stafa
stafa
اليوم الحادي عشر
عمل اليوم :اصنع لي جدول عمل للاعتكاف والخلوة مع الله تحتوي على الأمور التالية:
1-المسجد . 2-الصحبة الصالحة . 3-مندوب للمأكل والمشرب (افطار صائمين ) . 4-عدد أيام الاعتكاف . 5-برنامج الاعتكاف . 6-التقويم "درجة الاستفادة من الاعتكاف" . 7-شكر الله تعالى على أداء هذه العبادة . 8-دلالة الآخرين والتذكير بفضل هذه العبادة . 9-دراسة فقه الاعتكاف .
درس اليوم :سورة النور
سورة النور (مدنية)، نزلت بعد سورة الحشر، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة المؤمنون، وعدد آياتها 64 آية.
منازل من نور
سورة النور هي سورة الآداب الاجتماعية، إنها سورة تعنى بشؤون الناس داخل بيوتهم، إنها تعنى بكيفية الحفاظ على أدب العلاقات بين أفراد المجتمع، وكيف نصل إلى حالة من الانسجام والفضيلة في مجتمعنا، وكيف ننقيه من الفساد والرذيلة.
ألسنة الفتنة
لقد نزلت سورة النور في مناسبة ما أشاعه المنافقون حول السيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، واتهامهم إيّاها بالزنا وهي المبرأة من فوق سبع سماوات. وما جرى في هذه الحادثة هو أن السيدة عائشة خرجت مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق ، فتوقف الجيش للراحة. ففقدت السيدة عائشة عقدها، وفيما كانت تبحث عنه، جاء الرجال وحملوا الهودج الذي كانت فيه دون أن يحسوا بعدم وجودها فيه لصغر حجمها ووزنها... ولما عادت السيدة عائشة وجدت أن الجيش قد سار وأصبحت وحيدة في الصحراء...
وكان من عادة النبي صلى الله عله وسلم أن يبقي رجلاً خلف الجيش، فإذا ما تأخر أحد عن الجيش يرشده. فجاء صفوان بن المعطل الذي كان يسير متأخراً عن الجيش وهي وحيدة فوضعها على الناقة، ولم يكلمها ولم يحدثها ولم ينظر إليها إلى أن دخل إليها المدينة... فاستغل المنافقون هذا الأمر وبدأوا بإشاعة الفتنة وإشاعة الأمر بأن الفاحشة - والعياذ بالله - قد حصلت بين السيدة عائشة وصفوان بن المعطل... وبدأ المجتمع يلوك هذا الكلام الباطل، ووقع بعض المؤمنين في هذا الخطأ، وصاروا يقولون: لا يمكن أن يكون هذا قد اطلق عليها بدون ان تعمله . واختلفت أحوال المسلمين حول هذا الأمر، فمنهم من كان حائراً ومنهم من لم يصدق الكلام إطلاقاً، ومنهم من ظن وقوع الفاحشة... وانقطع الوحي مدة شهر كامل... وكان ذلك اختباراً للمجتمع الإسلامي بأسره...
براءة ربانية
وظل الوحي محبوساً عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخرج المجتمع ما عنده، وكان اختباراً صعباً، حتى نزلت آيات سورة النور لتعلن براءة السيدة عائشة رضي الله عنها من فوق سبع سماوات:
)إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاءوا بِٱلإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإثْمِ وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ( (11)...
فهذه الآية تعلن بمنتهى الصراحة تبرئة السيدة عائشة، وأن ما حصل إنما هو إفك أي كذب شديد وافتراء شديد لا برهان عليه، وكل من ينشر مثل هذه الأكاذيب في المجتمع (وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين) لهم عذاب عظيم...
لا تحسبوه شراً لكم
والآية السابقة تعلق على حادثة الإفك وانتشارها بين المسلمين بشكل عجيب: (لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...) (11)، فأين الخير في ذلك؟
إن المجتمع الإسلامي في المدينة كله سيتعلم من هذه الحادثة، ونحن أيضاً سنتعلم من هذه الحادثة، وسلسلة الأحكام والآداب الاجتماعية التي رافقت نزول السورة ستكون خيراً للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مصداقاً لقوله تعالى (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ).
ظنوا بأنفسهم خيراً
وأول تعقيب بعد حادثة الإفك كان قوله تعالى: (لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (12). آية رائعة تعلمنا كيفية التصرف عند إشاعة الفتن والكلام في أعراض الناس. هذه الآية نزلت في أبي أيوب الأنصاري حين سأل زوجته: لو كنت مكان عائشة أكنت فعلت ما قيل، فقالت لا، فقال عائشة خير منك. فقالت له: لو كنت مكان صفوان بن المعطل أكنت فعلت ما قيل، فقال لا، فقالت صفوان خير منك... فنزلت الآية فيهم لتمتدح فعلهم الرائع وليكونوا نموذجاً وقدوة لكل المسلمين. ومن لطف الآية أنها قالت (ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً) مع أنهم "ظنوا بإخوانهم خيراً"، كأنها تقول للمسلمين: ظنوا بإخوانكم كما تظنون بأنفسكم، فأنتم مؤمنون كإخوانكم، واتركوا المنافقين يظنون فيهم كما يشاؤون. وكأن الآيات توحي إلينا أن طعنك أيها المسلم في أعراض الناس هو طعن في عرضك، وأن دفاعك عن عرض أخيك وحسن ظنك فيه هو دفاع عن نفسك.
إياكم والأعراض
فاحذر أيها المسلم من الخوض في أعراض الناس، وخاصة النساء. واحذر قبول وساوس الشيطان في أعراضهم، واحذر الترويج لما يشاع في الجرائد من فضائح وإشاعات فتسيء الظن بالناس ظلماً وتقع في كبيرة من الكبائر التي حذرت منها السورة: قذف المحصنات. فالذين أشاعوا الإفك من المنافقين، والذين قبلوه من المؤمنين لم يأتوا بشهداء أو بينة: (لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَـئِكَ عِندَ ٱلله هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ) (13).
لكن فضل الله تعالى ورحمته سبقا غضبه (وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱلله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (14).وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم
ثم تعود الآيات إلى وصف خطورة الموضوع:
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوٰهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ٱلله عَظِيمٌ & وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهْتَـٰنٌ عَظِيمٌ & يَعِظُكُمُ ٱلله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) (15 – 17).
كل هذه الآيات كانت تعليقاً على حادثة الإفك، فكانت تعليماً للصحابة وللأمة من بعدهم أن لا يخوضوا في أعراض النساء، وقد يقع به بعض الشباب بكلمة أو إشارة أو إيماءة، وقد يقولونه من باب المزاح دون قصد الإيذاء، لكن الآيات تحذرهم بشدة: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ٱلله عَظِيمٌ) (15) وتنهاهم أن يعودوا لمثله (يَعِظُكُمُ ٱلله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) (17).
وهكذا نرى أن قصة الإفك حملت من الخير لمجتمع المدينة ولكل المجتمعات الإسلامية الخير الكثير، فتعالوا معاً إخواني نستعرض آيات السورة ونفهم سوياً مراد ربنا من هذه السورة.

بداية شديدة لجريمة شديدة
فكيف بدأت السورة؟ لقد بدأت بداية غير معهودة فيما قبلها من السور القرآنية: (سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا...) (1). وهي بداية شديدة، ولكن كل سور القرآن أنزلت وفرضت، فلماذا بدأت السورة بتلك البداية؟ وكأن هذه السورة تريد أن تضع سياجاً شديداً لحماية المجتمع، فكان لا بد لهذا السياج من مقدّمة قوية للفت الأنظار إلى أهمية الأحكام القادمة.
(سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَـٰتٍ بَيّنَـٰتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
وسائل الوقاية
وسبب هذه البداية الشديدة، أن السورة وضعت ضمانات قوية لعدم وقوع الزنى، فلو وقع أحدٌ في هذه الجريمة بعد كل هذه الضمانات والضوابط التي ذكرت في السورة، فمعنى ذلك أن فطرته قد شذت شذوذاً شديداً، فلا بد له من عقوبة رادعة.
سبع خطوات وضوابط تضمنتها السورة، هي كالسياج الذي يحفظ المسلم، تحمي المجتمع وأهله من الوقوع في الفاحشة، وتحافظ على نقاوة المجتمع وطهارته وعفته... فتقرأ فيها آداب الاستئذان وتزويج الشباب ومنع البغاء وغض البصر والحجاب وعدم الخوض في الأعراض ظلماً بلا شهود، ثم يأتي تطبيق الحد في مكانه المناسب من هذه الضوابط ليكون رحمة للمجتمع وردعاً للشواذ الجامحين في شهوتهم وإفسادهم. فما هي هذه الشروط؟
آداب تنور المجتمع
1. الاستئذان:
فلا يدخل رجل على امرأة بمفردها في بيتها، وخاصة لو كان أخاً للزوج أو قريبه. ولا يخلو رجل بامرأة يحل له الزواج منها، ولا يدخل الأولاد على أبويهم في أي وقت يشاؤون بلا استئذان وكذلك الخدم. يقول تعالى: (يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ & فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَٱلله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (27 – 28). وبعد ذلك يقول الله تعالى (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) (58)
هذه الآيات هي قواعد المرور داخل البيت المسلم، للأطفال والخدم. اسمع معي هذه القواعد والأنظمة:
(مّن قَبْلِ صَـلَوٰةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَوٰةِ ٱلْعِشَاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ...) (58) وهي الأوقات التي يتخفف فيها المسلم من ثيابه لينام أو ليرتدي غيرها. ثم تقول الآيات:
(وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱلله لَكُمْ ءايَـٰتِهِ وَٱلله عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (58 – 59)...
ما هذا الدين العظيم، الذي يدخل مع المسلم إلى داخل بيته، لينظم له حركة البيت بما يضمن له السعادة والوقاية من الآفات والشرور...!!
2.غض البصر:
ووهو غض البصر غن كل ما يحرم للحفاظ على المجتمع مما يؤدي به إلى الفاحشة، تجد قوله تعالى:
(قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱلله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (30).
والأمر بغض البصر والعفة ليس فقط للرجال والشباب، لكنه موجه أيضاً للنساء بنفس الكلمات والأوامر: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ...) (31).
3. تزويج الشباب:
مساعدة الشباب الغير قادرين على الزواج. ولذلك كان من أهم الاشياء التي قدمتها السورة الكريمة: (الحث على تزويج الشباب): (وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱلله مِن فَضْلِهِ وَٱلله وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (32). وذلك لسد طريق الفواحش أمام الشباب الذين لا يستطيعون الزواج لضيق ذات اليد، فتدعو الآيات إلى تزويجهم والتوكل على الله أنه سيغنيهم من فضله.
4. منع البغاء:
كما شددت الآيات على أولياء الأمور (وعلى المجتمعات) الذين يدفعون فتياتهم إلى الزنى ليربحوا من وراءها (وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱلله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (33). فالسورة بأحكامها الشديدة، تحمي المرأة، وتحذر من المتاجرة بجسدها وعرضها، لأن في ذلك هضم لحقوقها، وإفساد وتمييع للمجتمع كله...
5. الحجاب:
وبعد الأمر بالاستئذان وغض البصر وتزويج الشباب ومنع البغاء، كان لا بد من الأمر بالحجاب، كأحد أهم الوسائل التي تمنع وقوع الشباب العزاب والمتزوجين في الفاحشة، نتيجة ما يرونه من مشاهد مثيرة للغرائز في الشارع أو على صفحات الجرائد أو في الفضائيات ووسائل الإعلام. فالحجاب من جهة، وغض الأبصار من جهة أخرى، هما ضمانة أكيدة لحماية المجتمع وطهارته. اسمع معي الآيات: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ...) (31).
فالآية أوضحت - من خلال تكرار عبارة (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) مرتين في آية واحدة - أن المرأة كلها زينة، فلا يجوز أن تبدي من زينتها إلا ما ظهر منها، وهما الوجه والكفين .
والآيات لم تأمر بالحجاب فحسب بل فصّلته تفصيلاً، فقد وصفت بشكل دقيق شكل الحجاب وشروطه الشرعية: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ) أي لا بد لغطاء يستر الراس والعنق والصدر . كما أنها حددت للمرأة المسلمة لمن تكشف زينتها: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ..) (31).
فكيف يأتي بعد كل هذا التفصيل، من يقول أن الحجاب في الإسلام ليس فرضاً؟ إن الآيات في هذه السورة وفي سورة الأحزاب فصلت فرضية الحجاب وشكله بشكل غير قابل للنقاش.
6. منع إشاعة الفواحش:
لقد منع الإسلام من إشاعة الفاحشة في المجتمع... فقال تعالى (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةِ وَٱلله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (19).
فإلى كل وسائل الإعلام التي تنشر الفاحشة والرذيلة والعري في المجتمع، وإلى كل من يروّج لأخبار الفضائح ويخوض في الأعراض، اسمع هذه الآيات واتق الله في شباب الأمة. اسمع قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْغَـٰفِلَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنـٰتِ لُعِنُواْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ & يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (23 – 24)..
