مشاء الله تبارك الله
أختي الوردة القرمزية
سدد على طريق الخير خطاك
ثابري ونحن معك
وفقك الله لما فيه صلاح دينك ودنياك

أختـي ضـوء النهـار...
أشـكرك حقـاً علـى كلماتـك اللطيفـة ودعـاؤك الصـادق...
يسـرني مـرور صديقـة جديـدة...
وبـإذن الله سـأسـتمر معكـن أخواتـي...
*******************************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( ولقَـد علمتُـمُ الذيـنَ اعتـدوا مِنكُـم فـي السَّـبتِ فقلنـا لهُـم كونُـوا قِـردةً خاسِـئينَ " فجعلناهـا نَكَـالاً لِمَـا بَيـنَ يَديهـا ومَـا خَلفهَـا ومَوعِظَـةً لِلمتّقيـنَ )) / 66 /
يقـول تعالـى: (( ولقـد علمتـم )) يـا معشـر اليهـود مـا أحـل مـن البـأس بأهـل القريـة، التـي عصـت أمـر الله وخالفـوا عهـده وميثاقـه، فيمـا أخـذه عليهـم مـن تعظيـم السـبت والقيـام بأمـره، إذ كـان مشـروعاً لهـم فتحيلـوا علـى اصطيـاد الحيتـان فـي يـوم السـبت بمـا وضعـوا لهـا مـن الحبائـل والبـرك قبـل يـوم السـبت فلمـا جـاءت يـوم السـبت علـى عادتهـا فـي الكثـرة نشـبت بتلـك الحبائـل والحيـل فلـم تخلـص منهـا يومهـا ذلـك، فلمـا كـان الليـل أخذوهـا بعـد انقضـاء السـبت، فلمـا فعلـوا ذلـك مسـخهم الله إلـى صـورة القـردة وهـي أشـبه شـيء بالأناسـي فـي الشـكل الظاهـر وليسـت بإنسـان حقيقـة، فكذلـك أعمـال هـؤلاء وحيلهـم لمـا كانـت مشـابهة للحـق فـي الظاهـر ومخالفـة لـه فـي الباطـن، كـان جزاؤهـم مـن جنـس عملهـم.
وهـذه القصـة مبسـوطة فـي سـورة الأعـراف حيـث يقـول الله تعالـى: (( واسـألهم عـن القريـة التـي كانـت حاضـرة البحـر إذ يعـدون فـي السـبت إذ تأتيهـم حيتانهـم يـوم سـبتهم شُـرَّعاً ويـوم لا يسـبتون لا تأتيهـم كذلـك نبلوهـم بمـا كانـوا يفسـقون )) القصـة بكاملهـا.
وقـال السـدي: أهـل هـذه القريـة هـم أهـل أيلـة.
وقولـه تعالـى: (( فقلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )).
قـال مجاهـد: مسـخت قلوبهـم ولـم يمسـخوا قـردة، وإنمـا هـو مثـل ضربـه الله (( كمثـل الحمـار يحمـل أسـفاراً )) وهـذا سـند جيـد عـن مجاهـد، ، وقـولٌ غريـب خـلاف الظاهـر مـن السـياق فـي هـذا المقـام، وفـي غيـره قـال تعالـى: (( قـل هـل أنبئكـم بشـرٍّ مـن ذلـك مثوبـة عنـد الله مـن لعنـه الله وغضـب عليـه وجعـل منهـم القـردة والخنازيـر وعبـد الطاغـوت )) الآيـة.
وقـال ابـن عبـاس (( فقلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )) : فجعـل الله منهـم القـردة والخنازيـر، فزعـم أن شـباب القـوم صـاروا قـردة وأن الشـيخة صـاروا خنازيـر.
وقـال شـيبان عـن قتـادة: (( فقلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )) فصـار القـوم قـردة تعـاوى، لهـا أذنـاب بعدمـا كانـوا رجـالاً ونسـاء.
وقـال عطـاء الخرسـاني: نـودوا يـا أهـل القريـة (( كونـوا قـردة خاسـئين )) فجعـل الذيـن نهوهـم يدخلـون عليهـم فيقولـون يـا فـلان، يـا فـلان ألـم ننهكـم ؟ فيقولـون برؤوسـهم أي بلـى.
وقـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: فمسـخهم الله قـردة بمعصيتهـم، يقـول: إذ لا يحيـون فـي الأرض إلا ثلاثـة أيـام، قـال: ولـم يعـش مسـخ قـط فـوق ثلاثـة أيـام ولـم يأكـل ولـم يشـرب ولـم ينسـل، وقـد خلـق الله القـردة والخنازيـر وسـائر الخلـق فـي السـتة الأيـام التـي ذكرهـا الله فـي كتابـه، فمسـخ هـؤلاء القـوم فـي صـورة القـردة وكذلـك يفعـل بمـن يشـاء كمـا يشـاء، ويحولـه كمـا يشـاء (( خاسـئين )) يعنـي أذلـة صاغريـن.
وقـال السـدي فـي قولـه تعالـى: (( ولقـد علمتـم الذيـن اعتـدوا منكـم فـي السـبت فقلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )) قـال: هـم أهـل أيلـة، وهـي القريـة التـي كانـت حاضـرة البحـر، فكانـت الحيتـان إذا كـان يـوم السـبت، وقـد حـرم الله علـى اليهـود أن يعملـوا فـي السـبت شـيئاً، لـم يبقـى فـي البحـر حـوت إلا خـرج حتـى يخرجـن خراطيمهـن مـن المـاء، فـإذا كـان يـوم الأحـد لَزِمـنَ سُـفلَ البحـر فلـم يـرى منهـن شـيء حتـى يكـون يـوم السـبت فذلـك قولـه تعالـى: (( واسـألهم عـن القريـة التـي كانـت حاضـرة البحـر إذ يعـدون فـي السـبت إذ تأتيهـم حيتانهـم يـوم سـبتهم شـرعاً ويـوم لا يسـبتون لا تأتيهـم )) فاشـتهى بعضهـم السـمك فجعـل الرجـل يحفـر الحفيـرة ويجعـل لهـا نهـراً إلـى البحـر، فـإذا كـان يـوم السـبت فتـح النهـر، فأقبـل المـوج بالحيتـان يضربهـا حتـى يلقيهـا فـي الحفيـرة، فيريـد الحـوت أن يخـرج فـلا يطيـق مـن أجـل قلـة مـاء النهـر فيمكـث فيهـا، فـإذا كـان يـوم الأحـد جـاء فأخـذه فجعـل الرجـل يشـوي السـمك فيجـد جـاره روائحـه فيسـأله فيخبـره فيصنـع مثـل مـا صنـع جـاره حتـى فشـا فيهـم أكـل السـمك، فقـال لهـم علماؤهـم: وَيْحَكُـم إنمـا تصطـادون يـوم السـبت وهـو لا يحـلّ لكـم، فقالـوا: إنمـا صدنـاه يـوم الأحـد حيـن أخذنـاه، فقـال الفقهـاء: لا، ولكنكـم صدتمـوه يـوم فتحتـم لـه المـاء فدخـل، قـال: وغلبـوا أن ينتهـوا، فقـال بعـض الذيـن نهوهـم لبعـض: (( لـم تعظـون قومـاً الله مهلكهـم أو معذبهـم عذابـاً شـديداً )) يقـول: لـم تعظوهـم وقـد وعظتموهـم فلـم يطيعوكـم، فقـال بعضهـم: (( معـذرة إلـى ربكـم ولعلهـم يتقـون )) ، فلمـا أبَـوا قـال المسـلمون: والله لا نسـاكنكم فـي قريـة واحـدة، فقسـموا القريـة بجـدار، ففتـح المسـلمون بابـاً والمعتـدون فـي السـبت بابـاً ولعنهـم داود عليـه السـلام، فجعـل المسـلمون يخرجـون مـن بابهـم، والكفـار مـن بابهـم، فخـرج المسـلمون ذات يـوم ولـم يفتـح الكفـار بابهـم، فلمـا أبطـأوا عليهـم تسـوّر المسـلمون عليهـم الحائـط، فـإذا هـم قـردة يثـب بعضهـم علـى البعـض ففتحـوا عنهـم فذهبـوا فـي الأرض، فذلـك قـول الله تعالـى: (( فلمـا عتـوا عمّـا نهـوا عنـه قلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )) ، وذلـك حيـن يقـول: (( لعـن الذيـن كفـروا مـن بنـي إسـرائيل علـى لسـان داود وعيسـى بـن مريـم )) الآيـة، فهـم قـردة.
( قلـت ) والغـرض مـن هـذا السـياق عـن هـؤلاء الأئمـة بيـان خـلاف مـا ذهـب إليـه مجاهـد رحمـه الله مـن أن مسـخهم إنمـا كـان ( معنويـاً ) لا ( صوريـاً ) ، بـل الصحيـح أنـه معنـوي صـوري، والله تعالـى أعلـم.
وقولـه تعالـى: (( فجعلناهـا نكـالاً )) قـال بعضهـم: الضميـر فـي ( فجعلناهـا ) عائـد إلـى القـردة، وقيـل علـى ( الحيتـان ) ، وقيـل علـى ( العقوبـة ) ، وقيـل علـى ( القريـة ) حكاهـا ابـن جريـر.
والصحيـح أن الضميـر عائـد علـى القريـة، أي فجعـل الله هـذه القريـة والمـراد أهلهـا بسـبب اعتدائهـم فـي سـبتهم ( نكـالاً ) أي عاقبناهـم عقوبـة فجعلناهـا عبـرة كمـا قـال الله عـن فرعـون: (( فأخـذه الله نكـال الآخـرة والأولـى )) .
وقولـه تعالـى: (( لمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا )) أي مـن القـرى.
قـال ابـن عبـاس: يعنـي جعلناهـا بمـا أحللنـا بهـا مـن العقوبـة عبـرةً لمـا حولهـا مـن القـرى كمـا قـال تعالـى: (( ولقـد أهلكنـا مـا حولكـم مـن القـرى وصرفنـا الآيـات لعلهـم يرجعـون )) ، فالمـراد لمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا فـي المكـان.
كمـا قـال عكرمـة عـن ابـن عبـاس: ( لمـا بيـن يديهـا ) مـن القـرى ( ومـا خلفهـا ) مـن القـرى.
وقـال أبـو العاليـة: ( ومـا خلفهـا ) لمـا بقـي بعدهـا مـن النـاس مـن بنـي إسـرائيل أن يعملـوا مثـل عملهـم.
وكـأن هـؤلاء يقولـون المـراد (( لمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا )) فـي الزمـان ، وهـذا مسـتقيم بالنسـبة إلـى مـن يأتـي بعدهـم مـن النـاس أن تكـون أهـل تلـك القريـة عبـرة لهـم، وأمـا بالنسـبة إلـى مـن سـلف قبلهـم مـن النـاس، فكيـف يصـح هـذا الكـلام أن تفسـر الآيـة بـه وهـو أن يكـون عبـرة لمـن سـبقهم ؟ فتعيـن أن المـراد فـي المكـان وهـو مـا حولهـا مـن القـرى كمـا قـال ابـن عبـاس وسـعيد بـن جبيـر، والله أعلـم.
وقـال أبـو جعفـر الـرازي عـن أبـي العاليـة: (( فجعلناهـا نكـالاً لمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا )) أي عقوبـة لمـا خـلا مـن ذنوبهـم.
وقـال ابـن أبـي حاتـم: وروي عـن عكرمـة ومجاهـد: (( لمـا بيـن يديهـا )) مـن ذنـوب القـوم. (( ومـا خلفهـا )) لمـن يعمـل بعدهـا تلـك الذنـوب.
وحكـى الـرازي ثلاثـة أقـوال...
أحدهـا: أن المـراد بمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا مـن تقدمهـا مـن القـرى بمـا عندهـم مـن العلـم يخبرهـا بالكتـب المتقدمـة ومـن بعدهـا.
والثانـي: المـراد بذلـك مـن بحضرتهـا مـن القـرى والأمـم.
والثالـث: أنـه تعالـى جعلهـا عقوبـة لجميـع مـا ارتكبـوه مـن قبـل هـذا الفعـل ومـا بعـده وهـو قـول الحسـن.
( قلـت ) وأرجـح الأقـوال المـراد بمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا مـن بحضرتهـا مـن القـرى يبلغهـم خبرهـا ومـا حـل بهـا كمـا قـال تعالـى: (( ولقـد أهلكنـا مـا حولكـم مـن القـرى )) الآيـة، وقـال تعالـى: (( ولا يـزال الذيـن كفـروا تصيبهـم بمـا صنعـوا قارعـة )) الآيـة، وقـال تعالـى: (( أفـلا يـرون أنـا نأتـي الأرض ننقصهـا مـن أطرافهـا )) فجعلهـم عبـرة ونكـالاً لمـن فـي زمانهـا وموعظـة لمـن يأتـي بعدهـا بالخبـر المتواتـر عنهـم، ولهـذا قـال: (( وموعظـة للمتقيـن )) الذيـن مـن بعدهـم إلـى يـوم القيامـة.
قـال الحسـن : فيتقـون نقمـة الله ويحذرونهـا .
وقـال السـدي : أمـة محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
( قلـت ) والمـراد بالموعظـة ههنـا الزاجـر، أي جعلنـا مـا أحللنـا بهـؤلاء مـن البـأس والنكـال فـي مقابلـة مـا ارتكبـوه مـن محـارم الله ومـا تحيلـوا بـه مـن الحيـل، فليحـذر المتقـون صنيعهـم لئـلا يصيبهـم مـا أصابهـم كمـا روي عـن أبـي هريـرة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لا ترتكبـوا مـا ارتكبـت اليهـود فتسـتحلوا محـارم الله بأدنـى الحيـل }} وهـذا إسـناد جيـد، والله أعلـم.
(( وإذ قـالَ موسـى لِقومِـهِ إِنَّ اللهَ يأمركُـم أن تذبحـوا بقـرةً قالـوا أتتَّخِـذُنَا هُـزُواً قـالَ أعُـوذُ ِباللهِ أن أكُـونَ مِـنَ الجاهِليـنَ )) / 67 /
يقـول تعالـى: واذكـروا يـا بنـي إسـرائيـل نعمتـي عليكـم فـي خـرق العـادة لكـم فـي شـأن البقـرة، وبيـان القاتـل مـن هـو بسـببها، وأحيـاء الله المقتـول ونصـه علـى مـن قتلـه منهـم.
( ذكــر بســط القـصـة )
عـن عبيـدة السـلماني، قـال: كـان رجـل مـن بنـي إسـرائيل عقيمـاً لا يولـد لـه، وكـان لـه مـال كثيـر، وكـان ابـن أخيـه وارثـه، فقتلـه ثـم احتملـه فوضعـه علـى بـاب رجـل منهـم، ثـم أصبـح يدعيـه عليهـم حتـى تسـلحوا وركـب بعضهـم علـى بعـض، فقـال ذوو الـرأي منهـم والنهـي: عـلام يقتـل بعضكـم بعضـاًُ وهـذا رسـول الله فيكـم ؟
فأتـوا موسـى عليـه السـلام فذكـروا ذلـك لـه، فقـال: (( إن الله يأمركـم أن تذبحـوا بقـرة قالـوا أتتخذنـا هـزواً قـال أعـوذ بالله أن أكـون مـن الجاهليـن )) .
قـال: فلـو لـم يعترضـوا لأجـزأت عنهـم أدنـى بقـرة ولكنهـم شـددوا فشـدد الله عليهـم حتـى انتهـوا إلـى البقـرة التـي أُمـروا بذبحهـا.
فوجدوهـا عنـد رجـل ليـس لـه بقـرة غيرهـا، فقـال: والله لا أنقصهـا مـن مـلء جلدهـا ذهبـاً، فأخذوهـا بمـلء جلدهـا ذهبـاً، فذبحوهـا فضربـوه ببعضهـا فقـام، قالـوا: مـن قتلـك ؟ فقـال: هـذا _ لابـن أخيـه _ ثـم مـال ميتـاً، فلـم يعـطَ مـن مالـه شـيئاً فلـم يـورث قاتـل بعـد.
وقولـه تعالـى: (( إنهـا بقـرة لا فـارض لهـا )) يعنـي لا هرمـة .
(( ولا بكـر )) يعنـي ولا صغيـرة .
(( عـوان بيـن ذلـك )) أي نصـف بيـن البكـر والهرمـة .
(( قـال ادعـوا لنـا ربـك يبيـن لنـا مـا لونهـا قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة صفـراء فاقـع لونهـا )) أي صـاف لونهـا.
(( تسـر الناظريـن )) أي تعجـب الناظريـن .
