الباب الثاني
الاتصال بالإمام الشهيد سيد قطب
في عام 1962 التقيت بشقيقات الإمام الفقيه والمجاهد الكبير الشهيد سيد قطب بالاتفاق مع الأخ عبد الفتاح إسماعيل وبإذن من الأستاذ حسن الهضيبي ، المرشد العام للإخوان المسلمين ، للاتصال بالإمام سيد قطب في السجن لأخذ رأيه في بعض بحوثنا والاسترشاد بتوجيهاته . طلبت من حميدة قطب أن تبلغ الأخ سيد قطب تحياتنا ورغبة الجماعة المجتمعة لدراسة منهج إسلامي في الاسترشاد بآرائه .. وأعطيتها قائمة بالمراجع التي ندرسها وكان فيها تفسير ابن كثير ، والمحلي لابن حزم ، والأم للشافعي وكتب في التوحيد لابن عبد الوهاب وفي ظلال القرآن لسيد قطب ، وبعد فترة رجعت إلي حميدة وأوصت بدراسة مقدمة سورة الأنعام .. الطبعة الثانية وأعطتني ملزمة من كتاب قالت : إن سيد يعده للطبع واسمه معالم في الطريق .. وكان سيد قطب قد ألفه في السجن وقالت لي شقيقته ، إذا فرغتم من قراءة هذه الصفحات سآتيكم بغيرها .
وعلمت أن المرشد اطلع على ملازم هذا الكتاب وصرح للشهيد سيد قطب بطبعه .. وحين سألته قال لي : على بركة الله .. إن هذا الكتاب حصر أملي كله في سيد ، ربنا يحفظه ، لقد قرأته وأعدت قراءته وأعدت قراءته ، إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن ، إن شاء الله وأعطاني المرشد ملازم الكتاب فقرأتها فقد كانت عنده لأخذ الإذن بطبعها وقد حبست نفسي في حجرة بيت المرشد حتى فرغت من قراءة " معالم في الطريق " .
وأخذنا نعيد الدراسة والبحث من جديد في صورة نشرات قصيرة توزع على الشباب ليدرسوها ثم تدرس بتوسع في حلقات ، وكانت الأفكار متفقة والغايات غير مختلفة فانسجمت الدراسة مع الوصايا والصفحات التي كانت تأتينا من الإمام الشهيد سيد قطب رحمه الله وهو داخل السجن ، وكانت ليالي طيبة وأياماً خالدة ولحظات قدس مع الله ، يجتمع عشرة أو خمسة من الشباب ويقرءون عشر آيات تراجع أحكامها وأوامر السلوك فيها وكل غاياتها ومقاصدها في حياة العبد المسلم . وبعد تفهمها واستيعابها يتقرر الانتقال إلي عشر آيات أخرى إقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ومرت أيام حلوة طيبة ونعمة من الله تحتوينا ونحن ندرس وندرس ونربي أنفسنا ونهيئ للدعوة رجالها بشباب اقتنع بضرورة الإعداد لقيام دعوة الحق العادل .. وقرر وجوب حتمية إعداد أجيال في شخوص هذا الشباب الذي نرجوه أساتذة في التوجيه والإعداد للأجيال المقبلة .
قررنا فيما قررنا ـ بتعليمات من الإمام سيد قطب وبإذن الهضيبي ـ أن تستمر مدة التربية والتكوين والإعداد والغرس لعقيدة التوحيد في النفوس . والقناعة بأنه لا إسلام إلا بعودة الشريعة الإسلامية وبالحكم بكتاب الله وسنة رسوله لتصبح شريعة القرآن مهيمنة على كل حياة المسلمين ، قررنا أن يستغرق برنامجنا التربوي ثلاثة عشر عاماً ، عمر الدعوة في مكة ، على أن قاعدة الأمة الإسلامية الآن هم الإخوان الملتزمون بشريعة الله وأحكامه فنحن ملزمون بإقامة كل الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة في داخل دائرتنا الإسلامية .. والطاعة واجبة علينا لإمامنا المبايع ، على أن إقامة الحدود مؤجلة ـ مع اعتقادها والذود عنها ـ حتى تقوم الدولة .. وكنا على قناعة كذلك بأن الأرض اليوم خالية من القاعدة التي تتوفر فيها صفات الأمة الإسلامية الملتزمة التزاماً كاملاً ..
كما كان الأمر في عهد النبوة والخلافات الراشدة ، ولذلك وجب الجهاد على الجماعة المسلمة التي حكم الله والتمكين لدينه في الأرض حتى يعود جميع المسلمين للإسلام فيقوم الدين القيم ، لا شعارات ولكن حقيقة عملية واقعة .
ودرسنا كذلك وضع العالم الإسلامي كله بحثاً عن أمثلة لما كان قائماً من قبل بخلافة الراشدين والتي نريدها نحن في جماعة الله الآن ، فقررنا بعد دراسة واسعة للواقع القائم المؤلم ، أن ليس هناك دولة واحدة ينطبق عليها ذلك ، واستثنينا المملكة العربية السعودية مع تحفظات وملاحظات يجب أن تستدركها المملكة وتصححها ، وكانت الدراسات كلها تؤكد أن أمة الإسلام ليست قائمة ، وإن كانت الدولة ترفع الشعارات بأنها تقيم شريعة الله ! …. وكان فيما قررناه بعد تلك الدراسة الواسعة ، أنه بعد مضي ثلاثة عشر عاماً من التربية الإسلامية للشباب والشيوخ والنساء والفتيات ، نقوم بمسح شامل في الدولة فإذا وجدنا أن الحصاد من أتباع الدعوة الإسلامية المعتقدين بأن الإسلام دين ودولة ، والمقتنعين بقيام الحكم الإسلامي قد بلغ 75% من أفراد الأمة رجالاً ونساءً ، نادينا بقيام الدولة الإسلامية ، وطالبنا الدولة بقيام حكم إسلامي ، فإذا وجدنا الحصاد 25 % جددنا التربية والدراسة لمدة ثلاثة عشر عاماً أخرى وهلم جرا ، حتى نجد أن الأمة فد نضجت لتقبل الحكم بالإسلام . وما علينا أن تنتهي أجيال وتأتي أجيال ، المهم أن الإعداد مستمر ، المهم أن نظل نعمل حتى تنتهي آجالنا ثم نسلم الراية مرفوعة " بلا إله إلا الله ، محمد رسول الله " إلى الأبناء الكرام الذين يأتون من بعدنا . وكنا على اتصال بالأستاذ محمد قطب ، بإذن من المرشد العام ، كان يزورنا في بيتي بمص الجديدة ليوضح للشباب ما غمض عليهم فهمه وكان الشباب يستوضحونه ويسألونه أسئلة كثيرة يجيب عليها .

