بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( وَلَـنْ تَرْضَـى عَنْـكَ اليَهُـودُ وَلا النَّصَـارَى حَتَّـى تَتَّبِـعَ مِلَّتَهُـمْ قُـلْ إِنَّ هُـدَى اللهِ هُـوَ الهُـدَى وَلَئِـنِ اتَّبَعْـتَ أَهوَاءَهُـم بَعْـدَ الَّـذِي جَـاءَكَ مِـنَ العِلْـمِ مَـا لَـكَ مِـنَ اللهِ مِـنْ وَلِـيٍّ وَلا نَصِيـرٍ (120) الَّذيـنَ آتَيناهُـمُ الكِتَـابَ يَتْلُونَـهُ حَـقَّ تِلاوَتِـهِ أُولئِـكَ يُؤمِنـوْنَ بِـهِ وَمَـنْ يَكْفُـرْ بِـهِ فَأولَئِـكَ هُـمُ الخَاسِـرُونَ )) / 121 /
قـال ابـن جريـر: يعنـي بقولـه جـل ثنـاؤه: (( ولـن ترضـى عنـك اليهـود ولا النصـارى حتـى تتبـع ملتهـم )) وليسـت اليهـود يـا محمـد ولا النصـارى براضيـة عنـك أبـداً، فـدع طلـب مـا يرضيـه ويوافقهـم وأقبـل علـى طلـب رضـا الله فـي دعائهـم إلـى مـا بعثـك الله بـه مـن الحـق.
وقولـه تعالـى: (( قـل إنَّ هـدى الله هـو الهـدى )) أي قـل يـا محمـد إن هـدى الله الـذي بعثنـي بـه هـو الهـدى، يعنـي هـو الديـن المسـتقيم الصحيـح الكامـل الشـامل.
(( ولئـن اتبعـت أهواءهـم بعـد الـذي جـاءك مـن العلـم مـا لـك مـن الله مـن ولـي ولا نصيـر )) فيـه تهديـد ووعيـد شـديد للأمـة فـي اتبـاع طرائـق اليهـود والنصـارى، بعـد مـا علمـوا القـرآن والسـنة _ عيـاذاً بالله مـن ذلـك _ فـإن الخطـاب مـع الرسـول والأمـر لأمتـه.
وقـد اسـتدل كثيـر مـن الفقهـاء بقولـه: (( حتـى تتبـع ملتهـم )) حيـث أفـراد الملـة علـى أن الكفـر كلـه ملـة واحـدة كقولـه تعالـى: (( لكـم دينكـم ولـي ديـن )).
علـى هـذا لا يتـوارث المسـلمون والكفـار، وكـل منهـم يـرث قرينـه سـواء كـان مـن أهـل دينـه أم لا لأنهـم كلهـم ملـة واحـدة.
وقولـه: (( الذيـن آتيناهـم الكتـاب يتلونـه حـق تلاوتـه ))
قـال قتـادة: هـم اليهـود والنصـارى واختـاره ابـن جريـر.
وقـال سـعيد عـن قتـادة: هـم أصحـاب رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
قـال ابـن مسـعود: والـذي نفسـي بيـده إن حـق تلاوتـه أن يحـل حلالـه، ويحـرم حرامـه، ويقـرأه كمـا أنزلـه الله ولا يحـرف الكلـم عـن مواضعـه، ولا يتـأول منـه شـيئاً علـى غيـر تأويلـه.
وقـال الحسـن البصـري: يعلمـون بمحكمـه ويؤمنـون بمتشـابهه ويكلـون مـا أشـكل عليهـم إلـى عالمـه.
وقـال سـفيان الثـوري عـن عبـد الله بـن مسـعود فـي قولـه: (( يتلونـه حـق تلاوتـه )) يتبعونـه حـق اتباعـه.
وقـال أبـو موسـى الأشـعري: مـن يتبـع القـرآن يهبـط بـه علـى ريـاض الجنـة.
وعـن عمـر بـن الخطـاب: هـم الذيـن إذا أمـروا بآيـة رحمـة سـألوها مـن الله، وإذا مـروا بآيـة عـذاب اسـتعاذوا منهـا.
قـال: وقـد روي هـذا المعنـى عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم أنـه كـان إذا مـر بآيـة رحمـة سـأل، وإذا مـر بآيـة عـذاب اسـتعاذ.
وقولـه: (( أولئـك يؤمنـون بـه )) خبـر، أي مـن أقـام كتابـه مـن أهـل الكتـب المنزلـة علـى الأنبيـاء المتقدميـن حـق إقامتـه آمـن بمـا أرسـلتك بـه يـا محمـد كمـا قـال تعالـى: (( ولـو أنهـم أقامـوا التـوراة والإنجيـل ومـا أنـزل إليهـم مـن ربهـم لأكلـوا مـن فوقهـم ومـن تحـت أرجلهـم )) إي إذا أقمتموهـا حـق الإقامـة، وآمنتـم بهـا حـق الإيمـان، وصدقتـم مـا فيهـا مـن الأخبـار بمبعـث محمـد صلـى الله عليـه وسـلم ونعتـه وصفتـه، والأمـر باتباعـه ونصـره ومؤازرتـه، قادكـم ذلـك إلـى الحـق واتبـاع الخيـر فـي الدنيـا والآخـرة كمـا قـال تعالـى: (( الذيـن يتبعـون الرسـول النبـي الأمـي الـذي يجدونـه مكتوبـاً عندهـم فـي التـوراة والإنجيـل )) الآيـة.
وقـال تعالـى: (( الذيـن آتيناهـم الكتـاب مـن قبلـه هـن بـه يؤمنـون . وإذا يتلـى عليهـم قالـوا آمنـا بـه إنـه الحـق مـن ربنـا إنـا كنـا مـن قبلـه مسـلمين . أولئـك يؤتـون أجرهـم مرتيـن بمـا صبـروا ويـدرؤون بالحسـنة السـيئة وممـا رزقناهـم ينفقـون )).
وقـال تعالـى: (( وقـل للذيـن أوتـوا الكتـاب والأمييـن أأسـلمتم فـإن أسـلموا فقـد اهتـدوا وإن تولـوا فإنمـا عليـك البـلاغ والله بصيـر بالعبـاد )) ولهـذا قـال تعالـى: (( ومـن يكفـر بـه فأولئـك هـم الخاسـرون ))، كمـا قـال تعالـى: (( ومـن يكفـر بـه متن الأحـزاب فالنـار موعـده )).
وفـي الصحيـح: {{ والـذي نفسـي بيـده لا يسـمع بـي أحـد مـن هـذه الأمـة يهـودي ولا نصرانـي ثـم لا يؤمـن بـي إلا دخـل النـار }}.
(( يَـا بَنِـي إِسْـرَائِيلَ اذْكُـرُوا نِعْمَتِـيَ الَّتِـي أَنْعَمْـتُ عَلَيْكُـمْ وَأَنِّـي فَضَّلْتُكُـمْ عَلَـى العَالَمِيـنَ (122) وَاتَّقُـوا يَومَـاً لا تَجْـزِى نَفْـسٌ عَـنْ نَفْـسٍ شَـيْئاً وَلا يُقْبَـلُ مِنْهَـا عَـدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَـا شَـفَاعَةٌ وَلا هُـمْ يُنْصَـرونَ )) / 123 /
قـد تقـدم نظيـر هـذه الآيـة فـي صـدر السـورة، وكـررت ههنـا للتأكيـد والحـث علـى اتبـاع الرسـول النبـي الأمـي الـذي يجـدون صفتـه فـي كتبهـم ونعتـه واسـمه وأمـره وأمتـه فحذرهـم مـن كتمـان هـذا، وكتمـان مـا أنعـم بـه عليهـم، وأمرهـم أن يذكـروا نعمـة الله عليهـم مـن النعـم الدنيويـة والدينيـة، ولا يحسـدوا بنـي عمهـم مـن العـرب علـى مـا رزقهـم الله مـن إرسـال الرسـول الخاتـم منهـم، ولا يحملهـم ذلـك الحسـد علـى مخالفتـه وتكذيبـه والحيـد عـن مواقفـه، صلـوات الله وسـلامه عليـه دائمـاً إلـى يـوم الديـن.
(( وَإِذْ ابْتَلَـى إِبْراهيـمِ رَبُّـهُ بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُـنَّ قَـالَ إِنِّـي جَاعِلُـكَ لِلنَّـاسِ إِمَامَـاً قَـالَ وَمِـنْ ذُرِّيَّتـي قَـالَ لا يَنَـالُ عَهْـدِي الظَّالِمِيـنَ )) / 124 /
يقـول تعالـى منبهـاً علـى شـرف إبراهيـم خليلـه عليـه السـلام، وأن الله تعالـى جعلـه إمامـاً للنـاس يقتـدى بـه فـي التوحيـد، حيـن قـام بمـا كلفـه الله تعالـى بـه مـن أوامـر والنواهـي، ولهـذا قـال: (( وإذ ابتلـى إبراهيـمَ ربـه لكلمـات )) أي واذكـر يـا محمـد لهـؤلاء المشـركين وأهـل الكتابيـن الذيـن ينتحلـون ملـة إبراهيـم وليسـوا عليهـا.. اذكـر لهـؤلاء ابتـلاء الله إبراهيـم أي اختبـاره لـه بمـا كلفـه بـه مـن الأوامـر والنواهـي (( فأتمهـن )) أي قـام بهـن كلهـن كمـا قـال تعالـى: (( وإبراهيـم الـذي وفَّـى )) أي وفـى جميـع مـا شـرع لـه فعمـل بـه صلـوات الله عليـه.
قـال تعالـى: (( إن إبراهيـم كـان أمـة قانتـاً لله حنيفـاً ولـم يـك مـن المشـركين . شـاكراً لأنعمـه اجتبـاه وهـداه إلـى صـراط مسـتقيم )).
وقـال تعالـى: (( مـا كـان إبراهيـم يهوديـاً ولا نصرانيـاً ولكـن كـان حنيفـاً مسـلماً ومـا كـان مـن المشـركين . إن أولـى النـاس بإبراهيـم للذيـن اتبعـوه وهـذا النبـي والذيـن آمنـوا والله ولـيّ المؤمنيـن )).
وقولـه تعالـى: (( بكلمـات )) أي بشـرائع وأوامـر ونـواه.
(( فأتمهـن )) أي قـام بهـن.
قـال: (( إنـي جاعلـك للنـاس إمامـاً )) أي جـزاء علـى مـا فعـل كمـا قـام بالأوامـر وتـرك الزواجـر جعلـه الله للنـاس قـدوة وإمامـاً يقتـدى بـه ويحتـذى حـذوه.
وقـد اختلـف فـي تعييـن الكلمـات التـي اختبـر الله بهـا إبراهيـم الخليـل عليـه السـلام، فـروي عـن ابـن عبـاس قـال: ابتـلاه الله بالمناسـك.
وروي عنـه قـال: ابتـلاه بالطهـارة خمـسٌ فـي الـرأس، وخمـسٌ فـي الجسـد، فـي الـرأس: قـص الشـارب والمضمضـة والاسـتنشـاق والسـواك وفـرق الـرأس، وفـي الجسـد: تقليـم الأظافـر وحلـق العانـة والختـان ونتـف الإبـط وغسـل أثـر الغائـط والبـول بالمـاء.
وفـي الصحيحيـن عـن أبـي هريـرة عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ الفطـرة خمـس: الختـان والاسـتحداد وقـص الشـارب وتقليـم الأظافـر ونتـف الإبـط }}.
وقـال عكرمـة عـن ابـن عبـاس أنـه قـال: مـا ابتلـي بهـذا الديـن أحـد فقـام بـه كلـه إلا إبراهيـم، قـال الله تعالـى: (( وإذ ابتلـى إبراهيـمَ ربُّـه بكلمـات فأتمهـن )).
قلـت لـه: ومـا الكلمـات التـي ابتلـى الله إبراهيـم بهـن فأتمهـن؟
قـال: الإسـلام ثلاثـون سـهماً منهـا عشـر آيـات فـي بـراءة: (( التائبـون العابـدون )) إلـى آخـر الآيـة، وعشـر آيـات فـي أول سـورة (( قـد أفلـح المؤمنـون )) وعشـر آيـات فـي الأحـزاب: (( إن المسـلمين والمسـلمات )) إلـى آخـر الآيـة فأتمهـن كلهـن فكتبـت لـه بـراءة.
قـال الله تعالـى: (( إبراهيـم الـذي وفـى )).
وقـال محمـد بـن إسـحاق عـن ابـن عبـاس قـال: الكلمـات التـي ابتلـى الله بهـن إبراهيـم فأتمهـن: فـراق قومـه فـي الله حيـن أمـر بمفارقتهـم، ومحاجتـه نمـروذ فـي الله حيـن وقفـه علـى مـا وقفـه علـى مـا وقفـه عليـه مـن خطـر الأمـر الـذي فيـه خلافـه، وصبـره علـى قذفـه إيـاه فـي النـار ليحرقـوه فـي الله علـى هـول ذلـك مـن أمرهـم، والهجـرة بعـد ذلـك مـن وطنـه وبـلاده فـي الله حيـن أمـره بالخـروج عنهـم، ومـا أمـر بـه مـن الضيافـة والصبـر عليهـا بنفسـه ومالـه، ومـا ابتلـي بـه مـن ذبـح ابنـه حيـن أمـره بذبحـه، فلمـا مضـى علـى ذلـك مـن الله كلـه وأخلصـه للبـلاء قـال الله لـه: (( أسـلمْ قـال أسـلمتُ لـرب العالميـن )) علـى مـا كـان مـن خـلاف النـاس وفراقهـم.