(( قالـوا ادع لنـا ربـك يبيـن لنـا مـا هـي إن البقـر تشـابه علينـا وإنـا إن شـاء الله لمهتـدون . قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة لا ذلـول )) أي لـم يذللهـا العمـل.
(( تثيـر الأرض ولا تسـقي الحـرث )) يعنـي وليسـت بذلـول تثيـر الأرض، ولا تسـقي الحـرث، يعنـي ولا تعمـل فـي الحـرث.
(( مسـلَّمة )) يعنـي مسـلمة مـن العيـوب .
(( لا شـية فيهـا )) يقـول لا بيـاض فيهـا .
(( قالـوا الآن جئـت بالحـق فذبحوهـا ومـا كانـوا يفعلـون )) .
ولـو أن القـوم حيـن أمـروا بذبـح بقـرة، اسـتعرضوا بقـرة مـن البقـر فذبحوهـا لكانـت إياهـا، ولكـن شـددوا علـى أنفسـهم فشـدد الله عليهـم، ولـولا أن القـوم اسـتثنوا فقالـوا: (( وإنـا إن شـاء الله لمهتـدون )) لمـا هُـدوا إليهـا أبـداً.
وقـال السـدي (( وإذ قـال موسـى لقومـه إن الله يأمركـم أن تذبحـوا بقـرة )) قـال: كـان رجـل مـن بنـي إسـرائيل مكثـراً مـن المـال فكانـت لـه ابنـة وكـان لـه ابـن أخ محتـاج فخطـب إليـه ابـن أخيـه فأبـى أن يزوجـه، فغضـب الفتـى وقـال والله لأقتلـن عمـي ولآخـذن مالـه، ولأنكحـن ابنتـه ولآكلـن ديتـه، فأتـاه الفتـى _ وقـد قـدم تجـار فـي بعـض أسـباط بنـي إسـرائيل _ فقـال يـا عـم انطلـق معـي فخـذ لـي مـن تجـارة هـؤلاء القـوم لعلّـي أن أصيـب منهـا فإنهـم إذا رأوك معـي أعطونـي، فخـرج العـم مـع الفتـى ليـلاً، فلمـا بلـغ الشـيخ ذلـك السـبط قتلـه الفتـى ثـم رجـع إلـى أهلـه، فلمـا أصبـح جـاء كأنـه يطلـب عمـه كأنـه لا يـدري أيـن هـو فلـم يجـده، فانطلـق نحـوه، فـإذا هـو بذلـك السـبط مجتمعيـن عليـه فأخذهـم، وقـال: قتلتـم عمـي فـأدوا إلـيَّ ديتَـه، فجعـل يبكـي ويجثـو التـراب علـى رأسـه وينـادي: واعمّـاه، فرفعهـم إلـى موسـى فقضـى عليهـم بالديـة، فقالـوا لـه: يـا رسـول الله ادع لنـا ربـك مـن صاحبـه فيؤخـذ صاحـب القضيـة، فـوالله إن ديتـه علينـا لهينـة، ولكـن نسـتحي أن نعيَّـر بـه فذلـك حيـن يقـول تعالـى: (( وإذ قتلتـم نفسـاً فادارأتـم فيهـا والله مخـرج مـا كنتـم تكتمـون )) ، فقـال لهـم موسـى: (( إن الله يأمركـم أن تذبحـوا بقـرة )) ، وقالـوا: نسـألك عـن القتيـل وعمـن قتلـه وتقـول اذبحـوا بقـرة أتهـزأ بنـا ؟ (( قـال أعـوذ بالله أن أكـون مـن الجاهليـن )) .
قـال ابـن عبـاس: فلـوا اعترضـوا بقـرة فذبحوهـا لأجـزأت عنهـم، ولكـن شـدّدوا وتعنَّتـوا علـى موسـى فشـدد الله عليهـم. والفـارض الهرمـة التـي لا تولـد، والبكـر التـي لـم تلـد إلا ولـداً واحـداً، والعـوان النصـف بيـن ذلـك التـي قـد ولـدت وولـد لهـا ولـد ولدهـا.
(( فافعلـوا مـا تؤمـرون . قالـوا ادع لنـا ربـك بيـن لنـا مـا لونهـا قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة صفـراء فاقـع لونهـا )) قـال نقـي لونهـا.
(( تسـر الناظريـن )) قـال تعجـب الناظريـن .
(( قالـوا ادع لنـا ربـك يبيـن لنـا مـا هـي إن البقـر تشـابه علينـا وإنـا إن شـاء الله لمهتـدون . قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة لا ذلـول تثيـر الأرض ولا تسـقي الحـرث مسـلَّمة لا شـية فيهـا )) مـن بيـاض ولا سـواد ولا حمـرة .
(( قالـوا الآن جئـت بالحـق )) فطلبوهـا _ مـن صاحبهـا _ وأعطـوا وزنهـا ذهبـاً فأبـى فأضعفـوه لـه حتـى أعطـوه وزنهـا عشـر مـرات ذهبـاً فبايعهـم إيّاهـا وأخـذ ثمنهـا فذبحوهـا، قـال: اضربـوه ببعضهـا فضربـوه بالبضعـة التـي بيـن الكتفيـن فعـاش فسـألوه مَـن قتلـك فقـال لهـم ابـن أخـي، قـال: أقتلـه فآخـذ مالـه وأنكـح ابنتـه، فأخـذوا الغـلام فقتلـوه.
(( قالـوا ادعُ لنـا ربَّـكَ يُبيِّـنُ لنـا مـا هِـيَ قـالَ إنَّـهُ يقـولُ إنَّهـا بقَـرةٌ لا فـارِضٌ ولا بِكـر عَـوانٌ بيـنَ ذلِـك فافعلـوا مـا تؤمَـرونَ " قالـوا ادعُ لنـا ربَّـك يبيِّـنُ لنـا مـا لونُهـا قـالَ إِنَّـهُ يقـولُ إِنَّهـا بقَـرةٌ صفـراءُ فاقِـعٌ لونُهـا تسُّـر الناظِريـنَ " قالـوا ادعُ لنـا ربَّـكَ يُبيَّـنُ لنـا مـا هِـيَ إِنَّ البقَـرَ تشـابَهَ علينـا وإِنّـا إِن شـاءَ اللهُ لمُهتَـدونَ " قـالَ إِنّـهُ يقـولُ إِنّهـا بقَـرةٌ لا ذلـولٌ تثيـر الأرضَ ولا تسـقي الحَـرثَ مُسـلَّمةٌ لا شِـيةَ فيهـا قالـوا الآن جِئـتَ بِالحـقِّّ فَذَبَحوهـا ومـا كـادوا يفعلـونَ )) / 71 /
أخبـر تعالـى عـن تعنـت بنـي إسـرائيل وكثـرة سـؤالهم لرسـولهم ولهـذا لمـا ضيقـوا علـى أنفسـهم ضيـق الله عليهـم ولـو أنهـم ذبحـوا أي بقـرة كانـت لوقعـت الموقـع عنهـم ولكنهـم شـددوا فشـدد عليهـم، فقالـوا: (( ادع لنـا ربـك يبيـن لنـا مـا هـي )) أي مـا هـذه البقـرة ؟ وأي شـيء صفتهـا ؟
قـال ابـن جريـر عـن ابـن عبـاس: ( لـو أخـذوا أدنـى بقـرة لاكتفـوا بهـا ولكنهـم شـددوا فشـدد عليهـم ) .
قـال: (( إنـه يقـول إنهـا بقـرة لا فـارض ولا بكـر )) أي لا كبيـرة هرمـة ولا صغيـرة لـم يلحقهـا الفحـل.
وقـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: (( عـوان بيـن ذلـك )) يقـول نصـف بيـن الكبيـرة والصغيـرة، وهـي أقـوى مـا يكـون مـن الـدواب والبقـر وأحسـن مـا تكـون.
وقـال سـعيد بـن جبيـر: (( فاقـع لونهـا )) صافيـة اللـون.
وقـال العوفـي عـن ابـن عبـاس: (( فاقـع لونهـا )) شـديدة الصفـرة تكـاد مـن صفرتهـا تبيـض.
وقـال السـدي: (( تسـر الناظريـن )) أي تعجـب الناظريـن.
وقولـه تعالـى: (( إن البقـر تشـابه علينـا )) أي لكثرتهـا فميـز لنـا هـذه البقـرة وصفهـا وحلهـا لنـا.
(( وإنـا إن شـاء الله )) إذ بينتهـا لنـا، (( لمهتـدون )) إليهـا .
عـن أبـي هريـرة قـال، قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لـولا أن بنـي إسـرائيل قالـوا (( وإنـا إن شـاء الله لمهتـدون )) لمـا أعطـوا ولكـن اسـتثنوا }} .
(( قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة لا ذلـول تثيـر الأرض ولا تسـقي الحـرث )) أي إنهـا ليسـت مذللـة بالحراثـة، ولا معـدة للسـقي فـي السـانية، بـل هـي مكرمـة حسـنة صبيحـة مسـلَّمة صحيحـة لا عيـب فيهـا.
(( لا شـية فيهـا )) لونهـا واحـد بهيـم قـال عطـاء .
(( قالـوا الآن جئـت بالحـق )) قـال قتـادة: الآن بينـت لنـا.
(( فذبحوهـا ومـا كـادوا يفعلـون )) قـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: كـادوا أن لا يفعلـوا _ ولـم يكـن ذلـك الـذي أرادوا _ لأنهـم أرادوا أن لا يذبحوهـا، يعنـي أنهـم مـع هـذا البيـان وهـذه الأسـئلة والأجوبـة والإيضـاح مـا ذبحوهـا إلا بعـد الجهـد، وفـي هـذا ذم لهـم وذلـك أنـه لـم يكـن غرضهـم إلا التعنـت فلهـذا مـا كـادوا يذبحونهـا.
قـال ابـن جريـر: لـم يكـادوا أن يفعلـوا ذلـك خـوف الفضيحـة إن اطلـع الله علـى قاتـل القتيـل الـذي اختصمـوا فيـه ثـم اختـار أن الصـواب فـي ذلـك أنهـم لـم يكـادوا يفعلـوا ذلـك لغـلاء ثمنهـا وللفضيحـة.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 73 ، 74 ، 75 ، 76 ، 77 ، 78 /
يتبـع إن شـاء الله ...
*********************
أشـكرك حقـاً علـى كلماتـك اللطيفـة ودعـاؤك الصـادق...
يسـرني مـرور صديقـة جديـدة...
وبـإذن الله سـأسـتمر معكـن أخواتـي...
*******************************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( ولقَـد علمتُـمُ الذيـنَ اعتـدوا مِنكُـم فـي السَّـبتِ فقلنـا لهُـم كونُـوا قِـردةً خاسِـئينَ " فجعلناهـا نَكَـالاً لِمَـا بَيـنَ يَديهـا ومَـا خَلفهَـا ومَوعِظَـةً لِلمتّقيـنَ )) / 66 /
يقـول تعالـى: (( ولقـد علمتـم )) يـا معشـر اليهـود مـا أحـل مـن البـأس بأهـل القريـة، التـي عصـت أمـر الله وخالفـوا عهـده وميثاقـه، فيمـا أخـذه عليهـم مـن تعظيـم السـبت والقيـام بأمـره، إذ كـان مشـروعاً لهـم فتحيلـوا علـى اصطيـاد الحيتـان فـي يـوم السـبت بمـا وضعـوا لهـا مـن الحبائـل والبـرك قبـل يـوم السـبت فلمـا جـاءت يـوم السـبت علـى عادتهـا فـي الكثـرة نشـبت بتلـك الحبائـل والحيـل فلـم تخلـص منهـا يومهـا ذلـك، فلمـا كـان الليـل أخذوهـا بعـد انقضـاء السـبت، فلمـا فعلـوا ذلـك مسـخهم الله إلـى صـورة القـردة وهـي أشـبه شـيء بالأناسـي فـي الشـكل الظاهـر وليسـت بإنسـان حقيقـة، فكذلـك أعمـال هـؤلاء وحيلهـم لمـا كانـت مشـابهة للحـق فـي الظاهـر ومخالفـة لـه فـي الباطـن، كـان جزاؤهـم مـن جنـس عملهـم.
وهـذه القصـة مبسـوطة فـي سـورة الأعـراف حيـث يقـول الله تعالـى: (( واسـألهم عـن القريـة التـي كانـت حاضـرة البحـر إذ يعـدون فـي السـبت إذ تأتيهـم حيتانهـم يـوم سـبتهم شُـرَّعاً ويـوم لا يسـبتون لا تأتيهـم كذلـك نبلوهـم بمـا كانـوا يفسـقون )) القصـة بكاملهـا.
وقـال السـدي: أهـل هـذه القريـة هـم أهـل أيلـة.
وقولـه تعالـى: (( فقلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )).
قـال مجاهـد: مسـخت قلوبهـم ولـم يمسـخوا قـردة، وإنمـا هـو مثـل ضربـه الله (( كمثـل الحمـار يحمـل أسـفاراً )) وهـذا سـند جيـد عـن مجاهـد، ، وقـولٌ غريـب خـلاف الظاهـر مـن السـياق فـي هـذا المقـام، وفـي غيـره قـال تعالـى: (( قـل هـل أنبئكـم بشـرٍّ مـن ذلـك مثوبـة عنـد الله مـن لعنـه الله وغضـب عليـه وجعـل منهـم القـردة والخنازيـر وعبـد الطاغـوت )) الآيـة.
وقـال ابـن عبـاس (( فقلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )) : فجعـل الله منهـم القـردة والخنازيـر، فزعـم أن شـباب القـوم صـاروا قـردة وأن الشـيخة صـاروا خنازيـر.
وقـال شـيبان عـن قتـادة: (( فقلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )) فصـار القـوم قـردة تعـاوى، لهـا أذنـاب بعدمـا كانـوا رجـالاً ونسـاء.
وقـال عطـاء الخرسـاني: نـودوا يـا أهـل القريـة (( كونـوا قـردة خاسـئين )) فجعـل الذيـن نهوهـم يدخلـون عليهـم فيقولـون يـا فـلان، يـا فـلان ألـم ننهكـم ؟ فيقولـون برؤوسـهم أي بلـى.
وقـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: فمسـخهم الله قـردة بمعصيتهـم، يقـول: إذ لا يحيـون فـي الأرض إلا ثلاثـة أيـام، قـال: ولـم يعـش مسـخ قـط فـوق ثلاثـة أيـام ولـم يأكـل ولـم يشـرب ولـم ينسـل، وقـد خلـق الله القـردة والخنازيـر وسـائر الخلـق فـي السـتة الأيـام التـي ذكرهـا الله فـي كتابـه، فمسـخ هـؤلاء القـوم فـي صـورة القـردة وكذلـك يفعـل بمـن يشـاء كمـا يشـاء، ويحولـه كمـا يشـاء (( خاسـئين )) يعنـي أذلـة صاغريـن.
وقـال السـدي فـي قولـه تعالـى: (( ولقـد علمتـم الذيـن اعتـدوا منكـم فـي السـبت فقلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )) قـال: هـم أهـل أيلـة، وهـي القريـة التـي كانـت حاضـرة البحـر، فكانـت الحيتـان إذا كـان يـوم السـبت، وقـد حـرم الله علـى اليهـود أن يعملـوا فـي السـبت شـيئاً، لـم يبقـى فـي البحـر حـوت إلا خـرج حتـى يخرجـن خراطيمهـن مـن المـاء، فـإذا كـان يـوم الأحـد لَزِمـنَ سُـفلَ البحـر فلـم يـرى منهـن شـيء حتـى يكـون يـوم السـبت فذلـك قولـه تعالـى: (( واسـألهم عـن القريـة التـي كانـت حاضـرة البحـر إذ يعـدون فـي السـبت إذ تأتيهـم حيتانهـم يـوم سـبتهم شـرعاً ويـوم لا يسـبتون لا تأتيهـم )) فاشـتهى بعضهـم السـمك فجعـل الرجـل يحفـر الحفيـرة ويجعـل لهـا نهـراً إلـى البحـر، فـإذا كـان يـوم السـبت فتـح النهـر، فأقبـل المـوج بالحيتـان يضربهـا حتـى يلقيهـا فـي الحفيـرة، فيريـد الحـوت أن يخـرج فـلا يطيـق مـن أجـل قلـة مـاء النهـر فيمكـث فيهـا، فـإذا كـان يـوم الأحـد جـاء فأخـذه فجعـل الرجـل يشـوي السـمك فيجـد جـاره روائحـه فيسـأله فيخبـره فيصنـع مثـل مـا صنـع جـاره حتـى فشـا فيهـم أكـل السـمك، فقـال لهـم علماؤهـم: وَيْحَكُـم إنمـا تصطـادون يـوم السـبت وهـو لا يحـلّ لكـم، فقالـوا: إنمـا صدنـاه يـوم الأحـد حيـن أخذنـاه، فقـال الفقهـاء: لا، ولكنكـم صدتمـوه يـوم فتحتـم لـه المـاء فدخـل، قـال: وغلبـوا أن ينتهـوا، فقـال بعـض الذيـن نهوهـم لبعـض: (( لـم تعظـون قومـاً الله مهلكهـم أو معذبهـم عذابـاً شـديداً )) يقـول: لـم تعظوهـم وقـد وعظتموهـم فلـم يطيعوكـم، فقـال بعضهـم: (( معـذرة إلـى ربكـم ولعلهـم يتقـون )) ، فلمـا أبَـوا قـال المسـلمون: والله لا نسـاكنكم فـي قريـة واحـدة، فقسـموا القريـة بجـدار، ففتـح المسـلمون بابـاً والمعتـدون فـي السـبت بابـاً ولعنهـم داود عليـه السـلام، فجعـل المسـلمون يخرجـون مـن بابهـم، والكفـار مـن بابهـم، فخـرج المسـلمون ذات يـوم ولـم يفتـح الكفـار بابهـم، فلمـا أبطـأوا عليهـم تسـوّر المسـلمون عليهـم الحائـط، فـإذا هـم قـردة يثـب بعضهـم علـى البعـض ففتحـوا عنهـم فذهبـوا فـي الأرض، فذلـك قـول الله تعالـى: (( فلمـا عتـوا عمّـا نهـوا عنـه قلنـا لهـم كونـوا قـردة خاسـئين )) ، وذلـك حيـن يقـول: (( لعـن الذيـن كفـروا مـن بنـي إسـرائيل علـى لسـان داود وعيسـى بـن مريـم )) الآيـة، فهـم قـردة.
