بســم الله الرحمــن الرحيــم
(( الشَّـهْرُ الحَـرَامُ بِالشَّـهْرِ الحَـرَامِ وَالحُرُمَـاتُ قِصَـاصٌ فَمَـنِ اعْتَـدَى عَلَيْكُـمْ فَاعْتَـدُوا عَلَيْـهِ بِمِثْـلِ مَـا اعْتَـدَى عَلَيْكُـمْ وَاتَّقُـوا اللهَ وَاعْلَمُـوا أَنَّ اللهَ مَـعَ المُتَّقِيـنَ )) / 194 /
قـال عكرمـة عـن ابـن عبـاس والضحَّـاك والسـدي وقتـادة ومقسـم والربيـع بـن أنـس وعطـاء وغيرهـم: لمـا سـار رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم معتمـراً فـي سـنة سـت مـن الهجـرة وحبسـه المشـركون عـن الدخـول والوصـول إلـى البيـت وصـدوه بمـن معـه مـن المسـلمين فـي ذي القعـدة وهـو شـهر حـرام حتـى قاضاهـم علـى الدخـول مـن قابـل فدخلهـا فـي السـنة الآتيـة هـو ومـن كـان مـن المسـلمين وأقصـه الله منهـم فنزلـت فـي ذلـك هـذه الآيـة (( الشـهر الحـرام بالشـهر الحـرام والحرمـات قصـاص )).
وقـال الإمـام أحمـد: حدثنـا إسـحق بـن عيسـى حدثنـا ليـث بـن سـعد عـن أبـي الزبيـر عـن جابـر بـن عبـد الله قـال: لـم يكـن رسـول الله صلـى الله عليـه وآلـه وسـلم يغـزو فـي الشـهر الحـرام إلا أن يغـزى وتغـزوا فـإذا حضـره أقـام حتـى ينسـلخ. هـذا إسـناد صحيـح.
ولهـذا لمـا بلـغ النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وهـو مخيـم بالحديبيـة أن عثمـان قتـل وكـان قـد بعثـه فـي رسـالة إلـى المشـركين بايـع أصحابـه وكانـوا ألفـاً وأربعمائـة تحـت الشـجرة علـى قتـال المشـركين فلمـا بلغـه أن عثمـان لـم يقتـل كـف عـن ذلـك وجنـح إلـى المسـالمة والمصالحـة، فكـان مـا كـان.
وكذلـك لمـا فـرغ مـن قتـال هـوازن يـوم حنيـن وتحصـن فلهـم بالطائـف عـدل إليهـا فحاصرهـا ودخـل ذو القعـدة وهـو محاصـر لهـا بالمنجنيـق واسـتمر عليهـا إلـى كمـال أربعيـن يومـا،ً كمـا ثبـت فـي الصحيحيـن عـن أنـس، فلمـا كثـر القتـل فـي أصحابـه انصـرف عنهـا ولـم تفتـح ثـم كـر راجعـاً إلـى مكـة واعتمـر مـن الجعرانـة حيـث قسـم غنائـم حنيـن، وكانـت عمرتـه هـذه فـي ذي القعـدة أيضـاً عـام ثمـان صلـوات الله وسـلامه عليـه.
وقولـه: (( فمـن اعتـدى عليكـم فاعتـدوا عليـه بمثـل مـا اعتـدى عليكـم )) أمـر بالعـدل حتـى فـي المشـركين.
كمـا قـال: (( وإن عاقبتـم فعاقبـوا بمثـل مـا عوقبتـم بـه )).
وقـال: (( وجـزاء سـيئة سـيئة مثلهـا )).
وروى علـي بـن أبـي طلحـة عـن ابـن عبـاس أن قولـه (( فمـن اعتـدى عليكـم فاعتـدوا عليـه بمثـل مـا اعتـدى عليكـم )). نزلـت بمكـة حيـث لا شـوكة ولا جهـاد ثـم نسـخ بآيـة القتـال بالمدينـة.
وقـد رد هـذا القـول ابـن جريـر وقـال: بـل الآيـة مدنيـة بعـد عمـرة القضيـة وعـزا ذلـك إلـى مجاهـد رحمـه الله.
وقولـه: (( واتقـوا الله واعلمـوا أن الله مـع المتقيـن )) أمـر لهـم بطاعـة الله وتقـواه وإخبـار بأنـه تعالـى مـع الذيـن اتقـوا بالنصـر والتأييـد فـي الدنيـا والآخـرة.
(( وَأَنْفِقُـوا فِـي سَـبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُـوا بِأَيديكُـمْ إِلـى التَّهْلُكَـةِ وَأَحْسِـنُوا إِنَّ اللهَ يُحِـبُ المُحْسِـنينَ )) / 195 /
قـال البخـاري: حدثنـا إسـحق أخبرنـا النضـر أخبرنـا شـعبة عـن سـليمان: سـمعت أبـا وائـل عـن حذيفـة (( وأنفقـوا فـي سـبيل الله ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )). قـال نزلـت فـي النفقـة ورواه ابـن أبـي حاتـم عـن الحسـن بـن محمـد بـن الصبـاح عـن أبـي معاويـة عـن الأعمـش بـه مثلـه قـال. وروي عـن ابـن عبـاس ومجاهـد وعكرمـة وسـعيد بـن جبيـر وعطـاء والضحـاك والحسـن وقتـادة والسـدي ومقاتـل بـن حيـان نحـو ذلـك.
وقـال الليـث بـن سـعد عـن يزيـد بـن أبـي حبيـب عـن أسـلم أبـي عمـران قـال: حمـل رجـل مـن المهاجريـن بالقسـطنطينية علـى صـف العـدو حتـى خرقـه ومعنـا أبـو أيـوب الأنصـاري فقـال نـاس: ألقـى بيـده إلـى التهلكـة. فقـال أبـو أيـوب: نحـن أعلـم بهـذه الآيـة إنمـا نزلـت فينـا: صحبنـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وشـهدنا معـه المشـاهد ونصرنـاه فلمـا فشـا الإسـلام وظهـر اجتمعنـا معشـر الأنصـار تحببـاً فقلنـا قـد أكرمنـا الله بصحبـة نبيـه صلـى الله عليـه وسـلم ونصـره حتـى فشـا الإسـلام وكثـر أهلـه وكنـا قـد آثرنـاه علـى الأهليـن والأمـوال والأولاد وقـد وضعـت الحـرب أوزارهـا فنرجـع إلـى أهلينـا وأولادنـا فنقيـم فيهمـا فنـزل فينـا (( وأنفقـوا فـي سـبيل الله ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )) فكانـت التهلكـة فـي الإقامـة فـي الأهـل والمـال وتـرك الجهـاد. رواه أبـو داود والترمـذي والنسـائي وعبـد بـن حميـد فـي تفسـيره وابـن أبـي حاتـم وابـن جريـر وابـن مردويـه والحافـظ أبـو يعلـى في مسـنده وابـن حبـان فـي صحيحـه والحاكـم فـي مسـتدركه، كلهـم مـن حديـث يزيـد بـن أبـي حبيـب بـه. وقـال الترمـذي حسـن صحيـح غريـب، وقـال الحاكـم علـى شـرط الشـيخين ولـم يخرجـاه.
ولفـظ أبـي داود عـن أسـلم أبـي عمـران كنـا بالقسـطنطينية وعلـى أهـل مصـر عقبـة بـن عامـر وعلـى أهـل الشـام رجـل يزيـد بـن فضالـة بـن عبيـد فخـرج مـن المدينـة صـف عظيـم مـن الـروم فصففنـا لهـم فحمـل رجـل مـن المسـلمين علـى الـروم حتـى دخـل فيهـم ثـم خـرج إلينـا فصـاح النـاس إليـه فقالـوا: سـبحان الله ألقـى بيـده إلـى التهلكـة فقـال أبـو أيـوب: يـا أيهـا النـاس إنكـم لتتأولـون هـذه الآيـة علـى غيـر التأويـل، وإنمـا نزلـت فينـا معشـر الأنصـار، إنـا لمـا أعـز الله دينـه وكثـر ناصـروه قلنـا فيمـا بيننـا: لـو أقبلنـا علـى أموالنـا فأصلحناهـا فأنـزل الله هـذه الآيـة.
وقـال أبـو بكـر بـن عيـاش عـن أبـي إسـحق السـبيعي قـال: قـال رجـل للبـراء بـن عـازب إن حملـت علـى العـدو وحـدي فقتلونـي أكنـت ألقيـت بيـدي إلـى التهلكـة؟ قـال: لا. قـال الله لرسـوله (( فقاتـل فـي سـبيل الله لا تكلـف إلا نفسـك )) إنمـا هـذه فـي النفقـة رواه ابـن مردويـه وأخرجـه الحاكـم فـي مسـتدركه مـن حديـث إسـرائيل عـن أبـي إسـحق، وقـال: صحيـح علـى شـرط الشـيخين ولـم يخرجـاه. ورواه الترمـذي وقيـس بـن الربيـع عـن أبـي إسـحق عـن البـراء فذكـره وقـال بعـد قولـه (( لا تكلـف إلا نفسـك )) ولكـن التهلكـة أن يذنـب الرجـل الذنـب فيلقـي بيـده إلـى التهلكـة ولا يتـوب.
وقـال ابـن أبـي حاتـم: حدثنـا أبـي حدثنـا أبـو صالـح كاتـب الليـث حدثنـي الليـث حدثنـا عبـد الرحمـن بـن خالـد بـن مسـافر عـن ابـن شـهاب عـن أبـي بكـر بـن نميـر بـن عبـد الرحمـن بـن الحـارث بـن هشـام أن عبـد الرحمـن الأسـود بـن عبـد يغـوث أخبـره أنهـم حاصـروا دمشـق فانطلـق رجـل مـن أزد شـنوءة فأسـرع إلـى العـدو وحـده ليسـتقبل فعـاب ذلـك عليـه المسـلمون ورفعـوا حديثـه إلـى عمـرو بـن العـاص فأرسـل إليـه عمـرو فـرده وقـال عمـرو: قـال الله (( ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )).
عـن ابـن عبـاس فـي قولـه تعالـى: (( وأنفقـوا فـي سـبيل الله ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )) قـال: ليـس ذلـك فـي القتـال إنمـا هـو فـي النفقـة أن تمسـك بيـدك عـن النفقـة فـي سـبيل الله، ولا تلـق بيـدك إلـى التهلكـة.
قـال حمـاد بـن سـلمة عـن داود عـن الشـعبي عـن الضحـاك بـن أبـي جبيـر قـال: كانـت الأنصـار يتصدقـون وينفقـون مـن أموالهـم فأصابتهـم سـنة فأمسـكوا عـن النفقـة فـي سـبيل الله فنزلـت (( ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )).
وقـال الحسـن البصـري: (( ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )) قـال: هـو البخـل.
وقـال سـماك بـن حـرب عـن النعمـان بـن بشـير فـي قولـه: (( ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )) أن يذنـب الرجـل الذنـب فيقـول لا يغفـر لـي فأنـزل الله: (( ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة وأحسـنوا إن الله يحـب المحسـنين )) رواه ابـن مردويـه.
وقـال ابـن أبـي حاتـم: وروي عـن عبيـدة السـلماني والحسـن وابـن سـيرين وأبـي قلابـة نحـو ذلـك يعنـي نحـو قـول النعمـان بـن بشـير إنهـا فـي الرجـل يذنـب الذنـب فيعتقـد أنـه لا يغفـر لـه فيلقـي بيـده إلـى التهلكـة أي يسـتكثر مـن الذنـوب فيهلـك.
ولهـذا روى علـي بـن أبـي طلحـة عـن ابـن عبـاس (التهلكـة) عـذاب الله.
وقـال ابـن أبـي حاتـم وابـن جريـر جميعـاً حدثنـا يونـس حدثنـا ابـن وهـب أخبرنـي أبـو صخـر عـن القرظـي (محمـد بـن كعـب) أنـه كـان يقـول فـي هـذه الآيـة: (( ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )) قـال: كـان القـوم فـي سـبيل الله فيتـزود الرجـل فكـان أفضـل زاداً مـن الآخـر أنفـق البائـس مـن زاده حتـى لا يبقـى مـن زاده شـيء أحـب أن يواسـي صاحبـه فأنـزل الله: (( وأنفقـوا فـي سـبيل الله ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )).
وبـه قـال ابـن وهـب أيضـاً: أخبرنـي عبـد الله بـن عيـاش عـن زيـد بـن أسـلم فـي قـول الله: (( وأنفقـوا فـي سـبيل الله ولا تلقـوا بأيديكـم إلـى التهلكـة )) وذلـك أن رجـالاً كانـوا يخرجـون فـي بعـوث يبعثهـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بغيـر نفقـة فإمـا أن يقطـع بهـم وإمـا كانـوا عيـالاً فأمرهـم الله أن يسـتنفقوا ممـا رزقهـم الله ولا يلقـوا بأيديهـم إلـى التهلكـة والتهلكـة أن يهلـك رجـال مـن الجـوع والعطـش أو مـن المشـي. وقـال لمـن بيـده فضـل: (( وأحسـنوا إن الله يحـب المحسـنين )).
ومضمـون الآيـة الأمـر بالإنفـاق فـي سـبيل الله فـي سـائر وجـوه القربـات ووجـوه الطاعـات وخاصـة صـرف الأمـوال فـي قتـال الأعـداء وبذلهـا فيمـا يقـوى بـه المسـلمون علـى عدوهـم والإخبـار عـن تـرك فعـل ذلـك بأنـه هـلاك ودمـار لمـن لزمـه واعتـاده ثـم عطـف بالأمـر بالإحسـان وهـو أعلـى مقامـات الطاعـة فقـال: (( وأحسـنوا إن الله يحـب المحسـنين )).
(( وَأَتِمُّـوا الحَـجَّ وَالعُمْـرَةَ للهِ فَـإِنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَـا اسْـتَيْسَـرَ مِـنَ الهَـدْيِ وَلا تَحلِقُـوا رُؤُوسَـكُمْ حَتَّـى يَبْلُـغَ الهَـدْيُ مَحِلَّـهُ فَمَـنْ كَـانَ مِنْكُـمْ مَريضَـاً أَو بِـهِ أذىً مِـنْ رَأْسِـهِ فَفِدْيَـةٌ مِـنْ صِيـامٍ أَو صَدَقَـةٍ أَو نُسُـكٍ فَـإِذَا أَمِنْتُـمْ فَمَـن تَمَتَّـعَ بِالعُمْـرَةِ إِلـى الحَـجِّ فَمَـا اسْـتَيْسَـرَ مِـنّ الهَـدْيِ فَمَـنْ لَـمْ يَجِـدْ فَصيـامُ ثَلاثَـةِ أَيَّـامٍ فِـي الحَـجِّ وَسَـبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُـم تِلْـكَ عَشَـرَةٌ كَامِلَـةٌ ذَلِـكَ لِمَـنْ لَـمْ يَكُـنْ أَهْلُـهُ حَاضِـرِي المَسْـجِدِ الحّـرَامِ وَاتَّقُـوا اللهَ وَاعْلَمـوا أَنَّ اللهَ شَـديدُ العِقَـابِ )) / 196 /
لمـا ذكـر تعالـى أحكـام الصيـام وعطـف بذكـر الجهـاد شـرع فـي بيـان المناسـك فأمـر بإتمـام الحـج والعمـرة وظاهـر السـياق إكمـال أفعالهمـا بعـد الشـروع فيهمـا، ولهـذا قـال بعـده: (( فـإن أحصرتـم )) أي صددتـم عـن الوصـول إلـى البيـت ومنعتـم مـن إتمامهمـا، ولهـذا اتفـق العلمـاء علـى أن الشـروع فـي الحـج والعمـرة ملـزم سـواء قيـل بوجـوب العمـرة أو باسـتحبابها.
وقـال شـعبة عـن عمـرو بـن مـرة عـن عبـد الله بـن سـلمة عـن علـي أنـه قـال فـي هـذه الآيـة (( وأتمـوا الحـج والعمـرة لله )) قـال: أن تحـرم مـن دويـرة أهلـك.
وكـذا قـال ابـن عبـاس وسـعيد بـن جبيـر وطـاوس وعـن سـفيان الثـوري أنـه قـال فـي هـذه الآيـة: إتمامهمـا أن تحـرم مـن أهلـك لا تريـد إلا الحـج والعمـرة وتهـل مـن الميقـات ليـس أن تخـرج لتجـارة ولا لحاجـة حتـى إذا كنـت قريبـاً مـن مكـة قلـت لـو حججـت أو اعتمـرت وذلـك يجـزئ ولكـن التمـام أن تخـرج لـه ولا تخـرج لغيـره.
وقـال مكحـول: إتمامهمـا إنشـاؤهما جميعـاً مـن الميقـات.
وقـال عبـد الـرزاق: أخبرنـا معمـر عـن الزهـري قـال: بلغنـا أن عمـر قـال فـي قـول الله (( وأتمـوا الحـج والعمـرة لله )) مـن تمامهمـا أن تفـرد كـل واحـد منهمـا مـن الآخـر وأن تعتمـر فـي غيـر أشـهر الحـج إن الله تعالـى يقـول: (( الحـج أشـهر معلومـات )).
وقـال هشـام عـن ابـن عـون: سـمعت القاسـم بـن محمـد يقـول: إن العمـرة فـي أشـهر الحـج ليسـت بتمامـه فقيـل لـه فالعمـرة فـي المحـرم؟ قـال: كانـوا يرونهـا تامـة.
وكـذا روي عـن قتـادة بـن دعامـة رحمهمـا الله وهـذا القـول فيـه نظـر لأنـه قـد ثبـت أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم اعتمـر أربـع عمـر كلهـا فـي ذي القعـدة ( عمـرة الحديبيـة ) فـي ذي القعـدة سـنة سـت و ( عمـرة القضـاء ) فـي ذي القعـدة سـنة سـبع و ( عمـرة الجعرانـة ) فـي ذي القعـدة سـنة ثمـان و ( عمرتـه التـي مـع حجتـه ) أحـرم بهمـا معـاً فـي ذي القعـدة سـنة عشـر، ومـا اعتمـر فـي غيـر ذلـك بعـد هجرتـه، ولكـن قـال لأم هانـئ: {{ عمـرة فـي رمضـان تعـدل حجـة معـي }} ، ومـا ذاك إلا لأنهـا قـد عزمـت علـى الحـج معـه عليـه السـلام فاعتاقـت عـن ذلـك بسـبب الطهـر، كمـا هـو مبسـوط فـي الحديـث عنـد البخـاري، ونـص سـعيد بـن جبيـر علـى أنـه مـن خصائصهـا. والله أعلـم.
وقـال السـدي فـي قولـه: (( وأتمـوا الحـج والعمـرة لله )) أي أقيمـوا الحـج والعمـرة وقـال علـي بـن أبـي طلحـة عـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( وأتمـوا الحـج والعمـرة لله )) يقـول: مـن أحـرم بحـج أو بعمـرة فليـس لـه أن يحـل حتـى يتمهمـا، تمـام الحـج يـوم النحـر إذا رمـى جمـرة العقبـة وطـاف بالبيـت وبالصفـا والمـروة فقـد حـل.
وقـال قتـادة عـن زرارة عـن ابـن عبـاس أنـه قـال: الحـج عرفـة والعمـرة الطـواف. وكـذا روى الأعمـش عـن إبراهيـم عـن علقمـة فـي قولـه: (( وأتمـوا الحـج والعمـرة لله )) قـال: هـي قـراءة عبـد الله وأتمـوا الحـج والعمـرة إلـى البيـت لا يجـاوز بالعمـرة البيـت.