لا بد من أربعة شهود
وهكذا نرى أن الإسلام أمر بتطبيق كل هذه الضوابط، ليضمن خلو المجتمع من كل ما قد يسبب وقوع الفاحشة... فإذا كان الزواج ميسّراً، والحجاب منتشراً، والتزم الناس بغض البصر واختفت الإعلانات الرذيلة ومنع البغاء، ومع هذا كله، زنى شخص ما، فهل يكون مستحقاً للحد؟... والجواب طبعاً: لا، لأنه لا يكون مستحقاً للحد إلا إن شهد عليه أربعة شهداء، ولا يطبّق عليه حد الرجم أو الجلد إلا إذا شهد عليه أربعة شهداء عدول (أي أمناء موثوق في شهادتهم ومعروفون بخلقهم في المجتمع) أو اعترف هو بنفسه. اسمع قوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ & إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱلله غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (4 – 5)..
لهذا استحق العقوبة
ولما طلبت الآيات شرط الأربعة شهود لإقامة الحد، فإنها قد وضعت شرطاً صعباً أمام تطبيق حد الزنى، وذلك من رحمة الله بعباده... فمن تخطى جميع هذه الضوابط الضوابط التي وضعتها السورة وأقدم على فعل الفاحشة فكان الواجب ان يجلد لقلة ادبه وعدم التزامه بشرع الله ، ولكن ؟؟؟ يكون قد فعل ذلك أمام أربعة أشخاص، مما يعني أنه كان مجاهراً بالزنى!... ومن يفعل ذلك لا يستحق الرأفة من المجتمع، ولا بد من القسوة عليه، ومن هنا نفهم شدة السورة في بدايتها: (وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱلله) لأنه يسعى إلى إفساد المجتمع على نحو خطير.
ومن روعة الإسلام وعظمته لو كانوا أربعة وتراجع أحدهم عن شهادته، فإن هؤلاء الثلاثة هم الذين يجلدون، لأن الستر والحفاظ على سمعة الناس هو الأولى وهو الأصل في الإسلام.
الإسلام لا يتعطش لإقامة الحدود
إن ما سبق يدل على أن الإسلام ليس متعطشاً لإقامة الحدود، ولنا في أصحاب رسول الله أسوة حسنة في فهمهم لتطبيق أحكام الإسلام: فسيدنا عمر بن الخطاب شاهد - عندما كان أميراً للمؤمنين - حادثة زنى، دون أن يكون معه شهود. فرجع إلى المسلمين غاضباً وقال: سمعت بأذني ورأيت بعيني، وسأطبّق عليهم الحد. فقال له علي بن أبي طالب: "يا أمير المؤمنين أمعك شهداء؟!" فقال عمر: "لا ولكني أمير المؤمنين ورأيت وسمعت". فقال علي: "يا أمير المؤمنين تأتي بأربعة شهداء وإلا إن نطقت باسمهما حدٌ في ظهرك"!! فمن ذا الذي يستطيع القول بعد ذلك بأن هذا الدين متعطش للدماء وإقامة الحدود!!...
التوبة
وكل الحدود التي جاءت في أول السورة هي الدواء النهائي فيما لو وضعت جميع الضمانات السابقة لعدم وقوع المجتمع في الفاحشة... فإذا وقع شاب أو فتاة في الفاحشة، وكان البلد لا يطبق حدود الله، أو لو كانت هذه الضوابط غير مكتملة في المجتمع، (كصعوبة الزواج وانتشار الرذيلة وغياب الحجاب في المجتمع) فماذا يفعل من وقع في الزنى والعياذ بالله؟
إن حد الزنى لا يقام عليه أولاً، ولا بد له من أن يتوب إلى الله تعالى فوراً ويستر على نفسه، ولذلك فإننا نرى من روعة هذه السورة أننا نراها تفتح باب التوبة بعد كل مقطع يتحدث عن حدود الله:
(إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ) (5).(وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱلله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱلله تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (10).
(وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱلله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱلله رَءوفٌ رَّحِيمٌ) (20).(وَتُوبُواْ إِلَى ٱلله جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31).
فالتوبة هي طريق النجاة للمجتمعات التي لم تكتمل فيها ضمانات منع الفاحشة، أو المجتمعات التي لا تقام فيها الحدود لسبب من الأسباب...
إلى النور
ويبقى سؤال مهم، وهو: لماذا سميت السورة بسورة النور؟ قد يجيب البعض: لأن في هذه السورة قوله تعالى(ٱلله نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ...) (35)... وهو جواب بديهي، لكن ما علاقة هذه الآية بالآداب الاجتماعية التي حفلت بها السورة؟ ولماذا لم يطلق على السورة اسم سورة الآداب الاجتماعية مثلاً أو أي اسم مماثل؟..
إن في هذا دلالة على أن العمل بهذه التعاليم والأحكام يضيء المجتمع بنورها. فشرع الله هو نور المجتمع، والبديل عن ذلك هو التخبط في الظلام والضلال، كما يحصل في الكثير من المجتمعات في عصرنا الحاضر.
هناك بيوت كثيرة تعيش في ظلمة، وهناك مجتمعات عديدة تفتقد إلى النور لعدم قراءة أهلها لسورة النور، فحين ابتعدت هذه المجتمعات عن شرع الله، شاعت فيها الفاحشة، وكثرت فيها الأمراض والمشاكل... لهذا كله، سميت السورة بسورة النور، لأنها النور الذي يحفظ النفوس وينقيها من الغرائز، ويحفظ الأعراض ويحرسها من ألسنة الناس، ويضيء الطريق إلى الله.
الله نور السماوات والأرض
فما هو مصدر هذا النور؟ إنه الله تبارك وتعالى: (ٱلله نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ...) (35) ونور الله هو شرعه وهدايته...
فأين ينزل هذا النور؟ (فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱلله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ...) (36). وعلى من ينزل هذا النور...(رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱلله...) (37). وأما من حاد عن هذا النور: (وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْانُ مَاء..) (39) لأنه لم يمش على نور ربنا سبحانه وتعالى، وآثر التخبط في الظلمات: (أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـٰتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱلله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ) (40).
أرأيتم ترك النور الرباني؟ أرأيتم كيف أن ترك الحجاب وإشاعة الفضائح يجعلان الأفراد والمجتمعات لا بل البشرية كلها تتخبط في ظلمات الضلال والفواحش؟
مقتضيات النور الرباني
اسمع معي مرة أخرى الآية المحورية في السورة، آية النور: (ٱلله نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى ٱلله لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ ٱلله ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱلله بِكُلّ شَىْء عَلَيِمٌ) (35).
والمشكاة هي عبارة عن تجويف في الحائط يحيط بالمصباح، ويحافظ عليه. فلكي يبقى النور متوقداً، لا بد له من زجاجة تحيط به وتحافظ عليه. وكأن هذه الآية الرائعة تقول للمؤمنين: نفّذوا شرع الله تعالى، الذي هو نور المجتمع، وحافظوا عليه، واجعلوا قلوبكم كالزجاجة التي تحيط بالنور، لتضمن بقاءه متوهجاً في حياتكم وحياة الناس من حولكم.
ولا بد لهذا النور من فتيل حتى يشعله، هذا الفتيل هو عملك وإيجابيتك أيها المؤمن، فكأن الآيات تقول لك: "أشعل الفتيل حتى تنور المجتمع"، ولذلك كانت بداية السورة شديدة (سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا...) (1)، لأنها تدعو إلى التحرك بإيجابية وإشعال الفتيل الذي ينشر نور الله في الأرض.
آيات مبينات
ومن لطائف القرآن أنه ركّز على استعمال كلمة النور لوصف شرع الله تعالى، فما هي أهم خصائص النور؟ يمكننا أن نلخصها في ثلاث كلمات:
الهداية - البيّنة - الكشف.
فالنور يكشف الحقائق ويبيّنها، ولذلك تكررت لفظة "بينات" و"آيات مبينات" في السورة تسع مرات. فالسورة بدأت بقوله تعالى: (.. وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَـٰتٍ بَيّنَـٰتٍ) (1)، وبعد الحديث عن كل مجموعة من الآداب الاجتماعية يأتي قوله تعالى (وَيُبَيّنُ ٱلله لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ) (18) أو قوله (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَـٰتٍ مُّبَيّنَـٰتٍ...) (34) لأن هذه الأحكام هي التي ترشد المؤمنين وتبين لهم طريق الحق.
ولذلك كانت السورة التي نزلت فيها تبرئة السيدة عائشة هي سورة النور، لأن النور يكشف الحقائق ويبينها...
ولذلك أيضاً اشترطت السورة وجود أربع شهود لإقامة حد الزنى، لكي يكون هناك بيّنة، هذه البينة هي الكاشفة وهي النور..
من فضلك، اجعل هذه السورة والآداب التي تضمنتها نوراً لك في أسرتك، وحافظ على شرع الله تعالى لتنوّر به مجتمعك، وتحرّك به إلى الناس كلهم لتنشر النور في البشرية كلها.
stafa
stafa
اليوم الثاني والعشرون
تذكرة:ذهب الثلثان وبقى الثلث الاخير فحرصوا على الاجتهاد فيه تتبعو الرابط :
http://saaid.net/mktarat/ramadan/123.htm
عمل اليوم :الحرص على اداء صلاة القيام والتهجد في الثلث الاخير من الليل مع اطالة الركوع والسجود والقراءة والتسبيح والتزام بذلك حتى نهاية الشهر تتبع الرابط :
http://saaid.net/mktarat/ramadan/343.htm
درس اليوم :سورتي الفرقان و الشعراء
سورة الفرقان
سورة الفرقان (مكية)، نزلت بعد سورة يس، وهي بعد سورة النور في ترتيب المصحف وعدد آياتها سبع وسبعون آية.
هدف السورة
إن سورة الفرقان تتحدث عن سوء عاقبة من يكذب بالله ورسوله وكتابه، ولذلك فإننا نرى فيها ثلاثة محاور أساسية:
- أنواع التكذيب التي لقيها النبي صلى الله عليه وسلم
- التحذير من سوء عاقبة التكذيب
- تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وكل آيات السورة تدور حول هذه المحاور الثلاث بشكل واضح، ومن هنا سبب تسميتها بالفرقان، لأنها توضح - من خلال هذه المحاور الثلاثة - كيف أن الدين والقرآن هما الفرقان بين الحق والباطل.
تكذيب وتثبيت
نزلت هذه السورة الكريمة في وقت كان المشركون قد تمادوا في استهزائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم . فجاءت آياتها تثبت النبي وأصحابه، وتكذب من يكذبونه.. لذلك نرى في أول السورة قوله تعالى (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءاخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً & وَقَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (4 - 5).
أنواع مختلفة من التكذيب، من تكذيب القرآن ووصفه بأنه (أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ) إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم :
(وَقَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً & أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً & ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَـٰلَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (7 - 9).
وبعد هذه الأنواع المختلفة من التكذيب، يأتي تثبيت رائع للنبي صلى الله عليه وسلم (تَبَارَكَ ٱلَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذٰلِكَ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً) (10).
ثم الآيات التي بعدها تبيّن عاقبة المكذّبين: (بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً & إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً & وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً & لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً) (11 - 14).
خذلهم شياطين الإنس والجن
وبعد ذلك تبين الآيات نوعاً أقبح من التكذيب (وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَـئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً) (21).
فماذا ستكون عاقبتهم؟ (وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً & يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً & لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ٱلذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِلإِنْسَـٰنِ خَذُولاً) (27 - 29).
نعم، لقد خذلهم أصدقاء السوء، وتخلى عنهم الشيطان الذي كان يحركهم... وتماماً كالمثال السابق، يأتي بين الآيات التي تبين نوع التكذيب والآيات التي تبين عاقبته نوع من الطمأنة (أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (24).
احذر هجر القرآن
ثم تأتي بعد ذلك شكوى خطيرة من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على كل من يهجر القرآن: (وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبّ إِنَّ قَوْمِى ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً) (30).فحذار حذار من هجر القرآن، لأنه طريقك إلى الفرقان بين الحق والباطل، بين الظلمات والنور، وبين الإيمان والتكذيب.
وتكذيب المشركين ليس له حدود، فهم يبحثون عن أي سبب ممكن للتكذيب، فها هم الآن يطعنون في تنزيل القرآن على دفعات: (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وٰحِدَةً) (32)، فيرد عليهم المولى بأروع طريقة:
(كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)... فجمعت هذه الآية بين الرد على دعوى الكفار وتكذيبها، وبين تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل ذلك في آية واحدة...
وتستمر الآيات بنفس الطريقة التي سبق بيانها: ذكر نوع من أنواع التكذيب، ثم ذكر عاقبته وبين ذلك طمأنة للنبي صلى الله عليه وسلم :فمن أنواع التكذيب: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱلله رَسُولاً)(41).
لذلك تثبت الآيات النبي صلى الله عليه وسلم وتعده بالمساعدة وإقامة الحجة: (وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (33). ثم تحذر من مصير الكافرين: (ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (34).
السبب الرئيسي للتكذيب
وقد يتساءل البعض: لماذا كل هذا التكذيب وهذا الافتراء؟ فتأتي الآية 42 - وهي آية محورية - لتجيب بأن سبب التكذيب هو اتباع الهوى، فإن من يتبع هواه لا يقر بخطئه، لكنه يرمي الآخر بالخطأ (أَرَءيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (42).