( قلـت ) والغـرض مـن هـذا السـياق عـن هـؤلاء الأئمـة بيـان خـلاف مـا ذهـب إليـه مجاهـد رحمـه الله مـن أن مسـخهم إنمـا كـان ( معنويـاً ) لا ( صوريـاً ) ، بـل الصحيـح أنـه معنـوي صـوري، والله تعالـى أعلـم.
وقولـه تعالـى: (( فجعلناهـا نكـالاً )) قـال بعضهـم: الضميـر فـي ( فجعلناهـا ) عائـد إلـى القـردة، وقيـل علـى ( الحيتـان ) ، وقيـل علـى ( العقوبـة ) ، وقيـل علـى ( القريـة ) حكاهـا ابـن جريـر.
والصحيـح أن الضميـر عائـد علـى القريـة، أي فجعـل الله هـذه القريـة والمـراد أهلهـا بسـبب اعتدائهـم فـي سـبتهم ( نكـالاً ) أي عاقبناهـم عقوبـة فجعلناهـا عبـرة كمـا قـال الله عـن فرعـون: (( فأخـذه الله نكـال الآخـرة والأولـى )) .
وقولـه تعالـى: (( لمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا )) أي مـن القـرى.
قـال ابـن عبـاس: يعنـي جعلناهـا بمـا أحللنـا بهـا مـن العقوبـة عبـرةً لمـا حولهـا مـن القـرى كمـا قـال تعالـى: (( ولقـد أهلكنـا مـا حولكـم مـن القـرى وصرفنـا الآيـات لعلهـم يرجعـون )) ، فالمـراد لمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا فـي المكـان.
كمـا قـال عكرمـة عـن ابـن عبـاس: ( لمـا بيـن يديهـا ) مـن القـرى ( ومـا خلفهـا ) مـن القـرى.
وقـال أبـو العاليـة: ( ومـا خلفهـا ) لمـا بقـي بعدهـا مـن النـاس مـن بنـي إسـرائيل أن يعملـوا مثـل عملهـم.
وكـأن هـؤلاء يقولـون المـراد (( لمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا )) فـي الزمـان ، وهـذا مسـتقيم بالنسـبة إلـى مـن يأتـي بعدهـم مـن النـاس أن تكـون أهـل تلـك القريـة عبـرة لهـم، وأمـا بالنسـبة إلـى مـن سـلف قبلهـم مـن النـاس، فكيـف يصـح هـذا الكـلام أن تفسـر الآيـة بـه وهـو أن يكـون عبـرة لمـن سـبقهم ؟ فتعيـن أن المـراد فـي المكـان وهـو مـا حولهـا مـن القـرى كمـا قـال ابـن عبـاس وسـعيد بـن جبيـر، والله أعلـم.
وقـال أبـو جعفـر الـرازي عـن أبـي العاليـة: (( فجعلناهـا نكـالاً لمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا )) أي عقوبـة لمـا خـلا مـن ذنوبهـم.
وقـال ابـن أبـي حاتـم: وروي عـن عكرمـة ومجاهـد: (( لمـا بيـن يديهـا )) مـن ذنـوب القـوم. (( ومـا خلفهـا )) لمـن يعمـل بعدهـا تلـك الذنـوب.
وحكـى الـرازي ثلاثـة أقـوال...
أحدهـا: أن المـراد بمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا مـن تقدمهـا مـن القـرى بمـا عندهـم مـن العلـم يخبرهـا بالكتـب المتقدمـة ومـن بعدهـا.
والثانـي: المـراد بذلـك مـن بحضرتهـا مـن القـرى والأمـم.
والثالـث: أنـه تعالـى جعلهـا عقوبـة لجميـع مـا ارتكبـوه مـن قبـل هـذا الفعـل ومـا بعـده وهـو قـول الحسـن.
( قلـت ) وأرجـح الأقـوال المـراد بمـا بيـن يديهـا ومـا خلفهـا مـن بحضرتهـا مـن القـرى يبلغهـم خبرهـا ومـا حـل بهـا كمـا قـال تعالـى: (( ولقـد أهلكنـا مـا حولكـم مـن القـرى )) الآيـة، وقـال تعالـى: (( ولا يـزال الذيـن كفـروا تصيبهـم بمـا صنعـوا قارعـة )) الآيـة، وقـال تعالـى: (( أفـلا يـرون أنـا نأتـي الأرض ننقصهـا مـن أطرافهـا )) فجعلهـم عبـرة ونكـالاً لمـن فـي زمانهـا وموعظـة لمـن يأتـي بعدهـا بالخبـر المتواتـر عنهـم، ولهـذا قـال: (( وموعظـة للمتقيـن )) الذيـن مـن بعدهـم إلـى يـوم القيامـة.
قـال الحسـن : فيتقـون نقمـة الله ويحذرونهـا .
وقـال السـدي : أمـة محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
( قلـت ) والمـراد بالموعظـة ههنـا الزاجـر، أي جعلنـا مـا أحللنـا بهـؤلاء مـن البـأس والنكـال فـي مقابلـة مـا ارتكبـوه مـن محـارم الله ومـا تحيلـوا بـه مـن الحيـل، فليحـذر المتقـون صنيعهـم لئـلا يصيبهـم مـا أصابهـم كمـا روي عـن أبـي هريـرة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لا ترتكبـوا مـا ارتكبـت اليهـود فتسـتحلوا محـارم الله بأدنـى الحيـل }} وهـذا إسـناد جيـد، والله أعلـم.
(( وإذ قـالَ موسـى لِقومِـهِ إِنَّ اللهَ يأمركُـم أن تذبحـوا بقـرةً قالـوا أتتَّخِـذُنَا هُـزُواً قـالَ أعُـوذُ ِباللهِ أن أكُـونَ مِـنَ الجاهِليـنَ )) / 67 /
يقـول تعالـى: واذكـروا يـا بنـي إسـرائيـل نعمتـي عليكـم فـي خـرق العـادة لكـم فـي شـأن البقـرة، وبيـان القاتـل مـن هـو بسـببها، وأحيـاء الله المقتـول ونصـه علـى مـن قتلـه منهـم.
( ذكــر بســط القـصـة )
عـن عبيـدة السـلماني، قـال: كـان رجـل مـن بنـي إسـرائيل عقيمـاً لا يولـد لـه، وكـان لـه مـال كثيـر، وكـان ابـن أخيـه وارثـه، فقتلـه ثـم احتملـه فوضعـه علـى بـاب رجـل منهـم، ثـم أصبـح يدعيـه عليهـم حتـى تسـلحوا وركـب بعضهـم علـى بعـض، فقـال ذوو الـرأي منهـم والنهـي: عـلام يقتـل بعضكـم بعضـاًُ وهـذا رسـول الله فيكـم ؟
فأتـوا موسـى عليـه السـلام فذكـروا ذلـك لـه، فقـال: (( إن الله يأمركـم أن تذبحـوا بقـرة قالـوا أتتخذنـا هـزواً قـال أعـوذ بالله أن أكـون مـن الجاهليـن )) .
قـال: فلـو لـم يعترضـوا لأجـزأت عنهـم أدنـى بقـرة ولكنهـم شـددوا فشـدد الله عليهـم حتـى انتهـوا إلـى البقـرة التـي أُمـروا بذبحهـا.
فوجدوهـا عنـد رجـل ليـس لـه بقـرة غيرهـا، فقـال: والله لا أنقصهـا مـن مـلء جلدهـا ذهبـاً، فأخذوهـا بمـلء جلدهـا ذهبـاً، فذبحوهـا فضربـوه ببعضهـا فقـام، قالـوا: مـن قتلـك ؟ فقـال: هـذا _ لابـن أخيـه _ ثـم مـال ميتـاً، فلـم يعـطَ مـن مالـه شـيئاً فلـم يـورث قاتـل بعـد.
وقولـه تعالـى: (( إنهـا بقـرة لا فـارض لهـا )) يعنـي لا هرمـة .
(( ولا بكـر )) يعنـي ولا صغيـرة .
(( عـوان بيـن ذلـك )) أي نصـف بيـن البكـر والهرمـة .
(( قـال ادعـوا لنـا ربـك يبيـن لنـا مـا لونهـا قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة صفـراء فاقـع لونهـا )) أي صـاف لونهـا.
(( تسـر الناظريـن )) أي تعجـب الناظريـن .
(( قالـوا ادع لنـا ربـك يبيـن لنـا مـا هـي إن البقـر تشـابه علينـا وإنـا إن شـاء الله لمهتـدون . قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة لا ذلـول )) أي لـم يذللهـا العمـل.
(( تثيـر الأرض ولا تسـقي الحـرث )) يعنـي وليسـت بذلـول تثيـر الأرض، ولا تسـقي الحـرث، يعنـي ولا تعمـل فـي الحـرث.
(( مسـلَّمة )) يعنـي مسـلمة مـن العيـوب .
(( لا شـية فيهـا )) يقـول لا بيـاض فيهـا .
(( قالـوا الآن جئـت بالحـق فذبحوهـا ومـا كانـوا يفعلـون )) .
ولـو أن القـوم حيـن أمـروا بذبـح بقـرة، اسـتعرضوا بقـرة مـن البقـر فذبحوهـا لكانـت إياهـا، ولكـن شـددوا علـى أنفسـهم فشـدد الله عليهـم، ولـولا أن القـوم اسـتثنوا فقالـوا: (( وإنـا إن شـاء الله لمهتـدون )) لمـا هُـدوا إليهـا أبـداً.
وقـال السـدي (( وإذ قـال موسـى لقومـه إن الله يأمركـم أن تذبحـوا بقـرة )) قـال: كـان رجـل مـن بنـي إسـرائيل مكثـراً مـن المـال فكانـت لـه ابنـة وكـان لـه ابـن أخ محتـاج فخطـب إليـه ابـن أخيـه فأبـى أن يزوجـه، فغضـب الفتـى وقـال والله لأقتلـن عمـي ولآخـذن مالـه، ولأنكحـن ابنتـه ولآكلـن ديتـه، فأتـاه الفتـى _ وقـد قـدم تجـار فـي بعـض أسـباط بنـي إسـرائيل _ فقـال يـا عـم انطلـق معـي فخـذ لـي مـن تجـارة هـؤلاء القـوم لعلّـي أن أصيـب منهـا فإنهـم إذا رأوك معـي أعطونـي، فخـرج العـم مـع الفتـى ليـلاً، فلمـا بلـغ الشـيخ ذلـك السـبط قتلـه الفتـى ثـم رجـع إلـى أهلـه، فلمـا أصبـح جـاء كأنـه يطلـب عمـه كأنـه لا يـدري أيـن هـو فلـم يجـده، فانطلـق نحـوه، فـإذا هـو بذلـك السـبط مجتمعيـن عليـه فأخذهـم، وقـال: قتلتـم عمـي فـأدوا إلـيَّ ديتَـه، فجعـل يبكـي ويجثـو التـراب علـى رأسـه وينـادي: واعمّـاه، فرفعهـم إلـى موسـى فقضـى عليهـم بالديـة، فقالـوا لـه: يـا رسـول الله ادع لنـا ربـك مـن صاحبـه فيؤخـذ صاحـب القضيـة، فـوالله إن ديتـه علينـا لهينـة، ولكـن نسـتحي أن نعيَّـر بـه فذلـك حيـن يقـول تعالـى: (( وإذ قتلتـم نفسـاً فادارأتـم فيهـا والله مخـرج مـا كنتـم تكتمـون )) ، فقـال لهـم موسـى: (( إن الله يأمركـم أن تذبحـوا بقـرة )) ، وقالـوا: نسـألك عـن القتيـل وعمـن قتلـه وتقـول اذبحـوا بقـرة أتهـزأ بنـا ؟ (( قـال أعـوذ بالله أن أكـون مـن الجاهليـن )) .
قـال ابـن عبـاس: فلـوا اعترضـوا بقـرة فذبحوهـا لأجـزأت عنهـم، ولكـن شـدّدوا وتعنَّتـوا علـى موسـى فشـدد الله عليهـم. والفـارض الهرمـة التـي لا تولـد، والبكـر التـي لـم تلـد إلا ولـداً واحـداً، والعـوان النصـف بيـن ذلـك التـي قـد ولـدت وولـد لهـا ولـد ولدهـا.
(( فافعلـوا مـا تؤمـرون . قالـوا ادع لنـا ربـك بيـن لنـا مـا لونهـا قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة صفـراء فاقـع لونهـا )) قـال نقـي لونهـا.
(( تسـر الناظريـن )) قـال تعجـب الناظريـن .
(( قالـوا ادع لنـا ربـك يبيـن لنـا مـا هـي إن البقـر تشـابه علينـا وإنـا إن شـاء الله لمهتـدون . قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة لا ذلـول تثيـر الأرض ولا تسـقي الحـرث مسـلَّمة لا شـية فيهـا )) مـن بيـاض ولا سـواد ولا حمـرة .
(( قالـوا الآن جئـت بالحـق )) فطلبوهـا _ مـن صاحبهـا _ وأعطـوا وزنهـا ذهبـاً فأبـى فأضعفـوه لـه حتـى أعطـوه وزنهـا عشـر مـرات ذهبـاً فبايعهـم إيّاهـا وأخـذ ثمنهـا فذبحوهـا، قـال: اضربـوه ببعضهـا فضربـوه بالبضعـة التـي بيـن الكتفيـن فعـاش فسـألوه مَـن قتلـك فقـال لهـم ابـن أخـي، قـال: أقتلـه فآخـذ مالـه وأنكـح ابنتـه، فأخـذوا الغـلام فقتلـوه.
(( قالـوا ادعُ لنـا ربَّـكَ يُبيِّـنُ لنـا مـا هِـيَ قـالَ إنَّـهُ يقـولُ إنَّهـا بقَـرةٌ لا فـارِضٌ ولا بِكـر عَـوانٌ بيـنَ ذلِـك فافعلـوا مـا تؤمَـرونَ " قالـوا ادعُ لنـا ربَّـك يبيِّـنُ لنـا مـا لونُهـا قـالَ إِنَّـهُ يقـولُ إِنَّهـا بقَـرةٌ صفـراءُ فاقِـعٌ لونُهـا تسُّـر الناظِريـنَ " قالـوا ادعُ لنـا ربَّـكَ يُبيَّـنُ لنـا مـا هِـيَ إِنَّ البقَـرَ تشـابَهَ علينـا وإِنّـا إِن شـاءَ اللهُ لمُهتَـدونَ " قـالَ إِنّـهُ يقـولُ إِنّهـا بقَـرةٌ لا ذلـولٌ تثيـر الأرضَ ولا تسـقي الحَـرثَ مُسـلَّمةٌ لا شِـيةَ فيهـا قالـوا الآن جِئـتَ بِالحـقِّّ فَذَبَحوهـا ومـا كـادوا يفعلـونَ )) / 71 /
أخبـر تعالـى عـن تعنـت بنـي إسـرائيل وكثـرة سـؤالهم لرسـولهم ولهـذا لمـا ضيقـوا علـى أنفسـهم ضيـق الله عليهـم ولـو أنهـم ذبحـوا أي بقـرة كانـت لوقعـت الموقـع عنهـم ولكنهـم شـددوا فشـدد عليهـم، فقالـوا: (( ادع لنـا ربـك يبيـن لنـا مـا هـي )) أي مـا هـذه البقـرة ؟ وأي شـيء صفتهـا ؟
قـال ابـن جريـر عـن ابـن عبـاس: ( لـو أخـذوا أدنـى بقـرة لاكتفـوا بهـا ولكنهـم شـددوا فشـدد عليهـم ) .