جيـــان
•

جيـــان
•
الباب الثالث
المؤامرة
وخرج الأستاذ الشهيد سيد قطب من السجن ، وسبق خروجه بشهور عملية محاولة اغتيالي التي لم تنجح ، والتي تحدثنا عنها في أول هذه المذكرات ، وانتقلت إلينا أخبار بان إخراج الشهيد سيد قطب من السجن تخطيط من المخابرات ليسهل اغتياله ، وأن في خطة الاغتيالات القضاء على عبد الفتاح عبده إسماعيل . . وعشنا متوكلين على الله نعمل وخلف ظهورنا ما يدبر الفجار، غير أننا أخذنا ندرس ما وصلنا من أخبار عن رعب الفجار الحاكمين ، فقد أصبحوا يتوهمون أن هناك حركة فكرية يقودها سيد قطب من داخل السجن ، وتقودها وتعمل على تنفيذها جماعة من الإخوان المسلمين ، على رأسها الشهيد عبد الفتاح إسماعيل وزينب الغزالي الجبيلي خارج السجن . . وقد تأكدت لدينا الأخبار بان المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية ووليتهم الصهيونية العالمية قد قدموا تقارير مشفوعة بتعليمات لعبد الناصر بأخذ الأمر منتهى الجد للقضاء على هذه الحركة الإسلامية ، ولا فسينتهي كل ما فعله عبد الناصر في المنطقة من تحويل عن الفكر الإسلامي وبث اليأس في النفوس من إمكان أي إصلاح أو بعث عن طريق الإسلام . .
وخلاصة المخاوف : أن هذه الحركة الإسلامية ستقضي على كل فكر مغاير للإسلام . هذا ما وصلنا إجمالا عما تحويه تقارير المخابرات الأمريكية والروسية لعبد الناصر، ومن ناحية أخرى فان عبد الناصر اعتبر أن البعث الإسلامي بمثابة قضاء تام على حكمه الدكتاتوري الغاشم . . وفى أوائل أغسطس 1965 وصلتني أخبار عن إعداد قائمة من المطلوب اعتقالهم من رعيل رسالة التربية الجديدة والفكر الذي أقام من الشباب جواهر نورانية تتحرك بالإسلام . كما كان يتحرك به رجال من الصدر الأول في فجر الرسالة إلى دار ابن أبى الأرقم ، ويتصدر القائمة الأستاذ الشهيد سيد قطب ، زينب الغزالي الجبيلي، عبد الفتاح عبده إسماعيل ، محمد يوسف هواش . وفى الخامس من أغسطس وصلتني أخبار اعتقال الشهيد سيد قطب . كنت مجتمعة مع بعض الأخوات حين جاءتني مكالمة هاتفية قيل لي فيها: إن منزل سيد قطب قد فتش وبحث فيه عنه . وكان شقيقة الأستاذ محمد قد اعتقل في مرسى مطروح قبل أيام ، فطلبت زوجي في رأس البر ورجوته أن يطمئننى على سيد قطب وجاءت مكالمة زوجي بعد ساعة تؤكد اعتقاله .
وقررنا تأجيل الاجتماع بالأخوات حتى نرى ماذا بعد الاعتقالات ، وكان اعتقال سيد قطب كالصاعقة بالنسبة لجميع الشباب ، فضلا عنا نحن ، فقد كان الهضيبي قد أوكل كل المسئوليات لسيد قطب ، وكانت اتصالاتنا كلها به حسب أمر الهضيبي، وكان علينا بعد اعتقاله أن نرجع إلى المرشد العام ، نستأذنه فيمن يتولى المسئولية بدلا من سيد. كنت أنا وعبد الفتاح ، نفكر فيما حدث قبل أن يحدث بخمسة أيام ، فلما حدث ، زارني عبد الفتاح وكلفني بالسفر لرؤية المرشد في الإسكندرية وقدم لي أحد أبنائنا من الشباب على أنه سيكون حلقة الاتصال بيننا إذا اعتقل هو . . ولكن بعد ساعات أرسل إلى يطلب منى أن ألزم بيتي، وألغى سفري للإسكندرية - غير أنى كنت قد اتصلت بالمرشد، وجاءت السيدة حرمه من الإسكندرية - ورتب الأمر على أن نكون على اتصال دائم بالهضيبي، هذه المرة قدم لي أخا كريما ليكون حلقة الاتصال بيننا. . مرسى مصطفى مرسى . واتصلت بالمرشد العام وأخبرته بواقع الأمر، وأقرنا على ما اتفقنا عليه وتأثر تأثرا عميقا لأخبار الاعتقالات وبخاصة اعتقال سيد قطب . وأخذت الأخبار تتوالى بالقبض على العشرات والمئات ، وارتفع إلى الآلاف ، وقد أقسم لي شمس بدران بعد اعتقالي برأس عبد الناصر اعتقلوا مائة ألف من الإخوان في عشرين يوما، ملئوا بهم السجن الحربي وسجن القلعة وسجن أبي زعبل وسجن الفيوم والإسكندرية وطنطا وسجوناً أخرى . وفى يوم الخميس 19 أغسطس ، علمت أن سيدة فاضلة تناهز الخامسة والثمانين تدعى أم أحمد من شبرا قد قبضوا عليها، وهى من المناصرين للدعوة من يومها الأول ، وسارت في الطريق مع الإمام الشهيد حسن البنا خطوة خطوة، وكان لها جهد كبير