بسـم الله الرحمـن الرحيــم
(( سَـيَقُولُ السُّـفَهَاءُ مِـنَ النَّـاسِ مَا وَلاهُـمْ عَـن قِبْلَتِهِـمْ الَّتِـي كَانُـوا عَلَيْهَـا قُـل للهِ الَمشْـرِقُ وَالمَغْـرِبُ يَهْـديَ مَـنْ يَشَـاءُ إِلـى صِـراطٍ مُسْـتَقيمٍ (142) وَكَذلِـكَ جَعَلْناكُـمْ أُمَّـةً وَسَـطاً لِتَكُونُـوا شُـهَدَاءَ عَلـى النَّـاسِ وَيَكُـونَ الرَّسـولُ عَلَيكُـمُ شَـهيداً وَمَـا جَعَلْنَـا القِبْلَـةَ الَّتـي كُنْـتَ عَلَيهـا إِلا لِنَعْلَـمَ مَـنْ يَتَّبِـعُ الرَّسُـولَ مِمَّـن يَنقَلِـبُ عَلَـى عَقِبَيْـهِ وَإِن كَانَـتْ لَكَبِيـرَةً إِلا عَلـى الَّذِيـنَ هَـدَى اللهُ وَمَـا كَـانَ اللهُ لِيُضِيـعَ إِيمانَكُـمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّـاسِ لَـرَءوفٌ رَّحيـمٌ )) / 143 /
قيـل: المـراد بالسـفهاء ههنـا مشـركو العـرب قالـه الزجـاج.
وقيـل:أحبـار يهـود قالـه مجاهـد.
وقيـل: المنافقـون قالـه السُّـدي، والآيـة عامـة فـي هـؤلاء كلهـم، والله أعلـم.
عـن البـراء رضـي الله عنـه: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم صلّـى إلـى بيـت المقـدس سـتة عشـر شـهراً أو سـبعة عشـر شـهراً، وكـان يعجبـه أن تكـون قبلتـه قبـل البيـت، وأنـه صلـى أول صـلاة صلاهـا صـلاة العصـر وصلـى معـه قـوم فخـرج رجـل ممـن كـان صلـى معـه فمـر علـى أهـل المسـجد وهـم راكعـون، فقـال: أشـهد بالله لقـد صليـت مـع النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قِبَـل مكـة، فـداروا كمـا هـم قبـل البيـت وكـان الـذي قـد مـات علـى القبلـة قبـل أن تتحـول قبـل البيـت رجـالاً قتلـوا لـم نـدر مـا نقـول فيهـم فأنـزل الله: (( ومـا كـان الله ليضيـع إيمانكـم إن الله بالنـاس لـرءوف رحيـم )).
وعـن البـراء قـال: كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يصلـي نحـو بيـت المقـدس، ويكثـر النظـر إلـى السـماء ينتظـر أمـر الله، فأنـزل الله: (( قـد نـرى تقلـب وجهـك فـي السـماء فلنولينـك قبلـة ترضاهـا فـول وجهـك شـطر المسـجد الحـرام )).
فقـال رجـال مـن المسـلمين: وددنـا لـو علمنـا علـم مـن مـات منـا قبـل أن نُصْـرف إلـى القبلـة، وكيـف بصلاتنـا نحـو بيـت المقـدس؟ فأنـزل الله: (( ومـا كـان الله ليضيـع إيمانكـم )).
وقـال السـفهاء مـن النـاس _ وهـم أهـل الكتـاب _ مـا ولاهـم عـن قبلتهـم التـي كانـوا عليهـا؟ فأنـزل الله: (( سـيقول السـفهاء مـن النـاس )) إلـى آخـر الآيـة.
وعـن ابـن عبـاس أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لمـا هاجـر إلـى المدينـة أمـره الله أن يسـتقبل بيـت المقـدس، ففرحـت اليهـود فاسـتقبلها رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بضعـة عشـر شـهراً وكـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يحـب قبلـة إبراهيـم، فكـان يدعـو الله وينظـر إلـى السـماء فأنـزل الله عـزَّ وجـلّ: (( فولـوا وجوهكـم شـطره )) أي نحـوه، فارتـاب مـن ذلـك اليهـود وقالـوا: مـا ولاهـم عـن قبلتهـم التـي كانـوا عليهـا؟ فأنـزل الله: (( قـل لله المشـرق والمغـرب يهـدي مـن يشـاء إلـى صـراط مسـتقيم )). وقـد جـاء فـي هـذا البـاب أحاديـث كثيـرة.
وحاصـل الأمـر: أنـه قـد كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أُمِـر باسـتقبال الصخـرة مـن بيـت المقـدس، فكـان بمكـة يصلـي بيـن الركنيـن فتكـون بيـن يديـه الكعبـة وهـو مسـتقبل صخـرة بيـت المقـدس، فلمـا هاجـر إلـى المدينـة تعـذر الجمـع بينهمـا فأمـره الله بالتوجـه إلـى بيـت المقـدس قالـه ابـن عبـاس والجمهـور.
والمقصـود أن التوجـه إلـى بيـت المقـدس بعـد مقدمـه صلـى الله عليـه وسـلم المدينـة واسـتمر الأمـر علـى ذلـك بضعـة عشـر شـهراً، وكـان كثيـر الدعـاء والابتهـال أن يوجـه إلـى الكعبـة التـي هـي قبلـة إبراهيـم عليـه السـلام، فأجيـب إلـى ذلـك وأمـر بالتوجـه إلـى البيـت العتيـق، فخطـب رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم النـاس فأعلمهـم بذلـك، وكـان أول صـلاة صلاهـا إليـه صـلاة العصـر كمـا تقـدم فـي الصحيحيـن.
وذكـر غيـر واحـد مـن المفسـرين أن تحويـل القبلـة نـزل علـى رسـول الله وقـد صلـى ركعتيـن مـن الظهـر وذلـك فـي مسـجد بنـي سـلمة: فسـمي (مسـجد القبلتيـن) وأمـا أهـل قبـاء فلـم يبلغهـم الخبـر إلـى صـلاة الفجـر مـن اليـوم الثانـي كمـا جـاء فـي الصحيحيـن عـن ابـن عمـر رضـي الله عنهمـا أنـه قـال: { بينمـا النـاس بقبـاء فـي صـلاة الصبـح إذ جاءهـم آت فقـال: إن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـد أنـزل عليـه الليلـة قـرآن وقـد أمـر أن يسـتقبل الكعبـة فاسـتقبلوها، وكانـت وجوههـم إلـى الشـام فاسـتداروا إلـى الكعبـة }.
ولمـا وقـع هـذا حصـل لبعـض النـاس مـن أهـل النفـاق والريـب والكفـرة مـن اليهـود ارتيـابٌ وزيـغ عـن الهـدى وتخبيـط وشـك، وقالـوا: (( مـا ولاهـم عـن قبلتهـم التـي كانـوا عليهـا )) أي قالـوا: مـا لهـؤلاء تـارة يسـتقبلون كـذا وتـارة يسـتقبلون كـذا؟ فأنـزل الله جوابهـم فـي قولـه: (( قـل لله المشـرق والمغـرب )) أي الحكـم والتصـرف والأمـر كلـه لله، (( فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )) أي الشـأن كلـه فـي امتثـال أوامـر الله، فحيثمـا وجهنـا توجهنـا، فالطاعـة فـي امتثـال أمـره ولـو وجهنـا فـي كـل يـوم مـراتٍ إلـى جهـات متعـددة فنحـن عبيـده، وهـو تعالـى لـه بعبـده ورسـوله محمـد صلـوات الله وسـلامه عليـه وأمتـه عنايـة عظيمـة، إذ هداهـم إلـى قبلـة إبراهيـم خليـل الرحمـن، وجعـل توجههـم إلـى الكعبـة أشـرف بيـوت الله فـي الأرض، إذ هـي بنـاء إبراهيـم الخليـل عليـه السـلام، ولهـذا قـال: (( قـال لله المشـرق والمغـرب يهـدي مـن يشـاء إلـى صـراط مسـتقيم )).
عـن عائشـة قالـت: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، يعنـي فـي أهـل الكتـاب: {{ إنهـم لا يحسـدوننا علـى شـيء كمـا يحسـدوننا علـى يـوم الجمعـة التـي هدانـا الله لهـا وضلـوا عنهـا، وعلـى القبلـة التـي هدانـا الله لهـا، وضلـوا عنهـا، وعلـى قولنـا خلـف الإمـام آميـن }}.
وقولـه تعالـى: (( وكذلـك جعلناكـم أمـة وسـطاً لتكونـوا شـهداء علـى النـاس ويكـون الرسـول عليهـم شـهيداً ))، يقـول تعالـى إنمـا حولناكـم إلـى قبلـة إبراهيـم عليـه السـلام، واخترناهـا لكـم لنجعلكـم خيـار الأمـم لتكونـوا يـوم القيامـة شـهداء علـى الأمـم، لأن الجميـع معترفـون لكـم بالفضـل، والوسـط ههنـا: الخيـار والأجـود، كمـا يقـال: قريـش أوسـط العـرب نسـباً وداراً أي خيرهـا، وكـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وسـطاً فـي قومـه، أي أشـرفهم نسـباً، ومنـه (الصـلاة الوسـطى) وهـي العصـر، ولمـا جعـل الله هـذه الأمـة وسـطاً خصَّهـا بأكمـل الشـرائع، وأقـوم المناهـج وأوضـح المذاهـب كمـا قـال تعالـى: (( وهـو اجتباكـم ومـا جعـل عليكـم فـي الديـن مـن حـرج ملـة أبيكـم إبراهيـم هـو سـماكم المسـلمين مـن قبـل وفـي هـذا ليكـون الرسـول شـهيداً عليكـم وتكونـوا شـهداء علـى النـاس )).
عـن أبـي سـعيد قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ يدعـى نـوح يـوم القيامـة فيقـال بـه هـل بلَّغـت؟ فيقـول نعـم، فيدعـى قومـه فيقـال لهـم هـل بلغكـم؟ فيقولـون مـا أتانـا مـن نذيـر ومـا أتانـا مـن أحـد، فيقـال لنـوح مـن يشـهد لـك؟ فيقـول محمـد وأمتـه، قـال فذلـك قولـه: (( وكذلـك جعلناكـم أمـة وسـطاً )) قـال: والوسـط العـدل فتدعـون فتشـهدون لـه البـلاغ ثـم أشـهد عليكـم }}.
وعـن أبـي سـعيد الخـدري قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ يجـيء النبـي يـوم القيامـة ومعـه الرجـلان وأكثـر مـن ذلـك فيدعـى قومـه فيقـال: هـل بلَّغكـم هـذا؟ فيقولـون: لا، فيقـال لـه: هـل بلغـت قومـك؟ فيقـول: نعـم، فيقـال: مـن يشـهد لـك؟ فيقـول: محمـد وأمتـه، فيدعـى محمـد وأمتـه، فيقـال لهـم هـل بلـغ هـذا قومـه؟ فيقولـون: نعـم، فيقـال: ومـا علمكـم؟ فيقولـون جاءنـا نبينـا فأخبرنـا أن الرسـل قـد بلغـوا، فذلـك قولـه عـزّ وجـلّ: (( وكذلـك جعلناكـم أمـة وسـطاً )) قـال عـدلاً، (( لتكونـوا شـهداء علـى النـاس ويكـون الرسـول عليكـم شـهيداً )) }}.
وعـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ أنـا وأمتـي يـوم القيامـة علـى كـوم مشـرفين علـى الخلائـق مـا مـن النـاس أحـد إلا ودَّ أنـه منـا، ومـا مـن نبـي كذبـه قومـه إلا ونحـن نشـهد أنـه قـد بلـغ رسـالة ربـه عـزّ وجـلّ }}.
وقولـه تعالـى: (( ومـا جعلنـا القبلـة التـي كنـت عليهـا إلا لنعلـم مـن يتبـع الرسـول ممـن ينقلـب علـى عقبيـه وإن كانـت لكبيـرة إلا علـى الذيـن هـدى الله )).
يقـول تعالـى إنمـا شـرعنا لـك يـا محمـد التوجـه أولاً إلـى بيـت المقـدس، ثـم صرفنـاك عنهـا إلـى الكعبـة، ليظهـر حـال مـن يتبعـك ويطيعـك ويسـتقبل معـك حيثمـا توجهـت ممـن ينقلـب علـى عقبيـه، أي مرتـداً عـن دينـه.
(( وإن كانـت لكبيـرة )) أي هـذه الفعلـة وهـي صـرف التوجـه عـن بيـت المقـدس إلـى الكعبـة، أي وإن كـان هـذا الأمـر عظيمـاً فـي النفـوس، إلا علـى الذيـن هـدى الله قلوبهـم وأيقنـوا بتصديـق الرسـول، وأن كـل مـا جـاء بـه فهـو الحـق الـذي لا مريـة فيـه، وأن الله يفعـل مـا يشـاء ويحكـم مـا يريـد، فلـه أن يكلـف عبـاده بمـا يشـاء، ولـه الحكمـة التامـة والحجـة البالغـة فـي جميـع ذلـك، بخـلاف الذيـن فـي قلوبهـم مـرض، فإنـه كلمـا حـدث أمـر أحـدث لهـم شـكاً، كمـا يحصـل للذيـن آمنـوا إيقـانٌ وتصديـق، كمـا قـال الله تعالـى: (( وإذا مـا أنزلـت سـورة فمنهـم مـن يقـول أيكـم زادتـه هـذه إيمانـاً فأمـا الذيـن آمنـوا فزادتهـم إيمانـاً وهـم يسـتبشـرون . وأمـا الذيـن فـي قلوبهـم مـرض فزادتهـم رجسـاً إلـى رجسـهم )). وقـال تعالـى: (( قـل هـو للذيـن آمنـوا هـدى وشـفاء والذيـن لا يؤمنـون فـي آذانهـم وقـر وهـو عليهـم عمـى )).
وقـال تعالـى: (( وننـزل مـن القـرآن مـا هـو شـفاء ورحمـة للمؤمنيـن ولا يزيـد الظالميـن إلا خسـاراً ))، ولهـذا كـان _ مـن ثبـت علـى تصديـق الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم واتباعـه فـي ذلـك، وتوجّـه حيـث أمـره الله مـن غيـر شـك ولا ريـب _ مـن سـادات الصحابـة، وقـد ذهـب بعضهـم إلـى أن السـابقين الأوليـن مـن المهاجريـن والأنصـار هـم الذيـن صلـوا إلـى القبلتيـن.
عـن ابـن عمـر قـال: { بينمـا النـاس يصلـون الصبـح فـي مسـجد قبـاء إذ جـاء رجـل فقـال: قـد أنـزل علـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـرآن، وقـد أمـر أن يسـتقبل الكعبـة فاسـتقبلوها، فتوجهـوا إلـى الكعبـة }.
وفـي روايـة أنهـم كانـوا ركوعـاً فاسـتداروا كمـا هـم إلـى الكعبـة وهـم ركـوع، وهـذا يـدل علـى كمـال طاعتهـم لله ولرسـوله وانقيادهـم لأوامـر الله عـزّ وجـلّ رضـي الله عنهـم أجمعيـن.
وقولـه: (( ومـا كـان الله ليضيـع إيمانكـم )) أي صلاتكـم إلـى بيـت المقـدس قبـل ذلـك، مـا كـان يضيـع ثوابهـا عنـد الله.
وفـي الصحيـح عـن البـراء قـال: مـات قـوم كانـوا يصلـون نحـو بيـت المقـدس، فقـال النـاس: مـا حالهـم فـي ذلـك؟ فأنـزل الله تعالـى: (( ومـا كـان الله ليضيـع إيمانكـم )).
وقـال ابـن إسـحاق عـن ابـن عبـاس: (( ومـا كـان الله ليضيـع إيمانكـم )) أي بالقبلـة الأولـى وتصديقكـم نبيكـم واتباعـه إلـى القبلـة الأُخـرى، أي ليعطيكـم أجرهمـا جميعـاً (( إن الله بالنـاس لـرءوف رحيـم )).
وقـال حسـن البصـري: ومـا كـان ليضيـع إيمانكـم: أي مـا كـان الله ليضيـع محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم وانصرافكـم معـه حيـث انصـرف (( إن الله بالنـاس لـرءوف الرحيـم )).
وفـي الصحيـح أن رسـول الله صلـى وسـلم رأى امـرأة مـن السـبي قـد فـرق بينهمـا وبيـن ولدهـا، فجعلـت كلمـا وجـدت صبيـاً مـن السـبي أخذتـه فألصقتـه بصدرهـا وهـي تـدور علـى ولدهـا، فلمـا وجدتـه ضمتـه إليهـا وألقمتـه ثديهـا، فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ أتـرون هـذه طارحـة ولدهـا فـي النـار وهـي تقـدر علـى أن لا تطرحـه }}؟ قالـوا: لا يـا رسـول الله. قـال: {{ فـواللهِ، للهُ أرحـم بعبـاده مـن هـذه بولدهـا }}.
(( قَـدْ نَـرَى تَقَلُّـبَ وَجْهِـكَ فـي السَّـمَاءِ فَلَنوَلِّينَّـكَ قِبلَـةً تَرضاهـا فَـوَلِّ وَجْهَـكَ شَـطْرَ المَسْـجِدِ الحَـرامِ وَحَيْـثُ مَـا كُنتُـمْ فَوَلُّـوا وُجُوهَكُـمْ شَـطْرَهُ وَإِنَّ الَّذيـنَ أُوتُـوا الكِتـابَ لَيَعْلَمـونَ أَنَّـهُ الحَـقُّ مِـن رَّبِّهِـمْ وَمَـا اللهُ بِغافِـلٍ عَمَّـا يَعْمَلـونَ )) / 144 /
قـال ابـن عبـاس: كـان أول مـا نسـخ مـن القـرآن القبلـة، وذلـك أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، لمـا هاجـر إلـى المدينـة وكـان أكثـر أهلهـا اليهـود فأمـره الله أن يسـتقبل بيـت المقـدس، ففرحـت اليهـود، فاسـتقبلها رسـول الله صلـى عليـه وسـلم بضعـة عشـر شـهراً، وكـان يحـب قبلـة إبراهيـم، فكـان يدعـو الله وينظـر إلـى السـماء، فأنـزل الله: (( وقـد نـرى تقلـب وجهـك فـي السـماء )) إلـى قولـه: (( فولـوا وجوهكـم شـطره )).
فارتابـت مـن ذلـك اليهـود، وقالـوا: (( مـا ولاهـم عـن قبلتهـم التـي كانـوا عليهـا قـل لله المشـرق والمغـرب )).
وقـال: (( فأينمـا تولـوا وجوهكـم فثـم وجـه الله ))، وقـال الله تعالـى: (( ومـا جعلنـا القبلـة التـي كنـت عليهـا إلا لنعلـم مـن يتبـع الرسـول ممـن ينقلـب علـى عقبيـه )).
وروى ابـن مردويـه عـن ابـن عبـاس قـال: كـان النبـي صلـى الله عليـه وسـلم إذا سـلم مـن صلاتـه إلـى بيـت المقـدس رفـع رأسـه إلـى السـماء، فأنـزل الله: (( فلنولينـك قبلـة ترضاهـا فـول وجهـك شـطر المسـجد الحـرام )) إلـى الكعبـة، إلـى الميـزاب يـؤم بـه جبريـل عليـه السـلام.
وعـن علـي بـن أبـي طالـب رضـي الله عنـه: (( فـول وجهـك شـطر المسـجد الحـرام )) قـال: شـطره قِبَلَـه، ثـم قـال الحاكـم صحيـح الإسـناد ولـم يخرجـاه.
وعـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا: إن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ البيـت قبلـة لأهـل المسـجد، والمسـجد قبلـة لأهـل الحـرم، والحـرم قبلـة لأهـل الأرض فـي مشـارقها ومغاربهـا مـن أمتـي }}.
وعـن البـراء: أن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم صلَّـى قبـل بيـت المقـدس سـتة عشـر شـهراً أو سـبعة عشـر شـهراً، وكـان يعجبـه قبلتـه قبـل البيـت، وأنـه صلـى صـلاة العصـر وصلـى معـه قـوم، فخـرج رجـل ممَّـن كـان يصلـي معـه فمـر علـى أهـل المسـجد وهـم راكعـون فقـال: أشـهد بالله لقـد صليـت مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قِبَـل مكـة فـداروا مـا هـم قِبَـل البيـت.
وقـال عبـد الـرزاق عـن البـراء قـال: لمـا قـدم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم المدينـة صلـى نحـو بيـت المقـدس سـتة عشـر شـهراً أو سـبعة عشـر شـهراً وكـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يحـب أن يحـول نحـو الكعبـة فنزلـت: (( قـد نـرى تقلـب وجهـك فـي السـماء )) فصـرف إلـى الكعبـة.
وعـن أبـي سـعيد بـن المعلـى قـال: { كنـا نغـدو إلـى المسـجد علـى عهـد رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فنصلـي فيـه، فمررنـا يومـاً ورسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قاعـد علـى المنبـر، فقلـت لقـد حـدث أمـر فجلسـت، فقـرأ رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم هـذه الآيـة: (( قـد نـرى تقلـب وجهـك فـي السـماء فلنولينـك قبلـة ترضاهـا )) حتـى فـرغ مـن الآيـة، فقلـت لصاحبـي تعـال نركـع ركعتيـن قبـل أن ينـزل رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فنكـون أول مـن صلـى، فتوارينـا فصليناهمـا، ثـم نـزل النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وصلـى للنـاس الظهـر يومئـذ }.
وكـذا روى ابـن مردويـه عـن ابـن عمـر: أن أول صـلاة صلاهـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم إلـى الكعبـة صـلاة الظهـر. وأنهـا الصـلاة الوسـطى، والمشـهور أن أول صـلاة صلاهـا إلـى الكعبـة صـلاة العصـر، ولهـذا تأخـر الخبـر عـن أهـل قبـاء إلـى صـلاة الفجـر.
وقـال الحافـظ ابن مردويـه عـن نويلـة بنـت مسـلم قالـت: صلينـا الظهـر أو العصـر فـي مسـجد بنـي حارثـة، فاسـتقبلنا مسـجد (إيليـاء) فصلينـا ركعتيـن، ثـم جـاء مـن يحدثنـا أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـد اسـتقبل البيـت الحـرام فتحـول النسـاء مكـان الرجـال والرجـال مكـان النسـاء فصلينـا السـجدتين الباقيتيـن ونحـن مسـتقبلون البيـت الحـرام، فحدثنـي رجـل مـن بنـي حارثـة أن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ أولئـك رجـال يؤمنـون بالغيـب }}.
وقولـه: (( وحيـث مـا كنتـم فولـوا وجوهكـم شـطره )) أمـر تعالـى باسـتقبال الكعبـة مـن جميـع جهـات الأرض، شـرقاً وغربـاً، وشـمالاً وجنوبـاً، ولا يسـتثنى مـن هـذا شـيء سـوى النافلـة فـي حـال السـفر، فإنـه يصليهـا حيثمـا توجـه قالبـه وقلبـه نحـو الكعبـة، وكـذا فـي حـال المسـايفة فـي القتـال يصلـي علـى كـل حـال، وكـذا مـن جهـل القبلـة يصلـي باجتهـاده وإن كـان مخطئـاً فـي نفـس الأمـر لأن الله تعالـى لا يكلـف نفسـاً إلا وسـعها.
مسـألة
وقـد اسـتدل المالكيـة بهـذه الآيـة علـى أن المصلـى ينظـر أمامـه لا إلـى موضـع سـجوده كمـا ذهـب إليـه الشـافعي وأحمـد وأبـو حنيفـة، قـال المالكيـة بقولـه: (( فـول وجهـك شـطر المسـجد الحـرام )) فلـو نظـر إلـى موضـع سـجوده لاحتـاج أن يتكلـف ذلـك بنـوع مـن الانحنـاء وهـو ينافـي كمـال القيـام.
وقـال بعضهـم: ينظـر المصلـى فـي قيامـه إلـى صـدره.
وقـال شـريك القاضـي: ينظـر فـي حـال قيامـه إلـى موضـع سـجوده كمـا قـال جمهـور الجماعـة، لأنـه أبلـغ فـي الخضـوع وآكـد فـي الخشـوع وقـد ورد بـه الحديـث، وأمـا فـي حـال وكوعـه فإلـى موضـع قدميـه، وفـي حـال سـجوده إلـى موضـع أنفـه، وفـي حـال قعـوده إلـى حِجْـره.
وقولـه تعالـى: (( وإن الذيـن أوتـوا الكتـاب ليعلمـون أنـه الحـق مـن ربهـم )) أي واليهـود الذيـن أنكـروا اسـتقبالكم الكعبـة وانصرافكـم عـن بيـت المقـدس، يعلمـون أن الله تعالـى سـيوجهك إليهـا بمـا فـي كتبهـم عـن أنبيائهـم مـن النعـت والصفـة لرسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وأمتـه، ومـا خصـه الله تعالـى بـه وشـرفه مـن الشـريعة الكاملـة العظيمـة، ولكـنَّ أهـل الكتـاب يتكاتمـون ذلـك بينهـم حسـداً وكفـراً وعنـاداً، ولهـذا تهددهـم تعالـى: (( ومـا الله بغافـل عمـا يعلمـون )).
(( وَلَئِـنْ أَتَيْـتَ الَّذيـنَ أُوتُـوا الكِتَـابَ بِكُـلِّ آيَـةٍ مَّـا تَبِعُـوا قِبْلَتَـكَ وَمَـا أَنـتَ بِتابِـعٍ قِبْلَتَهُـم وَمَـا بَعْضُهُـم بِتَابِـعٍ قِبْلَـةَ بَعْـضٍ وَلَئِـنِ اتَّبَعْـتَ أَهْوَاءَهُـم مِّـن بَعْـدِ مَـا جَـاءَكَ مِـنَ العِلْـمِ إِنَّـكَ إذاً لَّمِـنَ الظَّالِميـنَ )) / 145 /
يخبـر تعالـى عـن كفـر اليهـود وعنادهـم، ومخالفتهـم مـا يعرفونـه مـن شـأن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، وأنـه لـو أقسـام عليهـم كـل دليـل علـى صحـة مـا جاءهـم بـه لمـا اتبعـوه وتركـوا أهواءهـم كمـا قـال تعالـى: (( إن الذيـن حقـت عليهـم كلمـة ربـك لا يؤمنـون . ولـو جاءتهـم كـل آيـة حتـى يـروا العـذاب الأليـم )).
ولهـذا قـال ههنـا: (( ولئـن أتيـت الذيـن أوتـوا الكتـاب بكـل آيـة مـا تبعـوا قبلتـك )).
وقولـه: (( ومـا أنـت بتابـع قبلتهـم )) إخبـار عـن شـدة متابعـة الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم لمـا أمـره الله تعالـى بـه، وأنـه كمـا هـم مسـتمسـك بأمـر الله وطاعتـه واتبـاع مرضاتـه، وأنـه لا يتبـع أهواءهـم فـي جميـع أحوالـه، ولا كونـه متوجهـاً إلـى بيـت المقـدس لكونهـا قبلـة اليهـود، وإنمـا ذلـك عـن أمـر الله تعالـى، ثـم حـذَّر تعالـى عـن مخالفـة الحـق الـذي يعلمـه العالـم إلـى الهـوى، فـإن العالـم الحجـة عليـه أقـوم مـن غيـره.
ولهـذا قـال مخاطبـاً للرسـول والمـراد بـه الأمـة: (( ولئـن اتبعـت أهواءهـم مـن بعـد مـا جـاءك مـن العلـم إنـك إذاً لمـن الظالميـن )).
(( الّذيـنَ آتَيْنَاهُـمُ الكِتَـابَ يَعرِفُونَـهُ كَمَـا يَعرِفُـونَ أَبْناءَهُـمْ وَإِنَّ فَرِيقـاً مِنْهُـمْ لَيَكْتُمُـونَ الحَـقَّ وَهُـمْ يَعْلَمُـونَ (146) الحَـقُّ مِـن رَّبِّـكَ فَـلا تَكونَـنَّ مِـنَ المُمْتَريـنَ )) / 147 /
يخبـر تعالـى أن علمـاء أهـل الكتـاب يعرفـون صحـة مـا جاءهـم بـه الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم كمـا يعـرف أحدهـم ولـده، والعـرب كانـت تضـرب المثـل فـي صحـة الشـيء بهـذا كمـا جـاء فـي الحديـث أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال لرجـل معـه صغيـر: {{ ابنـك هـذا }}؟ قـال: نعـم يـا رسـول الله أشـهد بـه، قـال: {{ إمـا إنـه لا يخفـى عليـك ولا تخفـى عليـه }}.
ويـروى عـن عمـر أنـه قـال لعبـد الله بـن سـلام: أتعـرف محمـداً كمـا تعـرف ولـدك؟ قـال: نعـم وأكثـر، نـزل الأميـن مـن السـماء علـى الأميـن فـي الأرض بنعتـه فعرفتـه، وابنـي لا أعـرف مـا كـان مـن أمـه.
(قلـت): وقـد يكـون المـراد: (( يعرفونـه كمـا يعرفـون أبناءهـم )) مـن بيـن أبنـاء النـاس كلهـم، لا يشـك أحـد ولا يمتـري فـي معرفـة ابنـه إذا رآه مـن أبنـاء النـاس كلهـم، ثـم أخبـر تعالـى أنهـم مـع هـذا التحقـق والإتقـان العلمـي.
(( ليكتمـون الحـق )) أي ليكتمـون النـاس مـا فـي كتبهـم مـن صفـة النبـي صلـى الله عليـه وسـلم.
(( وهـم يعلمـون )) ثـم ثبَّـت تعالـى نبيّـه صلـى الله عليـه وسـلم المؤمنيـن وأخبرهـم بـأن مـا جـاء بـه الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم هـو الحـق الـذي لا مريـة فيـه ولا شـك فقـال: (( الحـق مـن ربـك فـلا تكونـن مـن الممتريـن )).
(( وَلِكُـلٍّ وِجْهَـةٌ هُـوَ مُوَلِّيهـا فَاسْـتَبِقوا الخَيْـرَاتِ أَيْـنَ مَـا تَكونُـوا يَـأْتِ بِكُـمُ اللهُ جَميعـاً إِنَّ اللهَ عَلَـى كُـلِّ شَـيْءٍ قَدِيـرٌ )) / 148 /
عـن ابـن عبـاس: (( ولكـل وجهـة هـو موليهـا )) يعنـي بذلـك أهـل الأديـان، يقـول لكـل قبيلـة قبلـةٌ يرضونهـا، ووجهـه الله حيـث توجـه المؤمنـون.
وقـال أبـو العاليـة: لليهـود وجهـة هـو موليهـا، وللنصـارى وجهـة هـو موليهـا، وهداكـم _ أنتـم أيتهـا الأمـة _ إلـى القبلـة التـي هـي القبلـة.
وقـال الحسـن: أمـر كـل قـوم أن يصلـوا إلـى الكعبـة، وهـذه الآيـة شـبيهة بقولـه تعالـى: (( لكـل جعلنـا منكـم شـرعة ومنهاجـاً ولـو شـاء الله لجعلكـم أمـة واحـدة ولكـن ليبلوكـم فيمـا آتاكـم فاسـتبقوا الخيـرات إلـى الله مرجعكـم جميعـاً )).
وقـال ههنـا: (( أينمـا تكونـوا يـأت بكـم الله جميعـاً إن الله علـى كـل شـيء قديـر )) أي هـو القـادر علـى جمعكـم مـن الأرض وإن تفرقـت أجسـادكم وأبدانكـم.
(( وَمِـنْ حَيْـثُ خَرَجْـتَ فَـوَلِّ وَجْهَـكَ شَـطْرَ المَسْـجِدِ الحَـرَامِ وَإِنَّـهُ لَلْحَـقُّ مِـنْ رَّبِـكَ وَمَـا اللهُ بِغَافِـلٍ عَمَّـا تَعْمَلُـونَ (149) وَمِـنْ حَيْـثُ خَرَجْـتَ فَـوَلِّ وَجْهَـكَ شَـطْرَ المَسْـجِدِ الحَـرَامِ وَحَيْـثُ مَـا كُنتُـمْ فَوَلُّـوا وُجُوهَكُـمْ شَـطْرَهُ لِئَـلا يَكُـونَ لِلنَّـاسِ عَلَيْكُـمْ حُجَّـةٌ إِلا الَّذيـنَ ظَلَمـوا مِنْهُـمْ فَـلا تَخْشَـوْهُمْ وَاخْشَـوني وَلأُتِـمَّ نِعْمَتـي عَلَيْكُـمْ وَلَعَلَّكُـمْ تَهْتَـدونَ )) / 150 /
هـذا أمـر ثالـث مـن الله تعالـى باسـتقبال المسـجد الحـرام مـن جميـع أقطـار الأرض، وقـد اختلفـوا فـي حكمـة هـذا التكـرار ثـلاث مـرات.
فقيـل: تأكـد لأنـه أول ناسـخ وقـع فـي الإسـلام علـى مـا نـص عليـه ابـن عبـاس وغيـره.
وقيـل: بـل هـو منـزل علـى أحـوال، فالأمـر الأول لمـن هـو شـاهد الكعبـة، والثانـي لمـن هـو فـي مكـة غائبـاً عنهـا، والثالـث لمـن هـو فـي بقيـة البلـدان هكـذا وجهَّـه فخـر الديـن الـرازي.
وقـال القرطبـي: الأول لمـن هـو بمكـة، والثانـي لمـن هـو فـي بقيـة الأمصـار، والثالـث لمـن خـرج فـي الأسـفار.
وقيـل: إنمـا ذكـر ذلـك لتعلقـه بمـا قبلـه وبعـده مـن السـياق، فقـال أولاً: (( قـد نـرى تقلـب وجهـك فـي السـماء فلنولينـك قبلـة ترضاهـا )) فذكـر فـي هـذا المقـام إجابتـه إلـى طلبتـه وأمـره بالقبلـة التـي كـان التوجـه إليهـا ويرضاهـا، وقـال فـي الأمـر الثانـي: (( ومـن حيـث خرجـت فـول وجهـك شـطر المسـجد الحـرام وإنـه للحـق مـن ربـك ومـا الله بغافـل عمـا تعملـون )) فذكـر أنـه الحـق مـن الله وارتقـاءه المقـام الأول حيـث كـان موافقـاً لرضـا الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم، فبيـن أنـه الحـق أيضـاً مـن الله يحبـه ويرتضيـه، وذكـر فـي الأمـر الثالـث حكمـة قطـع حجـة المخالـف مـن اليهـود الذيـن كانـوا يتحججـون باسـتقبال الرسـول إلـى قبلتهـم وقـد كانـوا يعلمـون بمـا فـي كتبهـم إنـه سـيصرف إلـى قبلـة إبراهيـم عليـه السـلام إلـى الكعبـة، وكذلـك مشـركو العـرب انقطعـت حجتهـم لمـا صـرف الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم عـن قبلـة اليهـود إلـى قبلـة إبراهيـم التـي هـي أشـرف، وقـد كانـوا يعظمـون الكعبـة وأعجبهـم اسـتقبال الرسـول إليهـا، وقيـل غيـر ذلـك مـن الأجوبـة عـن حكمـة التكـرار، وقـد بسـطها الـرازي وغيـره، والله أعلـم.
وقولـه: (( ولئـلا يكـون للنـاس عليكـم حجـة )) أي أهـل الكتـاب فإنهـم يعلمـون مـن صفـة هـذه الأمـة التوجّـه إلـى الكعبـة، فـإذا فقـدوا ذلـك مـن صفتهـا ربمـا احتجـوا بهـا علـى المسـلمين، ولئـلا يحتجـوا بموافقـة المسـلمين إياهـم فـي التوجـه إلـى بيـت المقـدس وهـذا أظهـر.
وقـال أبـو العاليـة: (( لئـلا يكـون للنـاس عليكـم حجـة )) يعنـي بـه أهـل الكتـاب حيـن قالـوا: صـرف محمـد إلـى الكعبـة.
وقالـوا: اشـتاق الرجـل إلـى بيـت أبيـه وديـن قومـه.
وكـان حجتهـم علـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم انصرافـه إلـى البيـت الحـرام أن قالـوا: سـيرجع إلـى ديننـا كمـا رجـع إلـى قبلتنـا.
قولـه: (( إلا الذيـن ظلمـوا منهـم )) يعنـي مشـركي قريـش.
ووجـه بعضهـم حجـة الظلمـة وهـي داحضـة أن قالـوا: إنَّ هـذا الرجـل يزعـم أنـه علـى ديـن إبراهيـم، فـإن كـان توجهـه إلـى بيـت المقـدس علـى ملـة إبراهيـم فلـم يرجـع عنـه؟
والجـواب أن الله تعالـى اختـار لـه التوجـه إلـى بيـت المقـدس أولاً، ولمـا لـه تعالـى فـي ذلـك مـن الحكمـة، فأطـاع ربـه تعالـى فـي ذلـك، ثـم صرفـه إلـى قبلـة إبراهيـم وهـي الكعبـة، فامتثـل أمـر الله فـي ذلـك أيضـاً.