قـال: (( إنـه يقـول إنهـا بقـرة لا فـارض ولا بكـر )) أي لا كبيـرة هرمـة ولا صغيـرة لـم يلحقهـا الفحـل.
وقـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: (( عـوان بيـن ذلـك )) يقـول نصـف بيـن الكبيـرة والصغيـرة، وهـي أقـوى مـا يكـون مـن الـدواب والبقـر وأحسـن مـا تكـون.
وقـال سـعيد بـن جبيـر: (( فاقـع لونهـا )) صافيـة اللـون.
وقـال العوفـي عـن ابـن عبـاس: (( فاقـع لونهـا )) شـديدة الصفـرة تكـاد مـن صفرتهـا تبيـض.
وقـال السـدي: (( تسـر الناظريـن )) أي تعجـب الناظريـن.
وقولـه تعالـى: (( إن البقـر تشـابه علينـا )) أي لكثرتهـا فميـز لنـا هـذه البقـرة وصفهـا وحلهـا لنـا.
(( وإنـا إن شـاء الله )) إذ بينتهـا لنـا، (( لمهتـدون )) إليهـا .
عـن أبـي هريـرة قـال، قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لـولا أن بنـي إسـرائيل قالـوا (( وإنـا إن شـاء الله لمهتـدون )) لمـا أعطـوا ولكـن اسـتثنوا }} .
(( قـال إنـه يقـول إنهـا بقـرة لا ذلـول تثيـر الأرض ولا تسـقي الحـرث )) أي إنهـا ليسـت مذللـة بالحراثـة، ولا معـدة للسـقي فـي السـانية، بـل هـي مكرمـة حسـنة صبيحـة مسـلَّمة صحيحـة لا عيـب فيهـا.
(( لا شـية فيهـا )) لونهـا واحـد بهيـم قـال عطـاء .
(( قالـوا الآن جئـت بالحـق )) قـال قتـادة: الآن بينـت لنـا.
(( فذبحوهـا ومـا كـادوا يفعلـون )) قـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: كـادوا أن لا يفعلـوا _ ولـم يكـن ذلـك الـذي أرادوا _ لأنهـم أرادوا أن لا يذبحوهـا، يعنـي أنهـم مـع هـذا البيـان وهـذه الأسـئلة والأجوبـة والإيضـاح مـا ذبحوهـا إلا بعـد الجهـد، وفـي هـذا ذم لهـم وذلـك أنـه لـم يكـن غرضهـم إلا التعنـت فلهـذا مـا كـادوا يذبحونهـا.
قـال ابـن جريـر: لـم يكـادوا أن يفعلـوا ذلـك خـوف الفضيحـة إن اطلـع الله علـى قاتـل القتيـل الـذي اختصمـوا فيـه ثـم اختـار أن الصـواب فـي ذلـك أنهـم لـم يكـادوا يفعلـوا ذلـك لغـلاء ثمنهـا وللفضيحـة.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 73 ، 74 ، 75 ، 76 ، 77 ، 78 /
يتبـع إن شـاء الله ...
*********************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( وإذ قتلتُـم نَفسـاً فادّارءتُـم فيهـا واللهُ مُخـرِجٌ مـا كُنتُـم تَكتُمـونَ .. فَقلنـا اضرِبـوهُ بِبعضِهَـا كذلِـكَ يُحيـي اللهُ المَوتَـى ويُريكُـم آياتِـهِ لعلَّكُـم تعقِلـونَ )) / 73 /
قـال البخـاري: (( فادّرأتـم فيهـا )) اختلفتـم.
وهكـذا قـال مجاهـد، (( والله مخـرج مـا كنتـم تكتمـون )) قـال مجاهـد: مـا تغيبـون.
عـن المسـيب بـن رافـع: { مـا عمـل رجـل حسـنة فـي سـبع أبيـات إلا أظهرهـا الله ومـا عمـل رجـل سـيئة فـي سـبعة أبيـات إلا ظهرهـا الله } .
وتصديـق ذلـك فـي كـلام الله: (( والله مخـرج مـا كنتـم تكتمـون )) .
(( فقلنـا اضربـوه ببعضهـا )) هـذا البعـض أي الشـيء كـان مـن أعضـاء هـذه البقـرة، فالمعجـزة حاصلـة بـه وخـرق العـادة بـه كائـن، فلـو كـان فـي تعيينـه لنـا فائـدة تعـود علينـا فـي أمـر الديـن أو الدنيـا لبيّنـة الله تعالـى لنـا، ولكنـه أبهمـه ولـم يجـئ مـن طريـق صحيـح عـن معصـوم بيانـه فنحـن نبهمـه كمـا أبهمـه الله.
وقولـه تعالـى: (( كذلـك يحيـي الله الموتـى )) أي فضربـوه فحيـيَ، ونبّـه تعالـى علـى قدرتـه وأحيائـه الموتـى بمـا شـاهدوه مـن أمـر القتـل، جعـل تبـارك وتعالـى ذلـك الصنيـع حجـة لهـم علـى المعـاد، وفاصـلاً مـا كـان بينهـم مـن الخصومـة والعنـاد.
والله تعالـى قـد ذكـر فـي هـذه السـورة ممـا خلقـه مـن أحيـاء الموتـى فـي خمسـة مواضـع:
(( ثـم بعثناكـم مـن بعـد موتكـم )) وهـذه القصـة، وقصـة الذيـن خرجـوا مـن ديارهـم وهـم ألـوف حـذر المـوت، وقصـة الـذي مـرَّ علـى قريـة وهـي خاويـة علـى عروشـها، وقصـة إبراهيـم عليـه السـلام والطيـور الأربعـة، ونبّـه تعالـى بإحيـاء الأرض بعـد موتهـا علـى إعـادة الأجسـام بعـد صيرورتهـا رميمـاً.
كمـا قـال أبـو زريـن العقيلـي رضـي الله عنـه، قـال: قلـت يـا رسـول الله: كيـف يحيـي الله الموتـى ؟ قـال: {{ أمـا مـررت بـوادٍ ممحـل ثـم مـررت بـه أخضـراً }} ؟ قلـت: بلـى، قـال: {{ كذلـك النشـور }}، أو قـال: {{ كذلـك يحيـي الله الموتـى }} .
وشـاهد هـذا فـي قولـه تعالـى: (( وآيـة لهـم الأرض الميتـة أحييناهـا وأخرجنـا منهـا حبـاً فمنـه يأكلـون )) .
(( ثـمَّ قَسَـت قلوبُهُـم مِـن بَعـدِ ذلِـكَ فَهِـيَ كالحِجـارةِ أو أشّـدُّ قَسـوةً وإنَّ مِـنَ الحِجـارَةِ لَمَـا يتفجَّـر مِنـهُ الأنهـارُ وإِنَّ مِنهـا لَمَـا يَشّـقّقُ فَيخـرُجُ مِنـهُ المـاءُ وإِنَّ مِنهـا لَمَـا يَهبِـطُ مِـن خَشـيَةِ اللهِ ومـا اللهُ بِغافِـلٍ عَمّـا تعمَلـونَ )) / 74 /
يقـول تعالـى توبيخـاً لبنـي إسـرائيل وتقريعـاً لهـم علـى مـا شـاهدوه مـن آيـات الله تعالـى وإحيـاء الموتـى: (( ثـم قسـت قلوبهـم مـن بعـد ذلـك )) كلـه فهـي كالحجـارة التـي لا تليـن أبـداً، ولهـذا نهـى الله المؤمنيـن عـن مثـل حالهـم، فقـال: (( ألـم يـأن للذيـن آمنـوا أن تخشـع قلوبهـم لذكـر الله ومـا نـزل مـن الحـق ولا يكونـوا كالذيـن أوتـوا الكتـاب مـن قبـل فطـال عليهـم الأمـد فقسـت قلوبهـم وكثيـر منهـم فاسـقون )) . فصـارت قلـوب بنـي إسـرائيل مـع طـول الأمـد قاسـية بعيـدة عـن الموعظـة، بعـد مـا شـاهدوه مـن الآيـات والمعجـزات، هـي فـي قسـوتها كالحجـارة التـي لا عـلاج للينهـا، أو أشـد قسـوة مـن الحجـارة، فـإن مـن الحجـارة مـا يتفجـر منهـا العيـون بالأنهـار الجاريـة، ومنهـا مـا يشـقق فيخـرج منـه المـاء وأن لـم يكـن جاريـاً، ومنهـا مـا يهبـط مـن رأس الجبـل مـن خشـية الله وفيـه إدراك لذلـك بحسـبه، كمـا قـال تعالـى: (( وإن مـن شـيء إلا يسـبح بحمـده ولكـن لا تفقهـون تسـبيحهم إنـه كـان حليمـاً غفـوراً )).
والمعنـى: وإن مـن الحجـارة لأليـن مـن قلوبكـم عمـا تُدعـون إليـه مـن الحـق.
وقـد زعـم بعضهـم أن هـذا بـاب مـن بـاب المجـاز، وهـو إسـناد الخشـوع إلـى الحجـارة كمـا أسـندت الإدارة إلـى الجـدار فـي قولـه: (( يريـد أن ينقـض )) .
قـال الـرازي والقرطبـي: ولا حاجـة إلـى هـذا، فـإن الله تعالـى يخلـق فيهـا هـذه الصفـة فـي قولـه تعالـى: (( فأبيـن أن يحملنهـا وأشـفقن منهـا )) ، وقـال: (( تسـبح لـه مـا فـي السـموات السـبع والأرض ومـن فيهـن )) الآيـة، وقـال: (( والنجـم والشـجر يسـجدان )) ، وقـال: (( قالتـا أتينـا طائعيـن )) .
وفـي الصحيـح: { هـذا جبـل يحبنـا ونحبـه } ، وكحنيـن الجـذع المتواتـر خبـره.
وفـي صحيـح مسـلم: { إنـي لأعـرف حجـراً بمكـة يسـلم علـيَّ قبـل أن أبعـث إنـي لأعرفـه الآن } ، وفـي وصفـه الحجـر الأسـود أنـه يشـهد لمـن اسـتلم بحـق يـوم القيامـة وغيـر ذلـك ممـا فـي معنـاه.
( تنبيـه ) اختلـف علمـاء العربيـة فـي معنـى قولـه تعالـى: (( فهـي كالحجـارة أو أشـد قسـوة )) بعـد الإجمـاع علـى اسـتحالة كونهـا للشـك، فقـال بعضهـم ( أو ) ههنـا بمعنـى الـواو وتقديـره: فهـي كالحجـارة وأشـد قسـوة، كقولـه تعالـى: (( ولا تطـع منهـم آثمـاً أو كفـوراً )) ، وقولـه: (( عـذراً أو نـذراً )).
وقـال آخـرون: ( أو ) ههنـا بمعنـى بـل فتقديـره: فهـي كالحجـارة بـل أشـد قسـوة، وكقولـه: (( إذا فريـق منهـم يخشـون النـاس كخشـية الله أو أشـد خشـية )) (( وأرسـلناه إلـى مائـة ألـف أو يزيـدون )) ، (( فكـان قـاب قوسـين أو أدنـى )) .
وقـال آخـرون: معنـى ذلـك: (( فهـي كالحجـارة أو أشـد قسـوة )) عندكـم حكـاه ابـن جريـر.
وقـال بعضهـم: معنـى ذلـك فقلوبكـم لا تخـرج عـن أحـد هذيـن المثليـن: إمـا أن تكـون مثـل الحجـارة فـي القسـوة، وإمـا أن تكـون أشـد منهـا فـي القسـوة.
قـال ابـن جريـر ومعنـى ذلـك علـى هـذا التأويـل فبعضهـا كالحجـارة قسـوة، وبعضهـا أشـد قسـوة مـن الحجـارة، وقـد رجحـه ابـن جريـر مـع توجيـه غيـره.
( قلـت ) وهـذا القـول الأخيـر يبقـى شـبيهاً بقولـه تعالـى: (( مثلهـم كمثـل الـذي اسـتوقد نـاراً )) مـع قولـه: (( أو كصيـب مـن السـماء )) ، وكقولـه: (( والذيـن كفـروا أعمالهـم كسـراب بقيعـة )) ، مـع قولـه: (( أو كظلمـات فـي بحـر لجـي )) الآيـة، أي إن منهـم مـن هـو هكـذا ومنهـم مـن هـو هكـذا، والله أعلـم.
عـن ابـن عمـر: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لا تكثـروا الكـلام بغيـر ذكـر الله، فـأن كثـرة الكـلام بغيـر ذكـر الله قسـوة القلـب، وإن أبعـد النـاس مـن الله القلـب القاسـي }} .
وروي مرفوعـاً: { أربـع مـن الشـقاء: جمـود العيـن، وقسـاوة القلـب، وطـول الأمـل، والحـرص علـى الدنيـا }.
(( أَفتطمَعـونَ أَن يُؤمِنُـوا لَكُـم وَقَـد كـانَ فريـقٌ مِنهُـم يَسـمَعونَ كَـلامَ اللهِ ثُـمَّ يُحرِّفونَـهُ مِـن بَعـدِ مـا عَقَلـوهُ وهُـم يعلَمـونَ .. وإِذا لَقُـوا الّذيـنَ آمنـوا قالـوا آمنّـا وإِذا خَـلا بَعضُهُـم إلـى بَعـضٍ قالـوا أَتُحدّثونَهُـم بِمـا فَتَـحَ اللهُ علَيكُـم ليُحاجُّوكُـم بِـهِ عِنـدَ رَبِكُـم أَفَـلا تَعقِلُـونَ .. أَوَلا يَعلَمُـونَ أَنَّ اللهَ يَعلَـمُ مـا يُسِـرُّونَ وَمَـا يُعلِنُـونَ )) / 77 /
يقـول تعالـى: (( أفتطمعـون )) أيهـا المؤمنـون (( أن يؤمنـوا لكـم )) أي ينقـاد لكـم بالطاعـة هـؤلاء الفرقـة الضالـة مـن اليهـود، الذيـن شـاهد آباؤهـم مـن الآيـات البينـات مـا شـاهدوه، ثـم قسـت قلوبهـم مـن بعـد ذلـك، (( وقـد كـان فريـق منهـم يسـمعون كـلام الله ثـم يحرفونـه )) أي يتأولونـه علـى غيـر تأويلـه (( مـن بعـد مـا عقلـوه )) أي فهمـوه علـى الجليـة، ومـع هـذا يخالفونـه علـى البصيـرة (( وهـم يعلمـون )) أنهـم مخطئـون فيمـا ذهبـوا إليـه مـن تحريفـه وتأويلـه. وهـذا المقـام شـبيه بقولـه تعالـى: (( فيمـا نقضهـم ميثاقهـم لعناهـم وجعلنـا قلوبهـم قاسـية يحرفـون الكلـم عـن مواضعـه )) وليـس كلهـم قـد سـمعها، ولكـن هـم الذيـن سـألوا موسـى رؤيـة ربهـم فأخذتهـم الصاعقـة فيهـا.
وقـال السـدي: هـي التـوراة حرفوهـا.
وقـال قتـادة فـي قولـه: (( ثـم يحرفونـه مـن بعـد مـا عقلـوه وهـم يعلمـون )) هـم اليهـود كانـوا يسـمعون كـلام الله ثـم يحرفونـه عـن مواضعـه، وقـال السـدي: (( وهـم يعلمـون )) أي أنهـم أذنبـوا.
وقـال وهـب فـي قولـه (( يسـمعون كـلام الله ثـم يحرفونـه )) قـال: التـوراة التـي أنزلهـا الله عليهـم، يحرفونهـا يجعلـون الحـلال فيهـا حرامـاً، والحـرام فيهـا حـلالاً، والحـق فيهـا باطـلاً والباطـل فيهـا حقـاً.
وقولـه تعالـى: (( وإذا لقـوا الذيـن آمنـوا قالـوا آمنـا ))
قـال ابـن عبـاس (( وإذا لقـوا الذيـن أمنـوا قالـوا آمنـا )): أي قالـوا: إن صاحبكـم رسـول الله ولكنـه إليكـم خاصـة.
(( وإذا خلـوا بعضهـم إلـى بعـض )) قالـوا: لا تحدثـوا العـرب بهـذا فإنكـم قـد كنتـم تسـتفتحون بـه عليهـم فكـان منهـم.
