بــراءة
بــراءة
الجزء الثامن عشر

صعدت الدرجات هروبا من عمي .. و هناك سمعت هاتفي يرن ..كان المتصل ذو النظارة السوداء .. أجبت :" أهلا .. بك "
" أهلا رشاد .. نصيبك .. ستأخذه غداً "
" حسنٌ "
" تعال لي في شقة (33) في عمارة الزبرجد صباحاً .. و لكن إن لم تأتي .. و مر يوم غد سآخذ نقودك و سأسافر لأكن صريحاً معك"
أجبت :" لا تقلق .. سآتي .. "
" سأضع لك النقود في حقيبة مرقمة بأرقام سرية لكي لا يكشفك أحد كما حدث مسبقاً "
" لا .. أريد الحقيبة العادية أضمن .. "
" حسنٌ كما تشاء .."
و أتمم :" رشاد .. عليك الانتباه .. من الآن و أنت صرت ضمن مجموعتنا .. أي نية لك بالسفر نحن يجب أن نعلم و نحن نحدد إذا ما كنت تستطيع السفر أم لا .. أي مهمة .. أنت ستدخل معنا .. إذا ما قبضت عليك الشرطة .. لا تعترف على أي فرد و إن اعترفت .. سوف تقتل "
صُدمت .. ! و تبعثرت الحروف في فمي خوفاً ثم قلت :" لا بأس "
--
استلقيت على سريري و بت أفكر..، لحظة !! النقود .. المليونين و النصف لقد نسيتها .. الليلة سأذهب مع أيوب لنتفقدها و إن كانت موجودة سننقلها لمكان آخر و إن كانت لا .. فرحمة الله عليها !
--
حملت صحني و نهضت مخاطباً عمي بهدوء و ببراءة مفتعلة ..:" عمي سأذهب لتناول الطعام مع أيوب "
رمقني عمي بحدة .. فمشيت أنا .. لكن فجأة نهض هو و أمسك يدي :" لحظة "
استدرت له .. فقال و حبات العرق تتلألأ على جبينه و حمرة تلهب في عينيه :
" لا أعلم ماذا أقول و لكن رشاد .. هناك أمور يجب أن تفسرها .. ما سر الجروح المريعة التي تخفينها خلف ملابسك .. طلال و غسان قالا أن المختطفين لم يؤذوك بشيء سوى صفعة و بعض التهديدات .. و شيء آخر .. ما سر هذه العلاقة بينك و بين شامل .. حادثني و كأنه يريد أن يحميك مني ؟ ترى هل فعلت شيئاً ؟ .. و شيءٌ آخر ... ما سر علاقتك الغريبة بالخادم أيوب ؟ أيوب رغم كل شيء خادم .. لكني أراك تطيل الحديث معه و قد نمت علاقتكما لحد غير متوقع كما أخبرني غسان .. سمعت أيوب يشتكي منك لدى السائق و لم أفهم شيئا "
و رمقني بحدة :" هل لك أن توضح لي كل هذا ؟ "
نظرت لغسان و طلال و الخادمة و الخالة هادية و هم يراقبوني بتركيز .. إذاً هي لحظة مصيرية .. زفرت و قلت :
" عمي .. أعلم أنك تخاف علي كثيراً .. أولاً الجروح سببها لي من اختطفني و لكن لم يفعل ذلك يوم دخلت أنا الغرفة يا غسان .. بل في آخر ليلة و كان هدفه أن لا أخبرك يا عمي أي ملمح من ملامح وجهه الذي انكشف لي بالصدفة .. "
و أخذت نفساً ثم تابعت :" ثانياً .. الأستاذ شامل .. فقد زوجته و ابنه في حادث و هو رجل وحيد .. فالفترة التي سكنت فيها معه جعلته يتعلق بي كثيراً .. لكنه طردني بعد أن فقدت السيطرة على أعصابي و شتمته في لحظة من اللحظات .. "
و نظرت للصحن أفكر في الكذبة التالية و الجميع يحدق بي باهتمام ..ثم أتممت :
" أما عن الخادم أيوب .. هو يريد أن أساعده في أمر يخجل أن يبوحه لك يا عمي .. و لكني الآن وضعت موضع شك أي يجب أن أبوح به .. أيوب جره الشيطان لفعل المحرمات .. و طلب مني أن أساعده على العودة إلى الطريق السليم .. "
حدقوا بي بصدمة .. و همس عمي و هو يرمقني بحدة :" أية محرمات ؟ أيوب ؟ "
مثلت أكثر دور الداعية ..و قلت :" لا أريد أن أخبرك بأي شيء عمي .. فهذه أسرار أؤتمنت عليها .. و فاشي السر كناقض العهد و ناقض العهد كالمنافق .. و أنا لا أريد أن أكون منافقاً ..لكن أتمنى ألا تلمحوا لأيوب أنكم علمتم .. فأنه يريد التوبة .."