فهـو صلـوات الله وسـلامه عليـه مطيـع لله فـي جميـع أحوالـه، لا يخـرج عـن أمـر الله طرفـة عيـن وأمتـه تبـعٌ لـه.
وقولـه: (( فـلا تخشـوهم اخشـوني )) أي لا تخشـوا شـبه الظلمـة المتعنتيـن وأفـردوا الخشـية لـي، فإنـه تعالـى هـو أهـل أن يخشـى منـه.
وقولـه: (( ولأتـم نعمتـي عليكـم )) عطـف علـى (( لئـلا يكـون للنـاس عليكـم حجـة ))، أي لأتـم نعمتـي عليكـم فيمـا شـرعت لكـم مـن اسـتقبال الكعبـة لتكمـل لكـم الشـريعة مـن جميـع وجوههـا.
(( ولعلكـم تهتـدون )) إي إلـى مـا ضلـت عنـه الأمـم هديناكـم إليـه وخصصناكـم بـه، ولهـذا كانـت هـذه الأمـة أشـرف الأمـم وأفضلهـا.
(( كَمَـا أَرْسَـلْنَا فِيكُـمْ رَسُـولاً مِنْكُـمْ يَتْلـوا عَلَيْكُـمْ آياتِنـا وَيُزَكِّيكُـمْ وَيُعَلِّمُكُـمُ الكِتـابَ وَالحِكْمَـةَ وَيُعَلِّمُكُـم مَّـا لَـمْ تَكونُـوا تَعْلَمـونَ (151) فَاذْكُرونِـي أَذْكُرْكُـمْ وَاشْـكُرُوا لـي وَلا تَكْفُـرونِ )) / 152 /
يذكِّـر تعالـى عبـاده المؤمنيـن، مـا أنعـم بـه عليهـم مـن بعثـه الرسـول محمـد صلـى الله عليـه وسـلم إليهـم، يتلـو عليهـم آيـات الله مبينـات.
(( ويزكيهـم )) أي يطهرهـم مـن رذائـل الأخـلاق، ودنـس النفـوس وأفعـال الجاهليـة، ويخرجهـم مـن الظلمـات إلـى النـور، ويعلمهـم الكتـاب وهـو القـرآن، والحكمـة وهـي السـنّة، ويعلمهـم مـا لـم يكونـوا يعلمـون، فكانـوا فـي الجاهليـة الجهـلاء يُسـفَّهون بالقـول القُـرّاء، فانتقلـوا ببركـة رسـالته، ويمـن سـفارته، إلـى حـال الأوليـاء، وسـجايا العلمـاء، فصـاروا أعمـق النـاس علمـاً، وأبرهـم قلوبـاً، وأقلهـم تكلفـاً، وأصدقهـم لهجـة.
وقـال تعالـى: (( لقـد مـنَّ الله علـى المؤمنيـن إذ بعـث فيهـم رسـولاً منهـم يتلـو عليهـم آياتـه ويزكيهـم )) الآيـة.
وذمّ مـن لـم يعـرف قـدر هـذه النعمـة فقـال تعالـى: (( ألـم تـر إلـى الذيـن بدّلـوا نعمـة الله كفـراً وأحلـوا قومهـم دار البـوار )).
قـال ابـن عبـاس: يعنـي بنعمـة الله محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم ولهـذا نـدب الله المؤمنيـن إلـى الاعتـراف بهـذه النعمـة ومقابلتهـا بذكـره وشـكره.
وقـال: (( فاذكرونـي أذكركـم واشـكروا لـي ولا تكفـرون )).
قـال مجاهـد فـي قولـه: (( كمـا أرسـلنا فيكـم رسـولاً منكـم )) يقـول: كمـا فعلـتُ فاذكرونـي.
قـال زيـد ابـن أسـلم: إن موسـى عليـه السـلام قـال: يـا رب كيـف أشـكرك؟ قـال لـه ربـه: {{{ تذكرنـي ولا تنسـاني فـإذا ذكرتنـي فقـد شـكرتني، وإذا نسـيتني فقـد كفرتنـي }}}.
قـال الحسـن البصـري: إن الله يذكـر مـن ذكـره، ويزيـد مـن شـكره، ويعـذب مـن كفـره.
وقـال بعـض السـلف فـي قولـه تعالـى: (( اتقـوا الله حـق تقاتـه )) هـو { إن يطـاع فـلا يعصـى، ويُذكـر فـلا يُنسـى، ويُشـكر فـلا يكفـر }.
وقـال الحسـن البصـري فـي قولـه: (( فاذكرونـي أذكركـم )) اذكرونـي فيمـا افترضـت عليكـم أذكركـم فيمـا أوجبـت لكـم علـى نفسـي.
وعـن سـعيد بـن جبيـر: اذكرونـي بطاعتـي أذكركـم بمغفرتـي. وفـي روايـة: برحمتـي.
وفـي الحديـث الصحيـح: {{ يقـول الله تعالـى مـن ذكرنـي فـي نفسـه ذكرتـه فـي نفسـي، ومـن ذكرنـي فـي مـلأ ذكرتـه فـي مـلأ خيـر منـه }}.
وعـن أنـس قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ قـال الله عـزّ وجـلّ يـا ابـن آدم إن ذكرتنـي فـي نفسـك ذكرتـك فـي نفسـي، وإن ذكرتنـي فـي مـلأ ذكرتـك فـي مـلأ مـن الملائكـة _ أو قـال فـي مـلأ خيـر منـه _ وإن دنـوت منـي شـبراً دنـوت منـك ذراعـاً، وإن دنـوت منـي ذراعـاً دنـوت منـك باعـاً، وإن أتيتنـي تمشـي أتيتـك هرولـة }}.
قـال قتـادة: الله أقـرب بالرحمـة.
وقولـه: (( واشـكروا لـي ولا تكفـرون )) أمـر الله تعالـى بشـكره، ووعـد علـى شـكره بمزيـد الخيـر، فقـال: (( وإذ تـأذن ربكـم لئـن شـكرتك لأزيدنكـم ولئـن كفرتـم إن عذابـي لشـديد )).
وروى أبـو رجـاء العطـاردي قـال: خـرج علينـا (عمـران بـن حصيـن) وعليـه مطـرف مـن خـز لـم نـره عليـه قبـل ذلـك ولا بعـده، فقـال: إن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـن أنعـم الله عليـه نعمـة فـإن الله يحـب أن يـرى أثـر نعمتـه علـى خلقـه }}. وروي: علـى عبـده.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 134 ، 135 ، 136 ، 137 ، 138 ، 139 ، 140 ، 141 ، 142 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( يَـا أَيُّهَـا الَّذيـنَ آمَنُـوا اسْـتَعينُوا بِالصَّبْـرِ وَالصَّـلاةِ إِنَّ اللهَ مَـعَ الصَّابِريـنَ (153) وَلا تَقُولُـوا لِمَـنْ يُقْتَـلُ فـي سَـبيلِ اللهِ أمْـواتٌ بَـلْ أَحْيَـاءٌ وَلَكِـن لا تَشْـعُرُونَ )) / 154 /
لمـا فـرغ تعالـى مـن بيـان الأمـر بالشـكر، شـرع فـي بيـان الصبـر والإرشـاد والاسـتعانة بالصبـر والصـلاة، فـإن العبـد إمـا أن يكـون فـي نعمـة فيشـكر عليهـا، أو فـي نقمـة فيصبـر عليهـا، كمـا جـاء فـي الحديـث: {{ عجبـاً للمؤمـن لا يقضـي الله لـه قضـاء إلا كـان خيـراً لـه: إن أصابتـه سـراء فشـكر كـان خيـراً لـه، وإن أصابتـه ضـراء فصبـر كـان خيـراً لـه }}.
وبيَّـن تعالـى أن أجـود مـا يسـتعان بـه علـى تحمـل المصائـب الصبـر والصـلاة كمـا تقـدم فـي قولـه: (( واسـتعينوا بالصبـر والصـلاة وإنهـا لكبيـرة إلا علـى الخاشـعين )).
وفـي الحديـث: {{ إن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان إذا حزبـه أمـر صلّـى }}.
والصبـر صبـران: فصبـرك علـى تـرك المحـارم والمآثـم، وصبـر علـى فعـل الطاعـات والقربـات، والثانـي أكبـر ثوابـاً لأنـه المقصـود.
وأمـا الصبـر الثالـث وهـو الصبـر علـى المصائـب والنوائـب فـذاك أيضـاً واجـب كالاسـتغفار مـن المعايـب.
قـال زيـن العابديـن: إذا جمـع الله الأوليـن والآخريـن ينـادي منـاد أيـن الصابـرون ليدخلـوا الجنـة قبـل الحسـاب؟ قـال: فيقـوم عُنُـق (جماعـة متقدمـة) مـن النـاس فتتلقاهـم الملائكـة فيقولـون: إلـى أيـن يـا بنـي آدم؟ فيقولـون: إلـى الجنـة، فيقولـون: قبـل الحسـاب؟ قالـوا: نعـم، قالـوا: مـن أنتـم؟ قالـوا: نحـن الصابـرون، قالـوا: ومـا كـان صبركـم؟ قالـوا: صبرنـا علـى طاعـة الله وصبرنـا عـن معصيـة الله حتـى توفانـا الله، قالـوا: أنتـم كمـا قلتـم ادخلـوا الجنـة فنعـم أجـر العامليـن.
(قلـت): ويشـهد لهـذا قولـه تعالـى: (( إنمـا يوفـى الصابـرون أجرهـم بغيـر حسـاب )).
قـال سـعيد بـن جبيـر: الصبـر اعتـراف العبـد لله بمـا أصـاب منـه، واحتسـابه عنـد الله رجـاء ثوابـه، وقـد يجـزع الرجـل وهـو متجلـد لا يـرى منـه إلا الصبـر.
وقولـه تعالـى: (( ولا تقولـوا لمـن يُقتَـل فـي سـبيل الله أمـوات بـل أحيـاء ))
يخيـر تعالـى أن الشـهداء فـي برزخهـم أحيـاء يرزقـون كمـا جـاء فـي صحيـح مسـلم: {{ أن أرواح الشـهداء فـي حواصـل طيـور خضـر تسـرح فـي الجنـة حيـث شـاءت، ثـم تـأوي إلـى قناديـل معلقـة تحـت العـرش، فاطلـع عليهـم ربـك اطلاعـة فقـال: مـاذا تبغـون؟ قالـوا: يـا ربنـا وأي شـيء نبغـي وقـد أعطيتنـا مـا لـم تعـط أحـداً مـن خلقـك؟ ثـم عـاد عليهـم بمثـل هـذا فلمـا رأوا أنهـم لا يتركـون مـن أن يسـألوا، قالـوا: نريـد أن تردنـا إلـى الـدار الدنيـا فنقاتـل فـي سـبيلك حتـى نقتـل فيـك مـرة أخـرى _ لمـا يـرون مـن ثـواب الشـهادة _ فيقـول الـرب جـلَّ جلالـه: إنـي كتبـت أنهـم إليهـا لا يرجعـون }}.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ نسـمة المؤمـن طائـر تعلـق فـي شـجر الجنـة حتـى يرجعـه الله إلـى جسـده يـوم بعثـه }} ففيـه دلالـة لعمـوم المؤمنيـن أيضـاً وإن كـان الشـهداء قـد خصصـوا بالذكـر فـي القـرآن تشـريفاً لهـم وتكريمـاً وتعظيمـاً.
(( وَلَنَبْلُوَنَّكُـم بِشَـيْءٍ مِـنَ الخَـوْفِ وَالجُـوعِ وَنَقْـصٍ مِـنّ الأَمْـوالِ وَالأَنْفُـسِ وَالثَمَـراتِ وَبَشِّـرِ الصَّابِريـنَ (155) الَّذيـنَ إِذا أَصابَتْهُـم مُصيبَـةٌ قاَلـوا إِنَّـا للهِ وَإِنَّـا إِلَيـهِ راجِعُـونَ ( 156) أُولئِـكَ عَلَيهِـمْ صَلَـواتٌ مِـنْ رَّبِّهِـمْ وَرَحْمَـةٌ وَأُوْلَئِـكَ هُـمُ المُهْتَـدُونَ )) / 157 /
أخبرنـا تعالـى أنـه يبتلـي عبـاده أي يختبرهـم ويمتحنهـم، كمـا قـال تعالـى: (( ولنبلونكـم حتـى نعلـم المجاهديـن منكـم والصابريـن ونبلـوا أخباركـم )) فتـارةً بالسـرّاء، وتـارة بالضـراء مـن خـوف وجـوع، كمـا قـال تعالـى: (( فأذاقهـا الله لبـاس الجـوع والخـوف ))، فـإن الجائـع والخائـف كـل منهمـا يظهـر ذلـك عليـه، ولهـذا قـال: (( لبـاس الجـوع والخـوف )).
وقـال ههنـا: (( بشـيء مـن الخـوف والجـوع )) أي بقليـل مـن ذلـك.
(( ونقـص مـن الأمـوال )) أي ذهـاب بعضهـا.
(( والأنفـس )) كمـوت الأصحـاب والأقـارب والأحبـاب.
(( والثمـرات )) أي لا تغـل الحدائـق والمـزارع كعادتهـا، قـال بعـض السـلف: فكانـت بعـض النخيـل لا تثمـر غيـر واحـدة، وكـل هـذا وأمثالـه ممـا يختبـر الله بـه عبـاده، فمـن صبـر أثابـه مـن قنـط أحـل بـه عقابـه، ولهـذا قـال تعالـى: (( وبشِّـر الصابريـن )).
ثـمَّ بيَّـن تعالـى مَـنِ الصابـرون الذيـن شـكرهم فقـال: (( الذيـن إذا أصابتهـم مصيبـة قالـوا إنـا لله وإنّـا إليـه راجعـون )) أي تسـلوا بقولهـم هـذا عمـا أصابهـم، وعلمـوا أنهـم ملـك لله يتصـرف فـي عبيـده كمـا يشـاء، وعلمـوا أنـه لا يضيـع لديـه مثقـال ذرة يـوم القيامـة، فأحـدث لهـم ذلـك اعترافهـم بأنهـم عبيـده وأنهـم إليـه راجعـون فـي الـدار الآخـرة، ولهـذا أخبـر تعالـى عمـا أعطاهـم علـى ذلـك فقـال: (( أولئـك عليهـم صلـوات مـن ربهـم ورحمـة )) أي ثنـاء مـن الله عليهـم (( وأولئـك هـم المهتـدون )).
قـال أميـر المؤمنيـن عمـر بـن الخطـاب: نعـم العِـدْلان ونعمـت العِـلاوة (( وأولئـك عليهـم صلـوات مـن ربهـم ورحمـة )) فهـذان العـدلان (( وأولئـك هـم المهتـدون )) فهـذه العـلاوة، وهـي زيـادة فـي الحمـل فكذلـك هـؤلاء أعطـوا ثوابهـم وزيـدوا أيضـاً.
وقـد ورد فـي ثـواب الاسـترجاع عنـد المصائـب أحاديـث كثيـرة، فمـن ذلـك مـا رواه الإمـام أحمـد عـن أم سـلمة قالـت: أتانـي أبـو سـلمة يومـاً مـن عنـد رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: لقـد سـمعت مـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـولاً سـررت بـه، قـال: {{ لا يصيـب أحـداً مـن المسـلمين مصيبـة فيسـترجع عنـد مصيبتـه ثـم يقـول: اللهـم أجرنـي فـي مصيبتـي واخلـف لـي خيـراً منهـا، إلا فعـل ذلـك بـه }}، قالـت أم سـلمة: فحفظـت ذلـك منـه، فلمـا توفـي أبـو سـلمة اسـترجعت وقلـت: اللهـم أجرنـي فـي مصيبتـي وأخلـف لـي خيـراً منهـا، ثـم رجعـت إلـى نفسـي، فقلـت: مـن أيـن لـي خيـر مـن أبـي سـلمة؟ فلمـا انقضـت عدتـي اسـتأذن علـيَّ رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وأنـا أدبـغ إهابـاً لـي، فغسـلت يـدي مـن القـرظ وأذنـت لـه، فوضعـت لـه وسـادة أدم حشـوها ليـف فقعـد عليهـا فخطبنـي إلـى نفسـي، فلمـا فـرغ مـن مقالتـه قلـت: يـا رسـول الله مـا بـي أن لا يكـون بـك الرغبـة، ولكنـي امـرأة فـيَّ غيـرة شـديدة، فأخـاف أن تـرى منـي شـيئاً يعذبنـي الله بـه، وأنـا امـرأة قـد دخلـت فـي السـن وأنـا ذات عيـال، فقـال: {{ أمّـا مـا ذكـرتِ مـن العيـال مـن الغيـرة فسـوف يذهبهـا الله عـزّ وجـلّ عنـك، وأمّـا مـا ذكـرت مـن السـن فقـد أصابنـي مثـل مـا أصابـك، وأمّـا مـا ذكـرت مـن العيـال فإنمـا عيالـك عيالـي }}، قالـت: فقـد سـلَّمتُ لرسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فتزوجهـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فقالـت أم سـلمة بعـد: أبدلنـي الله بأبـي سـلمة خيـراً منـه: رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
وعـن أم سـلمة قالـت: سـمعت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ مـا مـن عبـدٍ تصيبـه مصيبـة فيقـول (( إنّـا لله وإنّـا إليـه راجعـون )) اللهـم أجرنـي فـي مصيبتـي واخلـف لـي خيـراً منهـا إلا آجـره الله فـي مصيبتـه وأخلـف لـه خيـراً منهـا }}، قالـت: فلمـا توفـي أبـو سـلمة قلـت كمـا أمرنـي رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فأخلـف الله لـي خيـراً منـه: رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
وعـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـا مـن مسـلم يُصـاب بمصيبـة فيذكرهـا وإن طـال عهدهـا فيحـدث لذلـك اسـترجاعاً إلا جـدد الله لـه عنـد ذلـك فأعطـاه مثـل أجرهـا يـوم أصيـب }}.
وعـن أبـي سـنان قـال: دفنـت ابنـاً لـي فإنـي لفـي القبـر إذ أخـذ بيـدي أبـو طلحـة (يعنـي الخولانـي) فأخرجنـي وقـال لـي: ألا أبشِّـرك؟ قلـت: بلـى، قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ قـال الله: يـا ملـك المـوت قبضـت ولـد عبـدي؟ قبضـت قـرة عينـه وثمـرة فـؤاده؟ قـال: نعـم، قـال: فمـا قـال؟ قـال: حمـدك واسـترجع، قـال: ابنـوا لـه بيتـاً فـي الجنـة وسـموه بيـت الحمـد }}.
(( إّنَّ الصَّفَـا وَالمَـرْوَةَ مِـنْ شَـعَائِرِ اللهِ فَمَـنْ حَـجَّ البَيْـتَ أوِ اعْتَمَـرَ فَـلا جُنَـاحَ عَليـهِ أَنْ يَطَّـوَّفَ بِهِمَـا وَمَـن تَطَـوَّعَ خَيْـرَاً فَـإِنَّ اللهَ شَـاكِرٌ عَليـمٌ )) / 158 /
روى الإمـام أحمـد عـن عـروة عـن عائشـة قـال، قلـت: أرأيـت قـول الله تعالـى: (( إن الصفـا والمـروة مـن شـعائر الله فمـن حـجَّ البيـت أو اعتمـر فـلا جنـاح عليـه أن يطَّـوف بهمـا )) ؟ فـوالله مـا علـى أحـدٍ مـن جنـاح أن لا يطَّـوف بهمـا، ولكنهـا إنمـا أنزلـت أن الأنصـار كانـوا قبـل أن يسـلموا كانـوا يهلِّـون لمنـاة الطاغيـة التـي كانـوا يعبدونهـا عنـد المشـلل، وكـان مـن أهـلَّ لهـا يتحـرج أن يطَّـوف بالصفـا والـمروة، فسـألوا عـن ذلـك رسـول صلـى الله عليـه وسـلم فقالـوا: يـا رسـول الله إنـا كنـا نتحـرج أن نطَّـوف بالصفـا والمـروة فـي الجاهليـة، فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( إن الصفـا والمـروة مـن شـعائر الله فمـن حـجّ البيـت أو اعتمـر فـلا جنـاح عليـه أن يطـوَّف بهمـا )).
قالـت عائشـة: ثـم قـد سـنَّ رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم الطـواف بهمـا فليـس لأحـد أن يـدع الطـواف بهمـا.
وقـال أنَـس: كنـا نـرى أنهمـا مـن أمـر الجاهليـة، فلمـا جـاء الإسـلام أمسـكنا عنهمـا فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( إن الصفـا والمـروة مـن شـعائر الله )).
وقـال الشـعبي: كـان إسـاف علـى الصفـا وكانـت نائلـة علـى المـروة، وكانـوا يسـتلمونهما فتحرجـوا بعـد الإسـلام مـن الطـواف بينهمـا فنزلـت هـذه الآيـة.
وفـي صحيـح مسـلم: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لمـا فـرغ مـن طوافـه بالبيـت عـاد إلـى الركـن فاسـتلمه ثـم خـرج مـن بـاب الصفـا وهـو يقـول: (( إن الصفـا والمـروة مـن شـعائر الله ))، ثـم قـال: {{ أبـدأ بمـا بـدأ الله بـه }}.
وعـن حبيبـة بنـت أبـي تجـراة قالـت: رأيـت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يطـوف بيـن الصفـا والمـروة والنـاس بيـن يديـه وهـو وراءهـم وهـو يسـعى، حتـى أرى ركبتيـه مـن شـدة السـعي يـدور بـه إزاره وهـو يقـول: {{ اسـعوا فـإن الله كتـب عليكـم السـعي }}، وقـد اسـتدل بهـذا الحديـث مـن كـان يـرى أن السـعي بيـن الصفـا والمـروة ركـن فـي الحـج، كمـا هـو مذهـب الشـافعي وروايـة عـن أحمـد وهـو المشـهور عـن مالـك.
وقيـل: إنـه واجـب وليـس بركـن فـإن تركتـه عمـداً أو سـهواً جبـره بـدم وهـو روايـة عـن أحمـد.
وقيـل: بـل مسـتحب. واحتجـوا بقولـه تعالـى: (( فمـن تطـوع خيـراً )).
والقـول الأول أرجـح لأنـه عليـه السـلام طـاف بينهمـا وقـال: {{ خـذوا عنـي مناسـككم }}.
بيَّـن تعالـى أن الطـواف بيـن الصفـا والمـروة (( مـن شـعائر الله )) أي ممـا شـرع الله تعالـى لإبراهيـم فـي مناسـك الحـج.
وقـد تقـدم فـي حديـث ابـن عبـاس أن أصـل ذلـك مأخـوذ مـن طـواف هاجـر، وتردادهـا بيـن الصفـا والمـروة فـي طلـب المـاء لولدهـا لمّـا نفـذ ماؤهمـا وزادهمـا، فلـم تـزل تـردد فـي هـذه البقعـة المشـرفة بيـن (الصفـا والمـروة) متذللـة خائفـة وجلـة حتـى كشـف الله كربتهـا، وآنـس غربتهـا، وفـرَّج شـدتها وأنبـع لهـا زمـزم التـي ماؤهـا {{ طعـام طعـم، وشـفاء سـقم }}، فالسـاعي بينهمـا ينبغـي لـه أن يسـتحضر فقـره وذلـه وحاجتـه إلـى الله فـي هدايـة قلبـه، وصـلاح حالـه، وغفـران ذنبـه، وأن يلتجـئ إلـى الله عـزّ وجـلّ لتفريـج مـا هـو بـه.
وقولـه: (( فمـن تطـوع خيـراً )).
قيـل: زاد فـي طوافـه بينهمـا علـى قـدر الواجـب ثامنـة وتاسـعة ونحـو ذلـك.
وقيـل: يطـوف بينهمـا فـي حجـة تطـوع أو عمـرة تطـوع.
وقيـل: المـراد تطـوّع خيـراً فـي سـائر العبـادات.
وقولـه: (( فـإن الله شـاكر عليـم )) أي يثيـب علـى القليـل بالكثيـر.
(( عليـم )) بقـدر فـلا يبخـس أحـداً ثوابـه و (( لا يظلـم مثقـال ذرة وإن تـك حسـنة يضاعفهـا ويـؤت مـن لدنـه أجـراً عظيمـاً )).
(( وَإِنَّ الَّذيـنَ يَكْتُمـونَ مَـا أَنْزَلْنَـا مِـنَ البَيّنـاتِ وَالهُـدى مِـنْ بَعْـدِ مَـا بَيّنَـاهُ لِلنَّـاسِ فِـي الكِتـابِ أُولئِـكَ يَلْعَنُهُـمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُـمُ اللاعِنُـونَ (159) إِلا الّذيـنَ تَابُـوا وَأَصْلَحُـوا وَبَيَّنُـوا فَأُولَئِـكَ أَتُـوبُ عَلَيْهِـم وَأَنـا التَّـوَابُ الرَّحيـمُ (160) إِنَّ الّذيـنَ كَفَـروا وَمَاتـوا وَهُـمْ كُفَّـارٌ أُولئِـكَ عَلَيْهِـم لَعْنَـةُ اللهِ وَالمَلائِكَـةِ وَالنَّـاسِ أَجْمَعيـنَ (161) خالِديـنَ فِيهـا لا يُخَفَّـفُ عَنْهُـمُ العَـذَابُ وَلا هُـمْ يُنْظَـرونَ )) / 162 /
هـذا وعيـد شـديد لمـن كتـم مـا جـاءت بـه الرسـل، مـن الـدلالات البينـة علـى المقاصـد الصحيحـة، والهـدى النافـع للقلـوب، مـن بعـد مـا بينـه الله تعالـى لعبـاده، فـي كتبـه التـي أنزلهـا علـى رسـله، وقـد نزلـت فـي أهـل الكتـاب كتمـوا صفـة محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
وفـي الحديـث: {{ مـن سـئل عـن عِلْـمٍ فكتمـه أُلجـم يـوم القيامـة بلجـام مـن نـار }}.
وروي عـن أبـي هريـرة أنـه قـال: لـولا آيـة فـي كتـاب الله مـا حدَّثـت أحـداً شـيئاً (( إن الذيـن يكتمـون مـا أنزلنـا مـن البينـات والهـدى )) الآيـة.
قـال أبـو العاليـة: (( ويلعنهـم اللاعنـون )) يعنـي تلعنهـم الملائكـة والمؤمنـون.
وقـد جـاء فـي الحديـث: {{ إن العالـم يسـتغفر لـه كـل شـيء حتـى الحيتـان فـي البحـر }}، وجـاء فـي هـذه الآيـة أن كاتـم العلـم يلعنـه الله والملائكـة والنـاس أجمعـون.
ثـم اسـتثنى الله تعالـى مـن هـؤلاء مـن تـاب إليـه فقـال: (( إلا الذيـن تابـوا وأصلحـوا وبينـوا )) أي رجعـوا عمّـا كانـوا فيـه، وأصلحـوا أعمالهـم، وبينـوا للنـاس مـا كانـوا يكتمونـه (( فأولئـك أتـوب عليهـم وأنـا التـواب الرحيـم ))، وفـي هـذا الدلالـة علـى أن الداعيـة إلـى كفـر أو بدعـة إذا تـاب إلـى الله تأب الله عليـه، ثـم أخبـر تعالـى عمـن كفـر بـه واسـتمر بـه الحـال إلـى مماتـه بـأن (( عليهـم لعنـة الله والملائكـة والنـاس أجمعيـن خالديـن فيهـا )) أي فـي اللعنـة التابعـة لهـم يـوم القيامـة، ثـم المصاحبـة لهـم فـي نـار جهنـم (( لا يخفّـف عنهـم العـذاب )) فيهـا أي لا ينقـص عمّـا هـم فيـه (( ولا هـم ينظـرون )) أي لا يغيـر عنهـم سـاعة واحـدة ولا يفتـر، بـل هـو متواصـل دائـم فنعـوذ بالله مـن ذلـك.
قـال أبـو العاليـة وقتـادة: إن الكافـر يوقـف يـوم القيامـة فيلعنـه الله، ثـم تلعنـه الملائكـة، ثـم يلعنـه النـاس أجمعـون.
فصــل
لا خـلاف فـي جـواز لعـن الكفـار، فأمـا الكافـر المعيـن فقـد ذهـب جماعـة مـن العلمـاء إلـى أنـه لا يلعـن لأنـا لا نـدري بمـا يختـم الله لـه.
وقالـت طائفـة أخـرى: بـل يجـوز لعـن الكافـر المعيـن، واختـاره ابـن العربـي ولكنـه احتـج بحديـث فيـه ضعـف.
واسـتدل غيـره بقولـه عليـه السـلام: {{ لا تلعنـه فإنـه يحـب الله ورسـوله }} (قالـه عليـه السـلام فـي قصـة الـذي كـان يؤتـى بـه سـكران فيحـده فقـال رجـل: لعنـه الله مـا أكثـر مـا يؤتـى بـه... الحديـث) فـدل علـى أن مـن لا يحـب الله ورسـوله يلعـن.
وقـد كـان عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه ومـن بعـده مـن الأئمـة يلعنـون الكفـرة فـي القنـوت وغيـره، واسـتدل بعضهـم بالآيـة (( أولئـك عليهـم لعنـة الله والملائكـةِ والنـاسِ أجمعيـن )) والله أعلـم.
(( وَإِلَهُكُـمْ إِلـهٌ وَاحِـدٌ لا إِلـهَ إِلا هُـوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحيـمُ )) / 163 /
يخبـر تعالـى عـن تفـرده بالإلهيـة، وأنـه لا شـريك لـه ولا عديـل لـه، بـل هـو الله الواحـد الأحـد الفـرد الصمـد الـذي لا إلـه إلا هـو وأنـه الرحمـن الرحيـم، وقـد تقـدم تفسـير هذيـن الاسـمين فـي أول الفاتحـة. وفـي الحديـث عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ اسـم الله الأعظـم فـي هاتيـن الآيتيـن (( إلهكـم إلـه واحـد لا إلـه إلا هـو الرحمـن الرحيـم )) و (( الـم الله لا إلـه إلا هـو الحـي القيـوم )) }} ثـم ذكـر الدليـل علـى تفـرده بالإلهيـة، بخلـق السـماوات والأرض ومـا فيهمـا ومـا بيـن ذلـك، ممـا ذرأ وبـرأ مـن المخلوقـات الدالـة علـى وحدانيتـه فقـال:
(( إِنَّ فِـي خَلْـقِ السَّـمَاواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِـلافِ الليـلِ وَالنَّهـارِ وَالفُلْـكِ الَّتـي تَجْـري فِـي البَحْـرِ بِمَـا يَنْفَـعُ النَّـاسَ وَمـا أَنْـزَلَ اللهُ مِـنَ السَّـماءِ مِـنْ مَـاءٍ فَأَحيـا بِـهِ الأَرضَ بَعْـدَ مَوتِهـا وَبَـثَّ فِيهـا مِـنْ كُـلِّ دَابَّـةٍ وَتَصْريـفِ الرِّيَـاحِ وَالسَّـحَابِ المُسَـخَّرِ بَيـنَ السَّـماءِ وَالأَرضِ لآيـاتٍ لِقَـوْمٍ يَعْقِلـونَ )) / 164 /
يقـول تعالـى: (( إن فـي خلـق السـماوات والأرض )) تلـك فـي ارتفاعهـا ولطافتهـا واتسـاعها، وكواكبهـا السـيارة والثوابـت ودوران فلكهـا، وهـذه الأرض فـي كثافتهـا وانخفاضهـا، وجبالهـا وبحارهـا، وقفارهـا وعمرانهـا، ومـا فيهـا مـن المنافـع، واختـلاف الليـل والنهـار، وهـذا يجـيء ثـم يذهـب، ويخلفـه الآخـر ويعقبـه، لا يتأخـر عنـه لحظـة كمـا قـال تعالـى: (( لا الشـمـس ينبغـي أن تـدرك القمـر ولا الليـل سـابق النهـار وكـلٌّ فـي فَلَـكَ يسـبحون )).
وتـارة يطـول هـذا ويقصـر هـذا، وتـارة يأخـذ هـذا مـن هـذا، ثـم يتعاوضـان كمـا قـال تعالـى: (( يولـج الليـل فـي النهـار ويولـج النهـار فـي الليـل )) أي يزيـد مـن هـذا فـي هـذا، ومـن هـذا فـي هـذا، (( والفلـك التـي تجـري فـي البحـر بمـا ينفـع النـاس )) أي فـي تسـخير البحـر بحمـل السـفن مـن جانـب إلـى جانـب، لمعايـش النـاس والانتفـاع بمـا عنـد أهـل ذلـك الإقليـم، ونقـل هـذا إلـى هـؤلاء ومـا عنـد أولئـك إلـى هـؤلاء: (( ومـا أنـزل الله مـن السـماء مـن مـاء فأحيـا بـه الأرض بعـد موتهـا )).
كمـا قـال تعالـى: (( وآيـة لهـم الأرض الميتـة أحييناهـا وأخرجنـا منهـا حبـاً فمنـه يأكلـون )) ، (( وبـث فيهـا مـن كـل دابـة )) أي علـى اختـلاف أشـكالها وألوانهـا، ومنافعهـا وصغرهـا وكبرهـا، وهـو يعلـم ذلـك كلـه ويرزقـه، لا يخفـى عليـه شـيء مـن ذلـك كمـا قـال تعالـى: (( ومـا مـن دابـة فـي الأرض إلا علـى الله رزقهـا ويعلـم مسـتقرها ومسـتودعها كـل فـي كتـاب مبيـن )).
(( وتصريـف الريـاح )) أي فتـارة تأتـي بالرحمـة، وتـارة تأتـي بالعـذاب، وتـارة تأتـي مبشـرة بيـن يـدي السـحاب، وتـارة تسـوقه وتـارة تجمعـه، وتـارة تفرقـه، وتـارة تصرفـه، ثـم تـارة تأتـي مـن الجنـوب وتـارة تأتـي مـن ناحيـة اليميـن.
(( والسـحاب المسـخر بيـن السـماء والأرض )) أي سـائر بيـن السـماء والأرض، مسـخر إلـى مـا يشـاء الله مـن الأراضـي والأماكـن كمـا يصرفـه تعالـى: (( لآيـات لقـوم يعقلـون )) أي فـي هـذه الأشـياء دلالات بينـة علـى وحدانيـة الله تعالـى، كمـا قـال تعالـى: (( إن فـي خلـق السـماوات والأرض واختـلاف الليـل والنهـار لآيـات لأولـي الألبـاب )).
عـن عطـاء قـال: نزلـت علـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم بالمدينـة: (( وإلهكـم إلـه واحـد لا إلـه إلا هـو الرحمـن الرحيـم )) فقـال كفـار قريـش بمكـة: كيـف يسـع النـاس إلـه واحـد؟ فأنـزل الله تعالـى: (( إن فـي خلـق السـماوات والأرض واختـلاف الليـل والنهـار والفلـك التـي تجـري فـي البحـر بمـا ينفـع النـاس )) إلـى قولـه: (( لآيـات لقـوم يعقلـون )) فبهـذا يعلمـون أنـه إلـه واحـد، وأنـه إلـه كـل شـيء وخالـق كـل شـيء.
وقـال أبـو الضحـى: لمـا نزلـت (( وإلهكـم إلـه واحـد )) قـال المشـركون: إن كـان هكـذا فليأتينـا بآيـة فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( إن فـي خلـق السـماوات والأرض واختـلاف الليـل والنهـار )) إلـى قولـه: (( يعقلـون )).
(( وَمِـنَ النَّـاسِ مَـنْ يَتَّخِـذُ مِـنْ دُونِ اللهِ أَنْـداداً يُحِبّونَهُـمْ كَحُـبِّ اللهِ وَالَّذيـنَ آمَنـوا أَشَـدُّ حُبَّـاً للهِ وَلَـو يَـرى الَّذيـنَ ظَلمـوا إِذْ يَـرَوْنَ العَـذَابَ أَنَّ القُـوَّةَ للهِ جَميعـاً وَأَنَّ اللهَ شَـديدُ العَـذَابِ (165) إِذْ تَبَـرَّأَ الَّذيـنَ اتُّبِعُـوا مِـنَ الَّذيـنَ اتَّبَعُـوا وَرَأَوا العَـذابَ وَتَقَطَّعَـتْ بِهُـمُ الأَسْـبابُ (166) وَقَـالَ الَّذيـنَ اتَّبَعُـوا لَـوْ أَنَّ لَنَـا كَـرَّةً فَنَتَبَـرَّأَ مِنْهُـمْ كَمـا تَبَـرَّؤوا مِنَّـا كَذلِـكَ يُريهِـمُ اللهُ أَعْمالَهُـم حَسَـراتٍ عَلَيهِـمْ وَمَـا هُـمْ بِخارِجيـنَ مِـنَ النَّـارِ )) / 167 /
يذكـر تعالـى حـال المشـركين بـه فـي الدنيـا ومـا لهـم فـي الآخـرة، حيـث جعلـوا لـه أنـداداً أي أمثـالاً ونظـراء، يعبدونهـم معـه ويحبونهـم كحبـه، وهـو الله لا إلـه إلا هـو ولا ضـد لـه ولا نـد لـه ولا شـريك معـه.