وقـال ابـن جريـر: كـان الحسـن يقـول: إي والله، لقـد ابتـلاه بأمـر فصبـر عليـه، ابتـلاه بالكواكـب والشـمـس والقمـر فأحسـن فـي ذلـك، وعـرف أن ربـه دائـم لا يـزول، فوجـه وجهـه للـذي فطـر السـماوات والأرض حنيفـاً ومـا كـان مـن المشـركين، ثـم ابتـلاه بذبـح ابنـه، والختـان، فصبـر علـى ذلـك.
وعـن الربيـع بـن أنـس قـال: الكلمـات (( إنـي جاعلـك للنـاس إمامـاً ))، وقولـه: (( وإذ جعلنـا البيـت مثابـة للنـاس وأمنـاً ))، وقولـه: (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى ))، وقولـه: (( وعهدنـا إلـى إبراهيـم وإسـماعيل )) الآيـة. وقولـه: (( وإذ يرفـع إبراهيـم القواعـد مـن البيـت وإسـماعيل )) الآيـة.
قـال: فذلـك كلـه مـن الكلمـات التـي ابتلـى بهـن إبراهيـم.
وفـي الموطـأ وغيـره عـن يحيـى بـن سـعيد أنـه سـمع بـن المسـيب يقـول: إبراهيـم عليـه السـلام أول مـن اختتـن، وأول مـن ضـاف الضيـف، وأول مـن قلـم أظافـره، وأول مـن قـص الشـارب، وأول مـن شـاب. فلمـا رأى الشـيب قـال: مـا هـذا؟ قـال: وقـار، قـال يـا رب زدنـي وقـاراً.
قـال أبـو جعفـر بـن جريـر مـن حاصلـه: إنـه يجـوز أن يكـون المـراد بالكلمـات جميـع مـا ذكـر، وجائـز أن يكـون بعـض ذلـك، ولا يجـوز الجـزم بشـيء منهـا أنـه المـراد علـى التعييـن إلا بحديـث أو إجمـاع.
قـال: ولـم يصـح فـي ذلـك خبـر بنقـل الواحـد ولا بنقـل الجماعـة الـذي يجـب التسـليم لـه.
ولمـا جعـل الله إبراهيـم إمامـاً سـأل الله أن تكـون الأئمـة مـن بعـده مـن ذريتـه فأجيـب إلـى ذلـك، وأخبـر أنـه سـيكون مـن ذريتـه ظالمـون وأنـه لا ينالهـم عهـد الله، ولا يكونـوا أئمـة فـلا يقتـدى بهـم (( قـال ومـن ذريتـي قـال لا ينـال عهـدي الظالميـن )).
والدليـل علـى أنـه أجيـب إلـى طلبتـه قولـه تعالـى فـي سـورة العنكبـوت: (( وجعلنـا فـي ذريتـه النبـوة والكتـاب )) فكـل نبـي أرسـله الله، وكـل كتـاب أنزلـه الله بعـد إبراهيـم، ففـي ذريتـه صلـوات الله وسـلامه عليـه.
وأمـا قولـه تعالـى: (( قـال لا ينـال عهـدي الظالميـن )) فقـد اختلفـوا فـي ذلـك.
فقـال مجاهـد: لا يكـون إمـام ظالـم يقتـدى بـه.
عنـه قـال: أمـا مـن كـان منهـم صالحـاً فأجعلـه للنـاس إمامـاً، قـال: ومـن ذريتـي، فأبـى أن يفعـل، ثـم قـال: (( لا ينـال عهـدي الظالميـن )).
وروي عـن قتـادة فـي قولـه (( لا ينـال عهـدي الظالميـن )) قـال: لا ينـال عهـدُ الله فـي الآخـرة الظالميـن، فأمـا الدنيـا فقـد نالـه الظالـم فأمـن بـه وأكـل وعـاش.
وقـال الربيـع ابـن أنـس: عهـدُ الله الـذي عهـد إلـى عبـاده دينـه، يقـول: لا ينـال دينـه الظالميـن ألا تـزر أنـه قـال: (( وباركنـا عليـه وعلـى إسـحاق ومـن ذريتهمـا محسـن وظالـم لنفسـه مبيـن )) يقـول: ليـس كـل ذريـة إبراهيـم علـى الحـق.
وعـن النبـي صلـى الله عليه وسـلم قـال: (( لا ينـال عهـدي الظالميـن )) قـال: {{ لا طاعـة إلا فـي المعـروف }}.
وقـل السـدي (( لا ينـال عهـدي الظالميـن )): يقـول عهـدي نبوتـي.
فهـذه أقـوال مفسـري السـلف فـي هـذه الآيـة علـى مـا نقلـه جريـر.
قـال ابـن خويـز منـداد: الظالـم لا يصلـح أن يكـون خليفـة ولا حاكمـاً ولا مفتيـاً ولا شـاهداً ولا راويـاً.
(( وَإِذْ جَعَلْنَـا البَيْـتَ مَثابَـةً لِلنَّـاسِ وَأمْنَـاً وَاتَّخَـذُوا مِـنْ مَّقَـامِ إِبْراهِيـمَ مُصَلَّـى .. ))
عـن ابـن عبـاس (( وإذ جعلنـا البيـت مثابـة للنـاس )) قـال: يثوبـون إليـه ثـم يرجعـون.
وحـدث عبـدة بـن أبـي لبابـة قـال: لا ينصـرف عنـه منصـرف وهـو يـرى أنـه قـد قضـى منـه وطـراً.
وقـال سـعيد بـن جبيـر فـي الروايـة الأخـرى وعكرمـة وقتـادة (( مثابـة للنـاس )): أي مجتمعـاً (( وأمنـاً )) أي أمنـاً للنـاس، وقـد كانـوا فـي الجاهليـة يتخطـف النـاس مـن حولهـم وهـم آمنـون لا يُسـبون.
ومضمـون هـذه الآيـة أن الله تعالـى يذكـر شـرف البيـت، ومـا جعلـه موصوفـاً بـه شـرعاً وقـدراً مـن كونـه مثابـة للنـاس، أي جعلـه محـلاً تشـتاق إليـه الأرواح وتحـنّ إليـه، ولا تقضـي منـه وطـراً ولـو تـرددت إليـه كـل عـام، اسـتجابة مـن الله تعالـى لدعـاء خليلـه إبراهيـم عليـه السـلام.
وفـي قولـه: (( فاجعـل أفئـدة مـن النـاس تهـوي إليهـم )) إلـى أن قـال: (( ربنـا وتقبـل دعائـي )).
ويصفـه تعالـى بأنـه جعلـه أمنـاً مـن دخلـه أمـن، ولـوم كـان قـد فعـل مـا فعـل ثـم دخلـه كـان آمنـاً. وقـد كـان الرجـل يلقـى قاتـل أبيـه أو أخيـه فيـه فـلا يعـرض لـه. ومـا هـذا إلا لشـرف بانيـه أولاً وهـو خليـل الرحمـن كمـا قـال تعالـى: (( وإذ بوأنـا لإبراهيـم مكـان البيـت أن لا تشـرك بـي شـيئاً )).
وقـال تعالـى: (( إن أول بيـت وضـع للنـاس للـذي ببكـة مباركـاً وهـدى للعالميـن . فيـه آيـات بينـات مقـام إبراهيـم ومـن دخلـه كـان آمنـاً )).
وفـي هـذه الآيـة الكريمـة نبّـه علـى مقـام إبراهيـم مـع الأمـر بالصـلاة عنـده، فقـال: (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى )).
وقـد اختلـف المفسـرون فـي المـراد بالمقـام مـا هـو؟
فقـال مجاهـد عـن ابـن عبـاس: مقـام إبراهيـم الحـرم كلـه.
وقيـل: مقـام إبراهيـم الحـج كلـه (منـى ورمـي الجمـار والطـواف بيـن الصفـا والمـروة).
وقـال سـفيان الثـوري عـن سـعيد بـن جبيـر: (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى )) قـال: الحجـر مقـام إبراهيـم نبـي الله قـد جعلـه الله رحمـة فكـان يقـوم عليـه ويناولـه إسـماعيل الحجـارة.
وقـال السـدي: المقـام الحجـر الـذي وضعتـه زوجـة إسـماعيل تحـت قـدم إبراهيـم حتـى غسـلت رأسـه.
عـن جعفـر بـن محمـد عـن أبيـه: سـمع جابـراً يحـدّث عـن حجـة النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: لمـا طـاف البنـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال لـه عمـر: هـذا مقـام أبينـا؟ قـال: {{ نعـم }}، قـال: أفـلا نتخـذه مصلـى؟ فأنـزل الله عـز وجـلّ: (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى )).
وقـال البخـاري: بـاب قولـه: (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى )) مثابـة يثوبـون: يرجعـون.
قـال عمـر بـن الخطـاب: وافقـت ربـي فـي ثـلاث أو وافقنـي ربـي فـي ثـلاث: قلـت: يـا رسـول الله لـو اتخـذت مـن مقـام إبراهيـم مصلـى ، فنزلـت (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى ))، وقلـت: يـا رسـول الله يدخـل عليـك البـر والفاجـر فلـو أمـرت أمهـات المؤمنيـن بالحجـاب، فأنـزل الله آيـة الحجـاب. قـال: وبلغنـي معاتبـة النبـي صلـى الله عليـه وسـلم بعـض نسـائه فدخلـت عليهـن فقلـت: إن انتهيتـن أو ليبدلـن الله رسـوله خيـراً منكـن، حتـى أتيـت إحـدى نسـائه قالـت: يـا عمـر أمـا فـي رسـول الله مـا يعـظ نسـاءه حتـى تعظهـن أنـت، فأنـزل الله (( عسـى ربـه أن يبدلـه أزواجـاً خيـراً منكـن مسـلمات )) الآيـة.
وقـال أنـس: قـال عمـر رضـي الله عنـه: وافقـت ربـي عـزّ وجـلّ فـي ثـلاث، قلـت: يـا رسـول الله لـو اتخـذت مـن مقـام إبراهيـم مصلـى فنزلـت: (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى ))، وقلـت: يـا رسـول الله إن نسـاءك يدخـل عليهـن البـر والفاجـر فـي الغيـرة فقلـت لهـن: عسـى ربـه إن طلقهـن أن يبدلـه أزواجـاً خيـراً منكـن فنزلـت كذلـك.
ورواه الإمـام مسـلم بـن حجـاج فـي صحيحـه بسـند آخـر ولفـظ آخـر عـن نافـع عـن ابـن عمـر قـال: وافقـت ربـي فـي ثـلاث: فـي الحجـاب، وفـي أسـارى بـدر، وفـي مقـام إبراهيـم.
وروى ابـن جريـر عـن جابـر: أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم رمـل ثلاثـة أشـواط ومشـى أربعـاً حتـى إذا فـرغ عمـد إلـى مقـام إبراهيـم فصلـى خلفـه ركعتيـن، ثـم قـرأ: (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى )).
وقـال ابـن جريـر عـن ابـن جابـر قـال: اسـتلم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم الركـن فرمـل ثلاثـاً ومشـى أربعـاً ثـم نفـذ إلـى مقـام إبراهيـم فقـرأ: (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى )) فجعـل المقـام بينـه وبيـن البيـت فصلـى ركعتيـن، وهـذا قطعـة مـن الحديـث الطويـل الـذي رواه مسـلم فـي صحيحـه.
فهـذا كلـه ممـا يـدل علـى أن المـراد بالمقـام إنمـا هـو الحجـر، الـذي كـان إبراهيـم عليـه السـلام يقـوم عليـه لبنـاء الكعبـة، لمـا ارتفـع الجـدار أتـاه إسـماعيل عليـه السـلام بـه ليقـوم فوقـه، ويناولـه الحجـارة فيضعهـا بيـده لرفـع الجـدار، وكلمـا كمـل ناحيـة انتقـل إلـى الناحيـة الأخـرى يطـوف حـول الكعبـة وهـو واقـف عليـه كلمـا فـرغ مـن جـدار نقلـه إلـى الناحيـة التـي تليهـا وهكـذا حتـى تـم جـدران الكعبـة كمـا سـيأتي بيانـه فـي قصـة إبراهيـم وإسـماعيل وكانـت آثـار قدميـه ظاهـرة فيـه، ولـم يـزل هـذا معروفـاً تعرّفـه العـرب فـي جاهليتهـا.
وقـد كـان هـذا المقـام ملصقـاً بجـدار الكعبـة قديمـاً ومكانـه معـروف اليـوم إلـى جانـب البـاب، ممـا يلـي الحجـر يمنـة الداخـل مـن البـاب، فـي البقعـة المسـتقلة هنـاك، وكـان الخليـل عليـه السـلام لمـا فـرغ مـن بنـاء البيـت وضعـه إلـى جـدار الكعبـة، أو أنـه انتهـى عنـده البنـاء فتركـه هنـاك، ولهـذا _ والله أعلـم _ أمـر بالصـلاة هنـاك عنـد الفـراغ مـن الطـواف، وناسـب أن يكـون عنـد مقـام إبراهيـم حيـث انتهـى بنـاء الكعبـة فيـه وإنمـا أخـرّه عـن جـدار الكعبـة أميـرُ المؤمنيـن عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه، أحـد الأئمـة المهدييـن والخلفـاء الراشـدين، الذيـن أمرنـا باتباعهـم، وهـو أحـد الرجليـن اللذيـن قـال فيهمـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ اقتـدوا باللذيـن مـن بعـدي أبـي بكـر وعمـر }}، وهـو الـذي نـزل القـرآن بوفاقـه فـي الصـلاة عنـده ولهـذا لـم ينكـر ذلـك أحـد مـن الصحابـة رضـي الله عنهـم أجمعيـن.
