جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
زنزانة الماء. . ! !


خرجت من مكتب شمس بدران . . وتنفست الصعداء، فإني أتلهف إلى الراحة وأكاد أشعر أن أعضائي تتمزق ! ! . . وسرت مع جلادي صفوت الروبي إلى حيث يريد أن يسوقني! ! . . وما كدت أشرف على نهاية الممر حتى نادى حسن خليل بكلمات كأنها الحمم تخرج من بركان ثائر: ارجع يا صفوت . الباشا يريد زينب مرة أخرى ! .
ومرة أخرى دخلت مكتب شمس بدران ، وكانت المفاجأة! ! إذ رأيت حميدة قطب أمامي . . ! ! عرفتها ، وهى لم تعرفني، فالسياط ، والكلاب ، والإجهاد، والجوع ، والعطش ، والتمزق في جسدي . . كل هذا قد غير ملامحي وغير صورتي ! ! .
وسأل شمس بدران الابنة الفاضلة حميدة قطب : هل هذه زينب الغزالي؟ فدققت حميدة النظر وأجابت : نعم. . كنت في قمة الإجهاد والألم . فلم أتابع الأسئلة التي كانت توجه . إن شمس بدران يسأل عن الأخت الفاضلة فاطمة عيسى، التي كانت تنزل في زنزانة مقابلة لزنزانتي . أخذت الابنة حميدة قطب تجيب عن أسئلة شمس بدران الذي أمر بخروجي.
وما كدت أخرج حتى سقطت على الأرض . فأمر صفوت جنديا أن ينادى الممرض عبد المعبود، حضر عبد المعبود ومعه زجاجة نزع غطاءها . ومررها أمام أنفى " فأفقت ، ثم أوقفوني . . وأمرني الجلاد صفوت بالسير . بل وأخذ يضربني بسوطه لأسرع الخطأ ! ! فاسقط على الأرض . . فيأمرني بالوقوف والسير. وسوطه المجنون يصب على جسدي المكدود نارا حامية! ! وهكذا دخلت الممر أسير فاسقط ، ثم أنهض لأسير فأسقط ، وسوط الجلاد المجنون لا يرحم ! ! يا إلهي ! ! هل هذا إنسان ؟ ، أم مخلوق آخر يمشى على رجلين وسوط . وسمعت صوتا ينادي : دخلها يا صفوت سجن رقم (5) وصوتا آخر اذهب بها إلى الماء يا صفوت ! ! " أدخلني صفوت سجنا وأمرني بالجلوس على الأرض . ثم أمر الجندي التمورجي عبد المعبود أن يضمد جراحي . . ! !
وفتح باب زنزانة، فرأيت خلف الباب سدا حديديا يرتفع لأكثر من متر. أمرني صفوت أن أخلع ملابسي وأن أقفز هذا السد الحديدي! جمدني الخوف ووجدت نفسي لا أقوى على الحركة فلم أتقدم شبرا واحدا . وتركزت عيناي على بئر من الماء خلف السد.
وجمعت كل قوتي في فمي وقلت : لن أخلع ملابسي أبدا ! ! . فقال في جاهلية ماجنة عابثة: ستنزلين الماء بثوب واحد. . فقلت : أنا لابسة جلبابا واحدا. فقال صفوت في غرور : سأمزقه ! ! . . ومزق جلبابي الأوحد بمشرط شرائح ؟؟ . . وقال : اخلعي البنطلون يا بنت الــ . . . . البنطلون خسارة وأنت ستموتين بعد ساعة ! ! . قلت : عندما أدخل الحجرة سأعطيك البنطلون . . . فقال في صلف وحماقة : حجرة آيه يا بنت الـ . . إننا سنقذفك في البئر ونخلص منك . قلت : إذن ، أدر ظهرك لأخلع البنطلون . . .
وأدار صفوت ظهره . وخلعت البنطلون الذي أعطوه لي عندما جلدوني في مكتب شمس بدران ! ! .