فماذا تملك لمثل هذا النوع من الناس، الذي عبد هواه من دون الله، فألغى عقله وأفسد فطرته؟ فعلاً "أفأنت تكون عليه وكيلاً"؟؟
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل
وتستمر السورة على نفس السياق، (بيان أنواع تكذيب المشركين، ثم ذكر عاقبته، ثم طمأنة النبي عليه الصلاة والسلام وتثبيته)، إلى أن تصل السورة إلى ذكر الآيات الكونية لله تعالى في الكون.
ومن روعة القرآن أن السورة إذا احتوت على ذكر لآيات كونية، تتحدث عن قدرة الله تعالى في الكون، فإنها لا تكون آيات متناثرة، لكنها تناسب الجو العام للسورة، تماماً كما قلنا عن قصص الأنبياء التي تأتي في السورة لتخدم هدفها.
فماذا نرى في سورة الفرقان؟ إن الجو العام للسورة هو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، والسورة تهدف إلى تثبيت النبي وطمأنة قلبه، فتأتي آية كونية رائعة لتخدم هذا المعنى: (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً) (45)، وهي الفترة من وقت طلوع الفجر حتى طلوع الشمس . وهي إشارة على أن من مد الظل رحمة بعباده (فَإِنَّ فِيهَا يَجِد الْمَرِيض رَاحَة وَالْمُسَافِر وَكُلّ ذِي عِلَّة : وَفِيهَا تُرَدّ نُفُوس الْأَمْوَات وَالْأَرْوَاح مِنْهُمْ إِلَى الْأَجْسَاد , وَتَطِيب نُفُوس الْأَحْيَاء فِيهَا)، وهو قادر ان يجعله ساكن لكن ومن رحمته الله لم يجعله ساكن اي ثايت بل زائل بشروق الشمس ليظهر نور النهار على الارض وتنجلي الضلمة بكل سهولة ويسر (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) ) . وكانت الشمس هي الدليل عليه فلولا وجود الشمس النائرة ما عرف الظل . فالذي قادر على ذلك وهو الله وحده قادر على ان يحق نور الحق ويبطل ظلمة الباطل
تذكر نعم الله عليك
ففي الاية السابقة كيف ان الله يسخر هذا الكون وما فيه لك ايها الانسان حيث جعل وقت ما بعد طلوع الشمس ظلا لطيف باردا على النفس الانسانية لبداية استقبال النهار ولم يجعل الشمس الحارة تسرق مباشرة . حتى اذا استعدت النفس وارتاحت جعل اشعة الشمس الشعاع بعد الشعاع ينزل الى الارض لينشر النور ويسحب ظلمة الظل لبداية نهار مضيء لتقضي حاجاتك ايها الانسان من ماكل ومشرب وعمل ولم يجعلك الله تعيش كل يومك في الظل القريب الى الظلمة فتبقى على كسل طول النهار والله قادر على ذلك ولكن رحمتا بك لم يفعل ذلك .فلاتنسى بهذه النعمة كل يوم ان تجعل في يومك شيء لله ولا تجعل اليوم كله عبث تنقضي ساعاته خيرك فيه قليل .
ليل الرحمة
وبعد ذلك يقول تعالى (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً) (47).
واختيار الليل والنهار ايضا من دلائل الرحمة بعباده عز وجل وكذلك التضاد بين اليل الساكن والنهار العامل ، ثم يقول تعالى: (وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُوراً & لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً..) (48 - 49).
فنرى أن الآيات الكونية من رياح وأمطار تبشّر المؤمنين برحمة الله وتطهّرهم وتحيي قلوبهم، وكلها لتخفّف عنهم شدة الاستهزاء والتكذيب الذي يعانون منه.
ماء حلو وماء مالح
ثم تاتي اية (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53)) مثال اخر على قدرة الله في التفريق والعزل بين المتضادات الكونية وفي اكثرها سيولة واختلاطا مع بعضها وهو الماء حيث جعل الله الماء الحلو في الانهار وجعل الماء المالح في البحار وجعل بينهما اليابسة تفصلها بعضها عن بعض . ولكنه تختلط مع بعضها البعض عند التقاء النهر في البحر ,حيث ان النهر يصب بالبحر . رحمة بيك ايها الانسان فانظر كيف الله انعم عليك بالماء العذب ليروي عطشك بدون اي تعب وجعل الماء المالح بكميات كبيرة لحصول التبخر منه ومن ثم حصول الامطار ليرزقك كذلك ماء عذب حلو فاذكر الاء الله عليك ولا تكن من الجاحدين !
قمة التكذيب
وبعد تكذيب الكفار بالنبي وبالقرآن، تصل بنا الآيات قبل الختام إلى نوع شديد من أنواع تكذيبهم: إنهم يكّذبون بالرحمن
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) (60).
وهي قمة في سوء الأدب مع الله تعالى، فترد عليهم الآيات بطريقة رائعة: لا بإخبارهم من هو الرحمن، بل بوصف عباده: (وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ). حتى يعرفوا الرحمن من صفاتهم، وهذا من تشريف الله تعالى وتثبيته لهم، وكأنه يقول لهؤلاء الكفار المعاندين: اسألوا هؤلاء عن الرحمن...
عملهم وصفتهم
والرد على المشركين بهذه الطريقة هو أعظم تشريف لعباد الرحمن، لأنهم يدلون على الرحمن من خلال صفاتهم.
(وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً & وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً & وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً & إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً & وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً & وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱلله إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱلله إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً & يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً & إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱلله سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ وَكَانَ ٱلله غَفُوراً رَّحِيماً & وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱلله مَتاباً & وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً & وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً & وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (63 - 74)، وآية (وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) تفيد أن تمني المسلم للقيادة أمر مطلوب ومحمود - من غير حب للرئاسة أو طمع بالدنيا - في سبيل أن يكون إماماً للمتقين وقائداً ومعيناً لهم على تقوى الله.ومن روعة الآيات السابقة أنها وازنت بين تفوّق عباد الرحمن في العبادة، وبين حسن أخلاقهم. فترى فيها تسلسلاً واضحاً: صفة عبادة ثم صفة خلق، وهكذا إلى آخر السورة، لتوحي أن المؤمنين الذين يستحقون صفة عباد الرحمن هم الذين لا يفصلون بين العبادة والأخلاق.
أما أنتم يا من كذبتم بالرحمن، فاسمعوا قول الله تعالى في ختام السورة: (قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً) (77).
وهكذا نجد آيات سورة الفرقان دائماً: فرقاناً بين الحق وأهله وبين الباطل وحزبه. وفرقاناً بين نعيم المؤمنين وتثبيت الله تعالى لهم وبين جحيم المكذبين وتهديدهم بنزول العذاب الأليم.
سبب التسمية
سميت السورة بالفرقان لان هذا القران وما فيه من شرع ومنهاجه (اي الاسلام )هو الفرق بين الحق والباطل ومثل في ذلك متضادات كثير من ايات كونية لتعرفوا المعنى والفرق فمثل ذلك بالظل والشمس (45 ) وبالليل والنهار (47 ) وبالموت والحياة (48- 49)والماء العذب والماء المالح (53) .فالفرق بين الحق والباطل واضحا تماما كوضوح الايات سابقة الذكر ولكن عليك ايها الانسان الاختيار , ومع من سوف تكون ؟ فاما ان تكون مصدق او ان تكون كاذب والعياذ بالله .
سورة الشعراء
سورة الشعراء (مكية)، نزلت بعد الواقعة، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة الفرقان وعدد آياتها مئتان وسبع وعشرون آية.
هدف السورة
قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم (بلّغوا عني ولو آية) وتدور سورة الشعراء حول أهمية توصيل الرسالة إلى الناس بأحسن الوسائل المؤثرة. ففي عهد سيدنا موسى كانت هذه الوسيلة هي السحر، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الشعر والشعراء (ومن هنا اسم السورة).
نزلت هذه السورة في أكثر وقت كان المسلمون فيه بحاجة إلى تعلّم فن الإعلام وتوصيل الأفكار: مع بداية مرحلة الدعوة الجهرية، وخاصة بعد وقوف النبي محمد صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا وإعلان الإسلام لأول مرة في مكة كدعوة علنية... وبذلك تكون رسالة السورة واضحة في بيان أهمية الإعلام وحسن توصيل الأفكار في نشر الدعوة.
خطورة الكلمة المسموعة
والإعلام سلاح ذو حدين، فهو إما أن يستخدم في تضليل الناس وإما أن يستخدم في هدايتهم، ولذلك ختمت السورة بقوله تعالى: (وَٱلشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ & أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ & وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ & إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَذَكَرُواْ ٱلله كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (224 - 227).
فالشعراء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - أو الإعلاميون بلغة العصر - قد يكونون سبباً لإغواء الناس وصدّهم عن سبيل الله، وقد يكونون منابر للهدى وإيصال كلمة الحق إلى الناس. ولذلك لا بد للدعاة إلى الله أن يمتلكوا هذه الأداة المهمة في توصيل الأفكار (والتي تتغير بحسب مقتضيات العصر) ويستخدموها لنشر الإسلام بأفضل الطرق.
مفاتيح القلوب
وكما رأينا في كل سور القرآن، فإن قصص الأنبياء الواردة في السورة تخدم هدف السورة. فحين تحدثت السورة عن سيدنا موسى عليه السلام، بينت كيف كان يخشى ألا يؤثر في الناس بصورة جيدة فقال(وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَـٰرُونَ) (13). وكل قصص الأنبياء التي جاءت في السورة كانت تركّز على حوار النبي مع قومه.
وهذا ما نجده في قصص موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، حيث نرى التركيز على "قال وقالوا"... آيات رائعة في أسلوب الحوار لتهيء النبي عليه الصلاة والسلام لبداية مرحلة الدعوة الجهرية، التي أعلنت عنها الآية 214 بوضوح: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ).
من روائع الحوارات الإعلامية
وعلى سبيل المثال، نرى في حوار سيدنا موسى مع فرعون أساليب رائعة للحوار.(فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ & أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ & قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ & وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ) (16-19) تهمة صعبة يوجهها فرعون إلى موسى، فماذا يكون جواب الدعاة إلى الله في مثل هذه الظروف؟ (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ & فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ) (20-21).فأغلق باب التهمة بما حصل في الماضي، ثم انتقل من الدفاع إلى الهجوم في قوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرٰءيلَ) (22).
وينتهي تبادل الاتهامات ليبدأ الحوار الدعوي. اسمع معي الآيات:
(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ & قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ) (23-24).
(قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ & قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ) (25-26).(قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ & قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (27-28).
فنرى أن سيدنا موسى استرسل في الجواب على سؤال (وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ) (23) للتأثير على المستمعين دون أن يبالي بالتفاهات التي صدرت من فرعون بعد السؤال الأول.
الإعلام في قصة موسى
وفي نفس القصة، نرى حرص سيدنا موسى على التأثير على الناس بأفضل طريقة ممكنة، فيقول لفرعون:
(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ) (30). فماذا كانت هذه الوسيلة؟ إنها السحر، الذي كان أفضل وسيلة للتأثير في الناس في عهد سيدنا موسى كما قلنا (تماماً كدور الشعراء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو كدور الإعلاميين في عصرنا).
ونرى تركيز الباطل أيضاً (فرعون وجنوده) على إعلام الرأي العام في قوله تعالى (قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِى ٱلْمَدَائِنِ حَـٰشِرِينَ) (36) فهم يريدون لهذه المواجهة أن تكون علنية (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ ُّجْتَمِعُونَ) (39).
سيدنا إبراهيم والحوار الدعوي
وفي قصة سيدنا إبراهيم، نرى أسلوباً آخر في الحوار تعلمنا إياه السورة. فهو بدأ بالحوار العقلاني في مواجهتهم في قوله. (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ & أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (72-73). فلما كان ردهم ضعيفاً قال: (قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ & أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ & فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ) (75-77)
وعندما يذكر سيدنا إبراهيم ربه جل وعلا، يستفيض في ذكر صفات الله تعالى، (ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ & وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ & وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ & وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ & وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ) (78-82).
بيان القرآن
ولأن القرآن هو محور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإننا نرى الآيات التي تحدثت عن القرآن في السورة تركز على بيان القرآن وأهميته في التأثير في الناس. فمن البداية نرى قوله تعالى (تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ)(2 ).
وفي أواخر السورة، وبعد قصص الأنبياء، يأتي قوله تعالى: ]بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ[ (195).
ولا بد للغة الخطاب والتأثير أن تكون ملائمة للجو الذي يعيش فيه الناس، مهما كانت قيمتها، لذلك نرى في السورة قوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلأَعْجَمِينَ & فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (198-199).
فآيات السورة واضحة أشد الوضوح في إرشاد المسلمين والدعاة إلى الله، في كل زمان ومكان، إلى استخدام أفضل الأساليب وأوضحها في الدعوة.
