جيـــان
جيـــان
الباب السابع
الانتقال إلى سجن القناطر-5 يونيو


قبل هذا اليوم لن ينساه أحد. في يومي 3، 4 يونيو تكرر فتح الزنزانة علينا بغير سبب وبدون مناسبة . وليوجه إلينا سؤال إن كنا نريد شيئا. . ثم تدور أحاديث موجهة عن الحرب والحديث عن عظمة المنادى بتحرير فلسطين والعرب ! !
وكنا نظل في صمتنا وسكوتنا . . وذات مرة كان المتحدث هو الطبيب . فتساءلت : هل سنحرر فلسطين ؟! فاحمر وجهه غضبا لغير الله وسأل : يعنى إيه ؟ قلت : ما دامت الصهيونية العالمية توجه أساليب الحكم للقوتين العظميين فلن يكون على الحاكمين بأمر هاتين القوتين إلا التنفيذ. . ولن تحرر فلسطين إلا بالإسلام ، يوم يحكم بالإسلام ستحرر فلسطين ! .
وجاء صباح الخامس من يونيو ولم تفتح الزنزانات . . وفجأة فتح باب الزنزانة مارد أسود من العساكر وصاح : لقد انتصر عبد الناصر يا ولاد الـــــــــ . وخرج كما دخل ليأتي غيره بعد مهلة يشتمنا وينقل إلينا أخبار الانتصار وإسقاط الطائرات بأعدادها ، ويخرج ليدخل ثالث بعد فترة فيروي أخبار الزعيم الهمام وانتصاراته . . ورابع . . وخامس . . ونحن في صمت لا نجيب . ومع أذان العصر فتحت الزنزانة ودخل صفوت الروبي في وحشية وأخذ يضربني بحذاء غليظ فقد كان بملابس الميدان ، كان يأخذني بيديه ويرميني إلى الحائط ثم ينزل بحذائه الغليظ على جسدي ركلا وهو يقول : إحنا انتصرنا يا بنت الـ . . . ووقفت حميدة وهى
تقول : ليه. .؟! والمجرم لا يكف عن ضربي حتى الإغماء فتركني وأخذ يأمر العساكر المصاحبين له برمي حاجياتنا خارج الزنزانة، ثم عاد إلى ضربي . بعد ذلك أخرجنا من الزنزانة وساقنا وهو يكيل لي السباب قائلاً : انتصرنا . انتصرنا غصب عنك وموتك حل دلوقت (كان ذلك عصر 5 يونيو سنة 1967 ) وأصعدوني وحميدة عربة جيش مصفحة مملوءة بالحرس من ضباط وعسكر . وخرجت السيارة من السجن الحربي، وكان أركان حرب السجن بجانب سائق السيارة، وصرت في غير وعى ومن غير تفكير من قسوة الضرب أردد : حسبنا الله ونعم الوكيل ، كنت أرددها بصوت مرتفع جدا. وأحسست أن السماء والأرض وكل الكون ينطق معي ويشكو إلى الله . وكنت كلما نبهتني حميدة لأصمت أخذتني غيبوبة وصرت أردد: حسبنا الله ونعم الوكيل . وكنت أحس وأسمع الكون ينطق بها معي . .
كنت على يقين من أنني مسوقة إلى الإعدام كما ذكر صفوت وهو يفهمني في الزنزانة، فانصرفت إلى الله بكل مشاعري وأنا أتلو ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) التوبة ، وقوله تعالى : ( وما جعل لبشر من قبلك الخلد ) الأنبياء: 34
وأتمثل قول القائل :
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
وقول القائل :
أقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لن تراعى
فإنك إن طلبت بقاء يوم على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع وفجأة وقفت العربة وأخذت حميدة تهزني وفتحت عيني، فإذا نحن أمام سجن القناطر للنساء.