عـن عائشـة رضـي الله عنهـا أن المقـام كـان زمـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وزمـان أبـي بكـر رضـي الله عنـه ملتصقـاً بالبيـت ثـم أخـره عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه.
وعـن مجاهـد قـال: قـال عمـر بـن الخطـاب: يـا رسـول الله لـو صلينـا خلـف المقـام، فأنـزل (( واتخـذوا مـن مقـام إبراهيـم مصلـى )) فكـان المقـام عنـد البيـت فحوّلـه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم إلـى موضعـه هـذا.
وهـو وخالـف لمـا تقـدم أن أول مـن أخّـر المقـام إلـى موضعـه الآن عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه، وهـذا أصـح مـن طريـق ابـن مردويـه مـع اعتضـاد هـذا بمـا تقـدم، والله أعلـم.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 113 ، 114 ، 115 ، 116 ، 117 ، 118 ، 119 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

السـلام عليكـم ورحمـة الله وبركاتـه...
أخواتـي...
اعذرننـي لتقصيـري...
عـارض صحـي منعنـي مـن المتابعـة فـي الفتـرة الأخيـرة...
أبعـد الله المـرض عنكـم وعـن أمـة نبينـا محمـد صلـى الله عليـه وسـلم...
****************************************************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( وَعَهِدْنَـا إِلـى إِبْراهيـمَ وَإِسْـماعِيلَ أَنْ طَهِّـرا بَيْتِـيَ لِلطَّائِفِيـنَ وَالعَاكِفِيـنَ وَالرُّكَّـعِ السُّـجُودِ (125) وَإِذْ قَـالَ إِبراهيـمُ رَبِّ اجْعَـلْ هَـذَا بَلَـداً آمِنَـاً وَارْزُقْ أَهْلَـهُ مِـنَ الثَّمَـرَاتِ مَـنْ آمَـنَ مِنْهُـمْ بِاللهِ وَاليَـوْمِ الآخِـرِ قَـالَ وَمَـنْ كَفَـرَ فَأُمَتِّعُـهُ قَلِيـلاً ثُـمَّ أَضْطّـرُّهُ إِلـى عَـذَابِ النَّـارِ وَبِئْـسَ المَصيـرُ (126) وَإِذْ يَرْفَـعُ إِبْراهِيـمُ القَواعِـدَ مِـنَ البَيْـتِ وَإِسْـمَاعيلُ رَبَّنَـا تَقَبَّـلْ مِنَّـا إِنَّـكَ أَنْـتَ السَّـميعُ العَليـمُ (127) رَبَّنـا وَاجْعَلْنـا مُسْـلِمَيْنِ لَـكَ وَمِـنْ ذُرِيَّتِنـا أُمَّـةً مُسْـلِمَةً لَـكَ وَأَرِنَـا مَنَاسِـكَنا وَتُـبْ عَلَينـا إِنَّـكَ أَنْـتَ التَّـوابُ الرَّحِيـمُ )) / 128 /
قـال الحسـن البصـري: قولـه تعالـى (( وعهدنـا إلـى إبراهيـم وإسـماعيل )) : أمرهمـا الله أن يطهـرا مـن الأذى والنجـس، ولا يصيبـه مـن ذلـك شـيء.
وقـال ابـن جريـج قلـت لعطـاء مـا عهـده؟ قـال: أمـره.
والظاهـر أن هـذا الحـرف إنمـا عـدّي بـ إلـى لأنـه فـي معنـى أوحينـا، قولـه: (( أن طهـرا بيتـي للطائفيـن والعاكفيـن )) أي مـن الأوثـان والرفـث وقـول الـزور والرجـس.
قـال مجاهـد وعطـاء وقتـادة: (( أن طهـرا بيتـي )) أي بـلاء إلـه إلا الله مـن الشـرك.
وأمـا قولـه تعالـى: (( للطائفيـن )) فالطـواف بالبيـت معـروف.
وعـن سـعيد بـن جبيـر أنـه قـال: (( للطائفيـن )) يعنـي مـن أتـاه مـن غربـة (( والعاكفيـن )) المقيميـن فيـه.
وهكـذا روي عـن قتـادة والربيـع بـن أنـس أنهمـا فسَّـرا العاكفيـن بأهلـه المقيميـن فيـه.
وعـن ابـن عبـاس قـال: إذا كـان جالسـاً فهـو مـن العاكفيـن.
وعـن ثابـت قـال: قلنـا لعبـد الله بـن عبيـد بـن عميـر مـا أرانـي إلا مكلـم الأميـر أن امنـع الذيـن ينامـون فـي المسـجد الحـرام فإنهـم يجنبـون ويحدثـون، قـال: لا تفعـل فـإن عمـر سـئل عنهـم فقـال: هـم العاكفـون.
(قلـت): وقـد ثبـت فـي الصحيـح أن ابـن عمـر كـان ينـام فـي مسـجد الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم وهـو عـزب.
وأمـا قولـه تعالـى: (( والركـع السـجود )) فقـال عطـاء عـن ابـن عبـاس: إذا كـان مصليـاً فهـو مـن الركـع السـجود.
قـال ابـن جريـر رحمـه الله: فمعنـى الآيـة: وأمرنـا إبراهيـم وإسـماعيل بتطهيـر بيتـي للطائفيـن، والتطهيـر الـذي أمرهمـا بـه فـي البيـت هـو تطهيـره مـن الأصنـام وعبـادة الأوثـان فيـه ومـن الشـرك.
فـإن قيـل: فهـل كـان قبـل بنـاء إبراهيـم عنـد البيـت شـيء مـن ذلـك الـذي أمـر بتطهيـره منـه؟
فالجـواب مـن وجهيـن: (أحدهمـا): أنـه أمرهمـا بتطهيـره ممـا كـان يعبـد عنـده زمـان قـوم نـوح مـن الأصنـام والأوثـان، ليكـون ذلـك سـنة لمـن بعدهمـا إذ كـان الله تعالـى قـد جعـل إبراهيـم إمامـاً يقتـدى بـه.
(قلـت): وهـذا الجـواب مفـرّعٌ علـى أنـه كـان يعبـد عنـده أصنـام قبـل إبراهيـم عليـه السـلام، ويحتـاج إثبـات هـذا إلـى دليـل عـن المعصـوم محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
(والثانـي): أنـه أمرهمـا أن يخلصـا فـي بنائـه لله وحـده لا شـريك لـه فيبنيـاه مطهـراً مـن الشـرك والريـب، كمـا قـال جـلَّ ثنـاؤه: (( أفمـن أسـس بنيانـه علـى تقـوى مـن الله ورضـوان خيـر أم مـن أسـس بنيانـه علـى شـفا جـرف هـار )).
قـال فكذلـك قولـه: (( وعهدنـا إلـى إبراهيـم وإسـماعيل أن طهِّـرا بيتـي )) أي ابنيـاه علـى طهـر مـن الشـرك والريـب.
وملخـص هـذا الجـواب أن الله تعالـى أمـر إبراهيـم وإسـماعيل عليهمـا السـلام أن يبنيـا الكعبـة علـى اسـمه وحـده لا شـريك لـه، للطائفيـن والعاكفيـن عنـده والمصليـن إليـه مـن الركـع السـجود كمـا قـال تعالـى: (( وإذ بوأنـا إبراهيـم مكـان البيـت أن لا تشـرك بـي شـيئاً وطهـر بيتـي للطائفيـن والقائميـن والركـع السـجود )) الآيـات.
وقـد اختلـف الفقهـاء أيمـا أفضـل الصـلاة عنـد البيـت أو الطـواف بـه؟
فقـال مالـك رحمـه الله: الطـواف بـه لأهـل الأمصـار أفضـل.
وقـال الجمهـور: الصـلاة أفضـل مطلقـاً، وتوجيـه كـل منهمـا يذكـر فـي كتـاب الأحكـام، والمـراد مـن ذلـك الـرد علـى المشـركين، الذيـن كانـوا يشـركون بالله عنـد بيتـه، المؤسـس علـى عبادتـه وحـده لا شـريك لـه، ثـم مـع ذلـك يصـدون أهلـه المؤمنيـن عنـه كمـا قـال تعالـى: (( إن الذيـن كفـروا ويصـدون عـن سـبيل الله والمسـجد الحـرام الـذي جعلنـاه للنـاس سـواء العاكـف بـه والبـاد ومـن يـرد فيـه بإلحـاد بظلـم نذقـه مـن عـذاب أليـم )).
ثـم ذكـر أن البيـت إنمـا أسـس لمـن يعبـد الله وحـده لا شـريك لـه، أمـا بطـواف أو صـلاة، فذكـر فـي سـورة الحـج أجزاءهـا الثلاثـة (قيامهـا وركوعهـا وسـجودها) ولـم يذكـر العاكفيـن لأنـه تقـدم (( سـواء العاكـف فيـه والبـاد )).
وفـي هـذه الآيـة الكريمـة ذكـر الطائفيـن والعاكفيـن، واكتفـى بذكـر الركـوع والسـجود عـن القيـام، لأنـه قـد علـم أنـه لا يكـون ركـوع ولا سـجود إلا بعـد قيـام، وفـي ذلـك أيضـاً رد علـى مـن لا يحجـه مـن أهـل الكتابيـن (اليهـود والنصـارى) لأنهـم يعتقـدون فضيلـة إبراهيـم الخليـل وإسـماعيل ويعلمـون أنـه بنـى هـذا البيـت للطـواف فـي الحـج والعمـرة وهـم لا يفعلـون شـيئاً مـن ذلـك، فكيـف يكونـون مقتديـن بالخليـل وهـم لا يفعلـون مـا شـرع الله لـه؟
وقـد حـج البيـت موسـى بـن عمـران وغيـره مـن الأنبيـاء عليهـم الصـلاة والسـلام كمـا أخبـر بذلـك المعصـوم الـذي لا ينطـق عـن الهـوى (( إن هـو إلا وحـي يوحـى )).
وتقديـر الكـلام إذاً: (( وعهدنـا إلـى إبراهيـم )) أي تقدمنـا بوحينـا إلـى إبراهيـم وإسـماعيل (( أن طهـرا بيتـي للطائفيـن والعاكفيـن والركـع السـجود )) أي طهـراه مـن الشـرك والريـب وابنيـاه خالصـاً لله معقـلاً للطائفيـن والعاكفيـن والركـع السـجود.
وتطهيـر المسـاجد مأخـوذ مـن هـذه الآيـة الكريمـة مـن قولـه تعالـى: (( فـي بيـوت أذن الله أن ترفـع ويذكـر فيهـا اسـمه يسـبح لـه فيهـا بالغـدو والآصـال )).
ومـن السـنة مـن أحاديـث كثيـرة مـن الأمـر بتطهيرهـا وتطييبهـا وغيـر ذلـك مـن صيانتهـا مـن الأذى والنجاسـات ومـا أشـبه ذلـك. ولهـذا قـال عليـه السـلام: {{ إنمـا بنيـت المسـاجد لمـا بنيـت لـه }}، وقـد جمعـت فـي ذلـك جـزءً علـى حـدة ولله الحمـد والمنـة.
وقـد اختلـف النـاس فـي أول مـن بنـى الكعبـة؟ فقيـل الملائكـة قبـل آدم ذكـره القرطبـي وحكـى لفظـه وفيـه غرابـة، وقيـل آدم عليـه السـلام رواه عطـاء وسـعيد بـن المسـيب وهـذا غريـب أيضـاً.
وروي عـن ابـن عبـاس وكعـب الأحبـار أن أول مـن بنـاه شـيث عليـه السـلام. وغالـب مـا يذكـر هـذا إنمـا يأخـذه مـن كتـب أهـل الكتـاب وهـي ممـا لا يصـدق ولا يكـذب ولا يعتمـد عليهـا بمجردهـا. وأمـا إذا صـح حديـث فـي ذلـك فعلـى الـرأس والعيـن.
وقولـه تعالـى: (( وإذ قـال إبراهيـم رب اجعـل هـذا بلـداً آمنـاً وارزق أهلـه مـن الثمـرات مـن آمـن منهـم بالله واليـوم الآخـر )) قـال ابـن جريـر عـن جابـر بـن عبـد الله: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن إبراهيـم حـرَّم بيـت الله وأمنَّـه، وإنـي حرمـت المدينـة مـا بيـن لابتيهـا، فـلا يصـاد صيدهـا ولا يقطـع عضاهـا }}.
عـن أبـي هريـرة رضـي الله عنـه قـال: كـان النـاس إذا رأوا أول الثمـر جـاءوا بـه إلـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فـإذا أخـذه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ اللهـم بـارك لنـا فـي ثمرنـا، بـارك لنـا فـي مدينتنـا، وبـارك لنـا فـي صاعنـا، وبـارك لنـا فـي مُدّنـا، اللهـم إن إبراهيـم عبـدك وخليلـك ونبيـك، وإنـي عبـدك ونبيـك وإنـه دعـاك لمكـة، وإنـي أدعـوك للمدينـة بمثـل مـا دعـاك لمكـة ومثلـه معـه }} ثـم يدعـو أصغـر وليـد لـه فيعطيـه ذلـك الثمـر.