وفـي الصحيحيـن عـن عبـد الله بـن مسـعود قـال، قلـت: يـا رسـول الله أيُّ الذنـب أعظـم؟ قـال: {{ أن تجعـل لله نـداً وهـو خلقـك }}.
وقولـه: (( والذيـن آمنـوا أشـد حبـاً لله )) ولحبهـم لله وتمـام معرفتهـم بـه وتوقيرهـم وتوحيدهـم لـه لا يشـركون بـه شـيئاً، بـل يعبدونـه وحـده ويتوكلـون عليـه، ويلجـأون فـي جميـع أمورهـم إليـه.
ثـم توعـد تعالـى المشـركين بـه الظالميـن لأنفسـهم بذلـك فقـال: (( ولـو يـرى الذيـن ظلمـوا إذ يـرون العـذاب أن القـوة لله جميعـاً )).
قـال بعضهـم: تقديـر الكـلام لـو عاينـوا العـذاب لعلمـوا حينئـذ أن القـوة لله جميعـاً، أي أن الحكـم لـه وحـده لا شـريك لـه وأن جميـع الأشـياء تحـت قهـره وغلبتـه وسـلطانه.
(( وأن الله شـديد العـذاب ))، كمـا قـال: (( فيومئـذ لا يعـذب عذابـه أحـد ولا يوثـق وثاقـه أحـد )). يقـول: لـو يعلمـون مـا يعاينونـه هنالـك، ومـا يحـل بهـم مـن الأمـر الفظيـع، المنكـر الهائـل علـى شـركهم وكفرهـم، لانتهـوا عمّـا هـم فيـه مـن ضـلال.
ثـم أخبـر عـن كفرهـم بأوثانهـم، وتبـري المتبوعيـن مـن التابعيـن فقـال: (( إذ تبـرأ الذيـن اتبعـوا مـن الذيـن اتبعـوا ))، تبـرأت منهـم الملائكـة الذيـن كانـوا يزعمـون أنهـم يعبدونهـم فـي الـدار الدنيـا، فتقـول الملائكـة: (( تبرأنـا إليـك مـا كانـوا إيانـا يعبـدون )) ، ويقولـون: (( سـبحانك أنـت ولينـا مـن دونهـم بـل كانـوا يعبـدون الجـن أكثرهـم بهـم مؤمنـون )).
والجـن أيضـاً تتبـرأ منهـم ويتنصلـون مـن عبادتهـم لهـم، كمـا قـال تعالـى: (( وإذا حشـر النـاس كانـوا لهتم أعـداء وكانـوا بعبادتهـم كافريـن )). وقـال تعالـى: (( كـلا سـيكفرون بعبادتهـم ويكونـون عليهـم ضـداً )).
وقولـه: (( ورأوا العـذاب وتقطعـت بهـم الأسـباب )) أي عاينـوا عـذاب الله وتقطعـت بهـم الحيـل وأسـباب الخـلاص ولـم يجـدوا عـن النـار معـدلاً ولا مصرفـاً.
قـال ابـن عبـاس: (( وتقطعـت بهـم الأسـباب )) المـودة.
وقولـه: (( وقـال الذيـن اتبعـوا لـو أن لنـا كـرة فنتبـرأ منهـم كمـا تبـرؤوا منـا )) أي لـو أن لنـا عـودة إلـى الـدار الدنيـا، حتـى تتبـرأ مـن هـؤلاء ومـن عبادتهـم، فـلا نلتفـت إليهـم بـل نوحـد الله وحـده بالعبـادة، وهـم كاذبـون فـي هـذا بـل لـو ردوا لعـادوا لمـا نهـوا عنـه وإنهـم لكاذبـون، كمـا أخبـر الله تعالـى عنهـم بذلـك، ولهـذا قـال: (( كذلـك يريهـم الله أعالهـم حسـرات عليهـم )) أي تذهـب وتضمحـل.
كمـا قـال تعالـى: ((و قدمنـا إلـى مـا عملـوا مـن عمـل فجعلنـاه هبـاءً منثـوراً )).
وقـال تعالـى: (( مثـل الذيـن كفـروا بربهـم أعمالهـم كرمـاد اشـتدت بـه الريـح فـي يـوم عاصـف )) الآيـة.
وقـال تعالـى: (( والذيـن كفـروا أعمالهـم كسـراب بقيعـة يحسـبه الظمـآن مـاء )) الآيـة.
ولهـذا قـال تعالـى: (( ومـا هـم بخارجيـن مـن النـار )).
(( يـا أَيُّهـا النَّـاسُ كُلُـوا مِمَّـا فِـي الأَرْضِ حَـلالاً طَيِّبـاً وَلا تَتَّبِعُـوا خُطُـواتِ الشَّـيطَانِ إِنَّـهُ لَكُـمْ عَـدُّوٌ مُّبِيـنٌ (168) إِنَّمَـا يَأْمُرُكُـم بِالسُّـوءِ وَالفَحْشَـاءِ وَأَنْ تَقُولُـوا عَلَـى اللهِ مَـا لا تَعْلَمـونَ )) / 169 /
لمـا بيـن تعالـى أنـه لا إلـه إلا هـو، وأنـه المسـتقل بالخلـق، شـرع يبيـن أنـه الـرازق لجميـع خلقـه، فذكـر فـي مقـام الامتنـان أنـه أبـاح لهـم أن يأكلـوا ممـا فـي الأرض، فـي حـال كونـه حـلالاً مـن الله طيبـاً أي مسـتطاباً فـي نفسـه، غيـر ضـار للأبـدان ولا للعقـول، ونهاهـم عـن اتبـاع خطـوات الشـيطان، وهـي طرائقـه ومسـالكه فيمـا أضـل أتباعـه فيـه، مـن تحريـم البحائـر والسـوائب والوصائـل ونحوهـا، ممـا كـان زينـه لهـم فـي جاهليتهـم، كمـا فـي حديـث عيـاض بـن حمـاد عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم انـه قـال: {{ يقـول الله تعالـى إن كـل مـال منحتـه عبـادي فهـو لهـم حـلال _ وفيـه _ وإنـي خلقـت عبـادي حنفـاء فجاءتهـم الشـياطين فاجتالتهـم عـن دينهـم وحرمـت عليهـم مـا أحللـت لهـم }}.
(اجتالتهـم: صرفتهـم عـن الهـدى إلـى الضلالـة).وعـن ابـن عبـاس قـال: تليـت هـذه الآيـة عنـد النبـي صلـى الله عليـه وسـلم (( يـا أيهـا النـاس كلـوا ممـا فـي الأرض حـلالاً طيبـاً )) فقـام سـعد بـن أبـي وقـاص فقـال: يـا رسـول الله ! ادع الله أن يجعلنـي مسـتجاب الدعـوة، فقـال: {{ يـا سـعد أطـب مطعمـك تكـن مسـتجاب الدعـوة، والـذي نفـس محمـد بيـده إن الرجـل ليقـذف اللقمـة الحـرام فـي جوفـه مـا يتقبـل منـه أربعيـن يومـاً، وأيّمـا عبـد نبـت لحمـه مـن السـحت والربـا فالنـار أولـى بـه }}.
وقولـه تعالـى: (( إنـه لكـم عـدوّ مبيـن )) تنفيـر عنـه وتحذيـر منـه.
كمـا قـال: (( إن الشـيطان لكـم عـدوّ فاتخـذوه عـدواً )).
وقـال تعالـى: (( أفتتخذونـه وذريتـه أوليـاء مـن دونـي وهـم لكـم عـدوّ بئـس للظالميـن بـدلاً )).
قـال قتـادة والسُّـدي: كـل معصيـة لله فهـي مـن خطـوات الشـيطان.
وقـال مسـروق: أتـي عبـد الله بـن مسـعود بضـرع وملـح فجعـل يأكـل، فاعتـزل رجـل مـن القـوم: فقـال ابـن مسـعود: ناولـوا صاحبكـم، فقـال: لا أريـده، فقـال: أصائـم أنـت؟ قـال: لا، قـال: فمـا شـأنك؟ قـال: حرمـت أن آكـل ضرعـاً أبـداً، فقـال ابـن مسـعود: هـذا مـن خطـوات الشـيطان، فاطعـم وكفّـر عـن يمينـك.
وعـن ابـن عبـاس قـال: مـا كـان مـن يميـن أو نـذر فـي غضـب، فهـو مـن خطـوات الشـيطان، وكفارتُـه كفـارة يميـن.
وقولـه: (( إنمـا يأمركـم بالسـوء والفحشـاء وأن تقولـوا علـى الله مـا لا تعلمـون )) أي إنمـا يأمركـم عدوكـم الشـيطان بالأفعـال السـيئة، وأغلـظ منهـا الفاحشـة كالزنـا ونحـوه، وأغلـظُ مـن ذلـك وهـو القـول علـى الله بـلا علـم، فيدخـل فـي هـذا كـل كافـر وكـل مبتـدع أيضـاً.
(( وَإِذَا قِيْـلَ لَهُـمُ اتَّبِعُـوا مَـا أَنْـزَلَ اللهُ قَالُـوا بَـلْ نَتَّبِـعُ مَـا أَلْفَينـا عَلَيْـهِ آبَاءَنَـا أَوَلَـوْ كَـانَ آبَاؤُهُـمْ لا يَعْقِلُـونَ شَـيْئَاً وَلا يَهْتَـدُونَ (170) وَمَثَـلُ الّذيـنَ كَفَـروا كَمَثَـلِ الّـذي يَنْعِـقُ بِمَـا لا يَسْـمَعُ إِلا دُعَـاءً وَنِـدَاءً صُـمٌّ بُكْـمٌ عُمْـيٌ فَهُـمْ لا يَعْقِلـونَ )) / 171 /
يقـول تعالـى: (( وإذا قيـل لهـم )) للكفـرة المشـركين: (( اتبعـوا مـا أنـزل الله )) علـى رسـوله، واتركـوا مـا أنتـم عليـه مـن الضـلال والجهـل، قالـوا فـي جـواب ذلـك: (( بـل نتبـع مـا ألفينـا )) أي مـا وجدنـا عليـه آباءنـا، أي مـن عبـادة الأصنـام والأنـداد.
قـال الله تعالـى منكـراً عليهـم: (( أو لـو كـان آباؤهـم )) أي الذيـن يقتـدون بهـم ويقتفـون أثرهـم (( لا يعقلـون شـيئاً ولا يهتـدون )) أي ليـس لهـم فهـم ولا هدايـة.
عـن ابـن عبـاس أنهـا نزلـت فـي طائفـة مـن اليهـود، دعاهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم إلـى الإسـلام، فقالـوا: بـل نبت‘ مـا ألفينـا عليـه آباءنـا، فأنـزل الله هـذه الآيـة.
ثـم ضـرب لهـم الله تعالـى مثـلاً، كمـا قـال تعالـى: للذيـن لا يؤمنـون بالآخـرة مثـل السـوء ))، فقـال: (( ومثـل الذيـن كفـروا )) أي فيمـا هـم فيـه مـن الغـي والضـلال والجهـل، كالـدواب السـارحة لا تفقـه مـا يقـال لهـا، بـل إذا نعـق بهـا راعيهـا، أي دعاهـا إلـى مـا يرشـدها لا تفقـه مـا يقـول ولا تفهمـه بـل إنمـا تسـمع صوتـه فقـط، هكـذا روي عـن ابـن عبـاس.
وقيـل: إنمـا هـذا مثـل ضـرب لهـم فـي دعائهـم الأصنـام التـي لا تسـمع ولا تبصـر ولا تعقـل شـيئاً، واختـاره جريـر، والأول أولـى لأن الأصنـام لا تسـمع شـيئاً ولا تعقلـه ولا تبصـره ولا بطـش لهـا ولا حيـاة فيهـا.
وقولـه: (( صـم بكـم عمـي )) أي صـم عـن سـماع الحـق، بُكْـمٌ لا يتفوهـون بـه،عمـي عـن رؤيـة طريقـه ومسـلكه.
(( فهـم لا يعقلـون )) أي لا يعقلـون شـيئاً ولا يفهمونـه، كمـا قـال تعالـى: (( والذيـن كذبـوا بآياتنـا صـم وبكـم فـي الظلمـات مـن يشـأ الله يضللـه ومـن يشـأ يجعلـه علـى صـراط مسـتقيم )).
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 142 ، 143 ، 144 ، 145 ، 146 ، 147 ، 148 ، 149 ، 150 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
(( يَـا أَيُّهَـا الَّذيـنَ آمَنُـوا اسْـتَعينُوا بِالصَّبْـرِ وَالصَّـلاةِ إِنَّ اللهَ مَـعَ الصَّابِريـنَ (153) وَلا تَقُولُـوا لِمَـنْ يُقْتَـلُ فـي سَـبيلِ اللهِ أمْـواتٌ بَـلْ أَحْيَـاءٌ وَلَكِـن لا تَشْـعُرُونَ )) / 154 /
لمـا فـرغ تعالـى مـن بيـان الأمـر بالشـكر، شـرع فـي بيـان الصبـر والإرشـاد والاسـتعانة بالصبـر والصـلاة، فـإن العبـد إمـا أن يكـون فـي نعمـة فيشـكر عليهـا، أو فـي نقمـة فيصبـر عليهـا، كمـا جـاء فـي الحديـث: {{ عجبـاً للمؤمـن لا يقضـي الله لـه قضـاء إلا كـان خيـراً لـه: إن أصابتـه سـراء فشـكر كـان خيـراً لـه، وإن أصابتـه ضـراء فصبـر كـان خيـراً لـه }}.
وبيَّـن تعالـى أن أجـود مـا يسـتعان بـه علـى تحمـل المصائـب الصبـر والصـلاة كمـا تقـدم فـي قولـه: (( واسـتعينوا بالصبـر والصـلاة وإنهـا لكبيـرة إلا علـى الخاشـعين )).
وفـي الحديـث: {{ إن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان إذا حزبـه أمـر صلّـى }}.
والصبـر صبـران: فصبـرك علـى تـرك المحـارم والمآثـم، وصبـر علـى فعـل الطاعـات والقربـات، والثانـي أكبـر ثوابـاً لأنـه المقصـود.
وأمـا الصبـر الثالـث وهـو الصبـر علـى المصائـب والنوائـب فـذاك أيضـاً واجـب كالاسـتغفار مـن المعايـب.
قـال زيـن العابديـن: إذا جمـع الله الأوليـن والآخريـن ينـادي منـاد أيـن الصابـرون ليدخلـوا الجنـة قبـل الحسـاب؟ قـال: فيقـوم عُنُـق (جماعـة متقدمـة) مـن النـاس فتتلقاهـم الملائكـة فيقولـون: إلـى أيـن يـا بنـي آدم؟ فيقولـون: إلـى الجنـة، فيقولـون: قبـل الحسـاب؟ قالـوا: نعـم، قالـوا: مـن أنتـم؟ قالـوا: نحـن الصابـرون، قالـوا: ومـا كـان صبركـم؟ قالـوا: صبرنـا علـى طاعـة الله وصبرنـا عـن معصيـة الله حتـى توفانـا الله، قالـوا: أنتـم كمـا قلتـم ادخلـوا الجنـة فنعـم أجـر العامليـن.
(قلـت): ويشـهد لهـذا قولـه تعالـى: (( إنمـا يوفـى الصابـرون أجرهـم بغيـر حسـاب )).
قـال سـعيد بـن جبيـر: الصبـر اعتـراف العبـد لله بمـا أصـاب منـه، واحتسـابه عنـد الله رجـاء ثوابـه، وقـد يجـزع الرجـل وهـو متجلـد لا يـرى منـه إلا الصبـر.
وقولـه تعالـى: (( ولا تقولـوا لمـن يُقتَـل فـي سـبيل الله أمـوات بـل أحيـاء ))
يخيـر تعالـى أن الشـهداء فـي برزخهـم أحيـاء يرزقـون كمـا جـاء فـي صحيـح مسـلم: {{ أن أرواح الشـهداء فـي حواصـل طيـور خضـر تسـرح فـي الجنـة حيـث شـاءت، ثـم تـأوي إلـى قناديـل معلقـة تحـت العـرش، فاطلـع عليهـم ربـك اطلاعـة فقـال: مـاذا تبغـون؟ قالـوا: يـا ربنـا وأي شـيء نبغـي وقـد أعطيتنـا مـا لـم تعـط أحـداً مـن خلقـك؟ ثـم عـاد عليهـم بمثـل هـذا فلمـا رأوا أنهـم لا يتركـون مـن أن يسـألوا، قالـوا: نريـد أن تردنـا إلـى الـدار الدنيـا فنقاتـل فـي سـبيلك حتـى نقتـل فيـك مـرة أخـرى _ لمـا يـرون مـن ثـواب الشـهادة _ فيقـول الـرب جـلَّ جلالـه: إنـي كتبـت أنهـم إليهـا لا يرجعـون }}.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ نسـمة المؤمـن طائـر تعلـق فـي شـجر الجنـة حتـى يرجعـه الله إلـى جسـده يـوم بعثـه }} ففيـه دلالـة لعمـوم المؤمنيـن أيضـاً وإن كـان الشـهداء قـد خصصـوا بالذكـر فـي القـرآن تشـريفاً لهـم وتكريمـاً وتعظيمـاً.
(( وَلَنَبْلُوَنَّكُـم بِشَـيْءٍ مِـنَ الخَـوْفِ وَالجُـوعِ وَنَقْـصٍ مِـنّ الأَمْـوالِ وَالأَنْفُـسِ وَالثَمَـراتِ وَبَشِّـرِ الصَّابِريـنَ (155) الَّذيـنَ إِذا أَصابَتْهُـم مُصيبَـةٌ قاَلـوا إِنَّـا للهِ وَإِنَّـا إِلَيـهِ راجِعُـونَ ( 156) أُولئِـكَ عَلَيهِـمْ صَلَـواتٌ مِـنْ رَّبِّهِـمْ وَرَحْمَـةٌ وَأُوْلَئِـكَ هُـمُ المُهْتَـدُونَ )) / 157 /
أخبرنـا تعالـى أنـه يبتلـي عبـاده أي يختبرهـم ويمتحنهـم، كمـا قـال تعالـى: (( ولنبلونكـم حتـى نعلـم المجاهديـن منكـم والصابريـن ونبلـوا أخباركـم )) فتـارةً بالسـرّاء، وتـارة بالضـراء مـن خـوف وجـوع، كمـا قـال تعالـى: (( فأذاقهـا الله لبـاس الجـوع والخـوف ))، فـإن الجائـع والخائـف كـل منهمـا يظهـر ذلـك عليـه، ولهـذا قـال: (( لبـاس الجـوع والخـوف )).
وقـال ههنـا: (( بشـيء مـن الخـوف والجـوع )) أي بقليـل مـن ذلـك.
(( ونقـص مـن الأمـوال )) أي ذهـاب بعضهـا.
(( والأنفـس )) كمـوت الأصحـاب والأقـارب والأحبـاب.
(( والثمـرات )) أي لا تغـل الحدائـق والمـزارع كعادتهـا، قـال بعـض السـلف: فكانـت بعـض النخيـل لا تثمـر غيـر واحـدة، وكـل هـذا وأمثالـه ممـا يختبـر الله بـه عبـاده، فمـن صبـر أثابـه مـن قنـط أحـل بـه عقابـه، ولهـذا قـال تعالـى: (( وبشِّـر الصابريـن )).
ثـمَّ بيَّـن تعالـى مَـنِ الصابـرون الذيـن شـكرهم فقـال: (( الذيـن إذا أصابتهـم مصيبـة قالـوا إنـا لله وإنّـا إليـه راجعـون )) أي تسـلوا بقولهـم هـذا عمـا أصابهـم، وعلمـوا أنهـم ملـك لله يتصـرف فـي عبيـده كمـا يشـاء، وعلمـوا أنـه لا يضيـع لديـه مثقـال ذرة يـوم القيامـة، فأحـدث لهـم ذلـك اعترافهـم بأنهـم عبيـده وأنهـم إليـه راجعـون فـي الـدار الآخـرة، ولهـذا أخبـر تعالـى عمـا أعطاهـم علـى ذلـك فقـال: (( أولئـك عليهـم صلـوات مـن ربهـم ورحمـة )) أي ثنـاء مـن الله عليهـم (( وأولئـك هـم المهتـدون )).
قـال أميـر المؤمنيـن عمـر بـن الخطـاب: نعـم العِـدْلان ونعمـت العِـلاوة (( وأولئـك عليهـم صلـوات مـن ربهـم ورحمـة )) فهـذان العـدلان (( وأولئـك هـم المهتـدون )) فهـذه العـلاوة، وهـي زيـادة فـي الحمـل فكذلـك هـؤلاء أعطـوا ثوابهـم وزيـدوا أيضـاً.
وقـد ورد فـي ثـواب الاسـترجاع عنـد المصائـب أحاديـث كثيـرة، فمـن ذلـك مـا رواه الإمـام أحمـد عـن أم سـلمة قالـت: أتانـي أبـو سـلمة يومـاً مـن عنـد رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: لقـد سـمعت مـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـولاً سـررت بـه، قـال: {{ لا يصيـب أحـداً مـن المسـلمين مصيبـة فيسـترجع عنـد مصيبتـه ثـم يقـول: اللهـم أجرنـي فـي مصيبتـي واخلـف لـي خيـراً منهـا، إلا فعـل ذلـك بـه }}، قالـت أم سـلمة: فحفظـت ذلـك منـه، فلمـا توفـي أبـو سـلمة اسـترجعت وقلـت: اللهـم أجرنـي فـي مصيبتـي وأخلـف لـي خيـراً منهـا، ثـم رجعـت إلـى نفسـي، فقلـت: مـن أيـن لـي خيـر مـن أبـي سـلمة؟ فلمـا انقضـت عدتـي اسـتأذن علـيَّ رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وأنـا أدبـغ إهابـاً لـي، فغسـلت يـدي مـن القـرظ وأذنـت لـه، فوضعـت لـه وسـادة أدم حشـوها ليـف فقعـد عليهـا فخطبنـي إلـى نفسـي، فلمـا فـرغ مـن مقالتـه قلـت: يـا رسـول الله مـا بـي أن لا يكـون بـك الرغبـة، ولكنـي امـرأة فـيَّ غيـرة شـديدة، فأخـاف أن تـرى منـي شـيئاً يعذبنـي الله بـه، وأنـا امـرأة قـد دخلـت فـي السـن وأنـا ذات عيـال، فقـال: {{ أمّـا مـا ذكـرتِ مـن العيـال مـن الغيـرة فسـوف يذهبهـا الله عـزّ وجـلّ عنـك، وأمّـا مـا ذكـرت مـن السـن فقـد أصابنـي مثـل مـا أصابـك، وأمّـا مـا ذكـرت مـن العيـال فإنمـا عيالـك عيالـي }}، قالـت: فقـد سـلَّمتُ لرسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فتزوجهـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فقالـت أم سـلمة بعـد: أبدلنـي الله بأبـي سـلمة خيـراً منـه: رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
وعـن أم سـلمة قالـت: سـمعت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ مـا مـن عبـدٍ تصيبـه مصيبـة فيقـول (( إنّـا لله وإنّـا إليـه راجعـون )) اللهـم أجرنـي فـي مصيبتـي واخلـف لـي خيـراً منهـا إلا آجـره الله فـي مصيبتـه وأخلـف لـه خيـراً منهـا }}، قالـت: فلمـا توفـي أبـو سـلمة قلـت كمـا أمرنـي رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فأخلـف الله لـي خيـراً منـه: رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
وعـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـا مـن مسـلم يُصـاب بمصيبـة فيذكرهـا وإن طـال عهدهـا فيحـدث لذلـك اسـترجاعاً إلا جـدد الله لـه عنـد ذلـك فأعطـاه مثـل أجرهـا يـوم أصيـب }}.
وعـن أبـي سـنان قـال: دفنـت ابنـاً لـي فإنـي لفـي القبـر إذ أخـذ بيـدي أبـو طلحـة (يعنـي الخولانـي) فأخرجنـي وقـال لـي: ألا أبشِّـرك؟ قلـت: بلـى، قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ قـال الله: يـا ملـك المـوت قبضـت ولـد عبـدي؟ قبضـت قـرة عينـه وثمـرة فـؤاده؟ قـال: نعـم، قـال: فمـا قـال؟ قـال: حمـدك واسـترجع، قـال: ابنـوا لـه بيتـاً فـي الجنـة وسـموه بيـت الحمـد }}.
(( إّنَّ الصَّفَـا وَالمَـرْوَةَ مِـنْ شَـعَائِرِ اللهِ فَمَـنْ حَـجَّ البَيْـتَ أوِ اعْتَمَـرَ فَـلا جُنَـاحَ عَليـهِ أَنْ يَطَّـوَّفَ بِهِمَـا وَمَـن تَطَـوَّعَ خَيْـرَاً فَـإِنَّ اللهَ شَـاكِرٌ عَليـمٌ )) / 158 /
روى الإمـام أحمـد عـن عـروة عـن عائشـة قـال، قلـت: أرأيـت قـول الله تعالـى: (( إن الصفـا والمـروة مـن شـعائر الله فمـن حـجَّ البيـت أو اعتمـر فـلا جنـاح عليـه أن يطَّـوف بهمـا )) ؟ فـوالله مـا علـى أحـدٍ مـن جنـاح أن لا يطَّـوف بهمـا، ولكنهـا إنمـا أنزلـت أن الأنصـار كانـوا قبـل أن يسـلموا كانـوا يهلِّـون لمنـاة الطاغيـة التـي كانـوا يعبدونهـا عنـد المشـلل، وكـان مـن أهـلَّ لهـا يتحـرج أن يطَّـوف بالصفـا والـمروة، فسـألوا عـن ذلـك رسـول صلـى الله عليـه وسـلم فقالـوا: يـا رسـول الله إنـا كنـا نتحـرج أن نطَّـوف بالصفـا والمـروة فـي الجاهليـة، فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( إن الصفـا والمـروة مـن شـعائر الله فمـن حـجّ البيـت أو اعتمـر فـلا جنـاح عليـه أن يطـوَّف بهمـا )).
قالـت عائشـة: ثـم قـد سـنَّ رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم الطـواف بهمـا فليـس لأحـد أن يـدع الطـواف بهمـا.
وقـال أنَـس: كنـا نـرى أنهمـا مـن أمـر الجاهليـة، فلمـا جـاء الإسـلام أمسـكنا عنهمـا فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( إن الصفـا والمـروة مـن شـعائر الله )).
وقـال الشـعبي: كـان إسـاف علـى الصفـا وكانـت نائلـة علـى المـروة، وكانـوا يسـتلمونهما فتحرجـوا بعـد الإسـلام مـن الطـواف بينهمـا فنزلـت هـذه الآيـة.
وفـي صحيـح مسـلم: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لمـا فـرغ مـن طوافـه بالبيـت عـاد إلـى الركـن فاسـتلمه ثـم خـرج مـن بـاب الصفـا وهـو يقـول: (( إن الصفـا والمـروة مـن شـعائر الله ))، ثـم قـال: {{ أبـدأ بمـا بـدأ الله بـه }}.
وعـن حبيبـة بنـت أبـي تجـراة قالـت: رأيـت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يطـوف بيـن الصفـا والمـروة والنـاس بيـن يديـه وهـو وراءهـم وهـو يسـعى، حتـى أرى ركبتيـه مـن شـدة السـعي يـدور بـه إزاره وهـو يقـول: {{ اسـعوا فـإن الله كتـب عليكـم السـعي }}، وقـد اسـتدل بهـذا الحديـث مـن كـان يـرى أن السـعي بيـن الصفـا والمـروة ركـن فـي الحـج، كمـا هـو مذهـب الشـافعي وروايـة عـن أحمـد وهـو المشـهور عـن مالـك.
وقيـل: إنـه واجـب وليـس بركـن فـإن تركتـه عمـداً أو سـهواً جبـره بـدم وهـو روايـة عـن أحمـد.
وقيـل: بـل مسـتحب. واحتجـوا بقولـه تعالـى: (( فمـن تطـوع خيـراً )).
والقـول الأول أرجـح لأنـه عليـه السـلام طـاف بينهمـا وقـال: {{ خـذوا عنـي مناسـككم }}.
بيَّـن تعالـى أن الطـواف بيـن الصفـا والمـروة (( مـن شـعائر الله )) أي ممـا شـرع الله تعالـى لإبراهيـم فـي مناسـك الحـج.
وقـد تقـدم فـي حديـث ابـن عبـاس أن أصـل ذلـك مأخـوذ مـن طـواف هاجـر، وتردادهـا بيـن الصفـا والمـروة فـي طلـب المـاء لولدهـا لمّـا نفـذ ماؤهمـا وزادهمـا، فلـم تـزل تـردد فـي هـذه البقعـة المشـرفة بيـن (الصفـا والمـروة) متذللـة خائفـة وجلـة حتـى كشـف الله كربتهـا، وآنـس غربتهـا، وفـرَّج شـدتها وأنبـع لهـا زمـزم التـي ماؤهـا {{ طعـام طعـم، وشـفاء سـقم }}، فالسـاعي بينهمـا ينبغـي لـه أن يسـتحضر فقـره وذلـه وحاجتـه إلـى الله فـي هدايـة قلبـه، وصـلاح حالـه، وغفـران ذنبـه، وأن يلتجـئ إلـى الله عـزّ وجـلّ لتفريـج مـا هـو بـه.
وقولـه: (( فمـن تطـوع خيـراً )).
قيـل: زاد فـي طوافـه بينهمـا علـى قـدر الواجـب ثامنـة وتاسـعة ونحـو ذلـك.
وقيـل: يطـوف بينهمـا فـي حجـة تطـوع أو عمـرة تطـوع.
وقيـل: المـراد تطـوّع خيـراً فـي سـائر العبـادات.
وقولـه: (( فـإن الله شـاكر عليـم )) أي يثيـب علـى القليـل بالكثيـر.
(( عليـم )) بقـدر فـلا يبخـس أحـداً ثوابـه و (( لا يظلـم مثقـال ذرة وإن تـك حسـنة يضاعفهـا ويـؤت مـن لدنـه أجـراً عظيمـاً )).
(( وَإِنَّ الَّذيـنَ يَكْتُمـونَ مَـا أَنْزَلْنَـا مِـنَ البَيّنـاتِ وَالهُـدى مِـنْ بَعْـدِ مَـا بَيّنَـاهُ لِلنَّـاسِ فِـي الكِتـابِ أُولئِـكَ يَلْعَنُهُـمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُـمُ اللاعِنُـونَ (159) إِلا الّذيـنَ تَابُـوا وَأَصْلَحُـوا وَبَيَّنُـوا فَأُولَئِـكَ أَتُـوبُ عَلَيْهِـم وَأَنـا التَّـوَابُ الرَّحيـمُ (160) إِنَّ الّذيـنَ كَفَـروا وَمَاتـوا وَهُـمْ كُفَّـارٌ أُولئِـكَ عَلَيْهِـم لَعْنَـةُ اللهِ وَالمَلائِكَـةِ وَالنَّـاسِ أَجْمَعيـنَ (161) خالِديـنَ فِيهـا لا يُخَفَّـفُ عَنْهُـمُ العَـذَابُ وَلا هُـمْ يُنْظَـرونَ )) / 162 /
هـذا وعيـد شـديد لمـن كتـم مـا جـاءت بـه الرسـل، مـن الـدلالات البينـة علـى المقاصـد الصحيحـة، والهـدى النافـع للقلـوب، مـن بعـد مـا بينـه الله تعالـى لعبـاده، فـي كتبـه التـي أنزلهـا علـى رسـله، وقـد نزلـت فـي أهـل الكتـاب كتمـوا صفـة محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
وفـي الحديـث: {{ مـن سـئل عـن عِلْـمٍ فكتمـه أُلجـم يـوم القيامـة بلجـام مـن نـار }}.
وروي عـن أبـي هريـرة أنـه قـال: لـولا آيـة فـي كتـاب الله مـا حدَّثـت أحـداً شـيئاً (( إن الذيـن يكتمـون مـا أنزلنـا مـن البينـات والهـدى )) الآيـة.
قـال أبـو العاليـة: (( ويلعنهـم اللاعنـون )) يعنـي تلعنهـم الملائكـة والمؤمنـون.
وقـد جـاء فـي الحديـث: {{ إن العالـم يسـتغفر لـه كـل شـيء حتـى الحيتـان فـي البحـر }}، وجـاء فـي هـذه الآيـة أن كاتـم العلـم يلعنـه الله والملائكـة والنـاس أجمعـون.
ثـم اسـتثنى الله تعالـى مـن هـؤلاء مـن تـاب إليـه فقـال: (( إلا الذيـن تابـوا وأصلحـوا وبينـوا )) أي رجعـوا عمّـا كانـوا فيـه، وأصلحـوا أعمالهـم، وبينـوا للنـاس مـا كانـوا يكتمونـه (( فأولئـك أتـوب عليهـم وأنـا التـواب الرحيـم ))، وفـي هـذا الدلالـة علـى أن الداعيـة إلـى كفـر أو بدعـة إذا تـاب إلـى الله تأب الله عليـه، ثـم أخبـر تعالـى عمـن كفـر بـه واسـتمر بـه الحـال إلـى مماتـه بـأن (( عليهـم لعنـة الله والملائكـة والنـاس أجمعيـن خالديـن فيهـا )) أي فـي اللعنـة التابعـة لهـم يـوم القيامـة، ثـم المصاحبـة لهـم فـي نـار جهنـم (( لا يخفّـف عنهـم العـذاب )) فيهـا أي لا ينقـص عمّـا هـم فيـه (( ولا هـم ينظـرون )) أي لا يغيـر عنهـم سـاعة واحـدة ولا يفتـر، بـل هـو متواصـل دائـم فنعـوذ بالله مـن ذلـك.
قـال أبـو العاليـة وقتـادة: إن الكافـر يوقـف يـوم القيامـة فيلعنـه الله، ثـم تلعنـه الملائكـة، ثـم يلعنـه النـاس أجمعـون.
فصــل
لا خـلاف فـي جـواز لعـن الكفـار، فأمـا الكافـر المعيـن فقـد ذهـب جماعـة مـن العلمـاء إلـى أنـه لا يلعـن لأنـا لا نـدري بمـا يختـم الله لـه.
وقالـت طائفـة أخـرى: بـل يجـوز لعـن الكافـر المعيـن، واختـاره ابـن العربـي ولكنـه احتـج بحديـث فيـه ضعـف.
واسـتدل غيـره بقولـه عليـه السـلام: {{ لا تلعنـه فإنـه يحـب الله ورسـوله }} (قالـه عليـه السـلام فـي قصـة الـذي كـان يؤتـى بـه سـكران فيحـده فقـال رجـل: لعنـه الله مـا أكثـر مـا يؤتـى بـه... الحديـث) فـدل علـى أن مـن لا يحـب الله ورسـوله يلعـن.
وقـد كـان عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه ومـن بعـده مـن الأئمـة يلعنـون الكفـرة فـي القنـوت وغيـره، واسـتدل بعضهـم بالآيـة (( أولئـك عليهـم لعنـة الله والملائكـةِ والنـاسِ أجمعيـن )) والله أعلـم.
(( وَإِلَهُكُـمْ إِلـهٌ وَاحِـدٌ لا إِلـهَ إِلا هُـوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحيـمُ )) / 163 /
يخبـر تعالـى عـن تفـرده بالإلهيـة، وأنـه لا شـريك لـه ولا عديـل لـه، بـل هـو الله الواحـد الأحـد الفـرد الصمـد الـذي لا إلـه إلا هـو وأنـه الرحمـن الرحيـم، وقـد تقـدم تفسـير هذيـن الاسـمين فـي أول الفاتحـة. وفـي الحديـث عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ اسـم الله الأعظـم فـي هاتيـن الآيتيـن (( إلهكـم إلـه واحـد لا إلـه إلا هـو الرحمـن الرحيـم )) و (( الـم الله لا إلـه إلا هـو الحـي القيـوم )) }} ثـم ذكـر الدليـل علـى تفـرده بالإلهيـة، بخلـق السـماوات والأرض ومـا فيهمـا ومـا بيـن ذلـك، ممـا ذرأ وبـرأ مـن المخلوقـات الدالـة علـى وحدانيتـه فقـال:
(( إِنَّ فِـي خَلْـقِ السَّـمَاواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِـلافِ الليـلِ وَالنَّهـارِ وَالفُلْـكِ الَّتـي تَجْـري فِـي البَحْـرِ بِمَـا يَنْفَـعُ النَّـاسَ وَمـا أَنْـزَلَ اللهُ مِـنَ السَّـماءِ مِـنْ مَـاءٍ فَأَحيـا بِـهِ الأَرضَ بَعْـدَ مَوتِهـا وَبَـثَّ فِيهـا مِـنْ كُـلِّ دَابَّـةٍ وَتَصْريـفِ الرِّيَـاحِ وَالسَّـحَابِ المُسَـخَّرِ بَيـنَ السَّـماءِ وَالأَرضِ لآيـاتٍ لِقَـوْمٍ يَعْقِلـونَ )) / 164 /
يقـول تعالـى: (( إن فـي خلـق السـماوات والأرض )) تلـك فـي ارتفاعهـا ولطافتهـا واتسـاعها، وكواكبهـا السـيارة والثوابـت ودوران فلكهـا، وهـذه الأرض فـي كثافتهـا وانخفاضهـا، وجبالهـا وبحارهـا، وقفارهـا وعمرانهـا، ومـا فيهـا مـن المنافـع، واختـلاف الليـل والنهـار، وهـذا يجـيء ثـم يذهـب، ويخلفـه الآخـر ويعقبـه، لا يتأخـر عنـه لحظـة كمـا قـال تعالـى: (( لا الشـمـس ينبغـي أن تـدرك القمـر ولا الليـل سـابق النهـار وكـلٌّ فـي فَلَـكَ يسـبحون )).