--
وضعت الصحن على السرير و بدأت بتناوله .. و أيوب يرمقني و يقول مبتسماً :
" يشهد الله أني خشيت عليك أنت بالذات يا رشاد .. من تلك العصابة "
رفعت رأسي و قلت أنا أمضغ الطعام .. :" و لمَ أنا بالذات ؟ "
ابتسم :" لا أعلم .. و لكن من لا يخشى على رشاد ؟ "
ابتسمت له ..
فضحك و عبث بشعري و قال :" وجه بريء "
ضحكت في نفسي ! سلاحي يؤدي مفعوله .. كان علي استغلال حالة الرضا التي حلت على أيوب ناحيتي ففاتحته بموضوع الذهاب للتنقيب عن أموالي .. فوافق ..
بــراءة
بــراءة
الجزء التاسع عشر

الساعة الثانية مساءاً .. أيوب يفتش هنا وهناك .. و يخاطبني :" أين العود المعدني كما تقول ؟ .."
رفعت رأسي و خاطبته :" لا أعلم .. هو في مكان هنا بالتأكيد "
تنهد .. و ابتعد قائلاً :" سأبحث في ناحية أخرى"
و ظللت أنا أبحث هنا و هناك .. آه ها هو .. تناولت المعول و بدأت بالحفر .. حتى أخرجت الحقيبة الحبيبة .. و بدأت أتلمسها بسرور ؟.. أخيراً .. فتحتها ..
" مكانك ! "
رفعت رأسي بصدمة ! ..
عناصر الشرطة تقف أمامي ممسكين بأيوب ..!
رباه ! ..
--
الضابط و هو يتأمل الحقيبة بالمال الذي يملأها بدهشة .. ثم يرفع أنظاره ناحيتي ثم يرمق أيوب و الأفصاد على معصمينا و يقول بصوته الجهوري المخيف :
" عشرات الآلاف في حقيبة سوداء ينقب عليها فتى مراهق مع خادمه .. هل أجد تفسيراً "
تكلم أيوب و دمعتين ساخنتين تلهب عينيه :" سيدي .. سيدي ليس لي أي دخل "
التفتتُ له و قلت :" أيوب ؟! لماذا تكذب "
زمجر الضابط :" كفى .. أريد سماع القصة .. "
التفتتُ للضابط و قلت :" سيدي أنا سأخبرك .. اكتشفت في ليلة من الليالي أن هذا الخادم القذر يحوم في الحي فتتبعته ... "
رمقني أيوب غير مستوعب .. فقال الضابط :" أكمل "
" تتبعته حتى وصل إلى هذا المكان الذي رأيتمونا فيه .. و رأيته يخرج من كيس لديه حقيبة سوداء لكنها سقطت من يديه و تناثر النقود .. و أنا أرمقه مصدوما .. فانتبه لي و هددني إذ أخبرت أحداً سيقتلني .. "
صرخ أيوب :" يا للظلم .. كذب .. كذب .. "
زمجر الضابط :" اصمت .. و دعه يكمل "
نكست رأسي :" لهذا صرت تحت ضغط نفسي كبير .. و أيوب صار يجبرني أن أذهب معه لوضع مزيد من النقود و يجعلني أحرس المكان .. و كل شيء كان بالجبر .."
--
خلف القبضان .. هجم علي أيوب و قبض على قميصي صارخاً :" أنت حقير ! ناكر للجميل .. لا أخلاق لا تربية ..أنت تستحق القتل ألف مرة يا خبيث .. يا مكّار "
صحت به :" أتركني .. "
و بالكاد نفذت بجلدي من بين يديه و ابتعدت عنه و قلت :
" لأنك غبي .. منذ البداية يا ساذج .. "
رمقني بصدمة و همس :" أنا غبي "
ابتسمت بسخرية و قلت :" غبي و مجنون .. أهناك من يساعد سارقا على سرقته بدافع المساعدة و حسب ..؟ لا أحد غيرك يا عديم الشخصية "
تأملني كثيراً و عيونه تلتمع .. ثم همس :"كنت أساعدك بصفاء نية لأني لم أكن لأرضى أن تتوه يا حقير !! "
ضحكت بسخرية :" لستُ أحقر منك "
--
في صباح اليوم التالي ..