وفـي الصحيحيـن عـن أنـس بـن مالـك قـال، قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لأبـي طلحـة: {{ التمـس لـي غلامـاً مـن غلمانكـم يخدمنـي }}، فخـرج بـي أبـو طلحـة يردفنـي وراءه، فكنـت أخـدم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كلمـا نـزل.
وقـال فـي الحديـث: ثـم أقبـل حتـى إذا بـدا لـه أحـد قـال: {{ هـذا جبـلٌ يحبنـا ونحبـه }}، فلمـا أشـرف علـى المدينـة قـال: {{ اللهـم إنـي أحـرم مـا بيـن جبليهـا مثـل مـا حـرم بـه إبراهيـم مكـة، اللهـم بـارك لهـم فـي مدهـم وصاعهـم }}.
وفـي لفـظ لهمـا: {{ اللهـم بـارك لهـم فـي مكيالهـم وبـارك لهـم فـي مدهـم }}.
زاد البخـاري يعنـي: أهـل المدينـة.
وعـن أنـس أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ اللهـم اجعـل بالمدينـة ضعفـي مـا جعلتـه بمكـة مـن البركـة }}.
وعـن أبـي سـعيد رضـي الله عنـه عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ اللهـم إن إبراهيـم حـرم مكـة فجعلهـا حرامـاً، وإنـي حرمـت المدينـة حرامـاً مـا بيـن مأزميهـا، أن لا يـراق فيهـا دم، ولا يحمـل فيهـا سـلاح لقتـال، ولا يخبـط فيهـا شـجرة إلا لعلـف، اللهـم بـارك لنـا فـي مدينتنـا، اللهـم بـارك لنـا فـي صاعنـا، اللهـم بـارك لنـا فـي مدّنـا، اللهـم اجعـل مـع البركـة بركتيـن }}.
والأحاديـث فـي تحريـم المدينـة كثيـرة وإنمـا أورد منهـا مـا هـو متعلـق بتحريـم إبراهيـم عليـه السـلام لمكـة لمـا فـي ذلـك مطابقـة الآيـة الكريمـة، وتمسـك بهـا مـن ذهـب إلـى إن تحريـم مكـة إنمـا كـان علـى لسـان إبراهيـم الخليـل.
وقيـل: إنهـا محرمـة منـذ خلقـت مـع الأرض، وهـذا أظهـر وأقـوى والله أعلـم.
وقـد وردت أحاديـث أخـر تـدل علـى أن الله تعالـى حـرّم مكـة قبـل خلـق السـماوات والأرض كمـا جـاء فـي الصحيحيـن عـن عبـد الله بـن عبـاس رضـي الله عنهمـا قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يـوم فتـح مكـة: {{ إن هـذا البلـد حرمـه الله يـوم خلـق السـماوات والأرض، فهـو حـرام بحرمـة الله إلـى يـوم القيامـة، وإنـه لـم يحـل القتـال فيـه لأحـد قبلـي، ولـم يحـل لـي إلا سـاعة مـن نهـار، فهـو حرمـة بحرمـة الله إلـى يـوم القيامـة، لا يعضـد شـوكه، ولا ينفـر صيـده، ولا يلتقـط لقطتـه إلا مـن عرّفهـا ولا يختلـى خلاهـا }}.
فقـال العبـاس: يـا رسـول الله إلا الإذخـر فإنـه لقَيْنهـم ولبيوتهـم، فقـال: {{ إلا الإذخـر }}.
وعـن أبـي شـريح العـدوي أنـه قـال لعمـرو بـن سـعيد _ وهـو يبعـث البعـوث إلـى مكـة _ ائـذن لـي أيهـا الأميـر أن أحدثـك قـولاً قـام بـه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم الغـد مـن يـوم الفتـح، سـمعته أذنـاي، ووعـاه قلبـي، وأبصرتـه عينـاي حيـن تكلـم بـه، إنـه حمـد الله وأثنـى عليـه ثـم قـال: {{ إن مكـة حرمهـا الله ولـم يحرمهـا النـاس، فـلا يحـل لامـرئ يؤمـن بالله واليـوم الآخـر أن يسـفك بهـا دمـاً، ولا يعضـد بهـا شـجرة، فـإن أحـدا ترخَّـص بقتـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فقولـوا: إن الله أذن لرسـوله ولـم يـأذن لكـم، وإنمـا أذن لـي فيهـا سـاعة مـن نهـار وقـد عـادت حرمتهـا اليـوم كحرمتهـا بالأمـس، ليبلـغ الشـاهد الغائـب }}.
فقيـل لأبـي شـريح مـا قـال لـك عمـرو؟ قـال: أنـا أعلـم بذلـك منـك يـا أبـا شـريح، أن الحـرم لا يعيـذ عاصيـاً ولا فـاراً بـدم ولا فـاراً بخربـة.
فـإذا علـم هـذا فـلا منافـاة بيـن هـذه الأحاديـث، الدالـة علـى أن الله حـرم مكـة يـوم خلـق السـماوات والأرض، وبيـن الأحاديـث الدالـة علـى أن إبراهيـم عليـه السـلام حرمهـا، لأن إبراهيـم بلّـغ عـن الله حكمـه فيهـا، وتحريمـه إياهـا وأنهـا لـم تنـزل بلـداً حرامـاً عنـد الله قبـل بنـاء إبراهيـم عليـه السـلام لهـا، كمـا أنـه قـد كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم مكتوبـاً عنـد الله خاتـم النبييـن وإن آدم لمنجـدل فـي طينتـه، ومـع هـذا قـال إبراهيـم عليـه السـلام: {{ ربنـا وابعـث فيهـم رسـولاً منهـم }} وقـد أجـاب الله دعـاءه بمـا سـبق فـي علمـه وقـدره.
وأمـا مسـألة تفضيـل مكـة علـى المدينـة كمـا هـو قـول الجمهـور، أو المدينـة علـى مكـة كمـا هـو مذهـب مالـك وأتباعـه، فتذكـر فـي موضـع آخـر بأدلتهـا إن شـاء الله وبـه الثقـة. وقولـه تعالـى إخبـاراً عـن الخليـل: (( رب اجعـل هـذا بلـداً آمنـاً )) أي مـن الخـوف أي لا يرعـب أهلـه.
وقـد فعـل الله ذلـك شـرعاً وقـدراً، كقولـه تعالـى: (( ومـن دخلـه كـان آمنـاً )).
وقولـه: (( أو لـم يـروا أنـا جعلنـا حرمـاً آمنـاً ويُتخطـف النـاس مـن حولهـم )) إلـى غيـر ذلـك مـن الآيـات وقـد تقدمـت الأحاديـث فـي تحريـم القتـال فيـه.
وفـي صحيـح مسـلم عـن جابـر سـمعت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ لا يحـل لأحـد أن يحمـل لمكـة السـلاح }}.
وقـال فـي هـذه السـورة (( رب اجعـل هـذا بلـداً آمنـاً )) أي اجعـل هـذه البقعـة بلـداً آمنـاً وناسـب هـذا لأنـه قبـل بنـاء الكعبـة.
وقـال تعالـى فـي سـورة إبراهيـم: (( وإذ قـال إبراهيـم رب اجعـل هـذا بلـداً آمنـاً )) وناسـب هـذا هنـاك لأنـه _ والله أعلـم _ كأنـه وقـع دعـاء مـرة ثانيـة بعـد بنـاء البيـت واسـتقرار أهلـه بـه، وبعـد مولـد إسـحاق الـذي هـو أصغـر سـناً مـن إسـماعيل بثـلاث عشـرة سـنة، ولهـذا قـال فـي آخـر الدعـاء: (( الحمـد لله الـذي وهـب لـي علـى الكبـر إسـماعيل وإسـحاق إن ربـي لسـميع الدعـاء )).
وقولـه تعالـى: (( وارزق أهلـه مـن الثمـرات مـن آمـن منهـم بالله واليـوم الآخـر قـال ومـن كفـر فأمتعـه قليـلاً ثـم أضطـره إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر )).
قـال أبـو جعفـر الـرازي عـن أبـي بـن كعـب (( قـال ومـن كفـر )) الآيـة هـو قـول الله تعالـى. وهـذا قـول مجاهـد وعكرمـة وهـو الـذي صوبـه ابـن جريـر رحمـه الله.
قـال: وقـرأ آخـرون: (( قـال ومـن كفـر فأمتعـه قليـلاً ثـم أضطـره إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر )) فجعلـوا ذلـك مـن تمـام دعـاء إبراهيـم.
قـال ابـن عبـاس: { كـان إبراهيـم يحجرهـا علـى المؤمنيـن دون النـاس، فأنـزل الله ومـن كفـر أيضـاً أرزقهـم كمـا أرزق المؤمنيـن، أأخلـق خلقـاً لا أرزقهـم؟ أمتعهـم قليـلاً ثـم أضطرهـم إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر }.
ثـم قـرأ ابـن عبـاس: (( كـلاً نمـد هـؤلاء وهـؤلاء مـن عطـاء ربـك ومـا كـان عطـاء ربـك محظـوراً )).
وهـذا كقولـه تعالـى: (( إن الذيـن يفتـرون علـى الله الكـذب لا يفلحـون . متـاع فـي الحيـاة الدنيـا ثـم إلينـا مرجعهـم ثـم نذيقهـم العـذاب الشـديد بمـا كانـوا يكفـرون )).
وكقولـه تعالـى: (( نمتعهـم قليـلاً ثـم نضطرهـم إلـى عـذاب غليـظ )).
وقولـه: (( ثـم أضطـره إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر )) أي ثـم ألجئـه بعـد متاعـه فـي الدنيـا، وبسـطنا عليـه مـن ظلهـا (( إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر )) ومعنـاه إن الله تعالـى يُنْظرهـم ويمهلهـم ثـم يأخذهـم أخـذ عزيـز مقتـدر كقولـه تعالـى: (( وكأيـن مـن قريـة أمليـتُ لهـا وهـي ظالمـة ثـم أخذتهـا وإلـيَّ المصيـر )).
وفـي الصحيـح: {{ إن الله ليملـي للظالـم حتـى إذا أخـذه لـم يفلتـه }}، ثـم قـرأ قولـه تعالـى: (( وكذلـك أخـذ ربـك إذا أخـذ القـرى وهـي ظالمـة إن أخـذه أليـم شـديد )).
وأمـا قولـه تعالـى: (( وإذ يرفـع إبراهيـم القواعـد مـن البيـت وإسـماعيل ربنـا تقبـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )).
فالقواعـد جمـع قاعـدة، وهـي السـارية والأسـاس.
يقـول تعالـى: واذكـر يـا محمـد لقومـك بنـاء إبراهيـم وإسـماعيل عليهمـا السـلام البيـت، ورفعهمـا القواعـد منـه وهمـا يقـولان: (( ربنـا تقبـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )) فهمـا فـي عمـل صالـح وهمـا يسـألان الله تعالـى أن يتقبـل منهمـا.
وقـال بعـض المفسـرين: الـذي كـان يرفـع القواعـد هـو إبراهيـم، والداعـي إسـماعيل، والصحيـح أنهمـا كانـا يرفعـان ويقـولان كمـا سـيأتي بيانـه.
وقـد روى البخـاري عـن سـعيد بـن جبيـر عـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا قـال: أول مـا اتخـذ النسـاء المِنْطَـق مـن قبـل أن إسـماعيل، اتخـذت منطقـاً لتعفـي أثرهـا علـى سـارة، ثـم جـاء بهـا إبراهيـم وبابنهـا إسـماعيل وهـي ترضعـه حتـى وضعهمـا عنـد البيـت، عنـد دوحـة فـوق زمـزم فـي أعلـى المسـجد وليـس بمكـة يومئـذ أحـد، وليـس بهـا مـاء، فوضعهمـا هنالـك ووضـع عندهمـا جِرابـاً فيـه تمـر، وسـقاء فيـه مـاء، ثـم قفّـى إبراهيـم منطلقـاً فتبعتـه أم إسـماعيل فقالـت: الله أمـرك بهـذا؟ قـال: نعـم، قالـت: إذاً لا يضيعنـا، ثـم رجعـت. فانطلـق إبراهيـم حتـى إذا كـان عنـد الثنيـة حيـث لا يرونـه اسـتقبل بوجهـه البيـت، ثـم دعـا بهـذه الدعـوات ورفـع يديـه فقـال: (( ربنـا إنـي أسـكنت مـن ذريتـي بـواد غيـر ذي زرع عنـد بيتـك المحـرم )) حتـى بلـغ (( يشـكرون )).
وجعلـت أم إسـماعيل ترضـع إسـماعيل وتشـرب مـن ذلـك المـاء، حتـى إذا نفـذ مـا فـي السـقاء عطشـت وعطـش ابنهـا، وجعلـت تنظـر إليـه يتلـوّى _ أو قـال يتلبـط _ فانطلقـت كراهيـة أن تنظـر إليـه، فوجـدت الصفـا أقـرب جبـل فـي الأرض يليهـا، فقامـت عليـه ثـم اسـتقبلت الـوادي تنظـر هـل تـرى أحـداً فلـم تـر أحـداً، فهبطـت مـن الصفـا حتـى إذا بلغـت الـوادي رفعـت طـرف درعهـا، ثـم سـعت سـعي الإنسـان المجهـود حتـى جـاوزت الـوادي، ثـم أتـت المـروة فقامـت عليهـا فنظـرت هـل تـرى أحـداً فلـم تـرى أحـداً، ففعلـت ذلـك سـبع مـرات.