وتـارة يطـول هـذا ويقصـر هـذا، وتـارة يأخـذ هـذا مـن هـذا، ثـم يتعاوضـان كمـا قـال تعالـى: (( يولـج الليـل فـي النهـار ويولـج النهـار فـي الليـل )) أي يزيـد مـن هـذا فـي هـذا، ومـن هـذا فـي هـذا، (( والفلـك التـي تجـري فـي البحـر بمـا ينفـع النـاس )) أي فـي تسـخير البحـر بحمـل السـفن مـن جانـب إلـى جانـب، لمعايـش النـاس والانتفـاع بمـا عنـد أهـل ذلـك الإقليـم، ونقـل هـذا إلـى هـؤلاء ومـا عنـد أولئـك إلـى هـؤلاء: (( ومـا أنـزل الله مـن السـماء مـن مـاء فأحيـا بـه الأرض بعـد موتهـا )).
كمـا قـال تعالـى: (( وآيـة لهـم الأرض الميتـة أحييناهـا وأخرجنـا منهـا حبـاً فمنـه يأكلـون )) ، (( وبـث فيهـا مـن كـل دابـة )) أي علـى اختـلاف أشـكالها وألوانهـا، ومنافعهـا وصغرهـا وكبرهـا، وهـو يعلـم ذلـك كلـه ويرزقـه، لا يخفـى عليـه شـيء مـن ذلـك كمـا قـال تعالـى: (( ومـا مـن دابـة فـي الأرض إلا علـى الله رزقهـا ويعلـم مسـتقرها ومسـتودعها كـل فـي كتـاب مبيـن )).
(( وتصريـف الريـاح )) أي فتـارة تأتـي بالرحمـة، وتـارة تأتـي بالعـذاب، وتـارة تأتـي مبشـرة بيـن يـدي السـحاب، وتـارة تسـوقه وتـارة تجمعـه، وتـارة تفرقـه، وتـارة تصرفـه، ثـم تـارة تأتـي مـن الجنـوب وتـارة تأتـي مـن ناحيـة اليميـن.
(( والسـحاب المسـخر بيـن السـماء والأرض )) أي سـائر بيـن السـماء والأرض، مسـخر إلـى مـا يشـاء الله مـن الأراضـي والأماكـن كمـا يصرفـه تعالـى: (( لآيـات لقـوم يعقلـون )) أي فـي هـذه الأشـياء دلالات بينـة علـى وحدانيـة الله تعالـى، كمـا قـال تعالـى: (( إن فـي خلـق السـماوات والأرض واختـلاف الليـل والنهـار لآيـات لأولـي الألبـاب )).
عـن عطـاء قـال: نزلـت علـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم بالمدينـة: (( وإلهكـم إلـه واحـد لا إلـه إلا هـو الرحمـن الرحيـم )) فقـال كفـار قريـش بمكـة: كيـف يسـع النـاس إلـه واحـد؟ فأنـزل الله تعالـى: (( إن فـي خلـق السـماوات والأرض واختـلاف الليـل والنهـار والفلـك التـي تجـري فـي البحـر بمـا ينفـع النـاس )) إلـى قولـه: (( لآيـات لقـوم يعقلـون )) فبهـذا يعلمـون أنـه إلـه واحـد، وأنـه إلـه كـل شـيء وخالـق كـل شـيء.
وقـال أبـو الضحـى: لمـا نزلـت (( وإلهكـم إلـه واحـد )) قـال المشـركون: إن كـان هكـذا فليأتينـا بآيـة فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( إن فـي خلـق السـماوات والأرض واختـلاف الليـل والنهـار )) إلـى قولـه: (( يعقلـون )).
(( وَمِـنَ النَّـاسِ مَـنْ يَتَّخِـذُ مِـنْ دُونِ اللهِ أَنْـداداً يُحِبّونَهُـمْ كَحُـبِّ اللهِ وَالَّذيـنَ آمَنـوا أَشَـدُّ حُبَّـاً للهِ وَلَـو يَـرى الَّذيـنَ ظَلمـوا إِذْ يَـرَوْنَ العَـذَابَ أَنَّ القُـوَّةَ للهِ جَميعـاً وَأَنَّ اللهَ شَـديدُ العَـذَابِ (165) إِذْ تَبَـرَّأَ الَّذيـنَ اتُّبِعُـوا مِـنَ الَّذيـنَ اتَّبَعُـوا وَرَأَوا العَـذابَ وَتَقَطَّعَـتْ بِهُـمُ الأَسْـبابُ (166) وَقَـالَ الَّذيـنَ اتَّبَعُـوا لَـوْ أَنَّ لَنَـا كَـرَّةً فَنَتَبَـرَّأَ مِنْهُـمْ كَمـا تَبَـرَّؤوا مِنَّـا كَذلِـكَ يُريهِـمُ اللهُ أَعْمالَهُـم حَسَـراتٍ عَلَيهِـمْ وَمَـا هُـمْ بِخارِجيـنَ مِـنَ النَّـارِ )) / 167 /
يذكـر تعالـى حـال المشـركين بـه فـي الدنيـا ومـا لهـم فـي الآخـرة، حيـث جعلـوا لـه أنـداداً أي أمثـالاً ونظـراء، يعبدونهـم معـه ويحبونهـم كحبـه، وهـو الله لا إلـه إلا هـو ولا ضـد لـه ولا نـد لـه ولا شـريك معـه.
وفـي الصحيحيـن عـن عبـد الله بـن مسـعود قـال، قلـت: يـا رسـول الله أيُّ الذنـب أعظـم؟ قـال: {{ أن تجعـل لله نـداً وهـو خلقـك }}.
وقولـه: (( والذيـن آمنـوا أشـد حبـاً لله )) ولحبهـم لله وتمـام معرفتهـم بـه وتوقيرهـم وتوحيدهـم لـه لا يشـركون بـه شـيئاً، بـل يعبدونـه وحـده ويتوكلـون عليـه، ويلجـأون فـي جميـع أمورهـم إليـه.
ثـم توعـد تعالـى المشـركين بـه الظالميـن لأنفسـهم بذلـك فقـال: (( ولـو يـرى الذيـن ظلمـوا إذ يـرون العـذاب أن القـوة لله جميعـاً )).
قـال بعضهـم: تقديـر الكـلام لـو عاينـوا العـذاب لعلمـوا حينئـذ أن القـوة لله جميعـاً، أي أن الحكـم لـه وحـده لا شـريك لـه وأن جميـع الأشـياء تحـت قهـره وغلبتـه وسـلطانه.
(( وأن الله شـديد العـذاب ))، كمـا قـال: (( فيومئـذ لا يعـذب عذابـه أحـد ولا يوثـق وثاقـه أحـد )). يقـول: لـو يعلمـون مـا يعاينونـه هنالـك، ومـا يحـل بهـم مـن الأمـر الفظيـع، المنكـر الهائـل علـى شـركهم وكفرهـم، لانتهـوا عمّـا هـم فيـه مـن ضـلال.
ثـم أخبـر عـن كفرهـم بأوثانهـم، وتبـري المتبوعيـن مـن التابعيـن فقـال: (( إذ تبـرأ الذيـن اتبعـوا مـن الذيـن اتبعـوا ))، تبـرأت منهـم الملائكـة الذيـن كانـوا يزعمـون أنهـم يعبدونهـم فـي الـدار الدنيـا، فتقـول الملائكـة: (( تبرأنـا إليـك مـا كانـوا إيانـا يعبـدون )) ، ويقولـون: (( سـبحانك أنـت ولينـا مـن دونهـم بـل كانـوا يعبـدون الجـن أكثرهـم بهـم مؤمنـون )).
والجـن أيضـاً تتبـرأ منهـم ويتنصلـون مـن عبادتهـم لهـم، كمـا قـال تعالـى: (( وإذا حشـر النـاس كانـوا لهتم أعـداء وكانـوا بعبادتهـم كافريـن )). وقـال تعالـى: (( كـلا سـيكفرون بعبادتهـم ويكونـون عليهـم ضـداً )).
وقولـه: (( ورأوا العـذاب وتقطعـت بهـم الأسـباب )) أي عاينـوا عـذاب الله وتقطعـت بهـم الحيـل وأسـباب الخـلاص ولـم يجـدوا عـن النـار معـدلاً ولا مصرفـاً.
قـال ابـن عبـاس: (( وتقطعـت بهـم الأسـباب )) المـودة.
وقولـه: (( وقـال الذيـن اتبعـوا لـو أن لنـا كـرة فنتبـرأ منهـم كمـا تبـرؤوا منـا )) أي لـو أن لنـا عـودة إلـى الـدار الدنيـا، حتـى تتبـرأ مـن هـؤلاء ومـن عبادتهـم، فـلا نلتفـت إليهـم بـل نوحـد الله وحـده بالعبـادة، وهـم كاذبـون فـي هـذا بـل لـو ردوا لعـادوا لمـا نهـوا عنـه وإنهـم لكاذبـون، كمـا أخبـر الله تعالـى عنهـم بذلـك، ولهـذا قـال: (( كذلـك يريهـم الله أعالهـم حسـرات عليهـم )) أي تذهـب وتضمحـل.
كمـا قـال تعالـى: ((و قدمنـا إلـى مـا عملـوا مـن عمـل فجعلنـاه هبـاءً منثـوراً )).
وقـال تعالـى: (( مثـل الذيـن كفـروا بربهـم أعمالهـم كرمـاد اشـتدت بـه الريـح فـي يـوم عاصـف )) الآيـة.
وقـال تعالـى: (( والذيـن كفـروا أعمالهـم كسـراب بقيعـة يحسـبه الظمـآن مـاء )) الآيـة.
ولهـذا قـال تعالـى: (( ومـا هـم بخارجيـن مـن النـار )).
(( يـا أَيُّهـا النَّـاسُ كُلُـوا مِمَّـا فِـي الأَرْضِ حَـلالاً طَيِّبـاً وَلا تَتَّبِعُـوا خُطُـواتِ الشَّـيطَانِ إِنَّـهُ لَكُـمْ عَـدُّوٌ مُّبِيـنٌ (168) إِنَّمَـا يَأْمُرُكُـم بِالسُّـوءِ وَالفَحْشَـاءِ وَأَنْ تَقُولُـوا عَلَـى اللهِ مَـا لا تَعْلَمـونَ )) / 169 /
لمـا بيـن تعالـى أنـه لا إلـه إلا هـو، وأنـه المسـتقل بالخلـق، شـرع يبيـن أنـه الـرازق لجميـع خلقـه، فذكـر فـي مقـام الامتنـان أنـه أبـاح لهـم أن يأكلـوا ممـا فـي الأرض، فـي حـال كونـه حـلالاً مـن الله طيبـاً أي مسـتطاباً فـي نفسـه، غيـر ضـار للأبـدان ولا للعقـول، ونهاهـم عـن اتبـاع خطـوات الشـيطان، وهـي طرائقـه ومسـالكه فيمـا أضـل أتباعـه فيـه، مـن تحريـم البحائـر والسـوائب والوصائـل ونحوهـا، ممـا كـان زينـه لهـم فـي جاهليتهـم، كمـا فـي حديـث عيـاض بـن حمـاد عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم انـه قـال: {{ يقـول الله تعالـى إن كـل مـال منحتـه عبـادي فهـو لهـم حـلال _ وفيـه _ وإنـي خلقـت عبـادي حنفـاء فجاءتهـم الشـياطين فاجتالتهـم عـن دينهـم وحرمـت عليهـم مـا أحللـت لهـم }}.
(اجتالتهـم: صرفتهـم عـن الهـدى إلـى الضلالـة).وعـن ابـن عبـاس قـال: تليـت هـذه الآيـة عنـد النبـي صلـى الله عليـه وسـلم (( يـا أيهـا النـاس كلـوا ممـا فـي الأرض حـلالاً طيبـاً )) فقـام سـعد بـن أبـي وقـاص فقـال: يـا رسـول الله ! ادع الله أن يجعلنـي مسـتجاب الدعـوة، فقـال: {{ يـا سـعد أطـب مطعمـك تكـن مسـتجاب الدعـوة، والـذي نفـس محمـد بيـده إن الرجـل ليقـذف اللقمـة الحـرام فـي جوفـه مـا يتقبـل منـه أربعيـن يومـاً، وأيّمـا عبـد نبـت لحمـه مـن السـحت والربـا فالنـار أولـى بـه }}.
وقولـه تعالـى: (( إنـه لكـم عـدوّ مبيـن )) تنفيـر عنـه وتحذيـر منـه.
كمـا قـال: (( إن الشـيطان لكـم عـدوّ فاتخـذوه عـدواً )).
وقـال تعالـى: (( أفتتخذونـه وذريتـه أوليـاء مـن دونـي وهـم لكـم عـدوّ بئـس للظالميـن بـدلاً )).
قـال قتـادة والسُّـدي: كـل معصيـة لله فهـي مـن خطـوات الشـيطان.
وقـال مسـروق: أتـي عبـد الله بـن مسـعود بضـرع وملـح فجعـل يأكـل، فاعتـزل رجـل مـن القـوم: فقـال ابـن مسـعود: ناولـوا صاحبكـم، فقـال: لا أريـده، فقـال: أصائـم أنـت؟ قـال: لا، قـال: فمـا شـأنك؟ قـال: حرمـت أن آكـل ضرعـاً أبـداً، فقـال ابـن مسـعود: هـذا مـن خطـوات الشـيطان، فاطعـم وكفّـر عـن يمينـك.
وعـن ابـن عبـاس قـال: مـا كـان مـن يميـن أو نـذر فـي غضـب، فهـو مـن خطـوات الشـيطان، وكفارتُـه كفـارة يميـن.
وقولـه: (( إنمـا يأمركـم بالسـوء والفحشـاء وأن تقولـوا علـى الله مـا لا تعلمـون )) أي إنمـا يأمركـم عدوكـم الشـيطان بالأفعـال السـيئة، وأغلـظ منهـا الفاحشـة كالزنـا ونحـوه، وأغلـظُ مـن ذلـك وهـو القـول علـى الله بـلا علـم، فيدخـل فـي هـذا كـل كافـر وكـل مبتـدع أيضـاً.
(( وَإِذَا قِيْـلَ لَهُـمُ اتَّبِعُـوا مَـا أَنْـزَلَ اللهُ قَالُـوا بَـلْ نَتَّبِـعُ مَـا أَلْفَينـا عَلَيْـهِ آبَاءَنَـا أَوَلَـوْ كَـانَ آبَاؤُهُـمْ لا يَعْقِلُـونَ شَـيْئَاً وَلا يَهْتَـدُونَ (170) وَمَثَـلُ الّذيـنَ كَفَـروا كَمَثَـلِ الّـذي يَنْعِـقُ بِمَـا لا يَسْـمَعُ إِلا دُعَـاءً وَنِـدَاءً صُـمٌّ بُكْـمٌ عُمْـيٌ فَهُـمْ لا يَعْقِلـونَ )) / 171 /
يقـول تعالـى: (( وإذا قيـل لهـم )) للكفـرة المشـركين: (( اتبعـوا مـا أنـزل الله )) علـى رسـوله، واتركـوا مـا أنتـم عليـه مـن الضـلال والجهـل، قالـوا فـي جـواب ذلـك: (( بـل نتبـع مـا ألفينـا )) أي مـا وجدنـا عليـه آباءنـا، أي مـن عبـادة الأصنـام والأنـداد.
قـال الله تعالـى منكـراً عليهـم: (( أو لـو كـان آباؤهـم )) أي الذيـن يقتـدون بهـم ويقتفـون أثرهـم (( لا يعقلـون شـيئاً ولا يهتـدون )) أي ليـس لهـم فهـم ولا هدايـة.
عـن ابـن عبـاس أنهـا نزلـت فـي طائفـة مـن اليهـود، دعاهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم إلـى الإسـلام، فقالـوا: بـل نبت‘ مـا ألفينـا عليـه آباءنـا، فأنـزل الله هـذه الآيـة.
ثـم ضـرب لهـم الله تعالـى مثـلاً، كمـا قـال تعالـى: للذيـن لا يؤمنـون بالآخـرة مثـل السـوء ))، فقـال: (( ومثـل الذيـن كفـروا )) أي فيمـا هـم فيـه مـن الغـي والضـلال والجهـل، كالـدواب السـارحة لا تفقـه مـا يقـال لهـا، بـل إذا نعـق بهـا راعيهـا، أي دعاهـا إلـى مـا يرشـدها لا تفقـه مـا يقـول ولا تفهمـه بـل إنمـا تسـمع صوتـه فقـط، هكـذا روي عـن ابـن عبـاس.
وقيـل: إنمـا هـذا مثـل ضـرب لهـم فـي دعائهـم الأصنـام التـي لا تسـمع ولا تبصـر ولا تعقـل شـيئاً، واختـاره جريـر، والأول أولـى لأن الأصنـام لا تسـمع شـيئاً ولا تعقلـه ولا تبصـره ولا بطـش لهـا ولا حيـاة فيهـا.
وقولـه: (( صـم بكـم عمـي )) أي صـم عـن سـماع الحـق، بُكْـمٌ لا يتفوهـون بـه،عمـي عـن رؤيـة طريقـه ومسـلكه.
(( فهـم لا يعقلـون )) أي لا يعقلـون شـيئاً ولا يفهمونـه، كمـا قـال تعالـى: (( والذيـن كذبـوا بآياتنـا صـم وبكـم فـي الظلمـات مـن يشـأ الله يضللـه ومـن يشـأ يجعلـه علـى صـراط مسـتقيم )).
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 142 ، 143 ، 144 ، 145 ، 146 ، 147 ، 148 ، 149 ، 150 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( يَـا أَيُّهَـا الَّذيـنَ آمَنُـوا كُلُـوا مِـنْ طَيِّبَـاتِ مَـا رَزْقْناكُـمْ وَاشْـكُُرُوا اللهَ إِنْ كُنْتُـمْ إِيَّـاهُ تَعْبُـدُونَ (172) إِنَّمَـا حَـرَّمَ عَلَيْكُـمُ المَيْتَـةَ وَالـدَّمَ وَلَحْـمَ الخِنزيـرِ وَمَـا أُهِـلَّ بِـهِ لِغَيـرِ اللهِ فَمَـنِ اضْطُـرَّ غَيْـرَ بَـاغٍ وَلا عَـادٍ فَـلا إِثْـمَ عَلَيـهِ إِنَّ اللهَ غَفـورٌ رَحيـمٌ )) / 173 /
يأمـر تعالـى عبـاده المؤمنيـن بالأكـل مـن طيبـات مـا رزقهـم الله تعالـى، وأن يشـكروه تعالـى عـن ذلـك إن كانـوا عُبَّـاده، والأكـل مـن الحـلال سـبب لتقبّـل الدعـاء والعبـادة، كمـا أن الأكـل مـن الحـرام يمنـع قبـول الدعـاء والعبـادة، كمـا جـاء فـي الحديـث قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ أيهـا النـاس إن الله طيـب لا يقبـل إلا طيبـاً، وإن الله أمـر المؤمنيـن بمـا أمـر بـه المرسـلين فقـال: (( يـا أيهـا الرسـل كلـوا مـن الطيبـات واعملـوا صالحـاً إنـي بمـا تعملـون عليـم ))، وقـال: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا كلـوا مـن طيبـات مـا رزقناكـم )). ثـم ذكـر الرجـل يطيـل السـفر، أشـعث أغبـر، يمـد يديـه إلـى السـماء يـا رب يـا رب، ومطعمـه حـرامٌ، ومشـربه حـرام، وملبسـه حـرام، وغـذي بالحـرام، فأنّـى يسـتجاب لذلـك؟ }}.
ولمـا امتـن تعالـى عليهـم برزقـه وأرشـدهم إلـى الأكـل مـن طيِّبـه، ذكـر أنـه لـم يحـرم عليهـم مـن ذلـك إلا الميتـة، وهـي التـي تمـوت حتـف أنفهـا مـن غيـر تذكيـة، وسـواء كانـت منخنقـة أو موقـوذة أو مترديـة أو نطيحـة أو عـدا عليهـا السـبع، وقـد خصـص الجمهـور مـن ذلـك ميتـة البحـر لقولـه تعالـى: (( أحـل لكـم صيـد البحـر وطعامـه ))، وقولـه عليـه السـلام فـي البحـر: {{ هـو الطهـور مـاؤه الحـل ميتتـه }}، وسـيأتي تقريـر ذلـك إن شـاء الله فـي سـورة المائـدة.
ثـم أبـاح تعالـى تنـاول ذلـك عنـد الضـرورة والاحتيـاج إليهـا عنـد فقـد غيرهـا مـن الأطعمـة فقـال: (( فمـن اضطـر غيـر بـاغ ولا عـاد )) أي فـي غيـر بغـي ولا عـدوان وهـو مجـاوزة الحـد (( فـلا إثـم عليـه )) أي فـي أكـل ذلـك. (( إن الله غفـور رحيـم )).
قـال مجاهـد: (( غيـر بـاغ ولا عـاد )) مـن خـرج باغيـاً أو عاديـاً أو فـي معصيـة الله فـلا رخصـة لـه وإن اضطـر إليـه.
وقـال مقاتـل بـن حيـان: (( غيـر بـاغ )) يعنـي غيـر مسـتحله.
وقـال السُّـدي: (( غيـر بـاغ )) يبتغـي فيـه شـهواته.
وعـن ابـن عبـاس: لا يشـبع منهـا وعنـه: (( غيـر بـاغ )) فـي الميتـة، ولا عـادٍ فـي أكلـه.
وقـال قتـادة: (( فمـن اضطـر غيـر بـاغ ولا عـاد )) قـال: غيـر بـاغ فـي الميتـة أي فـ] أكلـه أن يتعـدى حـلالاً إلـى حـرام وهـو يجـد عنـه مندوحـة.
وحكـى القرطبـي عـن مجاهـد فـي قولـه: (( فمـن اضطـر )) أي أكـره علـى ذلـك بغيـر اختيـاره.
مسـألة
إذا وجـد المضطـر ميتـة وطعـام الغيـر، بحيـث لا قطـع فيـه ولا أذى، فإنـه لا يحـل لـه أكـل الميتـة، بـل يأكـل طعـام الغيـر بغيـر خـلاف لحديـث عبـاد بـن شـرحيل العنـزي قـال: أصابتنـا عامـاً مخمصـةٌ فأتيـت حائطـاً، فأخـذت سـنبلاً ففركتـه وأكلتـه وجعلـت منـه فـي كسـائي، فجـاء صاحـب الحائـط فضربنـي وأخـذ ثوبـي، فأتيـت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فأخبرتـه، فقـال للرجـل: {{ مـا أطعمتـه إذ كـان جائعـاً ولا سـاعياً، ولا علَّمتـه إذ كـان جاهـلاً }} فأمـره فـرد إليـه ثوبـه، وأمـر لـه بوسـق طعـام أو نصـف وسـق.
وقـال مقاتـل بـن حيـان: فـي قولـه (( فـلا إثـم عليـه إن الله غفـور رحيـم )) فيمـا أكـل مـن اضطـرار. وبلغنـا _ والله أعلـم _ أنـه لا يـزاد علـى ثـلاث لقـم.
وقـال سـعيد بـن جبيـر: (( غفـور )) لمـا أكـل مـن حـرام (( رحيـم )) إذ أحـل لـه الحـرام فـي اضطـرار.
وقـال مسـروق: مـن اضطـر فلـم يأكـل ولـم يشـرب ثـم مـات دخـل النـار، وهـذا يقتضـي أن أكـل الميتـة للمضطـر عزيمـة لا رخصـة، وهـذا هـو الصحيـح كالإفطـار للمريـض.
(( إِنَّ الَّذِيـنَ يَكْتُمُـونَ مَـا أَنْـزَلَ اللهُ مِـنَ الكِتَـابِ وَيَشْـتَرونَ بِـهِ ثَمَنَـاً قَلِيـلاً أُولِئِـكَ مَـا يَأكُلُـونَ فِـي بُطُونِهِـمْ إِلا النَّـارَ وَلا يُكَلِّمُهُـمُ اللهُ يَـوْمَ القِيامَـةِ وَلا يُزَكِّيهِـمْ وَلَهُـمْ عَـذَابٌ أَلِيـمٌ (174) أُولَئِـكَ الَّذيـنَ اشْـتَرَوُا الضَّلالَـةَ بِالهُـدَى وَالعَـذَابَ بِالمَغْفِـرَةِ فَمَـا أَصْبَرَهُـمْ عَلَـى النَّـارِ (175) ذلِـكَ بِـأَنَّ اللهَ نَـزَّلَ الكِتَـابَ بِالحَـقِّ وَإِنَّ الَّذِيـنَ اخْتَلَفُـوا فِـي الكِتـابِ لَفِـي شِـقَاقٍ بَعِيـدٍ )) / 176 /
يقـول تعالـى (( إن الذيـن يكتمـون مـا أنـزل الله مـن الكتـاب )) يعنـي اليهـود الذيـن كتمـوا صفـة محمـد صلـى الله عليته وسـلم، فـي كتبهـم التـي بأيديهـم ممـا تشـهد لـه بالرسـالة والنبـوة، فكتمـوا ذلـك لئـلا تذهـب رياسـتهم، ومـا كانـوا يأخذونـه مـن العـرب مـن الهدايـا والتحـف علـى تعظيمهـم آباءهـم، فخشـوا _ لعنهـم الله _ إن أظهـروا ذلـك أن يتبعـه النـاس ويتركوهـم، فكتمـوا ذلـك إبقـاء علـى مـا كـان يحصـل لهـم مـن ذلـك وهـو نـزر يسـير، فباعـوا أنفسـهم بذلـك، واعتاضـوا عـن الهـدى بذلـك النـذر اليسـير، فخابـوا وخسـروا فـي الدنيـا والآخـرة، أمـا فـي الدنيـا فـإن الله أظهـر لعبـاده صـدق رسـوله، بمـا نصبـه وجعلـه معـه مـن الآيـات الظاهـرات والدلائـل القاطعـات، فصدقـه الذيـن كانـوا يخافـون أن يتبعـوه، وصـاروا عونـاً لـه علـى قتالهـم، وبـاءوا بغضـب علـى غضـب، وذمّهـم الله فـي كتابـه فـي غيـر موضـع، فمـن ذلـك هـذه الآيـة الكريمـة: (( إن الذيـن يكتمـون مـا أنـزل الله مـن الكتـاب ويشـترون بـه ثمنـاً قليـلاً )) وهـو عـرض الحيـاة الدنيـا (( أولئـك مـا يأكلـون فـي بطونهـم إلا النـار )) أي إنمـا يأكلـون مـا يأكلونـه فـي مقبلـة كتمـان الحـق نـاراً تأجـج فـي بطونهـم يـوم القيامـة، كمـا قـال تعالـى: (( إن الذيـن يأكلـون أمـوال اليتامـى ظلمـاً إنمـا يأكلـون فـي بطونهـم نـاراً وسـيصلون سـعيراً )).
وفـي الحديـث الصحيـح عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ إن الـذي يأكـل أو يشـرب فـي آنيـة الذهـب والفضـة إنمـا يجرجـر فـي بطنـه نـار جهنـم }}.
وقولـه تعالـى: (( ولا يكلمهـم الله يـوم القيامـة ولا يزكيهـم ولهـم عـذاب أليـم ))، وذلـك لأنـه تعالـى غضبـان عليهـم، لأنهـم كتمـوا وقـد علمـوا فاسـتحقوا الغضـب، فـلا ينظـر إليهـم.
(( ولا يزكيهـم )) أي يثنـي عليهـم ويمدحهـم بـل يعذبهـم عذابـاً أليمـاً.
عـن أبـي هريـرة عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ ثلاثـة لا يكلمهـم الله ولا ينظـر إليهـم ولا يزكيهـم ولهـم عـذاب أليـم: شـيخ زان، وملـك كـذاب، وعائـل مسـتكبر }}.
ثـم قـال تعالـى مخبـراً عنهـم: (( أولئـك الذيـن اشـتروا الضلالـة بالهـدى ))، أي اعتاضـوا عـن الهـدى _ وهـو نشـر مـا كتبهـم مـن صفـة الرسـول وذكـر مبعثـه والبشـارة بـه مـن كتـب الأنبيـاء واتباعـه وتصديقـه _ اسـتبدلوا عـن ذلـك واعتاضـوا عنـه الضلالـة، وهـو تكذيبـه والكفـر بـه وكتمـان صفاتـه فـي كتبهـم.
(( والعـذاب بالمغفـرة )) أي اعتاضـوا عـن المغفـرة بالعـذاب وهـو مـا تعاطـوه مـن أسـبابه المذكـورة.
وقولـه تعالـى: (( فمـا أصبرهـم علـى النـار )) يخبـر تعالـى أنهـم فـي عـذاب شـديد عظيـم هائـل، يتعجـب مـن رآهـم فيهـا مـن صبرهـم علـى ذلـك مـع شـدة مـا هـم فيـه مـن العـذاب والنكـال والأغـلال عيـاذاً بالله مـن ذلـك.
وقيـل: معنـى قولـه: (( فمـا أصبرهـم علـى النـار )) أي فمـا أدومهـم لعمـل المعاصـي التـي تفضـي بهـم إلـى النـار.
وقولـه تعالـى: (( ذلـك بـأن الله نـزل الكتـاب بالحـق )) أي إنمـا اسـتحقوا هـذا العـذاب الشـديد، لأن الله تعالـى أنـزل علـى رسـوله محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، وعلـى الأنبيـاء قبلـه كتبـه بتحقيـق الحـق وإبطـال الباطـل، وهـؤلاء اتخـذوا آيـات الله هـزواً، فكتابهـم يأمرهـم بإظهـار العلـم ونشـره فخالفـوه وكذبـوه، وهـذا الرسـول الخاتـم يدعوهـم إلـى الله تعالـى، يأمرهـم بالمعـروف وينهاهـم عـن المنكـر، وهـم يكذبونـه ويخالفونـه، ويجحدونـه ويكتمـون صفتـه، فاسـتهزأوا بآيـات الله المنزلـة علـى رسـله، فلهـذا اسـتحقوا العـذاب والنكـال، ولهـذا قـال: (( ذلـك بـأن الله نـزل الكتـاب بالحـق وإن الذيـن اختلفـوا فـي الكتـاب لفـي شـقاق بعيـد )).
(( لَّيْـسَ البِـرَّ أَن تُوَلُّـوا وُجُوهَكُـمْ قِبَـلَ المَشْـرِقِ وَالمَغْـرِبِ وَلكِـنَّ البِـرَّ مَـنْ آمَـنَ بِاللهِ وَاليَـومِ الآخِـرِ وَالمَلائِكَـةِ وَالكِتَـابِ وَالنَّبِييـنَ وَآتَـى المَـالَ عَلـى حُبِّـهِ ذَوِي القُرْبَـى وَاليَتَامَـى وَالمَسَـاكِينَ وَابْـنَ السَّـبِيلِ وَالسَّـائِلينَ وَفِـي الرِّقَـابِ وَأَقَـامَ الصَّـلاةَ وَآتَـى الزَّكَـاةَ وَالمُوفُـونَ بِعَهْدِهِـمْ إِذا عَاهَـدوا وَالصَّابِريـنَ فِـي البَأسَـاءِ وَالضَّـرَّاءِ وَحِيـنَ البّـأسِ أولئِـكَ هُـمُ المُتَّقُـونَ )) / 177 /
اشـتملت هـذه الآيـة الكريمـة علـى جمـل عظيمـة، وقواعـد عميقـة، وعقيـدة مسـتقيمة، فـإن الله تعالـى لمـا أمـر المؤمنيـن أولاً بالتوجـه إلـى بيـت المقـدس، ثـم حولهـم إلـى الكعبـة، شـقَّ ذلـك علـى نفـوس طائفـة مـن أهـل الكتـاب وبعـض المسـلمين، فأنـزل الله تعالـى بيـان حكمتـه فـي ذلـك، وهـو أن المـراد إنمـا هـو طاعـة الله عـزّ وجـلّ، وامتثـال أوامـره، والتوجـه حيثمـا وجّـه، واتبـاع مـا شـرع، فهـذا هـو البـر والتقـوى والإيمـان الكامـل، وليـس فـي لـزوم التوجـه إلـى جهـة مـن المشـرق أو المغـرب بـرٌّ ولا طاعـة، إن لـم يكـن عـن أمـر الله وشـرعه، ولهـذا قـال: (( ولكـنَّ البـرَّ مـن آمـن بالله واليـوم الآخـر ))، كمـا قـال فـي الأضاحـي والهدايـا: (( لـن ينـال لحومُهـا ولا دماؤُهـا ولكـن ينالـه التقـوى منكـم )).
وقـال ابـن عبـاس فـي هـذه الآيـة: ليـس البـر أن تصلُّـوا ولا تعلمـوا، فأمـر الله بالفرائـض والعمـل بهـا.
وقـال أبـو العاليـة: كانـت اليهـود تُقْبـل قبـل المغـرب، وكانـت النصـارى تُقْبـل قبـل المشـرق، فقـال الله تعالـى: (( ليـس البـر أن تولـوا وجوهكـم قبـل المشـرق والمغـرب )) يقـول: هـذا كـلام الإيمـان وحقيقتـه العمـل.
وقـال مجاهـد: ولكـن البـر مـا ثبـت فـي القلـوب مـن طاعـة الله عـزّ وجـلّ.
(( والكتـاب )) وهـو اسـم جنـس يشـمل الكتـب المنزلـة مـن السـماء علـى الأنبيـاء، حتـى ختمـت بأشـرفها وهـو القـرآن المهيمـن علـى مـا قبلـه مـن الكتـب، والـذي انتهـى إليـه كـل خيـر، واشـتمل علـى كـل سـعادة فـي الدنيـا والآخـرة، ونسـخ بـه كـل مـا سـواه مـن الكتـب قبلـه وآمـن بأنبيـاء الله كلهـم مـن أولهـم إلـى خاتمهـم محمـد صلـوات الله وسـلامه عليـه وعليهـم أجمعيـن.
وقولـه تعالـى: (( وآتـى المـال علـى حبـه )) أي أخرجـه وهـم محـبٌ لـه راغـب فيـه، كمـا ثبـت فـي الصحيحيـن مـن حديـث أبـي هريـرة مرفوعـاً: {{ أفضـل الصدقـة أن تصـدَّق وأنـت صحيـح شـحيح تأمـل الغنـى وتخشـى الفقـر }}.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ وآتـى المـال علـى حبـه }} أن تعطيـه وأنـت صحيـح شـحيح تأمـل العيـش وتخشـى الفقـر }}.
وقـال تعالـى: (( ويطعمـون الطعـام علـى حبـه مسـكيناً ويتيمـاً وأسـيراً . إنمـا نطعمكـم لوجـه الله لا نريـد منكـم جـزاء ولا شـكوراً )).
وقـال تعالـى: (( لـن تنالـوا البـر حتـى تنفقـوا ممـا تحبـون )).
وقولـه: (( ويؤثـرون علـى أنفسـهم ولـو كـان بهـم خصاصـة )) نمـط آخـر أرفـع مـن هـذا وهـن أنهـم آثـروا بمـا هـم مضطـرون إليـه، وهـؤلاء أعطـوا وأطعمـوا مـا هـم محبـون لـه.
وقولـه تعالـى: (( ذوي القربـى )) وهـم قرابـات الرجـل، وهـم أولـى مـن أعطـى مـن الصدقـة كمـا ثبـت فـي الحديـث: {{ الصدقـة علـى المسـاكين صدقـة وعلـى ذوي الرحـم اثنتـان: صدقـة وصلـة، فهـم أولـى النـاس بـك وببِـرَّك وإعطائـك }} وقـد أمـر الله تعالـى بالإحسـان إليهـم فـي غيـر موضـع مـن كتابـه العزيـز (( واليتامـى )) هـم الذيـن لا كاسـب لهـم وقـد مـات آباؤهـم وهـم ضعفـاء صغـار دون البلـوغ، والقـدرة علـى التكسـب، وقـد قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لا يتـم بعـد الحلـم }}.