الإعلام الرباني
فعندما تقرأ أخي المسلم سورة الشعراء، تذكر دائماً أن الإعلام ينبغي أن يكون من وسائل الدعوة إلى الله، لا أن يستخدم في الترويج للمعاصي والفتن والفواحش. هذه هي رسالة السورة للإعلاميين. وأما الرسالة الثانية، فهي للأمة كلها، وخاصة الدعاة إلى الله، ليتعلموا البحث عن أفضل الطرق التي يؤثرون بها في الناس، مقتدين في ذلك بالحوار الراقي لأنبياء الله مع أقوامهم خلال السورة.
سبب التسمية
وسميت السورة باسم الشعراء، لكي نستخدم أفضل وسائل نشر الدعوة، ولئلا نستخدم الوسائل ذات الحدين في معصية الله بل نستخدمها في طاعته ومن ذلك الإعلام... وليكون قدوتنا في ذلك الأنبياء سيدنا إبراهيم وموسى عليهما السلام. وسيدنا محمد صلى الله عليه في طريقة حوارهم الراقية المؤثرة في هداية الناس..
stafa
stafa
اليوم الثالث والعشرون
عمل اليوم :أشغل نفسي وقلبي طوال اليوم بالذكر والدعاء والتسبيح والتحميد والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واحرص على كل دقيقة أن تذهب سدى طوال الايام القادمة مع حسن الصيام وتجنب النواهي والحرص على الاوامر .
درس اليوم :سورتي النمل والقصص
سورة النمل
سورة النمل (مكية)، نزلت بعد سورة الشعراء، وهي بعدها أيضاً في ترتيب المصحف. عدد آياتها 93 آية.
سورة التفوق الحضاري
سورة النمل تتحدث عن التفوق الحضاري، وأهمية أن يمتلك المسلمون معالم حضارية قوية من العلم والتكنولوجيا والقوة المادية والقوة العسكرية، ليستخدموها في نصرة دين الله تعالى. فهذه السورة تخاطب الذين يفهمون الإسلام على أنه صلاة ركعتين وبكاء العينين وحفظ القرآن فقط... هذه الأشياء - على أهميتها - لا بد أن تقترن بأسباب قيادة الدنيا وإدارة الأرض وفق منهج الله. وليس هذا فحسب، بل إن تفوق المسلمين الحضاري وتقدمهم العلمي والتكنولوجي يفيد في الدعوة ويؤثر في الآخرين أضعاف أضعاف ما يؤثر فيهم كلام شخص عادي أو فاشل في حياته العملية أو راسب في امتحاناته... هذه السورة تقول لنا باختصار: يا أمة محمد، لن يكون لكم احترام ودور مميز بين الأمم دون أن يكون لكم تميز حضاري، ودون أن تحيطوا بكل علوم عصركم وتبرعوا بها.
وهكذا نرى أن كل سورة توجّه رسالة واضحة للمسلمين لتكمل سور القرآن في عرضها للمنهج الرباني، مما يشعرنا بترابط القرآن وتماسك سوره. فبعد أن كانت رسالة سورة الشعراء: "اهتموا بالإعلام"، أتت سورة النمل لتوجه رسالة مماثلة: "اهتموا بالتفوق الحضاري"، وكلاهما يخدم نفس الهدف: أهمية التفوق والأخذ بالأسباب الدنيوية في تميز المسلمين وتأثيرهم على الآخرين..
المؤسسة الناجحة
وكان رمز التفوق الحضاري في هذه السورة: سيدنا سليمان عليه السلام، ومملكته التي جمعت بين الإيمان والنجاح في الحياة، هذه المؤسسة هي أشبه ما تكون بلغة اليوم: شركة عالمية متعددة الجنسيات، توظف ضمن جهازها الإداري جنسيات مختلفة، من الجن والإنس والطير والنمل والوحوش... فلنتأمل عناصر التفوق الحضاري في مملكة سيدنا سليمان، وكيف أن تفاصيل القصة وجزئياتها تعطينا معنى مهماً وأبعاداً جديدة للتفوق الحضاري والنجاح في الحياة:
1. استشعار قيمة العلم
(وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْماً...) (15) فلا تفوق من غير علم، ولا يمكن للطالب المسلم أن يخدم الإسلام إلا إذا كان متفوقاً في مدرسته وجامعته، لأن ذلك من صميم الإسلام.(وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ) (15). فضلهم بماذا؟ طبعاً بالعلم، ورزقهم ميزة هامة أخرى، وهي الاعتزاز به وإدراك قيمة هذه النعمة وحمد الله عليها. فالأمة التي يغش طلابها في الامتحانات ويكون كل همهم نيل الشهادات لا تدرك قيمة العلم، ولا يمكن لهكذا أمة أن تنهض وتنافس باقي الأمم..
2. توريث الأجيال
(وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُودَ) (16)، حتى لا يقف النجاح عند جيل معين. ولا بد من وجود أجيال ترث النجاح وتحافظ عليه لضمان استمرار التفوق وتراكم الخبرات داخل المؤسسة الواحدة.
3. إتقان اللغات
(... وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ...) (16) وهذه الميزة تتيح التعامل مع الآخرين والتفاعل معهم.
4. توفر الإمكانيات
(... وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ)(16).
فأوتيت هذه المملكة الإمكانيات والموارد الطبيعية والبشرية، ولم تقتصر على ذلك بل اجتهدت في الحفاظ على هذه الموارد وتطويرها.
5. حسن الإدارة
(وَحُشِرَ لِسْلَيْمَـٰنَ جُنُودُهُ...) (17) تخيل هذه المملكة العظيمة، شركة متعددة الجنسيات، أو متعددة الكائنات، فيها الجن والإنس، فيها الطيور والوحوش، فيها من كل المخلوقات (مِنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (17). وكلمة "حشر" هنا تبين عدد الجنود الكبير وتنوعهم. أما التنظيم الدقيق وتوزيع الأعمال فنراه في قوله تعالى (فَهُمْ يُوزَعُونَ) (17)، فالكل يؤدي عمله المطلوب منه، الذي هو ضمن اختصاصه وإمكاناته.
6. التدريب
(حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِى ٱلنَّمْلِ...) (19) ما علاقة هذه الرحلة إلى وادي النمل بسليمان وجنوده وتنظيم مملكتهم؟
إن هذه الشركة تدرب أفرادها، حيث يأخذهم سليمان ليدربهم ويتنقل بهم في الأرض، فكان أن وصفت لنا الآية الكريمة جانباً من تدريبهم، عندما وصلوا خلال جولتهم إلى وادي النمل، وحصل ما هو معلوم من حوار النملة مع قومها: (.. قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) (18).
7. الانضباط والحزم
ونتابع مع قصة سليمان، لنلاحظ تنظيم المؤسسة الدقيق والحزم في التعامل مع الأفراد. فخلال كل اجتماع، يتم تفقد الحضور والغياب: (وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَائِبِينَ & لأُعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ) (20-21) فسليمان عليه السلام لم يسأل عن الهدهد فقط بل تفقّده، مما يدل على دقة النظام في المملكة. ومع أن الهدهد جندي صغير ولن يؤثر في قوة الجيش، لكن غيابه يخل بالانضباط وينبغي أن يقابل بالحزم.
8. انتماء الأفراد للرسالة
ويظهر في قصة سليمان انتماء أفراد الشركة وموظفيها للرسالة وشعورهم بقضيتها تماماً كالقائد. فالهدهد طار من فلسطين إلى اليمن ليحضر معلومات عن مملكة تسجد للشمس من دون الله، ليقف أمام الملك دون خجل ويقول له: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ...) (22) وقد درس الموقف جيداً وأحضر معلومات يقينية ودقيقة: (... وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (22).
ويتابع الحديث عن المملكة التي رآها: (إِنّى وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ & وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱلله وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ) (23-24) فهو لم يتصرف كموظف عادي بل أحس أنه مسؤول عن مهمة الشركة وقضيتها وهدفها، إلى أن يقول بكل غيرة وألم: (أَلاَّ يَسْجُدُواْ لله..) (25).ثم يتذكر أنه قال عن الملكة أن لها (عَرْشٌ عَظِيم)[، فيستدرك كلامه ويقول (ٱلله لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ) (26).
انظروا الى الهدهد في إيجابيته وانتمائه لأمته وشعوره بالمسؤولية تجاهها...
9. الدقة في نقل الأخبار والتحقق منها
وتتابع الآيات لتنقل لنا حوار سليمان الممتع مع الهدهد: (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ..) (27). أي أن الأخبار التي تأتي تؤخذ للتحليل والاختبار، مع أن الهدهد قال لسيدنا سليمان قبل هذا: (وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)، لكن لا بد للشركة الناجحة من تصفية المعلومات والتأكد من صحتها قبل أخذ القرار: (ٱذْهَب بّكِتَابِى هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ..) (28) فيقوم سيدنا سليمان بتجربة مع هؤلاء القوم... أي علوم هذه؟ وأي تنظيم هذا؟ يا أمة محمد تعلموا من مملكة سليمان كيف يكون النجاح...
الشورى وقود التفوق
وفي الناحية المقابلة، نرى مؤسسة متفوقة أيضاً: مملكة بلقيس. وسبب نجاحها هو استخدام الشورى بين قومها، فهي لا تقوم بأي خطوة قبل أن تشاركهم في أخذ القرار: (قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَـٰطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ) (32).
ورغم أن الملكة لم تكن على دين الله تعالى، لكنها استعملت عاملاً مهماً من عوامل النجاح الإداري، وهو الشورى وتقبل الرأي الآخر... فماذا قالوا لها؟ (.. نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ) (33).
فليس لهم رأي، وهم بخلاف الهدهد الذي كان له رأي يعتز به وقضية يجادل من أجلها. قارن بالله عليك بين جيش فيه من يقول (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ..) والتي هي أساس الشورى وأساس النصر، وبين جيش فيه من يقول (وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ) .
حضارة ربانية
وتحاول ملكة سبأ أن تختبر صدق سليمان في دعوته،(وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ) (35) لكنه غضب وقال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَـٰنِى ٱلله خَيْرٌ مّمَّا ءاتَـٰكُمْ) (36). لأنه صاحب رسالة ربانية لا يريد جمع المال من ورائها، وليس أخذه بأسباب النجاح والتفوق الحضاري من أجل إخضاع الأمم ونهب ثرواتها، بل هدفه من وراء ذلك كله هو إيصال رسالة الله للناس كلها...
التفوق التكنولوجي
ومملكة سليمان تملك قوة عسكرية لا مثيل لها (ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَـٰغِرُونَ) (37).. نستشعر في هذه الآية عناصر التفوق الحضاري التي تميزت بها مملكة سليمان، من إدارة عالية وعلوم وقوة عسكرية، إضافة إلى عامل مهم جداً، وهو العامل الذي سبّب الانبهار الحضاري وإسلام ملكة سبأ...
سبقها عرشها
عندما علم سليمان بقدوم الملكة للتفاوض معه، طلب من جنوده الإتيان بعرشها (قَالَ يأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ) (38)، ويقوم جنديان من هذا الجيش الرائع: عفريت من الجن، ورجل أوتي علماً بالكتاب، وكلاهما يتنافس في سرعة إحضار العرش إلى الملك. أي تكنولوجيا وأي علم وأي أداء مبهر؟ لقد سيطرت هذه المملكة المؤمنة بتفوقها على الأرض كلها...
وتدخل ملكة سبأ لتفاجأ بسؤال: (أَهَكَذَا عَرْشُكِ) (42) فتجيب بذكاء: (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) (42) بشكل دبلوماسي ومبهم، لكي لا تقول أنها لم تعرف عرشها الذي تغير عليها بعض الشيء، وبالمقابل كي لا تجزم أنه عرشها فتكذب... وهنا بدأت الدهشة والإعجاب يؤثران في قلبها تأثيراً بالغاً فأصبحت مهيأة لقبول الإيمان.
أسلمت بسلطان العلم
ونصل إلى آية محورية (44)، هي آخر آية في قصة سليمان، وتلخص لنا هذه الآية محور القصة وهدفها.. اسمعها معي وعشها بقلبك وعقلك: (قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِى ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا).
فقد كان القصر على الماء، ومدخله مغطى بالزجاج الشفاف، فرفعت ثيابها خوفاً من البلل.
(قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ) إنها تكنولوجيا غير عادية، أوصلتهم إلى بناء قصر زجاجي فوق الماء، متناهي الدقة بحيث يعتقده الناس ماءً. فلما أعجزها هذا التفوق الحضاري والعلمي، أعلنت إسلامها: (قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـٰنَ لله رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ) ..
عناصر التفوق الحضاري
فإذا أردنا تلخيص عناصر وأسباب التفوق الحضاري في السورة، يمكننا أن نذكر ما يلي:
- الهدف السامي: وهذا ما نراه بوضوح في قول سليمان (رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ) (19)، وقوله: (هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ). وكان شكر سيدنا سليمان على هذه النعم بتسخيرها لنشر الإيمان في الأرض كلها..
- العلم: (وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْماً) (15) ولا حضارة بغير علم وتفوق علمي والأهم من ذلك، استشعار قيمة العلم...
- التكنولوجيا المتطورة والمبهرة: (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ..) (44).
- القوة العسكرية الشديدة: (ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا..) (37).
