف صورة تعبر مخيلتي و ألف شعور يغمرني وألف " وإلا " قفزت أمام عيني .. ولذلك لم أذق طعم النوم .. جاء الصباح وجاء يوم العمل الأول .. عندي " بالطو " أبيض أحتفظت به من أيام الجامعة .. حاولت أن أرتديه .. جيد .. لا زلت أحتفظ برشاقتي .. أتأمل نفسي في المرآة .. نعم .. يبدو أن زمن الرشاقة قد ولّى .. !! رميت البالطو جانبا لألحق بالعمل الجديد .. عندما وصلت المستشفى كنت حقا أول من وصل من الموظفين و الممرضات و العمال .. لم أبالي .. يجب أن أثبت جدي و اجتهادي من أول يوم .. بحثت عن المكان الذي سأمارس فيه عملي .. سأكون صيدلية بإذن الله .. هكذا كنت أحلم طوال عمري .. و اليوم سيتحقق احلم .. سألت : أين سأعمل ؟؟ لا أحد يعرف .. بدأ الموظف المختص بتقليب الأوراق و الدفاتر و المعاملات .. ثم نظر إليّ بعد حيرة طويلة وقال : " انه هنا .. هذا اسمك .. ستعملين تحت .. في البدروم .. في الدور الأرضي " قلت : " هل هناك صيدلية في البدروم ؟" تأملني كاتما ضحكة أوشكت أن تفلت منه وقال : " عفوا .. الصيدلية هنا .. خلف مكتبنا .. ولكن أنت ستعملين في ثلاجة الموتى .." انتفضت أطرافي و تلعثم لساني وأوشكت قدماي أن تهويا بي .. تماسكت ولملمت أشلائي لأقول له : " ثلاجة موتى .. ولكن .. أنا صيدلانية .. والموتى حسب معلوماتي يحتاجون للدعاء والترحم ولا يحتاجون إلى صيدلانية مثلي " قال : هذا صحيح .. ولكن .. لست أنا من وضعك في هذا العمل .. وان أردت نصيحتي باشري عملك بضعة أيام ثم حاولي أن تطلبي نقلك إلى مكان آخر بالتفاهم مع مديرك " قلت : " عفوا .. ولكن لا أصلح في هذا المكان " قال بعد أن ألقى بظهره على الكرسي ووضع رجلا على رجل: " وهل أنا أصلح هنا .. وذاك هل يصلح هناك .. قولي لي يا سيدتي هل هناك شخص مناسب في مكان مناسب في هذا الزمان ؟! إنها مسألة أكل عيش .. وعلينا أن نعمل في أي مكان وإلا " ..!! أطلقت تنهيدة من أعماق قلبي وقلت له : " ما حكاية " إلا " هذه ..؟ لا بأس ..أمري إلى الله .. " أنهيت إجراءات مباشرة العمل ثم نزلت إلى المكان الذي سيضم خطواتي القادمة .. مكان كئيب .. إضاءة خافتة تخلق الرعب في النفس .. دخلت الغرفة التي تحتضن الثلاجة وأنا أجر قدمي جرا .. وجدت زميلة تنتظرني .. أفهمتني أن عملي سهل جدا .. " سيأتي أهل المتوفى بورقة يفترض أن تطابقيها ببيانات موجودة على باب الثلاجة التي تضم جثمان متوفاهم .. وإن تطابقت عليهم عندها أن يأخذوا ميتهم من هنا " أطلقت زميلتي ضحكة عالية و هي تحاول أن تزرع الشجاعة في قلبي لتضيف قائلة : " لن تلمسي أمواتا و لن تحملي جثثا .. فقط ستتعاملين مع بيانات .." قالت كلمتها و هي تتوجه نحو الباب .. أطبقت على يدها بفزع و قلت : " إلى أين ؟" قالت : " المعذرة .. لدي مشوار تم تأجيله أربع مرات لحين مباشرتك العمل .. لا تقلقي .. سأعود خلال ساعة و ربما أقل .. إلى اللقاء " وتبخّرت من أمام عيني في لحظة و تركتني زائغة العينين أشم رائحة الموت من كل اتجاه .. هربت من الغرفة .. سحبت كرسيا و جلست في الممر ..وبقيت أضرب أخماساً في أسداس .. بل في أرقام كثيرة بلا نهاية .. ما هذه الورطة ..؟ هل سأقول لأمي و أبي و اخوتي أني أعمل حارسة على بوابة ثلاجة الموتى ..؟ هل الموتى بحاجة إلى من يحرسهم ؟ وهل أفنيت عمري و سهرت الليالي لأكون في هذا المكان ..؟ وأين أذهب بعلم الصيدلة و الأدوية والكيمياء و كل ما تعلمته ؟ هل أذيبه في كوب ماء و أشربه ..؟ انتبهت إلى واقعي .. صمت عميق يكاد يحاصر المكان لولا أصوات بعيدة تتسلل إلى أذني .. بدأت الوساوس تنبت في محيطي .. كأني سمعت طرقا من داخل الغرفة ..!! هل هناك من يهمس باسمي ..؟! كأني رأيت شيئا يتحرك كالبرق أمامي ليختفي .. !! يا إلهي .. هواجس و ظنون وأوهام خلقتها بنفسي لأداري إحباطي تطوقني وتخنقني .. وفي ما أنا أسيرة هذه الهواجس إذا بصوت عال محتد يصرخ بي : " السلام عليكم " قفزت من الكرسي وأنا أردد " وعليكم السلام " ووجهي يدور في كل مكان أبحث عن هذا المخلوق الذي ذبح وحدتي .. رأيت نفسي فجأة أمام رجل ضخم يحمل ورقة صغيرة جدا يقدمها إليّ ويقول: " تفضلي " شعرت وكأن قلبي قفز بين يدي .. هل هذا حلم أم واقع .. ؟ لم أقرأ الورقة .. سألته فقط .. " ما هذه " قال : " انه جدي .. اختفى منذ شهر و نحن نبحث عنه وربما يكون هنا في هذا المكان " قلت وقد بدأت أشعر بأنفاسي تعلو وتملأ المكان : " والمطلوب ؟ " قال بغضب ظاهر : " سلامة فهمك .. المطلوب أن تفتحي جميع أدراج ثلاجتكم العامرة وتبحثين عنه " قلت و أنا أظن أني أرد له غضبه بما يستحق : " المعذرة .. سلامة فهمك .. أنا لا أعرف جدك ولا شكله " أدخل يده بسرعة في جيبه ليخرج صورة وضعها أمام بؤبؤ عيني وقال : " هاهو .. " قلت بارتباك ظاهر : " تعال إذن وابحث عنه بنفسك " قال وقد فطن إلى حقيقة الأمر : " عفوا .. أنت هنا لهذا العمل .. وقد تحوي ثلاجتكم العامرة نساء لا يصح أن أنظر إليهن .. ولهذا سأعود إليك بعد قليل لآخذ الإفادة .." وهرب من أمامي قبل أن أنطق بحرف .. تأملت صورة جدّه ، ثم أطلقت نظري في أرجاء الثلاجة التي تحوى أكثر من عشرين درجاً ، تراني هل أتجرأ و أفعلها ؟ ويح قلبي .. أنا التي يهلع قلبي لذكر الموت أجد نفسي فجأة أمامه وفي أكثر من صورة ؟ هل أنسحب ..؟ نعم .. هذا أفضل .. أفضل ..؟ لمن ..؟ تخطر في ذاكرتي كلمة ( وإلا ) التي ترددت على مسمعي أكثر من مرة بسبب هذا العمل .. أم يقل ذاك الموظف أن المسألة " أكل عيش " ؟ أطل في الصورة مجدداً .. أجد قدماي تقوداني إلى داخل غرفة الثلاجة .. أقترب من أول درج .. أقرأ كلمة ( مجهول .. حادث سيارة ) مكتوبة على ورقة معلقة بإهمال على مقبض الدرج .. المطلوب مني أن أفتح الدرج وأفتح عيني جيد وأتأمل الموت .. ألاحق تفاصيله .. أستكشف بصمته .. مطلوب مني أن أقارن الموت بصورة .. والمجهول بعلامة استفهام .. يالله .. ماذا أفعل .. قلبي يكاد يتوقف .. أمد يدي إلى الدرج أحاول سحبه .. إنه يترنح في الهواء .. أتراه فارغ ؟ أسحبه بهدوء .. يا الله .. زلزال يضرب كياني .. إنها جثة طفل صغير .. أتأمله بخشوع .. كل كياني يبكي .. أي جبار عات دهس طفولتك وبراءتك أيها الصغير ؟ أي أرعن أخرق قطف بسمتك وداس فرحة أبويك وقذف بك إلى أحضان الموت .. أحاول أن أمد يدي إلى جبهته .. لم أتردد .. لأول مرة في حياتي ألمس ميتا وأنا التي كنت أتحاشى الاقتراب من مريض .. لمست جبينه البارد .. عبثت يدي بشعره .. قوة غامضة دفعتني إلى تقبيل خده .. شعرت أني أقبّل عصفورا صغيرا .. صوت يخترق أذني .. " عفوا ..