(( والمسـاكين )) وهـم الذيـن لا يجـدون مـا يكفيهـم فـي قوتهـم وكسـوتهم وسـكناهم، فيُعْطـون مـا تسـد بـه حاجتهـم وخلتهـم.
وفـي الصحيحيـن عـن أبـي هريـرة أو رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ ليـس المسـكين بهـذا الطـوّاف الـذي تـرده التمـرة والتمرتـان واللقمـة واللقمتـان، ولكـن المسـكين الـذي لا يجـد غنى يغنيـه ولا يفطـن لـه فيتصـدق عليـه }}.
(( وابـن السـبيل )) وهـو المسـافر المجتـاز الـذي قـد فرغـت نفقتـه فيعطـى مـا يوصلـه إلـى بلـده، وكـذا الـذي ينـزل.
(( والسـائلين )) وهـم الذيـن يتعرضـون للطلـب فيعطـون مـن الزكـوات والصدقـات.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ للسـائل حـق وإن جـاء علـى فـرس }}.
(( وفـي الرقـاب )) وهـم المكاتبـون الذيـن لا يجـدون مـا يؤدونـه فـي كتابهـم.
عـن فاطمـة بنـت قيـس قالـت: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ فـي المـال حـق سـوى الزكـاة }}، ثـم قـرأ: (( ليـس البـر أن تولـوا وجوهكـم قبـل المشـرق والمغـرب _ إلـى قولـه _ وفـي الرقـاب )).
وقولـه تعالـى: (( وأقـام الصـلاة )) أي أتـم أفعـال الصـلاة فـي أوقاتهـم بركوعهـا وسـجودها وطمأنينتهـا وخشـوعها، علـى الوجـه الشـرعي المرضـي.
وكقولـه: (( وويـل للمشـركين الذيـن لا يؤتـون الزكـاة )) والمـراد زكـاة المـال كمـا قالـه سـعيد بـن جبيـر ومقاتـل بـن حيـان، ويكـون المذكـور مـن إعطـاء هـذه الجهـات والأصنـاف المذكوريـن، إنمـا هـو التطـوع والبـر والصلـة، ولهـذا تقـدم فـي الحديـث عـن فاطمـة بنـت قيـس أن فـي المـال حقـاً سـوى الزكـاة، والله أعلـم.
وقولـه تعالـى: (( والموفـون بعهدهـم إذا عاهـدوا )) كقولـه: (( الذيـن يوفـون بعهـد الله ولا ينقضـون الميثـاق )) وعكـس هـذه الصفـة النفـاق كمـا صـح فـي الحديـث: {{ آيـة المنافـق ثـلاث إذا حـدَّث كـذب، وإذا وعـد أخلـف، وإذا ائتمـن خـان }}.
وفـي الحديـث الآخـر: {{ وإذا حـدّث كـذب وإذا عاهـد غـدر وإذا خصـم فجـر }}.
وقولـه تعالـى: (( والصابريـن فـي البأسـاء والضـراء وحيـن البـأس )) أي فـي حـال الفقـر وهـو البأسـاء، وفـي حـال المـرض والأسـقام وهـو الضـراء.
(( وحيـن البـأس )) أي فـي الحـال القتـال والتقـاء الأعـداء قالـه ابـن مسـعود وابـن عبـاس.
وإنمـا نصـب (( الصابريـن )) علـى المـدح والحـث علـى الصبـر فـي هـذه الأحـوال لشـدته وصعوبتـه،و الله أعلـم.
وقولـه: (( أولئـك الذيـن صدقـوا )) أي هـؤلاء الذيـن اتصفـوا بهـذه الصفـات هـم الذيـن صدقـوا فـي إيمانهـم، لأنهـم حققـوا الإيمـان القلبـي بالأقـوال والأفعـال، فهـؤلاء هـم الذيـن صدقـوا (( وأولئـك هـم المتقـون )) لأنهـم اتقـوا المحـارم وفعلـوا الطاعـات.
(( يَـا أَيُّهَـا الَّذِيـنَ آمَنـوا كُتِـبَ عَلَيكُـمُ القِصَـاصُ فِـي القَتلَـى الحُـرُّ بِالحُـرِّ وَالعَبْـدُ بِالعَبْـدِ وَالأنْثَـى بِالأُنثَـى فَمَـنْ عُفِـيَ لَـهُ مِـنْ أَخِيـهِ شَـيءٌ فَاتِّبَـاعٌ بِالمَعْـروفِ وَأَداءٌ إِلَيْـهِ بِإِحْسَـانٌ ذَلِـكَ تَخْفيـفٌ مِـنْ رَبِّكُـمْ وَرَحْمَـةٌ فَمَـنِ اعْتَـدَى بَعْـدَ ذَلِـكَ فَلَـهُ عَـذابٌ أَلِيـمٌ (178) وَلَكُـمْ فِـي القِصَـاصِ حَيـاةٌ يَـا أُولـي الأَلْبَـابِ لَعَلَّكُـمْ تَتَّقُـونَ )) / 179 /
يقـول تعالـى: كتـب عليكـم العـدل فـي القصـاص _ أيهـا المؤمنـون _ حركـم بحركـم، وعبدكـم بعبدكـم، وأنثاكـم بأنثاكـم، ولا تتجـاوزوا وتعتـدوا كمـا اعتـدى مـن قبلكـم وغيّـروا حكـم الله فيهـم، وسـبب ذلـك (قريظـة والنضيـر) فكـان إذا قتـل النضـري القرظـي لا يقتـل بـه بـل يُفَـادى بمائـة وسـق مـن التمـر، وإذا قتـل القرظـي النضـري قتـل، وإن فـادوه فـدوه بمائتـي وسـق مـن التمـر، ضعـف ديـة القرظـي، فأمـر الله تعالـى بالعـدل فـي القصـاص، ولا يتبـع سـبيل المفسـدين المحرفيـن، المخالفيـن لأحكـام الله فيهـم كفـراً وبغيـاً فقـال تعالـى: (( الحـر بالحـر والعبـد بالعبـد والأنثـى بالأنثـى )).
وذكـر سـعيد ابـن جبيـر فـي قولـه تعالـى: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا كتـب عليكـم القصـاص فـي القتلـى )) يعنـي إذا كـان عمـداً الحـر بالحـر، وذلـك أن حييـن مـن العـرب اقتتلـوا فـي الجاهليـة قبـل الإسـلام بقليـل، فكـان بينهـم قتـل وجراحـات، حتـى قتلـوا العبيـد والنسـاء، فلـم يأخـذ بعضهـم مـن بعـض حتـى أسـلموا، فكـان أحـد الحييـن يتطـاول علـى الآخـر فـي العـدة والأمـوال، فحلفـوا أن لا يرضـوا حتـى يقتـل بالعبـد منـا الحـر منهـم، والمـرأة منـا الرجـل منهـم، فنـزل فيهـم: (( الحـر بالحـر والعبـد بالعبـد والأنثـى بالأنثـى )).
وعـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( والأنثـى بالأنثـى )) أنهـم كانـوا لا يقتلـون الرجـل بالمـرأة، ولكـن يقتلـون الرجـل بالرجـل، والمـرأة بالمـرأة، فأنـزل الله النفـس بالنفـس والعيـن بالعيـن، فجعل الأحـرار فـي القصـاص سـواء فيمـا بينهـم مـن العمـد رجالهـم ونسـاؤهم فـي النفـس وفيمـا دون النفـس، وجعـل العبيـد مسـتويين فيمـا بينهـم مـن العمـد فـي النفـس وفيمـا دون النفـس رجالهـم ونسـاؤهم وكذلـك روي عـن أبـي مالـك أنهـا منسـوخة بقولـه: (( النفـس بالنفـس )).
مسـألـة
ذهـب أبـو حنيفـة إلـى أن الحـر يقتـل بالعبـد لعمـوم آيـة المائـدة وهـو مـروي عـن (علـيّ) و (ابـن مسـعود).
قـال البخـاري: يقتـل السـيد بعبـده لعمـوم حديـث: {{ مـن قتـل عبـده قتلنـاه ومـن جـدع عبـده جدعنـاه ومـن خصـاه خصينـاه }}.
وخالفهـم الجمهـور فقالـوا: لا يقتـل الحـر بالعبـد، لأن العبـد سـلعة لـو قتـل خطـأ لـم يجـب فيـه ديـة وإنمـا تجـب فيـه قيمتـه، ولأنـه لا يقـاد بطرفـه ففـي النفـس بطريـق الأولـى، وذهـب الجمهـور إلـى أن المسـلم لا يقتـل بالكافـر لمـا ثبـت فـي البخـاري عـن علـي قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لا يقتـل مسـلم بكافـر }}، ولا يصـح حديـث ولا تأويـل يخالـف هـذا.
وأمـا أبـو حنيفـة فذهـب إلـى أنـه يقتـل بـه لعمـوم آيـة المائـدة. // مـا ذهـب إليـه أبـو حنيفـة ضعيـف وفـي النفـس منـه شـيء، ومـا ذهـب إليـه الجمهـور هـو الأرجـح والله أعلـم //.
مسـألـة
قـال الحسـن وعطـاء: لا يقتـل الرجـل بالمـرأة لهـذه الآيـة، وخالفهـم الجمهـور لآيـة المائـدة ولقولـه عليـه السـلام: {{ المسـلمون تتكافـأ دماؤهـم }}.
وقـال الليـث: إذا قتـل الرجـل امرأتـه لا يقتـل بهـا خاصـة.
مسـألـة
ومذهـب الأئمـة الأربعـة والجمهـور أن الجماعـة يقتلـون بالواحـد.
قـال عمـر فـي غـلام قتلـه سـبعة فقتلهـم وقـال: (لـو تمـالأ عليـه أهـل صنعـاء لقتلهـم).
ولا يعـرف لـه فـي زمانـه مخالـف مـن الصحابـة وذلـك كالإجمـاع.
وحكـى عـن الإمـام أحمـد روايـة أن الجماعـة لا يقتلـون بالواحـد، ولا يقتـل بالنفـس إلا نفـس واحـدة.
وقولـه تعالـى: (( فمـن عفـي لـه مـن أخيـه شـيء فاتبـاع بالمعـروف وأداء إليـه بإحسـان )).
قـال مجاهـد: العفـو: أن يقبـل الديـة فـي العمـد.
وعـن ابـن عبـاس: (( فمـن عفـي لـه مـن أخيـه شـيء )) يعنـي فمـن تـرك لـه مـن أخيـه شـيء يعنـي أخـذ الديـة بعـد اسـتحقاق الـدم وذلـك العفـو (( فاتبـاع بالمعـروف ))، يقـول: فعلـى الطالـب اتبـاع بالمعـروف إذا قبـل الديـة (( وأداء إليـه بإحسـان )) يعنـي مـن القاتـل مـن غيـر ضـرر يـؤدي المطلـوب إليـه بإحسـان.
(( ذلـك تخفيـف مـن ربكـم ورحمـة )) يقـول تعالـى إنمـا شـرع لكـم أخـذ الديـة فـي العمـد، تخفيفـاً مـن الله عليكـم ورحمـة بكـم، ممـا كـان محتومـاً علـى الأمـم قبلكـم مـن القتـل أو العفـو.
كمـا قـال مجاهـد عـن ليـن عبـاس: كتـب علـى بنـي إسـرائيل القصـاص فـي القتلـى ولـم يكـن فيهـم العفـو، فقـال الله لهـذه الأمـة: (( كتـب عليكـم القصـاص فـي القتلـى الحـر بالحـر والعبـد بالعبـد والأنثـى بالأنثـى فمـن عفـي لـه مـن أخيـه شـيء )) فالعفـو أن يقبـل الديـة فـي العمـد، ذلـك تخفيـف ممـا كتـب علـى بنـي إسـرائيل ومـن كـان قبلكـم (( فاتبـاع بالمعـروف وأداء إليـه وإحسـان )).
وقـال قتـادة: (( ذلـك تخفيـف مـن ربكـم )) رحـم الله هـذه الأمـة وأطعمهـم الديـة، ولـم تحـل لأحـد قبلهـم، فكـان أهـل التـوراة إنمـا هـو القصـاص.
وعفـو ليـس بينهـم أرش، وكـان أهـل الإنجيـل إنمـا هـو عفـو أمـروا بـه، وجعـل لهـذه الأمـة القصـاص والعفـو والأرش.
قولـه تعالـى: (( فمـن اعتـدى بعـد ذلـك فلـه عـذاب أليـم )) يقـول تعالـى فمـن قَتَـل بعـد أخـذ الديـة أو قبولهـا فلـه عـذاب مـن الله، موجـع شـديد، لحديـث: {{ مـن أصيـب بقتـل أو خبـل فإنـه يختـار إحـدى ثـلاث: إمـا أن يقتـص، وإمـا أن يعفـو، وأمـا أن يأخـذ الديـة، فـإن أراد الرابعـة فخـذوا علـى يديـه، ومـن اعتـدى بعـد ذلـك فلـه نـار جهنـم خالـداً فيهـا }}.
وقولـه تعالـى: (( ولكـم فـي القصـاص حيـاة ))، يقـول تعالـى: وفـي شـرع القصـاص لكـم وهـو قتـل القاتـل، حكمـة عظيمـة وهـي بقـاء المهـج وصونهـا، لأنـه إذا علـم القاتـل أنـه يقتـل، انكـف عـن صنيعـه فكـان فـي ذلـك حيـاة للنفـوس، واشـتهر قولهـم: { القتـل أنفـى للقتـل } فجـاءت هـذه العبـارة فـي القـرآن أفصـح وأبلـغ وأوجـز (( ولكـم فـي القصـاص حيـاة )).
قـال أبـو العاليـة: جعـل الله القصـاص حيـاة، فكـم مـن رجـل يريـد أن قتـل فتمنعـه مخافـة أن يقتـل.
(( يـا أولـي الألبـاب لعلكـم تتقـون )) يقـول يـا أولـي العقـول والأفهـام والنهـى، لعلكـم تنزجـرون وتتركـون محـارم الله ومآثمـه.
والتقـوى: اسـم جامـع لفعـل الطاعـات وتـرك المنكـرات.
(( كُتِـبَ عَلَيكُـمْ إِذا حَضَـرَ أَحَدَكُـمُ المَـوْتَ إِنْ تَـرَكَ خَيْـرَاً الوَصِيَّـةُ لِلوَالِدَيْـنِ وَالأَقْرَبيـنَ بِالمَعْـرُوفِ حَقَّـاً عَلَـى المُتَّقِيـنَ (180) فَمَـنْ بَدَّلَـهُ بَعْـدَ مَـا سَـمِعَهُ فَإِنَّمَـا إِثْمُـهُ عَلَـى الَّذِيـنَ يُبَدِّلوْنَـهُ إِنَّ اللهَ سَـمِيْعٌ عَليْـمٌ (181) فَمَـنْ خَـافَ مِـنْ مُـوصٍ جَنَفَـاً أَوْ إِثْمَـاً فَأَصْلَـحَ بَيْنَهُـمْ فَـلا إِثْـمَ عَلَيْـهِ إِنَّ اللهَ غَفُـورٌ رَّحِيـمٌ )) / 182 /
اشـتملت هـذه الآيـة الكريمـة علـى الأمـر بالوصيـة للوالديـن والأقربيـن، وقـد كـان ذلـك واجبـاً قبـل نـزول آيـة المواريـث، فلمـا نزلـت آيـة الفرائـض نسـخت هـذه، وصـارت المواريـث المقـدرة فريضـة مـن الله، يأخذهـا أهلوهـا حتمـاً مـن غيـر وصيـة ولا تحمـل مِنَّـة الموصـي.
ولهـذا جـاء فـي الحديـث: {{ إن الله قـد أعطـى كـل ذي حـق حقـه فـلا وصيـة لـوارث }}.
وعـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( الوصيـة للوالديـن والأقربيـن )) نسـختها هـذه الآيـة: (( للرجـال نصيـب ممـا تـرك الوالـدان والأقربـون وللنسـاء نصيـب ممـا تـرك الوالـدان والأقربـون ممـا قـلَّ منـه أو كثـر نصيبـاً مفروضـاً )).
والعجـب مـن الـرازي كيـف حكـى عـن أبـي مسـلم الأصفهانـي أن هـذه الآيـة غيـر منسـوخة، وإنمـا مفسـرة بآيـة المواريـث، ومعنـاه: كتـب عليكـم مـا أوصـى الله بـه مـن توريـث الوالديـن والأقربيـن مـن قولـه: (( يوصيكـم الله فـي أولادكـم ))، قـال: وهـو قـول كثيـر مـن المفسـرين والمعتبريـن مـن الفقهـاء، قـال: ومنهـم مـن قـال إنهـا منسـوخة فيمـن يـرث، ثابتـة فيمـن لا يـرث، ولكـن علـى قـول هـؤلاء لا يسـمى هـذا نسـخاً فـي اصطلاحنـا المتأخـر، لأن آيـة المواريـث إنمـا رفعـت حكـم بعـض الأفـراد مـا دل عليـه عمـوم آيـة الأولـى، وهـذا إنمـا يتأتـى علـى قـول بعضهـم: إن الوصايـة فـي ابتـداء الإسـلام إنمـا كانـت ندبـاً حتـى نسـخت.
فأمـا مـن يقـول: إنهـا كانـت واجبـة، وهـو الظاهـر مـن سـياق الآيـة، فيتعيـن أن تكـون منسـوخة بآيـة الميـراث، كمـا قالـه أكثـر المفسـرين.
فـإن وجـوب الوصيـة للوالديـن والأقربيـن الوارثيـن منسـوخ بالإجمـاع، بـل منهـي عنـه للحديـث المتقـدم: {{ إن الله قـد أعطـى كـل ذي حـق حقـه فـلا وصيـة لـوارث }}.
بقـي الأقـارب الذيـن لا ميـراث لهـم، يسـتحب لـه أن يوصـي لهـم مـن الثلـث، اسـتئناسـاً بآيـة الوصيـة وشـمولها، ولمـا ثبـت أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـا حـق امـرئ مسـلم لـه شـيء يوصـى فيـه يبيـت ليلتيـن إلا ووصيتـه مكتوبـة عنـده }}.
قـال ابـن عمـر: مـا مـرت علـيّ ليلـة منـذ سـمعت رسـول الله يقـول ذلـك إلا عنـدي وصيتـي.
(( إن تـرك خيـراً )) أي مـالاً، قـال ابـن عبـاس ومجاهـد.
ثـم منهـم مـن قـال: الوصيـة مشـروعة سـواء قـل المـال أو كثـر.
ومنهـم مـن قـال: إنمـا يوصـى إذا تـرك مـالاً كثيـراً.
قيـل لعلـي رضـي الله عنـه: إن رجـلاً مـن قريـش قـد مـات وتـرك ثلاثمائـة دينـار أو أربعمائـة ولـم يـوص، قـال: ليـس بشـيء، إنمـا قـال الله (( إن تـرك خيـراً )) إذا تركـت شـيئاً يسـيراً فاتركـه لولـدك.
وقـال ابـن عبـاس: مـن تـرك سـتين دينـاراً لـم يتـرك خيـراً.
وقـال قتـادة: كـان يقـال ألفـاً فمـا فوقهـا.
وقولـه: (( بالمعـروف )) أي بالرفـق والإحسـان، والمـراد بالمعـروف أن يوصـي لأقاربـه وصيـةً لا تجحـف بورثتـه كمـا ثبـت فـي الصحيحيـن أن سـعداً قـال: يـا رسـول الله: إن لـي مـالاً ولا يرثنـي إلا ابنـة لـي أفأوصـي بثلثـي مالـي؟ قـال: {{ لا }}، قـال: فبالشـطر؟ قـال: {{ لا }}، قـال: الثلـث؟ قـال {{ الثلـث، والثلـث كثيـر، إنـك أن تـذر ورثتـك أغنيـاء خيـر مـن أن تدعهـم عالـة يتكففـون النـاس }}.
وفـي صحيـح البخـاري أن ابـن عبـاس قـال: لـو أن النـاس غضـوا مـن الثلـث إلـى الربـع فـإن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ الثلـث، والثلـث كثيـر }}.
وقولـه تعالـى: (( فمـن بدلـه بعـد مـا سـمعه فإنمـا إثمـه علـى الذيـن يبدلونـه إن الله سـميع عليـم )).
يقـول تعالـى: فمـن بـدل لوصيـة وحرَّفهـا فغيَّـر حكمهـا وزاد فيهـا أو نقـص، ويدخـل فـي ذلـك الكتمـان لهـا بطريـق الأولـى.
(( فإنمـا إثمـه علـى الذيـن يبدِّلونـه )).
قـال ابـن عبـاس: وقـع أجـر الميـت علـى الله، وتعلَّـق الإثـم بالذيـن بدلـوا ذلـك.
(( إن الله سـميع عليـم )) أي قـد اطلـع علـى مـا أوصـى بـه الميـت وهـو عليـم بذلـك وبمـا بدلـه الموصَـى إليهـم.
وقولـه تعالـى: (( فمـن خـاف مـن مـوصٍ جنفـاً أو إثمـاً )).
قـال ابـن عبـاس: الجنـف: الخطـأ، وهـذا يشمـل أنـواع الخطـأ كلهـا، بـأن زادوا وارثـاً بواسـطة أو وسـيلة، كمـا إذا أوصـى لابـن ابنتـه ليزيدهـا أو نحـو ذلـك مـن الوسـائل، إمـا مخطئـاً غيـر عامـد بـل بطبعـه وقـوة شـفقته مـن غيـر تبصـر، أو متعمـداً آثمـاً فـي ذلـك، فللوصـي والحالـة هـذه أن يصلـح القضيـة ويعـدل فـي الوصيـة علـى الوجـه الشـرعي، ويعـدل عـن الـذي أوصـى بـه الميـت، إلـى مـا هـو أقـرب الأشـياء إليـه وأشـبه الأمـور بـه، جمعـاً بيـن مقصـود الموصـي الطريـق الشـرعي، وهـذا الإصـلاح والتوفيـق ليـس مـن التبديـل فـي شـيء، ولهـذا عطـف هـذا فنبَّـه علـى النهـي عـن ذلـك، ليعلـم أن هـذا ليـس مـن ذلـك بسـبيل، والله أعلـم.
وفـي الحديـث: {{ الجنـف فـي الوصيـة مـن الكبائـر }}.
وعـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن الرجـل ليعمـل بعمـل أهـل الخيـر سـبعين سـنة فـإذا أوصـى حـاف فـي وصيتـه فيختـم لـه بشـر عملـه فيدخـل النـار، وإن الرجـل ليعمـل سـنة فيعـدل فـي وصيتـه فيختـم لـه بخيـر عملـه فيدخـل الجنـة }}.
قـال أبـو هريـرة: اقـرأوا إن شـئتم (( تلـك حـدود الله فـلا تعتدوهـا )) الآيـة.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 150 ، 151 ، 152 ، 153 ، 154 ، 155 ، 156 ، 157 ، 158 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
(( يَـا أَيُّهَـا الَّذيـنَ آمَنُـوا كُلُـوا مِـنْ طَيِّبَـاتِ مَـا رَزْقْناكُـمْ وَاشْـكُُرُوا اللهَ إِنْ كُنْتُـمْ إِيَّـاهُ تَعْبُـدُونَ (172) إِنَّمَـا حَـرَّمَ عَلَيْكُـمُ المَيْتَـةَ وَالـدَّمَ وَلَحْـمَ الخِنزيـرِ وَمَـا أُهِـلَّ بِـهِ لِغَيـرِ اللهِ فَمَـنِ اضْطُـرَّ غَيْـرَ بَـاغٍ وَلا عَـادٍ فَـلا إِثْـمَ عَلَيـهِ إِنَّ اللهَ غَفـورٌ رَحيـمٌ )) / 173 /
يأمـر تعالـى عبـاده المؤمنيـن بالأكـل مـن طيبـات مـا رزقهـم الله تعالـى، وأن يشـكروه تعالـى عـن ذلـك إن كانـوا عُبَّـاده، والأكـل مـن الحـلال سـبب لتقبّـل الدعـاء والعبـادة، كمـا أن الأكـل مـن الحـرام يمنـع قبـول الدعـاء والعبـادة، كمـا جـاء فـي الحديـث قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ أيهـا النـاس إن الله طيـب لا يقبـل إلا طيبـاً، وإن الله أمـر المؤمنيـن بمـا أمـر بـه المرسـلين فقـال: (( يـا أيهـا الرسـل كلـوا مـن الطيبـات واعملـوا صالحـاً إنـي بمـا تعملـون عليـم ))، وقـال: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا كلـوا مـن طيبـات مـا رزقناكـم )). ثـم ذكـر الرجـل يطيـل السـفر، أشـعث أغبـر، يمـد يديـه إلـى السـماء يـا رب يـا رب، ومطعمـه حـرامٌ، ومشـربه حـرام، وملبسـه حـرام، وغـذي بالحـرام، فأنّـى يسـتجاب لذلـك؟ }}.
ولمـا امتـن تعالـى عليهـم برزقـه وأرشـدهم إلـى الأكـل مـن طيِّبـه، ذكـر أنـه لـم يحـرم عليهـم مـن ذلـك إلا الميتـة، وهـي التـي تمـوت حتـف أنفهـا مـن غيـر تذكيـة، وسـواء كانـت منخنقـة أو موقـوذة أو مترديـة أو نطيحـة أو عـدا عليهـا السـبع، وقـد خصـص الجمهـور مـن ذلـك ميتـة البحـر لقولـه تعالـى: (( أحـل لكـم صيـد البحـر وطعامـه ))، وقولـه عليـه السـلام فـي البحـر: {{ هـو الطهـور مـاؤه الحـل ميتتـه }}، وسـيأتي تقريـر ذلـك إن شـاء الله فـي سـورة المائـدة.
ثـم أبـاح تعالـى تنـاول ذلـك عنـد الضـرورة والاحتيـاج إليهـا عنـد فقـد غيرهـا مـن الأطعمـة فقـال: (( فمـن اضطـر غيـر بـاغ ولا عـاد )) أي فـي غيـر بغـي ولا عـدوان وهـو مجـاوزة الحـد (( فـلا إثـم عليـه )) أي فـي أكـل ذلـك. (( إن الله غفـور رحيـم )).
قـال مجاهـد: (( غيـر بـاغ ولا عـاد )) مـن خـرج باغيـاً أو عاديـاً أو فـي معصيـة الله فـلا رخصـة لـه وإن اضطـر إليـه.
وقـال مقاتـل بـن حيـان: (( غيـر بـاغ )) يعنـي غيـر مسـتحله.
وقـال السُّـدي: (( غيـر بـاغ )) يبتغـي فيـه شـهواته.
وعـن ابـن عبـاس: لا يشـبع منهـا وعنـه: (( غيـر بـاغ )) فـي الميتـة، ولا عـادٍ فـي أكلـه.
وقـال قتـادة: (( فمـن اضطـر غيـر بـاغ ولا عـاد )) قـال: غيـر بـاغ فـي الميتـة أي فـ] أكلـه أن يتعـدى حـلالاً إلـى حـرام وهـو يجـد عنـه مندوحـة.
وحكـى القرطبـي عـن مجاهـد فـي قولـه: (( فمـن اضطـر )) أي أكـره علـى ذلـك بغيـر اختيـاره.
مسـألة
إذا وجـد المضطـر ميتـة وطعـام الغيـر، بحيـث لا قطـع فيـه ولا أذى، فإنـه لا يحـل لـه أكـل الميتـة، بـل يأكـل طعـام الغيـر بغيـر خـلاف لحديـث عبـاد بـن شـرحيل العنـزي قـال: أصابتنـا عامـاً مخمصـةٌ فأتيـت حائطـاً، فأخـذت سـنبلاً ففركتـه وأكلتـه وجعلـت منـه فـي كسـائي، فجـاء صاحـب الحائـط فضربنـي وأخـذ ثوبـي، فأتيـت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فأخبرتـه، فقـال للرجـل: {{ مـا أطعمتـه إذ كـان جائعـاً ولا سـاعياً، ولا علَّمتـه إذ كـان جاهـلاً }} فأمـره فـرد إليـه ثوبـه، وأمـر لـه بوسـق طعـام أو نصـف وسـق.
وقـال مقاتـل بـن حيـان: فـي قولـه (( فـلا إثـم عليـه إن الله غفـور رحيـم )) فيمـا أكـل مـن اضطـرار. وبلغنـا _ والله أعلـم _ أنـه لا يـزاد علـى ثـلاث لقـم.
وقـال سـعيد بـن جبيـر: (( غفـور )) لمـا أكـل مـن حـرام (( رحيـم )) إذ أحـل لـه الحـرام فـي اضطـرار.
وقـال مسـروق: مـن اضطـر فلـم يأكـل ولـم يشـرب ثـم مـات دخـل النـار، وهـذا يقتضـي أن أكـل الميتـة للمضطـر عزيمـة لا رخصـة، وهـذا هـو الصحيـح كالإفطـار للمريـض.
(( إِنَّ الَّذِيـنَ يَكْتُمُـونَ مَـا أَنْـزَلَ اللهُ مِـنَ الكِتَـابِ وَيَشْـتَرونَ بِـهِ ثَمَنَـاً قَلِيـلاً أُولِئِـكَ مَـا يَأكُلُـونَ فِـي بُطُونِهِـمْ إِلا النَّـارَ وَلا يُكَلِّمُهُـمُ اللهُ يَـوْمَ القِيامَـةِ وَلا يُزَكِّيهِـمْ وَلَهُـمْ عَـذَابٌ أَلِيـمٌ (174) أُولَئِـكَ الَّذيـنَ اشْـتَرَوُا الضَّلالَـةَ بِالهُـدَى وَالعَـذَابَ بِالمَغْفِـرَةِ فَمَـا أَصْبَرَهُـمْ عَلَـى النَّـارِ (175) ذلِـكَ بِـأَنَّ اللهَ نَـزَّلَ الكِتَـابَ بِالحَـقِّ وَإِنَّ الَّذِيـنَ اخْتَلَفُـوا فِـي الكِتـابِ لَفِـي شِـقَاقٍ بَعِيـدٍ )) / 176 /
يقـول تعالـى (( إن الذيـن يكتمـون مـا أنـزل الله مـن الكتـاب )) يعنـي اليهـود الذيـن كتمـوا صفـة محمـد صلـى الله عليته وسـلم، فـي كتبهـم التـي بأيديهـم ممـا تشـهد لـه بالرسـالة والنبـوة، فكتمـوا ذلـك لئـلا تذهـب رياسـتهم، ومـا كانـوا يأخذونـه مـن العـرب مـن الهدايـا والتحـف علـى تعظيمهـم آباءهـم، فخشـوا _ لعنهـم الله _ إن أظهـروا ذلـك أن يتبعـه النـاس ويتركوهـم، فكتمـوا ذلـك إبقـاء علـى مـا كـان يحصـل لهـم مـن ذلـك وهـو نـزر يسـير، فباعـوا أنفسـهم بذلـك، واعتاضـوا عـن الهـدى بذلـك النـذر اليسـير، فخابـوا وخسـروا فـي الدنيـا والآخـرة، أمـا فـي الدنيـا فـإن الله أظهـر لعبـاده صـدق رسـوله، بمـا نصبـه وجعلـه معـه مـن الآيـات الظاهـرات والدلائـل القاطعـات، فصدقـه الذيـن كانـوا يخافـون أن يتبعـوه، وصـاروا عونـاً لـه علـى قتالهـم، وبـاءوا بغضـب علـى غضـب، وذمّهـم الله فـي كتابـه فـي غيـر موضـع، فمـن ذلـك هـذه الآيـة الكريمـة: (( إن الذيـن يكتمـون مـا أنـزل الله مـن الكتـاب ويشـترون بـه ثمنـاً قليـلاً )) وهـو عـرض الحيـاة الدنيـا (( أولئـك مـا يأكلـون فـي بطونهـم إلا النـار )) أي إنمـا يأكلـون مـا يأكلونـه فـي مقبلـة كتمـان الحـق نـاراً تأجـج فـي بطونهـم يـوم القيامـة، كمـا قـال تعالـى: (( إن الذيـن يأكلـون أمـوال اليتامـى ظلمـاً إنمـا يأكلـون فـي بطونهـم نـاراً وسـيصلون سـعيراً )).
وفـي الحديـث الصحيـح عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ إن الـذي يأكـل أو يشـرب فـي آنيـة الذهـب والفضـة إنمـا يجرجـر فـي بطنـه نـار جهنـم }}.
وقولـه تعالـى: (( ولا يكلمهـم الله يـوم القيامـة ولا يزكيهـم ولهـم عـذاب أليـم ))، وذلـك لأنـه تعالـى غضبـان عليهـم، لأنهـم كتمـوا وقـد علمـوا فاسـتحقوا الغضـب، فـلا ينظـر إليهـم.
(( ولا يزكيهـم )) أي يثنـي عليهـم ويمدحهـم بـل يعذبهـم عذابـاً أليمـاً.
عـن أبـي هريـرة عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ ثلاثـة لا يكلمهـم الله ولا ينظـر إليهـم ولا يزكيهـم ولهـم عـذاب أليـم: شـيخ زان، وملـك كـذاب، وعائـل مسـتكبر }}.
ثـم قـال تعالـى مخبـراً عنهـم: (( أولئـك الذيـن اشـتروا الضلالـة بالهـدى ))، أي اعتاضـوا عـن الهـدى _ وهـو نشـر مـا كتبهـم مـن صفـة الرسـول وذكـر مبعثـه والبشـارة بـه مـن كتـب الأنبيـاء واتباعـه وتصديقـه _ اسـتبدلوا عـن ذلـك واعتاضـوا عنـه الضلالـة، وهـو تكذيبـه والكفـر بـه وكتمـان صفاتـه فـي كتبهـم.
(( والعـذاب بالمغفـرة )) أي اعتاضـوا عـن المغفـرة بالعـذاب وهـو مـا تعاطـوه مـن أسـبابه المذكـورة.
وقولـه تعالـى: (( فمـا أصبرهـم علـى النـار )) يخبـر تعالـى أنهـم فـي عـذاب شـديد عظيـم هائـل، يتعجـب مـن رآهـم فيهـا مـن صبرهـم علـى ذلـك مـع شـدة مـا هـم فيـه مـن العـذاب والنكـال والأغـلال عيـاذاً بالله مـن ذلـك.
وقيـل: معنـى قولـه: (( فمـا أصبرهـم علـى النـار )) أي فمـا أدومهـم لعمـل المعاصـي التـي تفضـي بهـم إلـى النـار.
وقولـه تعالـى: (( ذلـك بـأن الله نـزل الكتـاب بالحـق )) أي إنمـا اسـتحقوا هـذا العـذاب الشـديد، لأن الله تعالـى أنـزل علـى رسـوله محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، وعلـى الأنبيـاء قبلـه كتبـه بتحقيـق الحـق وإبطـال الباطـل، وهـؤلاء اتخـذوا آيـات الله هـزواً، فكتابهـم يأمرهـم بإظهـار العلـم ونشـره فخالفـوه وكذبـوه، وهـذا الرسـول الخاتـم يدعوهـم إلـى الله تعالـى، يأمرهـم بالمعـروف وينهاهـم عـن المنكـر، وهـم يكذبونـه ويخالفونـه، ويجحدونـه ويكتمـون صفتـه، فاسـتهزأوا بآيـات الله المنزلـة علـى رسـله، فلهـذا اسـتحقوا العـذاب والنكـال، ولهـذا قـال: (( ذلـك بـأن الله نـزل الكتـاب بالحـق وإن الذيـن اختلفـوا فـي الكتـاب لفـي شـقاق بعيـد )).
(( لَّيْـسَ البِـرَّ أَن تُوَلُّـوا وُجُوهَكُـمْ قِبَـلَ المَشْـرِقِ وَالمَغْـرِبِ وَلكِـنَّ البِـرَّ مَـنْ آمَـنَ بِاللهِ وَاليَـومِ الآخِـرِ وَالمَلائِكَـةِ وَالكِتَـابِ وَالنَّبِييـنَ وَآتَـى المَـالَ عَلـى حُبِّـهِ ذَوِي القُرْبَـى وَاليَتَامَـى وَالمَسَـاكِينَ وَابْـنَ السَّـبِيلِ وَالسَّـائِلينَ وَفِـي الرِّقَـابِ وَأَقَـامَ الصَّـلاةَ وَآتَـى الزَّكَـاةَ وَالمُوفُـونَ بِعَهْدِهِـمْ إِذا عَاهَـدوا وَالصَّابِريـنَ فِـي البَأسَـاءِ وَالضَّـرَّاءِ وَحِيـنَ البّـأسِ أولئِـكَ هُـمُ المُتَّقُـونَ )) / 177 /
اشـتملت هـذه الآيـة الكريمـة علـى جمـل عظيمـة، وقواعـد عميقـة، وعقيـدة مسـتقيمة، فـإن الله تعالـى لمـا أمـر المؤمنيـن أولاً بالتوجـه إلـى بيـت المقـدس، ثـم حولهـم إلـى الكعبـة، شـقَّ ذلـك علـى نفـوس طائفـة مـن أهـل الكتـاب وبعـض المسـلمين، فأنـزل الله تعالـى بيـان حكمتـه فـي ذلـك، وهـو أن المـراد إنمـا هـو طاعـة الله عـزّ وجـلّ، وامتثـال أوامـره، والتوجـه حيثمـا وجّـه، واتبـاع مـا شـرع، فهـذا هـو البـر والتقـوى والإيمـان الكامـل، وليـس فـي لـزوم التوجـه إلـى جهـة مـن المشـرق أو المغـرب بـرٌّ ولا طاعـة، إن لـم يكـن عـن أمـر الله وشـرعه، ولهـذا قـال: (( ولكـنَّ البـرَّ مـن آمـن بالله واليـوم الآخـر ))، كمـا قـال فـي الأضاحـي والهدايـا: (( لـن ينـال لحومُهـا ولا دماؤُهـا ولكـن ينالـه التقـوى منكـم )).
