جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
في الحجرة 24

ابتلعتني الحجرة فقلت : باسم الله السلام عليكم . وأغلق الباب وأضيئت الكهرباء قوية! إنها للتعذيب ! الحجرة مليئة بالكلاب ! لا أدرى كم ! ! أغمضت عيني ووضعت يدي على صدري من شدة الفزع ، وسمعت باب الحجرة يغلق بالسلاسل والأقفال وتعلقت الكلاب بكل جسمي، رأسي ويدي، صدري وظهري، كل موضع في جسمي، أحسست أن أنياب الكلاب تغوص فتحت عيني من شدة الفزع وبسرعة أغمضتهما لهول ما أرى ووضعت يدي تحت إبطي وأخذت أتلو أسماء الله الحسنى مبتدئة ب "يا الله ، يا الله " وأخذت أنتقل من اسم إلى اسم ، فالكلاب تتسلق جسدي كله ، أحس أنيابها في فروة رأسي، في كتفي، في ظهري، أحسها في صدري، في كل جسدي، أخذت أنادى ربى هاتفة: "اللهم اشغلني بك عمن سواك ، اشغلني بك أنت يا إلهي يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد، خذني من عالم الصورة، اشغلني عن هذه الأغيار كلها، اشغلني بك ، أوقفني في حضرتك ، إصبغني بسكينتك ، ألبسني أردية محبتك ، ارزقني الشهادة فيك والحب فيك والرضا بك والمودة لك وثبت الأقدام يا الله ، أقدام الموحدين " . كل هذا كنت أقوله بسري، فالكلاب ناشبة أنيابها في جسدي . مرت ساعات ثم فتح الباب وأخرجت من الحجرة . كنت أتصور أن ثيابي البيضاء مغموسة في الدماء، كذلك كنت أحس وأتصور أن الكلاب قد فعلت . لكن يا لدهشتي، الثياب كأن لم يكن بها شيء، كأن نابا واحدا لم ينشب في جسدي. سبحانك يا رب ،، إنه معي، يا الله هل أستحق فضلك وكرمك ، يا الله يا إلهي لك الحمد . كل هذا أقوله أيضا في سرى، فالشيطان ممسك بذراعي يسألني : كيف لم تمزقك الكلاب ؟ والسوط في يده وخلفي شيطان ثان بيده سوط أيضا . كان الشفق الأحمر يكسو السماء ينبئ بأن الشمس قد غربت ، وأننا أوشكنا على العشاء إذن فقد تركت مع الكلاب اكثر من ثلاث ساعات . لك الحمد يا إلهي على كل حال . اخترقوا بي طريقا توهمته طويلا، فتح باب : ابتلعتني الساحة المخيفة خلفه . ثم ابتلعني ممر طويل مخيف على جانبيه أبواب مغلقة . أحد الأبواب منفرج بعض الشيء يطل منه وجه منير، خرج منه بعض النور فبدد بعض ظلام الممر، عرفت فيما بعد أنه باب الزنزانة رقم 2 التي تسبق زنزانتي رقم 3 ويسكنها الضابط الكبير محمد رشاد مهنا الذي كان يوما وصيا على عرش مصر الذي توهم الفجرة أن الإخوان سينصبونه رئيسا للجمهورية فاعتقلوه . وفتح باب الزنزانة رقم 3 . . فابتلعتني .
جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
الزنزانة رقم 3


وفتح باب الزنزانة 3 . . . فابتلعتني واختطفتني ظلمتها وأغلق الباب خلفي في اللحظة التي أشعل فيها مصباح معلق في سقف الزنزانة، كان الضوء مخيفا مرعبا لشدته لا تستطيع أن تفتح عينك فيه . فعرفت للتو أنه للتعذيب أو الإرهاق . وبعد فترة طرقت الباب ، وجاء مارد أسود في غلظته سألني عما أريد، فاستأذنت في الذهاب إلى دورة المياه للوضوء ، فأجاب في وحشية ممنوع طرق الباب - ممنوع دورة المياه - ممنوع الوضوء - ممنوع الشرب . إذا طرقت الباب سأجلدك خمسين جلدة، وفرقع بالسوط في الهواء ليريني أنه على استعداد لتنفيذ تهديده . لم يكن في الزنزانة شيء، وكنت قد تعبت من الوقفة الطويلة بين الكلاب في "الحجرة 24" فخلعت معطفي وفرشته على أرضها وتيممت وصليت المغرب والعشاء، وجلست القرفصاء ، ولكن ساقي المكسورة لم ترحني فوضعت حذائي تحت رأسي وتمددت على إسفلت الحجرة . لكن الطغاة لم يمهلوني . كان بأعلى الزنزانة نافذة تطل على فناء السجن ، جاءوا بصليب من الخشب على ارتفاع النافذة ثم جاءوا بشباب من المؤمنين يصلبونهم الواحد تلو الآخر على هذا الصليب ، ويأخذون في جلد المصلوب بالسياط ، والشاب يذكر اسم الله ويستنجد به ، وبعد نصف ساعة من الجلد المستمر المتواصل يقولون لهذا الشاب الذي قد يكون مهندسا أو مستشارا أو طبيبا: "يا ابن الكلب متى جئت هنا؟". فيقول : "اليوم أو البارحة" ، فيعودون إلى السؤال : "متى ذهبت إلى منزل زينب الغزالي آخر مرة؟" . فإن قال لا أذكر، عادوا إلى الجلد وطلبوا منه أن يسب زينب الغزالي بأبشع ما يتصور الإنسان من الألفاظ الفاحشة ؟الكلمات البذيئة، ؟طبعا يرفض هذا الشاب المؤمن ويعودون لجلده مرة أخرى، وربما قال أحد الشباب : إننا لا نرى فيها إلا الصدق والفضيلة فيزيدونه ضربا وجلدا حتى يفقد الوعي، فيأتوا بآخر طالبين منه نفس الشيء ظنا منهم أن ذلك يضعف من عزيمتي . وهكذا، شاب يعقب أخاه ، وقلبي يتمزق على هذا الشباب المؤمن . أخذت أناجى الله وأتضرع إليه طويلا . سألت الله أن يجعلني فداء لهذا الشباب فأتلقى التعذيب بدلا منهم ، فقد تصورت أن هذا أهون على، فأخذت أدعو الله أن يجعلني مكانهم أو يصرف عنى وعنهم هذا الجلاد. تمنيت أن يقولوا ما يريده هؤلاء الفجرة عن زينب الغزالي حتى ترفع عنهم السياط ، ولكنهم لم يقولوا، والسياط تتضاعف وتتعالى صيحاتهم والألم يمزقني . وأنا أناجي ربى فأقول "اللهم اشغلني بك عنهم واشغلهم بك عنى. اللهم ألهمهم الخير الذي يرضيك ، اللهم احجب عنى أصوات تعذيبهم ، اللهم إنك تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب ، تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فرحمتك اللهم بعبادك " .
جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
الرؤيا


ولا أدرى كيف أخذني النوم وأنا أذكر الله ، وكان في هذا النوم خير وفضل وعطاء، كان فيه رؤيا مباركة هي إحدى رؤاي الأربع لحضرة النبي عليه الصلاة والسلام في محنتي :
"رأيت بحمد الله صحراء مترامية وإبلاً عليها هوادج كأنها صنعت من النور، وفى كل هودج أربعة من الرجال كأنهم أيضا وجوه نورانية ، رأيتني خلف هذا السيل من الإبل في هذه الصحراء المترامية التي لا يحدها البصر، أقف خلف رجل عظيم مهيب وهو يأخذ بخطام امتد في أعناق هذا السيل الجارف من الإبل التي لا يحصى عددها . أخذت أردد في سرى : أتكون حضرة محمد صلى الله عليه وسلم . فإذا به يجيبني : "أنت يا زينب على قدم محمد عبد الله ورسوله " . سألت : "أنا يا سيدي يا رسول الله على قدم محمد عبد الله ورسوله ؟" .
