جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
وهبط ليل آخر


وبعد صلاة العشاء فتح باب الزنزانة وسدته جثة صفوت المظلمة الذي نادى بوحشية : يا بنت يا زينب قفي؟ وسحبني من يدي وهو يقول تعالى اختل توازني وكدت أسقط على الأرض من شدة الإعياء! . . وفى الطريق قابله رجل قال له : خليل بك ينتظرك يا صفوت ! قال وهو يسب ويلعن . . أنا آخذ له البلوى دي سأل الآخر هي دي زينب الغزالي؟ فأجاب صفوت : نعم هي دي . زينب الغزالي . . وأخذ يسب ويلعن وأدخلني حجرة بها مكتب عليه رجل كأن وجهه الليل المظلم المخيف . انتفض الرجل واقفا كأن جنا مسه وقال لصفوت : روح انته هات الرجل. وتركني واقفة وأخذ يذرع الحجرة ذهابا وإيابا كالملدوغ . عاد صفوت ومعه رجل دخل وجلس على المكتب . أخذ يقول : من أنت يا بنت ؟ قلت : زينب الغزالي الجبيلي! قال : ولم أنت هنا ؟ قلت : لا أعلم . قال : لازم تعرفي . أنت هنا لأنك والهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل دبرتم لقتل جمال عبد الناصر. قلت : لم يحدث هذا! قال : اعتدلي في كلامك ! . . الليلة قتل لا جلد ككل مرة . أتعرفين من أنا؟ أنا وحش السجن الحربي. . أنت فاهمة. قلت . . ليس هنا إلا الوحوش والكلاب . . لم أر أحدا من الآدميين منذ دخلت السجن إلا هؤلاء المظلومين من الإخوان حملة الأمانة وزعماء الحق . فقام وركلني برجله ودفعني بكلتا يديه فأوقعني، ثم أخذ يرفصنى برجليه ، ثم أوقفني وكان الضرب قد أتعبني فاستندت إلى الحائط . فنظر إلى وقال : لا نريد هذه الفلسفة اعتدلي وتكلمي! . . وضربني بكلتا يديه على وجهي . . وأخذني صفوت بيديه . . وأجلسني على مقعد وخرج وأغلق باب الحجرة . . وبعد فترة دخل رجل وقال : "إيه يا زينب ماذا تفعلين بنفسك . . أنت تشتمين الناس وتسخرين بهم . . الريس قلبه كبير ويريد أن يخدمك . نحن نريدك شاهدا في القضية فقط وسنخرجك من الجريمة التي ألبسها إياك الإخوان المسلمون " . قلت : "ليس هناك جريمة لدى الإخوان المسلمين . . الجريمة أنكم أنتم أيها الأوغاد تحكمون هذا البلد الطيب " . قال : "أنت إما مجنونة أو حالتك النفسية سيئة سأتركك وأبعث لك من يعرف كيف يتفاهم معك ". وتركني وخرج ، وحمدت الله على أنه لم يأمرني بالوقوف لشدة تعبي . وبعد فترة دخل رجل وبيده سوط وكان ما يميزه أن حب الشباب يملأ وجهه . قال : قفي يا بت . . من أنت ؟ قلت : زينب الغزالي الجبيلي . . قال : يا نهار أسود. تبقى دي ليلتك الأخيرة مادمت حضرت هنا . ودخل رجل آخر فقال للأول : أخرج أنت سأقعد معها قليلا . هذا حرام . دي فعلت خيرا كثيرا، لكن أوقعها الإخوان . . قال الأول : صحيح يا بيه لازم تكون عملت طيب لأنك لحقتها . كان فاضل لها دقائق وعمرها ينتهي . . قال الثاني : اذهب أنت . سأقعد أتفاهم معها ما تريدون منها بالضبط ؟ قال الأول : الريس والمشير يريدان أن تكون شاهد ملك في القضية وتعترف على الإخوان . . والإخوان كلهم اعترفوا يا بيه . ثم خرج وبقى الثاني. قال : يا زينب ما هذا الذي تعملينه في نفسك ؟ ملابسك متقطعة ومتبهدلة . . ثم جلس على المكتب وهو يقول : " إنت باين عليك الإعياء خالص . . تقدري كمان تجاوبي على أسئلتي، أو نتفاهم غدا"؟ لم أجبه . . قال : "أنا كنت مع أخيك عبد المنعم وسيف ومع زوجك هذا الصباح . . زوجك رجل طيب جدا إ أنت صعبانة على قوى . . وأنا أر يد إخراجك من هذه القضية، وموضوع إنك تصبحين شاهدة ملك موضوع جيد جدا . . " ثم نادى صفوت وأمره أن يأخذني كي أنام وأرتاح وأفكر لنلتقى غدا. . وأخذني صفوت . .
جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
استراحة قصيرة


وابتلعتني الزنزانة ، وكانت علية وغادة نائمتين ، وتنبهت علية إلى دخولي فقالت : أجئت يا حاجة؟ قلت: الحمد لله .
حاولت أن أنام فلم أستطع . . وأذن الفجر فصلينا، وأخذت غادة تسألني عما حدث . قلت الأمر لله . أدعو الله أن يثبتنا على الحق ، إنهم يريدونها فتنة. إنهم يطلبون منى المستحيل . قالت علية : ربنا يعينك يا حاجة . وأعادت غادة السؤال عن تفصيل ما حدث . . فلم أحدثها. . كنت متعبة وكان على أن أهيئ نفسي للقاء الليلة الآتية . . وفهمت علية ذلك فأسكتت غادة وانقضى النهار.
جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
وما أقسى الليل


وجاء الليل الذي أصبحت أخافه وأخشاه ، وأخذت علية وغادة تدعوان لي وللإخوان جميعا ، وفتحت الزنزانة وأخذت ، ولكنى وجدت رجلا آخر لم أره من قبل ومعه صفوت ، ذهبا بي إلى مكاتب التعذيب . أمر الرجل صفوت بالانصراف وأمرني بالجلوس على مقعد بجوار المكتب . ثم بدأ حديثه قائلا: يا ست زينب أنت أتعبت الناس الذين يريدون خدمتك . وأنا اليوم مقطوع لخدمتك ، وأرجو أن يعينني ربنا وتنهدي بالله وتتركي حكاية الإخوان المسلمين ، وكفاية أنهم أوقفوك هذا الموقف الحرج . . أنت مخدوعة فيهم . فاكرة إنهم صحيح يريدون الإسلام . هؤلاء طلاب حكم ' نحن نريد أن تفتحي لنا قلبك . الهضيبي قال كلاما معناه الحكم عليك بالإعدام وأيده سيد قطب في ذلك . . نحن لا نصدق كلامهم ونريد إخراجك من القضية نهائيا واعتبارك شاهد ملك. . كما أننا نريد أن تذهبي الآن إلى منزلك ، وعندما نحتاج ليك في الشهادة نرسل لك أو نذهب نحن إليك في منزلك ، إذا وافقت على هذا ستقابلين المشير عامر والرئيس عبد الناصر، وسيصدر قرار من الرئيس بإلغاء قرار حل جماعة السيدات ، وقرار بإعادة صدور المجلة، ليس هذا فحسب بل إن الرئيس ينوى أن يعطيك مركزا كبيرا في الدولة يجعلك صاحبة السيطرة على كل الجمعيات في الجمهورية . . وكفى ما حدث لك من غدر الإخوان . . كل المصائب يريدون وضعها على رأسك ليخرجوا هم سالمين " . . كان يتحدث وأنا صامتة لا أنطق بكلمة، وكان وهو يتحدث يتفرس في ملامحي . ثم دق جرسا على المكتب دخل بعده صفوت فطلب لنفسه شايا ثم التفت إلى يقول : أنت تشربين القهوة فهل أطلب لك فنجان قهوة . فقلت : "شكرا. . لا أريد شيئا". قال : "اسمعي يا زينب ، سأعطيك ورقا وقلما، اكتبي فيه كل ما اتفقنا عليه فقلت : " إننا لم نتفق على شئ . ولا أدري ماذا اكتب . . !" .