ووقفت في الثوب الممزق ، لا أدرى ماذا أفعل . . ! ! وعندما أمرني صفوت أن أقفز إلى الماء امتنعت وقلت : لا، أنا لا أرمى نفسي في الماء، إذا كنتم ناويين على قتلى فتحملوا أنتم مسئولية هذا الأمر. . أما أنا فلن أنتحر أبدا . . . كنت أعتقد أنهم قد اعتزموا قتلى والخلاص منى حقا، فظروف الحال كانت تؤكد عندي هذا الاعتقاد . . فالغلظة والفظاظة التي فاقت كل تصور والبئر التي أمامي والتي يطلبون منى أن أقفز فيها . كل هذا أكد عندي أن النية اتجهت فعلا إلى قتلى! ! فليرموني إذا شاءوا في البئر، فالموت في سبيل الله أسمى أمانيّ . . ومرحى بالشهادة في سبيلك يا إلهي .
وجاء الزبانية يسوقونني بسياطهم لأقفز إلى الماء فأتمنع ، فترتفع جاهليتهم . وتزداد حمية سياطهم فأسقط على الأرض ، فقد كان العذاب فوق طاقتي بكثير. . تفنن فيه صفوت ، والجندي سعد، وجندي ثالث يدعى سامبو، هكذا سمعتهم ينادونه ، وحملني الثلاثة وقذفوا بي إلى البئر! ! .
وأفتح عيني فإذا بأنني أقف على أرض صلبة! ! . . وعرفت أن الماء لم يكن بئرا وإنما هو زنزانة من الماء . . ! ! . . فاتجه إلى الله سبحانه وأقول : باسمك اللهم ، سلمت لك آمري، وأنا أمتك ، وعلى عهدك ما استطعت . . ألبسني أردية حبك ، وأغدق على من صبرك يا الله . .. ويريد صفوت أن يزيد طوفان العذاب فيقول ، وسوطه ينزل على جسدي حيثما اتفق : اقعدي يا بنت الــ. .إ! .
فأقول : كيف أقعد في هذا الماء؟ إن هذا مستحيل . . فيقول الجلاد بلسانه وسوطه : اجلسي كما تجلسين في الصلاة . . أظن تعرفين هذا جيدا . . أرينا مهارتك وأقعدي . . إنك لم ترى شيئا بعد. . فمازال في جعبة أبى خالد الكثير. . جمال عبد الناصر هو الذي عرف كيف يتعامل مع الإخوان المسلمين . . هيا اجلسي يا بنت الــ. . . وجلست فصارت المياه إلى أسفل ذقني، وقال صفوت : إياك أن تتحركي ولو حركة واحدة . . جمال عبد الناصر أمر بجلدك كل يوم ألف جلدة بالسوط .. أحب أعرفك التسعيرة هنا . . الحركة بعشرة سياط ! ! . لشدة الهول ، نسيت أقدامي الممزقة . بل نسيت كل جندي . غير أن المياه أخذت تفعل بالجراح ما لم أستطع وصفه من آلام ، لولا عناية الله ما احتملتها . . وشغلتني آلامي عن صفوت ، وسعد، وسامبو ، ولكن أعادني صفوت بسوطه إلى الواقع الكثيف المرارة! .
وقال صفوت : أعلمي - يا حلوة - لو نمت فالسوط يوقظك . هذه الجلسة فقط . . نعم تجلسين هكذا . . هل ترين الفتحة المحفورة بالباب ؟ إنها للمراقبة . . إذا وقفت ، أو نمت أو حركت يدك أو رجلك فالسياط موجودة ومستعدة . . إننا وضعناك في وسط الحجرة، فإياك أن تفكري أن تزحفي لتسندي رأسك مثلا إلى الحائط . إذا سولت لك نفسك أن تفعلي هذا فعشرة سياط . . إذا وقفت فعشرة سياط . ومد رجلك خمسة سياط . . مد ذراعك خمسة سياط . . علمت – يا حلوة – هذه التسعيرة؟ فلينفعك الهضيبي أو سيد قطب . . أنت هنا في جهنم عبد الناصر. . إذا قلت يا رب فلن ينقذك أحد، ويا سعادتك لو قلت يا عبد الناصر. . فستفتح لك الجنة . جنة عبد الناصر أيضا. . أتفهمين ؟! ! أنت يا حلوة - ما زال أمامك الكثير. وما سيأتي اكثر وأكثر. . يا ليتك تعقلين. . إنني مستعد أرجو لك معالي الباشا وتذهبين إليه . . وتقولين ما يريده . . هل أنت مجنونة؟ من أجل من تفعلين في نفسك كل هذا؟ من أجل الإخوان ؟ . . كلهم اعترفوا ولم يبقوا عليك . . ولفوا الحبل حول عنقك . . . ظللت صامتة وإن كانت نظراتي إليه تقول الكثير. . ولكنه جاهل أحمق وحيوان مغرور! ! .