جيـــان
جيـــان
الباب السابع
ليلة عذاب نفسي


وابتلعتنا بوابة السجن وأدخلنا حجرة المأمور . وفتشت حقائبنا تفتيشا دقيقا . كان الوقت ليلا . وأخذتنا امرأة يقال لها (باش سجانة) تدعى عنايات إلى حجرة بجوار حجرة المأمور، وهناك فتشونا مرة أخرى وألبسونا ملابس السجن وأدخلنا حجرة ليس لها باب غير أعمدة حديدية متفرقة، بها سرير من طابقين : الطابق الأول تالف ، والثاني عليه وسادة مهلهلة . وكانت الحجرة مطلة على صالة بها ثلاثة عنابر فيها نساء، علمت بعد ذلك أن أحكاما قد صدرت عليهن بسبب السرقة وتجارة المخدرات والسلوك المنحرف . . والقتل . . وكان النوم يداعب جفوننا وما يكاد يلامسها حتى يفارقها . . الليل ضارب أطنابه . . والظلام يكسو المكان بوحشته ، والنفوس أشربت الرذيلة ، والعنابر أغلقت بما فيها من سوء، فظهر الانحطاط الخلقي وظهرت المستنقعات الآسنة بالرذائل ، فهوت البشرية إلى أبعاد
سحيقة انحدرت بالإنسان عن آدميته . وهكذا مر الليل بساعاته الطويلة ونحن نرى ونسمع ما يؤذى النفوس ويجرح المشاعر . وقضينا تلك الساعات الطويلة في ذكر الله تعالى نذكره ونسبحه ونتلو آياته ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد : 128.
وما كاد يبزغ ويشرق النهار بضوئه حتى سرت طمأنينة إلى نفوسنا، وتضرعنا إلى ربنا سبحانه سائلين متوسلين أن يجعل لنا فرجا ومخرجا.
ولن أنسى هذه الليلة فقد كانت ليلة شديدة وقاسية وان لم يكن بها سياط . وظلت ابنتي حميدة تبكى حتى أغمي عليها وكنت أحاول التخفيف عنها. وأقول لها إننا حملة أمانة، وأصحاب رسالة، فلابد من الصبر والتحمل . . تحمل مشاق الطريق والصبر على ما نرى وما يجرى علينا، وأجرنا على الله . .
إن كل ما أصابنا في السجن الحربي من إهانة للنفس ، وضرب بالسياط وتمزيق الأبدان ، وتنكيل وبطش بل وقتل وتجويع وعطش و . إن كل ذلك لا يساوى ما رأينا وسمعنا في هذه الليلة التي عشناها وأمامنا ذلك القطيع الضال من عالم البشر التائه في سراديب الجاهلية . ذلك القطيع من عالم المرأة المسكينة التي يقال لها إنها تحررت ، فصارت عبدا للشهوات والأهواء وأصبحت الجريمة حرفتها فأغرقتها، فنسيت إنسانيتها وطهرها وعفافها ومكارمها فغدت حيوانا لا يعرف معنى للحياة إلا لشهوة الفم والفرج !!
كبهيمة عمياء قاد زمامها. . أعمى على عوج الطريق ، فضلت وأصبح هواها يقودها إلى مهاوي الرذيلة وساعدها في ذلك المفسدون في الأرض أهل الباطل والإلحاد . وقوى الشر والإجرام . . وفى هذا الجو المشحون بالأهواء والمفاسد والظلم والظلمات ، انطلق نداء الفجر، فبدد بإشراقة الصباح تلك الغيوم السوداء فتوجهنا إلى الرحمن الرحيم فصلينا ودعوناه راجين فرجه ورضوانه . . !
جيـــان
جيـــان
الباب السابع
صراع من نوع جديد


وجاء وقت فتح العنابر بعد ساعات وطلبت من السجانة مقابلة المأمور وعادت بعد ساعة تدعونا إلى مكتب المأمور . . صراع من نوع جديد دخلت أنا وحميدة على المأمور فقال لنا : الكانتين ممنوع والزيارة ممنوعة، وليس لكما أي حق من حقوق المساجين . أنتما (تكدير) حتى نؤمر بأوامر أخرى . فاهمين !
قلت له : إننا لم نطلب مقابلتك لهذا الأمر ولكن جئنا لنسألك . . فقال مقاطعا: أنتم طلبتم مقابلتي؟ قلت : نعم ، إننا نطلب تغيير الزنزانة.
وطلبت حميدة : حجرة لها باب لا قفص حيوانات .
