ليدي لين راسل
ليدي لين راسل
" العكاز الغليظ "

.
.
|










شتاء نجد ريحه باردة دائما وشديدة في بعض الأحيان، والطريق من الدار إلى المسجد مظلمة، وقصيرة، ولا تحتاج لأكثر من دقيقتين أو ثلاثة على أبعد تقدير، ومنذ أربعين عاما كان مسجد القرية مبنيا من الطين شأنه شأن منازلها القليلة، كنت وأنا أحث الخطى لصلاة الفجر أجدني أعانق نفسي علي أبعد البرد عن أجزائي، وفي كل فجر أدعو بالخير لمن فكر في بناء هذا الجزء من المسجد القابع تحت الأرض، والذي ليس به إلا فتحة واحدة للدخول والخروج، ومع أن النزول كان يذكرني بوحشة القبر إلا أنه في الوقت نفسه يشعرني بالدفء والأمن.
سمعت صوت سعاله المميز قبل أن أهم بالنزول فقد سبقني اليوم، أمسكت بيده فعرفني من لمسة يدي، واستأذنته في أن أكون أمامه، فقال دعني مرة أكون أمامك فقد نتدحرج معا، وعلى الرغم من وضع سراج آخر عند نهاية الدرج الطيني إلا أن أمثال أبا صالح لا يستفيدون لا من السراج العلوي ولا من السفلي فقد حرموا من نعمة البصر ولكنهم لم يحرموا من نعمة البصيرة، نزلت بهدوء وأنا أمسك يده، وما إن حطت قدمه أرض القبو حتى سلم بصوت مرتفع خشن جرحته قسوة السنين، وفعلت به ما يفعله المسن بالسكين فيزيدها صلابة وحدة.
ناداني ونحن خارجون وبدأ يسألني عن الديك الذي أتعبنا يوم أمس وكيف كانت نهايته فحدثته عنه، ولم يكن يملك نفسه من تعليقات ظريفة كلما اقتضى الأمر ذلك، وقبل أن يسحب يده من يدي مودعا بشرني بأن الأيام الباردة من الشتاء بات عمرها قصير.
تركني وهو يحمد الله ويستغفره وتكاد تسمع عباراته بيوت القرية الصغيرة الوادعة التي بدأت الحياة تدب في جنباتها حيث يتهيأ أطفالها للذهاب إلى مدرستهم، دارت الأيام وصرنا نصلي في الجزء الأرضي من المسجد وأبا صالح لا يزال بصوته الأجش وقفشاته وروحه المرحة موضع اهتمام كل المصلين وهم الرشد في القرية مع لفيف من شبابها وأطفالها، وفي عقب كل صلاة كانت عبارته المشهورة تدوي وتحفر أخاديد في أعماق نفسي، فقد كان يتكئ على عكازه الغليظ بكلتا يديه ويرفع نفسه في نفس اللحظة التي يجهر بها بدعاء يزلزل جنبات المسجد: يا الله يا رب حسن الخاتمة.
كان يطلب حسن الخاتمة بحرقة وصدق، ولم يكن بمقدور أحد أن يتملص من الشعور بأهمية دعاء ذلك العجوز الذي فقد بصره، ورافقه الظلام طوال حياته بعد أن أصيب بالجدري وهو رضيع، فغادر جسمه مصطحبا حبيبتيه ولم يترك له سوى روح مرحة وإيمان راسخ، وحب لقدر الله ورضاء به تمثل بابتسامة لا تفارق وجهه وبصيرة جعلت من حوله يشعرون بالصغار أمام مهارته في تمييزهم من خلال أصواتهم، وأحيانا من خلال وقع أقدامهم أو ملمس أيديهم.
كنا جميعا نحبه، وكان هو من يدفعنا للتفكير بحسن الخاتمة، غاب عن ناظري أمس بعد صلاة الفجر ولا أدري ما الذي حملني على الوقوف أتابعه ببصري وهو يسير بطريق مستقيم نحو داره في زقاق ضيق لا يسمع فيه سوى طرقات عكازه ووقع قدميه، غاب أبو صالح حين انعطف يسارا باتجاه باب بيته، وكنت لا أزال أسمع وأحس بشغفه غير العادي بحسن الخاتمة، غاب ولم نره في بقية الصلوات، ولكنه حضر معنا الفجر في اليوم التالي إلا أنه لم يكن يسير على قدميه، حملناه بعد أن صلينا عليه وودعناه بدموع تنهمر بصمت ونحن ندعو له ولأنفسنا بما كان يتمناه طوال حياته.
.
.
ليدي لين راسل
ليدي لين راسل