- شعور الأفراد بالمسؤولية: وهذا قد ظهر واضحاً في موقف الهدهد ورحلته الدعوية إلى مملكة سبأ.
كم وسيلة تمتلك أمتنا من هذه الوسائل؟ وأين هو دورك يا قارئ القرآن حتى تبني أمة ناجحة ومتفوقة كأمة سليمان...؟
سلطان الله أعظم
ومن روعة القرآن في عرض سنن التفوق الحضاري، أن سورة النمل - برغم تركيزها على المقومات والأسباب المادية للنصر - قد استعانت بأمثلة كلها معجزات: من هدهد يتكلم ويجادل، إلى نملة حكيمة توجه قومها، وخلال ذلك كله قول سيدنا سليمان: "علمنا منطق الطير"... وحتى في آخر السورة ترى قوله تعالى (وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِـئَايَـٰتِنَا لاَ يُوقِنُونَ) (82).
وهكذا يتواصل الحديث عن المعجزات في السورة، لماذا؟
حتى لا نكون ماديين في تعاطينا مع أسباب التقدم والتفوق الحضاري. وكأن السورة تقول لنا: إياكم أن ينسيكم التفوق الحضاري إرتباطكم بالله تعالى ويقينكم أنه هو صانع النصر، وأن هناك مقومات إيمانية وغيبية للتفوق غير التي أتت في السورة.
أإله مع الله...؟
ثم تنتقل السورة فجأة من الحديث عن التفوق الحضاري إلى الحديث عن قدرة الله في الكون، حتى لا نغتر بحضارتنا فننسى ربنا ونعيش حضارة مادية بلا روح كحضارة الغرب. فتأتي آيات رائعة تخاطب القلب البشري وتهزه ليفيق من غفلته ويتعرف على ربه: (قُلِ ٱلْحَمْدُ لله وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَى ءالله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ & أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (59-60). الجمال والتنظيم في خلق الكون يفوقان أي تفوق حضاري... (أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءلـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (61).
وحتى لا تغتر بقوتك أيها الإنسان: (أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ٱلأَرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (62). (أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله تَعَالَى ٱلله عَمَّا يُشْرِكُونَ & أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وٱلأَرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ) (63-64).
وبذلك يتحقق التوازن بين التفوق الحضاري وبين الإيمان بمالك الكون وصاحب القدرة.
لماذا "النمل"؟
ومع أن النمل ذكر في السورة في آية واحدة فقط، لكن سورة التفوق الحضاري كان اسمها سورة النمل، فلماذا؟
إن مملكة النمل هي نموذج للتفوق حضاري في أمة من أمم الحشرات. على الرغم من صغر حجمها وضعفها ، فهم يملكون كل أسباب التطور، من بناء بيوت المؤن، إلى تنظيم الجيوش وتقسيم أبواب الدخول والخروج، حتى أنهم يستعملون التكييف المركزي داخل مساكنهم... أمة منظمة تفوقت على أقرانها بالعلم والتكنولوجيا حتى استحقت أن تذكر في القرآن الكريم كنموذج يحتذى في التفوق الحضاري..
والناس عادة يستصغرون النمل، لذلك ضرب الله لنا بهم مثلاً، وأمرنا أن نقتدي بهم، حتى يتردد في ذهنك كلما قرأت السورة، أن هذه الحشرة الصغيرة الضعيفة قد وصلت إلى هذا التطور، وحتى تتذكر أن النملة قد تفوقت على غيرها من الحشرات، فلم تترك أيها المسلم غيرك من الحضارات يتفوق عليك؟
حكمة النملة وإيجابيتها
ومن لطائف القرآن، أن الآية المحورية في السورة (أي الآية التي ذكر فيها خطاب النملة لقومها) احتوت على إشارات حضارية رائعة... كلها نتعلمها من النملة الصغيرة. يقول تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِى ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا
ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (18).
فهي قد وقفت تخاطب الجموع يإيجابية، ولم تهرب مع أنها عرضت نفسها لخطر الموت تحت أقدام الجنود، وكان حرصها وغيرتها على قومها أولى عندها من حياتها. وليس هذا فحسب، بل إن خطابها احتوى على إشارات رائعة في فن القيادة والإدارة، فهي قد:
- وجهت التصرف الصحيح قبل التحذير وبيان الخطر حتى لا تتخبط الجموع ببعضها (ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ).
- ثم عرضت المشكلة وبينت الخطر (لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ) والناس في ساعات الخطر يتصرفون بغير تفكير، مما قد يؤدي إلى المزيد من الأضرار. فكان لا بد للقائد الناجح من إعطاء الحل والمخرج قبل بيان المشكلة، حتى يسمع الناس توجيهاته وهم في حالة نفسية تسمح لهم بتلقي الأوامر وتنفيذها..
- حذرتهم من خطورة التراخي بأن يأمنوا على أنفسهم من سليمان، لأنهم يعرفون صفاته، ولأن سمعته عند النمل حسنة. لذلك أكدت على أن المؤمنين لا يمكن أن يظلموا أو يعتدوا عن قصد، وهذا ما نراه في قولها (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ).
أرأيت الآن لماذا تبسم سليمان ضاحكاً من قولها؟ ولماذا كانت هذه النملة الصغيرة مثلاً يحتذى في فن القيادة عند الأزمات، والذي هو عنوان التفوق الحضاري...؟

سورة القصص
سورة القصص (مكية)، وبعضها نزل أثناء الهجرة، نزلت بعد سورة النمل، وهي بعدها أيضاً في ترتيب المصحف. وعدد آياتها 88 آية.
لحظاتها حرجة
نزلت بعض آيات السورة في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة، الذي كان حزيناً لفراق مكة حتى أنه خرج منها وعيناه تدمعان، وهو يقول: "اللهُ يعلم أنَّكِ أحبَّ البلاد إلى قلبي، ولولا أن قومكِ أخرجوني ما خرجت".في مثل هذه الظروف، نزلت السورة لتوجه للنبي والمؤمنين من بعده رسائل دعوية هامة.
تجربة نبي
إن المحور الأساسي في سورة القصص هو قصة موسى عليه السلام، والتركيز على جوانب محددة من قصته: مولده، رميه في البحر، نشأته في قصر فرعون، خروجه من مصر إلى مدين وزواجه من ابنة شعيب، ثم عودته إلى بلده بعد عشر سنين وانتصاره على فرعون. والسورة كلها تعليق على هذه القصص وعلى قصة أخيرة هي قصة قارون. والملاحظ أن سورة القصص هي السورة الوحيدة في القرآن التي ركّزت على مولد موسى ونشأته وخروجه إلى مدين، بينما لم تركز على بني إسرائيل ومشاكلهم مع موسى كما في باقي السور. فما هو هدف السورة؟ وما علاقة هذه الأحداث من قصة سيدنا موسى بهجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
إنا رادوه إليك... لرادك إلى معاد
إن السورة تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يزال خارجاً من مكة، أنك ستعود إليها يا رسول الله منتصراً بعد أن خرجت منها متخفياً.
وفي السورة مقابلة بين وعد الله تعالى لأم موسى في الآية (7): )إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـٰعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ( (القصص 7) ووعد الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : )إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ( (القصص 85).. فقصة موسى عليه السلام في السورة تبدأ من الآية 7 بوعد الله تعالى لأم موسى الذي تحقق في آخر القصة، ليأتي وعد رباني آخر من الله تعالى أنه سيعيد النبي عليه الصلاة والسلام إلى مكة منتصراً رغم أنه خرج منها مهاجراً متخفياً، مع استعمال نفس الكلمة في الوعد: (لرادك). وكأن المعنى: أن الذي صدق وعده مع موسى وأمه، سيعيدك إلى مكة فاتحاً منتصراً.
فهدف سورة القصص هو الثقة بوعد الله، واليقين بأنه متحقق لا محالة، مهما طالت المدة أو صعبت الظروف.
وعد بوعد
ونشير هنا إلى ملحوظة هامة جداً، وهي أن سيدنا موسى عليه السلام ترك مصر ثماني سنين وزادها سنتين من عنده (بعد أن تزوج من ابنة شعيب في مدين( الذي قال له )إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ( (27). فأكمل بذلك عشر سنين ليعود إلى مصر ثانية.
والنبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة فاتحاً منتصراً بعد ثماني سنوات من الهجرة، بينما نرى أن الرسالة تمت في السنة العاشرة.. إنها نفس الوعود، تحققت في نفس المدة تماماً، وتحت نفس الظروف الصعبة. فسيدنا موسى خرج من مصر )خَائِفاً يَتَرَقَّبُ( وقال له أحد أهل المدينة )إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ(، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خرج من مكة مهاجراً في الليل، بعد أن ائتمر به الكفار ليقتلوه.
إن تشابه الأحداث يضعنا تحت سؤال: هل نحن واثقون بنصر الله؟ فالله تعالى قد وعدنا بالنصر والتمكين: )وَعَدَ ٱلله ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً( (النور، 55). هذا الآية وعد من وعود الله تعالى، تشبه تماماً )إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ( (7) و)إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ( (85) في كونها من عند الله، وأنها متحققة لا محالة كما تحققت هذه الوعود، (وإن طالت المدة لثماني أو عشر سنين أو أكثر). فهل ستمتلئ قلوبنا بوعد الله بعد قراءتنا لسورة القصص؟
اخر الدعوة النصر والعزة
لكن تحقق وعد الله تعالى مرتبط بتضحية ومجاهدة من الدعاة أنفسهم، ولذلك أشارت السورة إلى انتقال مكان الدعوة، كما في قصة موسى عليه السلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتجلى ذلك بوضوح في قوله تعالى )وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا( (57).
فطريق الدعوة إلى الله ليس طريقاً سهلاً، لأنه مليء بالتضحيات وترك الأوطان، لكن آخره نصر وعزة إن شاء الله.
إرادة الباطل وإرادة الله
تعالوا نعيش سوياً مع سورة القصص لنتعلم الثقة بوعد الله: في الآية الثالثة كان الحديث إلى المؤمنين فقط لأنهم هم الذين يثقون بوعد الله: )نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(. وفي الآية الرابعة نجد أن الوضع كان شديداً على سيدنا موسى والذين آمنوا معه، كما كان مع محمد صلى الله عليه وسلم : )إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ( تصوير رهيب في كلمات قليلة لمدى قوة فرعون وضعف بني إسرائيل، لتأتي بعدها الآية الخامسة بالوعد الرائع: )وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ(.ويأتي وعد أعظم من ذلك: التمكين: )وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ٱلأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ( (6)
فتلك كانت إرادة فرعون، وهذه إرادة الله... فهل سيتحقق وعده سبحانه؟
أم موسى والتغيير
وبعد الآيات التي صوّرت ظلم فرعون وجنوده، وآيات الوعد الرباني بالنصر والتمكين، تأتينا الآية السابعة بأمر عجيب: )وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ( (7) فكأن هذه الآية هي بداية تحقيق الوعد، كيف؟
فالسورة - بعد أن أشارت إلى علو فرعون وتجبّره وإلى حتمية التغيير - انتقلت إلى جو مختلف تماماً: أم ترضع ابنها. فما العلاقة؟ إن في ذلك إشارة بأن النصر يبدأ بأمهات تربي أطفالها، وترضعهم - مع الحليب - التمسك بهذا الدين، والثقة بوعد الله. واللطيف أن الآية لم تقل لأم موسى (فإذا خفت عليه فخبئيه) أو (فاحضنيه)، بل قالت لها )فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱليَمّ( (7)، وكأن المعنى: إلقيه في اليم وثقي بوعد الله، لماذا؟ لأنه يقول )إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـٰعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ( (7). قصة مولد أمة، بدأت بطفل يرمى في البحر، وأم واثقة من وعد الله لها.
دور المرأة في نصرة الدين
وسورة القصص تسلط الضوء بشكل واضح على دور المرأة في نصرة هذا الدين. فالمحاور الرئيسية في السورة والأشخاص الأساسيون الذين ساعدوا موسى عليه السلام في تأدية دوره كنّ أربع نساء، أولهن أم موسى )وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّ مُوسَىٰ(. التي حمته بتصرفها الواثق بوعد الله لها..
ثم دور أخت موسى )وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ & وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـٰصِحُونَ & فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰ أُمّهِ( (11 – 13). إنه دور الأخت التي أعادت موسى عليه السلام إلى أمه.
والثالثة هي زوجة فرعون )وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً( (9). والرابعة هي بنت شعيب التي تزوجها: )فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ٱسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا .....)(25). لا بل أنها هي التي أوحت لأبيها بهذه الفكرة (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَـجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَـجَرْتَ ٱلْقَوِىُّ ٱلأَمِينُ) (26).. إنهن أربع نساء كان لهن دور محوري في حياة سيدنا موسى عليه السلام بعون وتوفيق من الله تعالى..