مبارك في مساعدة الأسر التي فقدت العائل بالسجن والمعتقلات الناصرية . . وكانت على اتصال دائم بنا . . كان خبر اعتقالها مفزعا ومؤثرا بالنسبة لي، ولكنى قلت لابن أختها بعد دقائق صمت أغرقتني بالألم : "إنه شيء جميل . . ما دام في الأرض التي ضاعت معالمها امرأة مؤمنة تعتقل في سبيل الله ، وفى سبيل دولة القران ، وهي في الخامسة والثمانين ، فمرحى مرحى يا جنود الله " . . ! وأرسلت لابنتي في الإسلام غادة عمار وقلت لها : "اليوم اعتقلت مجاهدة جليلة فاضلة تدعى الست أم أحمد، وتقطن بناحية شبرا ولدى أموال لحساب أسر المسجونين وشؤون الدعوة فها هي إليك يا غادة، فإذا اعتقلت فسلميها للمرشد أو لآل قطب ، وسلمتها مظروفا فيه أموال الجماعة التي كانت أمانة عندي، وهى اشتراكات من الإخوان المسلمين . وعلمت بعد ذلك وأنا في السجن أن هذا المبلغ أودعته غادة عند ابنتي في الإسلام فاطمة عيسى وعندما قبض عليها الطغاة استولوا على هذا المال الذي كان ثمن الطعام وأجر المساكن ومصاريف التعليم والعلاج لأبناء المسجونين وأسرهم ، تلك الأسر التي لا ذنب لها ولا جريمة، وما قررت دولة الانقلاب العسكري لتبيدهم إلا لأنهم من القاعدة الخالدة على التاريخ لتجديد أمر الأمة الإسلامية . علمت بذلك عندما جيء بغادة عمار وعلية الهضيبي إلى زنزانتي في السجن الحربي فقلت : "حسبنا الله ونعم الوكيل ، الدنيا ساعة ، أما الآخرة فهي دارنا والحساب هناك " . ومرت ساعات رهيبة تحمل لي أخبار اعتقالات جديدة، ومرة أخرى جاءني رسول طلب منى أن أسافر إلى الإسكندرية لمقابلة المرشد. كان ذلك في مساء الخميس 19 أغسطس ، وبينما كنت أستعد للسفر جاء آخر وطلب منى تأجيل السفر لحين صدور أوامر أخرى .
المؤامرة
وخرج الأستاذ الشهيد سيد قطب من السجن ، وسبق خروجه بشهور عملية محاولة اغتيالي التي لم تنجح ، والتي تحدثنا عنها في أول هذه المذكرات ، وانتقلت إلينا أخبار بان إخراج الشهيد سيد قطب من السجن تخطيط من المخابرات ليسهل اغتياله ، وأن في خطة الاغتيالات القضاء على عبد الفتاح عبده إسماعيل . . وعشنا متوكلين على الله نعمل وخلف ظهورنا ما يدبر الفجار، غير أننا أخذنا ندرس ما وصلنا من أخبار عن رعب الفجار الحاكمين ، فقد أصبحوا يتوهمون أن هناك حركة فكرية يقودها سيد قطب من داخل السجن ، وتقودها وتعمل على تنفيذها جماعة من الإخوان المسلمين ، على رأسها الشهيد عبد الفتاح إسماعيل وزينب الغزالي الجبيلي خارج السجن . . وقد تأكدت لدينا الأخبار بان المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية ووليتهم الصهيونية العالمية قد قدموا تقارير مشفوعة بتعليمات لعبد الناصر بأخذ الأمر منتهى الجد للقضاء على هذه الحركة الإسلامية ، ولا فسينتهي كل ما فعله عبد الناصر في المنطقة من تحويل عن الفكر الإسلامي وبث اليأس في النفوس من إمكان أي إصلاح أو بعث عن طريق الإسلام . .
وخلاصة المخاوف : أن هذه الحركة الإسلامية ستقضي على كل فكر مغاير للإسلام . هذا ما وصلنا إجمالا عما تحويه تقارير المخابرات الأمريكية والروسية لعبد الناصر، ومن ناحية أخرى فان عبد الناصر اعتبر أن البعث الإسلامي بمثابة قضاء تام على حكمه الدكتاتوري الغاشم . . وفى أوائل أغسطس 1965 وصلتني أخبار عن إعداد قائمة من المطلوب اعتقالهم من رعيل رسالة التربية الجديدة والفكر الذي أقام من الشباب جواهر نورانية تتحرك بالإسلام . كما كان يتحرك به رجال من الصدر الأول في فجر الرسالة إلى دار ابن أبى الأرقم ، ويتصدر القائمة الأستاذ الشهيد سيد قطب ، زينب الغزالي الجبيلي، عبد الفتاح عبده إسماعيل ، محمد يوسف هواش . وفى الخامس من أغسطس وصلتني أخبار اعتقال الشهيد سيد قطب . كنت مجتمعة مع بعض الأخوات حين جاءتني مكالمة هاتفية قيل لي فيها: إن منزل سيد قطب قد فتش وبحث فيه عنه . وكان شقيقة الأستاذ محمد قد اعتقل في مرسى مطروح قبل أيام ، فطلبت زوجي في رأس البر ورجوته أن يطمئننى على سيد قطب وجاءت مكالمة زوجي بعد ساعة تؤكد اعتقاله .