" التليفون وصلاة الفجر "










في صباح جميل اختلطت نسماته الباردة بعبق الحرم المكي الشريف، وازدان بصوت شجي يحرك مكامن القلب والعقل ويدفع للخشوع والتفكر في كل آية تقرأ، وسرعان ما انقطع خشوع الكثيرين بسبب رنين موسيقي انبعث من جوال وضعه صاحبه أمامه على الأرض، ولم يتوقف إلا حين سجد الجميع للركعة الأولى، وبعد انقضاء الصلاة التف الكثيرون حول صاحب الجوال يلومونه ويعاتبونه، باعتباره السبب في ضياع خشوعهم، وبرر الرجل سلوكه بأن إغلاق الجوال سيضطره للحركة الكثيرة وكثرة الحركة تبطل الصلاة، ولا أدري لم سكتوا وتركوه هل لأنهم اقتنعوا أم لأنهم لا يملكون الحجة عليه، أم لعجب ما يقول؟ لا أدري، اقتربت منه وسلمت عليه، وبدأت حوارا معه كان محوره مقاصد الشريعة ورويت له قصة عن حكم ضالة الإبل، فقد كان عليه الصلاة والسلام أمر بتركها، وبقي الحكم سائدا في عهده وعهد أبي بكر وعمر، حتى جاء عثمان فأمر بإحضار الإبل الضالة إلى بيت مال المسلمين، ومن اشتغل من علماء المسلمين بمقاصد الشريعة يقول: إن الناقة أو البعير لم تكن عرضة للموت جوعا أو عطشا نظرا لتوفر الشحم في سنامها والماء في جهازها الهضمي مما يعني قدرتها على تحمل الجوع والعطش، كما أنه لا يخشى عليها من السباع حيث لم يكن في جزيرة العرب آنذاك أكثر شراسة من الضباع، والإبل لا تخشى الضباع، فماذا حدث في عهد عثمان حتى أمر بعدم تركها؟ يقول العلماء إن الأمانة قلت قليلا وظهر بين الناس من يمكن أن تسول له نفسه سرقتها، وبالتالي فالمقصد من تركها وهو سلامتها لم يعد محققا، تماما كما فعل عمر في عام الرمادة، مع حد السرقة، طال النقاش بيننا حتى طلعت الشمس، فودعته وعدت للفندق، وبقيت فترة طويلة أبحث عن إجابة لسؤال: لماذا يتكرر حدوث مثل هذا السلوك كثيرا في حياتنا اليومية؟ وفي ظني أن مسلم اليوم تسيطر عليه مجموعة من الأفكار يرى أنها هي الصواب بغض النظر عن مصدرها، وعن درجة صحة النصوص التي تقف وراءها، إضافة إلى غياب فكرة المقصد عن عقل شريحة كبيرة من المسلمين، فكثير هي الحالات التي تمر بي والتي تؤدي الأفكار غير المقاصدية إلى حالات طلاق أو خلافات لا حدود لها، لأن صانعي هذه المشكلات يتوقفون عند حدود أمر يحرمه النص، كحرمة الحركة في الصلاة، أو كراهيتها كما رآها المصلي صاحب الجوال، ولم يدرك أن تشويش شريحة كبيرة من المصلين في الصلاة أكثر كراهية بكثير من كراهية الحركة، وإذا كان يرى أنه آثم إن هو تحرك في الصلاة لإيقاف صوت الجوال، فهل إثمه سيكون أقل إن هو ترك جواله يرن بموسيقى كانت سببا في عدم خشوع مئات من الناس المحيطين به؟ ولو تفكر قليلا في كراهية الحركة في الصلاة لوجد أن المقصد من النهي عنها يكمن في تأمين الجو المناسب للخشوع، وأن الخشوع هو سر قبول الصلاة، إذ الثابت أن لكل امرئ من صلاته ما عقل منها أي ما خشع واستوعب من المعاني فيما يقرأ أو يسمع، وبالتالي فإن الخشوع وهو الهدف قد زال ولم يعد له وجود سواء بالنسبة للرجل صاحب الجوال أو بالنسبة لمن وقع في دائرة تأثيره، والأمر نفسه ينطبق على من يكثر الحركة في الصلاة فلا هو خشع ولا ساعد من بجواره على الخشوع، ويبدو أننا بحاجة للقياس على ذلك في أمور الحياة الكثيرة لأننا نضيع الكثير بسبب فقدان التفكير المقاصدي.
__________________

انا الورد
انا الورد
رائع ميسره شكرا لك
ليدي لين راسل
ليدي لين راسل
" من وصايا لقمان "