وإن كان هناك أربع نساء ساعدن سيدنا موسى في حياته وفي دعوته، فإننا نرى في حياة سيدنا محمد أدواراً مهمة للعديد من النساء، كالسيدة خديجة رضي الله عنها التي كانت تدعم النبي بنفسها ومالها، بالإضافة إلى بقية أمهات المؤمنين. ولا ننسى أول شهيدة في الإسلام، السيدة سمية، والسيدة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وسيدة نساء العالمين.. أرأيت المقابلة الشديدة بين حياة النبيين الكريمين؟ فالسورة كلها تركز على أن وضع سيدنا موسى وحياته يشبه ظروف السيرة النبوية الكريمة كما يشبه وضعنا اليوم، لتؤكد على نفس المعنى: يا مسلمون ثقوا بوعد الله...
الوعد وتحقق الوعد
تتضمن سورة القصص سبع وعود فلنتأمل هذه الوعود وهل تحققت أم لا؟..
يقول تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـٰعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ) (7) هذه الآية تتضمن وعدين، الأول: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) والثاني: (وَجَـٰعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ)..
أما الوعد الأول، فقد تحقق، وأخبر الله تعالى عن ذلك في الآية 13: (فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰ أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱلله حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (13).. أي ولتعلم أم موسى، وتعلم يا محمد، وتعلم أنت وأنا والأمة كلها أن وعد الله حق، وأن هذا الدين منصور لا محالة، لكن أين الناس الذين سيتحركون ويضحون لنصرة هذا الدين كما تحركت أم موسى وكما تحرك النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟
وأما الوعد الثاني (وَجَـٰعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ)، فقد تحقق في الآية (30): (فَلَمَّا أَتَـٰهَا نُودِىَ مِن شَاطِىء ٱلْوَادِى ٱلأَيْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنّى أَنَا ٱلله رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ).
وليس هذا فحسب، بل إننا نرى وعداً ثالثاً في قوله تعالى (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـٰناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِـايَـٰتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَـٰلِبُونَ) (35). هذه الضمانة الربانية (فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) قد تحققت في قوله تعالى: (فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ) (40).. ونلاحظ دائماً أن هناك فترة بين الوعد وتحقق الوعد. هذه الفترة قد تتراوح بين عشر سنين، أو أربعين سنة، وقد تطول وقد تقصر، بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
أذان التمكين عند فتح مكة
وقد وعد الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، وتحقق وعد الله، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وصعد بلال رضي الله عنه وأذّن.. وتحقق وعد الله، وتكسرت الأصنام وأصبح الصحابة يرددون قول الله تعالى (وَقُلْ جَاء ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء 81) وقوله تعالى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً) (الفتح 1).
وتحقق وعد الله تعالى بالانتصار على الفرس والروم (وَعَدَ ٱلله ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً) (النور 55)..
عمار بن ياسر ووعد الله
وتحقق وعد الله سبحانه تعالى في الآية الخامسة أيضاً (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ)، ليس لبني إسرائيل فقط، بل لصحابي جليل، وهو عمار بن ياسر. كيف؟
فقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه لعمار: "إذهب لقد وليتك إمارة العراق" وأرسل معه مساعداً في ولايته، وبقي عمار في الأمارة مدة شهر - مع أن مؤهلاته القيادية لا تصلح ليكون والياً - إلى أن استدعاه عمر بن الخطاب إلى المدينة. وحين سئل أمير المؤمنين عن سبب ذلك، قال: "لقد نظرت في كتاب الله ووجدت أن كل وعود الله تبارك وتعالى قد تحققت لنا ولأمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأيت قول الله تبارك وتعالى "(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ) (58) وأنت يا عمار من الذين استضعفوا في الأرض، فأردت يا عمار أن أري الناس وعد الله وهو يتحقق، اذهب فقد وليتك العراق لمدة شهر ليرى الناس وعد الله وهو يتحقق أمام أعينهم (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ) .
سراقة بن مالك وسواري كسرى
وتتجلى ثقة النبي بوعد الله تعالى في حادثة الهجرة أيضاً، حين كان صلى الله عليه وسلم مطارداً وجاء سراقة بن مالك ليقتله أو يأسره وينال جائزته من قريش (وهي 100 ناقة).. لكنه كلما حاول الاقتراب منه وقع عن فرسه بلا سبب مع كونه فارساً مغواراً، فيقول سراقة "فعلمت بأن الرجل ممنوع". أي أن هناك ما يمنعه، فقال يا محمد أعطني الأمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لك الأمان، فقال سراقة: يا محمد أردت أن آخذك فلم أستطع وكنت أريد جائزة فأعطني أنت شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أعدك سواري كسرى، فقال سراقة: كسرى من؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كسرى ملك الفرس فقال سراقة: أتكتب لي كتاباً بهذا فقال النبي يا أبا بكر أكتب له كتاباً بهذا.
يا رسول الله، لماذا لم تعده بأوقية بلح من المدينة؟ أو بمبلغ من المال؟ لماذا سواري كسرى؟ إنها الثقة من النبي صلى الله عليه وسلم بوعد الله تبارك وتعالى... وقد احتفظ سراقة بالكتاب قبل أن يسلم، وبقي يحتفظ بالكتاب إلى خلافة عمر، عندما فتحت بلاد فارس ودخل المسلمون المدائن عاصمة الفرس. وغنم المسلمون كنوز كسرى ووضعت في المسجد، وعندها صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر ونادى: أين سراقة بن مالك. فيأتي رجل عجوز ويقول ماذا يا أمير المؤمنين؟ فيقول: يا سراقة هذه سواري كسرى قسمة موعودة قسمها لك النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت. فبكى جميع من في المسجد ونظروا إلى بيت النبي وقالوا صدق صاحب هذا المقام... صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم . يا مسلمون ثقوا بوعد الله كما فعل نبيكم...
إن الله زوى لي الأرض
وكما وعد النبي سراقة بن مالك بسواري كسرى، فقد وعدنا عليه الصلاة والسلام وعداً رائعاً: "إن الله زوى لي الأرض فوجدت ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها". لكن ليتحقق هذا الوعد نرى أن سورة القصص ترشدنا إلى كيفية تحقيقه: (تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص83) فالذين يستحقون وعد الله بالنصر والتمكين والملك في الأرض وقيادة البشرية هم الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وقوله تعالى (وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) يعني أن نهاية النصر لا تكون إلا للمتقين..
قارون: علا في الأرض، فعلته الأرض
وهذه الآية السابقة(تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أتت تعقيباً على قصة قارون، للإشارة بأن السلطة والجاه الذي كان قارون يعيش فيهما كانا من قبيل العلو والفساد، وكانت النتيجة أن خسف الله به وبداره الأرض (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ..) (81).
فالسورة تتحدث عن تحقق وعد الله للمؤمنين الصادقين (بني إسرائيل وأم موسى وموسى). من هم أولئك يا رب؟ (لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً)وهو مثال للذي يكذب بوعد الله ولا يكون مصدقا له قكان قد اصابه الغرور بما اتاه الله من فضله ونسى ان الله قد اهلك من هو اشد منه قوة فعاقبه الله بذلك (83) لذلك جاءت قصة قارون كنموذج للذين يريدون علواً في الأرض وفساداً، ولتحذرنا منهم.
سبب تسمية السورة
وكالعادة، يبقى سؤال مهم وهو: لماذا سميت السورة بسورة القصص؟
إن المعنى اللغوي للقصص هو تتبع أثر الشيء حتى نهايته كما جاء في قوله تعالى (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصّيهِ) (11). أي تتبعي آخر الأخبار وقوله تعالى (فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ) (25) أي حدثه عن الموضوع من أوله لآخره، فالقصص هو تتبع أثر الشيء حتى نهايته.. وقد سميت بسورة القصص لترشدنا بأننا لو تتبّعنا القصص في السورة إلى نهايتها لوجدنا أن وعد الله في كل واحدة منها قد تحقق، وأن العاقبة للمتقين... ولكن المشكلة عند كثير من الناس هي في عدم تتبعهم للقصص، فالبعض ينظر إلى حلقة واحدة في الصراع بين الحق والباطل هي هزيمة الحق، فيظن بأن وعد الله لن يتحقق...
فمن الآن وصاعداً، كلما تقرأ كلمة القصص، تذكر نهاية قصص هذه السورة الكريمة، وتذكّر أن وعد الله بالنصر والتمكين متحقق لا محالة، مهما طالت المدة أو تأخرت.
سيدنا موسى بين سورتي القصص والكهف
وهناك مقابلة لطيفة بين قصة سيدنا موسى في سورة الكهف مع قصته في سورة القصص.
ففي سورة الكهف استغرب موسى في قصته مع الخضر عليهما السلام مما فعله الخضر، من إغراق السفينة وقتل الغلام وإكرام القوم الذين لم يستضيفوهما.
واللطيف أن هذه الأمور الثلاثة قد حصلت مع موسى كما أخبرت سورة القصص، فلقد ألقته أمه في البحر، ولقد قتل رجلاً من جنود فرعون خطأ، وكذلك فإن أبا الامرأتين استضافه لمدة عشر سنين..
فوعود الله تبارك وتعالى تحققت في السورتين رغم صعوبة الظروف، لأن الله يفعل ما يشاء. وقد يحدث أن تتكرر الأمور في حياة الإنسان، فما كنت مستغرباً منه بالأمس فقد يحصل لك اليوم (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ)... فثق بأن الله هو القدير وهو مالك الملك وهو المتصرف في ملكه كيف يشاء.
واللهُ غالِبٌ على أمره ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلمون"!!!!
stafa
stafa
اليوم الرابع والعشرون
عمل اليوم : الخروج ساعة الى صحراءاو نهر او بحر او اي خلوة والتفكر في خلق الله ونعمه عليك مع التسبيح والتهليل والحمد والتكبير لله تعالى
درس اليوم :سورة العنكبوت والروم ولقمان والسجدة

سورة العنكبوت
سورة العنكبوت (مكية)، نزلت بعد سورة الروم، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة القصص، وعدد آياتها 69 آية.
سورة الفتن
وهدف سورة العنكبوت يظهر واضحاً من بدايتها: (الـم & أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) (1-2). "أيها المؤمن، جاهد الفتن، واصبر عليها. فهي سورة الفتن....
هذه الفتن أمر محتوم في حياة المسلم، وهي سنة كونية وقاعدة ربانية كتبها الله على هذه الدنيا. وقد يسأل البعض: لماذا هذه الفتن؟ ألم يكن من الأفضل أن نعيش حياة هادئة، فنصلّي ونصوم ونعبد الله تعالى دون أي فتنة أو مصيبة. من يسأل هذه الأسئلة لم يفهم حكمة الله تعالى ومراده من هذه الدنيا، التي جعلها دار امتحان للآخرة. فبدون فتن، لا يمكن أن يتميز الناس في الجنة، ولا يمكن أن نفرق بين من يستحق الفردوس الأعلى، ومن يستحق أدنى درجات الجنة، ومن لا يستحق دخولها إلا بعد أن يمر بالعذاب... إن من مقتضيات عدل الله تعالى أن يعرض عباده للفتن حتى يميز الخبيث من الطيب.
سنة كونية
لذلك كانت بداية السورة: (الـم & أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ..) هل من المعقول؟ (.. أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ).
هل من المعقول أن تعتقدوا أنكم مؤمنون لمجرد أنكم قلتم "آمنا" بأفواهكم؟
حتى ولو كنتم صادقين في قولها، لا بد من الامتحان. (... وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ)...
والأصل أن المؤمن يُبتلى، فلا تظننُّ أبداً أيُّها المؤمن أن الابتلاء يأتيك وحدك، لأن الآية الثالثة تقرر أن هذه الفتنة سنّة كونية: (وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) لماذا يا رب؟ تأتي الإجابة في الآية نفسها: (فَلَيَعْلَمَنَّ ٱلله ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ) أي ليظهر المؤمن الحقّ من مُدَّعي الإيمان... لذلك تأتي الآية (11) بنفس المعنى: "وليَعلمَنَّ اللهُ الذينَ آمَنوا ولَيَعلَمَنَّ المنافقين".
وهنا قد يتبادر سؤال إلى الذهن: ألا يعلم ربنا - وهو علام الغيوب - من سينجح في الفتن ويصبر، ومن سيقع ويضل...؟ فلم الفتن إذاً؟ والجواب: أن الله تعالى يرسل هذه الامتحانات حتى تعلم أنت أيها الإنسان أمام نفسك، وتكون حجة عليك يوم القيامة.
كان يكفي أن يقول لك الله تبارك وتعالى يوم القيامة: "أنا أعلم أنك لو وضعت في الموقف الفلاني ستفعل كذا وكذا.. اذهب وادخل النار" لكن الله تعالى بحكمته ورحمته وعدله يرسل لك الاختبارات في الدنيا، ويحاسبك على أفعالك الحقيقية في الآخرة. (فَلَيَعْلَمَنَّ ٱلله ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ) (3).