قـال ابـن عبـاس: قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ فذلـك سـعي النـاس بينهمـا }}.
فلمـا أشـرفت علـى المـروة سـمعت صوتـاً فقالـت: {{ صـه }} _ تريـد نفسـها _ ثـم تسـمعت فسـمعت أيضـاً، فقالـت: قـد أسـمعت إن كـان عنـدك غـواث فـإذا هـي بالمَلَـك عنـد موضـع زمـزم، فبحـث بعقبـه _ أو قـال بجناحـه _ حتـى ظهـر المـاء، فجعلـت تحوضـه وتقـول بيدهـا هكـذا وجعلـت تغـرف مـن المـاء فـي سـقائها وهـو يفـور بعـد مـا تغـرف.
قـال ابـن عبـاس: قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ يرحـم الله أم إسـماعيل لـو تركـت زمـزم _ أو قـال لـو لـم تغـرف مـن المـاء _ لكانـت زمـزم عينـاً معينـاً }}.
قـال: فشـربت وأرضعـت ولدهـا، فقـال لهـا الملـك: لا تخافـي الضيعـة فـإن ههنـا بيتـاً لله يبنيـه هـذا الغـلام وأبـوه، وإن الله لا يضيّـع أهلـه، وكـان البيـت مرتفعـاً مـن الأرض كالرابيـة، تأتيـه السـيول فتأخـذ عـن يمينـه وشـماله، فكانـت كذلـك حتـى مـرت بهـم رفقـة مـن جرهـم، أو أهـل بيـت مـن جرهـم مقبليـن مـن طريـق كـداء، فنزلـوا فـي أسـفل مكـة فـرأوا طائـراً عائفـاً، فقالـوا: إن هـذا الطائـر ليـدور علـى مـاء، لعهدنـا بهـذا الـوادي ومـا فيـه مـاء، فأرسـلوا جريـاً أو جرييـن فـإذا هـم بالمـاء فرجعـوا فأخبروهـم بالمـاء، فأقبلـوا، قـال: وأم إسـماعيل عنـد المـاء، فقالـوا: أتأذنيـن لنـا أن ننـزل عنـدك؟ قالـت: نعـم ولكـن لا حـقَّ لكـم فـي المـاء عندنـا، قالـوا: نعـم.
قـال ابـن عبـاس: قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ فألفـى ذلـك أم إسـماعيل وهـي تحـي الأنـس }} فنزلـوا وأرسـلوا إلـى أهليهـم فنزلـوا معهـم حتـى إذا كـان بهـا أهـل أبيـات منهـم، وشـب الغـلام وتعلـم اللغـة العربيـة منهـم وأنفَسَـهم وأعجبهـم حيـن شـب، فلمـا أدرك زوَّجـوه امـرأة منهـم.
وماتـت (أم إسـماعيل) فجـاء إبراهيـم بعـد مـا تـزوج إسـماعيل يطالـع تركتـه فلـم يجـد إسـماعيل، فسـأل امرأتـه عنـه فقالـت: خـرج يبتغـي لنـا، ثـم سـألها عـن عيشـهم وهيئتهـم فقالـت: نحـن بشـرٍّ، نحـن فـي ضيـق وشـدة فشـكت إليـه، قـال: إذا جـاء زوجـك فاقرئـي عليـه السـلام وقولـي لـه يغيِّـر عتبـة بابـه، فلمـا جـاء إسـماعيل كأنـه أنـس شـيئاً فقـال: هـل جاءكـم مـن أحـد؟ قالـت: نعـم جاءنـا شـيخ كـذا وكـذا فسـألنا عنـك فأخبرتـه وسـألني كيـف عيشـنا؟ فأخبرتـه أننـا فـي جهـد وشـدة، قـال: فهـل أوصـاك بشـيء؟ قالـت: نعـم أمرنـي أن أقـرأ عليـك السـلام ويقـول غيِّـر عتبـة بابـك، قـال: هـذا أبـي وقـد أمرنـي أن أفارقـك فالحقـي بأهلـك، وطلَّقهـا وتـزوج منهـم بأخـرى. فلبـث عنهـم إبراهيـم مـا شـاء الله ثـم أتاهـم بعـد، فلـم يجـده فدخـل علـى امرأتـه فسـألها عنـه فقالـت: خـرج يبتغـي لنـا، قـال: كيـف أنتـم؟ وسـألها عـن عيشـهم وهيئتهـم، فقالـت: نحـن بخيـر وسـعة، وأثنـت علـى الله عـزَّ وجـلَّ، قـال: مـا طعامكـم؟ قالـت: اللحـم؟ قـال: فمـا شـرابكم؟ قالـت: المـاء، قـال: اللهـم بـارك لهـم فـي اللحـم والمـاء. قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ ولـم يكـن لهـم يومئـذ حَـبّ ولـو كـان لهـم لدعـا لهـم فيـه }}، قـال: فهمـا لـم يخلـوا عليهمـا أحـد بغيـر مكـة إلا لـم يوافقـاه، قـال: فـإذا جـاء زوجـك فاقرئـي عليـه السـلام ومريـه يثبِّـت عتبـة بابـه، فلمـا جـاء إسـماعيل قـال: هـل أتاكـم مـن أحـد؟ قالـت: نعـم أتانـا شـيخ حسـن الهيئـة وأثنـت عليـه، فسـألني عنـك فأخبرتـه فسـألني كيـف عيشـنا؟ فأخبرتـه أنَّـا بخيـر، قـال: فأوصـاك بشـيء؟ قالـت: نعـم هـو يقـرأ عليـك السـلام ويأمـرك أن ثبِّـت عتبـة بابـك، قـال: ذاك أبـي وأنـت العتبـة أمرنـي أن أمسـكك.
ثـم لبـث عنهـم مـا شـاء الله ثـم جـاء بعـد ذلـك وإسـماعيل يبـري نبـلاً لـه تحـت دوحـة ، قريبـاً مـن زمـزم، فلمـا رآه قـال إليـه وصنعـا كمـا يصنـع الوالـد بالولـد والولـد بالوالـد، ثـم قـال: يـا إسـماعيل إن الله أمرنـي بأمـر، قـال: فاصنـع مـا أمـرك ربـك، قـال: وتعيننـي؟ قـال: وأعينـك، قـال: فـإن الله أمرنـي أن أبنـي ههنـا بيتـاً، وأشـار إلـى أكمـة مرتفعـة علـى مـا حولهـا. قـال: فعنـد ذلـك رفعـا القواعـد مـن البيـت، فجعـل إسـماعيل يأتـي بالحجـارة وإبراهيـم يبنـي حتـى إذا ارتفـع البنـاء جـاء بهـذا الحجـر فوضعـه لـه فقـام عليـه، وهـو يبنـي وإسـماعيل يناولـه الحجـارة وهمـا يقـولان: (( ربنـا تقبّـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )). قـال: فجعـلا يبنيـان حتـى يـدورا حـول البيـت وهمـا يقـولان: (( ربنـا تقبّـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )).
ثـم قـال البخـاري: حدثنـا عبـد الله بـن محمـد أخبرنـا أبـو عامـر عبـد الله بـن عمـرو، أخبرنـا إبراهيـم بـن نافـع عـن كثيـر بـن كثيـر عـن سـعيد بـن جبيـر عـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا قـال: { لمـا كـان بيـن إبراهيـم وبيـن أهلـه مـا كـان خـرج بإسـماعيل وأم إسـماعيل ومعهـم شـنة فيهـا مـاء فجعلـت أم إسـماعيل تشـرب مـن الشـنة فيـدر لبنهـا علـى صغيرهـا علـى صبيهـا حتـى قـدم مكـة فوضعهمـا تحـت دوحـة ثـم رجـع إبراهيـم إلـى أهلـه، فاتبعتـه أم إسـماعيل حتـى بلغـوا كـداء نادتـه مـن ورائـه: يـا إبراهيـم إلـى مـن تتركنـا؟ قـال: إلـى الله، قالـت: رضيـت بالله. قـال: فرجعـت تشـرب مـن الشـنة ويـدر لبنهـا علـى صبيهـا حتـى لمـا فنـي المـاء. قالـت: لـو ذهبـت فنظـرت لعلـي أحـس أحـداً، فذهبـت فصعـدت الصفـا، فنظـرت هـل تحـس أحـداً؟ فلـم تحـس أحـداً، فلمـا بلغـت الـوادي سـعت حتـى أتـت المـروة وفعلـت ذلـك أشـواطاً حتـى أتمـت سـبعاً، ثـم قالـت: لـو ذهبـت فنظـرت مـا فعـل الصبـي، فذهبـت فنظـرت فـإذا هـو علـى حالـه كأنـه ينشـغ للمـوت فلـم تقرهـا نفسـها، فقالـت: لـو ذهبـت فنظـرت لعلـي أحـس أحـداً، فذهبـت فصعـدت الصفـا، فنظـرت ونظـرت فلـم تحـس أحـداً حتـى أتمـت سـبعاً، ثـم قالـت: لـو ذهبـت فنظـرت مـا فعـل، فـإذا هـي بصـوت فقالـت: أغـث إن كـان عنـدك خيـر، فـإذا جبريـل عليـه السـلام قـال: فقـال بعقبـه هكـذا وغمـز عقبـه علـى الأرض، قـال: فانبثـق المـاء. فدهشـت أم إسـماعيل فجعلـت تحفـر، قـال: فقـال أبـو القاسـم صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لـو تركتـه لكـان المـاء ظاهـراً }}، قـال: فجعلـت تشـرب مـن المـاء ويـدرُّ لبنهـا علـى صبيهـا. قـال: فمـرَّ نـاس مـن جرهـم ببطـن الـوادي فـإذا هـم بطيـر كأنهـم أنكـروا ذلـك، وقالـوا: مـا يكـون الطيـر إلا علـى مـاء، فبعثـوا رسـولهم فنظـر فـإذا هـو بالمـاء فأتاهـم إليهـا فقالـوا: يـا أم إسـماعيل أتأذنيـن لنـا أن نكـون معـك ونسـكن معـك؟
فبلـغ ابنهـا ونكـح منهـم امـرأة. قـال: ثـم إنـه بـدا إبراهيـم صلـى الله عليـه وسـلم فقـال لأهلـه: إنـي مطلـع تركتـي، قـال: فجاءهـم فسـلَّم فقـال: أيـن إسـماعيل؟ قالـت امرأتـه: ذهـب يصيـد، قـال: قولـي لـه إذا جـاء غيِّـرْ عتبـة بابـك، فلمـا أخبرتـه قـال: أنـتِ ذاك فاذهبـي إلـى أهلـك، قـال: ثـم إنـه بـدا إبراهيـم فقـال: إنـي مطلـع تركتـي، قـال، فجـاء فقـال: أيـن إسـماعيل؟ فقالـت امرأتـه: ذهـب يصيـد، فقالـت: إلا تنـزل فتطعـم وتشـرب؟ فقـال: مـا طعامكـم ومـا شـرابكم؟ قالـت: طعامنـا اللحـم وشـرابنا المـاء. قـال: اللهـم بـارك لهـم فـي طعامهـم وشـرابهم. قـال: فقـال أبـو القاسـم صلـى الله عليـه وسـلم: {{ بركـة بدعـوة إبراهيـم }}. قـال: ثـم إنـه بـدا لإبراهيـم صلـى الله عليـه وسـلم، فقـال لأهلـه: إنـي مطلـع تركتـي فجـاء فوافـق إسـماعيل مـن وراء زمـزم يصلـح نبـلاً لـه، فقـال: يـا إسـماعيل إن ربـك عـزَّ وجـلَّ أمرنـي أن أبنـي لـه بيتـاً، فقـال: أطـع ربـك عـزَّ وجـلَّ، قـال: إنـه أمرنـي أن تعيننـي عليـه، فقـال: إذن افعـل _ أو كمـا قـال _ قـال: فقـام فجعـل إبراهيـم يبنـي وإسـماعيل يناولـه الحجـارة، ويقـولان: (( ربنـا تقبـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )) قـال: حتـى ارتفـع البنـاء، وضعـف الشـيخ عـن نقـل الحجـارة، فقـام علـى حجـر المقـام، فجعـل يناولـه الحجـارة ويقـولان: (( ربنـا تقبـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )).
قـال محمـد بـن إسـحاق عـن مجاهـد وغيـره مـن أهـل العلـم: إن الله لمـا بـوأ إبراهيـم مكـان البيـت، خـرج إليـه مـن الشـام وخـرج معـه إسـماعيل وأمـه هاجـر، وإسـماعيل طفـل صغيـر يرضـع، ومعـه جبريـل يدلـه علـى موضـع البيـت ومعالـم الحـرم، فكـان لا يمـر بقريـة إلا قـال: أبهـذه أًمـرتُ يـا جبريـل؟ فيقـول جبريـل: امضـه، حتـى قـدم بـه مكـة وهـي إذ ذاك عضـاه (سـلم وسـمر) وبهـا أنـاس يقـال لهـم العماليـق خـارج مكـة ومـا حولهـا، والبيـت يومئـذ ربـوة حمـراء مـدرة، فقـال إبراهيـم لجبريـل: أههنـا أمـرت أن أضعهمـا؟ قـال: نعـم، فعمـد بهمـا إلـى موضـع الحجـر فأنزلهمـا فيـه، وأمـر (هاجـر) أم إسـماعيل أن تتخـذ فيـه عريشـاً فقـال: (( ربنـا إنـي أسـكنت مـن ذريتـي بـواد غيـر ذي زرع عنـد بيتـك المحـرم )) إلـى قولـه: (( لعلهـم يشـكرون )).
