جيـــان
جيـــان
الباب الخامس
إمضاء (زينب الغزالي الجبيلي)


ودخل حمزة البسيوني وقال : أيوه يا زينب ! ! إن شاء الله يكون ربنا هداك وعرفت مصلحتك ! ! زوجك رجل طيب . . الحاج سالم صديقي . . إنه رجل على خلق . . أنا لا أعرف كيف وقعت في براثن الإخوان المسلمين . . على فكرة! هل انتهيت من الكتابة؟ فناولته الأوراق .
فقال : تعالى معي عند الباشا . . وذهبنا إلى مكتب الباشا شمس بدران ! ! قال شمس بدران : اجلسي يا زينب ، اطلبوا ليمونا وقهوة لزينب ! ! أخذ الورق وشرع يقرأ، وأخذت قسمات وجهه تترجم إحساسه وشعرت أنه يكاد ينفجر! ! وخرجت سهام نارية من عيني شمس بدران إلى حمزة البسيوني ومن معه . وقال وهو يضغط على الألفاظ : ما هذا؟ ألف سوط يا صفوت . البنت سخرت منا كلنا .. أين كنت يا حمزة أين كنتم جميعا؟. . فانهالت السياط وألقى الأوراق إلى الأرض واستطرد : البنت سخرت منا . لعبت بعقولنا كلنا يا حمزة. . إنها اكثر من خطيبه على منبر. . يا بنت الــ . !!
جمع أحد الضباط الأوراق المبعثرة في الحجرة وقرأ منها سطورا وقال : إيه القرف ده هو أنت إيه . . افعل معها ما شئت يا باشا . أوقفوا السياط وحكموا على بقراءة الأوراق . وقال أحد الجالسين : انظر بنت الــــ . خطيبة وكاتبة وضيعت نفسها ومستقبلها . . يا بنت الــ . إنها تستحق اكثر مما وقع لها، وأمر شمس بدران بتعليقي وجلدي! !
قدماي ممزقتان ملفوفتان بضمادات .. وكل موضع في جسمي استوفى نصيبه - وفوق نصيبه - من السياط ومن ألوان العذاب الأخرى. ورغم ذلك رفعني الزبانية على التعليقة كالذبيحة، وانهالت السياط المجنونة تنفذ أمر الباشا المحموم ! !
وانبثق الدم من الضمادات فأمر الطبيب بإنزالي . . رموني أمام حجرة شمس بدران ما يقرب من الساعة، ثم حملوني على نقالة إلى المستشفى . . جاء مراد وحمزة البسيوني وقالا في جاهلية الجاهلين : قرر الأطباء أن الموت قاب قوسين منك أو أدنى، ولكن لابد أن تذهبي إلى المحكمة لتسمعي حكم الإعدام بأذنيك وتجنى ثمرة ما زرعت . إننا سنرسلك إلى النيابة غدا، واعلمي أنك إن لم تستجيبي لكل ما تقرره النيابة، ستعودين لنا مرة أخرى. ثم نادى حمزة . . صفوت وقال له : باكر خذها النيابة الساعة 9 ! ! وانصرفوا . .
جيـــان
جيـــان
الباب الخامس
النيابة ! !


لقد مررت بكل درجات التعذيب درجة درجة، من الجلد بالسياط المجنونة كألسنة اللهب إلى نهش الكلاب المدربة ، إلى زنزانة الماء ، إلى زنزانة النار، ثم تكررت عملية الجلد والصلب والتعليق على الأعواد كالذبائح ، إلى عذاب يحطم الأعصاب والأرواح . وجاءت النيابة، لتستكمل المهزلة فصولها، ويعاقب المظلومون في ظل العدل وسيادة القانون . . ! !
جيـــان
جيـــان
الباب الخامس
دخلت خيام المحققين من رجال النيابة ! !