وقررنا تأجيل الاجتماع بالأخوات حتى نرى ماذا بعد الاعتقالات ، وكان اعتقال سيد قطب كالصاعقة بالنسبة لجميع الشباب ، فضلا عنا نحن ، فقد كان الهضيبي قد أوكل كل المسئوليات لسيد قطب ، وكانت اتصالاتنا كلها به حسب أمر الهضيبي، وكان علينا بعد اعتقاله أن نرجع إلى المرشد العام ، نستأذنه فيمن يتولى المسئولية بدلا من سيد. كنت أنا وعبد الفتاح ، نفكر فيما حدث قبل أن يحدث بخمسة أيام ، فلما حدث ، زارني عبد الفتاح وكلفني بالسفر لرؤية المرشد في الإسكندرية وقدم لي أحد أبنائنا من الشباب على أنه سيكون حلقة الاتصال بيننا إذا اعتقل هو . . ولكن بعد ساعات أرسل إلى يطلب منى أن ألزم بيتي، وألغى سفري للإسكندرية - غير أنى كنت قد اتصلت بالمرشد، وجاءت السيدة حرمه من الإسكندرية - ورتب الأمر على أن نكون على اتصال دائم بالهضيبي، هذه المرة قدم لي أخا كريما ليكون حلقة الاتصال بيننا. . مرسى مصطفى مرسى . واتصلت بالمرشد العام وأخبرته بواقع الأمر، وأقرنا على ما اتفقنا عليه وتأثر تأثرا عميقا لأخبار الاعتقالات وبخاصة اعتقال سيد قطب . وأخذت الأخبار تتوالى بالقبض على العشرات والمئات ، وارتفع إلى الآلاف ، وقد أقسم لي شمس بدران بعد اعتقالي برأس عبد الناصر اعتقلوا مائة ألف من الإخوان في عشرين يوما، ملئوا بهم السجن الحربي وسجن القلعة وسجن أبي زعبل وسجن الفيوم والإسكندرية وطنطا وسجوناً أخرى . وفى يوم الخميس 19 أغسطس ، علمت أن سيدة فاضلة تناهز الخامسة والثمانين تدعى أم أحمد من شبرا قد قبضوا عليها، وهى من المناصرين للدعوة من يومها الأول ، وسارت في الطريق مع الإمام الشهيد حسن البنا خطوة خطوة، وكان لها جهد كبير مبارك في مساعدة الأسر التي فقدت العائل بالسجن والمعتقلات الناصرية . . وكانت على اتصال دائم بنا . . كان خبر اعتقالها مفزعا ومؤثرا بالنسبة لي، ولكنى قلت لابن أختها بعد دقائق صمت أغرقتني بالألم : "إنه شيء جميل . . ما دام في الأرض التي ضاعت معالمها امرأة مؤمنة تعتقل في سبيل الله ، وفى سبيل دولة القران ، وهي في الخامسة والثمانين ، فمرحى مرحى يا جنود الله " . . ! وأرسلت لابنتي في الإسلام غادة عمار وقلت لها : "اليوم اعتقلت مجاهدة جليلة فاضلة تدعى الست أم أحمد، وتقطن بناحية شبرا ولدى أموال لحساب أسر المسجونين وشؤون الدعوة فها هي إليك يا غادة، فإذا اعتقلت فسلميها للمرشد أو لآل قطب ، وسلمتها مظروفا فيه أموال الجماعة التي كانت أمانة عندي، وهى اشتراكات من الإخوان المسلمين . وعلمت بعد ذلك وأنا في السجن أن هذا المبلغ أودعته غادة عند ابنتي في الإسلام فاطمة عيسى وعندما قبض عليها الطغاة استولوا على هذا المال الذي كان ثمن الطعام وأجر المساكن ومصاريف التعليم والعلاج لأبناء المسجونين وأسرهم ، تلك الأسر التي لا ذنب لها ولا جريمة، وما قررت دولة الانقلاب العسكري لتبيدهم إلا لأنهم من القاعدة الخالدة على التاريخ لتجديد أمر الأمة الإسلامية . علمت بذلك عندما جيء بغادة عمار وعلية الهضيبي إلى زنزانتي في السجن الحربي فقلت : "حسبنا الله ونعم الوكيل ، الدنيا ساعة ، أما الآخرة فهي دارنا والحساب هناك " . ومرت ساعات رهيبة تحمل لي أخبار اعتقالات جديدة، ومرة أخرى جاءني رسول طلب منى أن أسافر إلى الإسكندرية لمقابلة المرشد. كان ذلك في مساء الخميس 19 أغسطس ، وبينما كنت أستعد للسفر جاء آخر وطلب منى تأجيل السفر لحين صدور أوامر أخرى .

جيـــان
•
الباب الثالث
وجاء دوري
وفى فجر الجمعة 20 أغسطس 1965 اقتحم رجال الطاغوت منزلي، ولما طلبت منهم إذنا بالتفتيش ، قالوا: إذن ! أي إذن يا مجانين ؟ نحن في عهد عبد الناصر، نفعل ما نشاء معكم يا كلاب . . !
