جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
من الماء إلى وكيل النيابة! !


معذرة على هذا التكرار .. فالمقصود التفصيل والتوضيح ، كيف كان حال مصر : فسدت الحياة وأسنت ، ظلم ، رعب ، اعتقالات ، مجازر ، تشريد …. سيطرت قوى الشر والباطل واستبدت ، وساوت بين الجميع ، بين أصحاب القلم والفكر والرأي ، والوزراء والقادة العسكريين ، وبين المواطن العادي . بين الشاب والشيخ .. بين الرجل والمرأة .. بين المريض والصحيح .. كلهم أمام السياط ، وتحت السياط ، والصلب ، والكلاب ، وجميع أنواع التعذيب ، الكل سواء … إنها اشتراكية التعذيب !!
. . وفى صباح اليوم التاسع ، أخرجوني من الماء في وقت مبكر وقال - صفوت : أنت ذاهبة إلى وكيل النيابة، وكفاك عذابا وأنقذي نفسك .. ثم أضاف وقد بدت في عينيه نظرة التهديد: طبعا أنت عارفة المطلوب منك . . وسنرى ما تقولين ! إ" . وجذبني بقسوة، فقلت : إن ثوبي ممزق . . أعطني ثوبا أستتر به فقال مساوما : أحضر لك جلبابا وتكتبين أن حسن الهضيبي وسيد قطب اتفقا على قتل عبد الناصر، والاستيلاء على الحكم ؟!
فقلت لا فقال : أذهبي عارية، ولينفعك إسلامك . . وليراك الإخوان هكذا . . فقلت : إن الله هو الحليم الستار. ودخلت مبنى آخر من مباني السجن الحربي : ثم إلى حجرة مفتوحة يتصدرها رجل يجلس إلى مكتب ، وعرفت فيما بعد أن هذا الرجل يدعى جلال الديب .
نظر إلى نظرة تائهة تشعرك بأنه يحس أنه أصغر من المهمة المعهودة إليه . . وقال مشيرا بطرف إصبعه : اجلسي . فجلست على كرسي أمام المكتب ثم بدأ حديثه معي أنت زينب الغزالي الجبيلي الزعيمة الإسلامية المشهورة. . لماذا وضعت نفسك في هذا الموقف ؟ هل يرضيك ما أنت فيه ؟ إني مسلم أحب لك الخير وجئت لا ' نقذك . أنا أسعد فخر الدين وكيل النيابة . . أنا لا أستطيع أن أتصور أن زينب الغزالي هي الجالسة أمامي بهذه الحال التي وصلت إليها . أرجو أن تساعديني لأخلصك مما أنت فيه . .
فقلت : والله ما نقول إلا ما يرضى ربنا ولا نبغي إلا وجهه تعالى . فقطب حاجبيه ونكس رأسه وهو يسأل ما سنك الآن ؟
فقلت : أنا من مواليد 2 يناير سنة 1917 فقال : مندهشا أو متصنعا الدهشة يا ساتر! كنت معتقدا أن سنك في التسعين . . لماذا فعلت كل، هذا؟! قلت : ( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . فقال : يبدو أنك غير قادرة على الكلام ؟!
فلزمت الصمت ! ! فسأل : على أي شئ اتفقت أنت والشيخ عبد الفتاح إسماعيل ؟ . قلت : اتفقنا على أن نربى الشباب على الإسلام ، ونفقهه في أصول الكتاب والسنة حتى ننقذ هذا المجتمع من هذا الضياع الذي يعيش فيه . قال* أنا لا أريد خطابة . . أنا أريد أن توضحي . "إن الهضيبي قال لك أمرا تنقلينه إلى عبد الفتاح عبده إسماعيل ، وقال لك أمرا ثانيا تنقلينه إلى سيد قطب ما هو هذا الأمر؟! أظن واضح ؟؟" .