فاستأنف سخفه ، أو بالأحرى استأنف إغراءه : أطيعيني، واستمعي إلى . . وأنقذي نفسك . . أنت في الصباح ستكونين مع الأموات .
وظللت على حالي من الصمت والسكون فقال : "ردى يا بنت الــ. . فصمت .. فقال : الأمر بسيط جدا . سآخذك إلى معالي شمس بدران باشا، وتقولين له كيف اتفق سيد قطب مع الهضيبي على قتل جمال عبد الناصر! .
فصرخت بكل قوتي . . كل الإخوان أبرياء . وربنا سينتقم منكم ليست الدنيا غايتنا، نحن نطلب رضاء الله ، وبعده فليكن ما يكون ! !
فانطلقت القذارة من فمه بأبشع ما يمكن أن يسمعه إنسان . وانطلق سوطه بأعتى ما يمكن أن يتحمله بشر من حقد وكراهية! ! واستمرت قذارته واستمر حقده وكراهيته اكثر من نصف ساعة! ! ثم انصرف وهو يقول : أنت عارفة التعليمات والتسعيرة يا بنت الــ. . . لم أستطع أن أظل في مكاني بلا حركة . فليس في مقدور أي إنسان مهما كانت طاقته ومهما بلغت قوة احتماله أن يجلس هذه الجلسة ولا يتحرك . . إنه تعذيب . وعذاب..! !
الضرب بالسوط أهون من التجمد في هذه الجلسة دون حركة . فلهيب السوط أهون من عذاب الماء. .!!
أخذت أفكر كيف أتحرك . . لو مددت رجلي سيصل الماء إلى فمي. فلم يكن بد من الوقوف وأتحمل عشرة سياط . . ! ! وفوضت الأمر لله . وقلت : يا رب أنت معي! ! ووقفت !! .
خيل إلى أن الجند نائمون . . وسمعت أذان الفجر، فتيممت على الحائط ، لأن الماء كان قذرا جدا لا يصلح للوضوء. . وأديت ركعتي السنة، ودخلت في ركعتي الفرض وهنا فتحت الزنزانة، وهوى السوط على جسمي . فجلست كما كنت فاغلق الباب . .
وأخذت أردد : حسبنا الله ونعم الوكيل . حتى تأخذني سنة من النوم فيوقظني الماء الذي يصافح ذقني . كانت زيارة سامبو وسوطه لا تقل عن خمس مرات في الليلة الواحدة! ! . . فكان لابد من الحركة، وكان لابد من السوط ! ! .
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
الجريمة ! !


مع الضحى، جاء صفوت وأخرجني إلى زنزانة أخرى بجوار زنزانة الماء . . ابتلعتني هذه الزنزانة . . وتكورت في ركن من جوفها مستندة إلى حائط . . كان الحائط بالنسبة إلي كأنه وسادة ناعمة محشوة بريش النعام ! ! كانت آلامي عاتية متنوعة . . آلام الجوع تفري أمعائي . . وآلام جروحي تمزقني . . جروح جسدي وجروح نفسي. . لقد صرت كتلة آلام . . كل جزء منها يئن ويصرخ إ! . . ويدخل صفوت ومعه مارد أسود! ! أخذ يتحسس سوطه بيده اليسرى ثم يضرب الأرض والحائط ، وكأنه يستحث لهيبه ، أو يستنفر حميته ! ! وقف صفوت وألقى أوامره وتعليماته إلى هذا المارد بان يرتكب أبشع جريمة ممكن أن يقترفها بشر. . ! ! وترك له السوط وهو يقول في صلف وغرور: إذا وجدت منها أي معارضة فالسوط معك . . . انشغلت عن هذا السفه بالله سبحانه وسألته متوسلة إليه : "اللهم إني أمتك ، وعلى عهدك ما استطعت . . أدعوك بضعفى، وقلة حيلتي، وانكساري، وهواني على الناس ، أن تدفع عنى شر الأشرار، وتحميني بقدرتك ، وتعينني على ظلمهم . .".