وقـال عبـد الـرزاق عـن مجاهـد: خلـق الله موضـع هـذا البيـت قبـل أن يخلـق شـيئاً بألفـي سـنة وأركانـه فـي الأرض السـابعة.
وقـال البخـاري رحمـه الله قولـه تعالـى (( وإذ يرفـع إبراهيـم القواعـد مـن البيـت وإسـماعيل )) الآيـة، القواعـد أسـاسـه، واحدهـا قاعـدة، والقواعـد مـن النسـاء واحدتهـا قاعـدة.
عـن عائشـة زوج النبـي صلـى الله عليـه وسـلم، أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ ألـم تـريْ أن قومـك حيـن بنـوا البيـت اقتصـروا عـن قواعـد إبراهيـم؟ }} فقلـت: يـا رسـول الله ألا تردهـا علـى قواعـد إبراهيـم؟ قـال: {{ لـولا حدثـان قومـك بالكفـر }} ، فقـال عبـد الله بـن عمـر: لئـن كانـت عائشـة سـمعت هـذا مـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم مـا أرى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم تـرك اسـتلام الركنيـن اللذيـن يليـان الحجـر، إلا أن البيـت لـم يتمـم علـى قواعـد إبراهيـم عليـه السـلام.
ورواه مسـلم أيضـاً مـن حديـث نافـع عـن عائشـة عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لـولا أن قومـك حديثـو عهـد بجاهليـة _ أو قـال بكفـر _ لأنفقـت كنـز الكعبـة فـي سـبيل الله ولجعلـت بابهـا بالأرض، ولأدخلـت فيهـا الحِجْـر }}.
أخواتـي...
اعذرننـي لتقصيـري...
عـارض صحـي منعنـي مـن المتابعـة فـي الفتـرة الأخيـرة...
أبعـد الله المـرض عنكـم وعـن أمـة نبينـا محمـد صلـى الله عليـه وسـلم...
****************************************************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( وَعَهِدْنَـا إِلـى إِبْراهيـمَ وَإِسْـماعِيلَ أَنْ طَهِّـرا بَيْتِـيَ لِلطَّائِفِيـنَ وَالعَاكِفِيـنَ وَالرُّكَّـعِ السُّـجُودِ (125) وَإِذْ قَـالَ إِبراهيـمُ رَبِّ اجْعَـلْ هَـذَا بَلَـداً آمِنَـاً وَارْزُقْ أَهْلَـهُ مِـنَ الثَّمَـرَاتِ مَـنْ آمَـنَ مِنْهُـمْ بِاللهِ وَاليَـوْمِ الآخِـرِ قَـالَ وَمَـنْ كَفَـرَ فَأُمَتِّعُـهُ قَلِيـلاً ثُـمَّ أَضْطّـرُّهُ إِلـى عَـذَابِ النَّـارِ وَبِئْـسَ المَصيـرُ (126) وَإِذْ يَرْفَـعُ إِبْراهِيـمُ القَواعِـدَ مِـنَ البَيْـتِ وَإِسْـمَاعيلُ رَبَّنَـا تَقَبَّـلْ مِنَّـا إِنَّـكَ أَنْـتَ السَّـميعُ العَليـمُ (127) رَبَّنـا وَاجْعَلْنـا مُسْـلِمَيْنِ لَـكَ وَمِـنْ ذُرِيَّتِنـا أُمَّـةً مُسْـلِمَةً لَـكَ وَأَرِنَـا مَنَاسِـكَنا وَتُـبْ عَلَينـا إِنَّـكَ أَنْـتَ التَّـوابُ الرَّحِيـمُ )) / 128 /
قـال الحسـن البصـري: قولـه تعالـى (( وعهدنـا إلـى إبراهيـم وإسـماعيل )) : أمرهمـا الله أن يطهـرا مـن الأذى والنجـس، ولا يصيبـه مـن ذلـك شـيء.
وقـال ابـن جريـج قلـت لعطـاء مـا عهـده؟ قـال: أمـره.
والظاهـر أن هـذا الحـرف إنمـا عـدّي بـ إلـى لأنـه فـي معنـى أوحينـا، قولـه: (( أن طهـرا بيتـي للطائفيـن والعاكفيـن )) أي مـن الأوثـان والرفـث وقـول الـزور والرجـس.
قـال مجاهـد وعطـاء وقتـادة: (( أن طهـرا بيتـي )) أي بـلاء إلـه إلا الله مـن الشـرك.
وأمـا قولـه تعالـى: (( للطائفيـن )) فالطـواف بالبيـت معـروف.
وعـن سـعيد بـن جبيـر أنـه قـال: (( للطائفيـن )) يعنـي مـن أتـاه مـن غربـة (( والعاكفيـن )) المقيميـن فيـه.
وهكـذا روي عـن قتـادة والربيـع بـن أنـس أنهمـا فسَّـرا العاكفيـن بأهلـه المقيميـن فيـه.
وعـن ابـن عبـاس قـال: إذا كـان جالسـاً فهـو مـن العاكفيـن.
وعـن ثابـت قـال: قلنـا لعبـد الله بـن عبيـد بـن عميـر مـا أرانـي إلا مكلـم الأميـر أن امنـع الذيـن ينامـون فـي المسـجد الحـرام فإنهـم يجنبـون ويحدثـون، قـال: لا تفعـل فـإن عمـر سـئل عنهـم فقـال: هـم العاكفـون.
(قلـت): وقـد ثبـت فـي الصحيـح أن ابـن عمـر كـان ينـام فـي مسـجد الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم وهـو عـزب.
وأمـا قولـه تعالـى: (( والركـع السـجود )) فقـال عطـاء عـن ابـن عبـاس: إذا كـان مصليـاً فهـو مـن الركـع السـجود.
قـال ابـن جريـر رحمـه الله: فمعنـى الآيـة: وأمرنـا إبراهيـم وإسـماعيل بتطهيـر بيتـي للطائفيـن، والتطهيـر الـذي أمرهمـا بـه فـي البيـت هـو تطهيـره مـن الأصنـام وعبـادة الأوثـان فيـه ومـن الشـرك.
فـإن قيـل: فهـل كـان قبـل بنـاء إبراهيـم عنـد البيـت شـيء مـن ذلـك الـذي أمـر بتطهيـره منـه؟
فالجـواب مـن وجهيـن: (أحدهمـا): أنـه أمرهمـا بتطهيـره ممـا كـان يعبـد عنـده زمـان قـوم نـوح مـن الأصنـام والأوثـان، ليكـون ذلـك سـنة لمـن بعدهمـا إذ كـان الله تعالـى قـد جعـل إبراهيـم إمامـاً يقتـدى بـه.
(قلـت): وهـذا الجـواب مفـرّعٌ علـى أنـه كـان يعبـد عنـده أصنـام قبـل إبراهيـم عليـه السـلام، ويحتـاج إثبـات هـذا إلـى دليـل عـن المعصـوم محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
(والثانـي): أنـه أمرهمـا أن يخلصـا فـي بنائـه لله وحـده لا شـريك لـه فيبنيـاه مطهـراً مـن الشـرك والريـب، كمـا قـال جـلَّ ثنـاؤه: (( أفمـن أسـس بنيانـه علـى تقـوى مـن الله ورضـوان خيـر أم مـن أسـس بنيانـه علـى شـفا جـرف هـار )).
قـال فكذلـك قولـه: (( وعهدنـا إلـى إبراهيـم وإسـماعيل أن طهِّـرا بيتـي )) أي ابنيـاه علـى طهـر مـن الشـرك والريـب.
وملخـص هـذا الجـواب أن الله تعالـى أمـر إبراهيـم وإسـماعيل عليهمـا السـلام أن يبنيـا الكعبـة علـى اسـمه وحـده لا شـريك لـه، للطائفيـن والعاكفيـن عنـده والمصليـن إليـه مـن الركـع السـجود كمـا قـال تعالـى: (( وإذ بوأنـا إبراهيـم مكـان البيـت أن لا تشـرك بـي شـيئاً وطهـر بيتـي للطائفيـن والقائميـن والركـع السـجود )) الآيـات.
وقـد اختلـف الفقهـاء أيمـا أفضـل الصـلاة عنـد البيـت أو الطـواف بـه؟
فقـال مالـك رحمـه الله: الطـواف بـه لأهـل الأمصـار أفضـل.
وقـال الجمهـور: الصـلاة أفضـل مطلقـاً، وتوجيـه كـل منهمـا يذكـر فـي كتـاب الأحكـام، والمـراد مـن ذلـك الـرد علـى المشـركين، الذيـن كانـوا يشـركون بالله عنـد بيتـه، المؤسـس علـى عبادتـه وحـده لا شـريك لـه، ثـم مـع ذلـك يصـدون أهلـه المؤمنيـن عنـه كمـا قـال تعالـى: (( إن الذيـن كفـروا ويصـدون عـن سـبيل الله والمسـجد الحـرام الـذي جعلنـاه للنـاس سـواء العاكـف بـه والبـاد ومـن يـرد فيـه بإلحـاد بظلـم نذقـه مـن عـذاب أليـم )).
ثـم ذكـر أن البيـت إنمـا أسـس لمـن يعبـد الله وحـده لا شـريك لـه، أمـا بطـواف أو صـلاة، فذكـر فـي سـورة الحـج أجزاءهـا الثلاثـة (قيامهـا وركوعهـا وسـجودها) ولـم يذكـر العاكفيـن لأنـه تقـدم (( سـواء العاكـف فيـه والبـاد )).
وفـي هـذه الآيـة الكريمـة ذكـر الطائفيـن والعاكفيـن، واكتفـى بذكـر الركـوع والسـجود عـن القيـام، لأنـه قـد علـم أنـه لا يكـون ركـوع ولا سـجود إلا بعـد قيـام، وفـي ذلـك أيضـاً رد علـى مـن لا يحجـه مـن أهـل الكتابيـن (اليهـود والنصـارى) لأنهـم يعتقـدون فضيلـة إبراهيـم الخليـل وإسـماعيل ويعلمـون أنـه بنـى هـذا البيـت للطـواف فـي الحـج والعمـرة وهـم لا يفعلـون شـيئاً مـن ذلـك، فكيـف يكونـون مقتديـن بالخليـل وهـم لا يفعلـون مـا شـرع الله لـه؟
وقـد حـج البيـت موسـى بـن عمـران وغيـره مـن الأنبيـاء عليهـم الصـلاة والسـلام كمـا أخبـر بذلـك المعصـوم الـذي لا ينطـق عـن الهـوى (( إن هـو إلا وحـي يوحـى )).
وتقديـر الكـلام إذاً: (( وعهدنـا إلـى إبراهيـم )) أي تقدمنـا بوحينـا إلـى إبراهيـم وإسـماعيل (( أن طهـرا بيتـي للطائفيـن والعاكفيـن والركـع السـجود )) أي طهـراه مـن الشـرك والريـب وابنيـاه خالصـاً لله معقـلاً للطائفيـن والعاكفيـن والركـع السـجود.
وتطهيـر المسـاجد مأخـوذ مـن هـذه الآيـة الكريمـة مـن قولـه تعالـى: (( فـي بيـوت أذن الله أن ترفـع ويذكـر فيهـا اسـمه يسـبح لـه فيهـا بالغـدو والآصـال )).
ومـن السـنة مـن أحاديـث كثيـرة مـن الأمـر بتطهيرهـا وتطييبهـا وغيـر ذلـك مـن صيانتهـا مـن الأذى والنجاسـات ومـا أشـبه ذلـك. ولهـذا قـال عليـه السـلام: {{ إنمـا بنيـت المسـاجد لمـا بنيـت لـه }}، وقـد جمعـت فـي ذلـك جـزءً علـى حـدة ولله الحمـد والمنـة.
وقـد اختلـف النـاس فـي أول مـن بنـى الكعبـة؟ فقيـل الملائكـة قبـل آدم ذكـره القرطبـي وحكـى لفظـه وفيـه غرابـة، وقيـل آدم عليـه السـلام رواه عطـاء وسـعيد بـن المسـيب وهـذا غريـب أيضـاً.
وروي عـن ابـن عبـاس وكعـب الأحبـار أن أول مـن بنـاه شـيث عليـه السـلام. وغالـب مـا يذكـر هـذا إنمـا يأخـذه مـن كتـب أهـل الكتـاب وهـي ممـا لا يصـدق ولا يكـذب ولا يعتمـد عليهـا بمجردهـا. وأمـا إذا صـح حديـث فـي ذلـك فعلـى الـرأس والعيـن.
وقولـه تعالـى: (( وإذ قـال إبراهيـم رب اجعـل هـذا بلـداً آمنـاً وارزق أهلـه مـن الثمـرات مـن آمـن منهـم بالله واليـوم الآخـر )) قـال ابـن جريـر عـن جابـر بـن عبـد الله: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إن إبراهيـم حـرَّم بيـت الله وأمنَّـه، وإنـي حرمـت المدينـة مـا بيـن لابتيهـا، فـلا يصـاد صيدهـا ولا يقطـع عضاهـا }}.