قال عليه الصلاة والسلام : "أنتم يا زينب على الحق ، أنتم يا زينب على الحق ، أنتم يا زينب على قدم محمد عبد الله ورسوله " . وقمت من النوم وكأنني ملكت الوجود بهذه الرؤيا ، وأدهشني – بعد ما نسيت ما أنا فيه وأين أنا – أنى لا أجد ألم السياط ولا الصلبان القريبة من النافذة، فقد نقلت إلى مكان بعيد وأصبحت الأصوات تأتيني عن بعد .
ثاني ما أدهشني أن اسمي في شهادة الميلاد زينب غزالي واسم الشهرة المعروف لدى الناس "زينب الغزالي" والرسول عليه الصلاة والسلام يناديني بأسمى في شهادة الميلاد وفعلا نقلتني الرؤيا عن الزمان والمكان فتيممت ، وأخذت أصلى ركعات شكرا لله على هذا العطاء . وفى إحدى سجداتي وجدتني أقول : "ربى بم أشكرك ؟ إني لا أجد ما أشكرك به إلا أن أجدد بيعتي لك . اللهم إني أبايعك على الشهادة في سبيلك . اللهم أنا أبايعك على ألا يعذب أحد بسببي . اللهم ثبتني على الحق الذي يرضيك وأوقفني في دائرة الحق الذي يرضيك ! " وانتهيت من صلاتي، وأخذت أكرر ما دعوت به في سجودي وكأنني أعيش في عالم غير الذي أنا فيه وأحسست براحة وسكينة واطمئنان قلب . .
وسمعت ضجة شديدة في الخارج وأصوات عربات كثيرة تتزاحم إلى الداخل وأخرى خارجة من الجحيم ، عرفت فيما بعد أن هذا الوقت انتهاء وردية من الزبانية وبدء ورديه أخرى للتعذيب . . وسمعت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فرددت الأذان ثم تيممت وصليت . .
أمضيت على هذه الحال ستة أيام على التوالي من مساء الجمعة 20 أغسطس إلى الخميس 26 أغسطس لا يفتح باب الزنزانة فلا أكل ولا شرب ولا دورة مياه ولا صلة بالخارج ، غير تلصص هذا الشيطان الذي يضع عينه على فتحة باب الزنزانة الصغيرة بين الحين والحين . ولك أن تتصور أيها القارئ العزيز كيف تستطيع أن تعيش هكذا، وإذا استطعت أن تعيش بلا طعام ولا ماء كيف يستغني الإنسان عن قضاء حاجته الضرورية؟ كيف يعيش الإنسان بغير أن يذهب إلى دورة المياه ولو مرة واحدة في اليوم ؟. ولا تنس أننا كنا في شهر أغسطس ! فهل تجيز اليهودية أو الوثنية ذلك ! فما بالك بالذين يدعون أنهم مسلمون . . وهل يفعل ذلك أي كائن ينتمي للجنس ا لبشرى ؟ !
يا الله ! لكم جنى الطغاة المستبدون على كرامة الإنسان ، وتحللوا من كل دين وخلق ، ولكن اليقين بالله واعتقاد الحق ، وأن يرى الإنسان ربه ويعايش أمره كل ذلك قد يصنع شيئا كبيرا فوق طاقة البشر. فلا تدهش أيها القارئ : لأنني استطعت أن أعيش هذه الأيام بغير ماء، أو طعام ، أو قضاء ضرورة، أو صلة بإنسان . اللهم إلا هذه الطرقات من الشيطان الأسود الذي ربما فتح الباب يسأل في غلظة ووحشية : يا بنت الــ . . أنت لسة عايشة؟!. ..
نعم أيها القارئ لقد عشت هذه الأيام بأمرين . .