من كان يرجو لقاء الله
ولا تظنن أخي المسلم أن الدنيا سهلة خالية من المشاكل، حتى لو كنت مؤمناً، لأن الإيمان لن يخلصك من فتن الدنيا، والمرء يبتلى على قدر دينه. لذلك تقول لك سورة العنكبوت: إن كنت ترجو ثواب الله، فاصبر على مجاهدة الفتن والاختبارات، حتى تلقى ربك فيجازيك، لأن لقاء الله قريب لا محالة. (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ٱلله فَإِنَّ أَجَلَ ٱلله لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) (5) ولا يتبادر إلى ذهنك - وسط الحديث عن الفتن - أن الله محتاج إلى مجاهدتك لها، بل أن جهادك وصبرك هما من أجلك وحدك... لأن الله غَنِيٌّ عن عملنا وعن عبادتنا، وغني عن العالَمِين، ونحن الفقراء والمحتاجون إليه في كل شيء. (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـٰهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱلله لَغَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ) (6)
أذى.. لا عذاب
ومن أخطر الفتن التي تعرضها السورة، فتنة الدين، بأن يتعرض المسلم للأذى بهدف إبعاده عن دين الله. والسورة تؤكد أنه أذى وليس عذاباً، لكن الموازين عندما تختل، يظن العبد الضعيف أن إيذاء الناس له هو العذاب بعينه. لذلك تأتي السورة لتؤكد أن هذا ليس صحيحاً، لأن العذاب لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِٱلله فَإِذَا أُوذِىَ فِى ٱلله جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱلله وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ ٱلله بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ٱلْعَـٰلَمِينَ) (10).
من أصعب الفتن
وتمضي آيات السورة لتدور حول نفس المحور: الفتن هي التي ستكشف إيمان الناس وتختبر معادنهم، وتظهر صدقهم من زيفهم. لذلك تأتينا بفتنة أخرى، بأن يضغط الوالدان على ابنهما حتى يبعداه عن طاعة الله، إما خوفاً عليه أو عناداً لدين الله: ( وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (8).
فتنة شديدة وصعبة، هل سيثبت على الدين، وهل سيبقى على بر أبويه رغم كفرهما؟
سبل النجاة من الفتن
ومن لطائف السورة، أنها ابتدأت بتقرير أن الفتنة موجودة في حياة الناس وأنها شديدة وصعبة:
(أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) (2 )، بينما ختمت السورة بآية جميلة، تثبت لنا أن الفتنة سهلة وأن الله سيهدينا ويساعدنا في اجتيازها إن جاهدنا: ( وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱلله لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ) (69)، هذه الآية تتحدث عن جهاد النفس والفتن، لأنها نزلت في مكة حين لم يكن الجهاد بالسيف قد فرض بعد، وكأنها تقول لنا: جاهدوا أنفسكم وانتصروا عليها، تضمنوا الانتصار على العدو الداخلي والعدو الخارجي...
أئمة المجاهدين
ثم تستعرض السورة كيف واجه أنبياء الله تعالى - نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى - الفتن وجاهدوها. فإذا نظرنا إلى قصة نوح التي وردت في السورة، وجدنا أنها السورة الوحيدة التي ذكرت مدة دعوة سيدنا نوح لقومه (950) سنة: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً).
حتى يعرف المؤمنون، عبر الأجيال، أن الفتن حتمية الوقوع، فحتى الأنبياء لم يسلموا منها.
ولنعرف مقدار المجاهدة والصبر اللذان بذلهما سيدنا نوح، فيكون ذلك معيناً لنا على تحمُّل ما قد نواجه من فتن، والتي هي طبعاً أقل من فتنته بكثير وبعد ذلك فتنة أخرى: سيدنا إبراهيم وصبره على قومه لما قالوا: )ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱلله مِنَ ٱلنَّارِ( (24) لتثبت لنا بشكل عملي أن الله تعالى يعيننا على مواجهة الفتن، لكن المطلوب هو أن نبادر إلى مجاهدتها )وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( (69).
الصابرين وجزاهم
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (58)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)) و اكثر شيء يتغلب الانسان فيه على الفتن والمحن هو الصبر على الفتن والاستعانة بالله والتوكل عليه لحين النصر والغلبة .لذلك كانت لهم الجنة ومافيها من الانهار جزاء على عملهم
لماذا العنكبوت؟
وبقي أن نتحدث عن سبب تسميتها باسم "العنكبوت"، فعندما يضرب لنا ربنا مثلاً بمخلوق ما، فإن هدف السورة مرتبط لا محالة بهذا المثال. فمثلاً، سورة النمل، كانت سورة التفوق الحضاري، فكان رمز هذا التفوق، أمة النمل، التي هي أمة فائقة التنظيم والأخذ بمقومات الحضارة. وسورة النحل، التي كان هدفها: "الشكر على النعم"، أظهرت لنا كيف أن هذه المخلوقات، حين اتبعت أوامر الله، خرج منها عسل شهي ومفيد، فيه شفاء للناس، لتثبت لنا أننا إذا اتبعنا أوامر الشرع، فسيخرج نور الهداية الذي هو شفاء للناس، كالعسل تماماً.
ويعود السؤال من جديد: لماذا سميت سورة الفتن باسم العنكبوت؟
شبيهة بخيوطها
ويعود ذلك إلى أن تداخل الفتن يشبه خيوط العنكبوت. فطبيعة الفتن أنها متشابكة ومتداخلة، فلا تقدر أن تميز فتنة دون سواها، وهي كثيرة ومعقدة، تغطي تفاصيل حياة المرء.. لكنها بالمقابل هشة وضعيفة، إذا استعنت بالله في مواجهتها: )وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ( (41).
والإنسان عادةً إذا أصيب بفتنة، انقلب على وجهه وجرى يبحث عن ملجأ. وفي الغالب (للأسف) يستعين بغير الله تعالى، ويلجأ إلى البشر. لذلك تقول لنا السورة: إذا لجأتم إلى البشر هرباً من الفتن، فستكونون كمن هرب ولجأ إلى بيت العنكبوت، بيت ضعيف هش لا يقي صاحبه ولا يستره: )مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱلله أَوْلِيَاء كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ( (41). وكأن المعنى: من أشد الفتن وأخطرها، أن ترضي الناس على حساب دينك، أو تستعين بغير الله أو تتوكل على غيره.
أوهن البيوت
وبيت العنكبوت واهن بسبب ضعف خيوطه، ومن الناحية الاجتماعية أيضاً. فبعد أن يلقِّح الذَّكر الأنثى تقوم بقتله والقائه خارج البيت... وحين يكبر الأولاد، يقومون هم أيضاً بقَتل الأم وإلقائها خارج البيت... بيت عجيب، من أسوأ البيوت على الإطلاق.لذلك ضربت لنا السورة مثل العنكبوت، لتعلمنا أن خيوط العنكبوت الكثيفة، وان كانت معقدة، فهي تشبه الفتن في أنها واهية. ولتصور لنا أن استعانتنا عند الفتن بغير الله تعالى، هي تماماً كمن يلجأ لهذا البيت الواهي في علاقاته وفي أسسه. فسبحان الله على اختيار هذا الاسم لسورة الفتن، حتى يحذر الناس من تقليد هذه الحشرة في حياتها ومن التشبه بأفعالها.
سورة الروم
سورة الروم (مكية)، نزلت بعد سورة الانشقاق، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة العنكبوت. عدد آياتها 60 آية.
آيات الله واضحة بينة
هذه السورة هي أكثر سور القرآن إيراداً لقوله تعالى (وَمِنْ ءايَـٰتِهِ)، مما يدلنا علىهدف السورة
: "آيات الله واضحة وبينة، فكيف لا تؤمنون؟".
لذلك تنتقل بنا الآيات في أرجاء ملك الله في الكون، وتذكر لنا آياته الواضحة البينة، لتزيدنا إيماناً بعظمته وقدرته. اقرأ معي الآيات: (وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ & وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (20-21).
وكأن هذه الآيات تذكرنا بمعنى رائع، وهو أن لله تعالى في ملكه كتابان: كتاب الله المنظور الذي هو الكون، وكتاب الله المقروء الذي هو القرآن. ومن روعة الكتابين أنهما يدلان على بعضهما. فسورة الروم مثلاً، سورة مقروءة. لكنها تأخذ عينيك وتقول لك: أنظر إلى كتاب الله المنظور لتستدل على الله. وكلما نظرت في الكون أكثر، وجدته يحملك على أن ترجع لكتاب الله المقروء. فسبحان من جعل لكل نوع من الناس - أميين ومتعلمين، عرباً وعجماً، كباراً وصغاراً - كتباً يقرأونها ويستدلون بها على الله..
ومن آياته... ومن آياته
وتمضي الآيات في عرض متواصل لآيات الله الواضحة في الكون: (وَمِنْ ءايَـٰتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلَـٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوٰنِكُمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لأَيَـٰتٍ لّلْعَـٰلَمِينَ & وَمِنْ ءايَـٰتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ...) (22-23) – (وَمِنْ ءايَـٰتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَيُحْىِ بِهِ ٱلأَرْضَ) (24) – (وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ ....) (25).
هذه السورة 60 آية، من فضلك أنظر بنفسك، كم مرة وردت كلمة (آيات) في هذه السورة؟ لذلك بعد أن تقرأ السورة، أخرج إلى الطبيعة وتفكر في خلق الله لمدة 5 دقائق، من الذي خلق هذا الكون وأبدعه ؟ من الذي جعل فيه هذه الآيات العظيمة؟ من الذي أصلح علاقات الأزواج مع أزواجهم، وجعل بينهم مودة ورحمة؟
وننتقل إلى الآية 46 لنرى آية أخرى من آيات الله (وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرّيَـٰحَ مُبَشّرٰتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ). وتأتي آية أخرى(ٱلله ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ) (48). وحتى في خلق الناس: (ٱلله ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) (54).
وكأن هذه السورة تدلك على كتاب الله المنظور، وتقول لك: أنظر إلى آيات الله كيف تحيط بك من كل جانب، فكيف لا يؤمن بها المكذبون الجاحدون؟ كيف يشك بعض الناس بقدرة الله تعالى؟
الروم: آية تاريخية
لكن يبقى سؤال: لماذا سميت هذه السورة بسورة الروم؟ ستقول: لأن في أولها قوله تعالى (غُلِبَتِ ٱلرُّومُ). سأقول لك: حاضر... لكن ما علاقة الروم بهدف السورة؟ ولماذا لم تسم هذه السورة بسورة الآيات؟
إن التسمية بهذا الاسم تحمل دلالة تاريخية، ففي عهد النبي محمد صلىالله عليه وسلم ، قامت حرب بين الفرس والروم، فانتصر الفرس على الروم انتصاراً ساحقاً لم تقم الروم من بعده.. فنزلت الآيات تخبر المؤمنين أن الروم سينتصرون على الفرس خلال بضع سنين (أي من ثلاث إلى تسع سنوات).
فالسورة تتحدث عن آيات الله المبهرة في الكون، وكأنها تقول لكل من يكذب ويعاند: إن لم تروا هذه الآيات وتؤمنوا بها، فانظروا إلى آية مادية، ترونها أمام عينيكم، وهي انتصار الروم على الفرس في أقل من عشر سنين... وهذه الآية موجهة لنا في عصرنا الحديث كما هي موجهة للأولين، فما الذي أدرى النبي الذي يسكن في مكة أن الروم سينتصرون على عدوهم..؟ اسمع معي الآيات:
(الـم & غُلِبَتِ ٱلرُّومُ & فِى أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ & فِى بِضْعِ سِنِينَ لله ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ & بِنَصْرِ ٱلله يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ) (1-5).
آية مادية
وتحققت النبوءة القرآنية تماماً بعد تسع سنين. وسميت السورة بسورة الروم، حتى تلفت نظر كل كافر إلى هذه الآية المادية لو لم يصدق بالآيات المنظورة في الكون. لا بل أن هناك آية أخرى في هذه الحادثة، لم يفهمها الأوائل ولم ينتبهوا لها، تزيدنا إيماناً بهذا الكتاب المبيّن وآياته المبهرة...
فالسورة تقول عن المعركة أنها حصلت في أدنى الأرض (غُلِبَتِ ٱلرُّومُ & فِى أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ).. وهذه الآية لا يستطيع أحد من عصرنا إنكارها، فقد دل العلم الحديث أن المكان الذي حدثت فيه المعركة، المعروف بحوض البحر الميت حالياً، هو أدنى منطقة على الكرة الأرضية.. (وارجع إلى كتب الإعجاز العلمي في القرآن للمزيد من التفاصيل) فماذا يملك كل مكذّب قديماً أو حديثاً بعد هذه الآيات..؟
آية اقتصادية
وتمضي السورة لتذكر لنا آية أخرى، آية مادية نراها في الدنيا... ليست آية علمية بل آية اقتصادية... اسمع قوله تعالى: (وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱلله وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زَكَوٰةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱلله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ) (39). والمعنى أن الربا لا يزيد المال بل ينقصه، ويأتي علم الاقتصاد الحديث فيثبت أن أفضل وسيلة تجعل الاقتصاد مستقراً هي أن تكون نسبة الفائدة صفراً بالمئة، أي بإلغاء الفوائد كلياً. ثم يثبت علم الاقتصاد أيضاً أن الزكاة هي من أفضل أساليب التنموية..
فما الذي جاء بآية الربا ضمن الآيات ؟ سبحان الله، كأن السورة تقول للناس كلهم، في كل العصور: أنظروا إلى آيات الله في كل المجالات: في التاريخ، والكون، وعلم الجيولوجيا وعلم الاقتصاد... الزكاة أسلوب تنموي، والربا أسلوب لإقلال الأموال وخسارة الاقتصاد
وقبل الختام، هناك عدة ملاحظات لا بد أن نشير إليها:
ظاهر الآيات وباطنها
أتى في أوائل السورة قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلأَخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ) (7).