مكانك ليس هنا " .. نظرت خلفي فإذا به ذاك الموظف الذي قذف بي صباحا إلى هذه الثلاجة .. قلت وأنا أمسح دموعي وألملم مشاعري : " ألم تقل لي صباحا أن مكاني هنا وأن كشوفاتك تؤكد ذلك " .. قال مرتبكا : " أرجو أن تعذرنيي .. يبدو أني لم أغسل وجهي جيدا هذا الصباح ولكن عندما سألوا في الصيدلية عن الموظفة الجديدة إكتشفت خطأي .. السماح منك مرة أخرى " .. لم أفرح بالنبأ .. لم أفرح بالصيدلية .. نظرت إلى جثمان الطفل من جديد .. قلبي مذبوح وكياني مشروخ ويدي لا تريد أن تفارق وجه الطفل .. قلت للموظف : " ما حكاية هذا الطفل ؟ " قال : لا توجد حكاية .. طفل مشرد كان يتسول عند إشارة مرور دهسته سيارة طائشة .. لا أحد يعرف شيئا عن هذا الطفل ومنذ سنة والجثة هنا والشرطة ترفض دفنها قبل التعرف على ذويه ، وحتى من ارتكب الحادث لازال حرا طليقا .. على أي حال .. أرجوك .. يجب أن تذهبي إلى الصيدلية فورا قبل أن تحدث لي مشكلة .. " قال كلماته تلك واختفى من أمامي .. وبقيت أنا وهذا المشرد الصغير .. يا لوعتي عليك أيها الملاك .. عشت مشردا وتموت مشردا .. عشت فقيرا وتموت مكسورا لتغفو وحيدا في ثلاجة من الصقيع .. قتلك الظلم وهرب .. دهستك القسوة واختفت .. ماذا أفعل الآن يا ربي ..؟ أنا الآن صيدلانية " رسمي " .. ومكاني ليس هنا .. ولكن .. كيف أترك المكان وقلبي هنا .. وكياني هنا .. وإنسانيتي هنا .. كيف أغادر وعصفور يبحث عن الراحة ميتا ولا يريدونها له قبل أن يستكملوا أوراقهم .. هل يتصورن أن ضمير القاتل سيستيقظ بعد سنة ليقول : أنا من دهسه .. خذوني فغلوني ..؟ لن أترك يا صغيري تموت مرتين .. سأسعى إلى إخراجك من هذا القبر البارد .. انحنيت عليه من .. وقبلته من جديد .. ودموعي تغسل وجهه .. وهمست في أذنه : " أقسم لك يا صغيري أني لن أتركك هنا " وأغلقت درج الثلاجه وكأني أغلق قبرا على روحي ..
تخرجت من كلية الطب منذ عدة سنوات وجلست بعدها في البيت أنتظر التعيين أو النصيب .. !! وذات يوم دق...
شكرا أخي الوائلي لتفضلك بالاضطلاع ..
والجديد قادم بإذن الله ولا داعي لـ " وإلا " ..
تحياتي ..
سراب
سراب
همسات ساقطة تتردد بين أروقة القاعة الدراسية يحاول أن يهرب منها .. أن يتجاهلها .. لا يمكن أن يكون مثلهم و لا أن يسير على دربهم .. انهم حثالة .. هكذا همس لنفسه .. ولكن هل خفتت همساتهم ؟ لا .. فذاك البيت المشبوه في آخر الشارع أصبح مشهورا أكثر من البيت الأبيض في أمريكا ..والجميع يتهامس عن رقيق ابيض يباع ويشترى في غفلة عن العيون.. قال له صديقه : تعال معي .. ستعرف أشياء لا تخطر لك على بال .. قال : اتركني أرجوك .. باغته صديقه مغريا : لا تقلق .. سأدفع عنك الفاتورة .. فقط أريد أن أخرجك من هذه الحياة الكئيبة المسيطرة عليك .. أجابه و هو يتحسس جيبه : لا ..إنها مسألة مبدأ .. أخلاقي لا يمكن أن تنحدر إلى هذا الحضيض .. أجابه صديقه وهو يبتعد عنه : كما تريد .. ولكن اكتشف على الأقل هذا العالم .. أدخل للفرجة فقط .. للفرجة يا .. أبا المبادئ .. قالها ساخرا .. وانسحب .. وغرق صاحبنا في صمت عميق .. حاصرته الأفكار .. دس يده في جيبه .. انها بضع ورقات نقدية استدانها من شقيقته ليكمل بقية الأسبوع بها .. يفكر في بيته .. أمه .. أخته .. شقيقه الصغير .. كل هؤلاء ينتظرون منه أن يتخرج من الجامعة ليبحث عن عمل و يصرف عليهم .. أخته سبقته إلى التخرج وحملت شيئا من العبء .. أصبحت تعمل صباح مساء في أحد المستشفيات لتوفر له لقمة هانئة و وسادة مريحة ينام عليها آخر النهار .. بقي هو .. عليه أن ينتحر في المذاكرة لينهي دراسته بامتياز .. ولكن .. هؤلاء اخوة الشيطان لا يتركونه .. وان ابتعدوا عنه فإن كلماتهم لا زالت ترفرف فوق رأسه : أدخل و اتفرج يا أبا المبادئ .. نعم .. فقط أريد أن أعرف ماذا في الداخل .. قالها لنفسه وهو يسير إلى نهاية الشارع بخطوات مرتبكة .. يعلم جيدا موقع البيت .. ولكن .. هل يملك الجرأة لدخوله .. ؟ وقف بجانب البناء الذي يحتضن البيت المشبوه .. تسمرت قدماه .. نظر حوله .. الحركة تضج في الشارع .. للحظة شعر أن كل العيون ترقبه .. و كل الأصابع تشير إليه و كل اتهامات الدنيا تطوق عنقه .. هل يدخل المبنى ..؟ تذكر أمه .. أخته .. أخوه الصغير .. تذكر أباه الذي يرقد في مقبرة مجاورة لهذا المكان .. تراجع .. ولكن .. ( سأتفرج .. لن أرتكب أي حماقة .. أريد أن أعرف أي بيئة ساقطة هذه ) .. كلمات قليلة همس بها لنفسه كانت كفيلة بأن تجعله يتسلل بهدوء إلى العمارة و يهبط الى القبو الأرضي منها .. باب واحد فقط أمامه ..امتدت يده ليقرع الجرس .. تراجع .. أوشك أن يصعد .. كل شيء داخله يقول له : هذا ليس مكانك .. ولكن كلمة الشيطان البشري لا زالت تدور فوق رأسه : تفرج .. فقط تفرج ..!! قرع الجرس .. ووقف لبرهة قبل أن يسمع صوتا أنثويا خلف الباب يقول : من ؟ اضطرب .. أمطر جبينه عرقا .. قلب قفز من صدره .. أوشك أن يطلق ساقيه للريح لولا أن الباب فتح بسرعة لتطل سيدة تكاد تقترب من الخمسين من العمر .. تأملها .. تأملته .. أرخى عينيه في الأرض .. خجلا ؟ .. رعبا ؟ .. حزنا ؟ ربما كل هذا .. قالت له : أهلا .. أهلا .. تفضل .. هل ( يتفضل ) ؟ .. انه لم يأت ليقف عند الباب .. دلف إلى الداخل .. العتمة توشك أن تحتضن كل شيء .. لم يتبين ملامح البيت .. جلس .. وجلست السيدة بجواره .. لحظات صمت خالها صاحبنا دهرا .. قالت له : يبدو انك مهموم .. لم أرك من قبل هنا ..ما اسمك ؟ قال مرتبكا : لا داعي للأسماء يا ( طنط ) .. قالت له : نعم يا روح أمك ؟؟ طنط ؟؟ قال : آسف .. آسف .. يبدو أني .. انه ماذا ؟؟ لقد حاول أن يكذب ويوهمها أنه يبحث عن صديق له.. قالت : ها .. أطلب .. أؤمر .. طلباتك كلها متوفرة .. قال : أنا .. أنا .. لا أدري .. نعم .. لا يدري .. لا يدري كيف اقنع نفسه بالوصول إلى هنا ودخول هذا البيت و الجلوس هنا مع هذه السيدة .. قالت له : واضح انك محرج .. وأنا عندي التي تفك عقدتك .. انظر ذاك الباب .. افتحه .. ستجد من تنسيك هموم الدنيا كلها .. قال ولا زال الاضطراب يخنقه : ولكن .. أنا .. لا أريد أن .. قاطعته : لا بأس .. هذا الاضطراب سيزول فور دخولك هنا .. انتبه .. لا تفزعها .. لا تستخدم العنف معها .. إياك من أي تصرف خاطئ .. إنها بشر هي أيضا .. قام من مقعده .. و امتدت يده إلى الباب .. فتحه .. ودخل .. فتح عينه جيدا .. إنها هناك .. لم تنبته لدخوله .. قال على استحياء : احم .. احم .. انتبهت له .. رفع عينيه إليها .. يا للكارثة .. إنها أخته ..!!
همسات ساقطة تتردد بين أروقة القاعة الدراسية يحاول أن يهرب منها .. أن يتجاهلها .. لا يمكن أن يكون...
يوم جديد .. لا يحمل جديدا .. سوى الإمعان في الوحدة والمزيد من الكآبة .. أتوجه إلى عملي .. ذات الطريق كل يوم .. وذات الضجيج كل يوم .. وذات الزحام كل يوم .. وذات العذاب كل يوم ..