قـال إبراهيـم: فذكـرت ذلـك لسـعيد بـن جبيـر فقـال: كذلـك قـال ابـن عبـاس.
وقـال سـفيان عـن الأعمـش عـن إبراهيـم عـن علقمـة أنـه قـال: وأقيمـوا الحـج والعمـرة إلـى البيـت.
وكـذا روى الثـوري أيضـاً عـن إبراهيـم عـن منصـور عـن إبراهيـم أنـه قـرأ: وأقيمـوا الحـج والعمـرة إلـى البيـت.
وقـرأ الشـعبي: (( وأتمـوا الحـج والعمـرة لله )) برفـع العمـرة وقـال: ليسـت بواجبـة. وروي عنـه خـلاف ذلـك.
وقـد وردت أحاديـث كثيـرة مـن طـرق متعـددة، عـن أنـس وجماعـة مـن الصحابـة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم جمـع فـي إحرامـه بحـج وعمـرة.
وثبـت عنـه فـي الصحيـح أنـه قـال لأصحابـه: {{ مـن كـان معـه هـدي فليهـل بحـج وعمـرة }}.
وقـال فـي الصحيـح أيضـاً: {{ دخلـت العمـرة فـي الحـج إلـى يـوم القيامـة }}.
وقولـه تعالـى: (( فـإن أحصرتـم فمـا اسـتيسـر مـن الهـدي )) ذكـروا أن هـذه الآيـة نزلـت فـي سـنة سـت أي عـام الحديبيـة حيـن حـال المشـركون بيـن رسـول الله صلـى الله عليـه وآلـه وسـلم وبيـن الوصـول إلـى البيـت، وأنـزل الله فـي ذلـك سـورة الفتـح بكمالهـا، وأنـزل لهـم رخصـة أن يذبحـوا مـا معهـم مـن الهـدي وكـان سـبعين بدنـة، وأن يحلقـوا رءوسـهم وأن يتحللـوا مـن إحرامهـم، فعنـد ذلـك أمرهـم عليـه السـلام بـأن يحلقـوا رءوسـهم وأن يتحللـوا فلـم يفعلـوا انتظـاراً للنسـخ حتـى خـرج فحلـق رأسـه ففعـل النـاس وكـان منهـم مـن قصَّـر رأسـه ولـم يحلقـه فلذلـك قـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ رحـم الله المحلقيـن }} قالـوا: والمقصريـن يـا رسـول الله؟ فقـال: فـي الثالثـة: {{ والمقصريـن }} ، وقـد كانـوا اشـتركوا فـي هديهـم ذلـك كـل سـبعة فـي بدنـة وكانـوا ألفـاً وأربعمائـة، وكـان منزلهـم بالحديبيـة خـارج الحـرم وقيـل: بـل كانـوا علـى طـرف الحـرم. فـالله أعلـم.
وقـد اختلـف العلمـاء _ هـل يختـص الحصـر بالعـدو فـلا يتحلـل إلا مـن حصـره عـدو لا مـرض ولا غيـره _ علـى قوليـن:
عـن ابـن عبـاس أنـه قـال: لا حصـر إلا حصـر العـدو فأمـا مـن أصابـه مـرض أو وجـع أو ضـلال فليـس عليـه شـيء إنمـا قـال الله تعالـى: (( فـإذا أمنتـم )) فليـس الأمـن حصـراً.
والقـول الثانـي: أن الحصـر أعـم مـن أن يكـون بعـدو أو مـرض أو ضـلال وهـو التوهـان عـن الطريـق لحديـث: {{ مـن كسـر أو وجـع أو عـرج فقـد حـلَّ وعليـه حجـة أخـرى }}.
وروي عـن ابـن مسـعود وابـن الزبيـر وعلقمـة وسـعيد بـن المسـيب وعـروة بـن الزبيـر أنهـم قالـوا: الإحصـار مـن عـدو أو مـرض أو كسـر.
وثبـت فـي الصحيحيـن عـن عائشـة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم دخـل علـى ضباعـة بنـت الزبيـر بـن عبـد المطلـب فقالـت: يا رسـول الله إنـي أريـد الحـج وأنـا شـاكية، فقـال: {{ حجـي واشـترطي أن محلـي حيث حبسـتني }}.
وقولـه تعالـى: (( فمـا اسـتيسـر مـن الهـدي )).
عـن علـي بـن أبـي طالـب أنـه كـان يقـول: (( فمـا اسـتيسـر مـن الهـدي )) شـاة، والهـدي مـن الأزواج الثمانيـة مـن (الإبـل، والبقـر، والمعـز، والضـأن). وهـو مذهـب الأئمـة الأربعـة.
وروي عـن عائشـة وابـن عمـر أنهمـا كانـا لا يريـان مـا اسـتيسـر مـن الهـدي إلا مـن الإبـل والبقـر. وروي مثلـه عـن سـعيد بـن جبيـر.
(قلت): والظاهـر أن مسـتند هـؤلاء فيمـا ذهبـوا إليـه قصـة الحديبيـة، فإنـه لـم ينقـل عـن أحـد منهـم أنـه ذبـح فـي تحللـه ذلـك شـاة وإنمـا ذبحـوا الإبـل والبقـر.
ففـي الصحيحيـن عـن جابـر قـال: أمرنـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أن نشـترك فـي الإبـل والبقـر كـل سـبعة منـا فـي بقـرة.
وعـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( فمـا اسـتيسـر مـن الهـدي )) قـال: بقـدر يسـارته.
وقـال العوفـي عـن ابـن عبـاس: إن كـان موسـراً فمـن الإبـل، وإلا فمـن البقـر، وإلا فمـن الغنـم.
والدليـل علـى صحـة قـول الجمهـور فيمـا ذهبـوا إليـه مـن إجـزاء ذبـح الشـاة فـي الإحصـار أن الله أوجـب ذبـح مـا اسـتيسـر مـن الهـدي أي مهمـا تيسـر ممـا يسـمى هديـاً، والهـديُ مـن بهيمـة الأنعـام وهـي (الإبـل والبقـر والغنـم). كمـا قالـه الحبـر البحـر ترجمـان القـرآن وابـن عـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
وقـد ثبـت فـي الصحيحيـن عـن عائشـة أم المؤمنيـن رضـي الله عنهـا قالـت: أهـدى النبي صلـى الله عليـه وسـلم مـرة غنمـاً.
وقولـه تعالـى: (( ولا تحلقـوا رءوسـكم حتـى يبلـغ الهـدي محلـه )) معطـوف علـى قولـه: (( وأتمـوا الحـج والعمـرة لله )) ، وليـس معطوفـاً علـى قولـه: (( فـإن أحصرتـم فمـا اسـتيسـر مـن الهـدي )).
كمـا زعمـه ابـن جريـر رحمـه الله، لأن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وأصحابـه عـام الحديبيـة لمـا حصرهـم كفـار قريـش عـن الدخـول إلـى الحـرم، حلقـوا وذبحـوا هديهـم خـارج الحـرم فأمـا فـي حـال الأمـن والوصـول إلـى الحـرم فـلا يجـوز الحلـق (( حتـى يبلـغ الهـدي محلـه )) ويفـرغ الناسـك مـن أفعـال الحـج والعمـرة إن كـان قارنـاً، أو مـن فعـل أحدهمـا إن كـان مـفرداً أو متمتعـاً.
كمـا ثبـت فـي الصحيحيـن عـن حفصـة أنهـا قالـت: يـا رسـول الله مـا شـأن النـاس حلـوا مـن العمـرة ولـم تحـل أنـت مـن عمرتـك؟ فقـال: {{ إنـي لبـدت رأسـي وقلـدت هديـي فـلا أحـل حتـى أنحـر }}.
وقولـه تعالـى: (( فمـن كـان منكـم مريضـاً أو بـه أذى مـن رأسـه ففديـة مـن صيـام أو صدقـة أو نسـك )).
روى البخـاري: عـن عبـد الله بـن معقـل قـال: قعـدت إلـى كعـب بـن عجـرة فـي هـذا المسـجد، يعنـي مسـجد الكوفـة، فسـألته عـن فديـة مـن صيـام فقـال: حُملـتُ إلـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم والقمـلُ يتناثـر علـى وجهـي فقـال: {{ مـا كنـت أرى أن الجهـد قـد بلـغ بـك هـذا أمـا تجـد شـاة }} قلـت: لا. قـال: {{ صـم ثلاثـة أيـام أو أطعـم سـتة مسـاكين لكـل مسـكين نصـف صـاع مـن طعـام واحلـق رأسـك }} ، فنزلـت فـي خاصـة وهـي لكـم عامـة.
وعـن كعـب بـن عجـرة قـال: أتـى علـيَّ النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وأنـا أوقـد تحـت قـدر، والقمـلُ يتناثـر علـى وجهـي أو قـال حاجبـي فقـال: {{ يؤذيـك هـوام رأسـك؟ }} قلـتُ: نعـم. قـال: {{ فاحلقـه وصـم ثلاثـة أيـام أو أطعـم سـتة مسـاكين أو انسـك نسـيكة }} ، قـال أيـوب: لا أدري بأيتهـن بـدأ.
وروى مجاهـد عـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( ففديـة مـن صيـام أو صدقـة أو نسـك )).
قـال: إذا كـان (أو) فأيـة أخـذت أجـزأ عنـك.
وروي عـن مجاهـد وعكرمـة وعطـاء وطـاوس نحـو ذلـك.
(قلـت): وهـو مذهـب الأئمـة الأربعـة وعامـة العلمـاء، أنـه يخيـر فـي هـذا المقـام، إن شـاء صـام، وإن شـاء تصـدق بفـرق، وهـو ثلاثـة آصـع لكـل مسـكين نصـف صـاع وهـو مـدان، وإن شـاء ذبـح شـاة وتصـدق بهـا علـى الفقـراء، أيَّ ذلـك فعـل أجـزأه، ولمـا كـان لفـظ القـرآن فـي بيـان الرخصـة بجـاء الأسـهل فالأسـهل (( ففديـة مـن صيـام أو صدقـة أو نسـك )).
ولمـا أمـر النبـي صلـى الله عليـه وسـلم كعـب بـن عجـرة بذلـك أرشـده إلـى الأفضـل فالأفضـل فقـال: {{ انسـك شـاة أو أطعـم سـتة مسـاكين أو صـم ثلاثـة أيـام }}.
وقـال ابـن جريـر عـن الحسـن فـي قولـه: (( ففديـة مـن صيـام أو صدقـة أو نسـك )) قـال: إذا كـان بالمحـرم أذى مـن رأسـه حلـق وافتـدى بـأي هـذه الثلاثـة شـاء، والصيـام عشـرة أيـام، والصدقـة علـى عشـرة مسـاكين كـل مسـكين مكوكيـن مكوكـاً مـن تمـر ومكوكـاً مـن بـر والنسـك شـاة.
وقـال الحسـن وعكرمـة فـي قولـه: (( ففديـة مـن صيـام أو صدقـة أو نسـك )) قـال: إطعـام عشـرة مسـاكين.
وهـذان القـولان مـن سـعيد بـن جبيـر وعلقمـة والحسـن وعكرمـة قـولان غريبـان فيهمـا نظـر، لأنـه قـد ثبتـت السـنّة فـي حديـث (كعـب بـن عجـرة) الصيـام ثلاثـة أيـام لا سـتة أو إطعـام سـتة مسـاكين أو نسـك شـاة، وإن ذلـك علـى التخييـر كمـا دل عليـه سـياق القـرآن، وأمـا هـذا الترتيـب فإنمـا هـو معـروف فـي قتـل الصيـد كمـا هـو نـص القـرآن وعليـه أجمـع الفقهـاء هنـاك بخـلاف هـذا، والله أعلـم.
وقـال طـاوس: مـا كـان مـن دم أو طعـام فبمكـة، ومـا كـان مـن صيـام فحيـث شـاء.
وقولـه تعالـى: (( فـإذا أمنتـم فمـن تمتـع بالعمـرة إلـى الحـج فمـا اسـتيسـر مـن الهـدي )) أي فـإذا تمكنتـم مـن أداء المناسـك فمـن كـان منكـم متمتعـاً بالعمـرة إلـى الحـج، وهـو يشـمل مـن أحـرم بهمـا، أو أحـرم بالعمـرة أولاً فلمـا فـرغ منهـا أحـرم بالحـج، وهـذا هـو التمتـع الخـاص وهـو المعـروف فـي كـلام الفقهـاء والتمتـع العـام يشـمل القسـمين كمـا دلـت عليـه الأحاديـث الصحـاح.
(( فمـا اسـتيسـر مـن الهـدي )) أي فليذبـح مـا قـدر عليـه مـن الهـدي، وأقلـه شـاة ولـه أن يذبـح البقـر، لأن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم ذبـح عـن نسـائه البقـر، وهـذا دليـل علـى مشـروعية التمتـع كمـا جـاء فـي الصحيحيـن عـن عمـران بـن حصيـن قـال: نزلـت آيـة المتعـة فـي كتـاب الله وفعلناهـا مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، ثـم لـم ينـزل قـرآن يحرمهـا ولـم ينـه عنهـا حتـى مـات. قـال رجـل برأيـه مـا شـاء.
قـال البخـاري: يقـال إنـه عمـر وهـذا الـذي قالـه البخـاري قـد جـاء مصرحـاً بـه أن عمـر كـان ينهـى النـاس عـن التمتـع ويقـول: إن نأخـذ بكتـاب الله فـإن الله يأمـر بالتمـام يعنـي قولـه: (( وأتمـوا الحـج والعمـرة لله )).
وفـي نفـس الأمـر لـم يكـن عمـر رضـي الله عنـه ينهـى عنهـا محرمـاً لهـا إنمـا كـان ينهـى عنهـا ليكثـر قصـد النـاس للبيـت حاجيـن ومعتمريـن كمـا قـد صـرح بـه رضـي الله عنـه.
وقولـه تعالـى: (( فمـن لـم يجـد فصيـام ثلاثـة أيـام فـي الحـج وسـبعة إذا رجعتـم تلـك عشـرة كاملـة )).
يقـول تعالـى: فمـن لـم يجـد هديـاً فليصـم ثلاثـة أيـام فـي الحـج أي فـي أيـام المناسـك.
قـال العلمـاء: والأولـى أن يصومهـا قبـل يـوم عرفـة فـي العشـر أو حيـن يحـرم، منهـم مـن يجـوز صيامهـا مـن أول شـوّال، وجـوز الشـعبي صيـام يـوم عرفـة وقبلـه يوميـن.
وقـال العوفـي عـن ابـن عبـاس: إذا لـم يجـد هديـاً فعليـه صيـام ثلاثـة أيـام فـي الحـج قبـل يـوم عرفـة فـإذا كـان يـوم عرفـة الثالـث فقـد تـم صومـه وسـبعة إذا رجـع إلـى أهلـه.
عـن ابـن عمـر قـال: يصـوم يومـاً قبـل يـوم الترويـة ويـوم الترويـة ويـوم عرفـة.
فلـو لـم يصمهـا أو بعضهـا قبـل العيـد فهـل يجـوز أن يصومهـا فـي أيـام التشـريق؟
فيـه قـولان للعلمـاء، الأول: أنـه يجـوز لـه صيامهـا لقـول عائشـة وابـن عمـر: لـم يرخـص فـي أيـام التشـريق أن يصمـن إلا لمـن لا يجـد الهـدي.
وعـن علـي أنـه كـان يقـول: مـن فاتـه صيـام ثلاثـة أيـام فـي الحـج صامهـن أيـام التشـريق لعمـوم قولـه: (( فصيـام ثلاثـة أيـام فـي الحـج )).
والثانـي: أنـه لا يجـوز صيامهـا أيـام التشـريق لمـا رواه مسـلم، قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ أيـام التشـريق أيـام أكـل وشـرب وذكـر الله عـزَّ وجـلَّ }}.
وقولـه تعالـى: (( وسـبعة إذا رجعتـم )). فيـه قـولان:
(أحدهمـا): إذا رجعتـم إلـى رحالكـم.
و (الثانـي): إذا رجعتـم إلـى أوطانكـم.
وقـد روى البخـاري: عـن سـالم بـن عبـد الله أن ابـن عمـر قـال: تمتـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي حجـة الـوداع بالعمـرة إلـى الحـج وأهـدى فسـاق معـه الهـدي مـن ذي الحليفـة، فأهـل بعمـرة ثـم أهـل بالحـج فتمتـع النـاس مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، وبـدأ رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بالعمـرة إلـى الحـج، فكـان مـن النـاس مـن أهـدى فسـاق الهـدي، ومنهـم مـن لـم يهـد فلمـا قـدم النبـي صلـى الله عليـه وسـلم مكـة قـال للنـاس: {{ مـن كـان منكـم أهـدى فإنـه لا يحـل لشـيء حـرم منـه حتـى يقضـي حجـه ومـن لـم يكـن منكـم أهـدى فليطـف بالبيـت وبالصفـا والمـروة وليقصِّـرْ وليحلِّـل ثـم ليهـل بالحـج فمـن لـم يجـد هديـاً فليصـم ثلاثـة أيـام فـي الحـج وسـبعة إذا رجـع إلـى أهلـه }}.
وقولـه: (( تلـك عشـرة كاملـة )). قيـل: تأكيـد. كمـا تقـول العـرب: رأيـت بعينـي، وسـمعت بأذنـي، وكتبـت بيـدي. وقـال الله تعالـى: (( ولا طائـر يطيـر بجناحيـه )) ، وقـال: (( ولا تخطـه بيمينـك )) ، وقـال: (( وواعدنـا موسـى ثلاثيـن ليلـة وأتممناهـا بعشـر فتـم ميقـات ربـه أربعيـن ليلـة )).
وقيـل: معنـى (( كاملـة )) الأمـر بإكمالهـا وإتمامهـا واختـاره ابـن جريـر.
وقيـل معنـى (( كاملـة )) أي مجزئـة عـن الهـدي.
وقولـه تعالـى: (( ذلـك لمـن لـم يكـن أهلـه حاضـري المسـجد الحـرام )).
قـال ابـن جريـر: واختلـف أهـل التأويـل فيمـن عنـي بقولـه: (( لمـن لـم يكـن أهلـه حاضـري المسـجد الحـرام )) بعـد إجمـاع جميعهـم علـى أن أهـل الحـرم معنيـون بـه وأنـه لا متعـة لهـم، فقـال بعضهـم: عنـي بذلـك أهـل الحـرم خاصـة دون غيرهـم.
قـال ابـن عبـاس: هـم أهـل الحـرم.
وقـال قتـادة: ذكـر لنـا أن ابـن عبـاس كـان يقـول: يـا أهـل مكـة لا متعـة لكـم أحلـت لأهـل الآفـاق وحرمـت عليكـم، إنمـا يقطـع أحدكـم واديـاً أو قـال: يجعـل بينـه وبيـن الحـرم واديـاً ثـم يهـل بعمـرة.
وقـال آخـرون: هـم أهـل الحـرم ومـن بينـه وبيـن المواقيـت.
كمـا قـال عطـاء: مـن كـان أهلـه دون المواقيـت فهـو كأهـل مكـة لا يتمتـع.
وقـال عبـد الله بـن المبـارك: مـن كـان دون الميقـات.
وقـال عبـد الـرزاق: مـن كـان أهلـه علـى يـوم أو نحـوه تمتـع. وفـي روايـة عنـه: اليـوم واليوميـن.
واختـار ابـن جريـر فـي ذلـك مذهـب الشـافعي أنهـم أهـل الحـرم ومـن كـان منـه علـى مسـافة لا يقصـر فيهـا الصـلاة، لأن مـن كـان كذلـك يعـد حاضـراً لا مسـافراً، والله أعلـم.