قال : إيه الكلام ده ؟ حا نرجعكم إلى السجن الحربي تاني وتشوفوا اللي شفتوه ؟! قلت : نحن لا نستطيع البقاء في هذا المكان الذي لا يليق بالحيوان . قال المأمور: أنا مأمور وده سجن. وأنتم مسجونون . وما فيش غير كده . ثم وقف وصاح اتفضلوا اخرجوا!
قلت : سنظل في فناء السجن ولن نعود إلى هذه الحجرة أبدا . . وليكن ما يكون . .
قال : السجن سجن وإذا ما كنتوش حا تنفذوا الأمر سنطلق عليكم الرصاص فورا. قلت : القتل أهون من هذا العيش والآجال بيد الله سبحانه ، وقتلكم لنا شهادة . فأخرجنا من مكتبه وتركنا في حوش السجن .
وبعد فترة نادى المأمور الباش سجانة قائلا لها : وديهم يا سعاد على الملاحظة .
وقالت سعاد : ألف مبروك حا تقعدوا في الملاحظة. وصعدنا درجات لسلم الملاحظة، ودخلنا إلى عنبر واسع به عشرون سريرا للسجينات ، وبعد ساعة جاءت السجانة المختصة بالملاحظة وقالت تعالوا، الإيراد جه ، ولم نفهم مقصدها، غير أنها أخذتنا وأوقفتنا في صف من النساء يسمى الإيراد . والإيراد هو قطيع من البشر الحائر في مجتمع ضاعت فيه القيم والمعاني فهوى إلى الرذيلة، إلى هوة سحيقة ، فجيء به إلى السجون . . وسمعت السجانة تقف على باب حجرة وتصيح : الإيراد النهاردة خمسة وأربعين ، خمسة وعشرين تسول ، خمستاشر دعارة ، وثلاثة سرقة واثنين سياسيين . . تعنى بالسياسيين أنا وحميدة .
خرجنا من ذلك الطابور ، وأخذت حميدة معي فقالت السجانة رايحين فين ؟! انتظروا لما ييجي دوركم .
قلت لها : سنقف وحدنا، ولسنا من هذا الإيراد قالت : بتقولي إيه يا ادلعدي؟ قلت : سنقف وحدنا. قالت : معلهش ، ودول مش خلق الله زيكم ؟! لم أجبها ولزمنا الصمت ، أخذت السجانة في إدخال البشرية الضالة إلى حجرة ثم جاءت إلينا تقول : الست الدكتورة أمرت أن تجلسوا حتى تنتهي وتدخلوا إليها . ولما فرغت الطبيبة استدعتنا ودخلنا فسألتنا عن الاسم والسن وما نشكو منه ، ثم أخذونا إلى حجرة وأغلقوا علينا بابها . ولم يمض وقت طويل حتى ارتفع الصراخ وعلا البكاء وساد الجميع حزن ووجوم وتحسسنا الخبر حدث ؟! قالوا : النكسة !
وحدثتني نفسي حديثا طويلا: وأي نكسة تلك يا ترى ؟! من لك أيها الشعب المسكين ! ما اكثر نكساتك ! لقد تعددت فما أعظمها ! وما أعمقها وما أقساها! لقد أصابت شعبنا نكسات ونكسات : نكسة في الخلق . نكسة في الرجال . نكسة في . . ، وأخيرا نكسة 5 يونيو!!!
وكانت طامة كبرى ، جعلت عبدة القردة والخنازير وأذلاء الأرض المغضوب عليهم من السماء إخوة الشياطين ، جعلتهم النكسة يستعمرون أرضا عربية ويحكمون أهلها ويذيقونهم من العذاب أصنافا، ومن ألوان البطش والتنكيل ما تمتلئ به نفس يهودية حقيرة ذليلة . . واستطرد حديث نفسي : ما هذا الذي نعيشه ونحياه ؟! الإسلام – القوة والعزة والكرامة – يقتل ، ويقتل أبناؤه ولا يسمح لهم بالحياة ولا حتى أن يتنسموا نسيمها أو ينبتوا ولو رويدا رويدا . قتلوا الإسلام وأصحابه فقتلوا الرجال والعزة والمنعة. هؤلاء الرجال . حقا هم الذين بفضل الله تعالى يقهرون الباطل وأهله ، مهما تعددت أنواعه وتغيرت أشكاله واختلفت صوره وأسماؤه . بهم تعلو الأرض العزة والكرامة، وتغدو البشرية لربها خاضعة عابدة تتنسم عبير الطاعة وتسلم البشرية لربها راضية، تسلك طريق العبودية ذللا، وتستجيب لنداء الحق مهما كانت تكاليفه ومهما كانت تضحياته . أسمع من حولي يتهامسون ، لا تتهامسوا ولا تتناجوا وكونوا صرحاء أقوياء .