أقتحم مقر عملي ببرودتي المعهودة .. ذات الوجوه وذات الأماكن ..
أصعد الدرج بنفس محملة بالقرف والملل .. لقد حفظت عدد الدرجات .. هذه المرة هناك درجة مكسورة .. ربما هناك من كسرها متعمدا ليقتل الروتين ، وربما هناك من فعل ذلك ليسقط منها شخص فيحدث هرج ومرج فيعود للحياة نبضها وحيوتها ويصبح هناك باب للثرثرة ..
أصل إلى مكتبي .. أشيائي الباهتة تشبه شجرة لم ترتو منذ زمن بعيد .. زمن أشتاق إليه ..
زمن الطفولة..عندما كان للحياة بريقها .. ولليوم نبضه .. وللساعة لمعانها .. ولكل شيء في الحياة بهاؤه وحضوره .. لقد ماتت الدهشة في قلبي وعيني .. ومات الإحتفاء بالزمن داخلي ..
أرتمي على الكرسي .. كل شيء على مكتبي يحمل عنوانا للفوضى والفشل .. حتى وإن قمت بترتيب أوراقي وملفاتي ستظل تحمل بين طياتها مرارة الهزيمة والخنوع .. والملل ..
أتأمل المكان .. أغرس عيني في الهاتف الصامت .. إنه مثلي .. لا يحمل نبضا للحياة .. منذ شهور لم أسمع رنينه .. أشك أنه ميت .. أرفع السماعة فيصافح الطنين أذني .. إنها حرارة باردة كالصقيع .. لا تحمل إليّ نبض الحياة ولا جمالها ..
فجأة .. هرج ومرج يتسللان إلى ّ .. صراخ .. " لقد مات .. لا .. لا زال قلبه ينبض " .. أقفز من مكاني لإستطلع الأمر ..
نعم .. لقد فعلتها الدرجة المكسورة .. سقط بسببها عامل عجوز ودماؤه تغطي المكان ..
زحام .. وألف رأي وألف إنفعال وألف حسرة .. ولكن لم يتحرك أحد لطلب الإسعاف .. أهرع إلى مكتبي .. أمسك بالهاتف " الصقيع " الذي لم يتحرك من مكانه منذ شهور طويلة .. أطلب الإسعاف .. أطلب الحياة .. أطلب الأمل لشخص يتخبط بين الحياة والموت ..
فجأة .. يدب في داخلي شيء .. شيء يشبه النور .. يهمس في أذني : أنت تفعل شيئا جديرا بالتقدير .. ما أكثر المنظرون والمتنطعون والمدّعون .. ولكن من يفعل ويقدم ويجرؤ .. قليل .. بل أقل من القليل ..
جاءت سيارة الإسعاف وحملت المصاب الذي تم إنقاذه .. همس لي المسعف قائلا : لو تأخرتم في طلبنا بضع دقائق لكان مكانه الآن في ثلاجة الموتى ..
شعرت بالزهو والفخر .. نظرت إلى الدرجة المكسورة .. تأملتها بعجب عميق .. ياالله .. لقد أزاح هذا الكسر التراب عن قبر عميق وواسع في أعماقي .. ألف طير أخضر إنطلق من الأسر .. وألف قصيدة فرح نسجت حروفها في سمائي الآن .. وألف وردة بيضاء تفتحت أمام عيني .. وألف شمس أشرقت في نفسي .. يبدو أن للغد طعم جديد حقا ..