الأول : هو فضل الله علينا بالإيمان به . إنه الإسلام الذي يمنح صاحبه قوة يغالب بها الصعاب والمشقات أيا كانت هذه الصعاب . إنه فضل الله . فالإيمان يعطى قوة وطاقة احتمال هائلة، تعلو قوة الطواغيت الفجرة الذين ظنوا أنهم فعلا يحكمون . والحق أن المؤمن يعيش متصلا بالله سبحانه . مستغنيا عن الصورة والأغيار .
والأمر الثاني : هو تلك الرؤيا المباركة التي كانت بمثابة تخفيف وزاد ودفعة حياة من الله تعالى، عشت بها مشغولة به عن الأغيار المحيطة بي ، وجعلتني أحتمل في رضا وسكينة جحيم هؤلاء الطواغيت . . وفى صبيحة اليوم السابع فتح باب الزنزانة ودخل الشيطان الأسود وبيده ربع رغيف ملوث بقذارة من فضلات الإنسان وقطعة من الجبن الأصفر كذلك . ورمى بهما إلى الأرض وقال يا بنت الـ . . ده أكلك ما دمت عايشة . لم أمس الخبز ولا الجبن وأخذت الماء وأغمضت عيني لشدة قذارة إنائه وسددت أنفى، ورفعت الماء إلى فمي وأنا أقول : "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم " . "اللهم اجعله غذاءً وريا، وجهادا وعلما، ومعرفة وصبرا ورضا" . وشربت من الكوز وأغلقت الزنزانة . ومكثت على حالي إلى ما قبل غروب الشمس . حين فتحت الزنزانة ودخل الشيطان الأسود . وقال وهو يضرب بالسوط الذي في يده – على الحائط وعلى أرض الزنزانة : قومي يابنت الـ .. روحي المراحيض .. وعندما خرجت كدت أن أسقط على الأرض لشدة إعيائي فأمسك بذراعي ومشى بي حتى أدخلني المرحاض ، ولما أردت اغلاق باب المرحاض قال : ممنوع اغلاقه ، فخرجت من المرحاض وقلت له : أرجعني إلى الزنزانة لا أريد شيئاً . قال في وحشية والجاهلية تغطي عليه وعلى المكان . أدخلي يا بنت الـ . . أمال إحنا حانحرسكم إزاي يا أولاد . . . . أريد من القارئ أن يتصور معي هذا الموقف ؟! أي جاهلية وأي إلحاد يبيح ذلك ؟ . عدت إلى الزنزانة وأنا أتمنى الموت إن كان الموت خيرا لي . حتى لا أضطر مر ة أخرى إلى الذهاب إلى دورة المياه مع هذا الشيطان ، أغلقت الزنزانة فتيممت وصليت المغرب . وما أن انتهيت حتى فتح باب الزنزانة ودخل الوحش الذي أدخلني من قبل حجرة الكلاب ويدعى صفوت الروبي، ومعه شخصان . ثم قال أتفضل يا دكتور. تولى أحدهم الكشف على وأنا على إسفلت الزنزانة . قال واحد من الواقفين للذي يكشف على : إيه يا شعراوي؟ أجاب : لا شيء قلبها سليم . ذلك القلب الذي أصيب بجلطة من التعذيب . وخرجوا وأغلقت الزنزانة . وبعد دقائق فتحت الزنزانة وأخذوني إلى حوش مرعب مظلم مخيف وتركوني ساعتين تقريبا . وجهي للحائط بعد أن أمروني بعدم التحرك . وقالوا لي وهم يغلقون على باب الحوش : أجلك انتهى النهاردة ! يا بنت الــ . . أخذت أفكر فعلا فيما يقولون وأطلب من الله السكينة والأمن وأن ألقاه على الإسلام ، وأخذت أتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة وأنا أحس وكآني أقرأها للمرة الأولى . واصلت بالتلاوة حتى أيقظتني من استغراقي صفعة من يد غليظة قاسية وصعق الكهرباء، وأخذ هذا الوحش يضربني بقسوة بالسوط على جسدي حيثما وقع ، ثم أعطاني ثلاث ورقات بيضاء وقال : والظلمة تتساقط من وجهه كأنما في عينيه شيطان : إكتبى هذه الأوراق ! ودخل ثلاثة رجال يأمرونه أن يعيد ضربي ويعلقون : " حتى لا تنسى أن تكتبي ما نريد يا بنت الــ . . .. " ثم أمروه بعد فترة بإيقاف الضرب وأمسك بي أحدهم في غلظة ورمى بي إلى الحائط . عرفت فيما بعد أنه حمزة البسيوني . وتلقفني آخر، ويدعى سعد خليل فأخذ يهزني هزا عنيفا حتى أسقطني على الأرض وأمر العسكري أن يركلني بقدمه . ثم جاءوا بمقعد أجلسوني عليه وأعطوني الأوراق وأنا لا أستطيع أن أمسكها لشدة ما بي، وقاومت وأمسكتها والألم يعتصرني . وصاح بي أحد هؤلاء الأقزام : اكتبي أسماء كل من تعرفين في السعودية . في السودان . في لبنان ، في الأردن . في أي مكان في العالم . اكتبي كل معارفك على وجه الأرض ، إذا لم تكتبي فسنضربك بالرصاص في هذا المكان الذي تقفين فيه . اكتبي كل معارفك من الإخوان المسلمين وكل شئ عن صلتك بهم . وقدموا لي قلما ثم أغلقوا الباب وخرجوا . وجلست إلى الأوراق وكتبت فيها : إن لي في كثير من البلاد أصدقاء عرفوني عن طريق الدعوة الإسلامية . فحركتنا في الأرض هي لله سبحانه ، والله يسوق إلينا من يختار وجهته وطريقه . الطريق الذي سلكه من قبلنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح . . .
إن غايتنا أن ننشر دعوة الله وندعو للحكم بشرعه . أنني باسم الله أدعوكم أن تتخلوا عن جاهليتكم وتجددوا إسلامكم . وتنطقوا بالشهادتين وتسلموا لله وجوهكم ، وتتوبوا إلى الله من هذه الظلمة التي رانت على قلوبكم فأغلقتها في وجه كل خير، لعل الله يخرجكم من ظلمة الجاهلية إلى نور الإسلام . وبلغوا ذلك لرئيس جمهوريتكم لعله يتوب ويستغفر ويعود للإسلام ، ويخلع عن نفسه أطمار الجاهلية . فان أبى فانتم مسئولون عن أنفسكم وعن الطريق الذي اخترتموه . وأشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا عبد لله ورسوله . اللهم اشهد أنى قد بلغت دعوتك ، فان تابوا فتب عليهم . اللهم وتب علينا فانك أنت العزيز الحكيم . وثبت أقدامنا على الطريق وامنحنا الشهادة في سبيلك عطاء منك وفضلا . .
كتبت ذلك مستعينة بالله واثقة أنى أديت رسالة الله . وعدت إلى تلاوتي، وجاء المدعو صفوت الروبي فاخذ الأوراق وتركني في هذا المكان المرعب بعد أن أطفأ النور . ولم تمض فترة حتى فتح باب الحوش وأوقدت الكهرباء ودخل أربعة جنود ومعهم صفوت يصيح بكل ما في قاموسه البشع من ألفاظ السباب والشتائم . يا بنت الــ . . و . . و . . إحنا بنهزر؟ إيه الكلام الفارغ اللي أنت كاتباه ده ؟ .