قلت : استأذنت فضيلة المرشد الأستاذ الهضيبى ليجتمع الشباب لدراسة تفسير القرآن والسنة مع الاستعانة ببعض كتب الفقه كالمحلى لابن حزم ، وكتب التوحيد لابن عبد الوهاب ، وابن تيميه، وكتب الأستاذ سيد قطب ، ومن الشباب كان عبد الفتاح عبده إسماعيل .
فقال - وقد رسم على شفتيه ابتسامة حاول أن تكون ساخرة- : لا يا ست زينب ، الموضوع ليس كذلك . . الموضوع ظهر ووضح فأنقذي نفسك واذكري الحقيقة، فقلت : كل الذي كنا نريده أن نربي جيلا صالحا ونبني أمة مسلمة. فقال في إصرار: كلهم اعترفوا وقد ألقوا المصيبة عليك كلها، فقلت بهدوء: الله المطلع يحميني ويحميهم - إن شاء الله - من أن ننزلق إلى باطل . . فقال في عصبية وبدأ يظهر نواياه : لا . يبدو أنك مغرمة بإظهار عضلاتك الخطابية، ومغرورة . . حتى النيابة لا تستطيع أن تصل معك إلى قرار!
فقلت ، وأنا لا أستطيع الكلام - فقد كنت في قمة التعب والإجهاد ولكن شعور بالظلم دفعني إلى أن أقول -: لو عرفت النيابة واجبها ما . . فقاطعني ثائرا: "أخرسي! حتى النيابة تتطاولين عليها ولا تسلم من لسانك " . . ثم نادى صفوت الذي كان واقفا بالباب . . لا فائدة منها يا صفوت . . إنها اعتدت على النيابة سأثبت في المحضر أنها اعتدت على النيابة . جذبني صفوت بوحشية ونظر إلى وكيل النيابة وقال : إلى أين يا سعادة البيه . . ؟ فقال وكيل النيابة بسرعة – وكأنه يرد على سؤال مسبق - : إلى الماء طبعا. . وعدت إلى الماء وسوط صفوت لا يكل ولا يضعف ، زين له شيطانه الشر وهيأت له جاهليته الطغيان . وسولت له نفسه المريضة ذلك طمعا في رضا من فوقه ، وأملا في القرب من أسيادهم .
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
السوط مع الرغيف ! !


بعد العصر، في اليوم العاشر، فتحت زنزانة الماء، وأخرجني صفوت من الزنزانة أسلمني لاثنين من الزبانية وقال لهما : "إلى سجن 3" . . أدخلوني هناك زنزانة، فارتميت على الأرض جثة هامدة مثخنة بالجراح . . كان جسمي متورما كالكرة المنفوخة. . وأحس بأن قلبي يكاد ينخلع من مكانه . . انبطحت على الأرض لا أقوى على الأنين ! ! . . وأسلمت نفسي للذي بيده مقادير الأمور.
لا أدرى كم مر من الوقت وأنا على الأرض ، حينما سمعت جلبة خارج الزنزانة. زحفت على الأرض وبصعوبة بالغة أمسكت بالباب ونظرت من الفتحة . فرأيت جماعة من الإخوان ، يقفون طابورا طويلا، بيد كل واحد " قروانة " من الصفيح يتقدم بها إلى جندي، فيغرف هذا الأخير من " قزان " أمامه شيئا غريبا ويصبه في القروانة الصفيح . . وعندما يتناول الأخ نصيبه من هذا الطعام الغريب ، يتناول أيضا نصيبه من السياط ! ! كان عدد من الجنود الزبانية يقفون في صفين متقابلين ، وعندما يمر الأخ بعد أن يتناول نصيبه من الطعام ، يضربه كل جندي عند مروره عليه بسوطه . . وهكذا لابد أن يدفع الأخ ضريبة إجبارية عددا من السياط بعدد الجنود! وينصرف الأخ .