(( وإذا خـلا بعضهـم إلـى بعـض قالـوا أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم ليحاجوكـم بـه عنـد ربكـم )) أي تقـرون بأنـه نبـي وقـد علمتـم أنـه قـد أخـذ لـه الميثـاق عليكـم باتباعـه، وهـو يخبرهـم أنـه النبـي الـذي كنـا ننتظـر ونجـد فـي كتبنـا، اجحـدوه ولا تقـروا بـه.
يقـول الله تعالـى: (( أولا يعلمـون أن الله يعلـم مـا يسـرون ومـا يعلنـون )) ؟
وقـال الضحّـاك: يعنـي المنافقيـن مـن اليهـود كانـوا إذا لقـوا أصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم قالـوا آمنـا.
وقـال السـدي: هـؤلاء نـاس مـن اليهـود آمنـوا ثـم نافقـوا. وكانـوا يقولـون إذا دخلـوا المدينـة نحـن مسـلمون، ليعملـوا خبـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وأمـره، فـإذا رجعـوا رجعـوا إلـى الكفـر، فلمـا أخبـر الله نبيـه صلـى الله عليـه وسـلم قطـع ذلـك عنهـم فلـم يكونـوا يدخلـون، وكـان المؤمنـون يظنـون أنهـم مؤمنـون فيقولـون: أليـس قـد قـال الله لكـم كـذا وكـذا، فيقولـون: بلـى.
قـال أبـو العاليـة: (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم )) يعنـي بمـا أنـزل عليكـم فـي كتابكـم مـن نعـت محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
وقـال قتـادة: (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم ليحاجوكـم بـه عنـد ربكـم )) كانـوا يقولـون سـيكون نبـي فخـلا بعضهـم ببعـض فقالـوا: (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم )) .
وعـن مجاهـد فـي قولـه تعالـى: (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم )) قـال: قـام النبـي صلـىالله عليـه وسـلم يـوم قريظـة تحـت حصونهـم، فقـال: {{ يـا إخـوان القـردة والخنازيـر، ويـا عبـدة الطاغـوت }} فقـالـوا: مـن أخبـر بهـذا محمـداً ؟ مـا خـرج هـذا القـول إلا منكـم (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم )) بمـا حكـم الله للفتـح ليكـون لهـم حجـة عليكـم.
وقـال الحسـن البصـري: هـؤلاء اليهـود كانـوا إذا لقـوا الذيـن آمنـوا قالـوا آمنـا، وإذا خـلا بعضهـم إلـى بعـض قـال بعضهـم: لا تحدثـوا أصحـاب محمـد بمـا فتـح الله عليكـم، ممـا فـي كتابكـم ليحاجوكـم بـه عنـد ربكـم فيخصموكـم.
وقولـه تعالـى: (( أولا يعلمـون أن الله يعلـم مـا يسـرون ومـا يعلنـون )) يعنـي مـا أسـروا مـن كفرهـم بمحمـد صلـى الله عليـه وسـلم وتكذيبهـم بـه وهـم يجدونـه مكتوبـاً عندهـم.
وقـال الحسـن: (( إن الله يعلـم مـا يسـرون )) كـان مـا أسـروا أنهـم كانـوا إذا تولـوا عـن أصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم وخـلا بعضهـم إلـى بعـض، تناهـوا أن يخبـر أحـد منهـم أصحـاب محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم بمـا فتـح الله عليهـم ممـا فـي كتابهـم، خشـية أن يحاجهـم أصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم بمـا فـي كتابهـم عنـد ربهـم (( ومـا يعلنـون )) يعنـي حيـن قالـوا لأصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم أمنـا.
(( ومنهـم أميـون لا يعلمـون الكتـاب إلا أمانـي وإن هـم إلا يظنـون .. فويـل للذيـن يكتبـون الكتـاب بأيديهـم ثـم يقولـون هـذا مـن عنـد الله ليشـتروا بـه ثمنـاً قليـلاً فويـل لهـم ممـا كتبـت أيديهـم وويـل لهـم ممـا يكسـبون )) / 79 /
يقـول تعالـى: (( ومنهـم أميـون )) أي ومـن أهـل الكتـاب، والأميـون جمـع أمـي وهـو الرجـل الـذي لا يحسـن الكتابـة، وهـو ظاهـر فـي قولـه تعالـى: (( لا يعلمـون الكتـاب )) أي لا يـدرون مـا فيـه، ولهـذا فـي صفـات النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: أنـه أمـي لأنـه لـم يكـن يحسـن الكتابـة كمـا قـال تعالـى: (( ومـا كنـت تتلـو مـن قبلـه مـن كتـاب ولا تخطـه بيمينـك إذاً لارتـاب المبطلـون )) .
وقـال عليـه الصـلاة والسـلام: {{ إنـا أمـة أميـة لا نكتـب ولا نحسـب، الشـهر هكـذا وهكـذا وهكـذا }} الحديـث.
وقـال تبـارك وتعالـى: (( هـو الـذي بعـث فـي الأميـون رسـولاً منهـم ))
قـال ابـن جريـر: نسـبت العـرب مـن لا يكتـب ولا يخـط مـن الرجـال إلـى أمـه فـي جهلـه بالكتـاب دون أبيـه.
وقولـه تعالـى: (( إلا أمانـي ))
عـن ابـن عبـاس: (( إلا أمانـي )) يقـول إلا قـولاً يقولونـه بأفواههـم كذبـاً.
وقـال مجاهـد: إلا كذبـاً.
وعـن مجاهـد: (( ومنهـم أميـون لا يعلمـون الكتـاب إلا أمانـي )) قـال: أنـاس مـن اليهـود لـم يكونـوا يعلمـون مـن الكتـاب شـيئاً، وكانـوا يتكلمـون بالظـن بغيـر مـا فـي كتـاب الله ويقولـون هـو مـن الكتـاب ( أمانـي ) يتمنونهـا، والتمنـي فـي هـذا الموضـع هـو تخلـق الكـذب وتخرصـه، ومنـه الخبـر المـروي عـن عثمـان رضـي الله عنـه { مـا تغنيـت ولا تمنيـت } يعنـي مـا تخرصـت الباطـل ولا اختلقـت الكـذب.
وقيـل: المـراد بقولـه (( إلا أمانـي )) بالتشـديد والتخفيـف أيضـاً أي إلا تـلاوة. واسـتشـهدوا علـى ذلـك بقولـه تعالـى: (( إلا إذا تمنـى ألقـى الشـيطان فـي أمنيتـه )) الآيـة.
(( وإن هـم إلا يظنـون )) يكذبـون.
وقولـه تعالـى: (( فويـل للذيـن يكتبـون الكتـاب بأيديهـم ثـم يقولـون هـذا مـن عنـد الله ليشـتروا بـه ثمنـاً قليـلاً )) الآيـة.
هـؤلاء صنـف آخـر مـن اليهـود وهـم الدعـاة إلـى الضـلال بالـزور والكـذب علـى الله وأكـل أمـوال النـاس بالباطـل.
والويـل: الهـلاك والدمـار، وهـي كلمـة مشـهورة فـي اللغـة العربيـة.
وعـن ابـن عبـاس، الويـل: المشـقة مـن العـذاب.
وقـال الخليـل، الويـل: شـدة الشـر.
وقـال سـيبويـه: ويـل لمـن وقـع فـي الهلكـة، وويـح لمـن أشـرف عليهـا.
وقـال الأصمعـي: الويـل تفجـع، والويـح ترحـم.
وقـال غيـره: الويـل الحـزن.
وعـن عكرمـة عـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا: (( فويـل للذيـن يكتبـون الكتـاب بأيديهـم )) قـال: هـم أحبـار اليهـود.
وقـال السـدي: كـان نـاس مـن اليهـود كتبـوا كتابـاً مـن عندهـم يبيعونـه مـن العـرب ويحدثونهـم أنـه مـن عنـد الله ليأخـذوا بـه ثمنـاً قليـلاً.
وقـال الزهـري عـن ابـن عبـاس: { يـا معشـر المسـلمين كيـف تسـألون أهـل الكتـاب عـن شـيء وكتـاب الله الـذي أنزلـه علـى نبيـه أحـدث أخبـار الله تقرؤونـه غضـاً لـم يشـب، وقـد حدثكـم الله تعالـى أن أهـل الكتـاب قـد بدلـوا كتـاب الله وغيـروه، وكتبـوا بأيديهـم الكتـاب وقالـوا هـو مـن عنـد الله ليشـتروا بـه ثمنـاًً قليـلاً، أفـلا ينهاكـم مـا جاءكـم مـن العلـم عـن مسـاءلتهم، ولا والله مـا رأينـا منهـم أحـداً قـط سـألكم عـن الـذي أنـزل عليكـم }.
وقولـه تعالـى: (( فويـل لهـم ممـا كتبـت أيديهـم وويـل لهـم ممـا يكسـبون )) أي فويـل لهـم ممـا كتبـوا بأيديهـم مـن الكـذب والبهتـان والافتـراء، وويـل لهـم ممـا أكلـوا بـه مـن السـحت.
كمـا قـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا (( فويـل لهـم )) يقـول: فالعـذاب عليهـم مـن الـذي كتبـوا بأيديهـم مـن ذلـك الكـذب (( وويـل لهـم ممـا يكسـبون )) يقـول: ممـا يأكلـون بـه أولئـك النـاس السـفلة وغيرهـم.
(( وقالـوا لَـن تَمَسَّـنا النـارُ إِلا أيّامَـاً مَعـدُودَةً قُـل أَتّخذتُـم عِنـدَ اللهِ عَهـداً فَلَـن يُخلِـفَ اللهُ عَهـدَهُ أَم تقولُـونَ علـى اللهِ مـا لا تعلَمـونَ )) / 80 /
يقـول تعالـى إخبـاراً عـن اليهـود فيمـا نقلـوه وادعـوه لأنفسـهم، مـن أنهـم لـن تمسـهم النـار إلا أيامـاً معـدودة، ثـم ينجـون منهـا، فـرد الله عليهـم ذلـك بقولـه تعالـى: (( قـل أتخذتـم عنـد الله عهـداً )) أي بذلـك، فـإذا كـان قـد وقـع عهـد فهـو لا يخلـف عهـده، ولكـن هـذا مـا جـرى ولا كـان، ولهـذا أتـى بـ أم التـي بمعنـى ( بـل ) أي يقولـون: إن هـذه الدنيـا سـبعة آلاف سـنة، وإنمـا نعـذب بكـل ألـف سـنة يومـاً فـي النـار، وإنمـا هـي سـبعة أيـام معـدودة، فأنـزل الله تعالـى: (( وقالـوا لـن تمسـنا النـار إلا أيامـاً معـدودة )) إلـى قولـه: (( خالـدون )).
وقـال العوفـي عـن ابـن عبـاس: قالـوا لـن تمسـنا النـار إلا أربعيـن ليلـة، وسـيخلفنا فيهـا قـوم آخـرون، يعنـون محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم وأصحابـه، فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بيـده علـى رؤوسـهم: {{ بـل أنتـم خالـدون ومخلـدون لا يخلفكـم فيهـا أحـد }} ، فأنـزل الله عـز وجـل: (( وقالـوا لـن تمسـنا النـار إلا أيامـاً معـدودة )) الآيـة.
وعـن أبـي هريـرة رضـي الله عنـه قـال: لمـا فتحـت خيبـر أهديـت لرسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم شـاة فيهـا سـم، فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ اجمعـوا لـي مـا كـان مـن اليهـود هنـا }} ، فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن أبوكـم ؟ }}، قالـوا: فـلان، قـال: {{ كذبتـم بـل أبوكـم فـلان }} ، فقالـوا: صدقـت وبـررت، ثـم قـال لهـم: {{ هـل أنتـم صادقـي عـن شـيء إن سـألتكم عنـه ؟ }} ، قالـوا: نعـم يـا أبـا القاسـم، وإن كذبنـاك عرفـت كذبنـا كمـا عرفتـه فـي أبينـا، فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن أهـل النـار ؟ }} فقالـوا: نكـون فيهـا يسـيراً ثـم تخلفونـا فيهـا، فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ اخسـئوا والله لا نخلفكـم فيهـا أبـداً }}. ثـم قـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ هـل أنتـم صادقـي عـن شـيء إن سـألتكم عنـه ؟ }} ، قالـوا: نعـم يـا أبـا القاسـم، قـال: {{ هـل جعلتـم فـي هـذه الشـاة سـماً ؟ }} فقالـوا: نعـم، قـال: {{ فمـا حملكـم علـى ذلـك ؟ }} ، فقالـوا: أردنـا إن كنـت كاذبـاً أن نسـتريح منـك، وإن كنـت نبيـاً لـم يضـرك.
(( بَلـى مَـن كتَـبَ سَـيّئةً وأَحاطَـت بِـهِ خَطيئَتُـهُ فأولئِـكَ أَصحـابُ النّـارَ هُـم فِيهـا خالـدونَ .. والذيـنَ آمنـوا وعَمِلـوا الصالحـاتِ أولئِـكَ أصحـابُ الجنّـةِ هُـم فيهـا خالـدونَ )) / 82 /
يقـول تعالـى: ليـس الأمـر كمـا تمنيتـم ولا كمـا تشـتهون، بـل الأمـر أنـه مـن عمـل سـيئة (( وأحاطـت بـه خطيئتـه )) وهـو مـن وافـى يـوم القيامـة وليسـت حسـنة، بـل جميـع أعمالـه سـيئات، فلهـذا مـن أهـل النـار.
(( والذيـن أمنـوا وعملـوا الصالحـات )) أي أمنـوا بالله ورسـوله، وعملـوا الصالحـات مـن العمـل الموافـق للشـريعة، فهـم مـن أهـل الجنـة، وهـذا المقـام شـبيه بقولـه تعالـى: (( ليـس بأمانيكـم ولا أمانـي أهـل الكتـاب مـن يعمـل سـوءاً يجـز بـه ولا يجـد لـه مـن دون الله وليـاً ولا نصيـراً . ومـن يعمـل مـن الصالحـات مـن ذكـر أو أنثـى وهـو مؤمـن فأولئـك يدخلـون الجنـة ولا يظلمـون نقيـراً )) .
قـال ابـن عبـاس: (( بلـى مـن كسـب سـيئة )) أي عمـل مثـل أعمالكـم، وكفـر بمثـل مـا كفرتـم بـه، حتـى يحيـط بـه كفـره فمـا لـه حسـنة.
وفـي روايـة عـن ابـن عبـاس قـال: الشـرك.
وقـال الحسـن: السـيئة الكبيـرة مـن الكبائـر.
وقـال عطـاء والحسـن: (( وأحاطـت بـه خطيئتـه )) أحـاط بـه شـركه.
وقـال الأعمـش: (( وأحاطـت بـه خطيئتـه )) الـذي يمـوت علـى خطايـاه مـن قبـل أن يتـوب.
وعـن عبـد الله بـن مسـعود رضـي الله عنـه أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ إياكـم ومحقـراتِ الذنـوب، فإنهـن يجتمعـن علـى الرجـل حتـى يهلكنـه }} وإن رسـول صلـى الله عليـه وسـلم ضـرب لهـم مثـلاً كمثـل قـوم نزلـوا بـأرض فـلاة فحضـر صنيـع القـوم، فجعـل الرجـل ينطلـق فيجـيء بالعـود، حتـى جمعـوا سـواداً وأججـوا نـاراً فأنضجـوا مـا قذفـوا فيهـا.
وقولـه تعالـى: (( والذيـن آمنـوا وعملـوا الصالحـات أولئـك أصحـاب الجنـة هـم فيهـا خالـدون )) أي مـن آمـن بمـا كفرتـم وعمـل بمـا تركتـم مـن دينـه فلهـم الجنـة خالديـن فيهـا، يخبرهـم أن الثـواب بالخيـر والشـر مقيـم علـى أهلـه أبـداً لا انقطـاع لـه.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 78 ، 79 ، 80 ، 81 ، 82 ، 83 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
(( وإذ قتلتُـم نَفسـاً فادّارءتُـم فيهـا واللهُ مُخـرِجٌ مـا كُنتُـم تَكتُمـونَ .. فَقلنـا اضرِبـوهُ بِبعضِهَـا كذلِـكَ يُحيـي اللهُ المَوتَـى ويُريكُـم آياتِـهِ لعلَّكُـم تعقِلـونَ )) / 73 /
قـال البخـاري: (( فادّرأتـم فيهـا )) اختلفتـم.
وهكـذا قـال مجاهـد، (( والله مخـرج مـا كنتـم تكتمـون )) قـال مجاهـد: مـا تغيبـون.