وقولـه: (( واتقـوا الله )) أي فيمـا أمركـم ونهاكـم.
(( واعلمـوا أن الله شـديد العقـاب )) أي لمـن خالـف أمـره وارتكـب مـا عنـه زجـره.
(( الحَـجُّ أَشْـهُرٌ مَعْلومَـاتٌ فَمَـنْ فَـرَضَ فيهِـنَّ الحَـجَّ فَـلا رَفَـثَ وَلا فُسـوقَ وَلا جِـدَالَ فِـي الحَـجِّ وَمَـا تَفْعَلُـوا مِـنْ خَيْـرٍ يَعْلَمْـهُ اللهُ وَتَـزَوَّدوا فَـإِنَّ خَيْـرَ الـزَّادِ التَّقْـوى وَاتَّقُـونِ يـا أولِـي الألبَـابِ )) / 197 /
اختلـف أهـل العربيـة فـي قولـه تعالـى: (( الحـج أشـهر معلومـات )) فقـال بعضهـم: تقديـره الحـج حـج أشـهر معلومـات فعلـى هـذا التقديـر يكـون الإحـرام بالحـج فيهـا أكمـل مـن الإحـرام فيمـا عداهـا، وإن كـان ذاك صحيحـاً، والقـول بصحـة الإحـرام بالحـج فـي جميـع السـنة مذهـب مالـك وأبـي حنيفـة وأحمـد واحتـج لهـم بقولـه تعالـى: (( يسـألونك عـن الأهلـة قـل هـي مواقيـت للنـاس والحـج )) وبأنـه أحـد النسـكين فصـح الإحـرام بـه فـي جميـع السـنة كالعمـرة.
وذهـب الشـافعي رحمـه الله إلـى أنـه لا يصـح الإحـرام بالحـج إلا فـي أشـهره، فلـو أحـرم بـه قبلهـا لـم ينعقـد إحرامـه بـه، وهـل ينعقـد عمـرة؟ فيـه قـولان عنـه، والقـول بأنـه لا يصـح الإحـرام بالحـج إلا فـي أشـهره، مـروي عـن ابـن عبـاس وجابـر ومجاهـد رحمهـم الله، والدليـل عليـه قولـه: (( الحـج أشـهر معلومـات )) وظاهـره التقديـر الآخـر الـذي ذهـب إليـه النحـاة، وهـو أن وقـت الحـج أشـهر معلومـات، فخصصـه بهـا مـن بيـن سـائر شـهور السـنة، فـدل علـى أنـه لا يصـح قبلهـا كميقـات الصـلاة.
عـن ابـن عبـاس أنـه قـال: لا ينبغـي لأحـد أن يحـرم بالحـج إلا فـي شـهور الحـج، مـن أجـل قـول الله تعالـى: (( الحـج أشـهر معلومـات )) ، وعنـه أنـه قـال: مـن السـنة أنـه لا يحـرم بالحـج إلا فـي أشـهر الحـج، وقـول الصحابـي مـن السـنة كـذا فـي حكـم المرفـوع عنـد الأكثريـن، ولا سـيما قـول ابـن عبـاس تفسـيراً للقـرآن وهـو ترجمانـه.
وقولـه تعالـى: (( أشـهر معلومـات )) ، قـال البخـاري: قـال ابـن عمـر: هـي (شـوّال وذو القعـدة وعشـر مـن ذي الحجـة) وهـو مذهـب الشـافعي وأبـي حنيفـة وأحمـد، قـال: وصـح إطـلاق الجمـع علـى شـهرين وبعـض الثالـث للتغليـب، كمـا تقـول العـرب: رأيتـه العـام ورأيتـه اليـوم وإنمـا وقـع ذلـك فـي بعـض العـام واليـوم، وقـال الإمـام مالـك والشـافعي فـي القديـم: هـي شـوّال وذو القعـدة وذو الحجـة بكمالـه، وهـو روايـة عـن ابـن عمـر أيضـاً.
وفائـدة مذهـب مالـك أنـه إلـى أخـر ذي الحجـة بمعنـى أنـه مختـص بالحـج، فيكـره الاعتمـار فـي بقيـة ذي الحجـة، لا أنـه يصـح الحـج بعـد ليلـة النحـر.
وقـد ثبـت عـن عمـر وعثمـان رضـي الله عنهمـا أنهمـا كانـا يحبـان الاعتمـار فـي غيـر أشـهر الحـج وينهيـان عـن ذلـك فـي أشـهر الحـج، والله أعلـم.
وقولـه تعالـى: (( فمـن فـرض فيهـن الحـج )) أي أوجـب بإحرامـه حجـاً.
قـال ابـن جريـر: أجمعـوا علـى أن المـراد مـن الفـرض ههنـا الإيجـاب والإلـزام.
وقـال ابـن عبـاس: (( فمـن فـرض فيهـن الحـج )) مـن أحـرم بحـج أو عمـرة.
وقـال عطـاء: الفـرض الإحـرام.
وقولـه: (( فـلا رفـث )) أي مـن أحـرم بالحـج أو العمـرة، فليجتنـب الرفـث وهـو الجمـاع كمـا قـال تعالـى: (( أحـل لكـم ليلـة الصيـام الرفـث إلـى نسـائكم )) وكذلـك يحـرم تعاطـي دواعيـه مـن المباشـرة والتقبيـل ونحـو ذلـك وكذلـك التكلـم بـه بحضـرة النسـاء.
قـال عبـد الله بـن عمـر: الرفـث إتيـان النسـاء والتكلـم بذلـك للرجـال والنسـاء إذا ذكـروا ذلـك بأفواههـم.
وقولـه تعالـى: (( ولا فسـوق )) عـن ابـن عبـاس: هـي المعاصـي.
وعـن ابـن عمـر قـال: الفسـوق مـا أصيـب مـن معاصـي الله صيـداً أو غيـره.
وقـال آخـرون: الفسـوق ههنـا السـباب. قالـه ابـن عبـاس ومجاهـد والحسـن، وقـد يتمسـك هـؤلاء بمـا ثبـت فـي الصحيـح: {{ سـباب المسـلم فسـوق وقتالـه كفـر }}.
وقـال الضحّـاك: الفسـوق التنابـز بالألقـاب.
والذيـن قالـوا: الفسـوق ههنـا هـو جميـع المعاصـي الصـواب منهـم، كمـا نهـى تعالـى عـن الظلـم فـي الأشـهر الحـرم، وإن كـان فـي جميـع السـنة منهيـاً عنـه، إلا أنـه فـي الأشـهر الحـرم آكـد _ ولهـذا قـال: (( منهـا أربعـة حـرم ذلـك الديـن القيـم فـلا تظلمـوا فيهـن أنفسـكم )) _ وقـال فـي الحـرم: (( ومـن يـرد فيـه بإلحـاد بظلـم نذقـه مـن عـذاب أليـم )).
واختـار ابـن جريـر أن الفسـوق ههنـا هـو ارتكـاب مـا نهـي عنـه فـي الإحـرام مـن قتـل الصيـد، وحلـق الشـعر، وقلـم الأظفـار ونحـو ذلـك كمـا تقـدم عـن ابـن عمـر، ومـا ذكرنـاه أولـى.
وقـد ثبـت عـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن حـج هـذا البيـت فلـم يرفـث ولـم يفسـق خـرج مـن ذنوبـه كيـوم ولدتـه أمـه }}.
وقولـه تعالـى: (( ولا جـدال فـي الحـج )) فيـه قـولان:
(أحدهمـا): ولا مجادلـة فـي وقـت الحـج فـي مناسـكه وقـد بينـه الله أتـم بيـان ووضحـه أكمـل إيضـاح.
(والقـول الثانـي): أن المـراد بالجـدال ههنـا المخاصمـة.
قـال ابـن جريـر عـن عبـد الله بـن مسـعود فـي قولـه: (( ولا جـدال فـي الحـج )) قـال: أن تمـاري صاحبـك حتـى تغضبـه.
قـال ابـن عبـاس: (( ولا جـدال فـي الحـج )) المـراء والملاحـاة حتـى تغضـب أخـاك وصاحبـك.
وعـن نافـع عـن ابـن عمـر كـان يقـول: الجـدال فـي الحـج: السـباب والمـراء والخصومـات.
قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن قضـى نسـكه وسـلم المسـلمون مـن لسـانه ويـده غفـر لـه مـا تقـدم مـن ذنبـه }}.
وقولـه تعالـى: (( ومـا تفعلـوا مـن خيـر يعلمـه الله )) لمـا نهاهـم عـن إتيـان القبيـح قـولاً وفعـلاً، حثهـم علـى فعـل الجميـل وأخبرهـم أنـه عالـم بـه وسـيجزيهم عليـه أوفـر الجـزاء يـوم القيامـة.
وقولـه: (( وتـزودوا فـإن خيـر الـزاد التقـوى )).
عـن عكرمـة أن أناسـاً كانـوا يحجـون بغيـر زاد فأنـزل الله: (( وتـزودوا فـإن خيـر الـزاد التقـوى )).
وعـن ابـن عبـاس قـال: كـان أهـل اليمـن يحجـون ولا يتـزودون ويقولـون نحـن المتوكلـون فأنـزل الله: (( وتـزودوا فـإن خيـر الـزاد التقـوى )).
وقولـه تعالـى: (( فـإن خيـر الـزاد التقـوى )) لمـا أمرهـم بالـزاد للسـفر فـي الدنيـا، فأرشـدهم إلـى زاد الآخـرة وهـو اسـتصحاب التقـوى إليهـا، كمـا قـال: (( وريشـاً ولبـاس التقـوى ذلـك خيـر ))، لمـا ذكـر اللبـاس الحسـي نبـه مرشـداً إلـى اللبـاس المعنـوي، وهـو الخشـوع والطاعـة والتقـوى، وذكـر أنـه خيـر مـن هـذا وأنفـع.
قاـل عطـاء: يعنـي زاد الآخـرة.
وقـال مقاتـل بـن حيـان: لمـا نزلـت هـذه الآيـة (( وتـزودوا )) قـام رجـل مـن فقـراء المسـلمين فقـال: يـا رسـول الله مـا نجـد ما نتـزوده، فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ تـزودْ مـا تكـفّ بـه وجهـك عـن النـاس وخيـر مـا تزودتـم التقـوى }}.
وقولـه: (( واتقـون يـا أولـي الألبـاب )) يقـول: واتقـوا عقابـي ونكالـي وعذابـي، لمـن خالفنـي ولـم يأتمـر بأمـري، يـا ذوي العقـول والأفهـام.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 171 ، 172 ، 173 ، 174 ، 175 ، 176 ، 177 ، 178 ، 179 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( لَيْـسَ عَلَيْكُـمْ جُنَـاحٌ أَن تَبْتَغُـوا فَضْـلاً مِـنْ رَّبّكُـمْ فَـإِذا أَفَضْتُـمً مِـنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُـرُوا اللهَ عِنْـدَ المَشْـعَرِ الحَـرَامِ وَاذْكُـرُوهُ كَمَـا هَدَاكُـمْ وَإِنْ كُنتُـمْ مِـنً قَبْلِـهِ لَمِـنَ الضَّالِّيـنَ )) / 198 /
روى البخـاري عـن ابـن عبـاس قـال: كانـت عكـاظ ومجنـة وذو المجـاز أسـواقاً فـي الجاهليـة، فتأثمـوا أن يتجـروا فـي الموسـم فنزلـت: (( ليـس عليكـم جنـاح أن تبتغـوا فضـلاً مـن ربكـم )) فـي مواسـم الحـج، ولبعضهـم: فلمـا جـاء الإسـلام تأثمـوا أن يتجـروا فسـألوا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـن ذلـك فأنـزل الله هـذه الآيـة.
وروى أبـو داود عـن ابـن عبـاس قـال: كانـوا يتقـون البيـوع والتجـارة فـي الموسـم والحـج يقولـون أيـام ذكـر فأنـزل الله: (( ليـس عليكـم جنـاح أن تبتغـوا فضـلاً مـن ربكـم )).
وقـال ابـن جريـر: سـمعت ابـن عمـر سـئل عـن الرجـل يحـج ومعـه تجـارة فقـرأ ابـن عمـر: (( ليـس عليكـم جنـاح أن تبتغـوا فضـلاً مـن ربكـم )) وهـذا موقـوف وهـو قـوي جيـد، وقـد روي مرفوعـاً.
عـن أبـي أمامـة التيمـي قـال: قلـت لابـن عمـر: إنـا نكـري فهـل لنـا مـن حـج؟ قـال: أليـس تطوفـون بالبيـت، وتأتـون المعـرف، وترمـون الجمـار، وتحلقـون رءوسـكم؟ قـال: قلنـا: بلـى، فقـال ابـن عمـر: جـاء رجـل إلـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فسـأله عـن الـذي سـألتني فلـم يجبـه حتـى نـزل عليـه جبريـل بهـذه الآيـة: (( ليـس عليكـم جنـاح أن تبتغـوا فضـلاً مـن ربكـم )) فدعـاه النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: {{ أنتـم حجـاج }}.
وعـن أبـي صالـح مولـى عمـر قـال: قلـت: يـا أميـر المؤمنيـن كنتـم تتجـرون فـي الحـج؟ قـال: وهـل كانـت معايشـهم إلا فـي الحـج؟
وقولـه تعالـى: (( فـإذا أفضتـم مـن عرفـات فاذكـروا الله عنـد المشـعر الحـرام )) إنمـا صـرف عرفـات _ وإن كـان علمـاً علـى مؤنـث _ لأنـه فـي الأصـل جمـع كمسـلمات ومؤمنـات، سُـمِّيَ بـه بقعـة معينـة فروعـي فيـه الأصـل فصـرف، اختـاره ابـن جريـر.
وعرفـة موضـع الوقـوف فـي الحـج، وهـي عمـدة أفعـال الحـج، ولهـذا روي عـن عبـد الرحمـن بـن يعمـر الديلـي قـال: سـمعت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ الحـج عرفـات _ ثلاثـاً _ فمـن أدرك عرفـة قبـل أن يطلـع الفجـر فقـد أدرك، وأيـام منـى ثلاثـة فمـن تعجـل فـي يوميـن فـلا إثـم عليـه، ومـن تأخـر فـلا إثـم عليـه }}.
ووقـت الوقـوف مـن الـزوال يـوم عرفـة إلـى طلـوع الفجـر الثانـي مـن يـوم النحـر لأن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وقـف فـي حجـة الـوداع بعـد أن صلـى الظهـر إلـى أن غربـت الشـمـس وقـال: {{ لتأخـذوا عنـي مناسـككم }}. وقـال فـي هـذا الحديـث: {{ فمـن أدرك عرفـة قبـل أن يطلـع الفجـر فقـد أدرك }}. وهـذا مذهـب مالـك وأبـي حنيفـة والشـافعي رحمهـم الله.
وذهـب الإمـام أحمـد إلـى أن وقـت الوقـوف مـن أول يـوم عرفـة واحتجـوا بحديـث الشـعبي عـن عـروة بـن مضـرس الطائـي قـال: أتيـت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بالمزدلفـة حيـن خـرج إلـى الصـلاة، فقلـت: يـا رسـول الله إنـي جئـت مـن جبـل طـيء أكللـت راحلتـي وأتعبـت نفسـي، والله مـا تركـت مـن جبـل إلا وقفـت عليـه فهـل لـي مـن حـج؟ فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن شـهد صلاتنـا هـذه فوقـف معنـا حتـى ندفـع، وقـد وقـف بعرفـة قبـل ذلـك ليـلاً أو نهـاراً فقـد تـم حجـه وقضـى تفثـه }}.
وتسـمى عرفـات (المشـعر الحـرام) والمشـعر الأقصـى و (إلال) علـى وزن هـلال ويقـال للجبـل فـي وسـطها جبـل الرحمـة.
عـن ابـن عبـاس قـال: كـان أهـل الجاهليـة يقفـون بعرفـة حتـى إذا كانـت الشـمـس علـى رءوس الجبـال كأنهـا العمائـم علـى رءوس الرجـال دفعـوا، فأخـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم الدفعـة مـن عرفـة حتـى غربـت الشـمـس.
وفـي حديـث (جابـر بـن عبـد الله) الطويـل الـذي فـي صحيـح مسـلم قـال فيـه: (فلـم يـزل واقفـاً يعنـي بعرفة، حتـى غربـت الشـمـس وبـدت الصفـرة قليـلاً حتـى غـاب القـرص وأردف أسـامة خلفـه ودفـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وقـد شـنق للقصـواء الزمـام حتـى إن رأسـها ليصيـب مـورك رحلـه، ويقـول بيـده اليمنـى: {{ أيهـا النـاس السـكينة السـكينة }} كلمـا أتـي جبـلاً مـن الجبـال أرخـى لهـا قليـلاً حتـى تصعـد حتـى أتـى المزدلفـة فصلـى بهـا المغـرب والعشـاء بـأذان واحـد وإقامتيـن، ولـم يسـبح بينهمـا شـيئا ثـم اضطجـع حتـى طلـع الفجـر فصلـى الفجـر حيـن تبيـن لـه الصبـح بـأذان وإقامـة، ثـم ركـب القصـواء حتـى أتـى المشـعر الحـرام فاسـتقبل القبلـة فدعـا الله وكبـره وهللـه ووحّـده، فلـم يـزل واقفـاً حتـى أسـفر جـداً فدفـع قبـل أن تطلـع الشـمـس }}.
وفـي الصحيحيـن عـن أسـامة بـن زيـد أنـه سـئل كيـف كـان يسـير رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم حيـن دفـع؟ قـال: كـان يسـير العنـق فـإذا وجـد فجـوة نـص، والعنـق هـو انبسـاط السـير والنـص فوقـه.
قـال ابـن عمـر: المشـعر الحـرام المزدلفـة كلهـا. عنـه أنـه سـئل عـن قولـه: (( فاذكـروا الله عنـد المشـعر الحـرام )) فقـال: هـذا الجبـل ومـا حولـه.
وروي عـن ابـن عبـاس وسـعيد بـن جبيـر وعكرمـة وقتـادة أنهـم قالـوا: هـو مـا بيـن الجبليـن.
وقـال ابـن جريـج: قلـت لعطـاء: أيـن المزدلفـة؟ قـال: إذا أفضـت مـن مأزمـي عرفـة فذلـك إلـى محسـر، قـال: وليـس المأزمـان مأزمـا عرفـة مـن المزدلفـة ولكـن مفضاهمـا، قـال: فقـف بينهمـا إن شـئت، قـال: وأحـب أن تقـف دون قـزح هلـم إلينـا مـن أجـل طريـق النـاس.
(قلـت): والمشـاعر هـي المعالـم الظاهـرةـ وإنمـا سـميت المزدلفـة المشـعر الحـرام لأنهـا داخـل الحـرم.
وعـن زيـد بـن أسـلم أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ عرفـة كلهـا موقـف وارفعـوا عـن عرفـة وجمـعٌ كلهـا موقـف إلا محسـراً }} هـذا حديـث مرسـل.
وقـد قـال الإمـام أحمـد عـن جبيـر بـن مطعـم عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ كـل عرفـات موقـف وارفعـوا عـن عرفـات، وكـل مزدلفـة موقـف وارفعـوا عـن محسـر، وكـل فجـاج مكـة منحـر، وكـل أيـام التشـريق ذبـح }}.
وقولـه تعالـى: (( واذكـروه كمـا هداكـم )) تنبيـه لهـم علـى مـا أنعـم الله بـه عليهـم مـن الهدايـة والبيـان، والإرشـاد إلـى مشـاعر الحـج، علـى مـا كـان عليـه مـن الهدايـة إبراهيـم الخليـل عليـه السـلام ولهـذا قـال: (( وإن كنتـم مـن قبلـه لمـن الضاليـن )).