إن النكسة بما كسبت أيديكم ، واتخذتم كتاب الله تعالى وراءكم ظهريا . والله لو نصرنا الله لنصرنا . . لو نصرناه بإسلام وجوهنا وقلوبنا إليه ، لو نصرناه باتباع شرعه القويم ونهجه المستقيم ، لو نصرناه بالمسارعة إلى محابه ومراضيه واجتناب نواهيه . لو نصرناه . . والله لو نصرناه لنصرنا : لنصرنا برضوانه علينا. لنصرنا بالتمكين في الأرض والخلافة عنه سبحانه . لنصرنا على قوى الأرض الباطلة الحائدة عن طريقه المستقيم ، فبكتاب الله وسنة رسوله تنصرون وتمكنون في الأرض ، وتسعدون في الدارين دنيا وآخرة . ففي طاعة الله العزة والسعادة والنصر والغلبة والتمكين وجنات النعيم في الفردوس الأعلى عند رب العالمين . ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) محمد : 17 . .
ومن قول سيدنا عمر: ". . وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله . ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ، ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة . .". وببعدكم عن الكتاب والسنة : تهزمون وتشقون ، وتزلون وتكون النكسة . بل ونكسات . ففي معصية الله الذل والبؤس والهوان والضعف والجحيم والعذاب المقيم . ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب
الآخرة أشد وأبقى ) . .
وتجول نفسي في معان كثيرة، ويساعدها على ذلك الواقع المر والحاضر الأليم يساعدها على استرسالها ويحز ذلك في نفسي إشفاقا ولوعة، وحزنا و أسى.
وتستيقظ نفسي من حديثها على نداء ابنتي حميدة، فأجد نفسي أجلس بجوارها في حجرة مغلقة علينا، ويصل إلى سمعي ذلك الصياح والبكاء على حامى الإسلام ! عشنا في هذه الحجرة مغلقا بابها إلا لماما، لا ندرى شيئاً مما حولنا. وفى ذات يوم استطعنا أن نحصل على حين غفلة من الحارسة على علبة سجائر، فكانت هذه العلبة مفتاحا سحريا لقلب السجانة الغليظة القلب .
وبها فتح لنا باب الزنزانة مدة أطول فتمكنا أن نتبين ما يدور حولنا . . كان بجوار حجرتنا حجرة تسكنها امرأة مع طفلها الذي لا يعلم له أبا، وأمامنا امرأة أخرى تقضى أيامها الأخيرة في مرض السل نتيجة سلوكها المشين ، وبجوار هذه الحجرة عنبر فسيح يحوى ألوانا من الأمراض المزمنة المعدية، وفى نهاية المبنى من ناحية تقع دورة مياه صرح لنا بالذهاب إليها مخالطين لهذه البشرية المريضة بمرض الجاهلية والأمراض البدنية المعدية . وفى الناحية الأخرى من المبنى توجد بعض النساء اللائى لم نعرف جنسيتهن في حجرات نظيفة مفروشة مزينة وتوجد في هذه الناحية أيضا دورة مياه صحية . علمنا ذلك كله لأن كل من هنا يسمون ذلك الجانب "الهيلتون " .