وقـال ابـن عبـاس فـي هـذه الآيـة: ليـس البـر أن تصلُّـوا ولا تعلمـوا، فأمـر الله بالفرائـض والعمـل بهـا.
وقـال أبـو العاليـة: كانـت اليهـود تُقْبـل قبـل المغـرب، وكانـت النصـارى تُقْبـل قبـل المشـرق، فقـال الله تعالـى: (( ليـس البـر أن تولـوا وجوهكـم قبـل المشـرق والمغـرب )) يقـول: هـذا كـلام الإيمـان وحقيقتـه العمـل.
وقـال مجاهـد: ولكـن البـر مـا ثبـت فـي القلـوب مـن طاعـة الله عـزّ وجـلّ.
(( والكتـاب )) وهـو اسـم جنـس يشـمل الكتـب المنزلـة مـن السـماء علـى الأنبيـاء، حتـى ختمـت بأشـرفها وهـو القـرآن المهيمـن علـى مـا قبلـه مـن الكتـب، والـذي انتهـى إليـه كـل خيـر، واشـتمل علـى كـل سـعادة فـي الدنيـا والآخـرة، ونسـخ بـه كـل مـا سـواه مـن الكتـب قبلـه وآمـن بأنبيـاء الله كلهـم مـن أولهـم إلـى خاتمهـم محمـد صلـوات الله وسـلامه عليـه وعليهـم أجمعيـن.
وقولـه تعالـى: (( وآتـى المـال علـى حبـه )) أي أخرجـه وهـم محـبٌ لـه راغـب فيـه، كمـا ثبـت فـي الصحيحيـن مـن حديـث أبـي هريـرة مرفوعـاً: {{ أفضـل الصدقـة أن تصـدَّق وأنـت صحيـح شـحيح تأمـل الغنـى وتخشـى الفقـر }}.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ وآتـى المـال علـى حبـه }} أن تعطيـه وأنـت صحيـح شـحيح تأمـل العيـش وتخشـى الفقـر }}.
وقـال تعالـى: (( ويطعمـون الطعـام علـى حبـه مسـكيناً ويتيمـاً وأسـيراً . إنمـا نطعمكـم لوجـه الله لا نريـد منكـم جـزاء ولا شـكوراً )).
وقـال تعالـى: (( لـن تنالـوا البـر حتـى تنفقـوا ممـا تحبـون )).
وقولـه: (( ويؤثـرون علـى أنفسـهم ولـو كـان بهـم خصاصـة )) نمـط آخـر أرفـع مـن هـذا وهـن أنهـم آثـروا بمـا هـم مضطـرون إليـه، وهـؤلاء أعطـوا وأطعمـوا مـا هـم محبـون لـه.
وقولـه تعالـى: (( ذوي القربـى )) وهـم قرابـات الرجـل، وهـم أولـى مـن أعطـى مـن الصدقـة كمـا ثبـت فـي الحديـث: {{ الصدقـة علـى المسـاكين صدقـة وعلـى ذوي الرحـم اثنتـان: صدقـة وصلـة، فهـم أولـى النـاس بـك وببِـرَّك وإعطائـك }} وقـد أمـر الله تعالـى بالإحسـان إليهـم فـي غيـر موضـع مـن كتابـه العزيـز (( واليتامـى )) هـم الذيـن لا كاسـب لهـم وقـد مـات آباؤهـم وهـم ضعفـاء صغـار دون البلـوغ، والقـدرة علـى التكسـب، وقـد قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لا يتـم بعـد الحلـم }}.
(( والمسـاكين )) وهـم الذيـن لا يجـدون مـا يكفيهـم فـي قوتهـم وكسـوتهم وسـكناهم، فيُعْطـون مـا تسـد بـه حاجتهـم وخلتهـم.
وفـي الصحيحيـن عـن أبـي هريـرة أو رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ ليـس المسـكين بهـذا الطـوّاف الـذي تـرده التمـرة والتمرتـان واللقمـة واللقمتـان، ولكـن المسـكين الـذي لا يجـد غنى يغنيـه ولا يفطـن لـه فيتصـدق عليـه }}.
(( وابـن السـبيل )) وهـو المسـافر المجتـاز الـذي قـد فرغـت نفقتـه فيعطـى مـا يوصلـه إلـى بلـده، وكـذا الـذي ينـزل.
(( والسـائلين )) وهـم الذيـن يتعرضـون للطلـب فيعطـون مـن الزكـوات والصدقـات.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ للسـائل حـق وإن جـاء علـى فـرس }}.
(( وفـي الرقـاب )) وهـم المكاتبـون الذيـن لا يجـدون مـا يؤدونـه فـي كتابهـم.
عـن فاطمـة بنـت قيـس قالـت: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ فـي المـال حـق سـوى الزكـاة }}، ثـم قـرأ: (( ليـس البـر أن تولـوا وجوهكـم قبـل المشـرق والمغـرب _ إلـى قولـه _ وفـي الرقـاب )).
وقولـه تعالـى: (( وأقـام الصـلاة )) أي أتـم أفعـال الصـلاة فـي أوقاتهـم بركوعهـا وسـجودها وطمأنينتهـا وخشـوعها، علـى الوجـه الشـرعي المرضـي.
وكقولـه: (( وويـل للمشـركين الذيـن لا يؤتـون الزكـاة )) والمـراد زكـاة المـال كمـا قالـه سـعيد بـن جبيـر ومقاتـل بـن حيـان، ويكـون المذكـور مـن إعطـاء هـذه الجهـات والأصنـاف المذكوريـن، إنمـا هـو التطـوع والبـر والصلـة، ولهـذا تقـدم فـي الحديـث عـن فاطمـة بنـت قيـس أن فـي المـال حقـاً سـوى الزكـاة، والله أعلـم.
وقولـه تعالـى: (( والموفـون بعهدهـم إذا عاهـدوا )) كقولـه: (( الذيـن يوفـون بعهـد الله ولا ينقضـون الميثـاق )) وعكـس هـذه الصفـة النفـاق كمـا صـح فـي الحديـث: {{ آيـة المنافـق ثـلاث إذا حـدَّث كـذب، وإذا وعـد أخلـف، وإذا ائتمـن خـان }}.
وفـي الحديـث الآخـر: {{ وإذا حـدّث كـذب وإذا عاهـد غـدر وإذا خصـم فجـر }}.
وقولـه تعالـى: (( والصابريـن فـي البأسـاء والضـراء وحيـن البـأس )) أي فـي حـال الفقـر وهـو البأسـاء، وفـي حـال المـرض والأسـقام وهـو الضـراء.
(( وحيـن البـأس )) أي فـي الحـال القتـال والتقـاء الأعـداء قالـه ابـن مسـعود وابـن عبـاس.
وإنمـا نصـب (( الصابريـن )) علـى المـدح والحـث علـى الصبـر فـي هـذه الأحـوال لشـدته وصعوبتـه،و الله أعلـم.
وقولـه: (( أولئـك الذيـن صدقـوا )) أي هـؤلاء الذيـن اتصفـوا بهـذه الصفـات هـم الذيـن صدقـوا فـي إيمانهـم، لأنهـم حققـوا الإيمـان القلبـي بالأقـوال والأفعـال، فهـؤلاء هـم الذيـن صدقـوا (( وأولئـك هـم المتقـون )) لأنهـم اتقـوا المحـارم وفعلـوا الطاعـات.
(( يَـا أَيُّهَـا الَّذِيـنَ آمَنـوا كُتِـبَ عَلَيكُـمُ القِصَـاصُ فِـي القَتلَـى الحُـرُّ بِالحُـرِّ وَالعَبْـدُ بِالعَبْـدِ وَالأنْثَـى بِالأُنثَـى فَمَـنْ عُفِـيَ لَـهُ مِـنْ أَخِيـهِ شَـيءٌ فَاتِّبَـاعٌ بِالمَعْـروفِ وَأَداءٌ إِلَيْـهِ بِإِحْسَـانٌ ذَلِـكَ تَخْفيـفٌ مِـنْ رَبِّكُـمْ وَرَحْمَـةٌ فَمَـنِ اعْتَـدَى بَعْـدَ ذَلِـكَ فَلَـهُ عَـذابٌ أَلِيـمٌ (178) وَلَكُـمْ فِـي القِصَـاصِ حَيـاةٌ يَـا أُولـي الأَلْبَـابِ لَعَلَّكُـمْ تَتَّقُـونَ )) / 179 /
يقـول تعالـى: كتـب عليكـم العـدل فـي القصـاص _ أيهـا المؤمنـون _ حركـم بحركـم، وعبدكـم بعبدكـم، وأنثاكـم بأنثاكـم، ولا تتجـاوزوا وتعتـدوا كمـا اعتـدى مـن قبلكـم وغيّـروا حكـم الله فيهـم، وسـبب ذلـك (قريظـة والنضيـر) فكـان إذا قتـل النضـري القرظـي لا يقتـل بـه بـل يُفَـادى بمائـة وسـق مـن التمـر، وإذا قتـل القرظـي النضـري قتـل، وإن فـادوه فـدوه بمائتـي وسـق مـن التمـر، ضعـف ديـة القرظـي، فأمـر الله تعالـى بالعـدل فـي القصـاص، ولا يتبـع سـبيل المفسـدين المحرفيـن، المخالفيـن لأحكـام الله فيهـم كفـراً وبغيـاً فقـال تعالـى: (( الحـر بالحـر والعبـد بالعبـد والأنثـى بالأنثـى )).
وذكـر سـعيد ابـن جبيـر فـي قولـه تعالـى: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا كتـب عليكـم القصـاص فـي القتلـى )) يعنـي إذا كـان عمـداً الحـر بالحـر، وذلـك أن حييـن مـن العـرب اقتتلـوا فـي الجاهليـة قبـل الإسـلام بقليـل، فكـان بينهـم قتـل وجراحـات، حتـى قتلـوا العبيـد والنسـاء، فلـم يأخـذ بعضهـم مـن بعـض حتـى أسـلموا، فكـان أحـد الحييـن يتطـاول علـى الآخـر فـي العـدة والأمـوال، فحلفـوا أن لا يرضـوا حتـى يقتـل بالعبـد منـا الحـر منهـم، والمـرأة منـا الرجـل منهـم، فنـزل فيهـم: (( الحـر بالحـر والعبـد بالعبـد والأنثـى بالأنثـى )).
وعـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( والأنثـى بالأنثـى )) أنهـم كانـوا لا يقتلـون الرجـل بالمـرأة، ولكـن يقتلـون الرجـل بالرجـل، والمـرأة بالمـرأة، فأنـزل الله النفـس بالنفـس والعيـن بالعيـن، فجعل الأحـرار فـي القصـاص سـواء فيمـا بينهـم مـن العمـد رجالهـم ونسـاؤهم فـي النفـس وفيمـا دون النفـس، وجعـل العبيـد مسـتويين فيمـا بينهـم مـن العمـد فـي النفـس وفيمـا دون النفـس رجالهـم ونسـاؤهم وكذلـك روي عـن أبـي مالـك أنهـا منسـوخة بقولـه: (( النفـس بالنفـس )).
مسـألـة
ذهـب أبـو حنيفـة إلـى أن الحـر يقتـل بالعبـد لعمـوم آيـة المائـدة وهـو مـروي عـن (علـيّ) و (ابـن مسـعود).
قـال البخـاري: يقتـل السـيد بعبـده لعمـوم حديـث: {{ مـن قتـل عبـده قتلنـاه ومـن جـدع عبـده جدعنـاه ومـن خصـاه خصينـاه }}.
وخالفهـم الجمهـور فقالـوا: لا يقتـل الحـر بالعبـد، لأن العبـد سـلعة لـو قتـل خطـأ لـم يجـب فيـه ديـة وإنمـا تجـب فيـه قيمتـه، ولأنـه لا يقـاد بطرفـه ففـي النفـس بطريـق الأولـى، وذهـب الجمهـور إلـى أن المسـلم لا يقتـل بالكافـر لمـا ثبـت فـي البخـاري عـن علـي قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لا يقتـل مسـلم بكافـر }}، ولا يصـح حديـث ولا تأويـل يخالـف هـذا.
وأمـا أبـو حنيفـة فذهـب إلـى أنـه يقتـل بـه لعمـوم آيـة المائـدة. // مـا ذهـب إليـه أبـو حنيفـة ضعيـف وفـي النفـس منـه شـيء، ومـا ذهـب إليـه الجمهـور هـو الأرجـح والله أعلـم //.
مسـألـة
قـال الحسـن وعطـاء: لا يقتـل الرجـل بالمـرأة لهـذه الآيـة، وخالفهـم الجمهـور لآيـة المائـدة ولقولـه عليـه السـلام: {{ المسـلمون تتكافـأ دماؤهـم }}.
وقـال الليـث: إذا قتـل الرجـل امرأتـه لا يقتـل بهـا خاصـة.
مسـألـة
ومذهـب الأئمـة الأربعـة والجمهـور أن الجماعـة يقتلـون بالواحـد.
قـال عمـر فـي غـلام قتلـه سـبعة فقتلهـم وقـال: (لـو تمـالأ عليـه أهـل صنعـاء لقتلهـم).
ولا يعـرف لـه فـي زمانـه مخالـف مـن الصحابـة وذلـك كالإجمـاع.
وحكـى عـن الإمـام أحمـد روايـة أن الجماعـة لا يقتلـون بالواحـد، ولا يقتـل بالنفـس إلا نفـس واحـدة.
وقولـه تعالـى: (( فمـن عفـي لـه مـن أخيـه شـيء فاتبـاع بالمعـروف وأداء إليـه بإحسـان )).
قـال مجاهـد: العفـو: أن يقبـل الديـة فـي العمـد.
وعـن ابـن عبـاس: (( فمـن عفـي لـه مـن أخيـه شـيء )) يعنـي فمـن تـرك لـه مـن أخيـه شـيء يعنـي أخـذ الديـة بعـد اسـتحقاق الـدم وذلـك العفـو (( فاتبـاع بالمعـروف ))، يقـول: فعلـى الطالـب اتبـاع بالمعـروف إذا قبـل الديـة (( وأداء إليـه بإحسـان )) يعنـي مـن القاتـل مـن غيـر ضـرر يـؤدي المطلـوب إليـه بإحسـان.
(( ذلـك تخفيـف مـن ربكـم ورحمـة )) يقـول تعالـى إنمـا شـرع لكـم أخـذ الديـة فـي العمـد، تخفيفـاً مـن الله عليكـم ورحمـة بكـم، ممـا كـان محتومـاً علـى الأمـم قبلكـم مـن القتـل أو العفـو.
كمـا قـال مجاهـد عـن ليـن عبـاس: كتـب علـى بنـي إسـرائيل القصـاص فـي القتلـى ولـم يكـن فيهـم العفـو، فقـال الله لهـذه الأمـة: (( كتـب عليكـم القصـاص فـي القتلـى الحـر بالحـر والعبـد بالعبـد والأنثـى بالأنثـى فمـن عفـي لـه مـن أخيـه شـيء )) فالعفـو أن يقبـل الديـة فـي العمـد، ذلـك تخفيـف ممـا كتـب علـى بنـي إسـرائيل ومـن كـان قبلكـم (( فاتبـاع بالمعـروف وأداء إليـه وإحسـان )).
وقـال قتـادة: (( ذلـك تخفيـف مـن ربكـم )) رحـم الله هـذه الأمـة وأطعمهـم الديـة، ولـم تحـل لأحـد قبلهـم، فكـان أهـل التـوراة إنمـا هـو القصـاص.
وعفـو ليـس بينهـم أرش، وكـان أهـل الإنجيـل إنمـا هـو عفـو أمـروا بـه، وجعـل لهـذه الأمـة القصـاص والعفـو والأرش.
قولـه تعالـى: (( فمـن اعتـدى بعـد ذلـك فلـه عـذاب أليـم )) يقـول تعالـى فمـن قَتَـل بعـد أخـذ الديـة أو قبولهـا فلـه عـذاب مـن الله، موجـع شـديد، لحديـث: {{ مـن أصيـب بقتـل أو خبـل فإنـه يختـار إحـدى ثـلاث: إمـا أن يقتـص، وإمـا أن يعفـو، وأمـا أن يأخـذ الديـة، فـإن أراد الرابعـة فخـذوا علـى يديـه، ومـن اعتـدى بعـد ذلـك فلـه نـار جهنـم خالـداً فيهـا }}.
وقولـه تعالـى: (( ولكـم فـي القصـاص حيـاة ))، يقـول تعالـى: وفـي شـرع القصـاص لكـم وهـو قتـل القاتـل، حكمـة عظيمـة وهـي بقـاء المهـج وصونهـا، لأنـه إذا علـم القاتـل أنـه يقتـل، انكـف عـن صنيعـه فكـان فـي ذلـك حيـاة للنفـوس، واشـتهر قولهـم: { القتـل أنفـى للقتـل } فجـاءت هـذه العبـارة فـي القـرآن أفصـح وأبلـغ وأوجـز (( ولكـم فـي القصـاص حيـاة )).
قـال أبـو العاليـة: جعـل الله القصـاص حيـاة، فكـم مـن رجـل يريـد أن قتـل فتمنعـه مخافـة أن يقتـل.
(( يـا أولـي الألبـاب لعلكـم تتقـون )) يقـول يـا أولـي العقـول والأفهـام والنهـى، لعلكـم تنزجـرون وتتركـون محـارم الله ومآثمـه.
والتقـوى: اسـم جامـع لفعـل الطاعـات وتـرك المنكـرات.
(( كُتِـبَ عَلَيكُـمْ إِذا حَضَـرَ أَحَدَكُـمُ المَـوْتَ إِنْ تَـرَكَ خَيْـرَاً الوَصِيَّـةُ لِلوَالِدَيْـنِ وَالأَقْرَبيـنَ بِالمَعْـرُوفِ حَقَّـاً عَلَـى المُتَّقِيـنَ (180) فَمَـنْ بَدَّلَـهُ بَعْـدَ مَـا سَـمِعَهُ فَإِنَّمَـا إِثْمُـهُ عَلَـى الَّذِيـنَ يُبَدِّلوْنَـهُ إِنَّ اللهَ سَـمِيْعٌ عَليْـمٌ (181) فَمَـنْ خَـافَ مِـنْ مُـوصٍ جَنَفَـاً أَوْ إِثْمَـاً فَأَصْلَـحَ بَيْنَهُـمْ فَـلا إِثْـمَ عَلَيْـهِ إِنَّ اللهَ غَفُـورٌ رَّحِيـمٌ )) / 182 /
اشـتملت هـذه الآيـة الكريمـة علـى الأمـر بالوصيـة للوالديـن والأقربيـن، وقـد كـان ذلـك واجبـاً قبـل نـزول آيـة المواريـث، فلمـا نزلـت آيـة الفرائـض نسـخت هـذه، وصـارت المواريـث المقـدرة فريضـة مـن الله، يأخذهـا أهلوهـا حتمـاً مـن غيـر وصيـة ولا تحمـل مِنَّـة الموصـي.
ولهـذا جـاء فـي الحديـث: {{ إن الله قـد أعطـى كـل ذي حـق حقـه فـلا وصيـة لـوارث }}.
وعـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( الوصيـة للوالديـن والأقربيـن )) نسـختها هـذه الآيـة: (( للرجـال نصيـب ممـا تـرك الوالـدان والأقربـون وللنسـاء نصيـب ممـا تـرك الوالـدان والأقربـون ممـا قـلَّ منـه أو كثـر نصيبـاً مفروضـاً )).
والعجـب مـن الـرازي كيـف حكـى عـن أبـي مسـلم الأصفهانـي أن هـذه الآيـة غيـر منسـوخة، وإنمـا مفسـرة بآيـة المواريـث، ومعنـاه: كتـب عليكـم مـا أوصـى الله بـه مـن توريـث الوالديـن والأقربيـن مـن قولـه: (( يوصيكـم الله فـي أولادكـم ))، قـال: وهـو قـول كثيـر مـن المفسـرين والمعتبريـن مـن الفقهـاء، قـال: ومنهـم مـن قـال إنهـا منسـوخة فيمـن يـرث، ثابتـة فيمـن لا يـرث، ولكـن علـى قـول هـؤلاء لا يسـمى هـذا نسـخاً فـي اصطلاحنـا المتأخـر، لأن آيـة المواريـث إنمـا رفعـت حكـم بعـض الأفـراد مـا دل عليـه عمـوم آيـة الأولـى، وهـذا إنمـا يتأتـى علـى قـول بعضهـم: إن الوصايـة فـي ابتـداء الإسـلام إنمـا كانـت ندبـاً حتـى نسـخت.
فأمـا مـن يقـول: إنهـا كانـت واجبـة، وهـو الظاهـر مـن سـياق الآيـة، فيتعيـن أن تكـون منسـوخة بآيـة الميـراث، كمـا قالـه أكثـر المفسـرين.
فـإن وجـوب الوصيـة للوالديـن والأقربيـن الوارثيـن منسـوخ بالإجمـاع، بـل منهـي عنـه للحديـث المتقـدم: {{ إن الله قـد أعطـى كـل ذي حـق حقـه فـلا وصيـة لـوارث }}.
بقـي الأقـارب الذيـن لا ميـراث لهـم، يسـتحب لـه أن يوصـي لهـم مـن الثلـث، اسـتئناسـاً بآيـة الوصيـة وشـمولها، ولمـا ثبـت أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـا حـق امـرئ مسـلم لـه شـيء يوصـى فيـه يبيـت ليلتيـن إلا ووصيتـه مكتوبـة عنـده }}.
قـال ابـن عمـر: مـا مـرت علـيّ ليلـة منـذ سـمعت رسـول الله يقـول ذلـك إلا عنـدي وصيتـي.
(( إن تـرك خيـراً )) أي مـالاً، قـال ابـن عبـاس ومجاهـد.
ثـم منهـم مـن قـال: الوصيـة مشـروعة سـواء قـل المـال أو كثـر.
ومنهـم مـن قـال: إنمـا يوصـى إذا تـرك مـالاً كثيـراً.
قيـل لعلـي رضـي الله عنـه: إن رجـلاً مـن قريـش قـد مـات وتـرك ثلاثمائـة دينـار أو أربعمائـة ولـم يـوص، قـال: ليـس بشـيء، إنمـا قـال الله (( إن تـرك خيـراً )) إذا تركـت شـيئاً يسـيراً فاتركـه لولـدك.
وقـال ابـن عبـاس: مـن تـرك سـتين دينـاراً لـم يتـرك خيـراً.
وقـال قتـادة: كـان يقـال ألفـاً فمـا فوقهـا.
وقولـه: (( بالمعـروف )) أي بالرفـق والإحسـان، والمـراد بالمعـروف أن يوصـي لأقاربـه وصيـةً لا تجحـف بورثتـه كمـا ثبـت فـي الصحيحيـن أن سـعداً قـال: يـا رسـول الله: إن لـي مـالاً ولا يرثنـي إلا ابنـة لـي أفأوصـي بثلثـي مالـي؟ قـال: {{ لا }}، قـال: فبالشـطر؟ قـال: {{ لا }}، قـال: الثلـث؟ قـال {{ الثلـث، والثلـث كثيـر، إنـك أن تـذر ورثتـك أغنيـاء خيـر مـن أن تدعهـم عالـة يتكففـون النـاس }}.
وفـي صحيـح البخـاري أن ابـن عبـاس قـال: لـو أن النـاس غضـوا مـن الثلـث إلـى الربـع فـإن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ الثلـث، والثلـث كثيـر }}.
وقولـه تعالـى: (( فمـن بدلـه بعـد مـا سـمعه فإنمـا إثمـه علـى الذيـن يبدلونـه إن الله سـميع عليـم )).
يقـول تعالـى: فمـن بـدل لوصيـة وحرَّفهـا فغيَّـر حكمهـا وزاد فيهـا أو نقـص، ويدخـل فـي ذلـك الكتمـان لهـا بطريـق الأولـى.
(( فإنمـا إثمـه علـى الذيـن يبدِّلونـه )).
قـال ابـن عبـاس: وقـع أجـر الميـت علـى الله، وتعلَّـق الإثـم بالذيـن بدلـوا ذلـك.
(( إن الله سـميع عليـم )) أي قـد اطلـع علـى مـا أوصـى بـه الميـت وهـو عليـم بذلـك وبمـا بدلـه الموصَـى إليهـم.
وقولـه تعالـى: (( فمـن خـاف مـن مـوصٍ جنفـاً أو إثمـاً )).
قـال ابـن عبـاس: الجنـف: الخطـأ، وهـذا يشمـل أنـواع الخطـأ كلهـا، بـأن زادوا وارثـاً بواسـطة أو وسـيلة، كمـا إذا أوصـى لابـن ابنتـه ليزيدهـا أو نحـو ذلـك مـن الوسـائل، إمـا مخطئـاً غيـر عامـد بـل بطبعـه وقـوة شـفقته مـن غيـر تبصـر، أو متعمـداً آثمـاً فـي ذلـك، فللوصـي والحالـة هـذه أن يصلـح القضيـة ويعـدل فـي الوصيـة علـى الوجـه الشـرعي، ويعـدل عـن الـذي أوصـى بـه الميـت، إلـى مـا هـو أقـرب الأشـياء إليـه وأشـبه الأمـور بـه، جمعـاً بيـن مقصـود الموصـي الطريـق الشـرعي، وهـذا الإصـلاح والتوفيـق ليـس مـن التبديـل فـي شـيء، ولهـذا عطـف هـذا فنبَّـه علـى النهـي عـن ذلـك، ليعلـم أن هـذا ليـس مـن ذلـك بسـبيل، والله أعلـم.
وفـي الحديـث: {{ الجنـف فـي الوصيـة مـن الكبائـر }}.
وعـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن الرجـل ليعمـل بعمـل أهـل الخيـر سـبعين سـنة فـإذا أوصـى حـاف فـي وصيتـه فيختـم لـه بشـر عملـه فيدخـل النـار، وإن الرجـل ليعمـل سـنة فيعـدل فـي وصيتـه فيختـم لـه بخيـر عملـه فيدخـل الجنـة }}.
قـال أبـو هريـرة: اقـرأوا إن شـئتم (( تلـك حـدود الله فـلا تعتدوهـا )) الآيـة.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 150 ، 151 ، 152 ، 153 ، 154 ، 155 ، 156 ، 157 ، 158 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( يَـا أَيُّهَـا الَّذِيْـنَ آمَنُـوا كُتِـبَ عَلَيكُـمُ الصِّيَـامُ كَمَـا كُتِـبَ عَلـى الَّذيْـنَ مِـنْ قَبْلِكُـمْ لَعَلَّكُـمْ تَتَّقُـونَ (183) أَيَّامَـاً مَعْـدُودَاتٍ فَمَـنْ كَـانَ مِنْكُـمْ مَرِيْضَـاً أَوْ عَلَـى سَـفَرٍ فَعِـدَّةٌ مِـنْ أَيَّـامٍ أُخَـرْ وَعَلَـى الَّذِيْـنَ يُطِيْقونَـهُ فِدْيَـةٌ طَعَـامُ مِسْـكِينٍ فَمَـنْ تَطَـوَّعَ خَيْـراً فَهُـوَ خَيْـرٌ لَـهُ وَأَنْ تَصُومُـوا خَيْـرٌ لَكُـمْ إِنْ كُنْتُـمْ تَعْلَمُـونَ )) / 184 /
يخاطـب تعالـى المؤمنيـن مـن هـذه الأمـة، آمـراً إياهـم بالصيـام، وهـو الإمسـاك عـن الطعـام والشـراب والوقـاع، بنيـة خالصـةٍ لله عـزَّ وجـلَّ، لمـا فيـه مـن زكـاة النفـوس وطهارتهـا، وتنقيتهـا مـن الأخـلاط الرديئـة والأخـلاق الرذيلـة، وذكـر أنـه كمـا أوجبـه عليهـم فقـد أوجبـه علـى مـن كـان قبلهـم، فلهـم فيـه أسـوة، وليجتهـد هـؤلاء فـي أداء هـذا الفـرض أكمـل ممـا فعلـه أولئـك كمـا قـال تعالـى: (( فاسـتبقوا الخيـرات )).
ولهـذا قـال ههنـا: (( كمـا كتـب علـى الذيـن مـن قبلكـم لعلكـم تتقـون )) لأن الصـوم فيـه تزكيـة للبـدن، وتضييـق لمسـالك الشـيطان، ولهـذا ثبـت فـي الصحيحيـن: {{ يـا معشـر الشـباب مـن اسـتطاع منكـم البـاءة فليتـزوج.. ومـن لـم يسـتطع فعليـه بالصـوم فإنـه لـه وجـاء }}، ثـم بيَّـن مقـدار الصـوم وأنـه ليـس فـي كـل يـوم، لئـلا يشـق علـى النفـوس، فتضعـف عـن حملـه وأدائـه، بـل فـي أيـام معـدودات، وقـد كـان هـذا فـي ابتـداء الإسـلام، يصومـون مـن كـل شـهر ثلاثـة أيـام، ثـم نسـخ ذلـك بصـوم شـهر رمضـان كمـا سـيأتي بيانـه.
وقـد روي أن الصيـام كـان أولاً كمـا كـان عليـه الأمـم قبلنـا، مـن كـل شـهر ثلاثـة أيـام ولـم يـزل هـذا مشـروعاً مـن زمـان نـوح، إلـى أن نسـخ الله بصيـام شـهر رمضـان.
وقـال الحسـن البصـري: لقـد كتـب الصيـام علـى كـل أمّـة قـد خلـت كمـا كتـب علينـا، شـهراً كامـلاً وأيامـاً معـدودات عـدداً معلومـاً.
وعـن عبـد الله بـن عمـر قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ صيـام رمضـان كتبـه الله علـى الأمـم قبلكـم }}.
وقـال عطـاء عـن ابـن عبـاس: (( كمـا كتـب علـى الذيـن مـن قبلكـم )) يعنـي بذلـك أهـل الكتـاب.
ثـم بيَّـن حكـم الصيـام علـى مـا كـان عليـه الأمـر فـي ابتـداء الإسـلام فقـال: (( فمـن كـان منكـم مريضـاً أو علـى سـفر فعـدة مـن أيـام أخـر )) أي المريـض والمسـافر لا يصومـان فـي حـال المـرض والسـفر، لمـا فـي ذلـك مـن المشـقة عليهمـا، بـل يفطـران ويقضيـان بعـدة ذلـك مـن أيـام أخـر، وأمـا الصحيـح المقيـم الـذي يطيـق الصيـام، فقـد كـان مخيـراً بيـن الصيـام وبيـن الإطعـام، إن شـاء صـام وإن شـاء أفطـر وأطعـم عـن كـل يـوم مسـكيناً، فـإن أطعـم أكثـر مـن مسـكين عـن كـل يـوم فهـو خيـر، وإن صـام فهـو أفضـل مـن الإطعـام، قالـه بـن مسـعود وابـن عبـاس.
ولهـذا قـال تعالـى: (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين فمـن تطـوع خيـراً فهـو خيـر لـه وأن تصومـوا خيـر لكـم إن كنتـم تعلمـون )).
روي أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـدم المدينـة فجعـل يصـوم مـن كـل شـهر ثلاثـة أيـام وصـام عاشـوراء، ثـم إن الله فـرض عليـه الصيـام وأنـزل الله تعالـى: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا كتـب عليكـم الصيـام كمـا كتـب علـى الذيـن مـن قبلكـم )) إلـى قولـه: (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين )) فكـان مـن شـاء صـام ومـن شـاء أطعـم مسـكيناً فأجـزأ ذلـك عنـه، ثـم إن الله عـزّ وجـلّ أنـزل آيـة أخـرى: (( شـهر رمضـان الـذي أنـزل فيـه القـرآن )) إلـى قولـه: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه )) فأثبـت الله صيامـه علـى المقيـم الصحيـح، ورخَّـص فيـه للمريـض والمسـافر، وثبـت الإطعـام للكبيـر الـذي لا يسـتطيع الصيـام، وكانـوا يأكلـون ويشـربون ويأتـون النسـاء مـا لـم ينامـوا فـإذا نامـوا امتنعـوا، ثـم إن رجـلاً مـن الأنصـار يقـال لـه (صرمـة) كـان يعمـل صائمـاً، حتـى أمسـى فجـاء إلـى أهلـه فصلَّـى العِشـاء ثـم نـام، فلـم يأكـل ولـم يشـرب حتـى أصبـح، فأصبـح صائمـاً فـرآه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وقـد جهـد جهـداً شـديداً، فقـال: {{ مالـي أراك وقـد جهـدت جهـداً شـديداً ؟ }} قـال: يـا رسـول الله إنـي عملـت أمـس، فجئـت فألقيـت نفسـي فنمـت، فأصبحـت حيـن أصبحـت صائمـاً، قـال: وكـان عمـر قـد أصـاب مـن النسـاء بعـد مـا نـام، فأتـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فذكـر لـه ذلـك فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( أحـل لكـم ليلـة الصيـام الرفـث إلـى نسـائكم _ إلـى قولـه _ ثـم أتمـوا الصيـام إلـى الليـل )).
وروى البخـاري عـن سـلمة بـن الأكـوع أنـه قـال: لمـا نزلـت (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين )) كـان مـن أراد أن يفطـر يفتـدي حتـى نزلـت الآيـة التـي بعدهـا فنسـختها.
وروي عـن ابـن عمـر قـال: هـي منسـوخة.
وقـال السُّـدي: لمـا نزلـت هـذه الآيـة: (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين )) كـان مـن شـاء صـام ومـن شـاء أفطـر وأطعـم مسـكيناً فكانـوا كذلـك حتـى نسـختها: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه )).
وقـال ابـن عبـاس: ليسـت منسـوخة، هـو الشـيخ الكبيـر والمـرأة الكبيـرة لا يسـتطيعان أن يصومـا فيطعمـان مكـان كـل يـوم مسـكيناً.
وعـن ابـن عبـاس قـال: نزلـت هـذه الآيـة (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين )) فـي الشـيخ الكبيـر الـذي لا يطيـق الصـوم ثـم ضعـف، فرخـص لـه أن يطعـم مكـان كـل يـوم مسـكيناً.
وعـن ابـن أبـي ليلـى قـال: دخلـت علـى (عطـاء) فـي رمضـان وهـو يأكـل فقـال: قـال ابـن عبـاس: نزلـت هـذه الآيـة فنسـخت الأولـى، إلا الكبيـر الفانـي إن شـاء أطعـم عـن كـل يـوم مسـكيناً وأفطـر.
فحاصـل الأمـر أن النسـخ ثابـت فـي حـق الصحيـح المقيـم، بإيجـاب الصيـام عليـه بقولـه: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه )) وأمـا الشـيخ الفانـي الهـرم الـذي لا يسـتطيع الصيـام، فلـه أن يفطـر ولا قضـاء عليـه، لأنـه ليسـت لـه حـال يصيـر إليهـا يتمكـن فيهـا مـن القضـاء، ولكـن هـل يجـب عليـه إذا أفطـر أن يطعـم عـن كـل يـوم مسـكيناً إذا كـان ذا جـدة؟
فيـه قـولان، أحدهمـا: لا يجـب عليـه إطعـام لأنـه ضعيـف عنـه لسـنه، فلـم يجـب عليـه فديـة كصبـي، لأن الله لا يكلـف نفسـاً إلا وسـعها وهـو أحـد قولـي الشـافعي.
والثانـي: وهـو الصحيـح وعليـه أكثـر العلمـاء أنـه يجـب عليـه فديـة كـل يـوم.
وهـو اختيـار البخـاري، فإنـه قـال: وأمـا الشـيخ الكبيـر إذا لـم يطـق الصيـام، فقـد أطعـم أنّـسٌ بعـد مـا كبـر عامـاً أو عاميـن، عـن كـل يـوم مسـكيناً خبـزاً ولحمـاً وأفطـر.
وممـا يلتحـق بهـذا المعنـى (الحامـل) و (المرضـع) إذا خافتـا علـى أنفسـهما أو ولديهمـا.
وقيـل: يجـب القضـاء بـلا فديـة.