وأخذوا يقهقهون في صورة هستيرية وهم يقولون : الإخوان المسلمون مجانين ، قال إيه ، يريدون إذن تفتيش في حكم عبد الناصر! ودخلوا البيت وأتلفوا ما فيه بالتمزيق تارة وبالتكسير تارة أخرى حتى لم يتركوا شيئا سليما . وكنت أنظر إليهم باحتقار وهم يمزقون فراش المنزل . وأخيرا قبضوا على ابن أخي الطالب في كلية المعلمين محمد محمد الغزالي، وكان يقيم معي كابني وقالوا لي : لا تغادري البيت . قلت : أفهم من ذلك أن إقامتي محددة . قالوا : إلى حين صدور أوامر أخرى، واعلمي أن البيت تحت الحراسة فإذا تحركت فسيقبض عليك . وظننت أن الأمر سيقف عند تحديد الإقامة، وجاء لزيارتي شقيقتي وأولادها وزوجها، وكنت أعد حقيبتي استعدادا للقبض على . ورجوت زوج شقيقتي مغادرة المنزل حتى لا يقبضوا عليه إن عادوا ووجدوه كما فعلوا مع ابن أخي. ولكنه أصر على البقاء رغم محاولاتي المتكررة في إفهامه أن الوقت ليس وقت مجاملة أو نحوه . وبينما كنا نتناول الغداء اقتحم المنزل زبانية الطاغوت وأتوا على البقية الباقية واستولوا على ما في الخزانة . واستولوا على ما يزيد على نصف مكتبتي، ولم تفلح محاولاتي في إنقاذ بعض المؤلفات القديمة في التفسير والحديث والفقه والتاريخ مما يعود تاريخ طبعه إلى أكثر من مائة عام ، كما لم تفلح محاولاتي في الاحتفاظ بمجموعات ثلاث من مجلة السيدات المسلمات التي أوقفت بأمر عسكري سنة 1958 ، فقد صادروا كل ما أرادوا وللخزانة وقتها قصة عجيبة . فقد كانت الخزانة لزوجي إلا أن بها أشياء تخصني أيضا. فلما طلبوا المفتاح قلت لهم : إنه مع زوجي وهو مسافر في مصيفه ، فإذا بهم يهتفون برجل منهم يأمرونه بفتح الخزانة ، وتقدم هذا الرجل وفتح الخزانة بآلات ومفاتيح كانت معه ، كأي لص متمرس ! ! ولما طلبت منهم إيصالا بما أخذوه قالوا في سخرية : "أنت مجنونة . أنت فاكرة نفسك شاطرة، إخرسي بلاش دوشة" . وقبضوا على وأدخلوني عربة وجدت فيها ابن أخي الذي قبضوا عليه في الفجر، وشابا من شباب الدعوة، سألت ابن أخي : إيه يا محمد؟ فلم يجبني ففهمت أن التعليمات إليه أن لا يتكلم ، وكانوا قد أتوا به ليرشدهم إلى المنزل لأن هؤلاء كانوا غير زوار الفجر. . وأخذت العربة تنهب بنا الطريق حتى وصلت إلى السجن الحربي، عرفت ذلك من اللوحة الموجودة على بوابته ، واقتحمت السيارة البوابة المرعبة ، وبعدما ابتلعت البوابة السيارة ومن فيها . أنزلت منها واتجه بي وغد غليظ إلى حجرة استجوبني فيها وغد آخر، وأدخلت منها إلى حجرة أخرى . ووقفت أمام رجل ضخم الجثة مظلم الوجه قبيح اللفظ ، فسأل الذي يمسك ذراعي عنى فأجابني بسباب غلف فيه أسمي، ومع ذلك التفت هو إلى في غلظة وسألني من أنت ! . قلت : "زينب الغزالي الجبيلي" . فانطلق يسب ويلعن بما لا يعقل ولا يتصور. وصرخ الذي يمسك بذراعي قائلا : "دا رئيس النيابة يا بنت الــ . . . ردى على سعادته "، وكان الآخر قد صمت
قلت : لقد اعتقلوني أنا وكتبي وكل ما في الخزانة، فأرجو حصر هذه الأشياء وتسجيلها فمن حقي أن تعاد إلى . أجاب رئيس النيابة المزعوم الذي وضح فيما بعد أنه شمس بدران ، أجاب في فجور وجاهلية متغطرسة: "يا بنت الـــ . . . نحن سنقتلك بعد ساعة، كتب إيه ؟ وخزنة إيه ؟ ومصاغ إيه ؟ أنت ستعدمين بعد قليل ، كتب إيه وحاجات إيه اللي بتسألي عليها يا بنت الـــ . . . ، إحنا سندفنك كما دفنا عشرات منكم يا كلاب هنا في السجن الحربي" لم أستطع أن أجيب ، لأن الكلمات كانت بذيئة الألفاظ سافلة، والسباب والشتائم منحطة إلى الحد الذي لا يستطيع فيه الإنسان أن يسمعها فضلا عن أن يجيب عنها. وقال هذا المتغطرس للذي يمسك ذراعي : خذها . . . قال : إلى أين ؟ أجاب ؟ هم عارفون . وجذبني الفاجر في وحشية وهو يقول : يا بنت الـ . . . وعند الباب نادى صاحب الجثة الغليظة المظلمة على الشيطان الممسك بذراعي فالتفت إليه ، فكأني أرى ظلمة من دخان غليظ أسود تغرقه ، قلت في سرى : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم تضرعت إلى الله قائلة: اللهم أنزل على سكينتك وثبت قدمي في دوائر أهل الحق ، واربط على قلبي بذكرك وارزقني الرضا بما يرضيك . وقال الممسك بذراعي للشيطان : نعم يا معالي الباشا . قال له : تروح رقم 24 وبعد ذلك تأتوني . وانصرف بي الشيطان الشقي الممسك بذراعي وأدخلني حجرة ، فرأيت رجلين يجلسان إلى مكتب في يد أحدهما مفكرة كنت أعرفها، وهى خاصة بالأخ الشهيد عبد الفتاح إسماعيل ، كان يخرجها في حلقات القران ونحن نتدارس ويدون بها بعض ملاحظاته ، فعرفت أنه اعتقل وبعض الإخوان إذ كان عنده اجتماع بهم في ذلك الوقت ، وأحدث ذلك رعدة في نفسي خشيت أن يلاحظها بعض الشياطين ، وكان أذان العصر يخترق سمعي، وترك الشيطان رقبتي ولكن ظللت في مكاني فصليت إلى الله ،وما أن انتهيت من الصلاة حتى انكب الشيطان على في وحشية، قيل له : اذهب بها إلى 24 .
وجاء دوري
وفى فجر الجمعة 20 أغسطس 1965 اقتحم رجال الطاغوت منزلي، ولما طلبت منهم إذنا بالتفتيش ، قالوا: إذن ! أي إذن يا مجانين ؟ نحن في عهد عبد الناصر، نفعل ما نشاء معكم يا كلاب . . !