شعر أحد الزبانية بي وأنا أختلس النظر إلى طابور تسليم الطعام الرهيب ، فدخل زنزانتي كالوحش الهائج وأخذ يضربني بحذائه ضربا مؤلما، ثم ينهال بسوطه المجنون على ما يصادفه من جسمي، فخارت قواي، وغبت في نوم عميق على إسفلت الزنزانة! ! . أيقظني الملعون صفوت ومعه أحد الجنود بيده قروانة بها قليل من الحساء أسود اللون ، تنبعث منه رائحة كريهة لا تطاق . . قال صفوت : اشربي هذا وإلا فسنضربك عشرة سياط . فقلت : سأشربها! ! فقال صفوت لمساعده : اتركها عشر دقائق ، ثم عد إليها . وانظر ماذا فعلت ؟ ، إن لم تكن قد شربت اضربها عشرة سياط وناديني . . ! ! ، . خرجا وأغلقا الباب ، ولما بعد وقع أقدامهما ، واطمأننت إلى أن أحدا لا ، يراني، سكبت الحساء تحت البطانية التي رموا بها على إسفلت الزنزانة . . وعاد الجندي بعد المدة المحددة فوجد القروانة فارغة فأخذها وانصرف ! ! قضيت ليلتي . . ويا لها من ليلة . . كنت على قمة الألم والمعاناة. . أنياب آلام البدن تنهش جسمي كله . وافترشت آلامي وقضيت ليلتي . . ! !!
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
إلى المستشفى


وفى ضحى اليوم إلحادي عشر فتح صفوت الزنزانة وقال : تفضل يا دكتور ماجد . ودخل الطبيب ماجد في زيه العسكري ومعه التمورجي الجندي عبد المعبود. . كانت قدماي تنزفان دما وصديدا ، وأورام وانتفاخات منتشرة في جسمي وآلام حادة تفرى عظامي . قال الطبيب ماجد للتمورجي : اعصر لها رجليها ونظف الجروح وانقلها إلى المستشفى . . " ونقلت إلى المستشفى في حراسة اثنين من الزبانية! ! مكثت يوما في المستشفى (أو الشفخانة كما يطلقون عليها) وسعدت ، لا لأنني بعدت عن التعذيب ، فالتعذيب في جسمي ضارب أنيابه ، ولكنني سعدت من تغيير المكان . . نعم ، كنت في زنزانة في المستشفى، ولكن شعوري بأنني في مستشفى أدخل على بعض الراحة . . وحمدت الله . تمنيت أن تمتد إقامتي في المستشفى فترة تلتئم فيها جراحي، ويخف فيها زئير عظامي. . واستسلمت لهذا الحلم الجميل ولكن ، وآه من لكن ! جاءتني الزبانية وأخرجتني من حلمي الجميل إلى واقعي المر الأليم ! ! وأخذني الزبانية إلى مكتب شمس بدران ! ! . . كنت أمشى على قدمي بصعوبة بالغة . . بل لم اكن أستطيع أن أحمل جسمي . . ولكن السوط في يد الزبانية خلفي تهددني إن أبطأت ، ويهوى على إن تلكأت أو وقفت ! ! ولم اكمل الطريق من المستشفى إلى مكتب شمس بدران ، فسقطت على الأرض في منتصف الطريق ، فرفعني الجند، وجروني على الأرض جرا . . وأوصلوني على هذه الحال إلى مكتب شمس بدران ؟! !
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
مع شمس


وما كاد السفاح الجاهلي شمس يراني حتى نادى على صفوت الروبي، وفي حركة ، كأنه أمام آلات التصوير- فقد ازداد احتقان وجهه وارتسمت عليه غضبة عارمة، وتحجرت عيناه في مقلتيه حتى صار وجهه مثل وجه البومة – واستدار إلى صفوت ، وذراعه ممدودة إلى آخر مداها ، وإصبعه تشير إلى : علقها يا صفوت واجلدها خمسمائة جلدة! ! . . وحشية ما بعدها وحشية؟ وقسوة غريبة لا يعرفها إلا شمس بدران ! ! . وعلقوني وجهزوني للجلاد . . ! ! وشمر صفوت الروبي عن ساعده ، ورفع سوطه وأخذ في تنفيذ أمر مولاه شمس ! ! خمسمائة جلدة . . وأنا أستغيث ضارعة : "يا الله ، يا الله " وشمس بدران يقول : "أين هو الله ؟!" الذي تنادينه ، فلينفعك إن كان موجوداً ! . . لو استغثت بعبد الناصر لأغاثك في الحال ! . . ثم أخذ بلسانه يتطاول على جلال الله سبحانه ، مما تأبى ألسنة المؤمنين أن تتفوه والتلفظ به ؟ ولو كان إعادة لما قاله الفاجر الكافر .
