كانت فكرة .. اقتحمت رأسي وقلبت جميع الموازين
فتبدد الخوف والقلق والتوتر
وتحول الى حالة نشوة .. والاحساس بوجود فرصة
لدروس عملية تطبيقية .. أختبر فيها ما تعلمته
وأكتشف فيها الانسان الحقيقي
الساكن في أعماقي
.
.
ذكرت لكم بأنه احساس بوجود حمل ( ان صح التعبير )
شعرت بأن هناك جنين .. !!
لا تستغربون فقد شعرت
بأنه سيأتي يوم ويولد انسان جديد
ويخرج من أعماق الألم
.
.
صحوت صباح اليوم التالي .. وتوضأت وصليت الفجر
ورفعت كفي أدعو
فلم أعرف بماذا أدعو
فقط .. رفعت كفي
وبكيت .. بكيت ..
ولا أذكر متى كانت آخر مرة بكيت فيها
لكن هذه المرة .. شعرت بطعم الدموع وهي تنساب على خدي
وتتسلل من أطرف فمي ..
.
.
لم أدعو .. ولكني شعرت بالرغبة في الشكر لله .. والامتنان لفضله
فقد يكون مايحدث الآن .. درس لطيف من الله
ليعلمني شيئا ..
ليقول لي أني جاهل !!
ليقول لي .. لا تغتر بذاتك ..
.
.
ومنذ تلك اللحظة
وأنا أشعر بسعادة داخلية
رغم موجات الاحساس بالندم .. والخوف .. والقلق
ولكن حدتها أقل بكثير من ساعة القبض علي .. والاثنا عشر ساعة التي تلتها
.
.
بدأت أفكر بعمق
ماذا يمكنني أن أتعلم
لابد وأن وراء كل واحد من هؤلاء الناس الذين معي .. لابد أن وراء كل واحد منهم حكاية .
ولابد أن وراء كل حكاية درس .. أو دروس
تستحق أن نتعلمها
.
.
اذا ياسعيد .. لابد أن تفتح عقلك .. وقلبك لهؤلاء الناس
وتجلس أمامه .. تلميذا يتعلم من أستاذه ..
/////
نعم .. هذا هو الدرس الثاني الذي خطر ببالي في تلك اللحظة
( يجب أن تفتح قلبك وعقلك لكل من حولك .. فكل واحد لديه علم قد لا تعرفه )
.
.
أما اذا أعتقدت أنك العالم .. والخبير والمستشار الذذي يتعلم منه الناس
فانك قد أغلقت على عقلك وحكمت على نفسك بالجهل
.
ابتسمت من أعماقي ( وشعرت بطعم الابتسامة بعد مرارة تلك الدموع ..
.
رفعت رأسي أتأمل وجوه رفقاء السجن .. وأبحث بين الوجود عن أول واحد أحتاج أن أقترب منه
كي يعلمني شيئا عن تجربته ..
.
.
وكان أول واحد رجل في الستين من عمره ( !! )
كان نائما على جنبه .. ولا يكلم أحد ..
وقلت في نفسي لابد وأنه كنز من الخبرات والتجارب
وقررت أن أبدأ به...,,
كلما سمعت عن تجربة انسانية
وتابعت تفاصيلها من أبطالها
منذ بدايت فصول تجرتهم
وحتى وصولهم الى جامعة السجن
أشعر بالرغبة العميقة في الانطواء
والخلوة بذاتي
لأراجع الدروس
وأستخرج الفوائد والحكم
وأقارنها بما قرأته وتعلمته
خارج حدود الزنزانه
حيث سجن الحياة الكبير
.
.
ولو أني تتبعت كل الحكايات لما وصلت
الى نهاية للمعرفة والحكمة
فخلف كل وجه أقابله
حكايات حكايات
بعضها يصدمنا .. يزلزل أعماقنا
يحطم فينا الكثير
من المفاهيم المغلوطه
ويبعدنا عن المثالية لننزل الى الواقعية
حيث الانسان المجرد
من الأقنعة الزائفة
ببساطته .. بأخطائه
.
.
ولا فرق هنا بين شاب متهور
وشيخ كبير في السن
.
.
لافرق بين جنس ولون
الجميع هنا بشر
.
.
.
.
في زاوية من زوايا السجن
كان هناك 3 شباب
( بكم )
لا يتكلمون
ويتحدثون بلغة الاشارة !!
لا أعرف أسماءهم
ولكني أستغربت من وجودهم هنا
وساقني الفضول للبحث عن طريقة لأسمع منهم
ولكن كيف أسمع !!
.
.
لابد أن أتعلم لغة الاشارة
وكنت أراقبهم كثيرا حين يجلسون مع بعضهم
ويتبادلون الاشارات المصحوبة ببعض اصوات
الهمهمة .. والضحكات
.
.
وقد لاحظت أن ناصر
وهو أحد السجناء القدامى
يشير اليهم ببعض الاشارات ويردون عليه
فعرفت أنه يعرف لغة الاشارة
.
.
اقتربت من ناصر
وسألته عنهم
فقال انهم من دار الرعاية الاجتماعية
ومتهمون بجريمة اغتصاب
.