وأخذوا يقهقهون في صورة هستيرية وهم يقولون : الإخوان المسلمون مجانين ، قال إيه ، يريدون إذن تفتيش في حكم عبد الناصر! ودخلوا البيت وأتلفوا ما فيه بالتمزيق تارة وبالتكسير تارة أخرى حتى لم يتركوا شيئا سليما . وكنت أنظر إليهم باحتقار وهم يمزقون فراش المنزل . وأخيرا قبضوا على ابن أخي الطالب في كلية المعلمين محمد محمد الغزالي، وكان يقيم معي كابني وقالوا لي : لا تغادري البيت . قلت : أفهم من ذلك أن إقامتي محددة . قالوا : إلى حين صدور أوامر أخرى، واعلمي أن البيت تحت الحراسة فإذا تحركت فسيقبض عليك . وظننت أن الأمر سيقف عند تحديد الإقامة، وجاء لزيارتي شقيقتي وأولادها وزوجها، وكنت أعد حقيبتي استعدادا للقبض على . ورجوت زوج شقيقتي مغادرة المنزل حتى لا يقبضوا عليه إن عادوا ووجدوه كما فعلوا مع ابن أخي. ولكنه أصر على البقاء رغم محاولاتي المتكررة في إفهامه أن الوقت ليس وقت مجاملة أو نحوه . وبينما كنا نتناول الغداء اقتحم المنزل زبانية الطاغوت وأتوا على البقية الباقية واستولوا على ما في الخزانة . واستولوا على ما يزيد على نصف مكتبتي، ولم تفلح محاولاتي في إنقاذ بعض المؤلفات القديمة في التفسير والحديث والفقه والتاريخ مما يعود تاريخ طبعه إلى أكثر من مائة عام ، كما لم تفلح محاولاتي في الاحتفاظ بمجموعات ثلاث من مجلة السيدات المسلمات التي أوقفت بأمر عسكري سنة 1958 ، فقد صادروا كل ما أرادوا وللخزانة وقتها قصة عجيبة . فقد كانت الخزانة لزوجي إلا أن بها أشياء تخصني أيضا. فلما طلبوا المفتاح قلت لهم : إنه مع زوجي وهو مسافر في مصيفه ، فإذا بهم يهتفون برجل منهم يأمرونه بفتح الخزانة ، وتقدم هذا الرجل وفتح الخزانة بآلات ومفاتيح كانت معه ، كأي لص متمرس ! ! ولما طلبت منهم إيصالا بما أخذوه قالوا في سخرية : "أنت مجنونة . أنت فاكرة نفسك شاطرة، إخرسي بلاش دوشة" . وقبضوا على وأدخلوني عربة وجدت فيها ابن أخي الذي قبضوا عليه في الفجر، وشابا من شباب الدعوة، سألت ابن أخي : إيه يا محمد؟ فلم يجبني ففهمت أن التعليمات إليه أن لا يتكلم ، وكانوا قد أتوا به ليرشدهم إلى المنزل لأن هؤلاء كانوا غير زوار الفجر. . وأخذت العربة تنهب بنا الطريق حتى وصلت إلى السجن الحربي، عرفت ذلك من اللوحة الموجودة على بوابته ، واقتحمت السيارة البوابة المرعبة ، وبعدما ابتلعت البوابة السيارة ومن فيها . أنزلت منها واتجه بي وغد غليظ إلى حجرة استجوبني فيها وغد آخر، وأدخلت منها إلى حجرة أخرى . ووقفت أمام رجل ضخم الجثة مظلم الوجه قبيح اللفظ ، فسأل الذي يمسك ذراعي عنى فأجابني بسباب غلف فيه أسمي، ومع ذلك التفت هو إلى في غلظة وسألني من أنت ! . قلت : "زينب الغزالي الجبيلي" . فانطلق يسب ويلعن بما لا يعقل ولا يتصور. وصرخ الذي يمسك بذراعي قائلا : "دا رئيس النيابة يا بنت الــ . . . ردى على سعادته "، وكان الآخر قد صمت
قلت : لقد اعتقلوني أنا وكتبي وكل ما في الخزانة، فأرجو حصر هذه الأشياء وتسجيلها فمن حقي أن تعاد إلى . أجاب رئيس النيابة المزعوم الذي وضح فيما بعد أنه شمس بدران ، أجاب في فجور وجاهلية متغطرسة: "يا بنت الـــ . . . نحن سنقتلك بعد ساعة، كتب إيه ؟ وخزنة إيه ؟ ومصاغ إيه ؟ أنت ستعدمين بعد قليل ، كتب إيه وحاجات إيه اللي بتسألي عليها يا بنت الـــ . . . ، إحنا سندفنك كما دفنا عشرات منكم يا كلاب هنا في السجن الحربي" لم أستطع أن أجيب ، لأن الكلمات كانت بذيئة الألفاظ سافلة، والسباب والشتائم منحطة إلى الحد الذي لا يستطيع فيه الإنسان أن يسمعها فضلا عن أن يجيب عنها. وقال هذا المتغطرس للذي يمسك ذراعي : خذها . . . قال : إلى أين ؟ أجاب ؟ هم عارفون . وجذبني الفاجر في وحشية وهو يقول : يا بنت الـ . . . وعند الباب نادى صاحب الجثة الغليظة المظلمة على الشيطان الممسك بذراعي فالتفت إليه ، فكأني أرى ظلمة من دخان غليظ أسود تغرقه ، قلت في سرى : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم تضرعت إلى الله قائلة: اللهم أنزل على سكينتك وثبت قدمي في دوائر أهل الحق ، واربط على قلبي بذكرك وارزقني الرضا بما يرضيك . وقال الممسك بذراعي للشيطان : نعم يا معالي الباشا . قال له : تروح رقم 24 وبعد ذلك تأتوني . وانصرف بي الشيطان الشقي الممسك بذراعي وأدخلني حجرة ، فرأيت رجلين يجلسان إلى مكتب في يد أحدهما مفكرة كنت أعرفها، وهى خاصة بالأخ الشهيد عبد الفتاح إسماعيل ، كان يخرجها في حلقات القران ونحن نتدارس ويدون بها بعض ملاحظاته ، فعرفت أنه اعتقل وبعض الإخوان إذ كان عنده اجتماع بهم في ذلك الوقت ، وأحدث ذلك رعدة في نفسي خشيت أن يلاحظها بعض الشياطين ، وكان أذان العصر يخترق سمعي، وترك الشيطان رقبتي ولكن ظللت في مكاني فصليت إلى الله ،وما أن انتهيت من الصلاة حتى انكب الشيطان على في وحشية، قيل له : اذهب بها إلى 24 .