قيـل: مـن قبـل هـذا الهـدي وقيـل القـرآن.
وقيـل: الرسـول والكـل متقـارب ومتـلازم وصحيـح.
(( ثُـمَّ أَفِيضُـوا مِـنْ حَيْـثُ أَفَـاضَ النَّـاسُ وَاسْـتَغْفِروا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُـورٌ رَحِيـمٌ )) / 199 /
قـال البخـاري: عـن عائشـة قالـت: كانـت قريـش ومـن دان دينهـا يقفـون بالمزدلفـة، وكانـوا يسـمون (الحُمْـس) وسـائر العـرب يقفـون بعرفـات، فلمـا جـاء الإسـلام أمـر الله نبيـه صلـى الله عليـه وسـلم أن يأتـي عرفـات ثـم يقـف بهـا ثم يفيـض منهـا فذلـك قولـه: (( مـن حيـث أفـاض النـاس )) والمـراد بالإفاضـة ههنـا هـي الإفاضـة مـن المزدلفـة إلـى منـى لرمـي الجمـار.
وقولـه تعالـى: (( واسـتغفروا الله إن الله غفـور رحيـم )) كثيـراً مـا يأمـر الله بذكـره بعـد قضـاء العبـادات ولهـذا ثبـت فـي صحيـح مسـلم أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان إذا فـرغ مـن الصـلاة يسـتغفر الله ثلاثـاً. وفـي الصحيحيـن أنـه نـدب إلـى التسـبيح والتحميـد والتكبيـر ثلاثـاً وثلاثيـن. وقـد روى ابـن جريـر اسـتغفاره صلـى الله عليـه وسـلم لأمتـه عشـية عرفـة.
وعـن شـداد بـن أوس قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ سـيِّد الاسـتغفار أن يقـول العبـد: اللهـم أنـت ربـي لا إلـه إلا أنـت، خلقتنـي وأنـا عبـدك وأنـا علـى عهـدك ووعـدك مـا اسـتطعت، أعـوذ بـك مـن شـر مـا صنعـت، أبـوء لـك بنعمتـك علـي وأبـوء بذنبـي فاغفـر لـي فإنـه لا يغفـر الذنـوب إلا أنـت. مـن قالهـا فـي ليلـة فمـات فـي ليلتـه دخـل الجنـة، ومـن قالهـا فـي يومـه فمـات دخـل الجنـة }}.
وفـي الصحيحيـن عـن عبـد الله بـن عمـر أن أبـا بكـر قـال: يـا رسـول الله علمنـي دعـاء أدعـو بـه فـي صلاتـي فقـال: {{ قـل اللهـم إنـي ظلمـت نفسـي ظلمـاً كثيـراً ولا يغفـر الذنـوب إلا أنـت فاغفـر لـي مغفـرة مـن عنـدك، وارحمنـي إنـك أنـت الغفـور الرحيـم }}.
والأحاديـث فـي الاسـتغفار كثيـرة.
(( فَـإِذَا قَضَيْتُـم مَّنَاسِـكَكُمْ فَاذْكُـرُوا اللهَ كَذِكْرِكُـمْ آبَاءَكُـمْ أَوْ أَشَـدَّ ذِكْـراً فََمِـنَ النَّـاسِ مَـنْ يَقُـولُ رَبَّنَـا آتِنَـا فـي الدُّنيَـا وَمَالَـهُ فـي الآخِـرَةِ مِـنْ خَـلاقٍ (200) وَمِنْهُـمْ مَّـنْ يَقُـولُ رَبَّنَـا آتِنَـا فِـي الدُّنْيـا حَسَـنَةً وَفِـي الآخِـرَةِ حَسَـنَةً وَقِنَـا عَـذَابَ النَّـارِ (201) أولئِـكَ لَهُـمْ نَصِيـبٌ مِمَّـا كَسَـبُوا وَاللهُ سَـريعُ الحِسَـابِ )) / 202 /
يأمـر تعالـى بذكـره والإكثـار منـه بعـد قضـاء المناسـك وفراغهـا.
وقولـه: (( كذكركـم آباءكـم )) اختلفـوا فـي معنـاه.
فقـال عطـاء: هـو كمـا يلهـج الصبـي بذكـر أبيـه وأمـه، فكذلـك أنتـم فالهجـوا بذكـر الله بعـد قضـاء النسـك.
وقـال ابـن عبـاس: كـان أهـل الجاهليـة يقفـون فـي الموسـم، فيقـول الرجـل منهـم: كـان أبـي يطعـم، ويحمأل الحمـالات، ويحمـل الديـات، ليـس لهـم ذكـر غيـر فعـال آبائهـم. فأنـزل الله علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: {{ فاذكـروا الله كذكركـم آباءكـم أو أشـد ذكـراً }}.
والمقصـود منـه الحـث علـى كثـرة الذكـر لله عـزّ وجـلّ، و (أو) ههنـا لتحقيـق المماثلـة فـي الخبـر كقولـه: (( فهـي كالحجـارة أو أشـد قسـوة )) فليسـت ههنـا للشـك قطعـاً وإنمـا هـي لتحقيـق المخبـر عنـه كذلـك أو أزيـد منـه.
ثـم إنـه تعالـى أرشـد إلـى دعائـه بعـد كثـرة ذكـره فإنـه مظنـة الإجابـة، وذم مـن لا يسـأله إلا فـي أمـر دنيـاه وهـو معـرض عـن أخـراه فقـال: (( فمـن النـاس مـن يقـول ربنـا آتنـا فـي الدنيـا ومـا لـه فـي الآخـرة مـن خـلاق )) أي مـن نصيـب ولا حـظ وتضمـن هـذا الـذم والتنفيـر عـن التشـبه بمـن هـو كذلـك.
قـال ابـن عبـاس: كـان قـوم مـن الأعـراب يجيئـون إلـى الموقـف فيقولـون اللهم اجعلـه عـام غيـث، وعـام خصـب، وعـام ولاد حسـن، لا يذكـرون مـن أمـر الآخـرة شـيئاً، فأنـزل الله فيهـم: (( فمـن النـاس مـن يقـول ربنـا آتنـا فـي الدنيـا ومـا لـه فـي الآخـرة مـن خـلاق )) ولهـذا مـدح مـن يسـأله الدنيـا والآخـرة فقـال: (( ومنهـم مـن يقـول ربنـا آتنـا فـي الدنيـا حسـنة وفـي الأخـرة حسـنة وقنـا عـذاب النـار )) فجمعـت هـذه الدعـوة كـل خيـر فـي الدنيـا وصرفـت كـل شـر، فـإن الحسـنة فـي الدنيـا تشـمل كـل مطلـوب دنيـوي مـن عافيـة، ودار رحبـة، وزوجـة حسـنة، ورزق واسـع، وعلـم نافـع، وعمـل صالـح، ومركـب هيـن، وثنـاء جميـل، إلـى غيـر ذلـك ممـا اشـتملت عليـه عبـارات المفسـرين ولا منافـاة بينهـا، فإنهـا كلهـا مندرجـة فـي الحسـنة فـي الدنيـا.
وأمـا الحسـنة فـي الآخـرة فأعلـى ذلـك دخـول الجنـة، وتوابعـه مـن الأمـن مـن الفـزع الأكبـر فـي العرصـات، وتيسـير الحسـاب وغيـر ذلـك مـن أمـور الآخـرة الصالحـة.
وأمـا النجـاة مـن النـار فهـو يقتضـي تيسـير أسـبابه فـي الدنيـا مـن اجتنـاب المحـارم والآثـام، وتـرك الشـبهات والحـرام.
وقـال القاسـم أبـو عبـد الرحمـن: مـن أعطـي قلبـاً شـاكراً، ولسـاناً ذاكـراً، وجسـداً صابـراً فقـد أوتـي فـي الدنيـا حسـنة وفـي الآخـرة حسـنة، ووقـي عـذاب النـار. ولهـذا وردت السـنَّة بالترغيـب فـي هـذا الدعـاء.
فقـال البخـاري عـن أنـس بـن مالـك: كـان النبـي صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ اللهـم ربنـا آتنـا فـي الدنيـا حسـنة وفـي الآخـرة حسـنة وقنـا عـذاب النـار }}.
وكـان أنـس إذا أراد أن يدعـو بدعـوة دعـا بهـا، وإذا أراد أن يدعـو بدعـاء دعـا بهـا فيـه.
وعـن أنـس أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـاد رجـلاً مـن المسـلمين قـد صـار مثـل الفـرخ فقـال لـه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ هـل تدعـو الله بشـيء أو تسـأله إيـاه؟ }} قـال: نعـم، كنـت أقـول اللهـم مـا كنـت معاقبـي بـه فـي الآخـرة فعجِّلْـه لـي فـي الدنيـا. فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ سـبحان الله لا تطيقـه أو لا تسـتطيعه، فهـلا قلـت (( ربنـا آتنـا فـي الدنيـا حسـنة وفـي الآخـرة حسـنة وقنـا عـذاب النـار )) }} قـال: فدعـا الله فشـفاه.
(( وَاذْكُـرُوا اللهَ فِـي أَيَّـامٍ مَعْـدُودَاتٍ فَمَـنْ تَعَجَّـلَ فِـي يَوْمَيْـنِ فَـلا إِثْـمَ عَليـهِ وَمَـنْ تَأَخَّـرَ فَـلا إِثْـمَ عَلَيْـهِ لِمَـنِ اتَّقَـى وَاتَّقُـوا اللهَ وَاعْلَمُـوا أَنَّكُـمْ إِلَيْـهِ تُحْشَـرونَ )) / 203 /
قـال ابـن عبـاس: الأيـام المعـدودات (أيـام التشـريق) والأيـام المعلومـات (أيـام العشـر).
قـال عكرمـة: يعنـي التكبيـر فـي أيـام التشـريق بعـد الصلـوات المكتوبـات (الله أكبـر، الله أكبـر)، لحديـث: {{ أيـام التشـريق أيـام أكـل وشـرب وذكـر الله }}.
عـن أبـي هريـرة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بعـث عبـد الله بـن حذافـة يطـوف فـي منـى: {{ لا تصومـوا هـذه الأيـام فإنهـا أيـام أكـل وشـرب وذكـر الله عـزَّ وجـلَّ }}.
وعـن عائشـة قالـت: نهـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـن صـوم أيـام التشـريق وقـال: {{ هـي أيـام أكـل وشـرب وذكـر الله }}.
قـال ابـن عبـاس: الأيـام المعـدودات أيـام التشـريق أربعـة أيـام يـوم النحـر وثلاثـة بعـده.
وقـال علـي بـن أبـي طالـب: هـي ثلاثـة: يـوم النحـر ويومـان بعـده، إذبـح فـي أيهـن شـئت وأفضلهـا أولهـا.
والقـول الأول هـو المشـهور، وعليـه دل ظاهـر الآيـة الكريمـة حيـث قـال: (( فمـن تعجـل فـي يوميـن فـلا إثـم عليـه ومـن تأخـر فـلا إثـم عليـه )) فـدل علـى ثلاثـة بعـد النحـر، ويتعلـق بقولـه: (( واذكـروا الله فـي أيـام معـدودات )) ذكـر الله علـى الأضاحـي وقـد تقـدم أن الراجـح فـي ذلـك مذهـب الشـافعي رحمـه الله، وهـو أن وقـت الأضحيـة مـن يـوم النحـر إلـى آخـر أيـام التشـريق، ويتعلـق بـه أيضـاً الذكـر المؤقـت خلـف الصلـوات والمطلـق فـي سـائر الأحـوال، وفـي وقتـه أقـوال للعلمـاء أشـهرها الـذي عليـه العمـل أنـه مـن صـلاة الصبـح يـوم عرفـة إلـى صـلاة العصـر مـن آخـر أيـام التشـريق وهـو آخـر النفـر الآخـر.
وقـد ثبـت أن عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه كـان يكبـر فـي قبتـه، فيكبـر أهـل السـوق بتكبيـره حتـى ترتـج منـى تكبيـراً.
وقـد جـاء فـي الحديـث: {{ إنمـا جعـل الطـواف بالبيـت، والسـعي بيـن الصفـا والمـروة، ورمـي الجمـار لإقامـة ذكـر الله عـزّ وجـلّ }}.
ولمـا ذكـر الله تعالـى النفـر الأول والثانـي _ وهـو تفـرق النـاس مـن موسـم الحـج إلـى سـائر الأقاليـم والآفـاق بعـد اجتماعهـم فـي المشـاعر والمواقـف _ قـال: (( واتقـوا الله واعلمـوا أنكـم إليـه تحشـرون )) ، كمـا قـال: (( وهـو الـذي ذرأكـم فـي الأرض وإليـه تحشـرون )).
(( وَمِـنَ النَّـاسِ مَـنْ يُعْجِبُـكَ قَوْلُـهُ فِـي الحَيَـاةِ الدُّنيَـا وَيُشْـهِدُ اللهَ عَلَـى مَـا فِـي قَلْبِـهِ وَهُـوَ أَلَـدُّ الخِصَـامِ (204) وَإِذا تَوَلَّـى سَـعَى فِـي الأَرضِ لِيُفْسِـدَ فِيهَـا وَيُهْلِـكَ الحَـرْثَ وَالنَّسْـلَ وَاللهُ لا يُحِـبُ الفَسَـادَ (205) وَإِذا قِيـلَ لَـهُ اتَّـقِ اللهَ أَخَذَتْـهُ العِـزَّةُ بِالإِثْـمِ فَحَسْـبُهُ جَهَنَّـمُ وَلَبِئْـسَ المِهَـادُ (206) وَمِـنَ النَّـاسِ مَـنْ يَشْـري تَفْسَـهُ ابتِغَـاءَ مَرضَـاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤوفٌ بِالعِبَـادِ )) / 207 /
قـال السـدي: نزلـت فـي الأخنـس بـن شـريق الثقفـي، جـاء إلـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وأظهـر الإسـلام، وفـي باطنـه خـلاف ذلـك.
وعـن ابـن عبـاس أنهـا نزلـت فـي نفـر مـن المنافقيـن تكلمـوا فـي (خبيـب) وأصحابـه الذيـن قتلـوا بالرجيـع وعابوهـم.
وقيـل: بـل ذلـك عـام فـي المنافقيـن كلهـم وفـي المؤمنيـن كلهـم وهـو الصحيـح.
وروى ابـن جريـر: حدثنـي محمـد بـن أبـي معشـر، أخبرنـي أبـو معشـر نجيـح، قـال: سـمعت سـعيداً المقبـري يذاكـر محمـد بـن كعـب القرظـي، فقـال سـعيد: إن فـي بعـض الكتـب: (إن عبـاداً ألسـنتهم أحلـى مـن العسـل، وقلوبهـم أمـر مـن الصبـر، لبسـوا للنـاس مسـوك الضـأن مـن الليـن، يجتـرون الدنيـا بالديـن، قـال الله تعالـى: علـيّ تجترئـون وبـي تغتـرون؟ وعزتـي لأبعثـن عليهـم فتنـة تتـرك الحليـم منهـم حيـران). فقـال محمـد بـن كعـب: هـذا فـي كتـاب الله، فقـال سـعيد: وأيـن هـو مـن كتـاب الله؟ قـال قـول الله: (( ومـن النـاس مـن يعجبـك قولـه فـي الحيـاة الدنيـا )) الآيـة. فقـال سـعيد: قـد عرفـت فيمـن أنزلـت هـذه الآيـة، فقـال محمـد بـن كعـب:
وأمـا قولـه تعالـى: (( ويشـهد الله علـى مـا فـي قلبـه )) فمعنـاه أنـه يظهـر للنـاس الإسـلام، ويبـارز الله بمـا فـي قلبـه مـن الكفـر والنفـاق، كقولـه تعالـى: (( يسـتخفون مـن النـاس ولا يسـتخفون مـن الله )) الآيـة.
وقيـل معنـاه: أنـه إذا أظهـر للنـاس الإسـلام حلـف وأشـهد الله لهـم أن الـذي فـي قلبـه موافـق للسـانه وهـذا المعنـى صحيـح واختـاره ابـن جريـر وعـزاه إلـى ابـن عبـاس، والله أعلم.
وقولـه تعالـى: (( وهـو ألـد الخصـام )) الألـد فـي اللغـة: الأعـوج.
(( وتنـذر بـه قومـاً لـداً )) أي عوجـاً وهكـذا المنافـق فـي حـال خصومتـه، يكـذب ويـزور عـن الحـق ولا يسـتقيم معـه، بـل يفتـري ويفجـر، كمـا ثبـت فـي الصحيـح عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ آيـة المنافـق ثـلاث إذا حـدث كـذب وإذا عاهـد غـدر وإذا خاصـم فجـر }}.
وقولـه تعالـى: (( وإذا تولـى سـعى فـي الأرض ليفسـد فيهـا ويهلـك الحـرث والنسـل والله لا يحـب الفسـاد )) أي هـو أعـوج المقـال سـيئ الفعـال، فذلـك قولـه وهـذا فعلـه. كلامـه كـذب، واعتقـاده فاسـد، وأفعالـه قبيحـة.
والسـعي ههنـا هـو القصـد كمـا قـال إخبـاراً عـن فرعـون: (( ثـم أدبـر يسـعى . فحشـر فنـادى . فقـال أنـا ربكـم الأعلـى )) ، وقـال تعالـى: (( فاسـعوا إلـى ذكـر الله )) أي اقصـدوا واعمـدوا ناويـن بذلـك صـلاة الجمعـة، فـإن السـعي الحسـي إلـى الصـلاة منهـي عنـه بالسـنة النبويـة: {{ إذا أتيتـم الصـلاة فـلا تأتوهـا وأنتـم تسـعون وأتوهـا وعليكـم السـكينة والوقـار }}.
فهـذا المنافـق ليـس لـه همـة إلا الفسـاد فـي الأرض، وإهـلاك الحـرث: وهـو محـل نمـاء الـزروع والثمـار، والنسـل: وهـو نتـاج الحيوانـات الذيـن لا قـوام للنـاس إلا بهمـا.
وقـال مجاهـد: إذا سـعى فـي الأرض إفسـاداً منـع الله القطـر فهلـك الحـرث والنسـل.
(( والله لا يحـب الفسـاد )) أي لا يحـب مـن هـذه صفتـه، ولا مـن يصـدر منـه ذلـك.
وقولـه تعالـى: (( وإذا قيـل لـه اتـق الله أخذتـه العـزة بالإثـم )) أي إذا وعـظ هـذا الفاجـر فـي مقالـه وفعالـه، وقيـل لـه: اتـق الله وانـزع عـن قولـك وفعلـك، وارجـع إلـى الحـق، امتنـع وأبـى، وأخذتـه الحميـة والغضـب بالإثـم، أي بسـبب مـا اشـتمل عليـه مـن الآثـام، وهـذه الآيـة شـبيهة بقولـه تعالـى: (( وإذا تتلـى عليهـم آياتنـا بينـات تعـرف فـي وجـوه الذيـن كفـروا المنكـر يكـادون يسـطون بالذيـن يتلـون عليهـم آياتنـا قـل أفأنبئكـم بشـر مـن ذلكـم . النـار وعدهـا الله الذيـن كفـروا وبئـس المصيـر )) ولهـذا قـال فـي هـذه الآيـة: (( فحسـبه جهنـم ولبئـس المهـاد )) أي هـي كافيتـه عقوبـة فـي ذلـك.
وقولـه تعالـى: (( ومـن النـاس مـن يشـري نفسـه ابتغـاء مرضـات الله ))
لمـا أخبـر عـن المنافقيـن بصفاتهـم الذميمـة، ذكـر صفـات المؤمنيـن الحميـدة فقـال: (( ومـن النـاس مـن يشـري نفسـه ابتغـاء مرضـاة الله )).