عـن المسـيب بـن رافـع: { مـا عمـل رجـل حسـنة فـي سـبع أبيـات إلا أظهرهـا الله ومـا عمـل رجـل سـيئة فـي سـبعة أبيـات إلا ظهرهـا الله } .
وتصديـق ذلـك فـي كـلام الله: (( والله مخـرج مـا كنتـم تكتمـون )) .
(( فقلنـا اضربـوه ببعضهـا )) هـذا البعـض أي الشـيء كـان مـن أعضـاء هـذه البقـرة، فالمعجـزة حاصلـة بـه وخـرق العـادة بـه كائـن، فلـو كـان فـي تعيينـه لنـا فائـدة تعـود علينـا فـي أمـر الديـن أو الدنيـا لبيّنـة الله تعالـى لنـا، ولكنـه أبهمـه ولـم يجـئ مـن طريـق صحيـح عـن معصـوم بيانـه فنحـن نبهمـه كمـا أبهمـه الله.
وقولـه تعالـى: (( كذلـك يحيـي الله الموتـى )) أي فضربـوه فحيـيَ، ونبّـه تعالـى علـى قدرتـه وأحيائـه الموتـى بمـا شـاهدوه مـن أمـر القتـل، جعـل تبـارك وتعالـى ذلـك الصنيـع حجـة لهـم علـى المعـاد، وفاصـلاً مـا كـان بينهـم مـن الخصومـة والعنـاد.
والله تعالـى قـد ذكـر فـي هـذه السـورة ممـا خلقـه مـن أحيـاء الموتـى فـي خمسـة مواضـع:
(( ثـم بعثناكـم مـن بعـد موتكـم )) وهـذه القصـة، وقصـة الذيـن خرجـوا مـن ديارهـم وهـم ألـوف حـذر المـوت، وقصـة الـذي مـرَّ علـى قريـة وهـي خاويـة علـى عروشـها، وقصـة إبراهيـم عليـه السـلام والطيـور الأربعـة، ونبّـه تعالـى بإحيـاء الأرض بعـد موتهـا علـى إعـادة الأجسـام بعـد صيرورتهـا رميمـاً.
كمـا قـال أبـو زريـن العقيلـي رضـي الله عنـه، قـال: قلـت يـا رسـول الله: كيـف يحيـي الله الموتـى ؟ قـال: {{ أمـا مـررت بـوادٍ ممحـل ثـم مـررت بـه أخضـراً }} ؟ قلـت: بلـى، قـال: {{ كذلـك النشـور }}، أو قـال: {{ كذلـك يحيـي الله الموتـى }} .
وشـاهد هـذا فـي قولـه تعالـى: (( وآيـة لهـم الأرض الميتـة أحييناهـا وأخرجنـا منهـا حبـاً فمنـه يأكلـون )) .
(( ثـمَّ قَسَـت قلوبُهُـم مِـن بَعـدِ ذلِـكَ فَهِـيَ كالحِجـارةِ أو أشّـدُّ قَسـوةً وإنَّ مِـنَ الحِجـارَةِ لَمَـا يتفجَّـر مِنـهُ الأنهـارُ وإِنَّ مِنهـا لَمَـا يَشّـقّقُ فَيخـرُجُ مِنـهُ المـاءُ وإِنَّ مِنهـا لَمَـا يَهبِـطُ مِـن خَشـيَةِ اللهِ ومـا اللهُ بِغافِـلٍ عَمّـا تعمَلـونَ )) / 74 /
يقـول تعالـى توبيخـاً لبنـي إسـرائيل وتقريعـاً لهـم علـى مـا شـاهدوه مـن آيـات الله تعالـى وإحيـاء الموتـى: (( ثـم قسـت قلوبهـم مـن بعـد ذلـك )) كلـه فهـي كالحجـارة التـي لا تليـن أبـداً، ولهـذا نهـى الله المؤمنيـن عـن مثـل حالهـم، فقـال: (( ألـم يـأن للذيـن آمنـوا أن تخشـع قلوبهـم لذكـر الله ومـا نـزل مـن الحـق ولا يكونـوا كالذيـن أوتـوا الكتـاب مـن قبـل فطـال عليهـم الأمـد فقسـت قلوبهـم وكثيـر منهـم فاسـقون )) . فصـارت قلـوب بنـي إسـرائيل مـع طـول الأمـد قاسـية بعيـدة عـن الموعظـة، بعـد مـا شـاهدوه مـن الآيـات والمعجـزات، هـي فـي قسـوتها كالحجـارة التـي لا عـلاج للينهـا، أو أشـد قسـوة مـن الحجـارة، فـإن مـن الحجـارة مـا يتفجـر منهـا العيـون بالأنهـار الجاريـة، ومنهـا مـا يشـقق فيخـرج منـه المـاء وأن لـم يكـن جاريـاً، ومنهـا مـا يهبـط مـن رأس الجبـل مـن خشـية الله وفيـه إدراك لذلـك بحسـبه، كمـا قـال تعالـى: (( وإن مـن شـيء إلا يسـبح بحمـده ولكـن لا تفقهـون تسـبيحهم إنـه كـان حليمـاً غفـوراً )).
والمعنـى: وإن مـن الحجـارة لأليـن مـن قلوبكـم عمـا تُدعـون إليـه مـن الحـق.
وقـد زعـم بعضهـم أن هـذا بـاب مـن بـاب المجـاز، وهـو إسـناد الخشـوع إلـى الحجـارة كمـا أسـندت الإدارة إلـى الجـدار فـي قولـه: (( يريـد أن ينقـض )) .
قـال الـرازي والقرطبـي: ولا حاجـة إلـى هـذا، فـإن الله تعالـى يخلـق فيهـا هـذه الصفـة فـي قولـه تعالـى: (( فأبيـن أن يحملنهـا وأشـفقن منهـا )) ، وقـال: (( تسـبح لـه مـا فـي السـموات السـبع والأرض ومـن فيهـن )) الآيـة، وقـال: (( والنجـم والشـجر يسـجدان )) ، وقـال: (( قالتـا أتينـا طائعيـن )) .
وفـي الصحيـح: { هـذا جبـل يحبنـا ونحبـه } ، وكحنيـن الجـذع المتواتـر خبـره.
وفـي صحيـح مسـلم: { إنـي لأعـرف حجـراً بمكـة يسـلم علـيَّ قبـل أن أبعـث إنـي لأعرفـه الآن } ، وفـي وصفـه الحجـر الأسـود أنـه يشـهد لمـن اسـتلم بحـق يـوم القيامـة وغيـر ذلـك ممـا فـي معنـاه.
( تنبيـه ) اختلـف علمـاء العربيـة فـي معنـى قولـه تعالـى: (( فهـي كالحجـارة أو أشـد قسـوة )) بعـد الإجمـاع علـى اسـتحالة كونهـا للشـك، فقـال بعضهـم ( أو ) ههنـا بمعنـى الـواو وتقديـره: فهـي كالحجـارة وأشـد قسـوة، كقولـه تعالـى: (( ولا تطـع منهـم آثمـاً أو كفـوراً )) ، وقولـه: (( عـذراً أو نـذراً )).
وقـال آخـرون: ( أو ) ههنـا بمعنـى بـل فتقديـره: فهـي كالحجـارة بـل أشـد قسـوة، وكقولـه: (( إذا فريـق منهـم يخشـون النـاس كخشـية الله أو أشـد خشـية )) (( وأرسـلناه إلـى مائـة ألـف أو يزيـدون )) ، (( فكـان قـاب قوسـين أو أدنـى )) .
وقـال آخـرون: معنـى ذلـك: (( فهـي كالحجـارة أو أشـد قسـوة )) عندكـم حكـاه ابـن جريـر.
وقـال بعضهـم: معنـى ذلـك فقلوبكـم لا تخـرج عـن أحـد هذيـن المثليـن: إمـا أن تكـون مثـل الحجـارة فـي القسـوة، وإمـا أن تكـون أشـد منهـا فـي القسـوة.
قـال ابـن جريـر ومعنـى ذلـك علـى هـذا التأويـل فبعضهـا كالحجـارة قسـوة، وبعضهـا أشـد قسـوة مـن الحجـارة، وقـد رجحـه ابـن جريـر مـع توجيـه غيـره.
( قلـت ) وهـذا القـول الأخيـر يبقـى شـبيهاً بقولـه تعالـى: (( مثلهـم كمثـل الـذي اسـتوقد نـاراً )) مـع قولـه: (( أو كصيـب مـن السـماء )) ، وكقولـه: (( والذيـن كفـروا أعمالهـم كسـراب بقيعـة )) ، مـع قولـه: (( أو كظلمـات فـي بحـر لجـي )) الآيـة، أي إن منهـم مـن هـو هكـذا ومنهـم مـن هـو هكـذا، والله أعلـم.
عـن ابـن عمـر: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لا تكثـروا الكـلام بغيـر ذكـر الله، فـأن كثـرة الكـلام بغيـر ذكـر الله قسـوة القلـب، وإن أبعـد النـاس مـن الله القلـب القاسـي }} .
وروي مرفوعـاً: { أربـع مـن الشـقاء: جمـود العيـن، وقسـاوة القلـب، وطـول الأمـل، والحـرص علـى الدنيـا }.
(( أَفتطمَعـونَ أَن يُؤمِنُـوا لَكُـم وَقَـد كـانَ فريـقٌ مِنهُـم يَسـمَعونَ كَـلامَ اللهِ ثُـمَّ يُحرِّفونَـهُ مِـن بَعـدِ مـا عَقَلـوهُ وهُـم يعلَمـونَ .. وإِذا لَقُـوا الّذيـنَ آمنـوا قالـوا آمنّـا وإِذا خَـلا بَعضُهُـم إلـى بَعـضٍ قالـوا أَتُحدّثونَهُـم بِمـا فَتَـحَ اللهُ علَيكُـم ليُحاجُّوكُـم بِـهِ عِنـدَ رَبِكُـم أَفَـلا تَعقِلُـونَ .. أَوَلا يَعلَمُـونَ أَنَّ اللهَ يَعلَـمُ مـا يُسِـرُّونَ وَمَـا يُعلِنُـونَ )) / 77 /
يقـول تعالـى: (( أفتطمعـون )) أيهـا المؤمنـون (( أن يؤمنـوا لكـم )) أي ينقـاد لكـم بالطاعـة هـؤلاء الفرقـة الضالـة مـن اليهـود، الذيـن شـاهد آباؤهـم مـن الآيـات البينـات مـا شـاهدوه، ثـم قسـت قلوبهـم مـن بعـد ذلـك، (( وقـد كـان فريـق منهـم يسـمعون كـلام الله ثـم يحرفونـه )) أي يتأولونـه علـى غيـر تأويلـه (( مـن بعـد مـا عقلـوه )) أي فهمـوه علـى الجليـة، ومـع هـذا يخالفونـه علـى البصيـرة (( وهـم يعلمـون )) أنهـم مخطئـون فيمـا ذهبـوا إليـه مـن تحريفـه وتأويلـه. وهـذا المقـام شـبيه بقولـه تعالـى: (( فيمـا نقضهـم ميثاقهـم لعناهـم وجعلنـا قلوبهـم قاسـية يحرفـون الكلـم عـن مواضعـه )) وليـس كلهـم قـد سـمعها، ولكـن هـم الذيـن سـألوا موسـى رؤيـة ربهـم فأخذتهـم الصاعقـة فيهـا.
وقـال السـدي: هـي التـوراة حرفوهـا.
وقـال قتـادة فـي قولـه: (( ثـم يحرفونـه مـن بعـد مـا عقلـوه وهـم يعلمـون )) هـم اليهـود كانـوا يسـمعون كـلام الله ثـم يحرفونـه عـن مواضعـه، وقـال السـدي: (( وهـم يعلمـون )) أي أنهـم أذنبـوا.
وقـال وهـب فـي قولـه (( يسـمعون كـلام الله ثـم يحرفونـه )) قـال: التـوراة التـي أنزلهـا الله عليهـم، يحرفونهـا يجعلـون الحـلال فيهـا حرامـاً، والحـرام فيهـا حـلالاً، والحـق فيهـا باطـلاً والباطـل فيهـا حقـاً.
وقولـه تعالـى: (( وإذا لقـوا الذيـن آمنـوا قالـوا آمنـا ))
قـال ابـن عبـاس (( وإذا لقـوا الذيـن أمنـوا قالـوا آمنـا )): أي قالـوا: إن صاحبكـم رسـول الله ولكنـه إليكـم خاصـة.
(( وإذا خلـوا بعضهـم إلـى بعـض )) قالـوا: لا تحدثـوا العـرب بهـذا فإنكـم قـد كنتـم تسـتفتحون بـه عليهـم فكـان منهـم.
(( وإذا خـلا بعضهـم إلـى بعـض قالـوا أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم ليحاجوكـم بـه عنـد ربكـم )) أي تقـرون بأنـه نبـي وقـد علمتـم أنـه قـد أخـذ لـه الميثـاق عليكـم باتباعـه، وهـو يخبرهـم أنـه النبـي الـذي كنـا ننتظـر ونجـد فـي كتبنـا، اجحـدوه ولا تقـروا بـه.
يقـول الله تعالـى: (( أولا يعلمـون أن الله يعلـم مـا يسـرون ومـا يعلنـون )) ؟
وقـال الضحّـاك: يعنـي المنافقيـن مـن اليهـود كانـوا إذا لقـوا أصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم قالـوا آمنـا.
وقـال السـدي: هـؤلاء نـاس مـن اليهـود آمنـوا ثـم نافقـوا. وكانـوا يقولـون إذا دخلـوا المدينـة نحـن مسـلمون، ليعملـوا خبـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وأمـره، فـإذا رجعـوا رجعـوا إلـى الكفـر، فلمـا أخبـر الله نبيـه صلـى الله عليـه وسـلم قطـع ذلـك عنهـم فلـم يكونـوا يدخلـون، وكـان المؤمنـون يظنـون أنهـم مؤمنـون فيقولـون: أليـس قـد قـال الله لكـم كـذا وكـذا، فيقولـون: بلـى.
قـال أبـو العاليـة: (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم )) يعنـي بمـا أنـزل عليكـم فـي كتابكـم مـن نعـت محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
وقـال قتـادة: (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم ليحاجوكـم بـه عنـد ربكـم )) كانـوا يقولـون سـيكون نبـي فخـلا بعضهـم ببعـض فقالـوا: (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم )) .
وعـن مجاهـد فـي قولـه تعالـى: (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم )) قـال: قـام النبـي صلـىالله عليـه وسـلم يـوم قريظـة تحـت حصونهـم، فقـال: {{ يـا إخـوان القـردة والخنازيـر، ويـا عبـدة الطاغـوت }} فقـالـوا: مـن أخبـر بهـذا محمـداً ؟ مـا خـرج هـذا القـول إلا منكـم (( أتحدثونهـم بمـا فتـح الله عليكـم )) بمـا حكـم الله للفتـح ليكـون لهـم حجـة عليكـم.
وقـال الحسـن البصـري: هـؤلاء اليهـود كانـوا إذا لقـوا الذيـن آمنـوا قالـوا آمنـا، وإذا خـلا بعضهـم إلـى بعـض قـال بعضهـم: لا تحدثـوا أصحـاب محمـد بمـا فتـح الله عليكـم، ممـا فـي كتابكـم ليحاجوكـم بـه عنـد ربكـم فيخصموكـم.
وقولـه تعالـى: (( أولا يعلمـون أن الله يعلـم مـا يسـرون ومـا يعلنـون )) يعنـي مـا أسـروا مـن كفرهـم بمحمـد صلـى الله عليـه وسـلم وتكذيبهـم بـه وهـم يجدونـه مكتوبـاً عندهـم.
وقـال الحسـن: (( إن الله يعلـم مـا يسـرون )) كـان مـا أسـروا أنهـم كانـوا إذا تولـوا عـن أصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم وخـلا بعضهـم إلـى بعـض، تناهـوا أن يخبـر أحـد منهـم أصحـاب محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم بمـا فتـح الله عليهـم ممـا فـي كتابهـم، خشـية أن يحاجهـم أصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم بمـا فـي كتابهـم عنـد ربهـم (( ومـا يعلنـون )) يعنـي حيـن قالـوا لأصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم أمنـا.