وتم الجلد . وأنزلوني من التعليقة وأوقفوني والدم ينزف من قدمي . . وأمرني بدران أن أؤدي حركة "محلك سر" مدعيا أن هذا علاج لقدمي! ! . وبعد فترة أسندت ظهري إلى الحائط ، ثم جلست من شدة العناء، فجذبني صفوت بغلظة، ولم أستطع الوقوف فهويت على الأرض . . وهنا جاء حمزة البسيوني وحش السجن الحربي، وقال : إنها تمثل يا باشا! ! . . وأغمى على، وتنبهت على الطبيب الذي أعطاني حقنة في ذراعي وأمر لي بكوب من عصير الليمون واسقوني إياه . . قال شمس بدران : هيا ! لن ينفعك العناد . . نفذي ما نريد وإلا علقناك ثانيا. وثالثا . ورابعا . ومائة مرة . . لا يخطر على بالك أبدا أننا عاجزون عن انتزاع ما نريده منك . . إننا نعطيك الفرصة فقط. مفهوم ؟!! من يمنعنا عن دفنك وأنت حية؟إ!
فقلت : يفعل الله ما يشاء ويختار، وله الحمد حتى يرضى .
فقال في غيظ وضيق : لا تكلميني بهذه اللغة وهذا الأسلوب.
وقال حسن خليل محاولا أن يثنيني عن عزمي : يا بنت اعقلي، واشترى نفسك . . لن ينفعك أحد من الإخوان هنا. . كل منهم يريد نفسه فقط . . إنهم يفرون إلى النجاة! !
ثم أخرج ورقا وقلما واستأنف حديثه أو نصائحه : خذها يا صفوت إلى المستشفى ودعها تكتب كل ما تعرفه عن تنظيم الإخوان . . كيف عرفتهم ؟! وكيف اتفقوا على قتل جمال عبد الناصر. . وتذكر كل أسماء الذين تعرفهم من الإخوان ! ! وفى الطريق إلى المستشفى كان صفوت يأمرني بالمشي، وأنا عاجزة كطفل يخطو خطواته الأولى! ! وتستبد بصفوت وحشيته فكان يوقفني بين وقت وآخر ويأمرني أن أؤدي محلك سر! ! محلك سر! ! إن هذا علاج لقدميك يا بنت الـ . . . .
الله وحده يعلم كيف قطعت الطريق إلى المستشفى . . لقد كانت رحلة عذاب ووصلت إلى المستشفى ودخلت زنزانتي . أعطاني صفوت الورق والقلم وقال : طبعا عرفت المطلوب . . ولا داعي للفلسفة . . اكتبي كل ما تعلمونه يا إخوان يا كذابون . . وكيف كنتم ستقتلون جمال عبد الناصر. . واضح ؟! هيا يا حلوة وأغلق الباب ، وانصرف !
لم أستطع أن أمسك القلم ، فقد كانت يداي متورمتين ، ولم أستطع الكتابة فمضى اليوم الأول ، ولم أفعل شيئا. . لم اكتب حرفا واحدا. . وعاد صفوت ليأخذ ما كتبت . فوجد الورق أبيض لم يمر عليه القلم . فقال : سأترك لك الورق لتنقذي نفسك يا بنت الـ. . وانصرف.