يحتاج العقل كما يحتاج الجسم إلى لحظات راحة وصفاء واستجمام، ولا يجد المرء واحة لتحقيق كل هذا أجمل وأروع من بيت الله الحرام، وما إن عرضت على بعض أهلي رغبتي في الذهاب إلى مكة حتى قفزوا لصحبتي، ولم تدم الأحاديث بيننا طويلا فقد كان يوما مرهقا لنا جميعا وسرعان ما صمت الجميع بخاصة أن ثلث الليل الأول قد انقضى، ومع الهزيع الثاني من الليل كان لصوت المقرئ المنبعث من مذياع السيارة دور كبير في رحلة للعقل تتنقل في ثنايا وصايا لقمان لابنه وهو يعظه، بدءا من نهيه له عن الشرك مرورا بحثه على ممارسة دوره الاجتماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع تأكيده على أهمية الصبر على أذى الناس لكل من يعمل في مجال الحسبة، ثم انتقاله للتأكيد على أهمية سلوك الفرد أثناء تعامله مع الناس، وقد استوقفني حرصه على ثلاثة أمور: الأول يتعلق بدرجة ارتفاع الصوت، والثاني يتعلق بالمشية، والثالث بتصعير الخد للناس، وقد نهى ولده في الأولى عن رفع صوته حين قال له: «واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» وتساءلت وأنا أعيش حالة من التأمل في كل كلمة من كلمات وصيته لولده عن دور الصوت في حياة الناس وتعاملاتهم، وعهدي بالصوت المرتفع قريب فقد لاحظت بكاء طفل صغير صبيحة ذلك اليوم حين تحدث إليه أخوه الأكبر بصوت مرتفع مع أن الكلام جميل، ويبدو أن فطرة الناس التي فطرهم الله عليها تأبى قبول الصوت المرتفع، بل وتستنكره، وتجعله غير مؤثر، والجميل في المسألة أن الدراسات العلمية جاءت لتؤكد أن ارتفاع الصوت أثناء الحوار دليل على عجز المتحدث، وكلما زاد عجزه عن إيصال ما يريد للآخرين ازداد صوته ارتفاعا، والمؤسف أن ارتفاع صوته يزيد من رفض الآخرين لما يقول، وإنكارهم لا للصوت فقط بل ولمحتواه، تماما كما يحدث حين ينهق الحمار فينجح في إيصال صوته لمسافات بعيدة ولكن الناس مع ذلك ينكرونه ويبغضونه، فهل أراد لقمان أن يقول لولده: اخفض صوتك وأنت تتحدث مع الناس، لأن ارتفاع الصوت دليل العجز؟ وهو عجز مرتبط بالاستنكار تماما كما يحدث مع من يسمع صوت الحمار فيستنكره؟ مع قوة الصوت وارتفاعه؟ إن ما يحدثه صوت الحمار لدى الناس لا يعدو أن يكون بمثابة قوله لهم: ها أنذا موجود هنا، ولسان حالهم يقول: نعم عرفنا مكانك وأين أنت ولكنك ومهما ارتفع صوتك ستبقى في نظرنا المخلوق الذي يضرب به المثل في قلة الفهم، ودورك لا يعدو أن يكون وسيلة لحمل الأثقال ليس إلا، ويبدو أن لقمان كان يريد من ولده وهو يعظه، أن يستدل من ارتفاع الصوت على عجز العقل، وعلى أن العنصر المهم في حوار البشر، هو أمر آخر يكمن في محتوى هذا الحوار، وليس في ارتفاع الصوت، ويتوجب على من يرتفع صوته أن يقف ليراجع حججه وأساليب إقناعه كي لا يقع في المحظور ويصبح صوته لدى سامعيه منكرا، لأن الأذن البشرية ـــ كما قلنا ـــ ترفض بفطرتها الصوت المرتفع، ولأن الصوت المرتفع يقلل من قيمة الحجة ويلونها بلون الرفض والإعراض، ويدفع المستمع لا للتفكير بما قاله المتحدث بل للوقوف عند استهجان ارتفاع الصوت فتذهب حجة صاحب الصوت المرتفع، ويفقد كلامه التأثير، فيبعد المستمع عن التفكير بما قاله، ويحول الانتباه عن الموضوع الرئيس إلى شكليات بغيضة، ناهيكم عن تقليل قيمة المتحدث في نظر المستمع.
__________________
ليدي لين راسل
ليدي لين راسل
" بين الثابت والمتغير "