أخرجني من إغراقتي في مناجاة ربى صوت هذا الإنسان المأمور بإيذائي بأبشع جريمة . . يناديني "يا خالة! !" . ونظرت إليه ودهشت . . فقد تغير وجهه وارتسمت عليه ملامح إنسان ! ! .
قال بصوت منخفض فيه شفافية : لا تخافي يا خالة. . لن أؤذيك ، ولو قطعوني . . فقلت بصعوبة بالغة : ربنا يهديك يا بنى. . ربنا يكرمك . فتح باب الزنزانة في عنف وانطلق صفوت يضرب الرجل بالسوط ويقول : يا ملعون ، يا ابن الكلب ، لقد أوردت نفسك مورد الهلاك ، ستقدم إلى مجلس عسكري . . هذه أوامر جمال عبد الناصر يا ابن الكلب . . أنت تكسرها؟! أنقذ نفسك فورا قبل أن أذهب بك إلى شمس باشا يحولك إلى مجلس عسكري . . ثم أعاد عليه الأوامر الفاجرة والتعليمات الفاحشة بكلمات صريحة صارخة لا يمكن أن تخرج من فم إنسان وأغلق الزنزانة وأطل من الفتحة وقال : " أنا سأتركك ساعة، ثم أعود إليك لأنظر ماذا فعلت . . أنقذ نفسك ، ونفذ الأوامر! ! " .
حيا الجندي صفوت تحية عسكرية مز داخل الزنزانة وقال : "حاضر يا أفندم ! ! " . كنت أستمع إلى هذه الجاهلية وذلك الفجور، فأناجي ربى بتلك الكلمات ، "إنها دعوتك ، ونحن جندها ، وشهداؤها . . فغيرتك على جندك ، وأعراضهم يا الله ! اجعلنا أقوى من ظلمهم وألوان تعذيبهم "، وأخذت أدعو لهذا الرجل بالهداية ، ظننت أن هذا الرجل - بعد الأوامر الجديدة - سيخشى البشر، فيسلك مسالك الوحوش . . ولكنه كان رائعا وشجاعا . وقال كأنه في براءة الأطفال : لماذا يعذبونكم هكذا يا خالة؟
فقلت : إننا – يا بنى – ندعو لله ، ونريد حكم الإسلام لهذا البلد. ولا نطلب لأنفسنا سلطانا.
وسمعت أذان الظهر فتيممت على حائط الزنزانة وأديت الصلاة، فقال في رجاء : "ادعى لي يا خالة . فدعوت له بالهداية وقمت لصلاة السنة، فقال : ادعى لي أن يكرمني الله بالصلاة يا خالة. . أنتم لستم بشرا. ربنا يخرب بيتك يا عبد الناصر! .
فقلت له : هل تعرف الوضوء؟. فقال : طبعا، أنا كنت مواظبا على الصلاة .. لكن جيش حليمة لو رأوني أصلى يسجنونني . . . فقلت له : صل ولو سجنوك ، فالله معك . فقال ونور الإيمان يملأ وجهه . . "سأصلى" . وفجأة ضرب أحد الجنود باب الزنزانة بعنف وقال : يا ابن الكلب . . ماذا تفعل ؟إ! . فقال الرجل : الست لم تفرغ من الصلاة. فقال الجندي في صفاقة : صفوت آت إليك. وأرسلني أنظر ماذا فعلت .
وجاء صفوت كحيوان مجنون وهجم على الرجل بوحشية شرسة، وظل ينهال بسوطه على الرجل حتى أفقده حتى الأنين ! ! وجاء مساعدو الجلاد وحملوا المسكين إلى مصيره ، وأغلقت الزنزانة على آلامي وهمومي . . آلمني ما نال هذا الرجل بسببي، أو لأن الله أضاء بصيرته فلم يطع الظالم ! ! كانت السياط التي مزقت جسده تمزق جسدي وتحفر أخاديد في نفسي! ! . وهربت من همومي وآلامي إلى صلاة العصر. .
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
إلى زنزانة الماء مرة أخرى! !