وأخذت اكتب بصعوبة . وفى اليوم الثالث جاء حمزة البسيوني ، وجمع الأوراق وانصرف ، وقضيت يومي بين صحوة وغفوة . لا أستطيع أن أستقر على موضع . . إن وقفت نبحت قدماي . وان نمت صرخت عظامي!
وجاء صفوت ، ومعه جنديان ليأخذاني إلى مكتب شمس بدران وبنفس الطريقة السابقة قطعت الطريق سيرا على قدمي مع الوقوف على فترات في "محلك سرا بأمر صفوت الروبي! !
ودخلت مكتب شمس بدران فنظر لي في وحشية وقسوة وهو يمزق أوراقا ويلقيها في سلة المهملات ثم قال : يا بنت الـ . . ألم يكفك كل هذا العذاب ؟! ! ماذا كتبت ؟ كلام فارغ . . أجلدها مرة أخرى يا حمزة!
فقال حمزة البسيوني وحسن خليل : سنعيدها للكلاب أحسن يا باشا، فقال شمس بدران في عصبية : أحضر الكلاب هنا يا صفوت ! !
أسرع صفوت وعاد ومساعده نجم بكلبين كالوحشين من مجموعة الكلاب المدربة التي كانت لي معها سابقة في اليوم الأول من أيام "باستيل مصر" . . السجن الحربي . . وقال شمس بدران : أطلق عليها الكلاب يا صفوت ! !
وهجم على الوحشان ، فأغمضت عيني . وأنا أقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، اللهم اكفني السوء بما شئت وكيف شئت . وظل الكلبان ينهشان جسمي كله بأنيابهما ويشعلان فيه نارا موقدة. . وشمس بدران لا يكف عن سبابه يا بنت الـ. . اكتبي أنكم اتفقتم على قتل جمال عبد الناصر. . كيف كنتم ستقتلونه ؟ اكتبي . . اكتبي يا بنت الـ . . !! . . وصار عدد الكلاب ثلاثة . . اثنان ينهشاني وشمس بدران يسلقني بلسانه القذر السليط ! !
ويبدو أن شمس بدران قد شعر بأن لا جدوى من الكلاب فصرخ في صفوت ، وجسمه كله يهتز من الثورة : اصرف الكلاب يا صفوت ، وجهز بنت الـ . . للجلد !
واستدعوا الطبيب ، فحضر ثم فحصني وقال لشمس بدران : إذا سمح الباشا يؤجل جلدها اليوم فحالتها "لا تتحمل " .
وقال شمس بدران لحمزة البسيوني : "خذها إلى 24 أريد يا حمزة أن تحمل إلى جثتها .
وحملوني إلى رقم 24 . . بناء لم أدخله من قبل ، ثم أوقفوني فاقشعر بدني وتسمرت في مكاني! ! . . رقم 24 هذا زنزانة في وسطها نار موقدة، وعند كل ركن من الأركان الأربعة يقف جندي بيده سوط كلسان الأفعى. . وتناولني الجندي بسوطه وهو يأمرني بأن أدخل في دائرة النار، فإذا اقتربت منعني الجندي القريب منها، فيتلقاني الثالث . . وهكذا النار المشتعلة قريبة منى، يلفحني لهيبها.. ظللت ما يقرب من ساعتين وأنا بين لهيبين ، لهيب النار المشتعلة التي أخشى الوقوع فيها، ولهيب سياط الزبانية وكلا اللهيبين مر. ويدخل حمزة البسيوني، ونظرة بلهاء بلا معنى في عينيه ويقول وأنا في وسط هذا السعير: اكتبي أنكم ستقتلون جمال عبد الناصر وإلا قذفناك في النار ! ! . ونظرت إليه نظرة ، وصرخت في وجهه صرخة بدون صوت ، وبكيت بدون دموع . . لقد كان العذاب فوق ما أحتمل ، وأغمى على ولم أفق إلا وأنا في المستشفى! !
جيـــان
جيـــان
الباب الرابع
مشهد تمثيلي بالإكراه ! !