جيـــان
•
الباب الثالث
الطريق إلى الحجرة 24
خرج بي الشيطان وهو ممسك بذراعي، وسار معنا اثنان من الشياطين سود الوجوه ممسكان بالكرابيج ، ساروا بي في أنحاء متعددة من السجن الحربي . . ورأيت الإخوان المسلمين معلقين على الأعواد والسياط تلهب أجسادهم العارية، وبعضهم سلطت عليه الكلاب الضالة لتمزق جسده بعد السياط . وبعضهم يقف ووجهه إلى الحائط في انتظار دوره من التعذيب والتنكيل . كنت أعرف عددا كبيرا من هؤلاء الشباب المؤمنين الأتقياء الأنقياء، أبنائي وأحبائي في الله ، أصحاب مجالس التفسير والحديث والحياة الندية الذكية في دارى ، في دارهم ، في دار ابن أبى الأرقم ، في هدأة السحر، في أنوار الفجر . عرفت منهم الكثير، رأيت العجب ، هذه الأنماط البشرية الفريدة في إنسانيتها ، المترفعة بإسلامها ، الموصولة بالسماء المرموقة بعين القدرة المنزهة المتمتعة بحضرة الله سبحانه وتعالى ، شباب الإسلام ، شيوخ الإسلام ، هذا مصلوب على خشبة ، هذا منكفئ على وجهه للحائط ، والسياط تنزل عليه تأكل من ظهره ، هذا ينزف من جبينه الذي لم ينحن إلا لله والنور يغمر وجهه المنساب من رأسه المرتفع المعتز بالله ، وذاك ظهره للحائط ، كل الوجوه يجرى فيها نور التوحيد. . ولكن نزيف الدم من الوجوه والظهور شيء مخيف . وصرخ شاب مصلوب على خشبة : أماه ! ثبتك الله ! قلت : والنور قد غطى المكان فلمع لون الدم فيه : أبنائي ، إنها بيعة، صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة .
ورفع الشيطان يده وهو يهوى بها على صدغي وأذني، فأخذت عيني تدور وأذني كذلك كأن ماسا كهربيا قد مسها، وانكشف النور عن أجسام ممزقة وأشلاء متناثرة تملأ المكان ، فقلت : في سبيل الله ، وسمعت صوتا كأنه يأتي من الجنة : اللهم ثبت الأقدام ، اللهم احفظهم من الفجرة . لولاك ربى ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا . . فثبت الأقدام إن لاقينا . وارتفعت أصوات السياط وتزاحمت ، ولكن صوت الإيمان أقوى وأوضح ، وكانت برهة، وخرج صوت آخر كأنه مقبل من السماء يقول : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ". وقلت ثانية : "صبرا يا أبنائي إنها بيعة، صبرا إن موعدكم الجنة" . وأخذت يد الفاجر ظهري بضربة موجعة أليمة ساخنة، فقلت : "الله أكبر ولله الحمد، اللهم صبرا ورضا، اللهم شكرا وحمدا على ما أنعمت به علينا من الإسلام والإيمان والجهاد في سبيلك " . وفتح باب لحجرة مظلمة فدخلتها ثم أغلقوا بابها .
الطريق إلى الحجرة 24
خرج بي الشيطان وهو ممسك بذراعي، وسار معنا اثنان من الشياطين سود الوجوه ممسكان بالكرابيج ، ساروا بي في أنحاء متعددة من السجن الحربي . . ورأيت الإخوان المسلمين معلقين على الأعواد والسياط تلهب أجسادهم العارية، وبعضهم سلطت عليه الكلاب الضالة لتمزق جسده بعد السياط . وبعضهم يقف ووجهه إلى الحائط في انتظار دوره من التعذيب والتنكيل . كنت أعرف عددا كبيرا من هؤلاء الشباب المؤمنين الأتقياء الأنقياء، أبنائي وأحبائي في الله ، أصحاب مجالس التفسير والحديث والحياة الندية الذكية في دارى ، في دارهم ، في دار ابن أبى الأرقم ، في هدأة السحر، في أنوار الفجر . عرفت منهم الكثير، رأيت العجب ، هذه الأنماط البشرية الفريدة في إنسانيتها ، المترفعة بإسلامها ، الموصولة بالسماء المرموقة بعين القدرة المنزهة المتمتعة بحضرة الله سبحانه وتعالى ، شباب الإسلام ، شيوخ الإسلام ، هذا مصلوب على خشبة ، هذا منكفئ على وجهه للحائط ، والسياط تنزل عليه تأكل من ظهره ، هذا ينزف من جبينه الذي لم ينحن إلا لله والنور يغمر وجهه المنساب من رأسه المرتفع المعتز بالله ، وذاك ظهره للحائط ، كل الوجوه يجرى فيها نور التوحيد. . ولكن نزيف الدم من الوجوه والظهور شيء مخيف . وصرخ شاب مصلوب على خشبة : أماه ! ثبتك الله ! قلت : والنور قد غطى المكان فلمع لون الدم فيه : أبنائي ، إنها بيعة، صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة .
ورفع الشيطان يده وهو يهوى بها على صدغي وأذني، فأخذت عيني تدور وأذني كذلك كأن ماسا كهربيا قد مسها، وانكشف النور عن أجسام ممزقة وأشلاء متناثرة تملأ المكان ، فقلت : في سبيل الله ، وسمعت صوتا كأنه يأتي من الجنة : اللهم ثبت الأقدام ، اللهم احفظهم من الفجرة . لولاك ربى ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا . . فثبت الأقدام إن لاقينا . وارتفعت أصوات السياط وتزاحمت ، ولكن صوت الإيمان أقوى وأوضح ، وكانت برهة، وخرج صوت آخر كأنه مقبل من السماء يقول : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ". وقلت ثانية : "صبرا يا أبنائي إنها بيعة، صبرا إن موعدكم الجنة" . وأخذت يد الفاجر ظهري بضربة موجعة أليمة ساخنة، فقلت : "الله أكبر ولله الحمد، اللهم صبرا ورضا، اللهم شكرا وحمدا على ما أنعمت به علينا من الإسلام والإيمان والجهاد في سبيلك " . وفتح باب لحجرة مظلمة فدخلتها ثم أغلقوا بابها .