قال وهو يناولني الورقة والقلم : "إنت للآن لم تستطيعي أن تقدري مصلحتك . . الرئيس جمال يريد خدمتك ، ويريد إخراجك من القضية ! !" .
قلت : "أي قضية؟ ! ! ناس اجتمعوا ليدرسوا دينهم ، ويتفقهوا فيه . . هل هذه قضية أو جريمة؟ ! ! الأولى بالرئيس وبالمشير أن يحاكما الذين ينشرون التسيب الأخلاقي، والانحلال ، بل والتسيب الإلحادي . . وينشرون الفساد في كل مكان . . إذا كتبت فسأكتب الحقيقة الواقعة في هذا البلد المسكين . . الحق الذي أعلمه سأكتبه . قال : "أنا عارف إنك سيدة فاضلة على علم ، وعقلك كبير، ولن ترتضى أن تزيدي موقفك سوءا اكثر مما أنت فيه ! ! . . أنا سأتركك مع الورق والقلم . . قبل الكتابة . ضعي أمام عينيك أن الرئيس يريد إخراجك من القضية . . القضية وضحت معالمها تماما . . الهضيبي وسيد قطب كانا يدبران لاغتيال عبد الناصر والاستيلاء على الحكم . ويقولان إن زينب الغزالي هي التي كانت تدبر وتخطط . يريدان إلقاء كل المسئولية فوق رأسك ويلتمسان البراءة لهما فقط . بل إنهما يقولان إنك أنت السبب في كل ما حدث ، وأنت التي سببت لهما الأذى والضرر. . اكتبي . . اكتبي . . لكن فكرى طويلا في موقفك وموقف الإخوان منك . . إنهم يريدون إلصاق القضية كلها بك . . وإخراج أنفسهم منها . . إننا نعلم أنهم حرضوك ثم تخلوا عنك . . هل هذه شجاعة؟!! إنها نذالة". . وتركني وحدي مع الورق والقلم . . وآه من الورق والقلم مع سجين في زنزانة ! ! . .
وكتبت " . . . كنا نجتمع مع شباب الإخوان ندرس في كتب الفقه والسنة والحديث والتفسير . كنا ندرس كتاب المحلى لابن حزم ، وزاد المعاد لابن القيم ، والترغيب والترهيب للحافظ المنذر ، وفى ظلال القران لسيد قطب ، وملازم من كتاب معالم في الطريق . . كنا ندرس سيرة الرسول والصحابة . وكيف قامت الدعوة الإسلامية . . وكان ذلك بإذن وإرشاد الأستاذ الهضيبي . . كان الغرض من الدراسة هو إيجاد لبنات سليمة من الشباب المسلم . علنا نستطيع إعادة مجد الإسلام وقيام أمته الفعالة في الأرض .
وبعد دراسة طويلة قررنا أن نعيد تنظيم الإخوان المسلمين في كل مواقعها وأن نعمل بدأب ومثابرة على جمع كل من نستطيع من لبنات صالحة من شباب الأمة الضائع في المجتمع الجاهلي المحيط بالبشرية كلها . . وقررنا أن يستغرق هذا العمل ثلاثة عشر عاما . بعدها نقوم بمسح للجمهورية، فإن وجدنا الفئة المؤمنة بمبادئ الإسلام تقل نسبتهم عن 25% جددنا فترة الدراسة المصحوبة بالتربية لثلاثة عشر عاما أخرى ثم نعيد التقييم ثانية وثالثة ورابعة حتى تصل النسبة75% من مجموع الشعب . . عندها ننادى بالدولة الإسلامية . . فماذا يخيف عبد الناصر، وماذا يخيفكم أيها الحاكمون ؟ ربما تمض أجيال قبل أن يتحقق هذا الذي نرجوه ، فما الذي يخيفكم ؟! ! ليس في حسابنا -بالمرة- قتل عبد الناصر، فقتله ليس أمرا واردا في قضيتنا . . القضية اكبر من قتل شخص أو أشخاص وفكرة القتل مرفوضة ولكنكم تتعللون بها لتقتلوا المؤمنين . . ! ! من الذي أمركم بتعذيبنا وقتلنا؟ الصهيونية أم الشيوعية؟ ! ! إن الأمر الذي ترتعد منه الشيوعية الملحدة ، ويخيف الغرب المنحرف ، المرتد عن مسيحيته . . إن الأمر الذي ترتجف منه الصهيونية العالمية ويجعلها لا تنام ولا تهدأ . . الأمر الذي يرعب كل هؤلاء جميعا، هو عودة الإسلام بعقائده وشرائعه ومعاملاته إلى المسلمين . . ! ! نعم عودة الإسلام تقلق كل هؤلاء ولذلك هم يتربصون بنا ويتجسسون علينا، ثم يأمرون عملائهم بالقضاء على المؤمنين . . ولكن الله متم نوره . ومخزي الكافرين . . إن قتلتمونا اليوم فسيأتي من بعدنا من يرفع راية الإسلام . . أما مجلة السيدات المسلمات أو المركز العام للسيدات المسلمات أو الدنيا كلها إذا جاءتنا لتكون لغير الله فنحن نرفضها ولا نريدها . . إننا لا نطلب إلا الله وطريقه وشريعته " وذيلت هذه الكلمات بتوقيع "زينب الغزالي الجبيلي"! ! . ودخل صفوت الروبي وطلب منى الأوراق فأعطيتها له وخرج . . ومرت فترة . عاد إلى الرجل الذي كان أعطاني الأوراق والقلم . ومعه أوراق - ليست هي التي كتبتها- ثم مزقها وقذفني بها في وجهي ليوهمني بأنه مزق ما كتبت ! ! . . وقال لصفوت : "خذوها يا صفوت . . إنها لا تستحق إلا الإعدام كما قرروا . . أنا كنت أريد أن أخدمها لكنها رفضت يدي الممدودة إليها . . دعهم يعدمونها! ! " . . وانصرف . . إنني في دهشة -بل في حيرة- إن كانوا يقولون ويزعمون أن القضية وضحت كل معالمها وتكشفت كل عناصرها، فلماذا لم يقدموني إلى المحاكمة العلنية، ولا داعي للترغيب والترهيب والتعذيب ؟! ! أم أن القضية هي الموت البطيء تنفيذا لمخطط مرسوم ؟ حقا لقد وضحت القضية . . ووضحت كل معالمها. . وتكشفت كل عناصرها . . بل وبان هدفها والغرض منها . . أنهم يريدونها جاهلية . . جاهلية! !
جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
الفتنة في حقيبة ملابس . . وخطاب من عبد الناصر


أغلق باب الزنزانة فانتقلت إلى عالم آخر. . ! ! كان الإرهاق والجهد والألم قد سطر كل منها سطورا عميقة في نفسي وجسدي!! . . وتكورت في مكاني أحاول النوم فلم أستطع فقد كنت كأنني أتقلب على مسامير محمية . . فالسياط والركل والصفع قد مزقت جسمي، والسب بأبشع الألفاظ وأقذرها قد مزق نفسي.. !!