قـال ابـن عبـاس وجماعـة: نزلـت فـي (صهيـب الرومـي) وذلـك أنـه لمـا أسـلم بمكـة، وأراد الهجـرة منعـه النـاس أن يهاجـر بمالـه، وإن أحـب أن يتجـرد منـه ويهاجـر فعـل، فتخلـص منهـم وأعطاهـم مالـه، فأنـزل الله فيـه هـذه الآيـة، فتلقـاه عمـر بـن الخطـاب وجماعـة إلـى طـرف الحـرة فقالـوا لـه: ربـح البيـع، فقـال: وأنتـم فـلا أخسـر الله تجارتكـم، ومـا ذاك؟ فأخبـروه أن الله أنـزل هـذه الآيـة.
ويـروى أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال لـه: {{ ربـح البيـع صهيـب }}.
وروي عـن أبـي عثمـان النهـدي عـن صهيـب قـال: لمـا أردت الهجـرة مـن مكـة إلـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قالـت لـي قريـش: يـا صهيـب قدمـت إلينـا ولا مـال لـك، وتخـرج أنـت ومالـك؟ والله لا يكـون ذلـك أبـداً. فقلـت لهـم: أرأيتأم إن دفعـت إليكـم مالـي تخلُّـون عنـي؟ قالـوا: نعـم، فدفعـت إليهـم مالـي فخلـوا عنـي، فخرجـت حتـى قدمـت المدينـة فبلـغ ذلـك النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: {{ ربـح صهيـب، ربـح صهيـب }} مرتيـن.
وأمـا الأكثـرون فحملـوا ذلـك علـى أنهـا نزلـت فـي كـل مجاهـد فـي سـبيل الله كمـا قـال تعالـى: (( إن الله اشـترى مـن المؤمنيـن أنفسـهم وأموالهـم بـأن لهـم الجنـة يقاتلـون فـي سـبيل الله
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 179 ، 180 ، 181 ، 182 ، 183 ، 184 ، 185 ، 186 ، 187 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
(( لَيْـسَ عَلَيْكُـمْ جُنَـاحٌ أَن تَبْتَغُـوا فَضْـلاً مِـنْ رَّبّكُـمْ فَـإِذا أَفَضْتُـمً مِـنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُـرُوا اللهَ عِنْـدَ المَشْـعَرِ الحَـرَامِ وَاذْكُـرُوهُ كَمَـا هَدَاكُـمْ وَإِنْ كُنتُـمْ مِـنً قَبْلِـهِ لَمِـنَ الضَّالِّيـنَ )) / 198 /
روى البخـاري عـن ابـن عبـاس قـال: كانـت عكـاظ ومجنـة وذو المجـاز أسـواقاً فـي الجاهليـة، فتأثمـوا أن يتجـروا فـي الموسـم فنزلـت: (( ليـس عليكـم جنـاح أن تبتغـوا فضـلاً مـن ربكـم )) فـي مواسـم الحـج، ولبعضهـم: فلمـا جـاء الإسـلام تأثمـوا أن يتجـروا فسـألوا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـن ذلـك فأنـزل الله هـذه الآيـة.
وروى أبـو داود عـن ابـن عبـاس قـال: كانـوا يتقـون البيـوع والتجـارة فـي الموسـم والحـج يقولـون أيـام ذكـر فأنـزل الله: (( ليـس عليكـم جنـاح أن تبتغـوا فضـلاً مـن ربكـم )).
وقـال ابـن جريـر: سـمعت ابـن عمـر سـئل عـن الرجـل يحـج ومعـه تجـارة فقـرأ ابـن عمـر: (( ليـس عليكـم جنـاح أن تبتغـوا فضـلاً مـن ربكـم )) وهـذا موقـوف وهـو قـوي جيـد، وقـد روي مرفوعـاً.
عـن أبـي أمامـة التيمـي قـال: قلـت لابـن عمـر: إنـا نكـري فهـل لنـا مـن حـج؟ قـال: أليـس تطوفـون بالبيـت، وتأتـون المعـرف، وترمـون الجمـار، وتحلقـون رءوسـكم؟ قـال: قلنـا: بلـى، فقـال ابـن عمـر: جـاء رجـل إلـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فسـأله عـن الـذي سـألتني فلـم يجبـه حتـى نـزل عليـه جبريـل بهـذه الآيـة: (( ليـس عليكـم جنـاح أن تبتغـوا فضـلاً مـن ربكـم )) فدعـاه النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: {{ أنتـم حجـاج }}.
وعـن أبـي صالـح مولـى عمـر قـال: قلـت: يـا أميـر المؤمنيـن كنتـم تتجـرون فـي الحـج؟ قـال: وهـل كانـت معايشـهم إلا فـي الحـج؟
وقولـه تعالـى: (( فـإذا أفضتـم مـن عرفـات فاذكـروا الله عنـد المشـعر الحـرام )) إنمـا صـرف عرفـات _ وإن كـان علمـاً علـى مؤنـث _ لأنـه فـي الأصـل جمـع كمسـلمات ومؤمنـات، سُـمِّيَ بـه بقعـة معينـة فروعـي فيـه الأصـل فصـرف، اختـاره ابـن جريـر.
وعرفـة موضـع الوقـوف فـي الحـج، وهـي عمـدة أفعـال الحـج، ولهـذا روي عـن عبـد الرحمـن بـن يعمـر الديلـي قـال: سـمعت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ الحـج عرفـات _ ثلاثـاً _ فمـن أدرك عرفـة قبـل أن يطلـع الفجـر فقـد أدرك، وأيـام منـى ثلاثـة فمـن تعجـل فـي يوميـن فـلا إثـم عليـه، ومـن تأخـر فـلا إثـم عليـه }}.
ووقـت الوقـوف مـن الـزوال يـوم عرفـة إلـى طلـوع الفجـر الثانـي مـن يـوم النحـر لأن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وقـف فـي حجـة الـوداع بعـد أن صلـى الظهـر إلـى أن غربـت الشـمـس وقـال: {{ لتأخـذوا عنـي مناسـككم }}. وقـال فـي هـذا الحديـث: {{ فمـن أدرك عرفـة قبـل أن يطلـع الفجـر فقـد أدرك }}. وهـذا مذهـب مالـك وأبـي حنيفـة والشـافعي رحمهـم الله.
وذهـب الإمـام أحمـد إلـى أن وقـت الوقـوف مـن أول يـوم عرفـة واحتجـوا بحديـث الشـعبي عـن عـروة بـن مضـرس الطائـي قـال: أتيـت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بالمزدلفـة حيـن خـرج إلـى الصـلاة، فقلـت: يـا رسـول الله إنـي جئـت مـن جبـل طـيء أكللـت راحلتـي وأتعبـت نفسـي، والله مـا تركـت مـن جبـل إلا وقفـت عليـه فهـل لـي مـن حـج؟ فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن شـهد صلاتنـا هـذه فوقـف معنـا حتـى ندفـع، وقـد وقـف بعرفـة قبـل ذلـك ليـلاً أو نهـاراً فقـد تـم حجـه وقضـى تفثـه }}.
وتسـمى عرفـات (المشـعر الحـرام) والمشـعر الأقصـى و (إلال) علـى وزن هـلال ويقـال للجبـل فـي وسـطها جبـل الرحمـة.
عـن ابـن عبـاس قـال: كـان أهـل الجاهليـة يقفـون بعرفـة حتـى إذا كانـت الشـمـس علـى رءوس الجبـال كأنهـا العمائـم علـى رءوس الرجـال دفعـوا، فأخـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم الدفعـة مـن عرفـة حتـى غربـت الشـمـس.
وفـي حديـث (جابـر بـن عبـد الله) الطويـل الـذي فـي صحيـح مسـلم قـال فيـه: (فلـم يـزل واقفـاً يعنـي بعرفة، حتـى غربـت الشـمـس وبـدت الصفـرة قليـلاً حتـى غـاب القـرص وأردف أسـامة خلفـه ودفـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وقـد شـنق للقصـواء الزمـام حتـى إن رأسـها ليصيـب مـورك رحلـه، ويقـول بيـده اليمنـى: {{ أيهـا النـاس السـكينة السـكينة }} كلمـا أتـي جبـلاً مـن الجبـال أرخـى لهـا قليـلاً حتـى تصعـد حتـى أتـى المزدلفـة فصلـى بهـا المغـرب والعشـاء بـأذان واحـد وإقامتيـن، ولـم يسـبح بينهمـا شـيئا ثـم اضطجـع حتـى طلـع الفجـر فصلـى الفجـر حيـن تبيـن لـه الصبـح بـأذان وإقامـة، ثـم ركـب القصـواء حتـى أتـى المشـعر الحـرام فاسـتقبل القبلـة فدعـا الله وكبـره وهللـه ووحّـده، فلـم يـزل واقفـاً حتـى أسـفر جـداً فدفـع قبـل أن تطلـع الشـمـس }}.
وفـي الصحيحيـن عـن أسـامة بـن زيـد أنـه سـئل كيـف كـان يسـير رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم حيـن دفـع؟ قـال: كـان يسـير العنـق فـإذا وجـد فجـوة نـص، والعنـق هـو انبسـاط السـير والنـص فوقـه.
قـال ابـن عمـر: المشـعر الحـرام المزدلفـة كلهـا. عنـه أنـه سـئل عـن قولـه: (( فاذكـروا الله عنـد المشـعر الحـرام )) فقـال: هـذا الجبـل ومـا حولـه.
وروي عـن ابـن عبـاس وسـعيد بـن جبيـر وعكرمـة وقتـادة أنهـم قالـوا: هـو مـا بيـن الجبليـن.
وقـال ابـن جريـج: قلـت لعطـاء: أيـن المزدلفـة؟ قـال: إذا أفضـت مـن مأزمـي عرفـة فذلـك إلـى محسـر، قـال: وليـس المأزمـان مأزمـا عرفـة مـن المزدلفـة ولكـن مفضاهمـا، قـال: فقـف بينهمـا إن شـئت، قـال: وأحـب أن تقـف دون قـزح هلـم إلينـا مـن أجـل طريـق النـاس.
(قلـت): والمشـاعر هـي المعالـم الظاهـرةـ وإنمـا سـميت المزدلفـة المشـعر الحـرام لأنهـا داخـل الحـرم.
وعـن زيـد بـن أسـلم أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ عرفـة كلهـا موقـف وارفعـوا عـن عرفـة وجمـعٌ كلهـا موقـف إلا محسـراً }} هـذا حديـث مرسـل.
وقـد قـال الإمـام أحمـد عـن جبيـر بـن مطعـم عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ كـل عرفـات موقـف وارفعـوا عـن عرفـات، وكـل مزدلفـة موقـف وارفعـوا عـن محسـر، وكـل فجـاج مكـة منحـر، وكـل أيـام التشـريق ذبـح }}.
وقولـه تعالـى: (( واذكـروه كمـا هداكـم )) تنبيـه لهـم علـى مـا أنعـم الله بـه عليهـم مـن الهدايـة والبيـان، والإرشـاد إلـى مشـاعر الحـج، علـى مـا كـان عليـه مـن الهدايـة إبراهيـم الخليـل عليـه السـلام ولهـذا قـال: (( وإن كنتـم مـن قبلـه لمـن الضاليـن )).
قيـل: مـن قبـل هـذا الهـدي وقيـل القـرآن.
وقيـل: الرسـول والكـل متقـارب ومتـلازم وصحيـح.
(( ثُـمَّ أَفِيضُـوا مِـنْ حَيْـثُ أَفَـاضَ النَّـاسُ وَاسْـتَغْفِروا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُـورٌ رَحِيـمٌ )) / 199 /
قـال البخـاري: عـن عائشـة قالـت: كانـت قريـش ومـن دان دينهـا يقفـون بالمزدلفـة، وكانـوا يسـمون (الحُمْـس) وسـائر العـرب يقفـون بعرفـات، فلمـا جـاء الإسـلام أمـر الله نبيـه صلـى الله عليـه وسـلم أن يأتـي عرفـات ثـم يقـف بهـا ثم يفيـض منهـا فذلـك قولـه: (( مـن حيـث أفـاض النـاس )) والمـراد بالإفاضـة ههنـا هـي الإفاضـة مـن المزدلفـة إلـى منـى لرمـي الجمـار.
وقولـه تعالـى: (( واسـتغفروا الله إن الله غفـور رحيـم )) كثيـراً مـا يأمـر الله بذكـره بعـد قضـاء العبـادات ولهـذا ثبـت فـي صحيـح مسـلم أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان إذا فـرغ مـن الصـلاة يسـتغفر الله ثلاثـاً. وفـي الصحيحيـن أنـه نـدب إلـى التسـبيح والتحميـد والتكبيـر ثلاثـاً وثلاثيـن. وقـد روى ابـن جريـر اسـتغفاره صلـى الله عليـه وسـلم لأمتـه عشـية عرفـة.
وعـن شـداد بـن أوس قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ سـيِّد الاسـتغفار أن يقـول العبـد: اللهـم أنـت ربـي لا إلـه إلا أنـت، خلقتنـي وأنـا عبـدك وأنـا علـى عهـدك ووعـدك مـا اسـتطعت، أعـوذ بـك مـن شـر مـا صنعـت، أبـوء لـك بنعمتـك علـي وأبـوء بذنبـي فاغفـر لـي فإنـه لا يغفـر الذنـوب إلا أنـت. مـن قالهـا فـي ليلـة فمـات فـي ليلتـه دخـل الجنـة، ومـن قالهـا فـي يومـه فمـات دخـل الجنـة }}.
وفـي الصحيحيـن عـن عبـد الله بـن عمـر أن أبـا بكـر قـال: يـا رسـول الله علمنـي دعـاء أدعـو بـه فـي صلاتـي فقـال: {{ قـل اللهـم إنـي ظلمـت نفسـي ظلمـاً كثيـراً ولا يغفـر الذنـوب إلا أنـت فاغفـر لـي مغفـرة مـن عنـدك، وارحمنـي إنـك أنـت الغفـور الرحيـم }}.
والأحاديـث فـي الاسـتغفار كثيـرة.
(( فَـإِذَا قَضَيْتُـم مَّنَاسِـكَكُمْ فَاذْكُـرُوا اللهَ كَذِكْرِكُـمْ آبَاءَكُـمْ أَوْ أَشَـدَّ ذِكْـراً فََمِـنَ النَّـاسِ مَـنْ يَقُـولُ رَبَّنَـا آتِنَـا فـي الدُّنيَـا وَمَالَـهُ فـي الآخِـرَةِ مِـنْ خَـلاقٍ (200) وَمِنْهُـمْ مَّـنْ يَقُـولُ رَبَّنَـا آتِنَـا فِـي الدُّنْيـا حَسَـنَةً وَفِـي الآخِـرَةِ حَسَـنَةً وَقِنَـا عَـذَابَ النَّـارِ (201) أولئِـكَ لَهُـمْ نَصِيـبٌ مِمَّـا كَسَـبُوا وَاللهُ سَـريعُ الحِسَـابِ )) / 202 /
يأمـر تعالـى بذكـره والإكثـار منـه بعـد قضـاء المناسـك وفراغهـا.
وقولـه: (( كذكركـم آباءكـم )) اختلفـوا فـي معنـاه.
فقـال عطـاء: هـو كمـا يلهـج الصبـي بذكـر أبيـه وأمـه، فكذلـك أنتـم فالهجـوا بذكـر الله بعـد قضـاء النسـك.
وقـال ابـن عبـاس: كـان أهـل الجاهليـة يقفـون فـي الموسـم، فيقـول الرجـل منهـم: كـان أبـي يطعـم، ويحمأل الحمـالات، ويحمـل الديـات، ليـس لهـم ذكـر غيـر فعـال آبائهـم. فأنـزل الله علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: {{ فاذكـروا الله كذكركـم آباءكـم أو أشـد ذكـراً }}.
والمقصـود منـه الحـث علـى كثـرة الذكـر لله عـزّ وجـلّ، و (أو) ههنـا لتحقيـق المماثلـة فـي الخبـر كقولـه: (( فهـي كالحجـارة أو أشـد قسـوة )) فليسـت ههنـا للشـك قطعـاً وإنمـا هـي لتحقيـق المخبـر عنـه كذلـك أو أزيـد منـه.
ثـم إنـه تعالـى أرشـد إلـى دعائـه بعـد كثـرة ذكـره فإنـه مظنـة الإجابـة، وذم مـن لا يسـأله إلا فـي أمـر دنيـاه وهـو معـرض عـن أخـراه فقـال: (( فمـن النـاس مـن يقـول ربنـا آتنـا فـي الدنيـا ومـا لـه فـي الآخـرة مـن خـلاق )) أي مـن نصيـب ولا حـظ وتضمـن هـذا الـذم والتنفيـر عـن التشـبه بمـن هـو كذلـك.
قـال ابـن عبـاس: كـان قـوم مـن الأعـراب يجيئـون إلـى الموقـف فيقولـون اللهم اجعلـه عـام غيـث، وعـام خصـب، وعـام ولاد حسـن، لا يذكـرون مـن أمـر الآخـرة شـيئاً، فأنـزل الله فيهـم: (( فمـن النـاس مـن يقـول ربنـا آتنـا فـي الدنيـا ومـا لـه فـي الآخـرة مـن خـلاق )) ولهـذا مـدح مـن يسـأله الدنيـا والآخـرة فقـال: (( ومنهـم مـن يقـول ربنـا آتنـا فـي الدنيـا حسـنة وفـي الأخـرة حسـنة وقنـا عـذاب النـار )) فجمعـت هـذه الدعـوة كـل خيـر فـي الدنيـا وصرفـت كـل شـر، فـإن الحسـنة فـي الدنيـا تشـمل كـل مطلـوب دنيـوي مـن عافيـة، ودار رحبـة، وزوجـة حسـنة، ورزق واسـع، وعلـم نافـع، وعمـل صالـح، ومركـب هيـن، وثنـاء جميـل، إلـى غيـر ذلـك ممـا اشـتملت عليـه عبـارات المفسـرين ولا منافـاة بينهـا، فإنهـا كلهـا مندرجـة فـي الحسـنة فـي الدنيـا.
وأمـا الحسـنة فـي الآخـرة فأعلـى ذلـك دخـول الجنـة، وتوابعـه مـن الأمـن مـن الفـزع الأكبـر فـي العرصـات، وتيسـير الحسـاب وغيـر ذلـك مـن أمـور الآخـرة الصالحـة.
وأمـا النجـاة مـن النـار فهـو يقتضـي تيسـير أسـبابه فـي الدنيـا مـن اجتنـاب المحـارم والآثـام، وتـرك الشـبهات والحـرام.
وقـال القاسـم أبـو عبـد الرحمـن: مـن أعطـي قلبـاً شـاكراً، ولسـاناً ذاكـراً، وجسـداً صابـراً فقـد أوتـي فـي الدنيـا حسـنة وفـي الآخـرة حسـنة، ووقـي عـذاب النـار. ولهـذا وردت السـنَّة بالترغيـب فـي هـذا الدعـاء.
فقـال البخـاري عـن أنـس بـن مالـك: كـان النبـي صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ اللهـم ربنـا آتنـا فـي الدنيـا حسـنة وفـي الآخـرة حسـنة وقنـا عـذاب النـار }}.
وكـان أنـس إذا أراد أن يدعـو بدعـوة دعـا بهـا، وإذا أراد أن يدعـو بدعـاء دعـا بهـا فيـه.