كان الجوع قد أخذ منا مأخذا شديدا حين أهدتنا إحدى المسجونات قليلا من الطعام ، كان لإهدائه أثر جميل جدا في قلوبنا. فقد أحسسنا بأن الغابة على وحشيتها وحيوانيتها لم تخل من إنسانية. طلبنا من السجانة السماح لنا بالذهاب إلى دورة المياه الثانية لنظافتها وخلوها من الألفاظ الجارحة والعبارات النابية، فقالت السجانة : دورة المياه الثانية خاصة بالست الدكتورة واليهود . . فسألها متعجبة مستفسرة تقولين : يهود؟
قالت : نعم ستات يهود. مدام مرسيل ، مدام لوسي، وهم كثير . . قاعدين ومتنزهين ، لا أحد يقول لهم كلمة ولا يؤخر لهم طلبا. زي البيت وأحسن شوية، كلهم جايين في تجسس . ثم قالت : كلموا الست الدكتورة يمكن يسمحوا لكم بالذهاب إليها . وبعد أخذ ورد في هذا الأمر بيننا وبين المأمور انتهى برفض طلبنا متعللا بأن ذلك خاص باليهود! . .
جيـــان
جيـــان
الباب السابع
رأينا من ألد الأعداء . . إنسانية !


أسلمنا أمرنا لله تعالى وانشغلنا به سبحانه وبتلاوة آياته الكريمة . وبينما أعيش مع ابنتي حميدة تلك اللحظات الربانية دخلت سيدة طويلة القامة شقراء، وألقت علينا التحية فرددنا التحية، ثم قالت حضرتك زينب الغزالي قلت : نعم ، قالت : أنا مرسيل مسجونة سياسية وطبعا - بيننا وبينكم خلاف في العقيدة، فأنا يهودية وأنتم مسلمون ، ولكن النفس لا تخلو من إنسانية، خاصة وقت الشدائد والمحن - فلا مانع أن تكون بيننا وبينكم معاملة طيبة في السجن . أما خارجه فبيننا الحرب والقتال أو الخلاف في الأهداف ، أما الآن فنحن جميعا في شدة وقسوة . ولقد جئت إليكم في غفلة من المسئولين لأعرض عليكم تعاوني لخدمة بعضنا لبعض . فشكرناها على ذلك ثم قالت : نحن لدينا إمكانيات للأكل وان كانت قليلة فسنقتسمها معكم وسأتحرى أن لا يكون في الأكل ما هو محرم عندكم ، ونحن اليهود لا نأكل لحم الخنزير مثلكم . ومرت أيام كانت مرسيل اليهودية تحضر لنا بعضا من المأكولات. وكان أهم من ذلك كله أن هذه اليهودية دبرت لنا أمر استعمال دورة المياه الخاصة بهم . .. أحست ابنتي حميدة الحرج من تلك الأمور فقلت : إن الله سبحانه وتعالى يسوق الخير لعباده على يد من يشاء، والله تعالى لا يعنت عباده ولا يديم عليهم العسر، وليس لنا حيلة إلا أن نتعايش مع الإنسانية أينما وجدت ما دام ذلك في دائرة الإسلام . ورأينا في تلك الغابة الموحشة والصحراء الجرداء القاحلة إنسانية متمثلة في طبيبة مسيحية تقدم لنا عونها بين الفينة والفينة، فعجبنا لهذا الطابع الإنساني . . النادر وجوده في مثل هذه الظروف . . . وقدمت لنا أيضا مسجونة لم تخل من قلب رقيق كيف نعيش ونتعامل في هذا المكان مع تلك الإنسانية المهدرة . كل شيء يشترى بالمال ، فتح باب الزنزانة لمدى أطول بالمال . . وكذلك نسمة الهواء ولقمة العيش وما يستر الجسد. ! ! . . . كل شيء هنا فاغر فاه ليبتلع ، الكل هنا سواء في ذلك . . المسجونات والسجانات . وذلك يتطلب من الإنسان المال والجهد . فهل كان ذلك أمرا ميسورا ! .