الأمل الراحل
الأمل الراحل
يوم جديد .. لا يحمل جديدا .. سوى الإمعان في الوحدة والمزيد من الكآبة .. أتوجه إلى عملي .. ذات الطريق كل يوم .. وذات الضجيج كل يوم .. وذات الزحام كل يوم .. وذات العذاب كل يوم .. أقتحم مقر عملي ببرودتي المعهودة .. ذات الوجوه وذات الأماكن .. أصعد الدرج بنفس محملة بالقرف والملل .. لقد حفظت عدد الدرجات .. هذه المرة هناك درجة مكسورة .. ربما هناك من كسرها متعمدا ليقتل الروتين ، وربما هناك من فعل ذلك ليسقط منها شخص فيحدث هرج ومرج فيعود للحياة نبضها وحيوتها ويصبح هناك باب للثرثرة .. أصل إلى مكتبي .. أشيائي الباهتة تشبه شجرة لم ترتو منذ زمن بعيد .. زمن أشتاق إليه .. زمن الطفولة..عندما كان للحياة بريقها .. ولليوم نبضه .. وللساعة لمعانها .. ولكل شيء في الحياة بهاؤه وحضوره .. لقد ماتت الدهشة في قلبي وعيني .. ومات الإحتفاء بالزمن داخلي .. أرتمي على الكرسي .. كل شيء على مكتبي يحمل عنوانا للفوضى والفشل .. حتى وإن قمت بترتيب أوراقي وملفاتي ستظل تحمل بين طياتها مرارة الهزيمة والخنوع .. والملل .. أتأمل المكان .. أغرس عيني في الهاتف الصامت .. إنه مثلي .. لا يحمل نبضا للحياة .. منذ شهور لم أسمع رنينه .. أشك أنه ميت .. أرفع السماعة فيصافح الطنين أذني .. إنها حرارة باردة كالصقيع .. لا تحمل إليّ نبض الحياة ولا جمالها .. فجأة .. هرج ومرج يتسللان إلى ّ .. صراخ .. " لقد مات .. لا .. لا زال قلبه ينبض " .. أقفز من مكاني لإستطلع الأمر .. نعم .. لقد فعلتها الدرجة المكسورة .. سقط بسببها عامل عجوز ودماؤه تغطي المكان .. زحام .. وألف رأي وألف إنفعال وألف حسرة .. ولكن لم يتحرك أحد لطلب الإسعاف .. أهرع إلى مكتبي .. أمسك بالهاتف " الصقيع " الذي لم يتحرك من مكانه منذ شهور طويلة .. أطلب الإسعاف .. أطلب الحياة .. أطلب الأمل لشخص يتخبط بين الحياة والموت .. فجأة .. يدب في داخلي شيء .. شيء يشبه النور .. يهمس في أذني : أنت تفعل شيئا جديرا بالتقدير .. ما أكثر المنظرون والمتنطعون والمدّعون .. ولكن من يفعل ويقدم ويجرؤ .. قليل .. بل أقل من القليل .. جاءت سيارة الإسعاف وحملت المصاب الذي تم إنقاذه .. همس لي المسعف قائلا : لو تأخرتم في طلبنا بضع دقائق لكان مكانه الآن في ثلاجة الموتى .. شعرت بالزهو والفخر .. نظرت إلى الدرجة المكسورة .. تأملتها بعجب عميق .. ياالله .. لقد أزاح هذا الكسر التراب عن قبر عميق وواسع في أعماقي .. ألف طير أخضر إنطلق من الأسر .. وألف قصيدة فرح نسجت حروفها في سمائي الآن .. وألف وردة بيضاء تفتحت أمام عيني .. وألف شمس أشرقت في نفسي .. يبدو أن للغد طعم جديد حقا ..
يوم جديد .. لا يحمل جديدا .. سوى الإمعان في الوحدة والمزيد من الكآبة .. أتوجه إلى عملي .. ذات...
الأخ سراب

كلمات روعة

أتحفنا بالمزيد

ودمت
سراب
سراب
همسات ساقطة تتردد بين أروقة القاعة الدراسية يحاول أن يهرب منها .. أن يتجاهلها .. لا يمكن أن يكون مثلهم و لا أن يسير على دربهم .. انهم حثالة .. هكذا همس لنفسه .. ولكن هل خفتت همساتهم ؟ لا .. فذاك البيت المشبوه في آخر الشارع أصبح مشهورا أكثر من البيت الأبيض في أمريكا ..والجميع يتهامس عن رقيق ابيض يباع ويشترى في غفلة عن العيون.. قال له صديقه : تعال معي .. ستعرف أشياء لا تخطر لك على بال .. قال : اتركني أرجوك .. باغته صديقه مغريا : لا تقلق .. سأدفع عنك الفاتورة .. فقط أريد أن أخرجك من هذه الحياة الكئيبة المسيطرة عليك .. أجابه و هو يتحسس جيبه : لا ..