وقيـل: يفطـران ولا فديـة ولا قضـاء.
(( شَـهْرُ رَمَضَـانَ الَّـذِي أُنْـزِلَ فِيـهِ القُـرآنُ هُـدىً لِلنَّـاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِـنَ الهُـدَى وَالفُرْقَـانِ فَمَـنْ شَـهِدَ مِنْكُـمُ الشَّـهْرَ فَلْيَصُمْـهُ وَمَـنْ كَـانَ مَريضَـاً أَوْ عَلَـى سَـفَرٍ فَعِـدَّةٌ مِـنْ أَيَّـامٍ أُخَـرْ يُريـدُ اللهُ بِكُـمُ اليُسْـرَ وَلا يُريـدُ بِكُـمُ العُسْـرَ وَلِتَكْمِلـوا العِـدَّةَ وَلِتُكَبِّـروا اللهَ عَلَـى مَـا هَداكُـمْ وَلَعَلَّكُـمْ تَشْـكُرونَ )) / 185 /
يمـدح تعالـى شـهر الصيـام مـن بيـن سـائر الشـهور، بـأن اختـاره مـن ببينهـن لإنـزال القـرآن العظيـم، بأنـه الشـهر الـذي كانـت الكتـب الإلهيـة تنـزل فيـه علـى الأنبيـاء.
قـال الإمـام أحمـد عـن واثلـة بـن الأسـقع: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ أنزلـت صحـف إبراهيـم فـي أول ليلـة مـن رمضـان، وأنزلـت التـوراة لسـت مضيـن مـن رمضـان، والإنجيـل لثـلاث عشـر خلـت مـن رمضـان، وأنـزل الله القـرآن لأربـع وعشـرين خلـت مـن رمضـان }}، أمـا الصحـف والتـوراة والزبـور والإنجيـل، فنـزل كـل منهـا علـى النبـي الـذي أنـزل عليـه جملـة واحـدة، وأمـا القـرآن فإنمـا نـزل جملـة واحـدة إلـى بيـت العـزة مـن السـماء الدنيـا، وكـل منهـا علـى النبـي الـذي أنـزل عليـه جملـة واحـدة، وأمـا القـرآن فإنمـا نـزل جملـة واحـدة إلـى بيـت العـزة مـن السـماء الدنيـا، وكـان ذلـك فـي شـهر رمضـان فـي ليلـة القـدر منـه كمـا قـال تعالـى: (( إنـا أنزلنـاه فـي ليلـة القـدر )).
وقـال: (( إنـا أنزلنـاه فـي ليلـة مباركـة ))، ثـم نـزل بعـد مفرقـاً بحسـب الوقائـع علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، هكـذا روي مـن غيـر وجـه.
عـن ابـن عبـاس أنـه سـأله عطيـة بـن الأسـود فقـال: وقـع فـي قلبـي الشـك قـول الله تعالـى: (( شـهر رمضـان الـذي أنـزل فيـه القـرآن ))، وقولـه: (( إنـا أنزلنـاه فـي ليلـة مباركـة ))، وقولـه: (( إنـا أنزلنـاه فـي ليلـة القـدر )) وقـد أنـزل فـي شـوَّال، وفـي ذي القعـدة، وفـي ذي الحجـة، وفـي محـرم وصفـر وشـهر ربيـع!! فقـال ابـن عبـاس: إنـه أنـزل فـي رمضـان فـي ليلـة القـدر، وفـي ليلـة مباركـة جملـةً وحيـدة، ثـم أنـزل علـى مواقـع النجـوم ترتيـلاً فـي الشـهور والأيـام.
وقولـه تعالـى: (( هـدى للنـاس وبينـات مـن الهـدى والفرقـان )) هـذا مـدح للقـرآن الـذي أنزلـه الله هـدى لقلـوب العبـاد ممـن آمـن بـه وصدّقـه واتبعـه.
(( وبينـات )) أي دلائـل وحجـج بينـة واضحـة جليـة لمـن فهمهـا وتدبرهـا، دالـة علـى صحـة مـا جـاء بـه مـن الهـدى المنافـي للضـلال، والرشـد المخالـف للغـي، ومفرقـاً بيـن الحـق والباطـل، والحـلال والحـرام.
وقـد روي عـن بعـض السـلف أنـه كـره أن يقـال: (رمضـان) ورخـص فيـه ابـن عبـاس وزيـد بـن ثابـت.
وقـد انتصـر البخـاري لهـذا فقـال: بـاب _ يقـال رمضـان _ وسـاق أحاديـث فـي ذلـك، منهـا: {{ مـن صـام إيمانـاً واحتسـاباً غفـر لـه مـا تقـدم مـن ذنبـه }} ونحـو ذلـك.
وقولـه تعالـى: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه )) هـذا إيجـاب حتـمٌ علـى مـن شـهد اسـتهلال الشـهر، أي كـان مقيمـاً فـي البلـد حيـن دخـل شـهر رمضـان وهـو صحيـح فـي بدنـه أن يصـوم لا محالـة، ونسـخت هـذه الآيـة الإباحـة المتقدمـة لمـن كـان صحيحـاً مقيمـاً أن يفطـر ويفـدي بإطعـام مسـكين عـن كـل يـوم كمـا تقـدم بيانـه.
ولمـا ختـم الصيـام أعـاد ذكـر الرخصـة للمريـض وللمسـافر فـي الإفطـار بشـرط القضـاء، فقـال: (( ومـن كـان مريضـاً أو علـى سـفر فعـدة مـن أيـام أخـر )) معنـاه: ومـن كـان بـه مـرض فـي بدنـه يشـق عليـه الصيـام معـه أو يؤذيـه، أو كـان علـى سـفر أي فـي حالـة السـفر فلـه أن يفطـر، فـإذا أفطـر فعليـه عـدة مـا أفطـره فـي السـفر مـن الأيـام، ولهـذا قـال: (( يريـد الله بكـم اليسـر ولا يريـد بكـم العسـر )) أي إنمـا رخـص لكـم فـي الفطـر فـي حـال المـرض والسـفر، مـع تحتمـه فـي حـق المقيـم الصحيـح السـليم تيسـيراً عليكـم ورحمـة بكـم.
وههنـا مسـائل تتعلـق بهـذه الآيـة، (إحداهـا): أنـه قـد ذهـب طائفـة مـن السـلف إلـى أن مـن كـان مقيمـاً فـي أول الشـهر ثـم سـافر فـي أثنائـه فليـس لـه الإفطـار بعـذر السـفر والحالـة هـذه لقولـه: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه ))، إنمـا يبـاح الإفطـار لمسـافر اسـتهل الشـهر وهـو مسـافر، وهـذا قـول غريـب نقلـه ابـن حـزم فـي كتابـه (المحلـى) عـن جماعـة مـن الصحابـة والتابعيـن وفيمـا حكـاه عنهـم نظـر، فإنـه قـد ثبتـت السـنّة عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه خـرج فـي شـهر رمضـان لغـزوة الفتـح فسـار حتـى بلـغ الكديـد ثـم أفطـر وأمـر النـاس بالفطـر.
(والثانيـة): ذهـب آخـرون مـن الصحابـة والتابعيـن إلـى وجـوب الإفطـار فـي السـفر لقولـه تعالـى: (( فعـدة مـن أيـام أخـر )) والصحيـح قـول الجمهـور أن الأمـر فـي ذلـك علـى التخييـر، وليـس بحتـم، لأنهـم كانـوا يخرجـون مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي شـهر رمضـان قـال: فمنـا الصائـم ومنـا المفطـر، فلـم يعـب الصائـم علـى المفطـر، ولا المفطـر علـى الصائـم، فلـو كـان الإفطـار هـو الواجـب لأنكـر عليهـم الصيـام، بـل الـذي ثبـت مـن فعـل رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه كـان فـي مثـل الحالـة صائمـاً، لمـا ثبـت فـي الصحيحيـن عـن أبـي الـدرداء قـال: خرجنـا مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي شـهر رمضـان فـي حـر شـديد حتـى إن كـان أحدنـا ليضـع يـده علـى رأسـه مـن شـدة الحـر ومـا فينـا صائـم إلا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وعبـد الله بـن رواحـة.
(الثالثـة): قالـت طائفـة، منهـم الشـافعي: الصيـام فـي السـفر أفضـل مـن الإفطـار لفعـل النبـي صلـ الله عليـه وسـلم كمـا تقـدم.
وقالـت طائفـة بـل الإفطـار أفضـل أخـذاً بالرخصـة.
وقالـت طائفـة: همـا سـواء لحديـث عائشـة أن حمـزة بـن عمـرو الأسـلمي قـال: يـا رسـول الله إنـي كثيـر الصيـام أفأصـوم فـي السـفر؟ فقـال: {{ إن شـئت فصـم وإن شـئت فأفطـر }}.
وقيـل: إن شـقَّ الصيـام فالإفطـار أفضـل لحديـث جابـر: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم رأى رجـلاً قـد ظلّـل عليـه فقـال: {{ مـا هـذا؟ }} قالـوا: صائـم، فقـال: {{ ليـس مـن البـر الصيـام فـي السـفر }} أخرجـاه.
(الرابعـة): القضـاء هـل يجـب متتابعـاً أو يجـوز فيـه التفريـق؟
فيـه قـولان: (أحدهمـا): أنـه يجـب التتابـع لأن القضـاء يحكـي الأداء.
(والثانـي): لا يجـب التتابـع بـل إن شـاء فـرق وإن شـاء تابـع، وهـذا قـول جمهـور السـلف والخلـف وعليـه ثبـت الدلائـل، لأن التتابـع إنمـا وجـب فـي الشـهر لضـرورة أدائـه فـي الشـهر، فأمـا بعـد انقضـاء رمضـان فالمـراد صيـام أيـام عـدة مـا أفطـر، ولهـذا قـال تعالـى: (( فعـدة مـن أيـام أخـر ))، ثـم قـال تعالـى: (( يريـد الله بكـم اليسـر ولا يريـد بكـم العسـر )).
وفـي الصحيحيـن أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال لمعـاذ وأبـي موسـى حيـن بعثهمـا إلـى اليمـن: {{ بشّـرا ولا تنفـرا ويسّـرا ولا تعسّـرا وتطاوعـا ولا تختلفـا }}.
وفـي السـنن والمسـانيد أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ بعثـت بالحنيفيـة السـمحة }}. ومعنـى قولـه: (( يريـد الله بكـم اليسـر ولا يريـد بكـم العسـر ولتكملـوا العـدة )) أي إنمـا أرخـص لكـم الإفطـار للمـرض والسـفر ونحوهمـا مـن الأعـذار، لإرادتـه لكـم اليسـر، وإنمـا أمركمـا بالقضـاء لتكملـوا عـدة شـهركم.
وقولـه: (( ولتكبـروا الله علـى مـا هداكـم )) أي ولتذكـروا الله عنـد انقضـاء عبادتكـم.
كمـا قـال: (( فـإذا قضيتـم مناسـككم فاذكـروا الله كذكركـم آباءكـم أو أشـد ذكـراً )).
وقـال: (( فـإذا قضيـت الصـلاة فانتشـروا فـي الأرض وابتغـوا مـن فضـل الله واذكـروا الله لعلكـم تفلحـون )).
ولهـذا جـاءت السـنّة باسـتحباب التسـبيح والتحميـد والتكبيـر بعـد الصلـوات الكتوبـات.
وقـال ابـن عبـاس: مـا كنـا نعـرف انقضـاء صـلاة رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم إلا بالتكبيـر، ولهـذا أخـذ كثيـر مـن العلمـاء مشـروعية التكبيـر فـي عيـد الفطـر مـن هـذه الآيـة: (( ولتكملـوا العـدة ولتكبـروا الله علـى مـا هداكـم )).
وقولـه: (( ولعلكـم تشـكرون )) أي إذا قمتـم بمـا أمركـم الله مـن طاعتـه، بـأداء فرائضـه، وتـرك محارمـه، وحفـظ حـدوده، فلعلكـم أن تكونـوا مـن الشـاكرين بذلـك.
(( وَإِذَا سَـأَلَكَ عِبَـادي عَنِّـي فَإِنِّـي قَريـبٌ أُجِيـبُ دَعْـوَةَ الـدَّاعِ إِذَا دَعَـانِ فَلْيَسْـتَجيبوا لِـي وَلِيُؤْمِنـوا بِـي لَعَلَّهُـمْ يَرْشُـدونَ )) / 189 /
روي أن أعرابيـاً قـال: يـا رسـول الله: أقريـب ربنـا فنناجيـه أم بعيـد فنناديـه؟ فسـكت البنـي صلـى الله عليـه وسـلم فأنـزل الله: (( وإذا سـألك عبـادي عنـي فإنـي قريـب أُجيـب دعـوة الـداعِ إذا دعـانِ فليسـتجيبوا لـي وليؤمنـوا )).
وعـن الحسـن قـال: سـأل أصحـاب رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: أيـن ربنـا؟ فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( وإذا سـألك عبـادي عنـي فإنـي قريـب أجيـب دعـوة الـداعِ إذا دعـانِ )) الآيـة.
وقـال عطـاء إنـه بلغـه لمـا نزلـت (( وقـال ربكـم ادعونـي اسـتجب لكـم )) قـال النـاس: لـو نعلـم أي سـاعة ندعـو؟ فنزلـت: (( وإذا سـألك عبـادي عنـي فإنـي قريـب أجيـب دعـوة الـداعِ إذا دعـانِ )).
وعـن أبـي موسـى الأشـعري قـال: كنـا مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي غـزوة فجعلنـا لا نصعـد شـرفاً، ولا نعلـو شـرفاً، ولا نهبـط واديـاً، إلا رفعنـا أصواتنـا بالتكبيـر. قـال: فدنـا منـا فقـال: {{ يـا أيهـا النـاس أربعـوا علـى أنفسـكم فإنكـم لا تدعـون أصـم ولا غائبـاً إنمـا تدعـون سـميعاً بصيـراً، إن الذيـن تدعـون أقـرب إلـى أحدكـم مـن عنـق راحلتـه، يـا عبـد الله بـن قيـس إلا أعلمـك كلمـة مـن كنـوز الجنـة؟ لا حـول ولا قـوة إلا بالله }}.
وعـن أبـي هريـرة أنـه سـمع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ قـال الله تعالـى أنـا مـع عبـدي مـا ذكرنـي وتحركـت بـي شـفتاه }}.
(قلـت): وهـذا كقولـه تعالـى: (( إن الله مـع الذيـن اتقـوا والذيـن هـم محسـنون )).
وقولـه لموسـى وهـارون عليهمـا السـلام: (( إننـي معكـم أسـمع وأرى )) والمـراد مـن هـذا أنـه تعالـى لا يخيـب دعـاء داع، ولا يشـغله عنـه شـيء، بـل هـو سـميع الدعـاء، ففيـه ترغيـب فـي الدعـاء وأنـه لا يضيـع لديـه تعالـى.
كمـا قـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن الله تعالـى ليسـتحي أن يبسـط العبـد إليـه يديـه يسـأله فيهمـا خيـراً فيردهمـا خائبتيـن }}.
وعـن أبـي سـعيد أن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـا مـن مسـلم يدعـو الله عـزّ وجـلّ بدعـوة ليـس فيهـا إثـم ولا قطيعـة رحـم إلا أعطـاه الله بهـا إحـدى ثـلاث خصـال: إمـا أن يعجـل لـه دعوتـه، وإمـا إن يدخرهـا لـه فـي الأُخـرى، وإمـا أن يصـرف عنـه مـن السـوء مثلهـا }}، قالـوا: إذن نكثـر، قـال: {{ الله أكثـر }}.
وعـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـا علـى ظهـر الأرض مـن رجـل مسـلم يدعـو الله عـزّ وجـلّ بدعـوة إلا آتـاه الله إياهـا أو كـفَّّ عنـه مـن السـوء مثلهـا مـا لـم يـدع بإثـم أو قطيعـة رحـم }}.
وروى مسـلم عـن أبـي هريـرة عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ لا يـزال يسـتجاب للعبـد مـا لـم يـدع بإثـم أو قطيعـة رحـم مـا لـم يسـتعجل }}. قيـل: يـا رسـول الله ! ومـا الاسـتعجال؟ قـال: {{ يقـول قـد دعـوت وقـد دعـوت ولـم أر يسـتجاب لـي فيسـتحسـر عنـد ذلـك ويـدع الدعـاء }}.
وقـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ القلـوب أوعيـة وبعضهـا أوعـى مـن بعـض، فـإذا سـألتم الله أيهـا النـاس فاسـألوه وأنتـم موقنـون بالإجابـة، فإنـه لا يسـتجيب لعبـد دعـاه عـن ظهـر قلـب غافـل }}.
وفـي ذكـره تعالـى هـذه الآيـة الباعثـة علـى الدعـاء، متخللـة بيـن أحكـام الصيـام، إرشـاد إلـى الاجتهـاد فـي الدعـاء عنـد إكمـال العـدة، بـل وعنـد كـل فطـر.
كمـا روي عـن عبـد الله بـن عمـرو قـال: قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن للصائـم عنـد فطـره دعـوة مـا تـرد }}.
قـال عبيـد الله بـن أبـي مليكـة: سـمعت عبـد الله بـن عمـرو يقـول إذا أفطـر: {{ اللهـم إنـي أسـألك برحمتـك التـي وسـعت مـل شـيء أن تغفـر لـي }}.
وعـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى لله عليـه وسـلم: {{ ثلاثـة لا تـرد دعوتهـم: الإمـام العـادل، والصائـم حتـى يفطـر، ودعـوة المظلـوم يرفعهـا الله دون الغمـام يـوم القيامـة وتفتـح لهـا أبـواب السـماء ويقـول بعزتـي لأنصرنـك ولـو بعـد حيـن }}.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 158 ، 159 ، 160 ، 161 ، 162 ، 163 ، 164 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
(( يَـا أَيُّهَـا الَّذِيْـنَ آمَنُـوا كُتِـبَ عَلَيكُـمُ الصِّيَـامُ كَمَـا كُتِـبَ عَلـى الَّذيْـنَ مِـنْ قَبْلِكُـمْ لَعَلَّكُـمْ تَتَّقُـونَ (183) أَيَّامَـاً مَعْـدُودَاتٍ فَمَـنْ كَـانَ مِنْكُـمْ مَرِيْضَـاً أَوْ عَلَـى سَـفَرٍ فَعِـدَّةٌ مِـنْ أَيَّـامٍ أُخَـرْ وَعَلَـى الَّذِيْـنَ يُطِيْقونَـهُ فِدْيَـةٌ طَعَـامُ مِسْـكِينٍ فَمَـنْ تَطَـوَّعَ خَيْـراً فَهُـوَ خَيْـرٌ لَـهُ وَأَنْ تَصُومُـوا خَيْـرٌ لَكُـمْ إِنْ كُنْتُـمْ تَعْلَمُـونَ )) / 184 /
يخاطـب تعالـى المؤمنيـن مـن هـذه الأمـة، آمـراً إياهـم بالصيـام، وهـو الإمسـاك عـن الطعـام والشـراب والوقـاع، بنيـة خالصـةٍ لله عـزَّ وجـلَّ، لمـا فيـه مـن زكـاة النفـوس وطهارتهـا، وتنقيتهـا مـن الأخـلاط الرديئـة والأخـلاق الرذيلـة، وذكـر أنـه كمـا أوجبـه عليهـم فقـد أوجبـه علـى مـن كـان قبلهـم، فلهـم فيـه أسـوة، وليجتهـد هـؤلاء فـي أداء هـذا الفـرض أكمـل ممـا فعلـه أولئـك كمـا قـال تعالـى: (( فاسـتبقوا الخيـرات )).
ولهـذا قـال ههنـا: (( كمـا كتـب علـى الذيـن مـن قبلكـم لعلكـم تتقـون )) لأن الصـوم فيـه تزكيـة للبـدن، وتضييـق لمسـالك الشـيطان، ولهـذا ثبـت فـي الصحيحيـن: {{ يـا معشـر الشـباب مـن اسـتطاع منكـم البـاءة فليتـزوج.. ومـن لـم يسـتطع فعليـه بالصـوم فإنـه لـه وجـاء }}، ثـم بيَّـن مقـدار الصـوم وأنـه ليـس فـي كـل يـوم، لئـلا يشـق علـى النفـوس، فتضعـف عـن حملـه وأدائـه، بـل فـي أيـام معـدودات، وقـد كـان هـذا فـي ابتـداء الإسـلام، يصومـون مـن كـل شـهر ثلاثـة أيـام، ثـم نسـخ ذلـك بصـوم شـهر رمضـان كمـا سـيأتي بيانـه.
وقـد روي أن الصيـام كـان أولاً كمـا كـان عليـه الأمـم قبلنـا، مـن كـل شـهر ثلاثـة أيـام ولـم يـزل هـذا مشـروعاً مـن زمـان نـوح، إلـى أن نسـخ الله بصيـام شـهر رمضـان.
وقـال الحسـن البصـري: لقـد كتـب الصيـام علـى كـل أمّـة قـد خلـت كمـا كتـب علينـا، شـهراً كامـلاً وأيامـاً معـدودات عـدداً معلومـاً.
وعـن عبـد الله بـن عمـر قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ صيـام رمضـان كتبـه الله علـى الأمـم قبلكـم }}.
وقـال عطـاء عـن ابـن عبـاس: (( كمـا كتـب علـى الذيـن مـن قبلكـم )) يعنـي بذلـك أهـل الكتـاب.
ثـم بيَّـن حكـم الصيـام علـى مـا كـان عليـه الأمـر فـي ابتـداء الإسـلام فقـال: (( فمـن كـان منكـم مريضـاً أو علـى سـفر فعـدة مـن أيـام أخـر )) أي المريـض والمسـافر لا يصومـان فـي حـال المـرض والسـفر، لمـا فـي ذلـك مـن المشـقة عليهمـا، بـل يفطـران ويقضيـان بعـدة ذلـك مـن أيـام أخـر، وأمـا الصحيـح المقيـم الـذي يطيـق الصيـام، فقـد كـان مخيـراً بيـن الصيـام وبيـن الإطعـام، إن شـاء صـام وإن شـاء أفطـر وأطعـم عـن كـل يـوم مسـكيناً، فـإن أطعـم أكثـر مـن مسـكين عـن كـل يـوم فهـو خيـر، وإن صـام فهـو أفضـل مـن الإطعـام، قالـه بـن مسـعود وابـن عبـاس.
ولهـذا قـال تعالـى: (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين فمـن تطـوع خيـراً فهـو خيـر لـه وأن تصومـوا خيـر لكـم إن كنتـم تعلمـون )).
روي أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـدم المدينـة فجعـل يصـوم مـن كـل شـهر ثلاثـة أيـام وصـام عاشـوراء، ثـم إن الله فـرض عليـه الصيـام وأنـزل الله تعالـى: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا كتـب عليكـم الصيـام كمـا كتـب علـى الذيـن مـن قبلكـم )) إلـى قولـه: (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين )) فكـان مـن شـاء صـام ومـن شـاء أطعـم مسـكيناً فأجـزأ ذلـك عنـه، ثـم إن الله عـزّ وجـلّ أنـزل آيـة أخـرى: (( شـهر رمضـان الـذي أنـزل فيـه القـرآن )) إلـى قولـه: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه )) فأثبـت الله صيامـه علـى المقيـم الصحيـح، ورخَّـص فيـه للمريـض والمسـافر، وثبـت الإطعـام للكبيـر الـذي لا يسـتطيع الصيـام، وكانـوا يأكلـون ويشـربون ويأتـون النسـاء مـا لـم ينامـوا فـإذا نامـوا امتنعـوا، ثـم إن رجـلاً مـن الأنصـار يقـال لـه (صرمـة) كـان يعمـل صائمـاً، حتـى أمسـى فجـاء إلـى أهلـه فصلَّـى العِشـاء ثـم نـام، فلـم يأكـل ولـم يشـرب حتـى أصبـح، فأصبـح صائمـاً فـرآه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وقـد جهـد جهـداً شـديداً، فقـال: {{ مالـي أراك وقـد جهـدت جهـداً شـديداً ؟ }} قـال: يـا رسـول الله إنـي عملـت أمـس، فجئـت فألقيـت نفسـي فنمـت، فأصبحـت حيـن أصبحـت صائمـاً، قـال: وكـان عمـر قـد أصـاب مـن النسـاء بعـد مـا نـام، فأتـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فذكـر لـه ذلـك فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( أحـل لكـم ليلـة الصيـام الرفـث إلـى نسـائكم _ إلـى قولـه _ ثـم أتمـوا الصيـام إلـى الليـل )).
وروى البخـاري عـن سـلمة بـن الأكـوع أنـه قـال: لمـا نزلـت (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين )) كـان مـن أراد أن يفطـر يفتـدي حتـى نزلـت الآيـة التـي بعدهـا فنسـختها.
وروي عـن ابـن عمـر قـال: هـي منسـوخة.
وقـال السُّـدي: لمـا نزلـت هـذه الآيـة: (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين )) كـان مـن شـاء صـام ومـن شـاء أفطـر وأطعـم مسـكيناً فكانـوا كذلـك حتـى نسـختها: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه )).
وقـال ابـن عبـاس: ليسـت منسـوخة، هـو الشـيخ الكبيـر والمـرأة الكبيـرة لا يسـتطيعان أن يصومـا فيطعمـان مكـان كـل يـوم مسـكيناً.
وعـن ابـن عبـاس قـال: نزلـت هـذه الآيـة (( وعلـى الذيـن يطيقونـه فديـة طعـام مسـكين )) فـي الشـيخ الكبيـر الـذي لا يطيـق الصـوم ثـم ضعـف، فرخـص لـه أن يطعـم مكـان كـل يـوم مسـكيناً.
وعـن ابـن أبـي ليلـى قـال: دخلـت علـى (عطـاء) فـي رمضـان وهـو يأكـل فقـال: قـال ابـن عبـاس: نزلـت هـذه الآيـة فنسـخت الأولـى، إلا الكبيـر الفانـي إن شـاء أطعـم عـن كـل يـوم مسـكيناً وأفطـر.
فحاصـل الأمـر أن النسـخ ثابـت فـي حـق الصحيـح المقيـم، بإيجـاب الصيـام عليـه بقولـه: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه )) وأمـا الشـيخ الفانـي الهـرم الـذي لا يسـتطيع الصيـام، فلـه أن يفطـر ولا قضـاء عليـه، لأنـه ليسـت لـه حـال يصيـر إليهـا يتمكـن فيهـا مـن القضـاء، ولكـن هـل يجـب عليـه إذا أفطـر أن يطعـم عـن كـل يـوم مسـكيناً إذا كـان ذا جـدة؟
فيـه قـولان، أحدهمـا: لا يجـب عليـه إطعـام لأنـه ضعيـف عنـه لسـنه، فلـم يجـب عليـه فديـة كصبـي، لأن الله لا يكلـف نفسـاً إلا وسـعها وهـو أحـد قولـي الشـافعي.
والثانـي: وهـو الصحيـح وعليـه أكثـر العلمـاء أنـه يجـب عليـه فديـة كـل يـوم.
وهـو اختيـار البخـاري، فإنـه قـال: وأمـا الشـيخ الكبيـر إذا لـم يطـق الصيـام، فقـد أطعـم أنّـسٌ بعـد مـا كبـر عامـاً أو عاميـن، عـن كـل يـوم مسـكيناً خبـزاً ولحمـاً وأفطـر.
وممـا يلتحـق بهـذا المعنـى (الحامـل) و (المرضـع) إذا خافتـا علـى أنفسـهما أو ولديهمـا.
وقيـل: يجـب القضـاء بـلا فديـة.
وقيـل: يفطـران ولا فديـة ولا قضـاء.
(( شَـهْرُ رَمَضَـانَ الَّـذِي أُنْـزِلَ فِيـهِ القُـرآنُ هُـدىً لِلنَّـاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِـنَ الهُـدَى وَالفُرْقَـانِ فَمَـنْ شَـهِدَ مِنْكُـمُ الشَّـهْرَ فَلْيَصُمْـهُ وَمَـنْ كَـانَ مَريضَـاً أَوْ عَلَـى سَـفَرٍ فَعِـدَّةٌ مِـنْ أَيَّـامٍ أُخَـرْ يُريـدُ اللهُ بِكُـمُ اليُسْـرَ وَلا يُريـدُ بِكُـمُ العُسْـرَ وَلِتَكْمِلـوا العِـدَّةَ وَلِتُكَبِّـروا اللهَ عَلَـى مَـا هَداكُـمْ وَلَعَلَّكُـمْ تَشْـكُرونَ )) / 185 /
يمـدح تعالـى شـهر الصيـام مـن بيـن سـائر الشـهور، بـأن اختـاره مـن ببينهـن لإنـزال القـرآن العظيـم، بأنـه الشـهر الـذي كانـت الكتـب الإلهيـة تنـزل فيـه علـى الأنبيـاء.
قـال الإمـام أحمـد عـن واثلـة بـن الأسـقع: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ أنزلـت صحـف إبراهيـم فـي أول ليلـة مـن رمضـان، وأنزلـت التـوراة لسـت مضيـن مـن رمضـان، والإنجيـل لثـلاث عشـر خلـت مـن رمضـان، وأنـزل الله القـرآن لأربـع وعشـرين خلـت مـن رمضـان }}، أمـا الصحـف والتـوراة والزبـور والإنجيـل، فنـزل كـل منهـا علـى النبـي الـذي أنـزل عليـه جملـة واحـدة، وأمـا القـرآن فإنمـا نـزل جملـة واحـدة إلـى بيـت العـزة مـن السـماء الدنيـا، وكـل منهـا علـى النبـي الـذي أنـزل عليـه جملـة واحـدة، وأمـا القـرآن فإنمـا نـزل جملـة واحـدة إلـى بيـت العـزة مـن السـماء الدنيـا، وكـان ذلـك فـي شـهر رمضـان فـي ليلـة القـدر منـه كمـا قـال تعالـى: (( إنـا أنزلنـاه فـي ليلـة القـدر )).
وقـال: (( إنـا أنزلنـاه فـي ليلـة مباركـة ))، ثـم نـزل بعـد مفرقـاً بحسـب الوقائـع علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، هكـذا روي مـن غيـر وجـه.
عـن ابـن عبـاس أنـه سـأله عطيـة بـن الأسـود فقـال: وقـع فـي قلبـي الشـك قـول الله تعالـى: (( شـهر رمضـان الـذي أنـزل فيـه القـرآن ))، وقولـه: (( إنـا أنزلنـاه فـي ليلـة مباركـة ))، وقولـه: (( إنـا أنزلنـاه فـي ليلـة القـدر )) وقـد أنـزل فـي شـوَّال، وفـي ذي القعـدة، وفـي ذي الحجـة، وفـي محـرم وصفـر وشـهر ربيـع!! فقـال ابـن عبـاس: إنـه أنـزل فـي رمضـان فـي ليلـة القـدر، وفـي ليلـة مباركـة جملـةً وحيـدة، ثـم أنـزل علـى مواقـع النجـوم ترتيـلاً فـي الشـهور والأيـام.
وقولـه تعالـى: (( هـدى للنـاس وبينـات مـن الهـدى والفرقـان )) هـذا مـدح للقـرآن الـذي أنزلـه الله هـدى لقلـوب العبـاد ممـن آمـن بـه وصدّقـه واتبعـه.
(( وبينـات )) أي دلائـل وحجـج بينـة واضحـة جليـة لمـن فهمهـا وتدبرهـا، دالـة علـى صحـة مـا جـاء بـه مـن الهـدى المنافـي للضـلال، والرشـد المخالـف للغـي، ومفرقـاً بيـن الحـق والباطـل، والحـلال والحـرام.
وقـد روي عـن بعـض السـلف أنـه كـره أن يقـال: (رمضـان) ورخـص فيـه ابـن عبـاس وزيـد بـن ثابـت.
وقـد انتصـر البخـاري لهـذا فقـال: بـاب _ يقـال رمضـان _ وسـاق أحاديـث فـي ذلـك، منهـا: {{ مـن صـام إيمانـاً واحتسـاباً غفـر لـه مـا تقـدم مـن ذنبـه }} ونحـو ذلـك.
وقولـه تعالـى: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه )) هـذا إيجـاب حتـمٌ علـى مـن شـهد اسـتهلال الشـهر، أي كـان مقيمـاً فـي البلـد حيـن دخـل شـهر رمضـان وهـو صحيـح فـي بدنـه أن يصـوم لا محالـة، ونسـخت هـذه الآيـة الإباحـة المتقدمـة لمـن كـان صحيحـاً مقيمـاً أن يفطـر ويفـدي بإطعـام مسـكين عـن كـل يـوم كمـا تقـدم بيانـه.
ولمـا ختـم الصيـام أعـاد ذكـر الرخصـة للمريـض وللمسـافر فـي الإفطـار بشـرط القضـاء، فقـال: (( ومـن كـان مريضـاً أو علـى سـفر فعـدة مـن أيـام أخـر )) معنـاه: ومـن كـان بـه مـرض فـي بدنـه يشـق عليـه الصيـام معـه أو يؤذيـه، أو كـان علـى سـفر أي فـي حالـة السـفر فلـه أن يفطـر، فـإذا أفطـر فعليـه عـدة مـا أفطـره فـي السـفر مـن الأيـام، ولهـذا قـال: (( يريـد الله بكـم اليسـر ولا يريـد بكـم العسـر )) أي إنمـا رخـص لكـم فـي الفطـر فـي حـال المـرض والسـفر، مـع تحتمـه فـي حـق المقيـم الصحيـح السـليم تيسـيراً عليكـم ورحمـة بكـم.
وههنـا مسـائل تتعلـق بهـذه الآيـة، (إحداهـا): أنـه قـد ذهـب طائفـة مـن السـلف إلـى أن مـن كـان مقيمـاً فـي أول الشـهر ثـم سـافر فـي أثنائـه فليـس لـه الإفطـار بعـذر السـفر والحالـة هـذه لقولـه: (( فمـن شـهد منكـم الشـهر فليصمـه ))، إنمـا يبـاح الإفطـار لمسـافر اسـتهل الشـهر وهـو مسـافر، وهـذا قـول غريـب نقلـه ابـن حـزم فـي كتابـه (المحلـى) عـن جماعـة مـن الصحابـة والتابعيـن وفيمـا حكـاه عنهـم نظـر، فإنـه قـد ثبتـت السـنّة عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه خـرج فـي شـهر رمضـان لغـزوة الفتـح فسـار حتـى بلـغ الكديـد ثـم أفطـر وأمـر النـاس بالفطـر.
(والثانيـة): ذهـب آخـرون مـن الصحابـة والتابعيـن إلـى وجـوب الإفطـار فـي السـفر لقولـه تعالـى: (( فعـدة مـن أيـام أخـر )) والصحيـح قـول الجمهـور أن الأمـر فـي ذلـك علـى التخييـر، وليـس بحتـم، لأنهـم كانـوا يخرجـون مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي شـهر رمضـان قـال: فمنـا الصائـم ومنـا المفطـر، فلـم يعـب الصائـم علـى المفطـر، ولا المفطـر علـى الصائـم، فلـو كـان الإفطـار هـو الواجـب لأنكـر عليهـم الصيـام، بـل الـذي ثبـت مـن فعـل رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه كـان فـي مثـل الحالـة صائمـاً، لمـا ثبـت فـي الصحيحيـن عـن أبـي الـدرداء قـال: خرجنـا مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي شـهر رمضـان فـي حـر شـديد حتـى إن كـان أحدنـا ليضـع يـده علـى رأسـه مـن شـدة الحـر ومـا فينـا صائـم إلا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وعبـد الله بـن رواحـة.
(الثالثـة): قالـت طائفـة، منهـم الشـافعي: الصيـام فـي السـفر أفضـل مـن الإفطـار لفعـل النبـي صلـ الله عليـه وسـلم كمـا تقـدم.
وقالـت طائفـة بـل الإفطـار أفضـل أخـذاً بالرخصـة.
وقالـت طائفـة: همـا سـواء لحديـث عائشـة أن حمـزة بـن عمـرو الأسـلمي قـال: يـا رسـول الله إنـي كثيـر الصيـام أفأصـوم فـي السـفر؟ فقـال: {{ إن شـئت فصـم وإن شـئت فأفطـر }}.
وقيـل: إن شـقَّ الصيـام فالإفطـار أفضـل لحديـث جابـر: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم رأى رجـلاً قـد ظلّـل عليـه فقـال: {{ مـا هـذا؟ }} قالـوا: صائـم، فقـال: {{ ليـس مـن البـر الصيـام فـي السـفر }} أخرجـاه.
(الرابعـة): القضـاء هـل يجـب متتابعـاً أو يجـوز فيـه التفريـق؟
فيـه قـولان: (أحدهمـا): أنـه يجـب التتابـع لأن القضـاء يحكـي الأداء.