عـن أبـي هريـرة رضـي الله عنـه قـال: كـان النـاس إذا رأوا أول الثمـر جـاءوا بـه إلـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فـإذا أخـذه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ اللهـم بـارك لنـا فـي ثمرنـا، بـارك لنـا فـي مدينتنـا، وبـارك لنـا فـي صاعنـا، وبـارك لنـا فـي مُدّنـا، اللهـم إن إبراهيـم عبـدك وخليلـك ونبيـك، وإنـي عبـدك ونبيـك وإنـه دعـاك لمكـة، وإنـي أدعـوك للمدينـة بمثـل مـا دعـاك لمكـة ومثلـه معـه }} ثـم يدعـو أصغـر وليـد لـه فيعطيـه ذلـك الثمـر.
وفـي الصحيحيـن عـن أنـس بـن مالـك قـال، قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لأبـي طلحـة: {{ التمـس لـي غلامـاً مـن غلمانكـم يخدمنـي }}، فخـرج بـي أبـو طلحـة يردفنـي وراءه، فكنـت أخـدم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كلمـا نـزل.
وقـال فـي الحديـث: ثـم أقبـل حتـى إذا بـدا لـه أحـد قـال: {{ هـذا جبـلٌ يحبنـا ونحبـه }}، فلمـا أشـرف علـى المدينـة قـال: {{ اللهـم إنـي أحـرم مـا بيـن جبليهـا مثـل مـا حـرم بـه إبراهيـم مكـة، اللهـم بـارك لهـم فـي مدهـم وصاعهـم }}.
وفـي لفـظ لهمـا: {{ اللهـم بـارك لهـم فـي مكيالهـم وبـارك لهـم فـي مدهـم }}.
زاد البخـاري يعنـي: أهـل المدينـة.
وعـن أنـس أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ اللهـم اجعـل بالمدينـة ضعفـي مـا جعلتـه بمكـة مـن البركـة }}.
وعـن أبـي سـعيد رضـي الله عنـه عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ اللهـم إن إبراهيـم حـرم مكـة فجعلهـا حرامـاً، وإنـي حرمـت المدينـة حرامـاً مـا بيـن مأزميهـا، أن لا يـراق فيهـا دم، ولا يحمـل فيهـا سـلاح لقتـال، ولا يخبـط فيهـا شـجرة إلا لعلـف، اللهـم بـارك لنـا فـي مدينتنـا، اللهـم بـارك لنـا فـي صاعنـا، اللهـم بـارك لنـا فـي مدّنـا، اللهـم اجعـل مـع البركـة بركتيـن }}.
والأحاديـث فـي تحريـم المدينـة كثيـرة وإنمـا أورد منهـا مـا هـو متعلـق بتحريـم إبراهيـم عليـه السـلام لمكـة لمـا فـي ذلـك مطابقـة الآيـة الكريمـة، وتمسـك بهـا مـن ذهـب إلـى إن تحريـم مكـة إنمـا كـان علـى لسـان إبراهيـم الخليـل.
وقيـل: إنهـا محرمـة منـذ خلقـت مـع الأرض، وهـذا أظهـر وأقـوى والله أعلـم.
وقـد وردت أحاديـث أخـر تـدل علـى أن الله تعالـى حـرّم مكـة قبـل خلـق السـماوات والأرض كمـا جـاء فـي الصحيحيـن عـن عبـد الله بـن عبـاس رضـي الله عنهمـا قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يـوم فتـح مكـة: {{ إن هـذا البلـد حرمـه الله يـوم خلـق السـماوات والأرض، فهـو حـرام بحرمـة الله إلـى يـوم القيامـة، وإنـه لـم يحـل القتـال فيـه لأحـد قبلـي، ولـم يحـل لـي إلا سـاعة مـن نهـار، فهـو حرمـة بحرمـة الله إلـى يـوم القيامـة، لا يعضـد شـوكه، ولا ينفـر صيـده، ولا يلتقـط لقطتـه إلا مـن عرّفهـا ولا يختلـى خلاهـا }}.
فقـال العبـاس: يـا رسـول الله إلا الإذخـر فإنـه لقَيْنهـم ولبيوتهـم، فقـال: {{ إلا الإذخـر }}.
وعـن أبـي شـريح العـدوي أنـه قـال لعمـرو بـن سـعيد _ وهـو يبعـث البعـوث إلـى مكـة _ ائـذن لـي أيهـا الأميـر أن أحدثـك قـولاً قـام بـه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم الغـد مـن يـوم الفتـح، سـمعته أذنـاي، ووعـاه قلبـي، وأبصرتـه عينـاي حيـن تكلـم بـه، إنـه حمـد الله وأثنـى عليـه ثـم قـال: {{ إن مكـة حرمهـا الله ولـم يحرمهـا النـاس، فـلا يحـل لامـرئ يؤمـن بالله واليـوم الآخـر أن يسـفك بهـا دمـاً، ولا يعضـد بهـا شـجرة، فـإن أحـدا ترخَّـص بقتـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فقولـوا: إن الله أذن لرسـوله ولـم يـأذن لكـم، وإنمـا أذن لـي فيهـا سـاعة مـن نهـار وقـد عـادت حرمتهـا اليـوم كحرمتهـا بالأمـس، ليبلـغ الشـاهد الغائـب }}.
فقيـل لأبـي شـريح مـا قـال لـك عمـرو؟ قـال: أنـا أعلـم بذلـك منـك يـا أبـا شـريح، أن الحـرم لا يعيـذ عاصيـاً ولا فـاراً بـدم ولا فـاراً بخربـة.
فـإذا علـم هـذا فـلا منافـاة بيـن هـذه الأحاديـث، الدالـة علـى أن الله حـرم مكـة يـوم خلـق السـماوات والأرض، وبيـن الأحاديـث الدالـة علـى أن إبراهيـم عليـه السـلام حرمهـا، لأن إبراهيـم بلّـغ عـن الله حكمـه فيهـا، وتحريمـه إياهـا وأنهـا لـم تنـزل بلـداً حرامـاً عنـد الله قبـل بنـاء إبراهيـم عليـه السـلام لهـا، كمـا أنـه قـد كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم مكتوبـاً عنـد الله خاتـم النبييـن وإن آدم لمنجـدل فـي طينتـه، ومـع هـذا قـال إبراهيـم عليـه السـلام: {{ ربنـا وابعـث فيهـم رسـولاً منهـم }} وقـد أجـاب الله دعـاءه بمـا سـبق فـي علمـه وقـدره.
وأمـا مسـألة تفضيـل مكـة علـى المدينـة كمـا هـو قـول الجمهـور، أو المدينـة علـى مكـة كمـا هـو مذهـب مالـك وأتباعـه، فتذكـر فـي موضـع آخـر بأدلتهـا إن شـاء الله وبـه الثقـة. وقولـه تعالـى إخبـاراً عـن الخليـل: (( رب اجعـل هـذا بلـداً آمنـاً )) أي مـن الخـوف أي لا يرعـب أهلـه.
وقـد فعـل الله ذلـك شـرعاً وقـدراً، كقولـه تعالـى: (( ومـن دخلـه كـان آمنـاً )).
وقولـه: (( أو لـم يـروا أنـا جعلنـا حرمـاً آمنـاً ويُتخطـف النـاس مـن حولهـم )) إلـى غيـر ذلـك مـن الآيـات وقـد تقدمـت الأحاديـث فـي تحريـم القتـال فيـه.
وفـي صحيـح مسـلم عـن جابـر سـمعت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ لا يحـل لأحـد أن يحمـل لمكـة السـلاح }}.
وقـال فـي هـذه السـورة (( رب اجعـل هـذا بلـداً آمنـاً )) أي اجعـل هـذه البقعـة بلـداً آمنـاً وناسـب هـذا لأنـه قبـل بنـاء الكعبـة.
وقـال تعالـى فـي سـورة إبراهيـم: (( وإذ قـال إبراهيـم رب اجعـل هـذا بلـداً آمنـاً )) وناسـب هـذا هنـاك لأنـه _ والله أعلـم _ كأنـه وقـع دعـاء مـرة ثانيـة بعـد بنـاء البيـت واسـتقرار أهلـه بـه، وبعـد مولـد إسـحاق الـذي هـو أصغـر سـناً مـن إسـماعيل بثـلاث عشـرة سـنة، ولهـذا قـال فـي آخـر الدعـاء: (( الحمـد لله الـذي وهـب لـي علـى الكبـر إسـماعيل وإسـحاق إن ربـي لسـميع الدعـاء )).
وقولـه تعالـى: (( وارزق أهلـه مـن الثمـرات مـن آمـن منهـم بالله واليـوم الآخـر قـال ومـن كفـر فأمتعـه قليـلاً ثـم أضطـره إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر )).
قـال أبـو جعفـر الـرازي عـن أبـي بـن كعـب (( قـال ومـن كفـر )) الآيـة هـو قـول الله تعالـى. وهـذا قـول مجاهـد وعكرمـة وهـو الـذي صوبـه ابـن جريـر رحمـه الله.
قـال: وقـرأ آخـرون: (( قـال ومـن كفـر فأمتعـه قليـلاً ثـم أضطـره إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر )) فجعلـوا ذلـك مـن تمـام دعـاء إبراهيـم.
قـال ابـن عبـاس: { كـان إبراهيـم يحجرهـا علـى المؤمنيـن دون النـاس، فأنـزل الله ومـن كفـر أيضـاً أرزقهـم كمـا أرزق المؤمنيـن، أأخلـق خلقـاً لا أرزقهـم؟ أمتعهـم قليـلاً ثـم أضطرهـم إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر }.
ثـم قـرأ ابـن عبـاس: (( كـلاً نمـد هـؤلاء وهـؤلاء مـن عطـاء ربـك ومـا كـان عطـاء ربـك محظـوراً )).
وهـذا كقولـه تعالـى: (( إن الذيـن يفتـرون علـى الله الكـذب لا يفلحـون . متـاع فـي الحيـاة الدنيـا ثـم إلينـا مرجعهـم ثـم نذيقهـم العـذاب الشـديد بمـا كانـوا يكفـرون )).
وكقولـه تعالـى: (( نمتعهـم قليـلاً ثـم نضطرهـم إلـى عـذاب غليـظ )).
وقولـه: (( ثـم أضطـره إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر )) أي ثـم ألجئـه بعـد متاعـه فـي الدنيـا، وبسـطنا عليـه مـن ظلهـا (( إلـى عـذاب النـار وبئـس المصيـر )) ومعنـاه إن الله تعالـى يُنْظرهـم ويمهلهـم ثـم يأخذهـم أخـذ عزيـز مقتـدر كقولـه تعالـى: (( وكأيـن مـن قريـة أمليـتُ لهـا وهـي ظالمـة ثـم أخذتهـا وإلـيَّ المصيـر )).
وفـي الصحيـح: {{ إن الله ليملـي للظالـم حتـى إذا أخـذه لـم يفلتـه }}، ثـم قـرأ قولـه تعالـى: (( وكذلـك أخـذ ربـك إذا أخـذ القـرى وهـي ظالمـة إن أخـذه أليـم شـديد )).
وأمـا قولـه تعالـى: (( وإذ يرفـع إبراهيـم القواعـد مـن البيـت وإسـماعيل ربنـا تقبـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )).
فالقواعـد جمـع قاعـدة، وهـي السـارية والأسـاس.
يقـول تعالـى: واذكـر يـا محمـد لقومـك بنـاء إبراهيـم وإسـماعيل عليهمـا السـلام البيـت، ورفعهمـا القواعـد منـه وهمـا يقـولان: (( ربنـا تقبـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )) فهمـا فـي عمـل صالـح وهمـا يسـألان الله تعالـى أن يتقبـل منهمـا.
وقـال بعـض المفسـرين: الـذي كـان يرفـع القواعـد هـو إبراهيـم، والداعـي إسـماعيل، والصحيـح أنهمـا كانـا يرفعـان ويقـولان كمـا سـيأتي بيانـه.
وقـد روى البخـاري عـن سـعيد بـن جبيـر عـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا قـال: أول مـا اتخـذ النسـاء المِنْطَـق مـن قبـل أن إسـماعيل، اتخـذت منطقـاً لتعفـي أثرهـا علـى سـارة، ثـم جـاء بهـا إبراهيـم وبابنهـا إسـماعيل وهـي ترضعـه حتـى وضعهمـا عنـد البيـت، عنـد دوحـة فـوق زمـزم فـي أعلـى المسـجد وليـس بمكـة يومئـذ أحـد، وليـس بهـا مـاء، فوضعهمـا هنالـك ووضـع عندهمـا جِرابـاً فيـه تمـر، وسـقاء فيـه مـاء، ثـم قفّـى إبراهيـم منطلقـاً فتبعتـه أم إسـماعيل فقالـت: الله أمـرك بهـذا؟ قـال: نعـم، قالـت: إذاً لا يضيعنـا، ثـم رجعـت. فانطلـق إبراهيـم حتـى إذا كـان عنـد الثنيـة حيـث لا يرونـه اسـتقبل بوجهـه البيـت، ثـم دعـا بهـذه الدعـوات ورفـع يديـه فقـال: (( ربنـا إنـي أسـكنت مـن ذريتـي بـواد غيـر ذي زرع عنـد بيتـك المحـرم )) حتـى بلـغ (( يشـكرون )).