وهكذا ظللت أتقلب حتى سمعت أذان الفجر فاستيقظت علية وغادة وتيممتا وادينا الصلاة . . كان حالي يغنى عن أي سؤال فنظرت إلىّ علية وقالت : "الدكتور أعطاني حبوبا مهدئة أتأخذين قرصا يا حاجة؟ ! ! " قلت : "لا بأس يا علية!إ". تناولت القرص واستسلمت للنوم . . ولكن هيهات للنوم أن يجمع أشلاء جسد ممزق ، وشتات نفس ممزقة! ! ففزعنا إلى الله . . نقرأ القرآن . . ونصلى ما استطعنا . . كانت غادة تحفر على حائط الزنزانة تاريخ كل يوم منذ مجيئها إلى السجن . . قالت : "اليوم 8 أكتوبر فقلت : "ربنا يفوته على خير. . " قالت علية : "إن شاء الله " وفى الضحى فتحت الزنزانة وظهر- صفوت ومعه جنديان يحملان حقيبة كبيرة عرفت من النظرة الأولى أنها من منزلي! ! فتح صفوت الحقيبة وهو ينادى : "يا زينب ! هذه ملابس طلبناها لك من البيت وأخذ يخرج ما في الحقيبة ويعرضه على ثم أعاد ما أخرجه إلى الحقيبة ثانية وأقفلها. . كانت الحقيبة كأنها أعدت لرحلة طويلة. . فسألته : "من طلب كل هذه الملابس ومن أحضرها"؟ فقال صفوت : نحن طلبناها وأختك حياة أحضرتها . . ثم أمر الجنديين بالانصراف بالحقيبة! ! ولبث قليلا ثم أغلق الزنزانة! ! انصرف الزبانية فأغمضت عيني ورحت في إغماءة شديدة؟ على إثرها هرعت إلي علية وغادة تدلكان يدي وقدمي تحاولان إفاقتي ، وأخذتا تهونان على الأمر. . هم اعتقدوا إنك محتاجة إلى ملابس فطلبوها . . الأمر بسيط وعادى جدا . . " قلت : " لا يا علية إنها مصيبة كبيرة ، فقالت علية : "لماذا يا حاجة؟ انهم رأوا ثيابك قد تمزقت وأنك في حاجة إلى ملابس. فقلت : "لا.. لا .. يا علية. هذه فتنة! ! لماذا أنا بالذات التي تأتيها ملابس ؟ إنني منقبضة وغير مستريحة إلى هذا. . إنني مقبلة على اختبار اكبر مما أنا فيه !. . وأخذت أدعو الله أن يثبتني على الحق . وانتظمنا في صلاة العصر. ونحن في الركعة الأخيرة دخل صفوت وجذبني بوحشية وقال : "تعالى معي ! ! " وأغلق الزنزانة على غادة وعلية . سار بي إلى آخر الممر. ثم قذفني في زنزانة حالكة الظلام ، كريهة الرائحة، رطبة تمرح فيها فئران متوحشة! ! جلست في رعب شديد وجسمي يرتعد من شدة البرد وبرودة الإسفلت بقسوة ، وظلمة الزنزانة تضاعف خوفي ورعبي وآلامي ! ولجأت إلى الله لأتغلب على هذه الظرف . فتيممت وأخذت أصلى وأصلى وأناجى ربي . . ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد : 128 . وفجأة أضيء النور .
ودخل صفوت ومد يده قائلا : "أقرئي هذا الخطاب يا بنت ! نظرت في الخطاب . . فوجدت مكتوبا في أعلاه "مكتب رئيس الجمهورية" ثم مكتوب في صلبه بالآلة الكاتبة - "بأمر جمال عبد الناصر رنيس الجمهورية تعذب زينب الغزالي الجبيلي فوق تعذيب الرجال ! "
التوقيع (جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية" ومختوم بخاتم شعار الدولة الخاص برئاسة الجمهورية .
قرأت الخطاب ثم أعدته إلى صفوت قائلة : "الله اكبر منكم جميعا . . نحن معنا الله . . " فأخذ يرميني صفوت بنظرات شرسة ويقذف من فمه بقذارات من السب المقذع . . ولم أنطق بكلمة واحدة فأغلق الزنزانة .