جيـــان
جيـــان
الباب السابع
الموت . . والطغاة


قد ينسى الطواغيت المستبدون أو يتناسون أنهم لابد سيشربون من الكأس : كأس المنية . كأس الرجوع إلى الله تعالى، يتناسون ذلك فيتجبرون ويطغون ويبطشون ويعذبون ، والزمن عجلته تسير بمشيئة الواحد القهار، وبتعاقب الليل والنهار، وتولد أجيال وتنقضي أعمار ، وتبلى أجساد وتنزع أرواح انتزاعا فلا يستطاع ردها.( فلولا إذا بلغت الحلقوم ، وأنتم حينئذ تنظرون ، ونحن اقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ، فلولا إن كنتم غير مدينين ، ترجعونها إن كنتم صادقين ) الواقعة .وفى وسط حياتنا المزدحمة بما نرى ونشاهد من صور تعكس حقيقة البشرية من حولنا ، وانحدارها وهبوطها إلى أعماق سحيقة من الرذيلة والانحطاط ، تناقل الناس في سجن القناطر نبأ موت عبد الناصر وهم حزانى يبكون . والله يعلم أننا ما كنا يوما شامتين في موت أحد . . فهذه آجال وأعمار مقدرة مقدار، فلا يعدو إنسان أجله ولا يستبقى من عمره شيئا . ولكن الموت نذير البشرية وناقوس فنائها : أن أفيقوا من سباتكم ودعوا طغيانكم وجبروتكم ، فذلك لا يغنى شيئا، ستتركون قوتكم وبطشكم ، ومالكم وسلطانكم ، وجندكم وحزبكم والأهل والأولاد، ستتركون كل ذلك وراءكم ظهريا وتحشرون إلى الله تعالى حفاة عراة كما ولدتكم أمهاتكم!
( . . ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ، ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) الأنعام : 93-94.
( وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، وما نؤخره إلا لأجل معدود، يوم يأت لا تكلم نفسن إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ، فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) .
فموت إنسان وذهابه إلى ربه تعالى لا يشغل بال المخلصين الداعين إلى ربهم سبحانه فالموت حق فلا ينشغلون به . وكل ما يشغلهم العيش في طاعة الله تعالى وكنف رضوانه ، وبذل الجهد من النفس والنفيس في سبيل رفع راية التوحيد . وعندما يأتي الأجل لهم أو لغيرهم ينتقلون إلى دار الحساب حيث الثواب والعقاب .
ومعركة الإسلام ليست معركة فرد أو أفراد، ولكنها معركة الحق مع الباطل معركة الإيمان مع الكفر، ومعركة العبودية لله تعالى ضد قوى الشرك والإلحاد والوثنية .
يموت من يموت ويقتل من يقتل . ولكن قتلى المؤمنين في رحاب الجنة، في الفردوس الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر في جنات ونهر، شهداء أحياء ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا انتم تحزنون ، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ، يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ، لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ) الزخرف 68-73 .
وأما قتلى وموتى الكفر والباطل والإلحاد ففي سقر وما أدراك ما سقر لا تبقى ولا تذر ، تشوى الوجوه والأبدان ، كلما نضجت جلودهم بدلهم ربهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ، أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . . .
ليس لهم طعام إلا من ضريع ، لا يسمن ولا يغنى من جوع . . .
( . . لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ، وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) فاطر :36-37 .
وتسير الأيام سيرها كما شاء الله وقدر، وتنتهي آجال وأعمار ولا يستطع إنسان رد المشيئة الربانية . ويتناقل الناس نبأ موت عبد الناصر والبكاء والعويل والصراخ والنحيب يملأ الدنيا، وأحاديث الرثاء ليل ونهار لا تنقطع ، لا يمل قائلها من بكاء أو تملق أو رياء.
ووصل إلى سمعي كلمات شيخ ينعى الفقيد حامى حمى الإسلام . . ! ولقد أقسم هذا الشيخ نفسه في بيتي قبل ذلك بسنين إن من يسمى عبد الناصر حامى حمى الإسلام هو كافر، قد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، خسر الدنيا والآخرة . وفى وسط هذه الظروف التي شحنوها بالحزن والأسى على الفقيد العظيم ، استقبلنا نبا انتقاله إلى الواحد القهار كما يستقبله من كان في قلبه ذرة من إيمان ، وغدا سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . تناقل الناس هنا في سجن القناطر أننا لم نبك ولم نصرخ ولم نحزن ولم نتألم على بطل الأبطال ! وحرك ذلك في نفوس الأذناب الشائهة قلوبهم المريضة ونفوسهم التي تعهدت ألا تكون إلا في خدمة سادتها ومطامعها وهواها، وتحركت لتصب جام غضبها علينا : كيف لا نحزن على . . عبد الناصر!