.
.
|


مما لاشك فيه أن في هذا العصر العديد من المتغيرات التي تمس مباشرة منظومة القيم التي يؤمن بها المجتمع، إضافة إلى تعارضها مع مجموعة من العادات والتقاليد الاجتماعية، وإذا كان ألفين توفلر قد توقع حدوث صدمة في الثمانينات لدى الأمريكيين، بسبب سرعة التغيرات الاجتماعية وعدم قدرة الناس على التوافق معها، فماذا يمكن أن يقول من يعايش متغيرات العصر الحاضر سواء على صعيد كمها أو كيفها؟ لقد كان لهذه التغيرات آثار سلبية تمثلت في فقدان شرائح من الشباب القدرة على التوازن بين ما تريده منظومة القيم الاجتماعية والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع من ناحية، وبين متغيرات العصر الحاضر من ناحية أخرى، ومع ذلك فقد كان لهذه التغيرات جوانب إيجابية تمثلت في رفض شرائح الشباب لبعض العادات التي هي في أساسها سلبية وليس من صالح المجتمع لا حاضرا ولا مستقبلا التمسك بها، ومنها حرص بعض الآباء على سحق شخصية الأبناء عبر النقد المباح واللاذع وإراقة ماء وجوههم أمام الكبار والصغار، وهو سلوك لا يتوافق مع منطق أو شرع أو دين، وبالتالي فنحن جميعا ملزمون بمراجعة دقيقة لمثل هذه العادات مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه العادات ليست مقدسة فما اتفق منها مع المنطق والدين هو الذي يملك حق البقاء، أما تلك التي لا تنسجم معهما فليس لها الحق في البقاء مهما كان عمر بقائها، وقد جاء الإسلام ليحارب جملة من العادات المتأصلة والمتجذرة في الثقافة العربية قبل الإسلام عبر مئات السنين، كوأد الفتاة، والرق، والتفاخر بالأنساب، والتنابز بالألقاب وغيرها كثير، ولم يشفع لكل هذه العادات طول مدة بقائها، أو كثرة أتباعها، وعليه فإن الجيل الحالي مع كل ما يقال بحقه من سلبيات ووصفه بأنه جيل متمرد على هذه التقاليد، إلا أنني موقن أنه حين ينضج ويمارس دور الأبوة والأمومة مستقبلا سيكون أكثر مرونة مع أبنائه من جيل الآباء الحالي، لذا فإن الرسالة التي يستطيع الجيل بواسطتها المحافظة على قيمه وعاداته وتقاليده السوية هي رسالة ينبغي أن تتصف بالانفتاح والمرونة في مراجعة جملة العادات والتقاليد على خلفية القيم الدينية كمضمون مع الحرص على هذا المضمون ومراعاة المرونة في أساليب التعبير عن هذه القيم إن كان هذا الأسلوب قابلا للتبديل والتغيير، فاحترام الوالدين قيمة ثابتة سابقا، وينبغي أن تبقى ثابتة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أما طرق التعبير عن هذا الاحترام فيمكن أن تتبدل، إذ أن حوار الآباء والأمهات مع أبنائهم كان عادة مرفوضة في الماضي، وربما اعتبره البعض قلة أدب، ولكنه في عرف الشرع والدين أمر مباح وبالتالي يحتاج أبناؤنا أن يتعلموا كيف يحاورون، كما أن الآباء يحتاجون بدورهم إلى تعلم آلية الحوار إذا كانوا حريصين على بناء تقدير عالي لذوات أولادهم لأن هذا التقدير العالي هو السبيل الحقيقي لتجنيب الأجيال القادمة الوقوع في الفراغ العاطفي والجراح العاطفية مع ما تحمله هذه المسائل من نتائج وخسائر كبيرة، وبناء عليه فكلا الطرفين الأبناء والآباء يحتاجون إلى تذكر أن الرسول الكريم هو النموذج القدوة كان ولا يزال وسيبقى كذلك إلى يوم الدين، وهو نموذج أيضا لتقبل الحوار واستخدامه مع الكبير والصغير، ومع الرجل والمرأة، ولم يكن في زمانه ولا في زماننا من هو أصبر على الآخر منه عليه الصلاة والسلام، ولو تذكرنا أن القيم الموجبة كاحترام الوالدين هي أهداف نبيلة وثابتة، ولكن التعبير عن هذا الاحترام يخضع للتغير والتبدل، عندها سنوقن أنه لن يضير أب أو أم أن يتيحا الفرصة لأبنائهما وبناتهما أن يحاوروهم بدل أن يكرهوهم على ما يريدون لسبب وجيه جدا يكمن في أن الدين لا إكراه فيه فهل يعقل أن يكره المرء على أمر سواه؟.