بعد فترة قصيرة سمعت صفوت يصيح بأعلى صوته "انتباه "! ! وفتحت الزنزانة ودخل حمزة البسيوني تتراقص الشياطين في عينيه وقال : "آخر فرصة لك . . ساعة واحدة فكرى فيها جيدا وقدري مصلحتك ، لقد أحضرت لك ثيابا لتقابلي المشير عبد الحكيم عامر والرئيس جمال . ثم يتغير موقفك في القضية " ونظر إلى صفوت قائلا : "اقرأ عليها الخطاب يا صفوت ! ! " فرفع صفوت عقيرته وقرأ "بأمر جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية تعذب زينب الغزالي الجبيلي فوق تعذيب الرجال " إمضاء جمال عبد الناصر. . أخذ حمزة البسيوني الخطاب من صفوت وقال وهو يناوله لي : " خذي . . خذي يا مجنونة الخطاب واعرفي ما فيه جيدا . . " فقلت له : " لقد قرأته " ! ! فقال : "أقرئيه مرة أخرى" . . ثم اتجه إلى صفوت وقال : أين السوط يا صفوت ؟! ! فأخذت الخطاب وقرأته ثم قذفت به إلى الأرض وقلت له : "ربنا اكبر منكم يا فجرة . . اخرجوا يا كفرة! !" . نادى حمزة البسيوني على بعض الجنود خارج الزنزانة، فدخل جندي يحمل حقيبة الملابس . وقال في وحشية : "سنمنحك فرصة لمدة ساعة . . وهذه ملابسك . . فكرى جيدا ولمصلحتك فقط .. حل المشكلة في يدك أنت ! ! " ثم أغلقوا الزنزانة وانصرفوا . أخذت أستغفر الله وادعوه الثبات على الحق . ومضت الساعة الممنوحة لي . فدق أذني صوت صفوت "انتباه ! ! " ثم دخل حمزة البسيوني ونظر إلى ثم قال : "ألم ترتدى ثيابك ؟ ! ! أتريدين الموت ؟ ! " . لا بأس ! لقد بعت نفسك ! حسنا خذها يا صفوت . . بنت الكلب. . . . تريد أن تقدم نفسها فداء لسيد قطب والهضيبي ، إنهم يريدون التخلص منها ويخرجون هم أبرياء . جذبني صفوت بعنف وخرج بي من الزنزانة وسار بي في الممر، وأثناء مروري على زنزانتي قلت "الله اكبر" بصوت مرتفع حتى تسمع "علية وغادة فكنت أعتقد أنها اللحظة الأخيرة في حياتي، كما قال حمزة البسيوني ! ! . الله اكبر منكم يا فجرة . . اخرجوا يا كفرة! إ" .
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
مع شمس بدران


واستمر صفوت في سيره حتى مكتب ضابط يدعى هاني ، وأخذني هاني إلى مكتب شمس بدران .. إ!
شمس بدران وما أدراك ما شمس بدران ! !
إنه وحش غريب عن الإنسانية وأكثر وحشية من وحوش الغاب ! ! إنه أسطورة في التعذيب والقسوة ! ! كان ينطلق في لذة غريبة يضرب الموحدين المؤمنين ، بأعنف ما يمكن أن يتصوره العقل البشرى. ظنا منه أن القسوة والعنف في التعذيب يرد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم !! وقد خاب ظنه . .
وسألني شمس بدران في غطرسة كأنه جامع رقاب الخلق بين أصابعه هو أنت بقى ست زينب الغزالي؟ قلت : نعم !
كان مكتب حمزة البسيوني يتصل بمكتب شمس . وكان يقف خلفي الجلاد صفوت الروبي واثنان آخران وبيد كل منهم سوط كأنه لسان من لهب ! ! .
قال شمس بدران وهو مازال في غطرسته : " يا بنت يا زينب ! خلى بالك وتكلمي بعقل وشوفي فين مصلحتك ، خلينا نخلص منك ونشوف غيرك وإلا بعزة "عبد الناصر" أجعل السياط تمزقك . قلت : " يفعل الله ما يشاء ويختار". فقال : "ما هذه الرطانة العجيبة يا بنت . . ؟إ " فلم أرد عليه فقال : "ما هي صلتك بسيد قطب والهضيبي؟". قلت في هدوء : "أخوة في الإسلام ، . فقال في استنكار بليد : "أخوة ماذا؟" . فأعدت : "أخوة في الإسلام " . فقال : "ما مهنة سيد قطب ؟".
قلت : "الأستاذ الإمام سيد قطب مجاهد في سبيل الله ، ومفسر لكتاب الله ، ومجدد ومجتهد" .
فقال في بلادة : ما معنى هذا الكلام ؟ فقلت وأنا أضغط على مخارج الألفاظ تأكيدا له معناه : إن الأستاذ سيد قطب زعيم ، ومصلح ، وكاتب إسلامي ، بل من أعظم الكتاب الإسلاميين ، ووارث محمدي .