فهذه الآية أتت في سورة مليئة بآيات الله تعالى، لتخبرنا أن هناك الكثير من الآيات والدلائل قد لا نراها ولا نفهم الحكمة منها، لكنها في الواقع غير ما نراه.
فظاهر الروم هزيمة وانكسار، لكن الباطن والنتيجة كانا انتصاراً على عدوهم في مدة قصيرة جداً. وظاهر الربا الزيادة، وظاهر الزكاة النقصان، لكن السورة تثبت غير ذلك، أن الربا يؤدي إلى دمار اقتصادي، بعكس الزكاة التي تؤدي إلى التنمية.. وكأن المعنى: ثقوا أيها المؤمنون بوعد الله، وثقوا بحكمته وتدبيره في الكون...
سورة لقمان
سورة لقمان (مكية)، نزلت بعد سورة الصافات، وهي في المصحف بعد سورة الروم، آياتها 34 آية.
سورة تربية الأبناء (لقمان مثال لتوريث الدين )
نفهم هدف السورة من اسمها، الذي يدل على تربية لقمان لابنه ووصيته التي جاءت بها السورة. فهي سورة تربية الأبناء، تحمل في آياتها أساليب رائعة لتربيتهم على منهج الله تعالى، تربية شاملة لكل ما يحتاجه الأبناء في دينهم ودنياهم. هذه التربية تشمل المحاور التالية:
1. توحيد الله تعالى
2. بر الوالدين
3. أهمية العبادة والإيجابية
4. فهم حقيقة الدنيا
5. الذوق والأدب
6. التخطيط للحياة
سبحان الله. كل هذا موجود في السورة؟ كل هذا في 34 آية فقط؟ هذه السورة لا بد أن تدرس في مدارسنا، وأن يقرأها أبناؤنا ويحفظوها لينشأوا على التوجيهات التي ربى لقمان ابنه عليها. وليس هذا فحسب، بل إن الآباء يجب أن يتعلموها قبل الأبناء، ليتعرفوا من هذه المدرسة القرآنية، مدرسة لقمان، على أصول التربية الإسلامية والدنيوية.
محاور تربية لقمان
1. عدم الإشراك بالله
وهذا المحور نراه واضحاً في السورة كلها، لأن أول ما يجب أن ننشئ أطفالنا عليه هو توحيد الله تعالى وعدم الشرك به. فكيف نزرع هذا المعنى في أطفالنا؟ لا بد أن نريهم ملك الله في الكون، ونخرج معهم في النزهات والرحلات، حتى يروا المناظر الطبيعية، فيتعلموا منها إتقان الله في خلقه، ويتعرفوا على عظمة الخالق سبحانه وتعالى من عظم مخلوقاته.
أنظر كيف ربى لقمان ابنه: (يٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱلله إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (13) فبدأ بالدرس النظري في التحذير الشديد من الشرك، ثم بعد آيتين انتقل للدرس العملي: (يٰبُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ أَوْ فِى ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱلله إِنَّ ٱلله لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (16). ومن روعة هذه الآية أنها ضربت مثلاً يفهمه الأولاد الصغار، بينما تحمل معنى عظيماً يلائم الكبار أيضاً ويجعلهم يشعرون بقدرة الله تعالى وإحاطته وعلمه.
2. بر الوالدين، وتعريف الأبناء بفضل الآباء عليهم، حتى يعرفوا معنى الشكر، شكر الله وشكر الوالدين.
(وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ) (14).
وحتى عند الأمر ببر الوالدين، يأتي التذكير بعدم الشرك حتى لو كان ذلك طاعة للوالدين، ليعلمنا القرآن أن الأمرين لا ينبغي أن يتعارضا مع بعضهما.. (وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا) (15) وتأتي قاعدة هامة في التوازن بين البر وبين ترك الشرك: (وَصَـٰحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (15).
3. أهمية العبادة والإيجابية في الحياة.
(يٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ) (17).
فليست التربية أن تؤمن لأطفالك الطعام والشراب والمسكن والملبس والدواء.. هذه كلها إداريات البيت، والتربية ينبغي أن تنشئ الأطفال على عبادة الله تعالى. ولا تقتصر التربية على تعليم الأطفال أداء الصلاة، كما يعتقد الكثير من الآباء، لأننا يجب أن نغرس في قلوبهم الإيجابية في مجتمعهم وبين إخوانهم، فيأمروا بالمعروف وينهون عن المنكر ويأخذوا بأيدي الناس للهداية.
4. التعريف بحقيقة الدنيا
هناك آباء يربّون أبناءهم على الترف والإنفاق والاعتماد على مال آبائهم، ظناً منهم أنهم يؤمنون لأولادهم كل ما تتطلبه الدنيا. لكن المطلوب هو تعريف الأبناء بحقيقة الدنيا وسياستها المتقلبة، وأن الدنيا لن تدوم لآبائهم، وأنه لا بد للأبناء من الاعتماد على أنفسهم. فيقول لقمان في الآية (17): (وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ). وبالأخص إذا تربى الولد على الإيجابية في الآية السابقة (وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ)، فإنه إلى الصبر
5. الأدب والذوق
(وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱلله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ & وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوٰتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ) (18-19)، لا بد من التعامل مع الناس بأدب وذوق حتى في أدق التفاصيل، في المشي والصوت. فلا يرفع المرء خده استعلاءً على الناس، ولا يمشي بالخيلاء بين الناس بل يقتصد في ذلك (وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ)، ولا يرفع صوته أكثر مما يحتاج إليه السامع.
6. تحديد الهدف في الحياة والتخطيط للمستقبل
ومن روعة السورة أنها شملت هذا المعنى أيضاً في التربية. وذلك ما نراه في قوله تعالى: (وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ) فهذه الآية قد تكون إتماماً لسلسلة الذوقيات والأخلاق التي تحدثت عنها السورة، فيكون المعنى أن تمشي على الأرض بوقار ودون أي عجب أو خيلاء. وقد تعني "اقصد في مشيك": أن تضع قصداً وهدفاً وراء كل خطوة تمشيها، فلا تعيش في الحياة زائداً عليها دون أن يكون لك أي هدف فيها...
العاطفة بريد التربية
ونلاحظ في السورة أن هذا الكم من التوجيهات قد غلّفه الأب بالحنان والعاطفة الشديدين. وكأني عندما أقرأ هذه الآيات، أشعر بلقمان، ذلك الرجل الهادئ، الذي يعظ ابنه برقة ويقول له قبل كل موعظة: (يٰبُنَىَّ.. يٰبُنَىَّ)، فالسورة تقول للآباء: صاحب أولادك واكسب مودتهم قبل أن تعظهم. كلّمهم أخي المسلم عن نفسك وتجاربك وأخطائك في الحياة، واستعمل الصداقة معهم لتنصحهم قبل استعمال الأمر والنهي بشدة... هذه السورة هي فعلاً من أروع المناهج التربوية في القرآن.
علم الله وقدرته
ولأن توحيد الله هو محور أساسي في تربية الأبناء، نرى أن السورة ركّزت على التوحيد من خلال العديد من الآيات التي يجب أن نلفت نظر أبنائنا إليها أثناء تربيتنا لهم: ففي أول 11 آية، نرى تركيزاً على هذا المعنى، خاصة في قوله تعالى: (خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِى ٱلأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ...) (10) هذه السورة تعطيك أيها الأب مادة مهمة لزرع توحيد الله في قلوب أبنائك... حتى تصل بنا إلى قوله تعالى (هَـٰذَا خَلْقُ ٱلله فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ) (11).
وتأتي آيات كثيرة بنفس المعنى: (أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱلله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً..) (20) إلى أن نصل إلى مثال رائع عن علم الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِى ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱلله إِنَّ ٱلله عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (27). هذه الآية تشكل مثالاً رائعاً في استخدام عناصر الطبيعة التي يراها الناس أمام أعينهم، كباراً وصغاراً، وتربيتهم على علم الله وإحاطته بالخلائق جميعاً..
عدم الإتباع الأعمى
وتركّز السورة على خطورة تربية الأبناء على الإتباع الأعمى دون فهم لمعتقدات الآباء، فهي من ناحية، بيّنت أن الحنان والعاطفة لا بد أن يسودا علاقة الآباء بأبنائهم حتى يتربى الابن عن قناعة، وبالمقابل تنكر على الأبناء الذين يقلدون آباءهم في عقائدهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ٱلله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا) (21).
وتبين الآيات بوضوح أن كلاً من الأب والابن مسؤول عن عمله يوم القيامة، فلن ينفع الوالد ولده أبداً: (يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً) (33) فلا بد من تربيتهم على الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة والخلق الحسن...
ختام السورة: علم الله تعالى
وكما بدأت السورة بتوحيد الله، فإنها ختمت بالتركيز على علم الله وقدرته الله، وعجز الخلق عن الإحاطة بشيء من غيبه: (إِنَّ ٱلله عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱلله عَلَيمٌ خَبِيرٌ) (34). وهي خمس غيبيات لا يعلمها إلا الله: موعد القيامة، ووقت نزول المطر، ونوع الجنين قبل التكوين، وأحداث المستقبل، وأين نهاية الأجل ومكان الدفن... يا مسلمون، ربوا أبناءكم على الإيمان بالله وتوحيده بهذه الطريقة...
ولقد آتينا لقمان الحكمة
ومن لطائف السورة، أنها ركزت على الحكمة بشكل أساسي، فقد بدأت بقوله تعالى (الـم & تِلْكَ ءاَيَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْحَكِيمِ) (1). وحتى عندما أنكرت على من يصد عن سبيل الله، قالت الآيات: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱلله بِغَيْرِ عِلْمٍ) (6). ولهو الحديث هو عكس الحكمة.
وليس هذا فحسب، بل أن أول آية ذكرت لقمان جاء فيها قوله تعالى: (وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ لله) (12)، وكأن وصايا لقمان لابنه التي جاءت في السورة هي عصارة حكمته وتجاربه في الحياة، ينقلها لمن يأتي بعده...
فهل ستقتدي بلقمان وحكمته في تربيته لابنه؟ وهل سجلت النقاط والمحاور التي ستربي أبناءك عليها؟ نسأل الله تعالى أن يعيننا على تربية أبنائنا وفقاً لمنهجه وقرآنه وشريعته..
سورة السجدة
ونصل إلى سورة السجدة، والتي نعرف محورها من اسمها: "السجدة"، فهي سورة الخضوع لله سبحانه وتعالى، لذلك حملت اسماً هو رمز الخضوع والتسليم: السجود. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة في صلاة الفجر كل يوم جمعة، الذي هو يوم إجازة ويوم عيد عند المسلمين، ليبدأ هذا اليوم المبارك بتلك البداية الخاشعة والخاضعة لله تعالى.
لماذا لا تكون منهم؟
فنرى في السورة مدحاً ربانياً للمؤمنين الذين يخضعون لله تعالى، وذلك في الآية التي فيها سجدة: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِـئَايَـٰتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) (15).
لذلك عندما تقرأ هذه الآية أخي المسلم، سارع إلى السجود لله تعالى
حتى تكون مع هؤلاء الخاضعين وتقتدي بهم... ثم تمر على صورة أخرى: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ) (16). وحتى عندما يلجأون إلى النوم، ترفضه أجسامهم. وانظر إلى عبارة "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" ما أروعها... فالنوم والسرير يمثلان بالنسبة لكثير من الناس الراحة، أما الخاضعون، فهم يرفضون النوم لما يحملونه من حب للعبادة وخوف من النار وطمعاً بالجنة.
وانظر كيف يكرم الله من خضع له من بني إسرائيل، ويعزه في الدنيا قبل الآخرة: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِـئَايَـٰتِنَا يُوقِنُونَ) (24).
إياك أن تكون منهم
وأما من لم يخضع في الدنيا بإرادته، فسوف يخضع في الآخرة قهراً بلا أجر، بل بعذاب أليم:
(وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) وتأتي آية أخرى لترينا كيف أن الخضوع في الآخرة لن يفيد أصحابه(قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَـٰنُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ) (29).
لكن الله تعالى يمهل أولئك المتكبرين حتى يعودوا إليه، ويرسل لهم بعض الابتلاءات والعذاب عساهم يخضعون لربهم جل وعلا: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (21).
وكأن السورة تعرض لك النموذجين وتسألك: مع أي الفريقين أنت؟
(أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ) (18).
الموت حق
ولأنها سورة الخضوع، يأتي فيها ذكر الموت، حتى يفيق الغافلون من غفلتهم ويخضعوا لله:
(قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ) (11).. لكل هذه المعاني الرقيقة والخاشعة، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ هذه السورة فجر كل جمعة، ليجدد نية الخشوع والخضوع لله في الدنيا قبل العرض على الله.
فإذا أحسست أخي المسلم بفتور في عبادتك، وأردت أن تقوي همتك وتجدد خشوعك لله تعالى، إقرأ سورة السجدة واطلب من الله تعالى أن يعينك على ذلك .
ام نوره2
ام نوره2
جزاك الله كل خير