يفتح الشرطي الباب و يهتف :" أيوب إسلام .. و رشاد القيس .. بسرعة "
يضع في أيدينا الأفصاد و نسير خلفه .. و في مكتب الضابط أرى عمي! و الأستاذ شامل ..أيوب يصيح :" سيدي .. سيدي أنقذني "
التفتت له عمي ورمقه باحتقار ثم نظر لي بنظرة مجهولة .. أما الأستاذ شامل سأل الضابط :
" ما القصة بالضبط "
يتنهد الضابط .. :"حسبما فهمت .. فإن الخادم يجبر ابنكم على مساعدته في دفن النقود و اضافة نقود أخرى من حين لآخر و في ساعة متأخرة من الليل "
يرمق عمي أيوب و ينكس رأسه ثم ينظر لي من طرف عينه كأنه يشكك فيما قلته .. و لكن قال :
" أيوب يمارس محرمات أخرى و ابننا متورط معه .. فاتخذوا الاجراء اللازم "
--
ابتسمت بمكر! .. رغم كل شيء سُجن أيوب .. و هو الآن تحت ضغط الشرطة و تحقيقهم بأن يعترف من أين سرق النقود ..مم لكني رغم كل شيء أشعر بغصة تعصر قلبي .. أنها مليونين و نصف .. كيف تلاشت ؟ لكن هذا أفضل من أتلاشى أنا .. و أيوب مجرد خادم ..لن أستفيد منه شيئا بعد الآن ..
أما أنا .. ! أجر حقيبة ملابسي و أسير بجانب الأستاذ شامل الذي يظل يمسح شعري و يردد:
" لقد حفظك الله .. أي عم هذا الذي لا يعلم عنك شيئاً ؟ "
و صعدنا السيارة .. تحت ضغط نفسي شديد سمح عمي لشامل أن يأخذني لشقته ومن هنا .. وداعاً يا عمي وداعاً يا طلال الغبي و يا غسان الهائج .. وداعاً أيوب الساذج .. وداعاً يا مليونين و نصف .. آه .. كان هذا مؤلماً ..
و في شقته .. و في وقت العصر أصبت بألم بساقي.. تفاقم و تفاقم .. و لم يكن باستطاعتي احتماله .. فأسرع الأستاذ شامل لاستدعاء الطبيب .. ألم الساقين لم يأتي إلا اليوم ؟ اليوم سأستلم الثلاثة ملايين و نصف .. رباه ! ..
لم تمر نصف ساعة حتى جاء الأستاذ شامل مع الطبيب .. و وسط الآلام .. لم أنتبه إلى الطبيب و هو يحقنني بحقنة مؤلمة في ذراعي .. لم تمكني حتى من السؤال عن نوعيتها ..
و غبت عن الوعي ..
--
فتحت عيناي بصعوبة على أشعة الشمس .. رفعت رأسي عن الوسادة .. و رأيت ورقة وُضعت قرب الوسادة .. فتحتها .. و قرأت :
" رشاد .. أنا في عملي .. أتمنى أن تكون بخير .. لا ترهق نفسك كثيراً .. و طعام الفطور على المائدة ! ... شامل "
فتحت عيناي غير مستوعب .. فـ.. فطور ؟ .. كم الساعة الآن ؟ .. فتحت الدرج و أخرجت ساعتي و صعقت !!! الثامنة صباحاً ؟ يوم أمس انقضى ؟
يوم أمس انقضى ؟!!
يا للمصيبة .. يا للفجيعة !!
الملايين مرة أخرى تتلاشى !!!!!
بجنون ضربت رأسي بالجدار .. بودي لو أمزق نفسي .. أي نفس ستعيش من دون الملايين .. و بقهر نهضت من السرير إلى النافذة و فتحتها ..
و من الشرفة رميت بنفسي إلى الموت ..
بــراءة
بــراءة
الجزء العشرين و الأخير

و هبطت إلى ظلمات الموت .. كاللص الذي يهرب من الناس إلى الشرطة .. أي شعور شعرت ؟ لا تسألوني .. و لكني شعرت بظلمة تعتريني بأكملي و لم أشعر بأي ألم جسدي بل روحي .. إذاً أليس هذا الموت ؟!!