وبإشارة من إصبعه انهال على الزبانية . وقال هو: إيه يا ست ؟ ولم أجبه – قال : ومهنة الهضيبي إيه كمان ؟ فقلت : "الأستاذ الإمام حسن الهضيبي" إمام مبايع من المسلمين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين ، الملتزمين بتنفيذ أحكام الشريعة ، والمجاهدين في سبيل الله حتى تعود الأمة الإسلامية كلها إلى كتاب الله ، وسنة رسوله ".
وما فرغت من كلامي حتى عاود الزبانية التعذيب بالسوط !
فقال : "هراء، وكلام فارغ . . ما هذا يا بنت الــ. . . " .
وقال حسن خليل : "دعها يا باشا. . توجد نقطة مهمة !!" ثم تقدم إلى وامسكني من ذراعي وقال : "هل قرأت كتاب "معالم الطريق " لسيد قطب ؟ فقلت : "نعم قرأته " .
فقال رجل آخر من الجالسين – وكان يدخل بعض الضباط أثناء الاستجواب ويجلسون للمشاركة في الاستجواب من جهة . ومن جهة أخرى كنوع من الإرهاب ممكن تعطينا موجزا لهذا الكتاب ؟
فقلت : "بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . ..".
فقاطعني شمس بدران في صفاقة غريبة : أنت واقفة على منبر مسجد يا بنت الــ. . . . ؟! إننا في كنيسة يا أولاد الــ. . . . . !".
وقال حسن خليل : معذورة يا باشا. . أكملي يا زينب. ماذا فهمت من كتاب معالم في الطريق ؟
فقلت : كتاب معالم في الطريق في فهم المجتهد المفسر سيد قطب يدعو المسلمين لمراجعة أنفسهم مع كتاب الله ، وسنة رسول الله ، وتصحيح تصورهم لعقيدة التوحيد . فإذا وجدوا أنفسهم – وهذا هو الواقع الآن – منقطعين عن كتاب الله ، وسنة رسوله سارعوا بالتوبة . وعادوا إلى دينهم وكتابهم ، وسنة رسولهم ! . ثم يدعوهم للمفاصلة بينهم وبين الجاهلية المتفشية في الأمة، فطمست وضوح الرؤية في فهم القرآن . وتصور أوامره تصورا سليما . فإذا راجعت الأمة الكتاب ومراميه ، ومقاصده ، والتزمت بدينها صحت عقيدتها. فالسيد قطب يرى ضرورة تبصير الأمة بمراجعة عقيدتها لتقرر صدقا من قلبها وضميرها، أنها ملتزمة بكل ما تكلفها به شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . .
ولزمت الصمت بضع لحظات ، فقال حسن خليل في تهكم أبله "إنها خطيبة. وقال آخر: "إنها كاتبة كذ".
وأخرج مجموعة من مجلة السيدات المسلمات كانوا قد استولوا عليها مع الكتب يوم القبض على . وأخذ يقرأ منها بعض جمل من مقال افتتاحي لأحد أعداد المجلة . لكن شمس بدران قاطعه ونظر إلى الحيوانات المفترسة التي تحيط به. وقال جاهلية : أنا لم أفهم شيئا مما قالته هذه البنت ! ! فنزل على الزبانية بسياطهم : قائلين وضحى يا بت للباشا . فقال حسن خليل - ويبدو وكأنه ينسج شبكة لاصطيادي - : لا بأس يا باشا . . لحظة أخرى. .
ثم قال كأنه : أريد أن أفهم معنى ما تلزم به لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فقلت : إن محمدا صلى الله عليه وسلم ، جاء ليخرج البشرية كلها من عبادة البشر، وعبادة الوثن ، إلى عبادة الله الواحد القهار هذا معنى لا إله إلا الله . وأما معنى محمد عبده ورسوله ، فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي، وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة ، هو حق واجب التنفيذ اعتقادا وعملا، وهذا هو التصور السليم لكلمة التوحيد" .