وغربت الشمس ، فنشط جلادو السجن الحربي وزبانيته ، وبدأت عجلة التعذيب تدور! ! آخذوني في ستر الليل ، إلى زنزانة الماء . . كانت أمعائي تصرخ من الجوع وحلقي يكاد يتشقق من العطش ، وآلام جراحي تضرب كل جزء من جسمي بعنف وشراسة . آخذتني سنة من النوم ، وأنا على هذا الحال ، فإذا بخلق جميل ، يرتدون حللا من الحرير ، مزركشة ، داخل مخملات مطرزة بالذهب ، ويحملون صحافا من الذهب والفضة عليها ما طاب من الأطعمة من لحوم وفاكهة لم أر مثيلا لها! ! . . فأخذت آكل من هذه ، وتلك ، واستيقظت من سنة النوم هذه ، فوجدت نفسي في شبع وري، فلا جوع ، ولا عطش !! بل إن مذاق ما أكلته من طعام كان لا يزال بفمي!! فأخذت أشكر الله وأحمده . . مكثت في الماء طول الليل إلى ضحى اليوم الثالث ، عندما دخل صفوت وشمر بنطلونه ، ونزل إلى الماء وقال وهو يهزني بقسوة: إلى متى تظلين على عنادك ؟ أنقذي نفسك واكفينا أمرك . . أحكي الحكاية . . كيف اتفق سيد قطب مع الهضيبي على قتل عبد الناصر ومتى قال لك أن تأمري عبد الفتاح إسماعيل بقتل عبد الناصر؟ فقلت : كل هذا لم يحصل. . فخرج يسب ويلعن .. ثم عاد صفوت مرة أخرى بعد ساعة تقريبا، وأخرجني من الماء، وأدخلني في الزنزانة الأخرى التي تجاور زنزانة الماء وانصرف وارتعدت . . فقد اتجه تفكيري إلى ما حدث في هذه الزنزانة فاتجهت إلى الله بكل إيماني أن يحفظني مما يدبرون . . ورجع صفوت وضابط بملابسه الرسمية يدعى إبراهيم . . وقال صفوت : سيادة الضابط سيتكلم معك يا. . فقال الضابط : اخرج أنت يا صفوت ثم اتجه إليّ وقال : أليس من الأفضل أن تقدري مصلحتك وتعملي لها فقط ؟. . هؤلاء القوم ليس لهم إله حتى يخشونه ! هل تعلمي ماذا فعلوا بالجندي الذي لم ينفذ الأوامر معك بالأمس ؟ لقد أعدم رميا بالرصاص . . إنهم اليوم يعدون لك فرقة من أعتى المجرمين . . اعملي كل ما يطلبونه منك وأنقذي نفسك من أنيابهم . . حسن الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح رجال ، يتحملون مسئولية خطئهم . . والتزمت الصمت ، فقد سئمت أسلوب المساومة والإغراء والتهديد، ولا أظن أنني سألاقى من التعذيب أكثر ولا أبشع مما أنا فيه . . فقال الضابط لصفوت وكأنه عز عليه أن يفشل في مهمته : اعمل معها ما شئت ، إنها تستاهل كل اللي يحصل ليها. . . ودخل صفوت وأطلق سبابه الصارخ : عبد الناصر أرسل في طلب شياطين من النوبة سينهشونك نهشا . . إلى أين تفرين منهم ؟ الوقت يمضي ، وكل دقيقة تقربك من النهاية ثم أغلق الباب خلفه . . وبعد العصر، نقلوني إلى زنزانة الماء حيث مكثت فيها طول الليل . . . ! ! وجاء ضحى اليوم الرابع ، ولم أر أحدا غير صفوت الذي أخرجني من الماء وأدخلني الزنزانة الأخرى . . وبعد العصر أعادوني إلى زنزانة الماء فمكثت فيها إلى ضحى اليوم الخامس ! ! . وهكذا كل يوم من زنزانة إلى زنزانة بألوان من العذاب مختلفة! !
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
صرعت الوحش في زنزانتي ! !