ثم صاح قائلا : انتباه ! ! حمزة باشا البسيوني ، مدير عام السجون الحربية . ودخل مدير عام السجون الحربية تسبقه كلمات يقذف بها ، لا تساويها في سفالتها أي كلمة أو لفظة سمعتها من قبل ، على قذارة ما سمعت . أخذت أنظر إليه باحتقار شديد وازدراء . وكانت في أيديهم أوراق قالوا كذبا إنها الأوراق التي كتبتها ومزقها أحدهم وهم يعيدون ما قاله صفوت من أنهم لا يهزلون وأنهم يستنكرون الكلام الفارغ الذي كتبته . وقال البسيوني : خذوها. دي ما فيش فايدة فيها . ثم خرج ، إلا أنه لم يلبث أن عاد صفوت ومعه جند طرحوني أرضا بقسوة ووحشية ولا أدري كيف وضعوا يدي ورجلي في قيد وعلقوني على خشبة كما يعلق الجزار ذبيحته وجلدت وحشيا من أناس تمرنوا وتمرسوا في الجريمة . كنت أردد اسم الله تعالى حتى أغمى على . أفقت فوجدت نفسي على نقالة مثل نقالة المستشفيات . كنت عاجزة عن الحركة والكلام . غير أنى كنت أحس بما يقع . وذهبوا بي إلى الزنزانة . ولما أفقت من إغمائي وجدت نفسي مصابة بنزيف شديد. طرقت الباب أستغيث بأن يسعفوني بشيء أجفف به الدماء المتدفقة. وطلبت الطبيب فجاء الجواب سبابا ولعنات . وعدت إلى ربى أساله - وهو الذي بيده كل شئ - أن يرفع عنى ما بي . وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب ا ودعوت الله أن يوقف الدم . واستجاب الله دعائي كرما وفضلا . غير أنى ظللت أقاسي من آلام شديدة بجسدي كله . ناهيك عن قدمي كان بهما نارا موقدة . ولجأت إلى ذكر الله والصلاة له ، أروض نفسي بالانصراف إليه على احتمال ما بي . ومرت ليال قاسية وأنا على هذه الحال : آلام مبرحة ولا طبيب ولا علاج إلا هذا الشيطان الأسود الذي يفتح الباب مرة كل يوم ليرمى بقطعة من الخبز وأخرى من الجبن . وكما يضع هذا الشيء يأخذه فقد كنت لا أطيق رائحة ما يقدمونه من طعام .
جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
ولكن الله ألف بينهم . .

وفى يوم أحسست بمن يجذبني إلى باب الزنزانة . كان صوت أقدام أحسست أن قلبي ينجذب إليها . وأمسكت بباب الزنزانة ووضعت عيني عالي الثقب الذي يراقبونني منه بين الحين والحين . ورأيت صاحب هذه الخطى . كان الإمام حسن الهضيبي المرشد العام . وأدركت أنهم قبضوا عليه . ووضعت فمي على الثقب وقرأت قوله تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) آل عمران : 139 - 140 . وصرت أترقب هذه الخطى الغالية . وكان الله يرزقني رؤيته كل يوم . فكنت أقف وأردد الآية ويجيب بإيماءة خفيفة لا يلحظها الشيطان الذي يرافقه . كان هذا اللقاء يؤنسني كثيرا ويشغلني عن جل آلامي. وهذا أمر لا يحس بجلاله غير المؤمنين المتآخين في الله . فالإسلام يربط بين قيادته وجنده برباط يعلو بالنفوس حتى تؤثر مرضاة الله على نفسها . وعشت يغمرني الاطمئنان بذلك .