الصفحة الأخيرة
وقفة مع زوجي
لم يكن عملي في هذا النشاط يعطلني عن تأدية رسالتي في المركز العام لجماعة السيدات المسلمات ولا يجعلني أقصر في واجبي الأسري ، غير أن زوجي الفاضل المرحوم محمد سالم سالم لاحظ تردد الأخ عبد الفتاح إسماعيل وبعض لبنات طاهرة زكيه من الشباب المسلم على منزلنا . فسألني زوجـي : هل هناك نشاط للإخـوان المسلمين ؟ أجبت : نعم . . فسألني عن مدى النشاط ونوعيته . . قلت : إعادة تنظيم جماعة الإخوان .. ولما أخذ يبحث الأمر معي قلت له : هل تذكر يا زوجي العزيز عندما اتفقنا على الزواج ..
ماذا قلت لك ؟ قال : نعم اشترطت شروطاً ، ولكني أخاف عليك اليوم من تعرضك للجبابرة .
ثم صمت وأطرق برأسه فقلت له : أنا أذكر جيداً ما قلت لك : لقد قلت لك يومها : إن هناك شيئاً في حياتي يجب عليك أن تعلمه أنت لأنك ستصبح زوجي ، ومادمت قد وافقت على الزواج فيجب أن أطلعك عليه على ألاّ تسألني عنه بعد ذلك ، وشروطي بخصوص هذا الأمر لا أتنازل عنها . . أنا رئيسة المركز العام لجماعة السيدات المسلمات .. وهذا حق ، ولكن الناس في أغلبهم يعتقدون أني أدين بمبادئ الوفد السياسية ، وهذا غير صحيح .. الأمر الذي أومن به وأعتقده هو رسالة الإخوان المسلمين .. ما يربطني بمصطفى النحاس هو الصداقة الشخصية ، لكني على بيعة مع حسن البنا على الموت في سبيل الله ، غير أني لم أخط خطوة واحدة توقفني داخل دائرة هذا الشرف الرباني ، ولكني أعتقد أني سأخطو هذه الخطوة يوماً ما بل وأحلم بها وأرجوها ، ويومها إذا تعارضت مصلحتك الشخصية وعملك الاقتصادي مع عملي الإسلامي ووجدت أن حياتي الزوجية ستكون عقبة في طريق الدعوة وقيام دولة الإسلام فسنكون على مفرق طريق ، ويومها أطرقت إلى الأرض ثم رفعت رأسك والدموع محبوسة في عينيك لتقول : أنا أسألك لتقول : أنا أسألك ماذا يرضيك من المطالب المادية فلا تسألين ولا تطلبين أي شئ من مهر أو مطالب زواج ، وتشترطين عليّ ألا أمنعك عن طريق الله ..
أنا لا أعلم أن لك صلة بالأستاذ البنا ، والذي أعلمه أنك اختلفت معه بشأن انضمام جماعة السيدات المسلمات إلي الإخوان المسلمين .
قلت : الحمد لله ، اتفقنا أثناء محنة الإخوان سنة 1948 قبل استشهاد البنا ، وكنت قررت أن ألغي أمر الزواج من حياتي ، وأنقطع للدعوة انقطاعاً كلياً .. وأنا لا أستطيع أن أطلب منك اليوم أن تشاركني هذا الجهاد ، ولكن من حقي أن اشترط عليك ألا تمنعني جهادي في سبيل الله ، ويوم تضعني المسئولية في صفوف المجاهدين فلا تسألني ماذا أفعل ولتكن الثقة بيننا تامة ، بين رجل يريد الزواج من امرأة وهبت نفسها للجهاد في سبيل الله وقيام الدولة الإسلامية وهي في سن الثامنة عشرة ، وإذا تعارض صالح الزواج والدعوة إلى الله ، فسينتهي الزواج وتبقى الدعوة في كل كياني . .
ثم توقفت عن الكلام برهة ونظرت إليه قائلة : هل تذكرت ؟ قال : نعم . قلت : اليوم أطلب منك أن تفي بوعدك .. لا تسألني بمن ألتقي . وأدعو الله أن يجعل أجر جهادي قسمة بيننا فضلاً منه سبحانه إذا تقبل عملي . . أنا أعلم أن من حقك أن تأمرني ومن واجبي أن أطيعك ولكن الله أكبر في نفوسنا من أنفسنا ، ودعوته أغلى علينا من ذواتنا . ونحن في مرحلة خطيرة من مراحل الدعوة . . قال : سامحيني ، أعملي على بركة الله . يا ليتني أعيش وأرى غاية الإخوان قد تحققت ، وقامت دولة الإسلام .. يا ليتني كنت في شبابي فأعمل معكم ….
وكثر العمل ، والنشاط وتدفق الشباب على بيتي ليلاً و نهار ، وكان الزوج المؤمن يسمع طرقات الباب في جوف الليل فيقوم من نومه ويفتح للطارقين ويدخلهم إلي حجرة المكتب ، ويذهب إلي حجرة السيدة التي تدير أعمال البيت فيوقظها ويطلب منها أن تعد للزائرين بعض الطعام والشاي ، ثم يأتي إليّ فيوقظني في إشفاق وهو يقول : بعض أولادك في المكتب وعليهم علامات جهد أو سفر ، وأرتدي ملابسي وأذهب إليهم ويأخذ هو طريقه إلى مكان نومه وهو يقول لي : إذا صليتم الفجر جماعة فأيقظيني لأصلي معكم إن كان ذلك لا يضر ، فأجيب ***** الله . فإن صلينا الفجر أيقظته ليصلي معنا ثم ينصرف ، وهو يحيي الموجودين تحية أبوية مملوءة بالشفقة والحب والحنان .