لم يبق موضع في جسمي إلا وفيه اثر عذاب وموضع جراح ! ! ولم تبق ذرة في نفسي إلا وفيها جرح عميق ينزف ألما وحسرة . . !! هل كل ما يحدث هنا في السجن الحربي يخرج من بشر. . من إنسان ! غير معقول أن هؤلاء المخلوقات بشر. . ! ! إنهم مخلوقات تسمع وترى وتنطق وتمشى على رجلين ، ولها ذراعان وهيكل بشرى . . ! ! لا . . لا. . إنها مخلوقات غريبة . . من تركيبة عجيبة . . ! ! . . وأخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة . . وحياني صفوت بعدة ضربات ملتهبة بسوطه المجنون . . وقال وهو يضربني : إن ما سيحصل لك اليوم لم يحصل لكلب أجرب في طاحونة!! وأغلق باب الزنزانة ثم انصرف . . وما مروري إلا دقائق قليلة حتى فتح باب الزنزانة مرة أخرى وامتلأت بحمزة البسيوني وصفوت وجندبين آخرين ! ! . . وانطلقت القذارة من فم حمزة البسيوني بأبشع ما يمكن أن يتخيله إنسان . . سب فاضح صارخ وقال : "يا بنت الــ. .. أنقذي نفسك وقولي كل شيء . اعترف الهضيبي ، واعترف سيد قطب ، واعترف عبد الفتاح إسماعيل ، ووضعنا أصابعنا على كل شيء من واقع اعترافاتهم . . عرفنا منهم أن الهضيبي أمرك أن تقولي لعبد الفتاح إسماعيل بأن دم عبد الناصر مباح لأنه كافر. . كل واحد منهم تكلم ، وأنقذ نفسه وأنت ضيعت نفسك . . . ثم قال مهددا والشرر يتطاير من عينيه : ستعرفين كيف أنتزع منك كل ما نريده . . ستتكلمين أم لا؟.
ثم التفت إلى صفوت وقال : نفذ الأوامر يا صفوت . . . . ومن يعص الأمر من أولاد الكلب – مشيرا إلى الجنديين حوله إلى المكتب فورا . . وتولى صفوت إفهام الجنديين مهمتهما البشعة بأسلوب داعر صارخ الفجور، بعيد كل البعد عن الحياء. . مغمور في الانحطاط إلى أبعد ما يكون . . فقال لأحدهما في مجون : نفذ التعليمات – يا ابن الكلب – بعد إغلاق الزنزانة ، وبعد أن يتم التنفيذ، ادع زميلك ليقوم بدوره كذلك . . مفهوم ؟! ! ثم أغلق الزنزانة وانصرف . .
جلس الرجل يتوسل إلى أن أقول ما يريدون لأنه لا يريد أن يؤذيني، ومن جهة أخرى فإن عدم التنفيذ يلحق به ضررا بليغا وايذاءً جسيما. . قلت له بكل ما أوتيت من قوة : إياك أن تقترب منى خطوة واحدة . . إذا اقتربت ، سأقتلك . . سأقتلك . . سأقتلك ، فاهم ! ! .
كنت أرى الرجل ينكمش ويتقاعس غير أنه أخذ يقترب في خطوات ، ولم أدر إلا ويداي حول رقبته ، وأنا أصرخ بكل صوتي : "بسم الله ، الله أكبر. . وغرزت أسناني في عنقه ، وإذا به ينفلت من بين يدي، ويسقط تحت قدمي خائرا، يخرج من فمه زبد أبيض كرغاوى الصابون . . سقط الوحش تحت قدمي، جثة هامدة لا تنبض إلا بهذا الزبد الأبيض . . أنا التي تتربع على قمة الألم ، والتي مزقتها الجراح التي حفرتها السياط في كل موضع من جسمها! أنا التي غلفها الإعياء من كل الزوايا .. تصرع هذا الوحش الذي أمروه بأن يفترسني! !
لقد بث فيّ الله - جلت قدرته - قوة غريبة صرعت هذا الوحش ! !
وكانت معركة شر! ضارية انتصرت فيها الفضيلة على شراسة الرذيلة . .