جيـــان
جيـــان
الباب الثالث
عودة إلى دوامة التعذيب والمساومة


لم يطل بي الاطمئنان . فذات مساء فتحت الزنزانة وفاجأني الشيطان صفوت بالسوط يضرب به كل شيء ويضرب به الحائط . ثم أخذني بوحشية من ذراعي وأخرجني من الزنزانة إلى حوش السجن . فإلى مكتب يواجه السجن رقم (2)، وأجلسني على مقعد تجاه مكتب وتركني وخرج ، وما لبث أن جاء شيطان آخر سألني عما إذا كنت زينب الغزالي ولما أجبت بالإيجاب خرج كما دخل . وبعد فترة دخل ثلاثة جنود كأنهم خارجون لتوهم من جهنم . طول أجسامهم مرعب وعرض أجسامهم كذلك . وجوههم تعكس غلظة قلوبهم . وبعدهم بقليل دخل رجل فسألهم عما إذا كانوا قد عرفوني ورأوني ، وأجابوا بنفس واحد بالإيجاب ، وقالوا بأن موعد موتى قد حل . ثم خرجوا ليعودوا بالأخ فاروق المنشاوي فيجلدوه بعد أن قيدوه وصلبوه على عود من الخشب . وبين الجلدة والجلدة كانوا يسألونه عن عدد المرات التي زارني فيها . ويطلبون منه أن يسبني فيرفض فيزيدونه جلدا، وأنا أتمزق مما أرى وأسمع حتى طرحوه أرضا واعتقدت أنه يحتضر . ولكن إرادة الله شاءت له أن يعيش وبحاكم ليحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة . يدعو في السجن للإسلام وللحق الذي آمن به حتى امتدت إليه يد آثمة وبتعليمات من عبد الناصر لتقتله في سجن ليمان طره فيفوز بالشهادة . ولم يكتف الآثمون بجلد الأخ فاروق ، بل أتوا بأخ آخر علقوه على أعوادهم وأعادوا عليه ما سألوا فاروق عنه ورفض الأخ كما رفض أخوه من قبل . واشتد العذاب وتعب الشاب وظنوا أنه يموت . فأنزلوه أرضا ورفعوه على نقالة وانصرفوا به لا يدرى أحد إلى أين . . . ويبدو أنهم اعتقدوا أن ما رأيت وما سمعت . . سيدفعني إلى بعض ما يريدون فأرسلوا لي رجلا يتصنع أنه من أهل النصيحة والخير. حياني وقدم لي نفسه على أنه عمر عيسى وكيل النيابة (وعرفت فيما بعد أنه أحد شياطينهم ). ثم بدأ نصيحته قائلا : أنا يا حاجة زينب أريد أن أتفاهم معك لأنقذك من بين أنياب وبراثن هذه البلاوي . كيف ترمين بنفسك في هذا "القرف " وأنت زينب الغزالي . المحترمة المصونة . شوفي الإخوان المسلمين ، كلهم بمن فيهم الهضيبي اعترفوا بكل شيء.
وقالوا عنك كلاما يحكم عليك بالإعدام . حموا أنفسهم ورموك أنت . أنا رأيي يا حاجة أن تدركي نفسك قبل فوات الأوان وتقولي الحقيقة وتقولي لنا : ماذا كان هؤلاء ينوون فعله ، وتوضحي موقفك وأنا متأكد إن موقفك سليم .
وصمت ولم أجبه . قال : "جاوبي يا ست زينب في هدوء وروية . نحن نريد أن نصل إلى الحقيقة". فأجبت : أعتقد أن الإخوان المسلمين وأنا معهم ومنهم لم نفعل شيئا يغضب البشر السوي المدرك للحقيقة . ماذا فعلنا؟ كنا نعلم الناس الإسلام فهل في هذا جريمة؟.
وصمت فقال : " لكن أقوالهم تثبت أنهم كانوا يتآمرون على حاجات كثير منها قتل جمال عبد الناصر وتخريب البلد، وأنك أنت اللي كنت تحرضينه على ذلك . وأنا وكيل نيابة ليس لي مصلحة إلا الوصول للحقيقة. فما رأيك بعد هذا؟" .
