-٢-
دك المراحيض!
عندما تكون بدينا في العالم العربي يغشاك إحساس دائم بأن لا أحد يحفل بك،وكثيراً ما يصل تفاعلك
الجمعي منتهاه،حتى تبلغ مدى لا تحفل فيه أنت بنفسك،ولو فعلت،لربما لم تكتنز أرتالاً من الشحوم تنثرها
بخيلاء وعدم اكتراث في أرجائك!
سلسلة المعاناة،وأحاديث الإحراج،بحر لا ساحل له.
وإن كنت تحدثت في الفصل الأول عن معاناة السمين بين السماء والأرض،فإن الإخلاد إلى الأرض
يحمل هماً أشد،إذ هو في النهاية نزول،وليس سام كمن هبط.
اذكر أنني كنت في رحلة استجمام مع ثلة من الأصدقاء إلى بيروت في منتصف التسعينيات .يممنا
وجوهنا صوب الشرقية،وهناك التأم شملنا في فندق جميل محاذ للشاطئ.
بعد ساعات من الوصول،ولفرط إنسانيتي وجدتني مضطراً لاستخدام دورة الميا ه.هناك صنف من
المراحيض،أجلكم الله،لا يتكئ في ثقله على الأرض بل على الجدار .اعتقد أن أفضل وصف يمكن أن أسديه
لمرحاض كهذا،هو أنه غبي،وفي التفاصيل بيان للسبب.
جلست على المرحاض لأقضي حاجتي،لكنني قبل أن أفعل قضيت عليه!
وجدتني أنا،والمرحاض في درجة واحدة متساويين على الأرض إلا أنه انتثر أشلاً،وليتني كنت
مثله،فربما تخلصت من بعض أشلائي بدعوى نسيانها!
سمع الرفاق صوت الدوي فظنوه انفجارا ً.كان الطيران الإسرائيلي قبلها بليال معدودة يخترق الأجواء
اللبنانية،لكن الصحاب لم يتخيلوا أن طيران جسدي حطم المرحاض تحطيماً.
حجماً وليس في القدرات بطبيعة الحال. ،(B بدا لي الآن،أني لو كنت حينها طائرة لما جاوزت ال( 52
ضحك الأصدقاء علي طويلاً،وكان هذ ا ما جرت به عادتهم،حفظ الله لهم جميل عاداتهم وخلصني
وإياهم من قبيحها.
ترى صديقك صغيراً عندما يقهقه عليك،وأنت في حالة مأساوية،ثم تتخلل ضحكاته المجلجلة عبارة
عسى ما تعورت؟)،أي أرجو أنك لم تصب؟! L فاترة يقول فيها
-لا يا شيخ!(عسى ما تكلفت يا اللطيف!).هذا لسان حالي.
في البداية كنت ألومهم كثيراً،ومع الوقت خففت عن نفسي كل ذلك،عندما تصورت نفسي مكانهم وأرى
حادثاً كهذا،لا بد أن أضحك،فلحظات البهجة تضمحل يوماً بعد آخر.
هذا درس جديد تعلمته مع الوقت .قبل أن ألوم غيري،أحاول أن أضع نفسي مكانه،فإن ك نت سأفعل مثله
أو نحوه،فلا داعي للوم بتاتاً،وبخاصة أن المرء لو سلم نفسه للعتب لأفنى سني عمره ولحظات حياته يعتب
على هذا ويعاتب ذاك،وقديما قيل:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك،لم تلق،الذي لا تعاتبه
١١
لم أعبأ كثيراً بتصريف رفاقي بالقدر الذي حملت فيه هم العاملين في الفندق.
كنت أتمنى لو جاءني مدير الفندق بفاتورة المرحاض،ولو ضاعف قيمته ثلاث مرات،لأدفع القيمة
وأتخلص بالمال من الحرج.لكنه لم يفعل،وليته فعل!
خرجنا للتنزه ساعات في بيروت،عدت بعدها إلى الغرفة فابتدأت نشاطي بدورة المياه،لأرى ماذا حدث؟
وجدتهم أصلحوا المرحاض،وأبدلوه جديدا ً! لم ينبس أحد من العاملين في الفندق ببنت شفة، ولا تفوه
بكلمة واحدة.جميل أن يكون العمل هو المتحدث!
فكرت جدياً أن أقترح عليهم أن يعتمدوا مستقبلاً على مراحيض تستند على الأرض لا إلى الجدار،لكني
بعد هنيهة تفكير،قلت لنفسي:"يا بجاحتك يا أخي .تقتل القتيل وتمشي في جنازته!".
توقفت عن فكرة إسداء النصائح بالمجان،هذه التي بدأت أستهجنها كما لم أكن من قبل.
المتبرعون بالنصائح،يسدونها ذات اليمين وذات الشمال،هم أناس ثقلاء،وإن خفت أوزانهم .يمارسون في
العقل الباطن من خلال نصائحهم التافهة هذه إقناعاً لأنفسهم بأنهم أفضل ممن ينصحون ."من كان منكم بلا
خطيئة،فليرمها بحجر"!.