وعـن أنـس أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـاد رجـلاً مـن المسـلمين قـد صـار مثـل الفـرخ فقـال لـه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ هـل تدعـو الله بشـيء أو تسـأله إيـاه؟ }} قـال: نعـم، كنـت أقـول اللهـم مـا كنـت معاقبـي بـه فـي الآخـرة فعجِّلْـه لـي فـي الدنيـا. فقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ سـبحان الله لا تطيقـه أو لا تسـتطيعه، فهـلا قلـت (( ربنـا آتنـا فـي الدنيـا حسـنة وفـي الآخـرة حسـنة وقنـا عـذاب النـار )) }} قـال: فدعـا الله فشـفاه.
(( وَاذْكُـرُوا اللهَ فِـي أَيَّـامٍ مَعْـدُودَاتٍ فَمَـنْ تَعَجَّـلَ فِـي يَوْمَيْـنِ فَـلا إِثْـمَ عَليـهِ وَمَـنْ تَأَخَّـرَ فَـلا إِثْـمَ عَلَيْـهِ لِمَـنِ اتَّقَـى وَاتَّقُـوا اللهَ وَاعْلَمُـوا أَنَّكُـمْ إِلَيْـهِ تُحْشَـرونَ )) / 203 /
قـال ابـن عبـاس: الأيـام المعـدودات (أيـام التشـريق) والأيـام المعلومـات (أيـام العشـر).
قـال عكرمـة: يعنـي التكبيـر فـي أيـام التشـريق بعـد الصلـوات المكتوبـات (الله أكبـر، الله أكبـر)، لحديـث: {{ أيـام التشـريق أيـام أكـل وشـرب وذكـر الله }}.
عـن أبـي هريـرة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بعـث عبـد الله بـن حذافـة يطـوف فـي منـى: {{ لا تصومـوا هـذه الأيـام فإنهـا أيـام أكـل وشـرب وذكـر الله عـزَّ وجـلَّ }}.
وعـن عائشـة قالـت: نهـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـن صـوم أيـام التشـريق وقـال: {{ هـي أيـام أكـل وشـرب وذكـر الله }}.
قـال ابـن عبـاس: الأيـام المعـدودات أيـام التشـريق أربعـة أيـام يـوم النحـر وثلاثـة بعـده.
وقـال علـي بـن أبـي طالـب: هـي ثلاثـة: يـوم النحـر ويومـان بعـده، إذبـح فـي أيهـن شـئت وأفضلهـا أولهـا.
والقـول الأول هـو المشـهور، وعليـه دل ظاهـر الآيـة الكريمـة حيـث قـال: (( فمـن تعجـل فـي يوميـن فـلا إثـم عليـه ومـن تأخـر فـلا إثـم عليـه )) فـدل علـى ثلاثـة بعـد النحـر، ويتعلـق بقولـه: (( واذكـروا الله فـي أيـام معـدودات )) ذكـر الله علـى الأضاحـي وقـد تقـدم أن الراجـح فـي ذلـك مذهـب الشـافعي رحمـه الله، وهـو أن وقـت الأضحيـة مـن يـوم النحـر إلـى آخـر أيـام التشـريق، ويتعلـق بـه أيضـاً الذكـر المؤقـت خلـف الصلـوات والمطلـق فـي سـائر الأحـوال، وفـي وقتـه أقـوال للعلمـاء أشـهرها الـذي عليـه العمـل أنـه مـن صـلاة الصبـح يـوم عرفـة إلـى صـلاة العصـر مـن آخـر أيـام التشـريق وهـو آخـر النفـر الآخـر.
وقـد ثبـت أن عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه كـان يكبـر فـي قبتـه، فيكبـر أهـل السـوق بتكبيـره حتـى ترتـج منـى تكبيـراً.
وقـد جـاء فـي الحديـث: {{ إنمـا جعـل الطـواف بالبيـت، والسـعي بيـن الصفـا والمـروة، ورمـي الجمـار لإقامـة ذكـر الله عـزّ وجـلّ }}.
ولمـا ذكـر الله تعالـى النفـر الأول والثانـي _ وهـو تفـرق النـاس مـن موسـم الحـج إلـى سـائر الأقاليـم والآفـاق بعـد اجتماعهـم فـي المشـاعر والمواقـف _ قـال: (( واتقـوا الله واعلمـوا أنكـم إليـه تحشـرون )) ، كمـا قـال: (( وهـو الـذي ذرأكـم فـي الأرض وإليـه تحشـرون )).
(( وَمِـنَ النَّـاسِ مَـنْ يُعْجِبُـكَ قَوْلُـهُ فِـي الحَيَـاةِ الدُّنيَـا وَيُشْـهِدُ اللهَ عَلَـى مَـا فِـي قَلْبِـهِ وَهُـوَ أَلَـدُّ الخِصَـامِ (204) وَإِذا تَوَلَّـى سَـعَى فِـي الأَرضِ لِيُفْسِـدَ فِيهَـا وَيُهْلِـكَ الحَـرْثَ وَالنَّسْـلَ وَاللهُ لا يُحِـبُ الفَسَـادَ (205) وَإِذا قِيـلَ لَـهُ اتَّـقِ اللهَ أَخَذَتْـهُ العِـزَّةُ بِالإِثْـمِ فَحَسْـبُهُ جَهَنَّـمُ وَلَبِئْـسَ المِهَـادُ (206) وَمِـنَ النَّـاسِ مَـنْ يَشْـري تَفْسَـهُ ابتِغَـاءَ مَرضَـاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤوفٌ بِالعِبَـادِ )) / 207 /
قـال السـدي: نزلـت فـي الأخنـس بـن شـريق الثقفـي، جـاء إلـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وأظهـر الإسـلام، وفـي باطنـه خـلاف ذلـك.
وعـن ابـن عبـاس أنهـا نزلـت فـي نفـر مـن المنافقيـن تكلمـوا فـي (خبيـب) وأصحابـه الذيـن قتلـوا بالرجيـع وعابوهـم.
وقيـل: بـل ذلـك عـام فـي المنافقيـن كلهـم وفـي المؤمنيـن كلهـم وهـو الصحيـح.
وروى ابـن جريـر: حدثنـي محمـد بـن أبـي معشـر، أخبرنـي أبـو معشـر نجيـح، قـال: سـمعت سـعيداً المقبـري يذاكـر محمـد بـن كعـب القرظـي، فقـال سـعيد: إن فـي بعـض الكتـب: (إن عبـاداً ألسـنتهم أحلـى مـن العسـل، وقلوبهـم أمـر مـن الصبـر، لبسـوا للنـاس مسـوك الضـأن مـن الليـن، يجتـرون الدنيـا بالديـن، قـال الله تعالـى: علـيّ تجترئـون وبـي تغتـرون؟ وعزتـي لأبعثـن عليهـم فتنـة تتـرك الحليـم منهـم حيـران). فقـال محمـد بـن كعـب: هـذا فـي كتـاب الله، فقـال سـعيد: وأيـن هـو مـن كتـاب الله؟ قـال قـول الله: (( ومـن النـاس مـن يعجبـك قولـه فـي الحيـاة الدنيـا )) الآيـة. فقـال سـعيد: قـد عرفـت فيمـن أنزلـت هـذه الآيـة، فقـال محمـد بـن كعـب:
وأمـا قولـه تعالـى: (( ويشـهد الله علـى مـا فـي قلبـه )) فمعنـاه أنـه يظهـر للنـاس الإسـلام، ويبـارز الله بمـا فـي قلبـه مـن الكفـر والنفـاق، كقولـه تعالـى: (( يسـتخفون مـن النـاس ولا يسـتخفون مـن الله )) الآيـة.
وقيـل معنـاه: أنـه إذا أظهـر للنـاس الإسـلام حلـف وأشـهد الله لهـم أن الـذي فـي قلبـه موافـق للسـانه وهـذا المعنـى صحيـح واختـاره ابـن جريـر وعـزاه إلـى ابـن عبـاس، والله أعلم.
وقولـه تعالـى: (( وهـو ألـد الخصـام )) الألـد فـي اللغـة: الأعـوج.
(( وتنـذر بـه قومـاً لـداً )) أي عوجـاً وهكـذا المنافـق فـي حـال خصومتـه، يكـذب ويـزور عـن الحـق ولا يسـتقيم معـه، بـل يفتـري ويفجـر، كمـا ثبـت فـي الصحيـح عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ آيـة المنافـق ثـلاث إذا حـدث كـذب وإذا عاهـد غـدر وإذا خاصـم فجـر }}.
وقولـه تعالـى: (( وإذا تولـى سـعى فـي الأرض ليفسـد فيهـا ويهلـك الحـرث والنسـل والله لا يحـب الفسـاد )) أي هـو أعـوج المقـال سـيئ الفعـال، فذلـك قولـه وهـذا فعلـه. كلامـه كـذب، واعتقـاده فاسـد، وأفعالـه قبيحـة.
والسـعي ههنـا هـو القصـد كمـا قـال إخبـاراً عـن فرعـون: (( ثـم أدبـر يسـعى . فحشـر فنـادى . فقـال أنـا ربكـم الأعلـى )) ، وقـال تعالـى: (( فاسـعوا إلـى ذكـر الله )) أي اقصـدوا واعمـدوا ناويـن بذلـك صـلاة الجمعـة، فـإن السـعي الحسـي إلـى الصـلاة منهـي عنـه بالسـنة النبويـة: {{ إذا أتيتـم الصـلاة فـلا تأتوهـا وأنتـم تسـعون وأتوهـا وعليكـم السـكينة والوقـار }}.
فهـذا المنافـق ليـس لـه همـة إلا الفسـاد فـي الأرض، وإهـلاك الحـرث: وهـو محـل نمـاء الـزروع والثمـار، والنسـل: وهـو نتـاج الحيوانـات الذيـن لا قـوام للنـاس إلا بهمـا.
وقـال مجاهـد: إذا سـعى فـي الأرض إفسـاداً منـع الله القطـر فهلـك الحـرث والنسـل.
(( والله لا يحـب الفسـاد )) أي لا يحـب مـن هـذه صفتـه، ولا مـن يصـدر منـه ذلـك.
وقولـه تعالـى: (( وإذا قيـل لـه اتـق الله أخذتـه العـزة بالإثـم )) أي إذا وعـظ هـذا الفاجـر فـي مقالـه وفعالـه، وقيـل لـه: اتـق الله وانـزع عـن قولـك وفعلـك، وارجـع إلـى الحـق، امتنـع وأبـى، وأخذتـه الحميـة والغضـب بالإثـم، أي بسـبب مـا اشـتمل عليـه مـن الآثـام، وهـذه الآيـة شـبيهة بقولـه تعالـى: (( وإذا تتلـى عليهـم آياتنـا بينـات تعـرف فـي وجـوه الذيـن كفـروا المنكـر يكـادون يسـطون بالذيـن يتلـون عليهـم آياتنـا قـل أفأنبئكـم بشـر مـن ذلكـم . النـار وعدهـا الله الذيـن كفـروا وبئـس المصيـر )) ولهـذا قـال فـي هـذه الآيـة: (( فحسـبه جهنـم ولبئـس المهـاد )) أي هـي كافيتـه عقوبـة فـي ذلـك.
وقولـه تعالـى: (( ومـن النـاس مـن يشـري نفسـه ابتغـاء مرضـات الله ))
لمـا أخبـر عـن المنافقيـن بصفاتهـم الذميمـة، ذكـر صفـات المؤمنيـن الحميـدة فقـال: (( ومـن النـاس مـن يشـري نفسـه ابتغـاء مرضـاة الله )).
قـال ابـن عبـاس وجماعـة: نزلـت فـي (صهيـب الرومـي) وذلـك أنـه لمـا أسـلم بمكـة، وأراد الهجـرة منعـه النـاس أن يهاجـر بمالـه، وإن أحـب أن يتجـرد منـه ويهاجـر فعـل، فتخلـص منهـم وأعطاهـم مالـه، فأنـزل الله فيـه هـذه الآيـة، فتلقـاه عمـر بـن الخطـاب وجماعـة إلـى طـرف الحـرة فقالـوا لـه: ربـح البيـع، فقـال: وأنتـم فـلا أخسـر الله تجارتكـم، ومـا ذاك؟ فأخبـروه أن الله أنـزل هـذه الآيـة.
ويـروى أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال لـه: {{ ربـح البيـع صهيـب }}.
وروي عـن أبـي عثمـان النهـدي عـن صهيـب قـال: لمـا أردت الهجـرة مـن مكـة إلـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قالـت لـي قريـش: يـا صهيـب قدمـت إلينـا ولا مـال لـك، وتخـرج أنـت ومالـك؟ والله لا يكـون ذلـك أبـداً. فقلـت لهـم: أرأيتأم إن دفعـت إليكـم مالـي تخلُّـون عنـي؟ قالـوا: نعـم، فدفعـت إليهـم مالـي فخلـوا عنـي، فخرجـت حتـى قدمـت المدينـة فبلـغ ذلـك النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: {{ ربـح صهيـب، ربـح صهيـب }} مرتيـن.
وأمـا الأكثـرون فحملـوا ذلـك علـى أنهـا نزلـت فـي كـل مجاهـد فـي سـبيل الله كمـا قـال تعالـى: (( إن الله اشـترى مـن المؤمنيـن أنفسـهم وأموالهـم بـأن لهـم الجنـة يقاتلـون فـي سـبيل الله
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 179 ، 180 ، 181 ، 182 ، 183 ، 184 ، 185 ، 186 ، 187 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
الصفحة الأخيرة
(( أُحِـلَّ لَكُـمْ لَيْلَـةَ الصِّيَـامِ الرَّفَـثُ إِلـى نِسَـاءِكُمْ هُـنَّ لِبَـاسٌ لَكُـمْ وَأَنْتُـمْ لِبَـاسٌ لَهُـنَّ عَلِـمَ اللهُ أَنَّكُـمْ كُنتُـمْ تَخْتَانُـونَ أَنْفُسَـكُمْ فَتَـابَ عَلَيْكُـمْ وَعَفَـا عَنْكُـمْ فَـالآنَ باشِـروهُنَّ وَابْتَغُـوا مَـا كَتَـبَ اللهُ لَكُـمْ وَكُلُـوا وَاشْـرَبُوا حَتَّـى يَتَبَيَّـنَ لَكُـمُ الخَيْـطُ الأَبْيَـضُ مِـنَ الخَيْـطِ الأَسْـوَدِ مِـنَ الفَجْـرِ ثُـمَّ أَتِمُّـوا الصِّيَـامَ إِلـى اللَّيْـلِ وَلا تُبَاشِـروهُنَّ وَأَنْتُـمْ عَاكِفُـونَ فـي المَسَـاجِدِ تِلْـكَ حُـدودُ اللهِ فَـلا تَقْرَبوهَـا كَذلِـكَ يُبَيِّـنُ اللهُ آياتِـهِ لِلنَّـاسِ لَعَلَّهُـمْ يَتَّقُـونَ )) / 187 /
هـذه رخصـة مـن الله تعالـى للمسـلمين، ورفـع لمـا كـان عليـه الأمـر فـي ابتـداء الإسـلام، فإنـه كـان إذا أفطـر أحدهـم إنمـا يحـل لـه الأكـل والشـرب والجمـاع إلـى صـلاة العشـاء أو ينـام قبـل ذلـك، فمتـى نـام أو صلـى العشـاء حـرم عليـه الطعـام والشـراب والجمـاع إلـى الليلـة القابلـة، فوجـدوا مـن ذلـك مشـقة كبيـرة، والرفـث هنـا هـو الجمـاع قالـه ابـن عبـاس وعطـاء ومجاهـد.
وقولـه: (( هـن لبـاس لكـم وأنتـم لبـاس لهـن ))
قـال ابـن عبـاس: يعنـي هـن سـكن لكـم وأنتـم سـكن لهـن.
وقـال الربيـع: هـن لحـاف لكـم وأنتـم لحـاف لهـن.
وحاصلـه أن الرجـل والمـرأة كـل منهمـا يخالـط الآخـر ويماسـه ويضاجعـه، مناسـب أن يرخـص لهـم فـي المجامعـة فـي ليـل رمضـان لئـلا يشـق عليهـم ويحرجـوا.
وكـان السـبب فـي نـزول هـذه الآيـة مـا روي أن أصحـاب النبـي صلـى الله عليـه وسـلم إذا كـان الرجـل صائمـاً فنـام قبـل أن يفطـر لـم يأكـل إلـى مثلهـا، وإن (قيـس بـن صرمـة) الأنصـاري كـان صائمـاً وكـان يومـه ذلـك يعمـل فـي أرضـه، فلمـا حضـر الإفطـار أتـى امرأتـه فقـال: هـل عنـدك طعـام؟ قالـت: لا ولكـنْ أنطلـق فأطلـب لـك، فغلبتـه عينـه فنـام، وجـاءت امرأتـه فلمـا رأتـه نائمـاً قالـت: خيبـة لـك أنمـت؟ فلمـا انتصـف النهـار غشـي عليـه، فذكـر ذلـك للنبـي صلـى الله عليـه وسـلم فنزلـت هـذه الآيـة: (( أحـل لكـم ليلـة الصيـام الرفـث إلـى نسـاءكم _ إلـى قولـه _ وكلـوا واشـربوا حتـى يتبيـن لكـم الخيـط الأبيـض مـن الخيـط الأسـود مـن الفجـر )) ففرحـوا بهـا فرحـاً شـديداً.
ولفـظ البخـاري عـن البـراء قـال: لمـا نـزل صـوم رمضـان كانـوا لا يقربـون النسـاء رمضـان كلـه، وكـان رجـال يخونـون أنفسـهم فأنـزل الله: (( علـم الله أنكـم تختانـون أنفسـكم فتـاب عليكـم وعفـا عنكـم )).
وعـن ابـن عبـاس قـال: كـان المسـلمون فـي شـهر رمضـان إذا صلّـوا العشـاء حـرم عليهـم النسـاء والطعـام إلـى مثلهـا مـن القابلـة، ثـم إن أناسـاً مـن المسـلمين أصابـوا مـن النسـاء والطعـام فـي شـهر رمضـان بعـد العشـاء منهـم عمـر بـن الخطـاب فشـكوا ذلـك إلـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فأنـزل الله تعالـى: {{ علـم الله أنكـم كنتـم تختانـون أنفسـكم فتـاب عليكـم وعفـا عنكـم فـالآن باشـروهن )) الآيـة.
وعـن أبـي هريـرة فـي قـول الله تعالـى: (( أحـل لكـم ليلـة الصيـام الرفـث إلـى نسـاءكم ))
قـال: كـان المسـلمون قبـل أن تنـزل هـذه الآيـة إذا صلّـوا العشـاء الآخـرة حـرم عليهـم الطعـام والشـراب والنسـاء حتـى يفطـروا، وإن عمـر بـن الخطـاب أصـاب أهلـه بعـد صـلاة العشـاء، وإن (صرمـة بـن قيـس) الأنصـاري غلبتـه عينـاه بعـد صـلاة المغـرب فنـام، ولـم يشـبع مـن الطعـام ولـم يسـتيقظ حتـى صلـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم العشـاء فقـام فأكـل وشـرب، فلمـا أصبـح أتـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فأخبـره بذلـك فأنـزل الله عنـد ذلـك: (( أحـل لكـم ليلـة الصيـام الرفـث إلـى نسـاءكم )) يعنـي بالرفـث مجامعـة النسـاء.
(( هـن لبـاس لكـم وأنتـم لبـاس لهـن علـم الله أنكـم كنتـم تختانـون أنفسـكم )) يعنـي تجامعـون النسـاء وتأكلـون وتشـربون بعـد العشـاء.
(( فتـاب عليكـم وعفـا عنكـم فـالآن باشـروهن )) يعنـي جامعوهـن.