قلت : ليس من أهداف الإخوان المسلمين قتل عبد الناصر أو غيره أو تخريب البلد، الذي خرب البلد فعلا هو جمال عبد الناصر. إن غايتنا اكبر من ذلك . إنها الحقيقة الكبرى قضية التوحيد في الأرض ، توحيد الله ، عبادة الله وحده ، إقامة القرآن والسنة . إنها قضية ( إن الحكم إلا لله ) الأنعام : 57 وعندما نحقق غايتنا إن شاء الله ستهدم هياكلهم وتنتهي أسطورتهم . إن أهدافنا الإصلاح لا التخريب . البناء لا الهدم ". فابتسم ابتسامة باهتة وقال : "يعنى فعلا أنتم تتآمرون على عبد الناصر وحكمه . هذا ثابت من أقوالك يا ست زينب ". قلت : "الإسلام لا يعرف لغة التآمر، ولكن يجابه الباطل بالحق ويوضح للناس الطريقين : طريق الله تعالى وطريق الشيطان " . الذين يسلكون طريق الشيطان مرضى بؤساء نقدم لهم الدواء في إشفاق وعطف والدواء في أيدينا : دعوة الله ، دين الله ، شريعة الله ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) الإسراء : 182 . وانقلب وجه الشيطان الذي كان يدعى أنه وكيل النيابة، والحق أنه كان سعد عبد الكريم . وخرج وهو يقول : أنا أردت أن أخدمك . ولكن يظهر أنك مازلت مخدوعة بما صوره لك الإخوان المسلمون . . وجاء صفوت الروبي فأوقفني ووضع وجهي إلى الحائط وتركني ساعات أتمزق بما أسمع من تعذيب الإخوان ، وجلدهم واحدا بعد الآخر، يحضرني من أسمائهم : مرسى مصطفى . فاروق الصاوي . طاهر عبد العزيز سالم . وعاد كيل النيابة المزعوم ومعه حمزة البسيوني وصفوت الروبي . وقال حمزة : لماذا لا تريدين أن تتفاهمي مع وكيل النيابة؟ نحن نريد أن نخلصك من الورطة التي أنت فيها . أنا أعرف زوجك . هو رجل طيب وأنت حا توديه في داهية! ! حسن الهضيبي قال كل حاجة . والإخوان قالوا كل حاجة . وأنت لم لا تخلصين نفسك مثلهم ؟. قلت : صحيح ! الإخوان قالوا كل حاجة ولذا تجلدونهم وتصلبونهم على الخشب . أنا لا اكذب على الإخوان ولا على نفسي. . نحن مسلمون ونعمل للإسلام وهذا هو عملنا !!
كان يقف خلفهم أربعة من زبانيتها يضربون بسياطهم الأرض التي كانوا يجلدون عليها الإخوان .
نظرت إلى وكيل النيابة المزعوم وقلت : وهذه السياط يا وكيل النيابة؟ هل هي من مواد القانون في كلية الحقوق ؟ وضربني حمزة البسيوني على وجهي وهو يقول : هو أنت يا بنت الــ. . . . . حا تجننينا! أنا اقدر أدفنك زي ما با دفن عشرة كل يوم منكم ! فنظرت ثانية لوكيل النيابة المزعوم وقلت له : لماذا لا تكتب هذا الكلام في محضرك ؟ إذا كان معك محضر ! ! فنظر إلى حمزة البسيوني وقال : خلاص تصرفوا أنتم ، أنا كنت أريد أن أخدمها لكن هي لا تريد. وكانت هذه الكلمة بمثابة أمر لصفوت وزبانيته الذين يضربون الأرض والحائط بالسياط ، وتحولت السياط إلى جسدي فأغمضت عيني خوفا من أن يصيبها السوط ، وظلت السياط نازلة على جسدي بوحشية ، وأنا أشكو إلى الله وكنت كلما اشتد الألم رفعت صوتي قائلة : يا رب ! يا الله ! وتركوني بعد أن ألصق صفوت جسدي بالحائط ورفع يدي إلى أعلى وأنا أردد يا لطيف ! يا الله . أنزل بي عونك ! ألبسني سكينتك ! ! بعد ساعات جاء صفوت ومعه شيطان أسود يدعى سامبو . ضربوني على وجهي عدة ضربات وأخذوني إلى الزنزانة وأغلقوها . بعد دقائق من إغلاق الزنزانة سمعت آذان الفجر فصليت ودعوت الله : "إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل على سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك "!!