إنها مسألة مبدأ .. أخلاقي لا يمكن أن تنحدر إلى هذا الحضيض .. أجابه صديقه وهو يبتعد عنه : كما تريد .. ولكن اكتشف على الأقل هذا العالم .. أدخل للفرجة فقط .. للفرجة يا .. أبا المبادئ .. قالها ساخرا .. وانسحب .. وغرق صاحبنا في صمت عميق .. حاصرته الأفكار .. دس يده في جيبه .. انها بضع ورقات نقدية استدانها من شقيقته ليكمل بقية الأسبوع بها .. يفكر في بيته .. أمه .. أخته .. شقيقه الصغير .. كل هؤلاء ينتظرون منه أن يتخرج من الجامعة ليبحث عن عمل و يصرف عليهم .. أخته سبقته إلى التخرج وحملت شيئا من العبء .. أصبحت تعمل صباح مساء في أحد المستشفيات لتوفر له لقمة هانئة و وسادة مريحة ينام عليها آخر النهار .. بقي هو .. عليه أن ينتحر في المذاكرة لينهي دراسته بامتياز .. ولكن .. هؤلاء اخوة الشيطان لا يتركونه .. وان ابتعدوا عنه فإن كلماتهم لا زالت ترفرف فوق رأسه : أدخل و اتفرج يا أبا المبادئ .. نعم .. فقط أريد أن أعرف ماذا في الداخل .. قالها لنفسه وهو يسير إلى نهاية الشارع بخطوات مرتبكة .. يعلم جيدا موقع البيت .. ولكن .. هل يملك الجرأة لدخوله .. ؟ وقف بجانب البناء الذي يحتضن البيت المشبوه .. تسمرت قدماه .. نظر حوله .. الحركة تضج في الشارع .. للحظة شعر أن كل العيون ترقبه .. و كل الأصابع تشير إليه و كل اتهامات الدنيا تطوق عنقه .. هل يدخل المبنى ..؟ تذكر أمه .. أخته .. أخوه الصغير .. تذكر أباه الذي يرقد في مقبرة مجاورة لهذا المكان .. تراجع .. ولكن .. ( سأتفرج .. لن أرتكب أي حماقة .. أريد أن أعرف أي بيئة ساقطة هذه ) .. كلمات قليلة همس بها لنفسه كانت كفيلة بأن تجعله يتسلل بهدوء إلى العمارة و يهبط الى القبو الأرضي منها .. باب واحد فقط أمامه ..امتدت يده ليقرع الجرس .. تراجع .. أوشك أن يصعد .. كل شيء داخله يقول له : هذا ليس مكانك .. ولكن كلمة الشيطان البشري لا زالت تدور فوق رأسه : تفرج .. فقط تفرج ..!! قرع الجرس .. ووقف لبرهة قبل أن يسمع صوتا أنثويا خلف الباب يقول : من ؟ اضطرب .. أمطر جبينه عرقا .. قلب قفز من صدره .. أوشك أن يطلق ساقيه للريح لولا أن الباب فتح بسرعة لتطل سيدة تكاد تقترب من الخمسين من العمر .. تأملها .. تأملته .. أرخى عينيه في الأرض .. خجلا ؟ .. رعبا ؟ .. حزنا ؟ ربما كل هذا .. قالت له : أهلا .. أهلا .. تفضل .. هل ( يتفضل ) ؟ .. انه لم يأت ليقف عند الباب .. دلف إلى الداخل .. العتمة توشك أن تحتضن كل شيء .. لم يتبين ملامح البيت .. جلس .. وجلست السيدة بجواره .. لحظات صمت خالها صاحبنا دهرا .. قالت له : يبدو انك مهموم .. لم أرك من قبل هنا ..ما اسمك ؟ قال مرتبكا : لا داعي للأسماء يا ( طنط ) .. قالت له : نعم يا روح أمك ؟؟ طنط ؟؟ قال : آسف .. آسف .. يبدو أني .. انه ماذا ؟؟ لقد حاول أن يكذب ويوهمها أنه يبحث عن صديق له.. قالت : ها .. أطلب .. أؤمر .. طلباتك كلها متوفرة .. قال : أنا .. أنا .. لا أدري .. نعم .. لا يدري .. لا يدري كيف اقنع نفسه بالوصول إلى هنا ودخول هذا البيت و الجلوس هنا مع هذه السيدة .. قالت له : واضح انك محرج .. وأنا عندي التي تفك عقدتك .. انظر ذاك الباب .. افتحه .. ستجد من تنسيك هموم الدنيا كلها .. قال ولا زال الاضطراب يخنقه : ولكن .. أنا .. لا أريد أن .. قاطعته : لا بأس .. هذا الاضطراب سيزول فور دخولك هنا .. انتبه .. لا تفزعها .. لا تستخدم العنف معها .. إياك من أي تصرف خاطئ .. إنها بشر هي أيضا .. قام من مقعده .. و امتدت يده إلى الباب .. فتحه .. ودخل .. فتح عينه جيدا .. إنها هناك .. لم تنبته لدخوله .. قال على استحياء : احم .. احم .. انتبهت له .. رفع عينيه إليها .. يا للكارثة .. إنها أخته ..!!
همسات ساقطة تتردد بين أروقة القاعة الدراسية يحاول أن يهرب منها .. أن يتجاهلها .. لا يمكن أن يكون...
الف تحذير وصلني قبل أن أستأجر هذا البيت .. قالوا ان الأشباح تستوطنه وترتع فيه .... وزعموا ان المصائب تلاحق كل من يسكنه ..
ومع هذا فلم أستطع التراجع ..
