كنت موظفا عاديا في الظل .. لا أطمح من حياتي سوى أن أحافظ على هذا الظل من التلاشي .. كان همي الوحيد و شغلي الشاغل توفير قوت يومي لأهل بيتي .. أعيش حياة هادئة روتينية وأحيانا مملة جدا .. ومع هذا فكنت سعيدا بذلك .. حيث لا مشاكل ولا هموم ولا قلق ولا توتر ..
انقلبت حياتي رأسا على عقب يوم وجدت مديري في العمل يختارني مديرا لمكتبه ..
يا لسعادتي .. كرسي لم أسع إليه و نجاح لم أخطط له و تميز لا أدري ما الذي قادني اليه ..
أنا بكل قدراتي المتواضعة أجد نفسي في المقدمة ..
بكل تفكيري المحدود و حضوري الباهت أجد نفسي فجأة أشارك في صنع قرار ..
لم أسأل مديري لماذا اختارني لهذا ..
لم أسأله لماذا تجاهل العشرات ممن هم أقدم مني و أكفأ مني ..
وهل تُسأل النعمة لماذا أتت ؟
وهل تسأل الفرحة لماذا ولدت ؟
وهل تسأل الشمس لماذا أشرقت ؟
ومع أول يوم لعملي الجديد حرصت على أن أكون كما أنا .. على سجيتي و طبيعتي .. لم أغيّر ضحكتي .. ولم أغير ثوبي .. ولم أغير أصدقائي ..
كنت أشعر بالحسد من المحيطين بي .. معظمهم كان يشعر أنه كان الأجدر بالكرسي والأحق بالمكتب و الأليق بالإدارة .. كان معظمهم يشعر أني قفزت من الصفوف الخلفية ومع هذا حرصت ألا أصطدم مع أحد منهم وكان كل همي أن أنجح في عملي و أحوّل هذا الكرسي الدوار إلى سلّم نجاح وتفوق و إثبات حضور
حاولت أن أتعلم كيف أملأ هذا الكرسي ..
هل العمل وحده يكفي ؟
طبعا لا ..
لا بد من ابتسامة دائمة ونظرات هادئة ..
لابد من إقناع الآخرين أنني هنا نيابة عنهم ولن أكون ضدهم بحال من الأحوال ..
مرت الأيام ..
بدأ القلق و التوتر..
بدأ الهم والغم ..
بدأ الكر و الفر ..
رغم نجاحي في عملي وتفوقي في أداء كل ما يطلب مني إلا أن هواجس أصبحت تطاردني مع كل ثانية تمر بي ..حتى في منامي ..
أستيقظ من نومي فجأة على كابوس مفزع يصوّر لي أن كرسيا سقط فوق رأسي أو أني أجلس على كرسي وسط السنة اللهب ..
أهب من نومي ..
استر يا رب ..
هل أنا سيئ إلى هذه الدرجة ..؟
أنتظر الصباح بفارغ الصبر .. واهرع إلى مقر عملي .. أطير إلى مكتبي .. أكاد أعانق الكرسي ..
هل بدأت أخاف أن أفقده ؟؟
لقد أصبحت شرسا مع الجميع .. أضع ألف قناع في اليوم و ابتسامتي لن تكون إلا لشخص أخشاه أو أعلى مرتبة مني ..
لم أعد أساير الزملاء .. وجدت أن الكرسي الدوار يدفعني إلى الدوران معه في كل الاتجاهات والقفز فوق كل الحواجز .. فجأة وجدت أن هذه الدنيا التي كنت أعيش على هامشها ولا أطلب إلا الفتات منها احتلت كياني و ضربت بجذورها في قلبي وأصبحت تطلب مني اكثر مما أطلب منها .. و أنا أركض و أسابق الريح و البشر لأحقق أحلاما و أمنيات لا أعرف كيف اعترضت سبيلي و نبتت في طريقي ..
شعرت أن جميع زملائي لا يحملون لي ودا .. وأنا صرت على حذر من كل شيء.. حتى من ظلي ..
لا أشعر بالراحة إلا متى جلست على الكرسي .. ويسكنني القلق إذا ابتعدت عنه ولو لثوان ..
يا الله ..
ما هذا العشق الجديد لكرسي أصم .. ؟
وما هذا العشق لدنيا كنت أتحاشى الخوض في أمواجها وفجأة أجدت نفسي غارقا فيها .. ؟
وما هذا العشق لأمنيات كان معظمها في عيني وهم و سراب ..؟
وكيف السبيل لعودة الهدوء الضائع إلى قلبي ؟؟
هل أترك عملي ؟؟
ولقمة عيشي ؟؟
هل أترك الكرسي ؟؟ كيف أتركه وقد بدت الحياة معه أكثر جمالا و أكثر ربيعا و أكثر بهاءً ..
اليوم أنا بلا أصدقاء ..بلا أحباب ..ولكني محاط بألف عدو يُجهر عداءه .. و ألف سـاخط يعلن تبرمه .. و ألف متربص ينتظر سقوطي .. هل تنهي الاستقالة معاناتي ..؟
أدخل إلى مديري بورقة استقالتي .. نظر فيها .. تأملها .. قال لي :
لماذا ؟
قلت :
الكرسي الدوار لم يعد مريحا ..
فهم قصدي .. صمت برهة ثم قال :
لا ذنب للكرسي إن كان يدور .. المشكلة في الذي يجلس عليه ..
قلت له :
لم أستطع أن أحتفظ بتوازني ويبدو أني سقطت عنه ..
قال وهو يرمقني بنظرة حانية :
لقد اخترتك لهذا الكرسي لأني كنت أرى فيك واجهة للخير و الصلاح قبل كل شيء ولكن يبدو أن الكرسي كان وثيرا أكثر مما يجب ..
قلت بانفعال :
أريد أن أعود إلى صومعتي .. لقد فقدت أشياء كثيرة لا تعوض بسبب كرسي لم يعطني سوى القلق ..
قال :
سأعيدك إلى عملك السابق ..
قلت بحدة :
لا .. هناك ألف شامت ينتظرني خلف الباب وهذه الاستقالة بمثابة توبة عن أخطاء كثيرة قمت بها
قال :
لن أوقع استقالتك الآن .. أعتبر نفسك في إجازة لمدة أسبوع .. وبعدها لكل حادث حديث .
حاولت أن أثنيه عن موقفه فوجدته يسحبني من يدي إلى الباب وهو يقول لي :
إجازة سعيدة ..
خرجت إلى الشارع و صورة لا تبرح مخيلتي .. كرسي يدور بشدة ويقذف بشرا في كل اتجاه ولا أحد يصمد أمام هذا الدوران العنيف إلا من رحم ربي ..
كنت موظفا عاديا في الظل .. لا أطمح من حياتي سوى أن أحافظ على هذا الظل من التلاشي .. كان همي...
شكرا لحضورك وكلماتك ..
والقصة دعوة للتفاؤل ..
تحياتي ..