كانت حاتي مريرة عندما أدخل الفندق،وأمخر عباب بهوه متجهاً إلى المصاعد،أو حتى عندما أهم
بالخروج منه.
نظراتي لا تفارق الأرض كالمنكسر،مع أني أنا من كسر!
كنت أنظر في الأرض،مع أن لبنان بلد يلزمك بأن تبقي عينيك مفتوحتين حتى لا تفوت جميلا ولو
بمجرد أن ترمش.
لم أكتشف قيمة الشماغ كما فعلت في تلك الأيام،وددت لو كنت منخرطاً في الحرس الوطني السعودي
لأعتمر شماغاً فوق بدلتي، لا لشي إلا لأتلطم(أتلثم بالشماغ موارياً به وجهي) حياًء في الدخول وفي الخروج.
بعد جولة تفكير أخرى،قلت لنفسي :ما أعظم سذاجتك !الشماغ سيواري وجهي،لكن من لي بمن يواري
هذا الجسد المترامي،حتى لا يعرفوا أن صاحبه هو من كسر المرحاض...فقط،بالجلوس عليه!
تذكرت أن هناك أنواعاً من العقاب النفسي أشد أثراً من العقاب الجسدي.
استحضرت مرحلة الصبا يوم كان والدي -حفظه الله-يتعاطي مع خطئي بالتجاهل .كم تمنيت لو
ضربني،أو وبخني،لأسلم من سيوف سكوته وسياط تجاهله،ربما ورث ذلك من جدتي -رحمها الله -فقد كانت
تكرر بلهجتها القصيمية:"الخسران يقطع المصران".أي أن تجاهل المرء،يجعل ألمه كتقطيع مصرانه!
ولأن الشيء بالشيء يذكر،فقد كنت أيام الدراسة أسرح بتفكيري كلما جاء درس الجغرافيا،ذات الحالة
استمرت عندما أستمع إلى تحليلات بعض المعلقين،أو أشاهدها قراء ة.فهم عندما يتحدثون عن مساحة
السعودية يشيرون إلى أنها مترامية وشاسعة .كان أول شيء يقفز إلى ذهني هو جسدي أكثر الأشياء التي
عرفتها ترامياً وأقرب المناطق الشاسعة لي.
شكلت هذه الحالة الشعورية الخاصة،ارتفاعاً عميقاً في حسي الوطني،وأرجو أ ّ لا يؤثر ضمور جسمي
في فقد هذا الإحساس.
-٢-
دك المراحيض!
عندما تكون بدينا في العالم العربي يغشاك إحساس دائم بأن لا أحد يحفل بك،وكثيراً...
دك المراحيض!
عندما تكون بدينا في العالم العربي يغشاك إحساس دائم بأن لا أحد يحفل بك،وكثيراً ما يصل تفاعلك
الجمعي منتهاه،حتى تبلغ مدى لا تحفل فيه أنت بنفسك،ولو فعلت،لربما لم تكتنز أرتالاً من الشحوم تنثرها
بخيلاء وعدم اكتراث في أرجائك!
سلسلة المعاناة،وأحاديث الإحراج،بحر لا ساحل له.
وإن كنت تحدثت في الفصل الأول عن معاناة السمين بين السماء والأرض،فإن الإخلاد إلى الأرض
يحمل هماً أشد،إذ هو في النهاية نزول،وليس سام كمن هبط.
اذكر أنني كنت في رحلة استجمام مع ثلة من الأصدقاء إلى بيروت في منتصف التسعينيات .يممنا
وجوهنا صوب الشرقية،وهناك التأم شملنا في فندق جميل محاذ للشاطئ.
بعد ساعات من الوصول،ولفرط إنسانيتي وجدتني مضطراً لاستخدام دورة الميا ه.هناك صنف من
المراحيض،أجلكم الله،لا يتكئ في ثقله على الأرض بل على الجدار .اعتقد أن أفضل وصف يمكن أن أسديه
لمرحاض كهذا،هو أنه غبي،وفي التفاصيل بيان للسبب.
جلست على المرحاض لأقضي حاجتي،لكنني قبل أن أفعل قضيت عليه!
وجدتني أنا،والمرحاض في درجة واحدة متساويين على الأرض إلا أنه انتثر أشلاً،وليتني كنت
مثله،فربما تخلصت من بعض أشلائي بدعوى نسيانها!
سمع الرفاق صوت الدوي فظنوه انفجارا ً.كان الطيران الإسرائيلي قبلها بليال معدودة يخترق الأجواء
اللبنانية،لكن الصحاب لم يتخيلوا أن طيران جسدي حطم المرحاض تحطيماً.
حجماً وليس في القدرات بطبيعة الحال. ،(B بدا لي الآن،أني لو كنت حينها طائرة لما جاوزت ال( 52
ضحك الأصدقاء علي طويلاً،وكان هذ ا ما جرت به عادتهم،حفظ الله لهم جميل عاداتهم وخلصني
وإياهم من قبيحها.