فقيمة الإيجار أكثر من معقولة ..فهي تناسب دخلي .. والأهم من هذا ان البيت يناسب شابا أعزب مثلي .. وقد وجدت ان صاحب البيت يوشك أثناء توقيع عقد الإيجار أن يسكنني مجانا في عقاره بدعوى انه ارتاح لي .. حيث قال انه لن يأخذ مني أي مبلغ الا بعد مرور ثلاثة أشهر من سكني ..
لم ألحظ شيئا اول يوم .. ولا حتى ثاني يوم ..
كنت أحرص على النوم و الأضواء مضاءة في الغرفة .. هكذ تعودت طوال عمري .. أشعر وكأن النور يؤنس وحدتي ومكاني ..
أعترف بأن هناك شيئا من الخوف لا زال يسكن قلبي زرعه كلام الناس ..
مرت عدة أيام ولا أثر لأي أمر غير طبيعي رغم حرصي الشديد على الانتباه لكل ما حولي من أشياء ..
ولكن ذات ليلة حدث أن أستيقظت من نومي والدنيا من حولي سواد في سواد .. رفعت أصبعي لم أره .. قفزت من سريري و أنا أتخبط و اتعثر بكل ما حولي إلى أن وصلت الى مفتاح المصباح فطرقت عليه بعنف فاسترد المكان نوره ..
من أطفأ الضوء ..؟
لست أنا بالتأكيد ..
حاولت أن أتجاهل الأمر .. لم أستطع .. الف هاجس يحيط بي .. بقيت مستيقظا للصباح ثم ذهبت الى مكان عملي .. ورغم الإجهاد والتعب الذي لحقني من قلة النوم إلا إنني كنت حريصا أن أروي الحكاية لكل من أصادفه ..
اصدقائي يقولون ان هذه هي البداية .. !!
احدهم تبرع بالحديث عن أشباح تخطف و تقتل و .. تعشق ..؟!!
سعيت الى أضبط أعصابي الى أقصى درجة .. لست مستعدا للخروج من هذا البيت.. علىالأقل في هذه الفترة ..
في الآيام التالية إزدادت الأمور تعقيدا و سوءا .. !!
أبواب تغلق فجأة و نوافذ تفتح بلا سبب .. أبحث عن أشيائي فلا أجدها .. أكون نائما فأستيقظ فجأة على صوت يهمس في أذني بكلمات غير مفهومة ..
لا أدري .. هل هي أوهام خلقها خوفي أم هي حقائق تحاول أن تخرج من رحم الخيال ..
ذات مساء عدت الى البيت فصدمت بأن رأيت غرفة نومي مرتبة و نظيفة و انا الذي تركتها بحرا من الفوضى .. هرعت الى المطبخ فوجدت الصحون والملاعق تلمع من شدة النظافة وانا الذي تركتها غارقة في الزيوت و الدهون ..
البيت كله يلمع .. في حين حاصرني القلق والخوف والتوتر من كل جانب ..
هل آن أوان الإنسحاب ؟
هل أبحث عن أدلة أكثر من هذه للخروج من هذا البيت ..
هذه المرة البيت والمطبخ .. المرة القادمة قد أكون أنا الهدف ..
والأمور أصبحت واضحة .. لا تحتاج الى عبقرية ..
هناك من يشاركني هذا المسكن ..
هل أنسحب ..؟
هل أهرب ..؟
هل أترك المكان ..؟
نعم .. أشعر بالرعب و الهلع .. ولكن .. أحوالي المادية لا تسمح لي أن أتحرك من مسكني هذا شبرا واحدا ..
ما الحل ..؟
التجاهل .. التجاهل ولا غيره ..
ذات يوم فوجئت بأن ملابسي التي كنت أوشك أن أذهب بها الى المغسلة نظيفة ومكوية ومرتبة في دولاب الملابس تنبعث منها رائحة زكية .. كيف حدث هذا وانا لا أملك أدوات التنظيف أو كي الملابس ..؟
البرج الوحيد الذي بقي في رأسي يوشك أن ينهار ..
كل يوم أحكي لأصدقائي ما يستجد معي إلى أن وجدتهم يوما بعد يوم ينفضون من حولي ويتجاهلون الحديث معي سوى واحد هو أكبرهم وأعقلهم .. قال لي :
ألم تسمع بالمثل العامي الذي يقول " اللي يخاف من العفريت يطلع له " ؟
قلت : طبعا أعرفه ..
قال : إذن لا تظهر خوفك .. كن شجاعا .. حاول أن تتجاهل ما يدور في بيتك طالما ان المسألة لم تصل الى حد الخطر على حياتك ..!
حاولت ان أعمل بنصيحة صديقي الى أن دخلت ذات يوم غرفة نومي لأجد وردة حمراء فوق مخدتي ..!!
- يتبع -