--
لا ليس الموت .. و كان إنقاذ إلهي .. فتحت عيناي ببطء .. على وجع مزلزل .. صرخت .. :
" رباه .. رباه ! .. !!!!!!!!! ربــــــــاه "
كنت مصدوما من هذا الألم الغريب ..
لا أدري أين موضع الألم بالضبط .. فشعرت بي كلي كتلة من الوجع الحاد ..أفقدني قدرة البصر و السمع و الشم .. و لم أكن أقوى إلا على الصراخ ..
دقائق و يعود الهدوء .. و أغفو من جديد مع حقنة تُغرس في ذراعي ..
--
فتحت عيناي من جديد .. ..و ألم يفتت جسدي .. آنذاك لم تكن لدي القدرة حتى على الحديث .. فقط شعرت بنحيب حولي ..فهمت أن ظهري أو حوضي أو ساقاي .. مكسور ..أي أني لن أستطيع المشي..
و ذلك الأمر صدع رأسي .. همست بجهد :" آه .. "
ليتجمع حولي الكثيرون .. و صلوات و زغاريد تلف الغرفة بأسرها ..كادت خلايا مخي أن تتلف ..اتضحت أمامي الرؤية أخيراً .. عمي يمطرني قبلات و يتمتم بالصلوات و كلمات الشكر لله .. رمقته بإرهاق و همست :" عمي ؟ "
ابتسم و قبل راحة يدي :" نعم بني "
رمقته بألم مرير ..تولدت دمعة ساخنة و همست:" لن أتمكن من السير مجدداً أليس كذلك؟"
--
ها أنا أراقب غسان و طلال و هما يلعبان كرة القدم في الحديقة .. بينما أنا على هذا الكرسي المتحرك ..الأستاذ شامل سافر تحت ضغط عمي الذي اتهمه بالإهمال .. فأنا قلت أن الشرفة كانت مفتوحة و فور استيقاظي من المنوم بالتأكيد لن أكون في كامل وعيي .. فسقطت .. هذه كذبتي الفاشلة و الجميع صدقها حتى شامل نفسه .. فسافر و هو يشعر بتأنيب الضمير ..
تأملت الجميع بأسى .. هذا عمي الذي يجلس بجواري ..ينظر لي بحب كبير .. ينسق لي الكرسي المتحرك .. ثم يمسح شعري و يظل يقنعني بأن ما حدث لي شيء عادي .. و ذاك طلال الذي يرمقني من بعيد و يلوح لي بيده .. و أحياناً يقترب و يفتح حواراً ما فيجدني صامت .. فيغادر .. هذا غسان و هو يلعب الكرة ثم يرميها تجاهي بغرض أن أمسكها .. و يبتسم لي بود .. هذه خالتي هادية و هي تقبل حاملة الطعام و تضعه أمامي .. و على وجهها إشراقة نيرة ..ذاك شامل الذي حتى في طريق رحلته اتصل يطمئن علي و يعتذر .. و يعدني بأن يتفقد الأحوال الطبية في البلدان التي سيزورها لموضوع علاجي ..ذاك أيوب .. و هو يقف خلف القضبان و يصمت بحزن مرير و يتكتم عن ما فعلته به ..
بصراحة .. لن أنهي قصتي كمسلسل عادي استمر بالشر و انتهى بالخير أو استمر بالخير و انتهى بالشر .. قصتي .. ابتدأت و انتهت كما هي ..
فبعد مراسم الإعدام لبراءتي كان لابد أن تُعدم !

.. { أتعبتني يا قلب في دنيا هواك ..
تيهاً و لا أدري متى تلقى مناك ..
مالي إذا حاولت أن أدنو لربي
أبعدتني عنه كأني من عداك
..{ ،، !


تمت بحمد الله

26 9 2008
يوم الجمعة الساعة السابعة و الربع مساءاً



``````
سأنتظر تعقيباتكم و تعليقاتكم و انتقاداتكم

ريثما أجهز لكم الفصل الثاني ^_^
مناير العز
مناير العز
ما شاء الله عليك

أسلوب وحبكة رائعة

ننتظرك في الجزء الثاني فلا تتأخري
أروانا
أروانا
علميني وش أقول ( رووووعه , رهييييبة , خرافية ,)
كاتبة أدبية ذات ذوق راقي في إنتقاء الكلمات وجيدة في جذب القراء إلىتكملة القرائة لآخر كلمة...ظ
أروانا..
إنتظري كتاباتي ..