(( وابتغـوا مـا كتـب الله لكـم )) يعنـي الولـد.
(( وكلـوا واشـربوا حتـى يتبيـن لكـم الخيـط الأبيـض مـن الخيـط الأسـود مـن الفجـر ثـم أتمـوا الصيـام إلـى الليـل )) فكـان ذلـك عفـواً مـن الله ورحمـة.
وقـال ابـن جريـر: كـان النـاس فـي رمضـان إذا صـام الرجـل فأمسـى فنـام حـرم عليـه الطعـام والشـراب والنسـاء حتـى يفطـر مـن الغـد، فرجـع عمـر بـن الخطـاب مـن عنـد النبـي صلـى الله عليـه وسـلم ذات ليلـة وقـد سـمر عنـده، فوجـد امرأتـه قـد نامـت فأرادهـا فقالـت: إنـي قـد نمـت، فقـال: مـا نمـت، ثـم وقـع بهـا.
وصنـع (كعـب بـن مالـك) مثـل ذلـك، فغـدا عمـر بـن الخطـاب إلـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فأخبـره، فأنـزل الله: (( علـم الله أنكـم كنتـم تختانـون أنفسـكم فتـاب عليكـم وعفـا عنكـم فـالآن باشـروهن )) الآيـة. فأبـاح الجمـاع والطعـام والشـراب فـي جميـع الليـل ورحمـة ورخصـة ورفقـاً.
وقولـه تعالـى: (( وابتغـوا مـا كتـب الله لكـم )).
قـال ابـن عبـاس ومجاهـد وعكرمـة: يعنـي الولـد.
وقـال عبـد الرحمـن ابـن زيـد بـن أسـلم: (( وابتغـوا مـا كتـب الله لكـم )) يعنـي الجمـاع.
وقـال قتـادة: ابتغـوا الرخصـة التـي كتـب الله لكـم، يقـول مـا أحـل الله لكـم.
واختـار ابـن جريـر أن الآيـة أعـم مـن هـذا كلـه.
وقولـه تعالـى: (( وكلـوا واشـربوا حتـى يتبيـن لكـم الخيـط الأبيـض مـن الخيـط الأسـود مـن الفجـر ثـم أتمـوا الصيـام إلـى الليـل )).
أبـاح تعالـى الأكـل والشـرب مـع مـا تقـدم مـن إباحـة الجمـاع، فـي أي الليـل شـاء الصائـم إلـى أن يتبيـن ضيـاء الصبـاح مـن سـواد الليـل، وعبّـر عـن ذلـك بالخيـط الأبيـض مـن الخيـط الأسـود ورفـع اللبـس بقولـه: (( مـن الفجـر )).
كـان رجـال إذا أرادوا الصـوم ربـط أحدهـم فـي رجليـه الخيـط الأبيـض والخيـط الأسـود فـلا يـزال يأكـل حتـى يتبيـن لـه رؤيتهـا، فأنـزل الله بعـدُ (( مـن الفجـر )) فعلمـوا أنمـا يعنـي الليـل والنهـار.
وعـن عـدي بـن حاتـم قـال: لمـا نزلـت هـذه الآيـة: (( وكلـوا واشـربوا حتـى يتبيـن الخيـط الأبيـض مـن الخيـط الأسـود )) عمـدت إلـى عقاليـن أحدهمـا أسـود والآخـر أبيـض، قـال: فجعلتهمـا تحـت وسـادتي، قـال: فجعلـت أنظـر إليهمـا فلمـا تبيَّـن لـي الأبيـض مـن الأسـود أمسـكت فلمـا أصبحـت غـدوت إلـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فأخبرتـه بالـذي صنعـت فقـال: {{ إن وسـادك إذن لعريـض إنمـا ذلـك بيـاض النهـار مـن سـواد الليـل }}.
وجـاء فـي بعـض الألفـاظ: {{ إنـك لعريـض القفـا }} ففسـره بعضهـم بالبـلادة.
ويفسـره روايـة البخـاري أيضـاً قـال: {{ إنـك لعريـض القفـا إن أبصـرت الخيطيـن، ثـم قـال: لا، بـل هـو سـواد الليـل وبيـاض النهـار }}.
فـصــــل
وفـي إباحتـه تعالـى جـواز الأكـل إلـى طلـوع الفجـر، دليـل علـى اسـتحباب السـحور، لأنـه مـن بـاب الرخصـة والأخـذ بهـا محبـوب ولهـذا وردت السـنّة الثابتـة عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بالحـث علـى السـحور.
ففـي الصحيحيـن عـن أنـس قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ تسـحروا فـإن فـي السـحور بركـة }}.وفـي صحيـح مسـلم عـن عمـرو بـن العـاص رضـي الله عنـه قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن فصـل مـا بيـن صيامنـا وصيـام أهـل الكتـاب أكلـة السـحور }}.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ السـحور أكلـة بركـة فـلا تدعـوه ولـو أن أحدكـم تجـرَّع جرعـة مـاء، فـإن الله وملائكتـه يصلـون علـى المتسـحرين }}.
ويسـتحب تأخيـره كمـا جـاء فـ] الصحيحيـن عـن أنـس بـن مالـك عـن زيـد بـن ثابـت قـال: تسـحرنا مـع رسـول الله ثـم قمنـا إلـى الصـلاة، قـال أنـس قلـت لزيـدٍ: كـم كـان بيـن الأذان والسـحور؟ قـال: قـدر خمسـين آيـة.
وقـال رسـول الله صلـى اله عليـه وسـلم: {{ لا تـزال أمتـي بخيـر مـا عجلـوا الإفطـار وأخـروا السـحور }}.
وحكـى ابـن جريـر فـي تفسـيره عـن بعضهـم أنـه إنمـا يجـب الإمسـاك مـن طلـوع الشـمـس كمـا يجـوز الإفطـار بغروبهـا.
(قلـت): وهـذا القـول مـا أظـن أحـداً مـن أهـل العلـم يسـتقر لـه قـدم عليـه لمخالفتـه نـص القـرآن فـي قولـه: (( كلـوا واشـربوا حتـى يتبيـن لكـم الخيـط الأبيـض مـن الخيـط الأسـود مـن الفجـر قـم أتمـوا الصيـام إلـى الليـل )).
وقـد ورد فـي الصحيحيـن عـن عائشـة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لا يمنعكـم أذان بـلال عـن سـحوركم فإنـه ينـادي بليـل، فكلـوا واشـربوا حتـى تسـمعوا أذان بـن أم مكتـوم فإنـه لا يـؤذِّن حتـى يطلـع الفجـر }}.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لا يغرنكـم أذان بـلال ولا هـذا البيـاض _ لعمـود الصبـح _ حتـى يسـتطير }}.
وعـن عطـاء: سـمعت ابـن عبـاس يقـول: همـا فجـران فأمـا الـذي يسـطع فـي السـماء فليـس يحـل ولا يحـرم شـيئاً، ولكـن الفجـر الـذي يسـتنير علـى رؤوس الجبـال هـو الـذي يحـرم الشـراب.
وقـال عطـاء: فأمـا إذا سـطع سـطوعاً فـي السـماء وسـطوعه أن يذهـب فـي السـماء طـولاً فإنـه لا يحـرم بـه شـراب للصائـم ولا صـلاة ولا يفـوت بـه الحـج، ولكـن إذا انتشـر علـى رؤوس الجبـال حـرم الشـراب للصيـام وفـات الحـج، وهـذا إسـناد صحيـح إلـى ابـن عبـاس وعطـاء، وهكـذا روي عـن غيـر واحـد مـن السـلف رحمهـم الله.
مســـألــة
ومـن جعْلـه تعالـى الفجـرَ غايـةً إباحـة الجمـاع والطعـام والشـراب لمـن أراد الصيـام، يسـتدل علـى أنـه مـن أصبـح جنبـاً فليغتسـل وليتـم صومـه ولا حـرج عليـه، وهـذا مذهـب الأئمـة الأربعـة وجمهـور العلمـاء سـلفاً وخلفـاً، لمـا رواه البخـاري ومسـلم مـن حديـث عائشـة وأم سـلمة رضـي الله عنهمـا أنهمـا قالتـا: كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يصبـح جنبـاً مـن جمـاع غيـر احتـلام ثـم يغتسـل ويصـوم، وفـي حديـث (أم سـلمة) عندهمـا ثـم لا يفطـر ولا يقضـي.
وقولـه تعالـى: (( ثـم أتمـوا الصيـام إلـى الليـل )) يقتضـي الإفطـار عنـد غـروب الشـمـس كمـا جـاء فـي الصحيحيـن: { إذا أقبـل الليـل ههنـا وأدبـر النهـار مـن ههنـا فقـد أفطـر الصائـم }.
وقـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لا يـزال النـاس بخيـر مـا عجلـوا الفطـر }}.
وعـن أبـي هريـرة عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ يقـول الله عـزّ وجـلّ: أحـب عبـادي إلـيَّ أعجلهـم فطـراً }}.
ولهـذا ورد فـي الأحاديـث الصحيحـة النهـي عـن الوصـال، وهـو أن يصـل يومـاً بيـوم آخـر ولا يأكـل بينهمـا شـيئاً.
وعـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى االله عليـه وسـلم: {{ لا تواصلـوا }}، قالـوا: يـا رسـول الله! إنـك تواصـل، قـال: {{ فأنـي لسـت مثلكـم إنـي أبيـت يطعمنـي ربـي ويسـقيني }}. قـال فلـم ينتهـوا عـن الوصـال فواصـل بهـم النبـي صلـى الله عليـه وسـلم يوميـن وليلتيـن، ثـم رأوا الهـلال فقـال: {{ لـو تأخـر الهـلال لزدتكـم }} كالمنهـل لهـم.
وعـن عائشـة رضـي الله عنهـا قالـت: {{ نهـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـن الوصـال رحمـة لهـم، فقالـوا: إنـك تواصـل، قـال: {{ إنـي لسـت كهيئتكـم إنـي يطعمنـي ربـي ويسـقيني }}.
فقـد ثبـت النهـي عنـه مـن غيـر وجـه، وثبـت أنته مـن خصائـص النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وأنـه كـان يقـوى علـى ذلـك ويعـان، والأظهـر أن ذلـك الطعـام والشـراب فـي حقـه إنمـا كـان (معنويـاً) لا (حسـياً).
وأمـا مـن أحـب أن يمسـك بعـد غـروب الشـمـس إلـى وقـت السـحر فلـه ذلـك، كمـا فـي حديـث أبـي سـعيد الخـدري رضـي الله عنـه قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لا تواصلـوا فأيكـم أراد أن يواصـل فليواصـل إلـى السـحر }}. قالـوا: فإنـك تواصـل يـا رسـول الله، قـال: {{ إنـي لسـت كهيئتكـم، إنـي أبيـت لـي مطعـمٌ يطعمنـي وسـاقٍ يسـقيني }}.
وقولـه تعالـى: (( ولا تباشـروهن وأنتـم عاكفـون فـي المسـاجد )).
قـال ابـن عبـاس: هـذا فـي الرجـل يعتكـف فـي المسـجد فـي رمضـان أو فـي غيـر رمضـان، فحـرّم الله عليـه أن ينكـح النسـاء ليـلاً أو نهـاراً حتـى يقضـي اعتكافـه.
وقـال الضحّـاك: كـان الرجـل إذا اعتكـف فخـرج مـن المسـجد جامـعَ إن شـاء، فقـال الله تعالـى: (( ولا تباشـروهن وأنتـم عاكفـون فـي المسـاجد )) أي لا تقاربوهـن مـا دمتـم عاكفيـن فـي المسـجد ولا فـي غيـره.
وهـذا الـذي حكـاه هـو الأمـر المتفـق عليـه عنـد العلمـاء، إن المعتكـف يحـرم عليـه النسـاء مـا دام معتكفـاً فـي مسـجده، ولـو ذهـب إلـى منزلـه لحاجـة لا بُـدّ لـه منهـا، فـلا يحـل لـه أن يثبـت فيـه إلا بمقـدار مـا يفـرغ مـن حاجتـه تلـك، مـن قضـاء الغائـط أو الأكـل، وليـس لـه أن يقبِّـل امرأتـه، ولا أن يضمهـا إليـه، ولا يشـتغل بشـيء سـوى اعتكافـه, ولا يعـود المريـض لكـن يسـأل عنـه وهـو مـارّ فـي طريقـه، وللاعتكـاف أحكـام مفصلـة فـي بابهـا، منهـا مـا هـو مجمـع عليـه بيـن العلمـاء ومنهـا مـا هـو مختلـف فيـه.
وفـي ذكـره تعالـى الاعتكـاف بعـد الصيـام، إرشـاد وتنبيـه علـى الاعتكـاف فـي الصيـام أو فـي آخـر شـهر الصيـام، كمـا ثبـت فـي السـنّة عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه كـان يعتكـف العشـر الأواخـر مـن شـهر رمضـان حتـى توفـاه الله عـزّ وجـلّ، ثـم اعتكـف أزواجـه مـن بعـده.
وفـي الصحيحيـن: أن صفيـة بنـت حيـي كانـت تـزور النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وهـو معتكـف فـي المسـجد، فتحدثـت عنـده سـاعة ثـم قامـت لترجـع إلـى منزلهـا، وكـان ذلـك ليـلاً، فقـام النبـي صلـى الله عليـه وسـلم ليمشـي معهـا حتـى تبلـغ دارهـا، وكـان منزلهـا فـي دار أسـامة بـن زيـد فـي جانـب المدينـة، فلمـا كـان ببعـض الطريـق لقيـه رجـلان مـن الأنصـار، فلمـا رأيـا النبـيَّ صلـى الله عليـه وسـلم أسـرعا (وفـي روايـة) تواريـا _ أي حيـاءً مـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم لكـون أهلـه معـه _ فقـال لهمـا صلـى الله عليـه وسـلم: {{ علـى رسـلكما إنهـا صفيـة بنـت حيـي }} (أي لا تسـرعا واعلمـا أنهـا صفيـة بنـت حيـي أي زوجتـي) فقـالا: سـبحان الله يـا رسـول الله! فقـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن الشـيطان يجـري مـن ابـن آدم مجـرى الـدم وإنـي خشـيت أن يقـذف فـي قلوبكمـا شـيئاً أو قـال شـراً }}.
قـال الشـافعي رحمـه الله: أراد عليـه السـلام أن يعلِّـم أمتـه التبـري مـن التهمـة فـي محلهـا، لئـلا يقعـا فـي محـذور، وهمـا كانـا أتقـى لله مـن أن يظنـا بالنبـي صلـى الله عليـه وسـلم شـيئاً والله أعلـم.
ثـم المـراد (بالمباشـرة) إنمـا هـو الجمـاع ودواعيـه مـن تقبيـل ومعانقـة ونحـو ذلـك، فأمـا معاطـاة الشـيء ونحـوه فـلا بـأس بـه، فقـد ثبـت فـي الصحيحيـن عـن عائشـة رضـي الله عنهـا أنهـا قالـت: كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يدنـي إلـيَّ رأسـه فأرجّلـه وأنـا حائـض، وكـان لا يدخـل البيـت إلا لحاجـة الإنسـان. قالـت عائشـة: ولقـد كـان المريـض يكـون فـي البيـت فمـا أسـأل عنـه إلا وأنـا مـارة.
وقولـه تعالـى: (( تلـك حـدود الله )) أي هـذا الـذي بيّنـاه وفرضنـاه وحدّدنـاه مـن الصيـام وأحكامـه، ومـا أبحنـا فيـه ومـا حرمنـا وذكرنـا غايتـه ورخصـه وعزائمـه.
(( حـدود الله )) أي شـرعها الله وبيَّنهـا بنفسـه.
(( فـلا تقربوهـا )) أي لا تجاوزوهـا وتتعدوهـا.
وقيـل فـي قولـه: (( تلـك حـدود الله )) أي المباشـرة فـي الاعتكـاف.
(( كذلـك يبيـن الله آياتـه للنـاس )) أي كمـا بيَّـن الصيـام وأحكامـه وشـرائعه وتفاصيلـه، كذلـك يبيـن سـائر الأحكـام علـى لسـان عبـده ورسـوله محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
(( للنـاس لعلهـم يتقـون )) أي يعرفـون كيـف يهتـدون وكيـف يطيعـون كمـا قـال تعالـى: (( هـو الـذي ينـزِّل علـى عبـده آيـات بينـات ليخرجكـم مـن الظلمـات إلـى النـور وإن الله بكـم لـرؤوف رحيـم )).
(( وَلا تَأكُلُـوا أَمْوَالَكُـم بَينَكُـم بِالباطِـلِ وتُدْلـوا بِهَـا إِلـى الحُكَّـامِ لِتَأكُلـوا فَرِيقـاً مِـنْ أَمْـوَالِ النَّـاسِ بِالإِثْـمِ وَأَنْتُـمْ تَعْلَمُـونَ )) / 188 /
قـال ابـن عبـاس: هـذا فـي الرجـل يكـون عليـه مـال، وليـس عليـه فيـه بينـة فيجحـد المـال ويخاصـم إلـى الحكـام، وهـو يعـرف أن الحـق عليـه وهـو يعلـم أنـه آكـل الحـرام.
وكـذا روي عـن مجاهـد وعكرمـة وقتـادة أنهـم قالـوا: لا تخاصـم وأنـت تعلـم أنـك ظالـم.
وقـد ورد فـي الصحيحيـن عـن أم سـلمة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ ألا إنمـا أنـا بشـر وإنمـا يأتينـي الخصـم، فلعـل بعضكـم أن يكـون ألحـن بحجتـه مـن بعـض، فأقضـي لـه. فمـن قضيـت لـه بحـق مسـلم فإنمـا هـي قطعـة مـن نـار فليحملهـا أو ليذرهـا }}. فدلـت هـذه الآيـة الكريمـة وهـذا الحديـث علـى أن حكـم الحاكـم لا يغيـر الشـيء فـي نفـس الأمـر، فـلا يُحِـلُّ فـي نفـس الأمـر حرامـاً هـو حـرام، ولا يحـرم حـلالاً هـو حـلال وإنمـا هـو ملـزم فـي الظاهـر. فـإن طابـق فـي نفـس الأمـر فـذاك، وإلا فللحاكـم أجـره وعلـى المحتـال وزره، ولهـذا قـال تعالـى: (( وتُدْلـوا بهـا إلـى الحكـام لتأكلـوا فريقـاً مـن أمـوال النـاس بالإثـم وانتـم تعلمـون )) أي تعلمـون بطـلان مـا تدعونـه وتروجونـه فـي كلامكـم.
(( يَسْـأَلونَكَ عَـنِ الأَهِلَّـةِ قُـلْ هِـيَ مَواقيـتُ لِلنَّـاسِ وَالحَـجِّ وَلَيْـسَ البِـرَّ أَنْ تَأتـوا البُيـوتَ مِـنْ ظُهورِهَـا وَلَكِـنَّ البِـرَّ مَـنِ اتَّقَـى وَأْتُـوا البُيـوتَ مِـنْ أَبْوَابِهَـا وَاتَّقُـوا اللهَ لَعَلَّكُـمْ تُفلِحُـونَ )) / 189 /
قـال العوفـي عـن ابـن عبـاس: سـأل النـاس رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـن الأهلـة فنزلـت هـذه الآيـة (( يسـألونك عـن الأهلـة قـل هـي مواقيـت للنـاس )) يعلمـون بهـا حـل دينهـم وعـدة نسـائهم ووقـت حجهـم.