.
دفعني الفضول أكثر
وطلبت من ناصر أن يعلمني
لغة الاشارة
.
.
وافق ناصر بشرط
أن أشحن له الجوال بعشرة ريال يوميا
وطبعا طريقة الشحن أن أتصل بأخي
وأقول له اشتري بطاقة شحن
وأرسل رقمها على هذا الجوال
.
.
وبدأت أتعلم
لمدة أسبوعين
حتى عرفت الكثير من الاشارات
.
.
أحدهم جاء وناصر يعلمني
فضحك .. وأشار بأنه سيعلمني لغة الاشارة
مقابل أن أعلمه كيف يتكلم مثلي
.
.
فرحت أني فهمت ما يقول
وفرح لأنه سجد أحدا مختلفا يفهمه ويدردش معه
بالاشارة
.
.
وبدأ هو يعلمني المزيد من الاشارات
مع متابعه من زميليه
وشوق منهم للدردشة
.
. حياتنا مدرسة بدأت .. بصرخة الميلاد
وسيبقى فيها الانسان ناظرا .. متأملا
في عجائب خلق الله وقدرته
وأجزم بأنه مهما تعلم
فسيبقى جاهلا
بالكثير
.
.
وقد كان لزاما علي أن أكون طالبا نجيبا
وأتخلى عن الشهادات الورقية
التي كانت ثمرة حضور بعض الدورات
أو مراسلة عدد من الجامعات
كي أكمل بها شخصيتي
وأكمل بها سيرتي الذاتية
لتكمل عامل النقص
والرغبة في الكمال
.
.
ولكن صدقوني
أننا لانزال نجهل الكثير ولن نتعلمه الا اذا
اعترفنا بجهلنا .. وقوص علمنا
.
.
وقد كان هناك الكثير لأتعلمه
ولكن أكبر درس تعلمته هنا
هو القدرة على التعامل مع ذاتي
مغ أفكاري وطيف أوجهها حيث أريد
لا حيث ما يقودني العالم من حولي
.
.
تعلمت القدرة على ادارة مشاعري وأحاسيسي
وتوجيهها نحو ما ينفعني في ديني
ودنياي، وأن لا أترك لغيري
قيادتي وتوجيهي نحو
ما لا أرلايد
.
.
وكان مكاني هنا
والبيئة المغلقة .. واسلوب الحياة البسيط
والمعقد في نفس الوقت .. والشخصيات المتنوعة
وقسوة الحراسة العسكرية
كلها .. خلقت بيئة مناسبة للتعليم النظري
والتطبيق النظري
ولم يبقى سوى أن أوجه أفكاري
وتركيزي .. ومشاعري
نحو كل ما يمكن أن يرفع
من تقديري لنفسي
والترفع عن كل ما يمكن أن يدخلني في
حوارات داخلية أو خارجية
سلبية
v
v
v
v
وصلت الى ثلاثة من البكم
وليست العبرة في حكايتهم بقدر ماهي
في أنفسهم .. في شخصياتهم
حيث عرفت بأن
الانسان هو الانسان
عقل وجسد ومشاعر
بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى
.
.
كانت لغة الاشارة صعبة بالنسبة لي لأنها جديدة علي
وتحتاج الى تناسق في حركة الأصابع والكفين
ودعم بحركة الوجه لاظهار المشاعر
وكنت بطيئا في التحدث معهم بهذه اللغة
ولكني مثلهم متحمس لفتح قناة اتصال
أستطيع من خلالها أن أتعلم .. وأفهم بعدا جديدا ومختلفا للحياة
.
.
ورغم ضعفي في هذه اللغة .. الا أنهم كانوا في قمة الذوق
فلم يضحكون علي .. بل يحاولون تصحيح أخطائي
.
.
كان الثلاثة طلاب في
جمعية خاصة لرعاية الصم والبكم
وكانوا جميعا يسيرون مع بعض
كفريق واحد ..
.
.
وقد تعرفوا على طالب جديد في الجمعية .. كما يقول أحدهم
أصم أبكم
ودخل الشيطان بينهم وقرروا الاقتراب منه
وكان لا يعرف الكثير عن الحياة .. ( به تخلف فكري بسيط )
خططوا على الاعتداء عليه
ونفذوا اعتداءهم
واستمروا في اغتصابه لمدة ثلاثة أشهر
في دورات مياه الجمعية
كلما جاءت الفرصة
.
.
يقول أحدهم .. في يوم من الأيام
شعرت بتأنيب الضمير حين رأيت دموع الولد
وهو يبكي بصمت .. وغير قادر على التعبير
.
.
يقول وقررت أن نتوقف
وقلت للشباب حرام ما ترضونه لأخوانكم
ولكنهم ما سمعوا كلامي
فتركتهم .. واستمر اثنين منهم في اغتصاب الولد
وازداد احساسي بالخوف وتأنيب الضمير والقلق
وهددتهم بأن يتوقفون .. ولكنهم
رفضوا
.
.