(( ومنهـم أميـون لا يعلمـون الكتـاب إلا أمانـي وإن هـم إلا يظنـون .. فويـل للذيـن يكتبـون الكتـاب بأيديهـم ثـم يقولـون هـذا مـن عنـد الله ليشـتروا بـه ثمنـاً قليـلاً فويـل لهـم ممـا كتبـت أيديهـم وويـل لهـم ممـا يكسـبون )) / 79 /
يقـول تعالـى: (( ومنهـم أميـون )) أي ومـن أهـل الكتـاب، والأميـون جمـع أمـي وهـو الرجـل الـذي لا يحسـن الكتابـة، وهـو ظاهـر فـي قولـه تعالـى: (( لا يعلمـون الكتـاب )) أي لا يـدرون مـا فيـه، ولهـذا فـي صفـات النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: أنـه أمـي لأنـه لـم يكـن يحسـن الكتابـة كمـا قـال تعالـى: (( ومـا كنـت تتلـو مـن قبلـه مـن كتـاب ولا تخطـه بيمينـك إذاً لارتـاب المبطلـون )) .
وقـال عليـه الصـلاة والسـلام: {{ إنـا أمـة أميـة لا نكتـب ولا نحسـب، الشـهر هكـذا وهكـذا وهكـذا }} الحديـث.
وقـال تبـارك وتعالـى: (( هـو الـذي بعـث فـي الأميـون رسـولاً منهـم ))
قـال ابـن جريـر: نسـبت العـرب مـن لا يكتـب ولا يخـط مـن الرجـال إلـى أمـه فـي جهلـه بالكتـاب دون أبيـه.
وقولـه تعالـى: (( إلا أمانـي ))
عـن ابـن عبـاس: (( إلا أمانـي )) يقـول إلا قـولاً يقولونـه بأفواههـم كذبـاً.
وقـال مجاهـد: إلا كذبـاً.
وعـن مجاهـد: (( ومنهـم أميـون لا يعلمـون الكتـاب إلا أمانـي )) قـال: أنـاس مـن اليهـود لـم يكونـوا يعلمـون مـن الكتـاب شـيئاً، وكانـوا يتكلمـون بالظـن بغيـر مـا فـي كتـاب الله ويقولـون هـو مـن الكتـاب ( أمانـي ) يتمنونهـا، والتمنـي فـي هـذا الموضـع هـو تخلـق الكـذب وتخرصـه، ومنـه الخبـر المـروي عـن عثمـان رضـي الله عنـه { مـا تغنيـت ولا تمنيـت } يعنـي مـا تخرصـت الباطـل ولا اختلقـت الكـذب.
وقيـل: المـراد بقولـه (( إلا أمانـي )) بالتشـديد والتخفيـف أيضـاً أي إلا تـلاوة. واسـتشـهدوا علـى ذلـك بقولـه تعالـى: (( إلا إذا تمنـى ألقـى الشـيطان فـي أمنيتـه )) الآيـة.
(( وإن هـم إلا يظنـون )) يكذبـون.
وقولـه تعالـى: (( فويـل للذيـن يكتبـون الكتـاب بأيديهـم ثـم يقولـون هـذا مـن عنـد الله ليشـتروا بـه ثمنـاً قليـلاً )) الآيـة.
هـؤلاء صنـف آخـر مـن اليهـود وهـم الدعـاة إلـى الضـلال بالـزور والكـذب علـى الله وأكـل أمـوال النـاس بالباطـل.
والويـل: الهـلاك والدمـار، وهـي كلمـة مشـهورة فـي اللغـة العربيـة.
وعـن ابـن عبـاس، الويـل: المشـقة مـن العـذاب.
وقـال الخليـل، الويـل: شـدة الشـر.
وقـال سـيبويـه: ويـل لمـن وقـع فـي الهلكـة، وويـح لمـن أشـرف عليهـا.
وقـال الأصمعـي: الويـل تفجـع، والويـح ترحـم.
وقـال غيـره: الويـل الحـزن.
وعـن عكرمـة عـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا: (( فويـل للذيـن يكتبـون الكتـاب بأيديهـم )) قـال: هـم أحبـار اليهـود.
وقـال السـدي: كـان نـاس مـن اليهـود كتبـوا كتابـاً مـن عندهـم يبيعونـه مـن العـرب ويحدثونهـم أنـه مـن عنـد الله ليأخـذوا بـه ثمنـاً قليـلاً.
وقـال الزهـري عـن ابـن عبـاس: { يـا معشـر المسـلمين كيـف تسـألون أهـل الكتـاب عـن شـيء وكتـاب الله الـذي أنزلـه علـى نبيـه أحـدث أخبـار الله تقرؤونـه غضـاً لـم يشـب، وقـد حدثكـم الله تعالـى أن أهـل الكتـاب قـد بدلـوا كتـاب الله وغيـروه، وكتبـوا بأيديهـم الكتـاب وقالـوا هـو مـن عنـد الله ليشـتروا بـه ثمنـاًً قليـلاً، أفـلا ينهاكـم مـا جاءكـم مـن العلـم عـن مسـاءلتهم، ولا والله مـا رأينـا منهـم أحـداً قـط سـألكم عـن الـذي أنـزل عليكـم }.
وقولـه تعالـى: (( فويـل لهـم ممـا كتبـت أيديهـم وويـل لهـم ممـا يكسـبون )) أي فويـل لهـم ممـا كتبـوا بأيديهـم مـن الكـذب والبهتـان والافتـراء، وويـل لهـم ممـا أكلـوا بـه مـن السـحت.
كمـا قـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا (( فويـل لهـم )) يقـول: فالعـذاب عليهـم مـن الـذي كتبـوا بأيديهـم مـن ذلـك الكـذب (( وويـل لهـم ممـا يكسـبون )) يقـول: ممـا يأكلـون بـه أولئـك النـاس السـفلة وغيرهـم.
(( وقالـوا لَـن تَمَسَّـنا النـارُ إِلا أيّامَـاً مَعـدُودَةً قُـل أَتّخذتُـم عِنـدَ اللهِ عَهـداً فَلَـن يُخلِـفَ اللهُ عَهـدَهُ أَم تقولُـونَ علـى اللهِ مـا لا تعلَمـونَ )) / 80 /
يقـول تعالـى إخبـاراً عـن اليهـود فيمـا نقلـوه وادعـوه لأنفسـهم، مـن أنهـم لـن تمسـهم النـار إلا أيامـاً معـدودة، ثـم ينجـون منهـا، فـرد الله عليهـم ذلـك بقولـه تعالـى: (( قـل أتخذتـم عنـد الله عهـداً )) أي بذلـك، فـإذا كـان قـد وقـع عهـد فهـو لا يخلـف عهـده، ولكـن هـذا مـا جـرى ولا كـان، ولهـذا أتـى بـ أم التـي بمعنـى ( بـل ) أي يقولـون: إن هـذه الدنيـا سـبعة آلاف سـنة، وإنمـا نعـذب بكـل ألـف سـنة يومـاً فـي النـار، وإنمـا هـي سـبعة أيـام معـدودة، فأنـزل الله تعالـى: (( وقالـوا لـن تمسـنا النـار إلا أيامـاً معـدودة )) إلـى قولـه: (( خالـدون )).
وقـال العوفـي عـن ابـن عبـاس: قالـوا لـن تمسـنا النـار إلا أربعيـن ليلـة، وسـيخلفنا فيهـا قـوم آخـرون، يعنـون محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم وأصحابـه، فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بيـده علـى رؤوسـهم: {{ بـل أنتـم خالـدون ومخلـدون لا يخلفكـم فيهـا أحـد }} ، فأنـزل الله عـز وجـل: (( وقالـوا لـن تمسـنا النـار إلا أيامـاً معـدودة )) الآيـة.
وعـن أبـي هريـرة رضـي الله عنـه قـال: لمـا فتحـت خيبـر أهديـت لرسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم شـاة فيهـا سـم، فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ اجمعـوا لـي مـا كـان مـن اليهـود هنـا }} ، فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن أبوكـم ؟ }}، قالـوا: فـلان، قـال: {{ كذبتـم بـل أبوكـم فـلان }} ، فقالـوا: صدقـت وبـررت، ثـم قـال لهـم: {{ هـل أنتـم صادقـي عـن شـيء إن سـألتكم عنـه ؟ }} ، قالـوا: نعـم يـا أبـا القاسـم، وإن كذبنـاك عرفـت كذبنـا كمـا عرفتـه فـي أبينـا، فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن أهـل النـار ؟ }} فقالـوا: نكـون فيهـا يسـيراً ثـم تخلفونـا فيهـا، فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ اخسـئوا والله لا نخلفكـم فيهـا أبـداً }}. ثـم قـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ هـل أنتـم صادقـي عـن شـيء إن سـألتكم عنـه ؟ }} ، قالـوا: نعـم يـا أبـا القاسـم، قـال: {{ هـل جعلتـم فـي هـذه الشـاة سـماً ؟ }} فقالـوا: نعـم، قـال: {{ فمـا حملكـم علـى ذلـك ؟ }} ، فقالـوا: أردنـا إن كنـت كاذبـاً أن نسـتريح منـك، وإن كنـت نبيـاً لـم يضـرك.
(( بَلـى مَـن كتَـبَ سَـيّئةً وأَحاطَـت بِـهِ خَطيئَتُـهُ فأولئِـكَ أَصحـابُ النّـارَ هُـم فِيهـا خالـدونَ .. والذيـنَ آمنـوا وعَمِلـوا الصالحـاتِ أولئِـكَ أصحـابُ الجنّـةِ هُـم فيهـا خالـدونَ )) / 82 /
يقـول تعالـى: ليـس الأمـر كمـا تمنيتـم ولا كمـا تشـتهون، بـل الأمـر أنـه مـن عمـل سـيئة (( وأحاطـت بـه خطيئتـه )) وهـو مـن وافـى يـوم القيامـة وليسـت حسـنة، بـل جميـع أعمالـه سـيئات، فلهـذا مـن أهـل النـار.
(( والذيـن أمنـوا وعملـوا الصالحـات )) أي أمنـوا بالله ورسـوله، وعملـوا الصالحـات مـن العمـل الموافـق للشـريعة، فهـم مـن أهـل الجنـة، وهـذا المقـام شـبيه بقولـه تعالـى: (( ليـس بأمانيكـم ولا أمانـي أهـل الكتـاب مـن يعمـل سـوءاً يجـز بـه ولا يجـد لـه مـن دون الله وليـاً ولا نصيـراً . ومـن يعمـل مـن الصالحـات مـن ذكـر أو أنثـى وهـو مؤمـن فأولئـك يدخلـون الجنـة ولا يظلمـون نقيـراً )) .
قـال ابـن عبـاس: (( بلـى مـن كسـب سـيئة )) أي عمـل مثـل أعمالكـم، وكفـر بمثـل مـا كفرتـم بـه، حتـى يحيـط بـه كفـره فمـا لـه حسـنة.
وفـي روايـة عـن ابـن عبـاس قـال: الشـرك.
وقـال الحسـن: السـيئة الكبيـرة مـن الكبائـر.
وقـال عطـاء والحسـن: (( وأحاطـت بـه خطيئتـه )) أحـاط بـه شـركه.
وقـال الأعمـش: (( وأحاطـت بـه خطيئتـه )) الـذي يمـوت علـى خطايـاه مـن قبـل أن يتـوب.
وعـن عبـد الله بـن مسـعود رضـي الله عنـه أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ إياكـم ومحقـراتِ الذنـوب، فإنهـن يجتمعـن علـى الرجـل حتـى يهلكنـه }} وإن رسـول صلـى الله عليـه وسـلم ضـرب لهـم مثـلاً كمثـل قـوم نزلـوا بـأرض فـلاة فحضـر صنيـع القـوم، فجعـل الرجـل ينطلـق فيجـيء بالعـود، حتـى جمعـوا سـواداً وأججـوا نـاراً فأنضجـوا مـا قذفـوا فيهـا.
وقولـه تعالـى: (( والذيـن آمنـوا وعملـوا الصالحـات أولئـك أصحـاب الجنـة هـم فيهـا خالـدون )) أي مـن آمـن بمـا كفرتـم وعمـل بمـا تركتـم مـن دينـه فلهـم الجنـة خالديـن فيهـا، يخبرهـم أن الثـواب بالخيـر والشـر مقيـم علـى أهلـه أبـداً لا انقطـاع لـه.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 78 ، 79 ، 80 ، 81 ، 82 ، 83 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
أخواتـي فـي الله ...
أنـا حزينـة جـداً هـذا اليـوم...
أنـا مضطـرة للغيـاب عـن صفحـات هـذا المنتـدى...
سـأغيب لبضعـة أيـام... قـد تطـول أو تقصـر... لا أدري...
أحتـاج لدعواتكـن خـلال هـذه الفتـرة أخواتـي..
وأعـرف أنكـن سـتفعلن...
سـأشـتاق لكلماتكـن... سـأشـتاق لكـن...
سـأشـتاق لمتابعـة مـا بدأتـه..
لكننـي سـأعود... إن شـاء الله ...
إلـى اللقـاء...
*****************
أخواتـي فـي الله ...
أنـا حزينـة جـداً هـذا اليـوم...
أنـا مضطـرة للغيـاب عـن صفحـات هـذا المنتـدى...
سـأغيب لبضعـة أيـام... قـد تطـول أو تقصـر... لا أدري...
أحتـاج لدعواتكـن خـلال هـذه الفتـرة أخواتـي..
وأعـرف أنكـن سـتفعلن...
سـأشـتاق لكلماتكـن... سـأشـتاق لكـن...
سـأشـتاق لمتابعـة مـا بدأتـه..
لكننـي سـأعود... إن شـاء الله ...
إلـى اللقـاء...
*****************
الصفحة الأخيرة
(( وإذ قلتـم يـا موسـى لَـن نصبِـرَ علـى طعـامٍ واحـدٍ فَـادعُ لنـا ربـكَ يخـرج لنـا ممـا تنبـتُ الأرضُ مِـن بقلهـا وقِثائِهـا وفومِهـا وعـدسِـها وبصلِهـا قـالَ أتسـتبدلونَ الـذي هـوَ أدنـى بالـذي هـوَ خيـر اهبطـوا مصـراً فـإنَ لكُـم مـا سـألتم ...
يقـول تعالـى واذكـروا نعمتـي عليكـم فـي إنزالـي عليكـم المـن والسـلوى طعامـاً طيبـاً نافعـاً هنيئـاً سـهلاً، واذكـروا ضجركـم ممـا رزقناكـم وسـؤالكـم موسـى الأطعمـة الدنيئـة مـن البقـول ونحوهـا ممـا سـألتم.
قـال الحسـن البصـري: فبطـروا وذكـروا عيشـهم الـذي كانـوا فيـه، وكانـوا قومـاً أهـل أعـداس وبصـل وبقـل وفـوم، فقالـوا: (( يـا موسـى لـن نصبـر علـى طعـام واحـد فـادع لنـا ربـك يخـرج لنـا ممـا تنبـت الأرض مـن بقلهـا وقثائهـا وفومهـا وعدسـها وبصلهـا )) وإنمـا قالـوا علـى طعـام واحـد وهـم يأكلـون المـن والسـلوى لأنـه لا يتبـدل ولا يتغيـر كـل يـوم فهـو مأكـل واحـد.
وأمـا الفـوم ، فقـال ابـن عبـاس: الثـوم .
وقـال آخـرون: الفـوم: الحنطـة وهـو البُّـر الـذي يعمـل منـها الخبـز .
وروي أن ابـن عبـاس سـئل عـن قـول الله : (( وفومهـا )) مـا فومهـا ؟ قـال: الحنطـة .
وقـال ابـن جريـر، عـن ابـن عبـاس فـي قـول الله تعالـى (( وفومهـا )) قـال: الفـوم الحنطـة بلسـان بنـي هاشـم.
وقـال الجوهـري: الفـوم الحنطـة .
وحكـى القرطبـي عـن عطـاء وقتـاده: أن الفـوم كـل حـب يختبـز، قـال .
وقـال بعضهـم: هـو الحمـص، لغـة شـامية .
قـال البخـاري: وقـال بعضهـم الحبـوب التـي تؤكـل كلهـا فـوم.
وقولـه: (( قـال أتسـتبدلون الـذي هـو أدنـى بالـذي هـو خيـر )) ؟ فيـه تقريـع لهـم وتوبيـخ علـى مـا سـألوا مـن هـذه الأطعمـة الدنيئـة مـع مـا هـم فيـه مـن العيـش الرغيـد والطعـام الهنـيء الطيـب النافـع.
وقولـه تعالـى: (( اهبطـوا مصـراً )) هكـذا هـو منـون مصـروف .
وقـال ابـن عبـاس: مصـراً مـن الأمصـار.
والمعنـى أن هـذا الـذي سـألتم ليـس بأمـرٍ عزيـز بـل هـو كثيـر فـي أي بلـد دخلتموهـا وجدتمـوه، فليـس يسـاوي مـع دناءتـه وكثرتـه فـي الأمصـار أن أسـأل الله فيـه.