وقـال أبـو جعفـر عـن الربيـع عـن أبـي العاليـة: بلغنـا أنهـم قالـوا: يـا رسـول الله لـم خلقـت الأهلـة؟ فأنـزل الله (( يسـألونك عـن الأهلـة قـل هـي مواقيـت للنـاس )) يقـول جعلهـا الله مواقيـت لصـوم المسـلمين وإفطارهـم وعـدة نسـائهم ومحـل دينهـم.
وكـذا روي عـن عطـاء والضحَّـاك وقتـادة والسـدي والربيـع ابـن أنـس نحـو ذلـك.
وقـال عبـد الـرزاق عـن عبـد العزيـز بـن أبـي رواد عـن نافـع عـن ابـن عمـر قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم {{ جعـل الله الأهلـة مواقيـت للنـاس فصومـوا لرؤيتـه وأفطـروا لرؤيتـه فـإن غـم عليكـم فعـدوا ثلاثيـن يومـاً }} ورواه الحاكـم فـي مسـتدركه مـن حديـث ابـن أبـي رواد بـه. وقـال: كـان ثقـة عابـداً مجتهـداً شـريف النسـب فهـو صحيـح الإسـناد ولـم يخرجـاه.
وقـال محمـد بـن جابـر عـن قيـس بـن طلـق عـن أبيـه قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: (( جعـل الله الأهلـة فـإذا رأيتـم الهـلال فصومـوا وإذا رأيتمـوه فأفطـروا فـإن أغمـي عليكـم فأكملـوا العـدة ثلاثيـن )).
وكـذا روي مـن حديـث أبـي هريـرة ومـن كـلام علـي بـن أبـي طالـب رضـي الله عنـه.
وقولـه تعالـى: (( وليـس البـر بـأن تأتـوا البيـوت مـن ظهورهـا ولكـن البـر مـن اتقـى وأتـوا البيـوت مـن أبوابهـا )).
قـال البخـاري: حدثنـا عبيـد الله بـن موسـى عـن إسـرائيل عـن أبـي إسـحق عـن البـراء قـال: كانـوا إذا أحرمـوا فـي الجاهليـة أتـوا البيـت مـن ظهـره فأنـزل الله (( وليـس البـر بـأن تأتـوا البيـوت مـن ظهورهـا ولكـن البـر مـن اتقـى وأتـوا البيـوت مـن أبوابهـا )).
وكـذا رواه أبـو داود الطيالسـي عـن شـعبة عـن أبـي إسـحاق عـن البـراء قـال: كانـت الأنصـار إذا قدمـوا مـن سـفرهم لـم يدخـل الرجـل مـن قبـل بابـه فنزلـت هـذه الآيـة.
قـال الأعمـش: عـن أبـي سـفيان عـن جابـر كانـت قريـش تدعـى الحمـس وكانـوا يدخلـون مـن الأبـواب فـي الإحـرام وكانـت الأنصـار وسـائر العـرب لا يدخلـون مـن بـاب فـي الإحـرام فبينـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي بسـتان إذ خـرج مـن بابـه وخـرج معـه قطبـة بـن عامـر مـن الأنصـار فقالـوا يـا رسـول الله: إن قطبـة بـن عامـر رجـل تاجـر وإنـه خـرج معـك مـن البـاب فقـال لـه: {{ مـا حملـك علـى مـا صنعـت }} قـال: رأيتـك فعلتـه ففعلـت كمـا فعلـت فقـال: إنـي أحمـس قـال لـه: فـإن دينـي دينـك. فأنـزل الله (( وليـس البـر بـأن تأتـوا البيـوت مـن ظهورهـا ولكـن البـر مـن اتقـى وأتـوا البيـوت مـن أبوابهـا )) رواه ابـن أبـي حاتـم ورواه العوفـي عـن ابـن عبـاس بنحـوه.
وكـذا روي عـن مجاهـد والزهـري وقتـادة وإبراهيـم النخعـي والسـدي والربيـع بـن أنـس.
وقـال الحسـن البصـري: كـان أقـوام مـن أهـل الجاهليـة إذا أراد أحدهـم سـفراً وخـرج مـن بيتـه يريـد سـفره الـذي خـرج لـه ثـم بـدا لـه بعـد خروجـه أن يقيـم ويـدع سـفره لـم يدخـل البيـت مـن بابـه ولكـن يتسـوره مـن قبـل ظهـره فقـال الله تعالـى: (( وليـس البـر بـأن تأتـوا البيـوت مـن ظهورهـا )) الآيـة.
وقـال محمـد بـن كعـب: كـان الرجـل إذا اعتكـف لـم يدخـل منزلـه مـن بـاب البيـت فأنـزل الله هـذه الآيـة.
وقـال عطـاء بـن أبـي ربـاح: كـان أهـل يثـرب إذا رجعـوا مـن عيدهـم دخلـوا منازلهـم مـن ظهورهـا ويـرون أن ذلـك أدنـى إلـى البـر فقـال الله (( وليـس البـر بـأن تأتـوا البيـوت مـن ظهورهـا )) ولا يـرون أن ذلـك أدنـى إلـى البـر.
وقولـه: (( واتقـوا الله لعلكـم تفلحـون )) أي اتقـوا الله فافعلـوا مـا أمركـم بـه واتركـوا مـا نهاكـم عنـه.
(( لعلكـم تفلحـون )) غـداً إذا وقفتـم بيـن يديـه فيجازيكـم علـى التمـام والكمـال.
(( وَقَاتِلـوا فِـي سَـبِيلِ اللهِ الَّذِيـنَ يُقاتِلونَكُـم وَلا تَعْتَـدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِـبُّ المُعْتَديـنَ (190) واقتُلُوهُـمْ حَيْـثُ ثَقِفْتُمُوهُـمْ وَأَخْرِجُوهُـم مِـنْ حَيْـثُ أَخْرَجُوكُـمْ وَالفِتْنَـةُ أَشَـدُّ مِـنَ القَتْـلْ وَلا تُقَاتِلوهُـمْ عِنْـدَ المَسْـجِدِ الحَـرامِ حَتَّـى يُقاتِلوكُـمْ فِيـهِ فَـإِنْ قَاتَلُوكُـمْ فَاقْتُلوهُـمْ كَذلِـكَ جَـزاءُ الكَافِريـنَ (191) فَـإِنِ انتَهَـوا فَـإِنَّ اللهَ غَفُـورٌ رَحِيـمُ (192) وَقَاتِلُوهُـمْ حَتَّـى لا تَكُـونَ فِتنَـةٌ وَيَكُـونَ الدّيـنَ للهِ فَـإِنِ انتَهَـوا فَـلا عُـدوَانَ إِلا عَلَـى الظَالِميـن )) / 193 /
قـال أبـو جعفـر الـرازي عـن الربيـع بـن أنـس عـن أبـي العاليـة فـي قولـه تعالـى (( وقاتلـوا فـي سـبيل الله الذيـن يقاتلونكـم )) قـال: هـذه أول آيـة نزلـت فـي القتـال بالمدينـة فلمـا نزلـت كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقاتـل مـن قاتلـه ويكـف عمـن كـف عنـه حتـى نزلـت سـورة بـراءة.
وكـذا قـال عبـد الرحمـن بـن زيـد بـن أسـلم حتـى قـال هـذه منسـوخة بقولـه: ( فاقتلـوا المشـركين حيـث وجدتموهـم ) وفـي هـذا نظـر لأن قولـه (( الذيـن يقاتلونكـم )) إنمـا هـو تهييـج وإغـراء بالأعـداء الذيـن همتهـم قتـال الإسـلام وأهلـه أي كمـا يقاتلونكـم فاقتلوهـم أنتـم كمـا قـال: (( وقاتلـوا المشـركين كافـة كمـا يقاتلونكـم كافـة )) ولهـذا قـال فـي هـذه الآيـة (( واقتلوهـم حيـث ثقفتموهـم وأخرجوهـم مـن حيـث أخرجوكـم )) أي لتكـون همتكـم منبعثـة علـى قتالهـم كمـا همتهـم منبعثـة علـى قتالكـم وعلـى إخراجهـم مـن بلادهـم التـي أخرجوكـم منهـا قصاصـاً.
وقولـه تعالـى: (( ولا تعتـدوا إن الله لا يحـب المعتديـن )) أي قاتلـوا فـي سـبيل الله ولا تعتـدوا فـي ذلـك ويدخـل فـي ذلـك ارتكـاب المناهـي.
كمـا قالـه الحسـن البصـري مـن المثلـة والغلـول وقتـل النسـاء والصبيـان والشـيوخ الذيـن لا رأي لهـم ولا قتـال فيهـم والرهبـان وأصحـاب الصوامـع وتحريـق الأشـجار وقتـل الحيـوان لغيـر مصلحـة.
كمـا قـال ذلـك ابـن عبـاس وعمـر بـن عبـد العزيـز ومقاتـل بـن حيـان وغيرهـم ولهـذا جـاء فـي صحيـح مسـلم عـن بريـدة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان يقـول: {{ اغـزوا فـي سـبيل الله قاتلـوا مـن كفـر بالله اغـزوا ولا تغلـوا ولا تغـدروا ولا تمثلـوا ولا تقتلـوا الوليـد ولا أصحـاب الصوامـع }} رواه الإمـام أحمـد.
وعـن ابـن عبـاس قـال: كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم إذا بعـث جيوشـه قـال: {{ اخرجـوا بسـم الله قاتلـوا فـي سـبيل الله مـن كفـر بـالله لا تعتـدوا ولا تغلـوا ولا تمثلـوا ولا تقتلـوا الولـدان ولا أصحـاب الصوامـع }} رواه الإمـام أحمـد.
ولأبـي داود عـن أنـس مرفوعـاً نحـوه وفـي الصحيحيـن عـن ابـن عمـر قـال: وجـدت امـرأة فـي بعـض مغـازي النبـي صلـى الله عليـه وسـلم مقتولـة فأنكـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قتـل النسـاء والصبيـان.
وقـال الإمـام أحمـد: حدثنـا مصعـب بـن سـلام حدثنـا الأجلـح عـن قيـس بـن أبـي مسـلم عـن ربعـي بـن حـراش قـال: سـمعت حذيفـة يقـول ضـرب لنـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أمثـالاً واحـداً وثلاثـة وخمسـة وسـبعة وتسـعة وأحـد عشـر فضـرب لنـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم منهـا مثـلاً وتـرك سـائرها قـال {{ إن قومـاً كانـوا أهـل ضعـف ومسـكنة قاتلهـم أهـل تجبـر وعـداوة فأظهـر الله أهـل الضعـف عليهـم فعمـدوا إلـى عدوهـم فاسـتعملوهم وسـلطوهم فأسـخطوا الله عليهـم إلـى يـوم القيامـة }} هـذا حديـث حسـن الإسـناد ومعنـاه أن هـؤلاء الضعفـاء لمـا قـدروا علـى الأقويـاء فاعتـدوا عليهـم فاسـتعملوهم فيمـا لا يليـق بهـم أسـخطوا الله عليهـم بسـبب هـذا الاعتـداء. والأحاديـث والآثـار فـي هـذا كثيـرة جـداً.
ولمـا كـان الجهـاد فيـه إزهـاق النفـوس وقتـل الرجـال نبـه تعالـى علـى أن مـا هـم مشـتملون عليـه مـن الكفـر بـالله والشـرك بـه والصـد عـن سـبيله أبلـغ وأشـد وأعظـم وأطـم مـن القتـل ولهـذا قـال: (( والفتنـة أشـد مـن القتـل )).
وقولـه تعالـى: (( والفتنـة أشـد مـن القتـل ))
قـال أبـو مالـك أي مـا أنتـم مقيمـون عليـه أكبـر مـن القتـل.
وقـال: أبـو العاليـة ومجاهـد وسـعيد بـن جبيـر وعكرمـة والحسـن وقتـادة والضحَّـاك والربيـع بـن أنـس فـي قولـه: (( والفتنـة أشـد مـن القتـل )). يقـول الشـرك أشـد مـن القتـل.
وقولـه: (( ولا تقاتلوهـم عنـد المسـجد الحـرام )) كمـا جـاء فـي الصحيحيـن {{ إن هـذا البلـد حرمـه الله يـوم خلـق السـماوات والأرض فهـو حـرام بحرمـة الله إلـى يـوم القيامـة ولـم يحـل إلا سـاعة مـن نهـار وإنهـا سـاعتي هـذه حـرام بحرمـة الله إلـى يـوم القيامـة لا يعضـد شـجره ولا يختلـى خـلاه فـإن أحـد ترخـص بقتـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فقولـوا إن الله أذن لرسـوله ولـم يـأذن لكـم )) يعنـي بذلـك صلـوات الله وسـلامه عليـه قتالـه أهلـه يـوم فتـح مكـة فإنـه فتحهـا عنـوة وقتلـت رجـال منهـم عنـد الخندمـة وقيـل صلحـاً لقولـه: {{ مـن أغلـق بابـه فهـو آمـن ومـن دخـل المسـجد فهـو آمـن ومـن دخـل دار أبـي سـفيان فهـو آمـن }}.
وقولـه: (( حتـى يقاتلوكـم فيـه فـإن قاتلوكـم فاقتلوهـم كذلـك جـزاء الكافريـن )).
يقـول تعالـى ولا تقاتلوهـم عنـد المسـجد الحـرام إلا أن يبدءوكـم بالقتـال فيـه فلكـم حينئـذ قتالهـم وقتلهـم دفعـاً للصائـل كمـا بايـع النبـي صلـى الله عليـه وسـلم أصحابـه يـوم الحديبيـة تحـت الشـجرة علـى القتـال لمـا تألبـت عليـه بطـون قريـش ومـن والاهـم مـن أحيـاء ثقيـف والأحابيـش عامئـذ ثـم كـف الله القتـال بينهـم فقـال: (( وهـو الـذي كـف أيديهـم عنكـم وأيديكـم عنهـم ببطـن مكـة مـن بعـد أن أظفركـم عليهـم )).
وقـال: (( ولـولا رجـال مؤمنـون ونسـاء مؤمنـات لـم تعلموهـم أن تطئوهـم فتصيبكـم منهـم معـرة بغيـر علـم ليدخـل الله فـي رحمتـه مـن يشـاء لـو تزيلـوا لعذبنـا الذيـن كفـروا منهـم عذابـاً أليمـاً )).
أي فـإن تركـوا القتـال فـي الحـرم وأنابـوا إلـى الإسـلام والتوبـة فـإن الله يغفـر ذنوبهـم ولـو كانـوا قـد قتلـوا المسـلمين فـي حـرم الله فإنـه تعالـى لا يتعاظمـه ذنـب أن يغفـره لمـن تـاب منـه إليـه.
ثـم أمـر الله تعالـى بقتـال الكفـار (( حتـى لا تكـون فتنـة )) أي شـرك قالـه ابـن عبـاس وأبـو العاليـة ومجاهـد والحسـن وقتـادة والربيـع ومقاتـل بـن حيـان والسـدي وزيـد بـن أسـلم.
(( ويكـون الديـن لله )) أي يكـون ديـن الله هـو الظاهـر العالـي علـى سـائر الأديـان كمـا ثبـت فـي الصحيحيـن عـن أبـي موسـى الأشـعري قال: سـئل النبـي صلـى الله عليـه وسـلم عـن الرجـل يقاتـل شـجاعة ويقاتـل حميـة ويقاتـل ريـاء أي ذلـك فـي سـبيل الله؟ فقـال: {{ مـن قاتـل لتكـون كلمـة الله هـي العليـا فهـو فـي سـبيل الله }}.
وفـي الصحيحيـن: {{ أمـرت أن أقاتـل النـاس حتـى يقولـوا لا إلـه إلا الله فـإذا قالوهـا عصمـوا منـي دماءهـم وأموالهـم إلا بحقهـا وحسـابهم علـى الله }}.
وقولـه: (( فـإن انتهـوا فـلا عـدوان إلا علـى الظالميـن )) يقـول تعالـى فـإن انتهـوا عمـا هـم فيـه مـن الشـرك وقتـال المؤمنيـن فكفـوا عنهـم فـإن مـن قاتلهـم بعـد ذلـك فهـو ظالـم ولا عـدوان إلا علـى الظالميـن.
وهـذا معنـى قـول مجاهـد أن لا يقاتـل إلا مـن قاتـل أو يكـون تقديـره فـإن انتهـوا فقـد تخلصـوا مـن الظلـم وهـو الشـرك فـلا عـدوان عليهـم بعـد ذلـك والمـراد بالعـدوان ههنـا المعاقبـة والمقاتلـة كقولـه: (( فمـن اعتـدى عليكـم فاعتـدوا عليـه بمثـل مـا اعتـدى عليكـم )). وقولـه: (( وجـزاء سـيئة سـيئة مثلهـا وإن عاقبتـم فعاقبـوا بمثـل مـا عوقبتـم بـه )).
ولهـذا قـال عكرمـة وقتـادة: الظالـم الـذي أبـى أن يقـول لا إلـه إلا الله.
وقـال البخـاري قولـه: (( وقاتلوهـم حتـى لا تكـون فتنـة )) الآيـة.
حدثنـا محمـد بـن بشـار حدثنـا عبـد الوهـاب حدثنـا عبيـد الله عـن نافـع عـن ابـن عمـر قـال: أتـاه رجـلان فـي فتنـة ابـن الزبيـر فقـالا: إن النـاس ضيعـوا وأنـت ابـن عمـر وصاحـب النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فمـا يمنعـك أن تخـرج؟ فقـال: يمنعنـي أن الله حـرم دم أخـي قـالا: ألـم يقـل الله (( وقاتلوهـم حتـى لا تكـون فتنـة )) ؟ فقـال: قاتلنـا حتـى لـم تكـن فتنـة وكـان الديـن لله وأنتـم تريـدون أن تقاتلـوا حتـى تكـون فتنـة وحتـى يكـون الديـن لغيـر الله.
وزاد عثمـان بـن صالـح عـن ابـن وهـب أخبرنـي فـلان وحيـوة بـن شـريح عـن بكـر بـن عمـر المعافـري أن بكيـر بـن عبـد الله حدثـه عـن نافـع أن رجـلاً أتـى ابـن عمـر فقـال: يـا أبـا عبـد الرحمـن مـا حملـك علـى أن تحـج عامـاً وتقيـم عامـاً وتتـرك الجهـاد فـي سـبيل الله عـزَّ وجـلَّ وقـد علمـت مـا رغـب الله فيـه؟ فقـال يـا ابـن أخـي بنـي الإسـلام علـى خمـس: الإيمـان بـالله ورسـوله والصـلاة الخمـس وصيـام رمضـان وأداء الزكـاة وحـج البيـت. قالـوا: يـا أبـا عبـد الرحمـن ألا تسـمع ما ذكـر الله فـي كتابـه (( وإن طائفتـان مـن المؤمنيـن اقتتلـوا فأصلحـوا بينهمـا فـإن بغـت إحداهمـا علـى الأخـرى فقاتلـوا التـي تبغـي حتـى تفـيء إلـى أمـر الله ))
(( وقاتلوهـم حتـى لا تكـون فتنـة )) قـال فعلنـا علـى عهـد رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وكـان الإسـلام قليـلاً فكـان الرجـل يفتـن فـي دينـه إمـا قتلـوه أو عذبـوه حتـى كثـر الإسـلام فلـم تكـن فتنـة، قـال فمـا قولـك فـي علـي وعثمـان؟ قـال أمـا (عثمـان) فكـان الله عفـا عنـه وأمـا أنتـم فكرهتـم أن يعفـو عنـه وأمـا (علـي) فابـن عـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وختنـه فأشـار بيـده فقـال: هـذا بيتـه حيـث تـرون.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 164 ، 165 ، 166 ، 167 ، 168 ، 169 ، 170 ، 171 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************