وفي ليلة .. شعرت بالحسرة حينما تخيلت أنني مكانه
تخيلت حين تنتهك كرامتي ولا أستطيع أن أدافع عن نفسي
ولا أستطيع التعبير .. وليس هناك من يساعدني
.
.
قررت أن أكون كبيرا في نظر نفسي
حتى وان استصغرني العالم
قررت أن أكون شجاعا
.
.
قلت لزملائي انني سأبلغ ادارة الجمعية
وضحكوا علي لأنهم ما كانوا يتوقعون
اني أبلغ على نفسي
ولكن الألم والضمير والحسرة
أقوى من أن أتغافل عنها
.
.
ذهبت للادارة وأشرت لهم بأن هناك طالب يغتصب في دورات مياه الجمعية
قام المدير من كرسية وقال من الطالب
قلت له الجديد الأصم الأبكم
والمغتصبين
فلان
وفلان
و
أنا
.
.
وشعرت لحظتها بجبل يقع فوق رأسي .. وبحر يبتلعني من تحت قدمي
لأني عرفت النتيجة التي سأصل اليها
وانخرطت في بكاء صامت
.
.
تأكد المدير وحاول التستر على الموقف حتى لا تفتضح الجمعية
وتدخل في تحقيقات بأنها مقصرة
وقال لنا نحن الثلاثة
سأسامحكم بشرط .. أن لا تعودون لمثل هذا الفعل ولا تقولون لأحد
.
.
ووافقنا
ولكن كلما رأيت الولد .. شعرت في عينيه بنظرة غريبة
لا أعلم كيف أصفها ولكني كنت أحتقر نفسي
وأتخيل أن هذا الولد هو أخي الصغير
وأفكر ماذا لوكان فعلا أخي الصغير
.
.
لم أستطيع أن أرتاح .. ولازال في نفسي شيء من الاحتقار لنفسي
والخوف والقلق .. وتأنيب الضمير .. وزاد الأمر
حين تخيلت الولد يوم القيامة يشتكيني
وأنني أغتصبته وسكت على حقه
شعرت بأني حشرة
نذل
حقير
تافه
.
.
كل الكلمات السيئة
كنت أنظر بها الى نفسي
مع أني قبل هذا الموقف كنت أشعر بأني شجاع وواثق من نفسي
وحتى الاعاقة في الكلام لم تكن تشعرني بالنقص
.
.
وقررت شيئا في نفسي
وذهبت بنفسي الى أقرب مركز للشرطة
.
.
دخلت على الضابط لأشرح له ولم يفهمني
فكتبت له
أنا واثنين من زملاي أغتصبنا ولد من طلاب المعهد
.
.
ضحك الضابط
وأخذ الورقة وكتب فيها
أنت مجنون
كتبت
لا
كتب
هل تعرف نتيجة كلامك
كتيبت
السجن
كتب
خلاص .. روح .. الله معك
.
.
رجعت وأنا أشعر بالراحة .. ولكن ردة فعل الضابط ما عجبتني
كأنها ردة فعل مدير الجمعية
.
.
وسكت أسبوع وماصار شي
ورجع احساسي
بالقلق والألم .. والاحتقار
وصار الموضوع كوابيس
.
.
طبعا عرفوا زملائي بمحاولاتي
وبدأوا يهددوني
ويقولون أنت مجنون
.
.
ولكن الناااااااااااار الحارقة في أعماقي
أكبر من أن أتجاهلها
.
.
بعد أسبوعين ذهبت الى ثلاث مراكز للشرطة
حتى أتأكد اني أقابل ضابط حقاني
وفعلا
آخر واحد أتصل بادارة الجمعية
وتكلم مع المدير
وطلب منه مترجم .. يترجم الاشارة
وبدأ التحقيق معي
وشعرت بالراااااحة .. والله العظيم اني كنت مفتخر بنفسي
وأنا قدام الضابط .. لأني حسيت اني مو ضعيف
واني أقوى من مدير الجمعية والضباط حتى
وكنت أقول أخسر سنين عمري ولا أخسر تقديري واحترامي لنفسي
.
.
استدعوا الشباب ( هذولا .. ويشير الى زملاءه ويضحك )
وانتهت التحقيقات .. وكشفوا على الولد
وأثبت المعمل الجنائي كل شيء
.
.
وجينااااا هنااااا
.
.
انتهت قصتهم
ولكن بدأت أنا في التفكير
في كم واحد منا الأسوياء جسديا
يشعر بأنه ناقص وتافه حين يسكت عن الحق
.
.
كم واحد منا الأسوياء جسديا
معاااااق نفسيا أو فكريا
.,
.
أكمل الشاب حكايته وكان يضحك .. وكأن شيئا لم يكن
أما أنا
فقد تركتهم يشيرون الى بعضهم .. وأنسحبت
أبحث عن مكان .. لأناقش ذاتي
وأسألها
.
.
هل أنتي شجاعة بمكا يكفي !!
ومتى تصبحين شجاعة اذا ماكنتي !!
.
.
( أراكم قريبا )
أخوكم سعيد



الصفحة الأخيرة
الله يهديكم