كان هذا علامة صدق ، وبشرى للمخلصين . . فالحمد لله ولا إله إلا الله . . إن الطغاة يخافون ويهزمون ، وأصحاب الرسالات خلف القضبان مجردون من كل شئ إلا من الإيمان بالله تعالى . . غير أن ثبات المؤمنين على الحق هو دائما شئ لا يستطيع المنهزمون في أنفسهم وضمائرهم بتقاعسهم عن الإيمان أن يفعلوه . يا إلهي ما أكرمك وما أوسع عطاءك . . أنت ربنا ورب كل شئ . . فهؤلاء الذين يأخذون بأمر الله يحاربون . . ويقاومون. . ولكن العاقبة دائما للمتقين . . وفتحت الزنزانة ودخل رأس الزبانية حمزة البسيوني ، والجلاد صفوت وجند آخرون ، ووقع نظرهم على هذا الوحش الممدد على الأرض ، والرغاء الأبيض يخرج من فمه . . فبهت الذي كفر؟! . . خرست الألسنة وتبادلوا نظرات زائغة حيرى . . ! . . وحملوا الجثة وأعادوني إلى زنزانة الماء . .
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
من الفئران إلى الماء وبالعكس ! !


في زنزانة الماء ظللت حتى جاء اليوم السادس . . وفى ضحى اليوم أخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة ، فتوترت أعصابي انتظارا لما سيحدث . . فقد مرت بي في هذه الزنزانة ألوان من العذاب . فوضت أمري إلى الله ، وجلست مستندة إلى حائط الزنزانة . . أحسست بأشياء تتحرك ،فرفعت رأسي إليها، فإذا بخيوط متصلة من الفئران تنزل من النافذة كان أحدا يفرغها من كيس ! !
أخذتني رعدة شديدة، وشعرت برعب مريع ! ! . . أخذت أردد اللهم اصرف عنى السوء بما شئت وكيف شئت ".. ورددت هذا الدعاء، حتى سمعت أذان الظهر، فتيممت وصليت وجلست أختم صلاتي، وأذكر الله حتى أذان العصر فأديت صلاته . .
وهنا دخل الوحش صفوت الروبي. . كانت الفئران قد انصرفت من النافذة من حيث أفرغت ولم يتبق إلا فأر أو اثنان ! ! دارت عيناه في أنحاء الزنزانة في نظرات دهشة، وارتسمت على وجهه ألف علامة تعجب ! !
وكأن ذلك قد عز عليه ، فانصرف يسب ويلعن تلاحقه خيبة الأمل ! ! . . وأعادني إلى زنزانة الماء ، ثم عاد ومعه الضابط رياض .
وقف رياض خارج الزنزانة في محاولة يائسة لإقناعي لأقول بأن تنظيم الإخوان كان يهدف إلى قتل عبد الناصر والاستيلاء على السلطة بعد قلب نظام عبد الناصر . . فقلت له : هذا كذب وافتراء. وما كنا نجتمع إلا لنتدارس كتاب الله وسنة رسوله ، وتربية جيل مسلم يفقه الإسلام ، ويعمل لقيام دولته .
فقال : أنت مصرة على هذا؟ ستعرفين كيف يكون العذاب من الآن. . إن كل ما مر عليك يعتبر محاولات إلى جانب ما سيأتي . وذهب وبقيت أنا في الماء..!! ثمانية أيام وأنا على هذه الحال ، حتى بلغ بي الإرهاق والإجهاد درجة تفوق كل احتمال .
وبدا ذلك واضحا على صحتي التي وصلت إلى حال يرثى لها! !
وفى اليوم التاسع جاء رياض ومعه صفوت وضابط آخر في زيه الرسمي . وأخرجوني من الماء .
بدأ رياض يهددني بأن هذه المرة هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ نفسي، فإما أن أعترف كما يريدون ، وأما الخلاص مني نهائيا .
وقال : أنت فاهمة ربكم عنده جهنم صحيح ؟! جهنم هنا عند عبد الناصر. . الجنة عند عبد الناصر جنة موجودة حقيقية . . وليست جنة وهمية خيالية مثل التي يعدكم بها ربكم إ! ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) الكهف.
ثم أخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة وأغلقوها ثم انصرفوا . . وفزعت إلى الله في صلاتي؟ أطلب منه أن يصرف عنى شر هؤلاء، كنت في صلاتي عندما دخل الزنزانة عدد من الجند يزيد على العشرة ومعهم ضابط بزيه الرسمي . ثم انضم إليهم حمزة البسيوني ، وصفوت الروبي .
قال صفوت لحمزة البسيوني : أوامرك يا باشا في بنت الــ . . فقال حمزة البسيوني للجند: ماذا شربتم ؟!