ترى صديقك صغيراً عندما يقهقه عليك،وأنت في حالة مأساوية،ثم تتخلل ضحكاته المجلجلة عبارة
عسى ما تعورت؟)،أي أرجو أنك لم تصب؟! L فاترة يقول فيها
-لا يا شيخ!(عسى ما تكلفت يا اللطيف!).هذا لسان حالي.
في البداية كنت ألومهم كثيراً،ومع الوقت خففت عن نفسي كل ذلك،عندما تصورت نفسي مكانهم وأرى
حادثاً كهذا،لا بد أن أضحك،فلحظات البهجة تضمحل يوماً بعد آخر.
هذا درس جديد تعلمته مع الوقت .قبل أن ألوم غيري،أحاول أن أضع نفسي مكانه،فإن ك نت سأفعل مثله
أو نحوه،فلا داعي للوم بتاتاً،وبخاصة أن المرء لو سلم نفسه للعتب لأفنى سني عمره ولحظات حياته يعتب
على هذا ويعاتب ذاك،وقديما قيل:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك،لم تلق،الذي لا تعاتبه
١١
لم أعبأ كثيراً بتصريف رفاقي بالقدر الذي حملت فيه هم العاملين في الفندق.
كنت أتمنى لو جاءني مدير الفندق بفاتورة المرحاض،ولو ضاعف قيمته ثلاث مرات،لأدفع القيمة
وأتخلص بالمال من الحرج.لكنه لم يفعل،وليته فعل!
خرجنا للتنزه ساعات في بيروت،عدت بعدها إلى الغرفة فابتدأت نشاطي بدورة المياه،لأرى ماذا حدث؟
وجدتهم أصلحوا المرحاض،وأبدلوه جديدا ً! لم ينبس أحد من العاملين في الفندق ببنت شفة، ولا تفوه
بكلمة واحدة.جميل أن يكون العمل هو المتحدث!
فكرت جدياً أن أقترح عليهم أن يعتمدوا مستقبلاً على مراحيض تستند على الأرض لا إلى الجدار،لكني
بعد هنيهة تفكير،قلت لنفسي:"يا بجاحتك يا أخي .تقتل القتيل وتمشي في جنازته!".
توقفت عن فكرة إسداء النصائح بالمجان،هذه التي بدأت أستهجنها كما لم أكن من قبل.
المتبرعون بالنصائح،يسدونها ذات اليمين وذات الشمال،هم أناس ثقلاء،وإن خفت أوزانهم .يمارسون في
العقل الباطن من خلال نصائحهم التافهة هذه إقناعاً لأنفسهم بأنهم أفضل ممن ينصحون ."من كان منكم بلا
خطيئة،فليرمها بحجر"!.
كانت حاتي مريرة عندما أدخل الفندق،وأمخر عباب بهوه متجهاً إلى المصاعد،أو حتى عندما أهم
بالخروج منه.
نظراتي لا تفارق الأرض كالمنكسر،مع أني أنا من كسر!
كنت أنظر في الأرض،مع أن لبنان بلد يلزمك بأن تبقي عينيك مفتوحتين حتى لا تفوت جميلا ولو
بمجرد أن ترمش.
لم أكتشف قيمة الشماغ كما فعلت في تلك الأيام،وددت لو كنت منخرطاً في الحرس الوطني السعودي
لأعتمر شماغاً فوق بدلتي، لا لشي إلا لأتلطم(أتلثم بالشماغ موارياً به وجهي) حياًء في الدخول وفي الخروج.
بعد جولة تفكير أخرى،قلت لنفسي :ما أعظم سذاجتك !الشماغ سيواري وجهي،لكن من لي بمن يواري
هذا الجسد المترامي،حتى لا يعرفوا أن صاحبه هو من كسر المرحاض...فقط،بالجلوس عليه!
تذكرت أن هناك أنواعاً من العقاب النفسي أشد أثراً من العقاب الجسدي.
استحضرت مرحلة الصبا يوم كان والدي -حفظه الله-يتعاطي مع خطئي بالتجاهل .كم تمنيت لو
ضربني،أو وبخني،لأسلم من سيوف سكوته وسياط تجاهله،ربما ورث ذلك من جدتي -رحمها الله -فقد كانت
تكرر بلهجتها القصيمية:"الخسران يقطع المصران".أي أن تجاهل المرء،يجعل ألمه كتقطيع مصرانه!
ولأن الشيء بالشيء يذكر،فقد كنت أيام الدراسة أسرح بتفكيري كلما جاء درس الجغرافيا،ذات الحالة
استمرت عندما أستمع إلى تحليلات بعض المعلقين،أو أشاهدها قراء ة.فهم عندما يتحدثون عن مساحة
السعودية يشيرون إلى أنها مترامية وشاسعة .كان أول شيء يقفز إلى ذهني هو جسدي أكثر الأشياء التي
عرفتها ترامياً وأقرب المناطق الشاسعة لي.
شكلت هذه الحالة الشعورية الخاصة،ارتفاعاً عميقاً في حسي الوطني،وأرجو أ ّ لا يؤثر ضمور جسمي
في فقد هذا الإحساس.