وإنهم جميعا لمخطط واحد ينفذون ! ! في خيام التحقيق كان التهديد مستمرا من المحقق الذي يطلب من المتهم أن يوقع على ما يسجل من زور وبهتان في أوراق التحقيق تحت نظر وسمع كبار القضاة والمستشارين المنتدبين للإشراف على التحقيقات .
والحق أن كل شيء في هذه الأمة يمتهن ويمسخ ، كل ما فيها ومن فيها. حتى رجال القانون والقضاء الذين روى التاريخ نزاهتهم في كل عصر وكانت شجاعتهم في الحق مضرب الأمثال ، رأينا بعضهم في السجن الحربي مسخا مشوها وباطلا مزورا ، يكذبون في شجاعة ويخافون الباطل ويدافعون عنه بجرأة . يهددون المتهم إذا لم يوقع على ما يسجلونه ويقر بكل ما يكتبونه ، بالعودة إلى مكاتب التحقيق بالسجن الحربي! ! نظر وكيل النيابة إلى وضمادات الشاش تغلف قدمي ويغلف نفسي إعياء وضعف . . لا يكاد صوتي يخرج من بين شفتي . . ووكيل النيابة يجلس خلف جبل من الدوسيهات . . أمامه أوراق مكتوبة . سكرتير النيابة جالس إلى مكتب صغير وأمامه كومة من الأوراق البيضاء وبيده قلم مستعد لتنفيذ الأمر. . أملى عليه وكيل النيابة اسمي، وسني ومكان مولدي وسكنى .
والتفت إلى وكيل النيابة بوجه جامد ثم قال : يا زينب ، في هذه الملفات والدوسيهات أقوال الإخوان المسلمين كلها ' واضح فيها موقفك جيدا ، سأترك أقوالك في المكاتب ، وأريد الحقيقة منك أنت وهذه حقيقة قالها حسن الهضيبي ، وقالها سيد قطب ، وقالها عبد الفتاح إسماعيل وقالها جميع الإخوان . . أريد يا زينب أن تتخلى عن عنادك وألا تضيعي وقتنا فيما لا يفيد . . والأمر بسيط جدا إعادتك إلى المكاتب مرة أخرى! !
وأخذ يوجه إليّ الأسئلة وانا أجيب . ولكني لاحظت عجباً !! كنت إذا أجبت على سؤال ببضعة كلمات أجده يملأ صفحة كاملة على إنها إجابة مني !!
أثارني ما لاحظته فقلت لوكيل النيابة المحقق : ماذا يا استاذ قناوي ؟ إنني اجبت على سؤال واحد في كلمات قليلة ..
فقال : إنني اساعدك لأن كل كلمة منك ستعرض على سيادة رئيس الجمهورية . كلامك أنت بالذات طلب أن يعرض عليه يومياً !!
فقلت : هذا أمر لا يهمني في قليل أو كثير ، إنما ما أهتم به . ألا يكتب باسمي إلا ما أقول . فقال سأقرأ عليك فيما بعد كل شئ . وقلت في هدوء وما الداعي مادمت تكتب من عندك . لا داعي لأن أتكلم وليكتب كاتب النيابة ما تريد على أن يكون في علمك أنني لن أعترف إذا كان هناك محكمة .. إلا بالذي أقوله أنا لك ..!! .
وعاد إلي سؤالي . قال : أنت قلت : عبد الناصر كافر وحكومته كافرة والمجتمع كافر أيضاً.
قلت : نحن لا نكفر أهل القبلة . قال : ومن هم أهل القبلة ؟ قلت : الذين يقولون : لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم يلتزمون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه . قال أريد أن تشرحي صفات أهل القبلة .
قلت : " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت إن استطاعوا إليه سبيلاً ويلتزمون بأحكام الكتاب والسنة . لا يشرعون من عند أنفسهم ولا يحكمون بغير ما أنزل الله . "
قال : هل تعتبرين جمال عبد الناصر وحكومته والمجتمع من أهل القبلة . قلت : عبد الناصر نفسه لا . لأنه حاكم يستطيع أن يحكم بكتاب الله لو أراد إلا أنه عمل على تعطيله ، فهو يشرع للناس من عنده ويعطل كتاب الله وقد قال عبد الناصر صراحة : أنه لا يقيم حكومة دينية .
قال : أنا أريد أن تقولي لي بصراحة : عبد الناصر والحكومة كافرين . ولا رأيك إيه . قلت : لقد أجبت ومن شاء أن يعلم حقيقته مع الله فليعرض نفسه على كتاب الله وكان قد كتب حوالي خمس صفحات فولسكاب .
ثم عاد يسألني سؤالاً آخر فقال : أنتم كنتم تريدون قتل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ . قلت : إن المشغولين بالدعوة لدين الله وعودة الأمة الإسلامية إلى حياة الناس لا ينشغلون بهذه الأمور السخيفة . ثم يوم يعود المسلمون لدينهم فستنتهي كل هذه الرذائل ، وستتخلص الأمة من هذا التسيب المقيت ، وعبادة الشيطان في هذه الصور المختلفة التي فتنت الأمة وانهارت بها هذا الانهيار الذي جعلها غثاء كغثاء السيل .
كان وكيل النيابة محمد القناوي يسمع منى كلاماً ويكتب غيره أو يحرفه أو ينقل كلاماً آخر من الملفات المرصوصة أمامه . وهكذا كانت خيمة النيابة على هذا النمط الغريب العجيب عشرة أيام . وكان المستشار محمد عبد السلام يتردد على الخيمة ويسأل القناوي عن الوضع ويقول له : أبذل جهدك .. وينصرف .
وفي الخيمة قلت للقناوي : إني أرى شيئاً عجباً . أرى رجال القانون والقضاء في غابة يتعايشون مع وحوشها ، يلقون عن أنفسهم ثياب القضاء ويرمون من فوق أكتافهم أردية القانون والعدل قال : نحن نحرص على تخليصك وإنقاذك من الإخوان ليس لك بعد أقوال الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل إلا شئ واحد هو الإعدام .
وما رأيك في كلام الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل ؟ قلت أنتم تختلقون عليهم الكذب وهؤلاء هم طليعة الجماعة المسلمة . قال : وهل نكذب على أحد ؟ أنت لاتقولين الحقيقة وتكذبين . قلت أكذب على من ؟ . قال : على الحكومة وعلينا نحن رجال النيابة . قلت أنت مصدق أنك من رجال النيابة ومن رجال القانون .
قال : سأقفل التحقيق وأعيدك إلى مكاتب التعذيب .. وبعد ذلك تحضرين لنا مرة أخرى . . وطلب قهوة وأخذ يشربها . وبعد ما شرب القهوة قال : إيه يا زينب ؟ أتريدين الرجوع إلى المكتب ؟ إن عبد الناصر مستعجل أوراقك ليطلع عليها . .
أمرني بالتوقيع على ما كتب فرفضت . فأعادني مرة أخرى إلى المكاتب وجلدت من جديد وأعادوني مرة ثانية إلى مكاتب التحقيق .. وانتهت مهزلة التحقيق ولكن ..
جيـــان
جيـــان
الباب الخامس
الجولة الثانية مع النيابة