في صباح يوم ، أخرجوني من زنزانة المستشفى، فرأيت مصورين وآلات التصوير معدة، وأجلسوني على مقعد، وأمروني أن أضع ساقا على ساق ، وأضع سيجارة في فمي، ليصوروني على هذه الحالة فقلت : مستحيل أمسك سيجارة لا في يدي، ولا في فمي! ! فوضعوا المسدس في ظهري وفى أم رأسي لأمسك السيجارة فرفضت ونطقت بالشهادتين وقلت : افعلوا ما تشاءون - لن أفعل ! ! ضربت بالسياط . . أعادوا المسدس إلى رأسي ، وأعادوا الأمر بمسك السيجارة ووضعها في فمي، فرفضت وأصررت على الرفض ! ! . . فلما يئسوا صوروني . .
في اليوم التالي، طلبوا منى أن أذهب' لأتحدث في التليفزيون على أن يملوا على كلاما من عندهم وبهتانهم على "الإخوان المسلمين". فقلت : لن أقول إلا الآتي إذا ذهبت إلى التليفزيون . " إن جمال عبد الناصر كافر يحارب الإسلام في شخص جماعة الإخوان المسلمين . . ولذلك نحن نحاربه ، لأنه قال إن الحكم بالقرآن رجعية وتأخر وتعصب مقيت ، ولأنه يستورد مواد أحكامه وتشريعاته من الدب الأحمر الشيوعي ومذهبه الإلحادي الذي يقول لا إله والحياة مادة . . لهذا نحن نحاربه " . . فقال : ستتكلمين والمسدس في ظهرك ونافوخك . . لابد أن تقولي ما نريده نحن .. قلت : بالأمس لم أرض أن أضع سيجارة في يدي أو في فمي، وأنتم تهددونني بمسدسكم وتضعونه في رأسي وفى ظهري ، ومصورو صحافتكم وإعلامكم يشهدون ، فهل تظنون اليوم أن أقول غير الحقيقة؟ ! لا . . واظن إننا لحملة رسالة … . وأمناء أمة وورثة كتاب فجلدت وأعدت إلى الزنزانة .
وأعادوني إلى مكتب شمس بدران . . وما كاد يراني حتى قال في دهشة مصطنعة : إيه أما زالت على قيد الحياة يا بنت الـ . . ؟! أنا قلت يا حمزة هات لي جثتها. . فقال حمزة البسيوني في رجاء: معذرة يا باشا. . قل لها تعليماتك وهي مستعدة لتنفيذها . فقال شمس بدران : اكتبي يا زينب . . . !!
فقلت : لن اكتب إلا الحقيقة. . إذا أردتم فاقتلوني . . إنها شهادة تكتب عند الله إن شاء سبحانه .
فقال حسن خليل : لن نسمح لك بهذه الشهادة؟إ!
فقلت : إن الشهادة من عند الله ؟ إذا أرادها لأحد من خلقه أعطاها له .
فقال شمس بدران وقد أثاره إصراري : علقها يا صفوت . . واجلدها خمسمائة جلدة! ! لتعرف من ربها .
وعلقوني، وجلدني الزبانية . . سخاء في الوحشية وكرم في القسوة! ! خمسمائة جلدة على إنسان في قمة الألم ، وقمة المعاناة. . ماذا بعد؟! وأعادوني إلى الزنزانة .
ولم يمض وقت حتى أخذوني ثانية إلى مكتب شمس بدران الذي قال :
أجلسي هنا؟! ! وأشار إلى كرسي أمام مكتبه . . ثم قال : هل أنت فاهمة أن قلوبنا جامدة لا تحس ؟! أنا متأثر جدا لحالتك . . أنا والدي شيخ في الأزهر! ! نظرت إليه نظرة ذات مغزى كبير مليئة بالازدراء والاحتقار! وعاد إلى طبعه الوحشي قائلا في عصبية مهددا: يا بنت الـ . . إ! . اسحبها يا حمزة إلى 32.