ولهـذا قـال: (( أتسـتبدلون الـذي هـو أدنـى بالـذي هـو خيـر اهبطـوا مصـراً فـإن لكـم مـا سـألتم )) أي مـا طلبتـم، ولمـا كـان سـؤالهم هـذا مـن بـاب البطـر والأشـر ولا ضـرورة فيـه لـم يجابـوا إليـه، والله أعلـم.
... وضرِبَـت عليهـمُ الذِلـةُ والمَسـكنةُ وبـاءُوا بِغَضـبٍ مِـنَ اللهِ ذلـكَ بأنهُـم كانـوا يكفـرونَ بآيـاتِ اللهِ ويقتلـونَ النبييـنَ بغيـرِ الحـقِ ذلـكَ بمـا عصَـوا وكانـوا يعتـدونَ )) / 61 /
يقـول تعالـى: (( وضربـت عليهـم الذلـة والمسـكنة )) أي وضعـت عليهـم وأُلزمـوا بهـا شـرعاًَ وقـدراً، أي لا يزالـون مسـتذلين مـن وَجدهـم اسـتذلهم وأهانهـم وضـرب عليهـم الصغـارَ، وهـم مـع ذلـك فـي أنفسـهم أذلاء مسـتكينون. يعطـون الجزيـة عـن يـدٍ وهـم صاغـرون.
قـال الضحّـاك: (( وضربـت عليهـم الذلـة )) قـال: الـذل .
وقـال الحسـن: أذلهـم الله فـلا منعـة لهـم وجعلهـم تحـت أقـدام المسـلمين وقـد أدركتهـم هـذه الأمـة وإن المجـوس لتجبيهـم الجزيـة.
وقـال أبـو العاليـة والسـدي: المسـكنة: الفاقـة ، وقولـه تعالـى: (( وبـاءوا بغضـب مـن الله )) اسـتحقوا الغضـب مـن الله .
وقـال ابـن جريـر: يعنـي بقولـه: (( وبـاءوا بغضـب مـن الله )) : انصرفـوا ورجعـوا.
ولا يقـال ( بـاءَ ) إلا موصـولاً إمـا بخيـر وأمـا بشـر، يقـال منـه: بـاء فـلان بذنبـه يبـوء بـه، ومنـه قولـه تعالـى: (( إنـي أريـد أن تبـوء بإثمـي وإثمـك )) يعنـي تنصـرف متحملهمـا وترجـع بهمـا قـد صـارا عليـك دونـي.
فمعنـى الكـلام، رجعـوا منصرفيـن متحمليـن غضـب الله ، قـد صـار عليهـم مـن الله غضـب ووجـب عليهـم مـن الله سـخط .
وقولـه تعالـى: (( ذلـك بأنهـم كانـوا يكفـرون بآيـات الله ويقتلـون النبييـن بغيـر الحـق )) .
يقـول الله تعالـى هـذا الـذي جازيناهـم مـن الذلـة والمسـكنة وإحـلال الغضـب بهـم مـن الذلـة، بسـبب اسـتكبارهم عـن اتبـاع الحـق، وكفرهـم بآيـات الله ، وإهانتهـم حملـة الشـرع وهـم ( الأنبيـاء ) وأتباعهـم، فانتقصوهـم إلـى أن أفضـى بهـم الحـال إلـى أن قتلوهـم فـلا كفـر أعظـم مـن هـذا، إنهـم كفـروا بآيـات الله وقتلـوا أنبيـاء الله بغيـر الحـق.
ولهـذا جـاء فـي الحديـث المتفـق علـى صحتـه أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ الكبـر بطـر الحـق وغَمْـطُ النـاس }} يعنـي رد الحـق وانتقـاص النـاس والازدراء بهـم والتعاظـم عليهـم.
ولهـذا لمـا ارتكـب بنـو إسـرائيل مـا ارتكبـوه مـن الكفـر بآيـات الله ، وقتلهـم أنبيـاءه، أحـل الله بهـم بأسـه الـذي لا يُـرد، وكسـاهم ذلاً فـي الدنيـا موصـولاً بـذل الآخـرة جـزاءً وفاقـاً.
وعـن عبـد الله بـن مسـعود: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ أشـد النـاس عذابـاً يـوم القيامـة رجـلٌ قتلـه نبـي أو قَتَـلَ نبيـاً، وإمـام ضلالـة وممثـل مـن الممثليـن }} .
وقولـه تعالـى: (( ذلـك بمـا عصـوا وكانـوا يعتـدون )) وهـذه علـة أخـرى فـي مجازاتهـم بمـا جـوزوا بـه أنهـم كانـوا يعصـون ويعتـدون، فالعصيـان: فعـل المناهـي، والاعتـداء: المجـاوزة فـي حـد المـأذون فيـه والمأمـور بـه، والله أعلـم.
(( إنَّ الذيـنَ آمنـوا والّذيـنَ هـادوا والنّصـارى والصّابِئيـنَ مَـن آمـنَ بِاللهِ واليـومِ الآخـرِ وعَمِـلَ صالِحـاً فلهُـم أجرهُـم عِنـد ربِّهِـم ولا خَـوفٌ عليهِـم ولا هُـم يحزنـونَ )) / 62 /
لمـا بيّـن تعالـى حـال مـن خالـف أوامـره، وارتكـب زواجـره، وتعـدى فـي فعـل مـا لا إذن فيـه وانتهـك المحـارم، ومـا أحـل بهـم مـن النكـال، نبّـه تعالـى علـى أن مـن أحسـن مـن الأمـم السـالفة وأطـاع فـإن لـه جـزاء الحسـنى، وكذلـك الأمـر إن قيـام السـاعة، كـل مـن اتبـع الرسـول النبـي الأمّـي فلـه السـعادة الأبديـة، ولا خـوف عليهـم فيمـا يسـتقبلونه ولا هـم يحزنـون علـى مـا يتركونـه ويخلفونـه كمـا قـال تعالـى: (( ألا إن أوليـاء الله لا خـوف عليهـم ولا هـم يحزنـون )).
وعـن مجاهـد قـال: قـال سـلمان رضـي الله عنـه: سـألت النبـي صلـى الله عليـه وسـلم عـن أهـل ديـن كنـتُ معهـم فذكـرت مـن صلاتهـم وعبادتهـم، فنزلـت: (( إن الذيـن آمنـوا والذيـن هـادوا والنصـارى والصابئيـن مـن آمـن بالله واليـوم الآخـر )) إلـى آخـر الآيـة.
وقـال السـدي: نزلـت فـي أصحـاب ( سـلمان الفارسـي ) بينمـا هـو يحـدث النبـي صلـى الله عليـه إذ ذكـر أصحابـه فأخبـروه خبرهـم فقـال: كانـوا يصلـون، ويصومـون، ويؤمنـون بـك، ويشـهدون أنـك سـتبعث نبيـاً، فلمـا فـرغ سـلمان مـن ثنائـه عليهـم قـال لـه النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ يـا سـلمان هـم مـن أهـل النـار }} ، فاشـتد ذلـك علـى سـلمان فأنـزل الله هـذه الآيـة فكـان إيمـان اليهـود أنـه مـن تمسـك بالتـوراة وسـنّة موسـى عليـه السـلام حتـى جـاء عيسـى، فلمـا جـاء عيسـى كـان مـن تمسـك بالتـوراة وأخـذ بسـنّة موسـى بالتـوراة فلـم يدعهـا ولـم يتبـع عيسـى كـان هالكـاً، وإيمـان النصـارى أن مـن تمسـك بالإنجيـل منهـم وشـرائع عيسـى كـان مؤمنـاً مقبـولاً منـه حتـى جـاء محمـد صلـى الله عليـه وسـلم ، فمـن لـم يتبـع محمـد صلـى الله عليـه وسـلم منهـم ويـدع مـا كـان عليـه مـن سـنة عيسـى والإنجيـل كـان هالكـاً.
( قلـت ) وهـذا لا ينافـي مـا روي عـن ابـن عبـاس (( إن الذيـن آمنـوا والذيـن هـادوا )) الآيـة، قـال: فأنـزل الله بعـد ذلـك: (( ومـن يبتـغ غيـر الإسـلام دينـاً فلـن يقبـل منـه وهـو فـي الآخـرة مـن الخاسـرين )) فـإن هـذا الـذي قالـه ابـن عبـاس إخبـار عـن أنـه لا يقبـل مـن أحـد طريقـة ولا عمـلاً إلا مـا كـان موافقـاً لشـريعة محمـد صلـى الله عليـه وسـلم بعـد أن بعثـه بمـا بعثـه بـه، فأمـا قبـل ذلـك فكـل مـن اتبـع الرسـول فـي زمانـه فهـو علـى هـدى وسـبيل ونجـاة، فاليهـود أتبـاع موسـى عليـه السـلام الذيـن كانـوا يتحاكمـون إلـى التـوراة فـي زمانهـم، واليهـود مـن الهـوادة وهـي المـودة أو التهـود وهـي التوبـة، كقـول موسـى عليـه السـلام: (( إنّـا هدنـا إليـك )) أي تبنـا فكأنهـم سـموا بذلـك فـي الأصـل لتوبتهـم ومودتهـم فـي بعضهـم لبعـض.
وقيـل: لنسـبتهم إلـى ( يهـودا ) أكبـر أولاد يعقـوب، فلمـا بعـث عيسـى عليـه السـلام وجـب علـى بنـي إسـرائيل اتباعـه والانقيـاد لـه، فأصحابـه وأهـل دينـه هـم النصـارى وسـموا بذلـك لتناصرهـم فيمـا بينهـم.
قـد يقـال لهـم أنصـار أيضـاً كمـا قـال عيسـى عليـه السـلام: (( مـن أنصـاري إلـى الله قـال الحواريـون نحـن أنصـار الله )) .
وقيـل: إنهـم إنمـا سـموا بذلـك مـن أجـل أنهـم نزلـوا أرضـاً يقـال لهـا ناصـرة. قالـه قتـادة وروي عـن ابـن عبـاس أيضـاً، والله أعلـم.
فلمـا بعـث الله محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم خاتمـاً للنبييـن، ورسـولاً إلـى بنـي آدم علـى الإطـلاق، وجـب عليهـم تصديقـه فيمـا أخبـر، وطاعتـه فيمـا أمـر، والانكفـاف عمـا عنـه زجـر، وهـؤلاء هـم المؤمنـون حقـاً.
وسـمِّيت أمـة محمـد صلـى الله عليـه وسـلم مؤمنيـن لكثـرة إيمانهـم، وشـدة إيقانهـم، ولأنهـم يؤمنـون بجميـع الأنبيـاء الماضيـة والغيـوب الآتيـة.
وأمـا الصابئـون فقـد اختلـف فيهـم.
فقـال مجاهـد: الصابئـون قـوم بيـن المجـوس واليهـود والنصـارى ليـس لهـم ديـن.
وقـال أبـو العاليـة والضحّـاك: الصابئـون فرقـة مـن أهـل الكتـاب يقـرؤون الزبـور، لهـذا قـال أبـو حنيفـة وإسـحاق: لا بـأس بذبائحهـم ومناكحتهـم.
وقـال أبـو جعفـر الـرازي: بلغنـي أن الصابئيـن قـوم يعبـدون الملائكـة ويقـرؤون الزبـور ويصلـون للقبلـة.
وسـئل وهـب بـن منبـه عـن الصابئيـن فقـال: الـذي يعـرف الله وحـده، وليسـت لـه شـريعة يعمـل بهـا، ولـم يُحَـدث كفـراً.
وقـال عبـد الرحمـن بـن زيـد: الصابئـون أهـل ديـن مـن الأديـان، كانـوا بجزيـرة الموصـل يقولـون: "" لا إلـه إلا الله """ وليـس لهـم عمـل ولا كتـاب ولا نبـي إلا قـول: لا إلـه إلا الله ، قـال: ولـم يؤمنـوا برسـول. فمـن أجـل ذلـك كـان المشـركون يقولـون للنبـي صلـى الله عليـه وسـلم وأصحابـه: هـؤلاء الصابئـون يشـبهونهم بهـم، يعنـي فـي قـول: "" لا إلـه إلا الله "".
وقـال الخليـل: هـم قـوم يشـبه دينهـم ديـن النصـارى إلا أن قبلتهـم نحـو مهـب الجنـوب يزعمـون أنهـم علـى ديـن نـوح عليـه السـلام.
قـال القرطبـي: والـذي تحصّـل مـن مذهبهـم فيمـا ذكـره بعـض العلمـاء أنهـم موحـدون ويعتقـدون تأثيـر النجـوم وأنهـا فاعلـة، ولهـذا أفتـى أبـو سـعيد الأصطخـري بكفرهـم للقـادر بالله حيـن سـأله عنهـم.
واختـار الـرازي أن الصابئيـن قـوم يعبـدون الكواكـب بمعنـى أن الله جعلهـا قبلـة للعبـاد والدعـاء أو بمعنـى أن الله فـوّض تدبيـر أمـر هـذا العالـم إليهـا.
وأظهـر الأقـوال _ والله أعلـم _ قـول مجاهـد ومتابعيـه ووهـب بـن منبـه: أنهـم قـوم ليـس علـى ديـن اليهـود ولا النصـارى ولا المجـوس ولا المشـركين، وإنمـا هـم قـوم باقـون علـى فطرتهـم ولا ديـن مقـرر لهـم يتبعونـه ويقتفونـه، ولهـذا كـان المشـركون ينبـذون مـن أسـلم بالصابـئ، أي أنـه قـد خـرج عـن سـائر أديـان الأرض إذ ذاك.
وقـال بعـض العلمـاء: الصابئـون الذيـن لـم تبلغهـم دعـوة النبـي، والله أعلـم.
(( وإذ أخذنـا اللهُ ميثاقكُـم ورفعنـا فوقكُـمُ الطّـورَ خُـذوا مـا آتيناكُـم بِقـوّة واذكـروا مـا فيـهِ لعلكُـم تتّقـونَ ? ثـمَّ تولَّيتُـم مِـن بعـدِ ذلـكَ فلـولا فضـلُ اللهِ عليكُـم ورحمتُـهُ لكنتُـم مِـنَ الخاسِـرينَ )) / 64 /
يقـول تعالـى مذكـراً بنـي إسـرائيل مـا أخـذ عليهـم مـن العهـود والمواثيـق، بالإيمـان بـه وحـده لا شـريك لـه، واتبـاع رسـله، وأخبـر تعالـى أنـه لمـا أخـذ عليهـم الميثـاق رفـع الجبـل فـوق رؤوسـهم، ليقـروا بمـا عوهـدوا عليـه ويأخـذوه بقـوة وحـزم وامتثـال كمـا قـال تعالـى: (( وإذ نتقنـا الجبـل فوقهـم كأنـه ظلـة وظنـوا أنـه واقـع بهـم خـذوا مـا آتيناكـم بقـوة واذكـروا مـا فيـه لعلكـم تتقـون )) . فالطـور هـو الجبـل كمـا فسّـره بـه فـي الأعـراف.
وقـال السـدي: فلمـا أبـوا أن يسـجدوا أمـر الله الجبـل أن يقـع عليهـم، فنظـروا إليـه وقـد غشـيهم، فسـقطوا سـجداً فسـجدوا علـى شـق ونظـروا بالشـق الآخـر، فرحمهـم الله فكشـفه عنهـم فقالـوا: والله مـا سـجدة أحـب إلـى الله مـن سـجدة كشـف بهـا العـذاب عنهـم فهـم يسـجدون كذلـك، وذلـك قـول الله تعالـى: (( ورفعنـا فوقكـم الطـور )).
(( خـذوا مـا آتيناكـم )) ، يعنـي التـوراة .
قـال أبـو العاليـة: ( بقـوة ) أي بطاعـة .
وقـال مجاهـد ( بقـوة ) بعمـل مـا فيـه .
وقـال قتـادة: القـوة: الجـد وإلا قذفتـه عليكـم، قـال: فأقـروا أنهـم يأخـذون مـا أوتـوا بقـوة، ومعنـى قولـه وإلا قذفتـه عليكـم أي أسـقطه عليكـم، يعنـي الجبـل.
(( واذكـروا مـا فيـه )) يقـول: اقـرءوا مـا فـي التـوراة واعملـوا بـه .
وقولـه تعالـى: (( ثـم توليتـم مـن بعـد ذلـك فلـولا فضـل الله ))
يقـول تعالـى ثـم بعـد هـذا الميثـاق المؤكـد العظيـم، توليتـم عنـه وانثنيتـم ونقضتمـوه.
(( فلـولا فضـل الله عليـه ورحمتـه )) أي بتوبتـه عليكـم وإرسـاله النبييـن والمرسـلين إليكـم (( لكنتـم مـن الخاسـرين )) بنقضكـم ذلـك الميثـاق فـي الدنيـا والآخـرة.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 69 ، 70 ، 71 ، 72 ، 73 /
يتبـع إن شـاء الله ...
********************************