(والثانـي): لا يجـب التتابـع بـل إن شـاء فـرق وإن شـاء تابـع، وهـذا قـول جمهـور السـلف والخلـف وعليـه ثبـت الدلائـل، لأن التتابـع إنمـا وجـب فـي الشـهر لضـرورة أدائـه فـي الشـهر، فأمـا بعـد انقضـاء رمضـان فالمـراد صيـام أيـام عـدة مـا أفطـر، ولهـذا قـال تعالـى: (( فعـدة مـن أيـام أخـر ))، ثـم قـال تعالـى: (( يريـد الله بكـم اليسـر ولا يريـد بكـم العسـر )).
وفـي الصحيحيـن أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال لمعـاذ وأبـي موسـى حيـن بعثهمـا إلـى اليمـن: {{ بشّـرا ولا تنفـرا ويسّـرا ولا تعسّـرا وتطاوعـا ولا تختلفـا }}.
وفـي السـنن والمسـانيد أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ بعثـت بالحنيفيـة السـمحة }}. ومعنـى قولـه: (( يريـد الله بكـم اليسـر ولا يريـد بكـم العسـر ولتكملـوا العـدة )) أي إنمـا أرخـص لكـم الإفطـار للمـرض والسـفر ونحوهمـا مـن الأعـذار، لإرادتـه لكـم اليسـر، وإنمـا أمركمـا بالقضـاء لتكملـوا عـدة شـهركم.
وقولـه: (( ولتكبـروا الله علـى مـا هداكـم )) أي ولتذكـروا الله عنـد انقضـاء عبادتكـم.
كمـا قـال: (( فـإذا قضيتـم مناسـككم فاذكـروا الله كذكركـم آباءكـم أو أشـد ذكـراً )).
وقـال: (( فـإذا قضيـت الصـلاة فانتشـروا فـي الأرض وابتغـوا مـن فضـل الله واذكـروا الله لعلكـم تفلحـون )).
ولهـذا جـاءت السـنّة باسـتحباب التسـبيح والتحميـد والتكبيـر بعـد الصلـوات الكتوبـات.
وقـال ابـن عبـاس: مـا كنـا نعـرف انقضـاء صـلاة رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم إلا بالتكبيـر، ولهـذا أخـذ كثيـر مـن العلمـاء مشـروعية التكبيـر فـي عيـد الفطـر مـن هـذه الآيـة: (( ولتكملـوا العـدة ولتكبـروا الله علـى مـا هداكـم )).
وقولـه: (( ولعلكـم تشـكرون )) أي إذا قمتـم بمـا أمركـم الله مـن طاعتـه، بـأداء فرائضـه، وتـرك محارمـه، وحفـظ حـدوده، فلعلكـم أن تكونـوا مـن الشـاكرين بذلـك.
(( وَإِذَا سَـأَلَكَ عِبَـادي عَنِّـي فَإِنِّـي قَريـبٌ أُجِيـبُ دَعْـوَةَ الـدَّاعِ إِذَا دَعَـانِ فَلْيَسْـتَجيبوا لِـي وَلِيُؤْمِنـوا بِـي لَعَلَّهُـمْ يَرْشُـدونَ )) / 189 /
روي أن أعرابيـاً قـال: يـا رسـول الله: أقريـب ربنـا فنناجيـه أم بعيـد فنناديـه؟ فسـكت البنـي صلـى الله عليـه وسـلم فأنـزل الله: (( وإذا سـألك عبـادي عنـي فإنـي قريـب أُجيـب دعـوة الـداعِ إذا دعـانِ فليسـتجيبوا لـي وليؤمنـوا )).
وعـن الحسـن قـال: سـأل أصحـاب رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: أيـن ربنـا؟ فأنـزل الله عـزّ وجـلّ: (( وإذا سـألك عبـادي عنـي فإنـي قريـب أجيـب دعـوة الـداعِ إذا دعـانِ )) الآيـة.
وقـال عطـاء إنـه بلغـه لمـا نزلـت (( وقـال ربكـم ادعونـي اسـتجب لكـم )) قـال النـاس: لـو نعلـم أي سـاعة ندعـو؟ فنزلـت: (( وإذا سـألك عبـادي عنـي فإنـي قريـب أجيـب دعـوة الـداعِ إذا دعـانِ )).
وعـن أبـي موسـى الأشـعري قـال: كنـا مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي غـزوة فجعلنـا لا نصعـد شـرفاً، ولا نعلـو شـرفاً، ولا نهبـط واديـاً، إلا رفعنـا أصواتنـا بالتكبيـر. قـال: فدنـا منـا فقـال: {{ يـا أيهـا النـاس أربعـوا علـى أنفسـكم فإنكـم لا تدعـون أصـم ولا غائبـاً إنمـا تدعـون سـميعاً بصيـراً، إن الذيـن تدعـون أقـرب إلـى أحدكـم مـن عنـق راحلتـه، يـا عبـد الله بـن قيـس إلا أعلمـك كلمـة مـن كنـوز الجنـة؟ لا حـول ولا قـوة إلا بالله }}.
وعـن أبـي هريـرة أنـه سـمع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ قـال الله تعالـى أنـا مـع عبـدي مـا ذكرنـي وتحركـت بـي شـفتاه }}.
(قلـت): وهـذا كقولـه تعالـى: (( إن الله مـع الذيـن اتقـوا والذيـن هـم محسـنون )).
وقولـه لموسـى وهـارون عليهمـا السـلام: (( إننـي معكـم أسـمع وأرى )) والمـراد مـن هـذا أنـه تعالـى لا يخيـب دعـاء داع، ولا يشـغله عنـه شـيء، بـل هـو سـميع الدعـاء، ففيـه ترغيـب فـي الدعـاء وأنـه لا يضيـع لديـه تعالـى.
كمـا قـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن الله تعالـى ليسـتحي أن يبسـط العبـد إليـه يديـه يسـأله فيهمـا خيـراً فيردهمـا خائبتيـن }}.
وعـن أبـي سـعيد أن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـا مـن مسـلم يدعـو الله عـزّ وجـلّ بدعـوة ليـس فيهـا إثـم ولا قطيعـة رحـم إلا أعطـاه الله بهـا إحـدى ثـلاث خصـال: إمـا أن يعجـل لـه دعوتـه، وإمـا إن يدخرهـا لـه فـي الأُخـرى، وإمـا أن يصـرف عنـه مـن السـوء مثلهـا }}، قالـوا: إذن نكثـر، قـال: {{ الله أكثـر }}.
وعـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ مـا علـى ظهـر الأرض مـن رجـل مسـلم يدعـو الله عـزّ وجـلّ بدعـوة إلا آتـاه الله إياهـا أو كـفَّّ عنـه مـن السـوء مثلهـا مـا لـم يـدع بإثـم أو قطيعـة رحـم }}.
وروى مسـلم عـن أبـي هريـرة عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ لا يـزال يسـتجاب للعبـد مـا لـم يـدع بإثـم أو قطيعـة رحـم مـا لـم يسـتعجل }}. قيـل: يـا رسـول الله ! ومـا الاسـتعجال؟ قـال: {{ يقـول قـد دعـوت وقـد دعـوت ولـم أر يسـتجاب لـي فيسـتحسـر عنـد ذلـك ويـدع الدعـاء }}.
وقـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ القلـوب أوعيـة وبعضهـا أوعـى مـن بعـض، فـإذا سـألتم الله أيهـا النـاس فاسـألوه وأنتـم موقنـون بالإجابـة، فإنـه لا يسـتجيب لعبـد دعـاه عـن ظهـر قلـب غافـل }}.
وفـي ذكـره تعالـى هـذه الآيـة الباعثـة علـى الدعـاء، متخللـة بيـن أحكـام الصيـام، إرشـاد إلـى الاجتهـاد فـي الدعـاء عنـد إكمـال العـدة، بـل وعنـد كـل فطـر.
كمـا روي عـن عبـد الله بـن عمـرو قـال: قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن للصائـم عنـد فطـره دعـوة مـا تـرد }}.
قـال عبيـد الله بـن أبـي مليكـة: سـمعت عبـد الله بـن عمـرو يقـول إذا أفطـر: {{ اللهـم إنـي أسـألك برحمتـك التـي وسـعت مـل شـيء أن تغفـر لـي }}.
وعـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى لله عليـه وسـلم: {{ ثلاثـة لا تـرد دعوتهـم: الإمـام العـادل، والصائـم حتـى يفطـر، ودعـوة المظلـوم يرفعهـا الله دون الغمـام يـوم القيامـة وتفتـح لهـا أبـواب السـماء ويقـول بعزتـي لأنصرنـك ولـو بعـد حيـن }}.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 158 ، 159 ، 160 ، 161 ، 162 ، 163 ، 164 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
الصفحة الأخيرة
أسـعدني مـرورك... جـزاك الله خيـراً...
******************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( رَبَّنَـا وَابْعَـثْ فِيهِـمْ رَسُـولاً مِنْهُـمْ يَتْلُـو عَلَيْهِـمْ آياتِـكَ وَيُعَلِّمُهُـمُ الكِتَـابَ وَالحِكْمَـةَ وَيُزَكّيهِـمْ إِنَّـكَ أَنْـتَ العَزِيـزُ الحَكِيـمُ )) / 129 /
يقـول تعالـى إخبـاراً عـن تمـام دعـوة إبراهيـم لأهـل الحـرم إن يبعـث الله فيهـم رسـولاً منهـم، أي مـن ذريـة إبراهيـم، وقـد وافقـت هـذه الدعـوة المسـتجابة قـدر الله السـابق فـي تعييـن محمـد صلـوات الله وسـلامه عليـه رسـولاً فـي الأمييـن إليهـم، وإلـى سـائر الأعجمييـن مـن الإنـس والجـن، كمـا قـال أحمـد عـن العربـاض بـن سـارية: قـال، قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إنـي عنـد الله لخاتـم النبييـن وإن آدم لمنجـدل فـي طينتـه، وسـأنبئكم بـأول ذلـك، دعـوة أبـي إبراهيـم، وبشـارة عيسـى بـي، ورؤيـا أمـي التـي رأت، وكذلـك أمهـات النبييـن يريـن }}.
وقـال أبـو أمامـة قلـت: يـا رسـول الله مـا كـان أول بـدء أمـرك؟ قـال: {{ دعـوة أبـي إبراهيـم، وبشـرى عيسـى بـي، ورأت أمـي أنـه خـرج منهـا نـورٌ أضـاءت لـه قصـور الشـام }}.
والمـراد أن أول مـن نـوه بذكـره وشـهره فـي النـاس إبراهيـم عليـه السـلام، ولـم يـزل ذكـره فـي النـاس مذكـوراً مشـهوراً سـائراً، حتـى أفصـح باسـمه خاتـم أنبيـاء بنـي إسـرائيل نسـباً وهـو (عيسـى بـن مريـم) عليـه السـلام حيـث قـام بنـي إسـرائيل خطيبـاً، وقـال: (( إنـي رسـول الله إليكـم مصدقـاً لمـا بيـن يـديَّ مـن التـوراة ومبشـراً برسـول يأتـي مـن بعـدي اسـمه أحمـد )). ولهـذا قـال فـي هـذا الحديـث: دعـوة أبـي إبراهيـم وبشـرى عيسـى بـن مريـم.
وقولـه: {{ ورأت أمـي أنـه خـرج منهـا نـور أضـاءت لـه قصـور الشـام }}.
قيـل كـان منامـاً رأتـه حيـن حملـت بـه وقصَّتـه علـى قومهـا، فشـاع فيهـم واشـتهر بينهـم، وكـان ذلـك توطئـة! وتخصيـصُ الشـام بظهـور نـوره إشـارة إلـى اسـتقرار دينـه ونبوتـه ببـلاد الشـام، ولهـذا تكـون الشـام فـي آخـر الزمـان معقـلاً للإسـلام وأهلـه، وبهـا ينـزل (عيسـى ابـن مريـم) إذا نـزل بدمشـق بالمنـارة الشـرقية البيضـاء منهـا، ولهـذا جـاء فـي الصحيحيـن: {{ لا تـزال طائفـة مـن أمتـي ظاهريـن علـى الحـق لا يضرهـم مـن خذلهـم ولا مـن خالفهـم حتـى يأتـي أمـر الله وهـم كذلـك }}. وفـي صحيـح البخـاري: {{ وهـم بالشـأم }}.
وقولـه: (( ربنـا وابعـث فيهـم رسـولاً منهـم )) يعنـي أمّـة محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، فقيـل لـه: قـد اسـتجيب لـك وهـو كائـن فـي آخـر الزمـان.
وقولـه تعالـى: (( ويعلمهـم الكتـاب )) يعنـي السـنة، قالـه الحسـن وقتـادة.
وقيـل: الفهـم فـي الديـن، ولا منافـاة.
(( ويزكيهـم )) قـال ابـن عبـاس: يعنـي طاعـة الله والإخـلاص.
وقـال محمـد بـن إسـحاق: (( ويعلمهـم الكتـاب والحكمـة )): يعلمهـم الخيـر فيفعلـوه والشـر فيتقـوه، ويخبرهـم برضـا الله عنهـم إذا أطاعـوه ليسـتكثروا مـن طاعتـه ويجتنبـوا مـا يسـخطه مـن معصيتـه.
وقولـه: (( إنـك أنـت العزيـز الحكيـم )) أي العزيـز الـذي لا يعجـزه شـيء وهـو قـادر علـى كـلأ شـيء، الحكيـم فـي أفعالـه وأقوالـه فيضـع الأشـياء فـي محالهـا لعلمـه وحكمتـه وعدلـه.
(( وَمَـنْ يَرْغَـبُ عَـنْ مِلَّـةِ إِبْراهيـمَ إِلا مَـنْ سَـفِهَ نَفْسَـهُ وَلَقَـدِ اصْطَفَينـاهُ فِـي الدُنْيـا وَإِنَّـهُ فِـي الآخِـرَةِ لَمِـنَ الصَّالِحيـنَ (130) إِذْ قَـالَ لَـهُ رَبُّـهُ أَسْـلِمْ قَـالَ أَسْـلَمْتُ لِـرَبِّ العَالَميـنَ (131) وَوَصَّـى بِهـا إِبراهيـمُ بَنيـهِ وَيَعْقُـوبُ يـا بَنِـيًّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَـى لَكُـمُ الدّيـنَ فَـلا تَموتَـنَّ إِلا وَأَنْتُـم مُّسْـلِمونَ )) / 132 /
يقـول تبـارك وتعالـى رداً علـى الكفـار فيمـا ابتدعـوه وأحدثـوه مـن الشـرك بالله، المخالـف لملـة إبراهيـم الخليـل إمـام الحنفـاء، فإنـه جـرَّد توحيـد ربـه تبـارك وتعالـى فلـم يـدع معـه غيـره، ولا أشـرك بـه طرفـة عيـن، وتبـرأ مـن كـل معبـود سـواه، وخالـف ذلـك سـائر قومـه، حتـى تبـرأ مـن أبيـه.
فقـال: (( يـا قـوم إنـي بـريء ممـا تشـركون . إنـي وجهـت وجهـي للـذي فطـر السـماوات والأرض حنيفـاً ومـا أنـا مـن المشـركين )).
وقـال تعالـى: (( وإذ قـال إبراهيـم لأبيـه وقومـه إننـي بـراء ممـا تعبـدون . إلا الـذي فطرنـي فإنـه سـيهدين )).
وقـال تعالـى: (( ومـا كـان اسـتغفار إبراهيـم لأبيـه إلا عـن موعـدة وعدهـا إيـاه فلمـا تبيَّـن لـه أنـه عـدو لله تبـرأ منـه . إن إبراهيـم لأوّاه حليـم )).
وقـال تعالـى: (( إن إبراهيـم كـان أمـة قانتـاً لله حنيفـاً ولـم يـك مـن المشـركين . شـاكراً لأنعمـه اجتبـاه وهـداه إلـى صـراط مسـتقيم )).
ولهـذا وأمثالـه قـال تعالـى: (( ومـن يرغـب عـن ملـة إبراهيـم إلا مـن سـفه نفسـه ))؟ أي ظلـم نفسـه بسـفهه وسـوء تدبيـره، بتركـه الحـق إلـى الضـلال، حيـث خالـف طريـق مـن اصطفـي فـي الدنيـا للهدايـة والرشـاد مـن حداثـة سـنه إلـى أن اتخـذه الله خليـلاً، وهـو فـي الآخـرة مـن الصالحيـن السـعداء، فمـن تـرك طريقـه ومسـلكه وملتـه، واتبـع طـرق الضلالـة والغـيّ فـأي سـفه أعظـم مـن هـذا؟ أم أي ظلـم أكبـر مـن هـذا؟ كمـا قـال تعالـى: (( إن الشـرك لظلـم عظيـم )).
قـال أبـو العاليـة وقتـادة: نزلـت فـي اليهـود أحدثـوا طريقـاً ليسـت مـن عنـد الله، وخالفـوا ملـة إبراهيـم فيمـا أحدثـوه، ويشـهد لصحـة هـذا القـول قـول الله تعالـى: (( مـا كـان إبراهيـم يهوديـاً ولا نصرانيـاً ولكـن كـان حنيفـاً مسـلماً ومـا كـان مـن المشـركين . إن أولـى النـاس بإبراهيـم للذيـن اتبعـوه وهـذا النبـي والذيـن آمنـوا والله ولـي المؤمنيـن )).
وقولـه تعالـى: (( إذ قـال ربـه أسـلم قـال أسـلمت لـرب العالميـن ))
أي أمـره الله بالإخـلاص لـه والاسـتسـلام والانقيـاد فأجـاب إلـى ذلـك شـرعاً وقـدراً.
وقولـه: (( ووصـى بهـا إبراهيـم بنيـه ويعقـوب )) أي وصّـى بهـذه الملـة وهـي الإسـلام لله، أي يعـود الضميـر علـى الكلمـة وهـي قولـه: (( أسـلمت لـرب العالميـن )) لحرصهـم عليهـا ومحبتهـم لهـا حافظـوا عليهـا إلـى حيـن الوفـاة ووصـوا أبناءهـم مـن بعدهـم، كقولـه تعالـى: (( وجعلهـا كلمـة باقيـة علـى عقبـه )).
والظاهـر _ والله أعلـم _ أن إسـحاق ولـد لـه (يعقـوب) فـي حيـاة الخليـل وسـارة، لأن البشـارة وقعـت بهمـا فـي قولـه: (( فبشـرناهم بإسـحاق ومـن وراء إسـحاق يعقـوب )).
وأيضـاً فقـد قـال الله تعالـى فـي سـورة العنكبـوت: (( ووهبنـا لـه إسـحاق ويعقـوب وجعلنـا فـي ذريتـه النبـوة والكتـاب )) الآيـة.
وقـال فـي الآيـة الأخـرى: (( ووهبنـا لـه إسـحاق ويعقـوب نافلـة ))، وهـذا يقتضـي أنـه وجـد فـي حياتـه، وأيضـاً فإنـه بانـي بيـت المقـدس كمـا نطقـت بذلـك الكتـب القديمـة، وثبـت فـي الصحيحيـن مـن حديـث أبـي ذر قلـت: يـا رسـول يـا رسـول الله أي مسـجد وضـع أول؟ قـال: {{ المسـجد الحـرام }}، قلـت: ثـم أي؟ قـال: {{ بيـت المقـدس }} ، قلـت: كـم بينهمـا؟ قـال: {{ أربعـون سـنة }} الحديـث.
فزعـم ابـن حيـان أن بيـن سـليمان الـذي اعتقـد أنـه بانـي بيـت المقـدس _ وإنمـا كـان جـدده بعـد خرابـه وزخرفـه _ وبيـن إبراهيـم أربعيـن سـنة، وهـذا ممـا أنكـر علـى (ابـن حيـان) فـإن المـدة بينهمـا تزيـد علـى ألـوف السـنين والله أعلـم، وأيضـاً فـإن وصيـة يعقـوب لبنيـه سـيأتي ذكرهـا قريبـاً، وهـذا يـدل علـى أنـه ههنـا مـن جملـة الموصيـن.
وقولـه: (( يـا بنـيَّ إن الله اصطفـى لكـم الديـن فـلا تموتـن إلا وأنتـم مسـلمون )) أي أحسـنوا فـي حـال الحيـاة، وألزمـوا هـذا ليرزقكـم الله الوفـاة عليـه، فـإن المـرء يمـوت غالبـاً علـى مـا كـان عليـه، ويبعـث علـى مـا مـات عليـه، وقـد أجـرى الله الكريـم عادتـه بـأن مـن قصـد الخيـر وُفًّـق لـه ويسـر عليـه، ومـن نـوى صالحـاً ثبـت عليـه، وهـذا لا يعـارض مـا جـاء فـي الحديـث الصحيـح: {{ إن الرجـل ليعمـل بعمـل أهـل النـار حتـى مـا يكـون بينـه وبينهـا إلا بـاع أو ذراع فيسـبق عليـه الكتـاب فيعمـل بعمـل أهـل الجنـة فيدخلهـا }}، لأنـه قـد جـاء فـي بعـض روايـات هـذا الحديـث: ليعمـل بعمـل أهـل الجنـة فيمـا يبـدو للنـاس، وبعمـل أهـل النـار فيمـا يبـدو للنـاس وقـد قـال الله تعالـى: (( فأمـا مـن أعطـى واتقـى وصـدق بالحسـنى فسـنيسـره لليسـرى . وأمـا مـن بخـل وكـذب بالحسـنى فسـنيسـره للعسـرى )).
(( أَمْ كُنْتُـمْ شُـهَدَاءَ إِذْ حَضَـرَ يَعْقُـوبَ الَمـوْتُ إِذْ قَـالَ لِبَنيـهِ مَـا تَعْبُـدونَ مِـنْ بَعْـدي قَالـوا نَعْبُـدُ إِلهَـكَ وَإِلـهَ آبـاءِكَ إِبْراهيـمَ وَإِسْـماعيلَ وَإِسْـحاقَ إِلهـاً واحِـداً وَنَحْـنُ لَـهُ مُسْـلِمونَ (133) تِلْـكَ أُمَّـةٌ قَـدْ خَلَـتْ لَهَـا مَـا كَسَـبَتْ وَلَكُـمْ مَـا كَسَـبْتُمْ وَلا تُسْـأَلونَ عَمَّـا كانـوا يَعْمَلُـونَ )) / 134 /
يقـول تعالـى محتجـاً علـى المشـركين مـن العـرب أبنـاء إسـماعيل، وعلـى الكفـار مـن بنـي إسـرائيل بـأن يعقـوب بمـا حضرتـه الوفـاة، وصّـى بنيـه بعبـادة الله وحـده لا شـريك لـه فقـال لهـم: (( تعبـدون مـن بعـدي قالـوا نعبـد إلهـك وإلـه آبـاءك إبراهيـم وإسـماعيل وإسـحاق ))، وهـذا مـن بـاب التغليـب لأن إسـماعيل عمـه.
قـال النحـاس: والعـرب تسـمي العـم أبـاً، نقلـه القرطبـي.
وقـد اسـتدل بهـذه الآيـة الكريمـة مـن جعـل الجـد أبـاً وحجـب بـه الإخـوة _ كمـا هـو قـول الصديـق _ حكـاه البخـاري عنـه.
وقولـه: (( إلهـاً واحـداً )) أي توحـده بالألوهيـة ولا نشـرك بـه شـيئاً بـه شـيئاً غيـره.
(( ونحـن لـه مسـلمون )) أي مطيعـون خاضعـون، كمـا قـال تعالـى: (( ولـه أسـلم مـن فـي السـماوات والأرض طوعـاً وكرهـاً وإليـه يرجعـون )).
والإسـلام هـو ملـة الأنبيـاء قاطبـة وإن تنوعـت شـرائعهم واختلفـت مناهجهـم، كمـا قـال تعالـى: (( ومـا أرسـلنا مـن قبلـك مـن رسـولٍ إلا نوحـي إليـه أنـه لا إلـه إلا أنـا فاعبـدون )).
وقـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ نحـن معشـر الأنبيـاء أولاد عـلات ديننـا واحـد }}.
وقولـه تعالـى: (( تلـك أمـة قـد خلـت )) أي مضـت.
(( لهـا مـا كسـبت ولكـم مـا كسـبتم )) أي أن السـلف الماضييـن مـن آبائكـم مـن الأنبيـاء والصالحيـن لا ينفعكـم انتسـابكم إليهـم إذا لـم تفعلـوا خيـراً يعـود نفعـه عليكـم، فـإن لهـم أعمالهـم التـي عملوهـا ولكـم أعمالكـم (( ولا تسـألون عمـا كانـوا يعلمـون ))، ولهـذا جـاء فـي الأثـر: {{ مـن أبطـأ بـه عملـه لـم يسـرع بـه نسـبه )). قـد أطلـق الأثـر علـى مـا يشـمل الحديـث المرفـوع لأنـه رواه مسـلم مرفوعـاً مـن حديـث طويـل عـن أبـي هريـرة.
(( وَقَالُـوا كُونُـوا هُـوداً أَوْ نَصَـارَى تَهْتَـدُوا قُـلْ بَـل مِلَّـةَ إِبراهيـمَ حَنيفـاً وَمـا كَـانَ مِـنَ المُشْـرِكينَ )) / 135 /
عـن ابـن عبـاس قـال: قـال عبـد الله بـن صوريـا الأعـور لرسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: مـا الهـدى إلا مـا نحـن عليـه فاتبعنـا يـا محمـد تهتـدِ، وقالـت النصـارى مثـل ذلـك، فأنـزل الله عـز وجـلَّ: (( وقالـوا كونـوا هـوداً أو نصـارى تهتـدوا )).
وقولـه: (( قـل بـل ملـة إبراهيـم حنيفـاً )) أي لا نريـد مـا دعوتمونـا إليـه مـن اليهوديـة والنصرانيـة بـل نتبـع (( ملـة إبراهيـم حنيفـاً )) أي مسـتقيماً.
وقـال مجاهـد: مخلصـاً.
وقـال أبـو قلابـة: الحنيـف الـذي يؤمـن بالرسـل كلهـم مـن أولهـم إلـى آخرهـم.
(( قُولُـوا آمَنَّـا بِاللهِ وَمَـا أُنـزِلَ إِلَيْنـا وَمَـا أُنـزِلَ إِلـى إِبراهيـمَ وَإِسْـماعِيلَ وَإِسْـحَاقَ وَيَعْقُـوبَ وَالأَسْـبَاطِ وَمَـا أُوتِـيَ مُوسَـى وَعِيسَـى وَمَـا أُوتِـيَ النَّبِيُّـونَ مِـن رَّبِّهِـمْ لا نُفَـرِّقُ بَيْـنَ أَحَـدٍ مِنْهُـمْ وَنَحْـنُ لَـهُ مُسْـلِمونَ )) / 136 /
أرشـد الله تعالـى عبـاده المؤمنيـن إلـى الإيمـان بمـا أنـزل إليهـم بواسـطة رسـوله محمـد صلـى الله عليـه وسـلم مفصـلاً ومـا أنـزل علـى الأنبيـاء المتقدميـن مجمـلاً، ونـص علـى أعيـان مـن الرسـل، وأجمـل ذكـر بقيـة الأنبيـاء وأن لا يفرقـوا بيـن أحـد منهـم بـل يؤمنـوا بهـم كلهـم ، ولا يكونـوا كمـن قـال الله فيهـم: (( ويريـدون أن يفرقـوا بيـن الله ورسـله ويقولـون نؤمـن ببعـض ونكفـر ببعـض ويريـدون أن يتخـذوا بيـن ذلـك سـبيلاً . أولئـك هـم الكافـرون حقـاً )) الآيـة.
عـن أبـي هريـرة قـال: كـان أهـل الكتـاب يقـرؤون التـوراة بالعبرانيـة ويفسـرونها بالعربيـة لأهـل الإسـلام، فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لا تصدقـوا أهـل الكتـاب ولا تكذبوهـم وقولـوا آمنـا بالله ومـا أنـزل الله )).
وقـال أبـو العاليـة وقتـادة: (الأسـباط) بنـو يعقـوب اثنـا عشـر رجـلاً، ولـد كـل رجـل منهـم أمـة مـن النـاس فسـموا الأسـباط.
وقـال الخليـل بـن أحمـد: الأسـباط فـي بنـي إسـرائيل كالقبائـل فـي بنـي إسـماعيل.
وقـال الزمخشـري: الأسـباط حفـدة يعقـوب ذراري أبنائـه الاثنـي عشـر، وقـد نقلـه الـرازي عنـه وقـرره ولـم يعارضـه.
وقـال البخـاري: الأسـباط قبائـل بنـي إسـرائيل، وهـذا يقتضـي أن المـراد بالأسـباط ههنـا شـعوب بنـي إسـرائيل، ومـا أنـزل الله مـن الوحـي علـى الأنبيـاء الموجوديـن منهـم، كمـا قـال موسـى لهـم: (( اذكـروا نعمـة الله عليكـم إذ جعـل فيكـم أنبيـاء وجعلكـم وملوكـاً )) الآيـة.
وقـال تعالـى: (( وقطعناهـا اثنتـي عشـرة أسـباطاً )).
قـال القرطبـي: وسـموا الأسـباط مـن السـبط وهـو التتابـع فهـم جماعـة.
وقيـل: أصلـه مـن السَـبَط بالتحريـك وهـو الشـجر أي فـي الكثـرة بمنزلـة الشـجر، الواحـدة سـبطة.
قـال الزجـاج: ويبيـن لـك هـذا مـا روي عـن ابـن عبـاس قـال: كـل الأنبيـاء مـن بنـي إسـرائيل إلا عشـرة: (نـوح، وهـود، وصالـح، وشـعيب، وإبراهيـم، وإسـحاق، ويعقـوب، وإسـماعيل، ومحمـد) عليهـم الصـلاة والسـلام.
قـال القرطبـي: والسـبط الجماعـة والقبيلـة الراجعـون إلـى أصـل واحـد.
وقـال قتـادة: أمـر الله المؤمنيـن أن يؤمنـوا بـه ويصدقـوا بكتبـه كلهـا وبرسـله.
(( فَـإِنْ آمَنـوا بِمِثْـلِ مـا آمَنْتُـم بِـهِ فَقَـدِ اهْتَـدَوا وَإِنْ تَوَلَّـوا فإنمـا هـم فـي شـقاق فسـيكفيكهم الله وهـو السـميع العليـم (137) صبغـة الله ومـن أحسـن مـن الله صبغـة ونحـن لـه عابـدون )) / 138 /
يقـول تعالـى: (( فـإن آمنـوا )) يعنـي الكفـار مـن أهـل الكتـاب وغيرهـم.
(( بمثـل مـا آمنتـم )) يـا أيهـا المؤمنـون مـن الإيمـان بجميـع كتـب الله ورسـوله ولـم يفرقـوا بيـن أحـد منهـم.
(( فقـد اهتـدوا )) أي فقـد أصابـوا الحـق وأرشـدوا إليـه.
(( وإن تولـوا )) أي عـن الحـق إلـى الباطـل بعـد قيـام الحجـة عليهـم.
(( فإنمـا هـم فـي شـقاق فسـيكفيكهم الله )) أي فسـينصرهم عليهـم ويظفـرك بهـم.
(( وهـو السـميع العليـم )).
(( صبغـة الله ))
قـال الضحـاك عـن ابـن عبـاس: ديـن الله.
وقـد ورد عـن ابـن عبـاس أن نبـيًّ الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ بنـي إسـرائيل قالـوا يـا رسـول الله هـل يصبـغ ربـك؟ فقـال: اتقـوا الله، فنـاداه ربـه يـا موسـى سـألوك هـل يصبـغ ربـك؟ فقـل نعـم: أنـا أصبـغ الألـوان الأحمـر والأبيـض والأسـود والألـوان كلهـا مـن صبغـي }}، كـذا وقـع فـي روايـة ابـن مردويـه مرفوعـاً وهـو فـي روايـة ابـن أبـي حاتـم موقـوف وهـو أشـبه إن صـح إسـناده، والله أعلـم.
(( قُـلْ أَتُحَاجُّونَنَـا فِـي اللهِ وَهُـوَ رَبُّنَـا وَرَبُّكُـمْ وَلَنَـا أَعْمالُنَـا وَلَكُـمْ أَعْمالُكُـمْ وَنَحْـنُ لَـهُ مُخْلِصـونَ (139) أَمْ تَقولـونَ إِِنَّ إِبْراهيـمَ وَإِسْـماعيلَ وَإِسْـحاقَ وَيَعْقـوبَ وَالأَسْـباطَ كانـوا هُـوداً أَوْ نَصَـارى قُـلْ أَأَنْتُـمْ أَعْلَـمُ أَمِ اللهُ وَمَـنْ أَظْلَـمُ مِمَّـنْ كَتَـمَ شَـهادَةً عِنْـدَهُ مِـنَ اللهِ وَمَـا اللهُ بِغافِـلٍ عَمَّـا تَعْمَلُـونَ (140) تِلْـكَ أُمَّـةٌ قَـدْ خَلَـتْ لَهَـا مَـا كَسَـبَتْ وَلَكُـمْ مَـا كَسَـبْتُمْ وَلا تُسْـأَلونَ عَمَّـا كانـوا يَعْمَلـونَ )) / 141 /
يقـول الله تعالـى مرشـداً نبيـه صلـوات الله وسـلامه عليـه إلـى درء مجادلـة المشـركين:
(( قـل أتحاجوننـا فـي الله )) أي تناظروننـا فـي توحيـد الله والإخـلاص لـه، والانقيـاد، واتبـاع أوامـره، وتـرك زواجـره.
(( وهـو ربنـا وربكـم )) المتصـرف فينـا وفيكـم، المسـتحق لإخـلاص الإلهيـة لـه وحـده لا شـريك لـه.
(( ولنـا أعمالنـا ولكـم أعمالكـم )) أي نحـن بـراء منكـم وممـا تعبـدون وأنتـم بـراء منـا كمـا قـال فـي الآيـة الأخـرى: (( فـإن كذبـوك فقـل لـي عملـي ولكـم عملكـم، أنتـم بريئـون ممـا أعمـل وأنـا بـريء ممـا تعملـون )).
وقـال تعالـى: (( فـإن حاجـوك فقـل أسـلمت وجهـي لله ومـن اتبعنـي )) الآيـة.
وقـال تعالـى إخبـاراً عـن إبراهيـم: (( وحاجّـه قومـه قـال أتحاجونـي فـي الله )) الآيـة.
وقـال تعالـى: (( ألـم تـر إلـى الـذي حـاج إبراهيـم فـي ربـه )) الآيـة.
وقـال فـي هـذه الآيـة الكريمـة: (( ولنـا أعمالنـا ولكـم أعمالكـم ونحـن لـه مخلصـون )): أي نحـن بـراء منكـم كمـا أنتـم بـراء منـا، ونحـن لـه مخلصـون أي فـي العبـادة والتوجـه.
ثـم أنكـر تعالـى عليهـم فـي دعواهـم أن إبراهيـم ومـن ذكـر بعـده مـن الأنبيـاء والأسـباط كانـوا علـى ملتهـم، إمـا اليهوديـة وأمـا النصرانيـة فقـال: (( مـا كـان إبراهيـم يهوديـاً ولا نصرانيـاً ولكـن كـان حنيفـاً مسـلماً ومـا كـان مـن المشـركين )).
وقولـه: (( ومـن أظلـم ممـن كتـم شـهادة عنـده مـن الله ))
قـال الحسـن البصـري: كانـوا يقـرؤون فـي كتـاب الله الـذي أتاهـم إن الديـن الإسـلام، وإن محمـداً رسـول الله، وإن إبراهيـم وإسـماعيل وإسـحاق ويعقـوب والأسـباط كانـوا بـراء مـن اليهوديـة والنصرانيـة، فشـهدوا لله بذلـك وأقـروا علـى أنفسـهم لله، فكتمـوا شـهادة الله عندهـم مـن ذلـك.
وقولـه: (( ومـا الله بغافـل عمـا تعلمـون )) تهديـد ووعيـد شـديد: أي أن علمـه محيـط بعلمكـم وسـيجزيكم عليـه.
ثـم قـال تعالـى: (( تلـك أمـة قـد خلـت )) أي قـد مضـت.
(( لهـا مـا كسـبت ولكـم مـا كسـبتم )) أي لهـم أعمالهـم ولكـم أعمالكـم.
(( ولا تسـألون عمـا كانـوا يعملـون )) وليـس يغنـي عنكـم انتسـابكم إليهـم مـن غيـر متابعـة منكـم لهـم، ولا تغتـروا بمجـرد النسـبة إليهـم حتـى تكونـوا مثلهـم لأوامـر الله، واتبـاع رسـله الذيـن بعثـوا مبشـرين ومنذريـن، فإنـه مـن كفـر بنبـي واحـد فقـد كفـر بسـائر الرسـل، ولاسـيما بسـيد الأنبيـاء وخاتـم المرسـلين، ورسـول رب العالميـن إلـى جميـع الإنـس والجـن مـن المكلفيـن صـلوات الله وسـلامه عليـه وعلـى سـائر أنبيـاء الله أجمعيـن.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 129 ، 130 ، 131 ، 132 ، 133 ، 134 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************