فقال شمس بدران وقد أخذته العزة بالإثم "كفى سخافات !" ثم نزل على وحوشهم بالكرابيج .
وقال حسن خليل " لحظات أخرى يا باشا - من أجلى . ونظر إلى وقال : هل نحن مسلمون أم كفار؟! ! .
قلت : اعرض نفسك على كتاب الله وسنة رسوله ، وستعرف أين أنت من الإسلام . فقال شمس بدران "يا بنت الــ. . ، وانطلقت القاذورات من فمه تكشف أخلاقيات هذا المخلوق العجيب ! ! أما أنا فلم أرد من هول السياط .
وبدأ شمس بدران يمارس عملية وحش الغاب المفترس . . إن غابة عبد الناصر لا تعرف تقاليد أو عادات . بل تسودها جاهلية حمقاء، يظلها طغيان أهوج ، وتسرح في دروبها ذئاب خبيثة جائعة إلى نهش البشر! ! .
نظر شمس بدران إلى صفوت وقال : علقها يا صفوت الضرب ده مش نافع ! ! .
فخرج صفوت وأتى بعامود من الحديد وقاعدتين من الخشب . وجاء ثلاثة من الزبانية يحمل كل منهم سوطا. وأعدوا الآلة ليعقوني عليها. فقلت لهم : "أعطوني بنطلونا من فضلكم. . أرجوكم ! ! " .
فقال حسن خليل لشمس بدران : "لا بأس يا باشا" . فقال شمس بدران : "هاتوا لها بنطلونا" . وفى سرعة عجيبة أحضر أحد الجنود بنطلونا كأنما انتزعه من تحت رجليه ! !
وقال حسن خليل لشمس بدران : "عفوا يا باشا ثم التفت إلى وقال : "أدخلي هذه الحجرة البسي فيها البنطلون . . " .
كانت حجرة فاخرة الأثاث ، مكيفة الهواء، بها جهاز تليفزيون وجهاز راديو! ! ولبست البنطلون وخرجت إليهم ! ! وعلقت بأمر شمس بدران في هذه الحديدية . . ولا أدرى كيف ربطوا يدي مع رجلي . ولا كيف علقت . . ! !
ويخرج الأمر من فم شمس بدران كضابط عظيم في ساحة الوغى : اجلدها يا وله خمسمائة جلدة! !
وتنهال السياط تسطر على قدمي وجسدي أبشع ما عرفته الجاهلية من قسوة وحيوانية .. ويشتد الجلد . . ويشتد الألم . يعز على أن أضعف أمام هؤلاء الوحوش . احتملت . احتملت وأنا أضرع إلى الله في سرى .
ويتضاعف الألم ، ويتضاعف ، ولما فاض الكيل ، ولم يعد كأنه طاقة على الكتمان علا صوتي يرفع شكواي للذي يعلم السر وأخفى . أخذت أردد : يا الله يا الله ، والسياط تشق في قدمي مجارى الألم . وفى قلبي ومشاعري مجارى الرضا، والتعلق بالله . . ! ! حتى فقدت الوعي . ولم أشعر بنفسي ، ورقدت جثة هامدة فوق الأرض وهم يحاولون تنبيهي ويحاولون إيقافي فلا أستطيع . فكلما وقفت سقطت .
كان الألم فوق الاحتمال والدم ينزف من قدمي ويأمر شمس بدران صفوت بإيقافي. كنت في غاية الألم والجهد فحاولت أن أستند إلى الحائط فيبعدني صفوت عن الحائط بسوطه !!. .
فأقول لهم : دعوني أجلس على الأرض فيقول شمس بدران : لا . . لا . . أين ربك ادعيه لينقذك من يدي . . نادى عبد الناصر وانظري ماذا يحدث . . ولم أرد عليه ، فيستمر في جاهليته : ردى على! أين ربكم ؟! ! فلزمت الصمت فقال : ردى! ! . فقلت بصوت خافت لشدة ما أنا فيه : "الله سبحانه الفعال ذو القوة المتين " وأخرجوني من مكتب شمس بدران إلى المستشفى .