فقالوا : شاي يا معالي الباشا . . . فقال : شاي يا أولاد الكلب . . خذهم يا صفوت اسق كل واحد منهم زجاجة خمر، وأن يدخنوا الحشيش ، وأطعمهم كل ما يشتهون ، ثم ارم لهم بنت الـــ. . ولهم عندي إجازة ومكافأة . وأغلقوا الزنزانة وانصرفوا .
مكثت في الزنزانة حتى صلاة العصر . . كنت ساجدة في الصلاة عندما فتحت الزنزانة ويندفع صفوت وجذبني من ذراعي في وحشية وقطع صلاتي، ثم أخذني إلى زنزانة المياه وأغلقها وانصرف !
وجاء رياض ودلف إلى الزنزانة، وكله علامة تعجب يحاول أن يخفيها تحت ظلال من الذهول وهو يقول : تريدين أن تكوني قديسة ؟ الجنود الذين أعددناهم لك ذهبوا إلى المستشفى. . لكنهم غدا سيأتون ينهشون لحمك نهشا، في المستشفى حقنوهم وأصبحوا كالكلاب المسعورة . . وأنها أوامر جمال عبد الناصر. . لن يتركك أبدا . . تعبنا من النصيحة وحاولنا معك مرة ومرات وأنت لا تتزحزحين عن موقفك . . تريدين أن تكوني قديسة ردى، ردى . . أين سوطك يا صفوت ؟" أخذ صفوت يضربني ورياض يستحثه : استمر يا صفوت . . قديسة يعنى إيه يا بنت الـــ . . ! ! تريدين بعد موتك بثلاثين سنة يقيمون لك ضريحا في مسجد ويقولون إن زينب الغزالي الجبيلي أظهرت كرامات في السجن الحربي. . لكن ، أنت هنا، ولا الشيطان يعرف ماذا نعمل فيك ؟!.
وضحكت وأنا في قمة المعاناة كانت ضحكة سخرية من جهله وغروره ، وقلت : إذا كنا نريد ما تقول ، ما دفع الله شروركم عنا . ولما استطعنا المقاومة والصبر" والتغلب على ما تسموه ، بأنفسكم جحيم عبد الناصر. . لكننا طلاب حقيقة نطلب الله ، ثم رضاه . . سينصرنا الله عليكم إن شاء الله وسيفرى الله أسنان الأشقياء الذين تعدونهم لنهش لحومنا .
كان صفوت قد ابتعد عن رياض ، فناداه هذا مستعينا .
"أدركني يا صفوت بنت الـ . . . . بتخطب . . إنها تخطب يا صفوت . .. وأسرع صفوت لنجدة رياض وألهبني بسوطه .
وقال : دعها لي يا سعادة البك . وغدا سترى وتشاهد ما نزل بها! !. وأجلسوني الجلسة المعتادة في الماء ثم أغلقوا الزنزانة وانصرفوا . .
الله وحده يعلم الحالة التي كنت عليها.. لقد كنت في قمة الألم ، وقمة الإجهاد، وقمة المعاناة . إن آلاما مبرحة تسرى في كل جسدي .
آه ! ! مسكين يا بلدي! ! هل أمرك إلى هذه الطغمة التي اعتدت على كل القيم ، وحطمت كل القوانين ؟! !
شغلني التفكير في بلدي عن بعض آلامي . . وإن كان أضاف هما إلى همومي ! ! إن ما أصابني ويصيبني قد أصاب ويصيب غيري بكل تأكيد. . لقد بت أتصور أن البلد كله قد صار سجنا حربيا، يحكمه حمزة البسيوني، وصفوت ، ورياض ، والسفاح الشرس شمس بدران ! ! . . كلهم حلقات واحدة في سلسلة متصلة تكبل هذا البلد. .إ! مسكين يا بلدي. . لا، لا لن تكون مسكينا يا بلدي، وفيك حملة كتاب الله وسنة رسوله ، ومن يستظل بمظلة لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . . إننا إن ذهبنا فسيأتي بعدنا وبعدنا من يرفع الراية غدا . . تشرق الأرض بنور ربها، وتتفيأ البشرية ظلال العبودية لله الواحد القهار . .