بعد يومين طلبت للنيابة مرة أخرى . وهناك وجدت عدداً من الشباب أفناهم التعذيب وكساهم ثوب عذاب.
فسألني قناوي : متى التقيت بهؤلاء ؟ ومتى تعرفت إليهم ؟ وما هي أسمائهم ؟ وأنظر إلى الشباب وأقول سائلة : متى رأيتكم ؟ هل التقيتم بي حقاً ؟ هل تعرفونني قبل اليوم ؟ ما أسماؤكم ؟ ويصرخ وكيل النيابة معترضاً مدعياً أنني أوجههم بأسئلتي ، فأرد عليه طالبة منه أن يسألهم متى التقوا بي لا أن يسألني متى التقيت بهم ؟ ويسألهم الواحد بعد الآخر وتكون الإجابة واحدة لم نلتق بها . فيقول القناوي : ولكنكم قلتم في التحقيقات انكم التقيتم بها . فيجيبون : تحت سياط التعذيب كنا نقول أي شئ . ثم نعاد جميعاً إلى المكاتب !! مكاتب التعذيب !! عشرات وعشرات المرات عرض عليّ الشباب الصابر ما بين خيام النيابة ومكاتب الألم والعذاب والقهر .
جيـــان
جيـــان
الباب الخامس
عودة إلى المكاتب


لقاءات جديدة في مكاتب شمس بدران وأعوانه . كانوا يأخذونني ليلاً إلى مكتب شمس بدران أو أحد زبانيته ، ويهددوني أولاً بإعادة التعذيب ، ثم يعرضون عليّ شباباً في سن الزهور ورجالاً وشيوخاً ويسألونني متى : التقيت بهم ؟ ويكون الجواب : من هؤلاء الذين تسألونني أين التقيت بهم ؟ اسألوهم هم إن كانوا قد التقوا بي ؟ اسألوهم إن كانوا يعرفونني ؟ .
وتنتهي المواجهة بصورة جديدة من التعذيب : كالوقوف في مكان مظلم وأحد العساكرخلفي يضرب بالكرباج على الأرض ويأمرني أن أستمر في خطوة "مكانك سر"، فإذا بلغت الإعياء ولم أستطع الاستمرار في تلك الحركة ، وأقدامي ممزقة ومربطة بأربطة الشاش عاجلني بعشرة أو عشرين سوطا على جسدي كيفما اتفق . . ثم إلى زنزانة المستشفى! وسأضرب أمثلة للتعذيب بعد انتهاء النيابة من التحقيق لتعرفوا ماذا كان عبد الناصر وماذا كان أنصاره وأعوانه .