وجعلـت أم إسـماعيل ترضـع إسـماعيل وتشـرب مـن ذلـك المـاء، حتـى إذا نفـذ مـا فـي السـقاء عطشـت وعطـش ابنهـا، وجعلـت تنظـر إليـه يتلـوّى _ أو قـال يتلبـط _ فانطلقـت كراهيـة أن تنظـر إليـه، فوجـدت الصفـا أقـرب جبـل فـي الأرض يليهـا، فقامـت عليـه ثـم اسـتقبلت الـوادي تنظـر هـل تـرى أحـداً فلـم تـر أحـداً، فهبطـت مـن الصفـا حتـى إذا بلغـت الـوادي رفعـت طـرف درعهـا، ثـم سـعت سـعي الإنسـان المجهـود حتـى جـاوزت الـوادي، ثـم أتـت المـروة فقامـت عليهـا فنظـرت هـل تـرى أحـداً فلـم تـرى أحـداً، ففعلـت ذلـك سـبع مـرات.
قـال ابـن عبـاس: قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ فذلـك سـعي النـاس بينهمـا }}.
فلمـا أشـرفت علـى المـروة سـمعت صوتـاً فقالـت: {{ صـه }} _ تريـد نفسـها _ ثـم تسـمعت فسـمعت أيضـاً، فقالـت: قـد أسـمعت إن كـان عنـدك غـواث فـإذا هـي بالمَلَـك عنـد موضـع زمـزم، فبحـث بعقبـه _ أو قـال بجناحـه _ حتـى ظهـر المـاء، فجعلـت تحوضـه وتقـول بيدهـا هكـذا وجعلـت تغـرف مـن المـاء فـي سـقائها وهـو يفـور بعـد مـا تغـرف.
قـال ابـن عبـاس: قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ يرحـم الله أم إسـماعيل لـو تركـت زمـزم _ أو قـال لـو لـم تغـرف مـن المـاء _ لكانـت زمـزم عينـاً معينـاً }}.
قـال: فشـربت وأرضعـت ولدهـا، فقـال لهـا الملـك: لا تخافـي الضيعـة فـإن ههنـا بيتـاً لله يبنيـه هـذا الغـلام وأبـوه، وإن الله لا يضيّـع أهلـه، وكـان البيـت مرتفعـاً مـن الأرض كالرابيـة، تأتيـه السـيول فتأخـذ عـن يمينـه وشـماله، فكانـت كذلـك حتـى مـرت بهـم رفقـة مـن جرهـم، أو أهـل بيـت مـن جرهـم مقبليـن مـن طريـق كـداء، فنزلـوا فـي أسـفل مكـة فـرأوا طائـراً عائفـاً، فقالـوا: إن هـذا الطائـر ليـدور علـى مـاء، لعهدنـا بهـذا الـوادي ومـا فيـه مـاء، فأرسـلوا جريـاً أو جرييـن فـإذا هـم بالمـاء فرجعـوا فأخبروهـم بالمـاء، فأقبلـوا، قـال: وأم إسـماعيل عنـد المـاء، فقالـوا: أتأذنيـن لنـا أن ننـزل عنـدك؟ قالـت: نعـم ولكـن لا حـقَّ لكـم فـي المـاء عندنـا، قالـوا: نعـم.
قـال ابـن عبـاس: قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ فألفـى ذلـك أم إسـماعيل وهـي تحـي الأنـس }} فنزلـوا وأرسـلوا إلـى أهليهـم فنزلـوا معهـم حتـى إذا كـان بهـا أهـل أبيـات منهـم، وشـب الغـلام وتعلـم اللغـة العربيـة منهـم وأنفَسَـهم وأعجبهـم حيـن شـب، فلمـا أدرك زوَّجـوه امـرأة منهـم.
وماتـت (أم إسـماعيل) فجـاء إبراهيـم بعـد مـا تـزوج إسـماعيل يطالـع تركتـه فلـم يجـد إسـماعيل، فسـأل امرأتـه عنـه فقالـت: خـرج يبتغـي لنـا، ثـم سـألها عـن عيشـهم وهيئتهـم فقالـت: نحـن بشـرٍّ، نحـن فـي ضيـق وشـدة فشـكت إليـه، قـال: إذا جـاء زوجـك فاقرئـي عليـه السـلام وقولـي لـه يغيِّـر عتبـة بابـه، فلمـا جـاء إسـماعيل كأنـه أنـس شـيئاً فقـال: هـل جاءكـم مـن أحـد؟ قالـت: نعـم جاءنـا شـيخ كـذا وكـذا فسـألنا عنـك فأخبرتـه وسـألني كيـف عيشـنا؟ فأخبرتـه أننـا فـي جهـد وشـدة، قـال: فهـل أوصـاك بشـيء؟ قالـت: نعـم أمرنـي أن أقـرأ عليـك السـلام ويقـول غيِّـر عتبـة بابـك، قـال: هـذا أبـي وقـد أمرنـي أن أفارقـك فالحقـي بأهلـك، وطلَّقهـا وتـزوج منهـم بأخـرى. فلبـث عنهـم إبراهيـم مـا شـاء الله ثـم أتاهـم بعـد، فلـم يجـده فدخـل علـى امرأتـه فسـألها عنـه فقالـت: خـرج يبتغـي لنـا، قـال: كيـف أنتـم؟ وسـألها عـن عيشـهم وهيئتهـم، فقالـت: نحـن بخيـر وسـعة، وأثنـت علـى الله عـزَّ وجـلَّ، قـال: مـا طعامكـم؟ قالـت: اللحـم؟ قـال: فمـا شـرابكم؟ قالـت: المـاء، قـال: اللهـم بـارك لهـم فـي اللحـم والمـاء. قـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ ولـم يكـن لهـم يومئـذ حَـبّ ولـو كـان لهـم لدعـا لهـم فيـه }}، قـال: فهمـا لـم يخلـوا عليهمـا أحـد بغيـر مكـة إلا لـم يوافقـاه، قـال: فـإذا جـاء زوجـك فاقرئـي عليـه السـلام ومريـه يثبِّـت عتبـة بابـه، فلمـا جـاء إسـماعيل قـال: هـل أتاكـم مـن أحـد؟ قالـت: نعـم أتانـا شـيخ حسـن الهيئـة وأثنـت عليـه، فسـألني عنـك فأخبرتـه فسـألني كيـف عيشـنا؟ فأخبرتـه أنَّـا بخيـر، قـال: فأوصـاك بشـيء؟ قالـت: نعـم هـو يقـرأ عليـك السـلام ويأمـرك أن ثبِّـت عتبـة بابـك، قـال: ذاك أبـي وأنـت العتبـة أمرنـي أن أمسـكك.
ثـم لبـث عنهـم مـا شـاء الله ثـم جـاء بعـد ذلـك وإسـماعيل يبـري نبـلاً لـه تحـت دوحـة ، قريبـاً مـن زمـزم، فلمـا رآه قـال إليـه وصنعـا كمـا يصنـع الوالـد بالولـد والولـد بالوالـد، ثـم قـال: يـا إسـماعيل إن الله أمرنـي بأمـر، قـال: فاصنـع مـا أمـرك ربـك، قـال: وتعيننـي؟ قـال: وأعينـك، قـال: فـإن الله أمرنـي أن أبنـي ههنـا بيتـاً، وأشـار إلـى أكمـة مرتفعـة علـى مـا حولهـا. قـال: فعنـد ذلـك رفعـا القواعـد مـن البيـت، فجعـل إسـماعيل يأتـي بالحجـارة وإبراهيـم يبنـي حتـى إذا ارتفـع البنـاء جـاء بهـذا الحجـر فوضعـه لـه فقـام عليـه، وهـو يبنـي وإسـماعيل يناولـه الحجـارة وهمـا يقـولان: (( ربنـا تقبّـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )). قـال: فجعـلا يبنيـان حتـى يـدورا حـول البيـت وهمـا يقـولان: (( ربنـا تقبّـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )).
ثـم قـال البخـاري: حدثنـا عبـد الله بـن محمـد أخبرنـا أبـو عامـر عبـد الله بـن عمـرو، أخبرنـا إبراهيـم بـن نافـع عـن كثيـر بـن كثيـر عـن سـعيد بـن جبيـر عـن ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا قـال: { لمـا كـان بيـن إبراهيـم وبيـن أهلـه مـا كـان خـرج بإسـماعيل وأم إسـماعيل ومعهـم شـنة فيهـا مـاء فجعلـت أم إسـماعيل تشـرب مـن الشـنة فيـدر لبنهـا علـى صغيرهـا علـى صبيهـا حتـى قـدم مكـة فوضعهمـا تحـت دوحـة ثـم رجـع إبراهيـم إلـى أهلـه، فاتبعتـه أم إسـماعيل حتـى بلغـوا كـداء نادتـه مـن ورائـه: يـا إبراهيـم إلـى مـن تتركنـا؟ قـال: إلـى الله، قالـت: رضيـت بالله. قـال: فرجعـت تشـرب مـن الشـنة ويـدر لبنهـا علـى صبيهـا حتـى لمـا فنـي المـاء. قالـت: لـو ذهبـت فنظـرت لعلـي أحـس أحـداً، فذهبـت فصعـدت الصفـا، فنظـرت هـل تحـس أحـداً؟ فلـم تحـس أحـداً، فلمـا بلغـت الـوادي سـعت حتـى أتـت المـروة وفعلـت ذلـك أشـواطاً حتـى أتمـت سـبعاً، ثـم قالـت: لـو ذهبـت فنظـرت مـا فعـل الصبـي، فذهبـت فنظـرت فـإذا هـو علـى حالـه كأنـه ينشـغ للمـوت فلـم تقرهـا نفسـها، فقالـت: لـو ذهبـت فنظـرت لعلـي أحـس أحـداً، فذهبـت فصعـدت الصفـا، فنظـرت ونظـرت فلـم تحـس أحـداً حتـى أتمـت سـبعاً، ثـم قالـت: لـو ذهبـت فنظـرت مـا فعـل، فـإذا هـي بصـوت فقالـت: أغـث إن كـان عنـدك خيـر، فـإذا جبريـل عليـه السـلام قـال: فقـال بعقبـه هكـذا وغمـز عقبـه علـى الأرض، قـال: فانبثـق المـاء. فدهشـت أم إسـماعيل فجعلـت تحفـر، قـال: فقـال أبـو القاسـم صلـى الله عليـه وسـلم: {{ لـو تركتـه لكـان المـاء ظاهـراً }}، قـال: فجعلـت تشـرب مـن المـاء ويـدرُّ لبنهـا علـى صبيهـا. قـال: فمـرَّ نـاس مـن جرهـم ببطـن الـوادي فـإذا هـم بطيـر كأنهـم أنكـروا ذلـك، وقالـوا: مـا يكـون الطيـر إلا علـى مـاء، فبعثـوا رسـولهم فنظـر فـإذا هـو بالمـاء فأتاهـم إليهـا فقالـوا: يـا أم إسـماعيل أتأذنيـن لنـا أن نكـون معـك ونسـكن معـك؟
فبلـغ ابنهـا ونكـح منهـم امـرأة. قـال: ثـم إنـه بـدا إبراهيـم صلـى الله عليـه وسـلم فقـال لأهلـه: إنـي مطلـع تركتـي، قـال: فجاءهـم فسـلَّم فقـال: أيـن إسـماعيل؟ قالـت امرأتـه: ذهـب يصيـد، قـال: قولـي لـه إذا جـاء غيِّـرْ عتبـة بابـك، فلمـا أخبرتـه قـال: أنـتِ ذاك فاذهبـي إلـى أهلـك، قـال: ثـم إنـه بـدا إبراهيـم فقـال: إنـي مطلـع تركتـي، قـال، فجـاء فقـال: أيـن إسـماعيل؟ فقالـت امرأتـه: ذهـب يصيـد، فقالـت: إلا تنـزل فتطعـم وتشـرب؟ فقـال: مـا طعامكـم ومـا شـرابكم؟ قالـت: طعامنـا اللحـم وشـرابنا المـاء. قـال: اللهـم بـارك لهـم فـي طعامهـم وشـرابهم. قـال: فقـال أبـو القاسـم صلـى الله عليـه وسـلم: {{ بركـة بدعـوة إبراهيـم }}. قـال: ثـم إنـه بـدا لإبراهيـم صلـى الله عليـه وسـلم، فقـال لأهلـه: إنـي مطلـع تركتـي فجـاء فوافـق إسـماعيل مـن وراء زمـزم يصلـح نبـلاً لـه، فقـال: يـا إسـماعيل إن ربـك عـزَّ وجـلَّ أمرنـي أن أبنـي لـه بيتـاً، فقـال: أطـع ربـك عـزَّ وجـلَّ، قـال: إنـه أمرنـي أن تعيننـي عليـه، فقـال: إذن افعـل _ أو كمـا قـال _ قـال: فقـام فجعـل إبراهيـم يبنـي وإسـماعيل يناولـه الحجـارة، ويقـولان: (( ربنـا تقبـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )) قـال: حتـى ارتفـع البنـاء، وضعـف الشـيخ عـن نقـل الحجـارة، فقـام علـى حجـر المقـام، فجعـل يناولـه الحجـارة ويقـولان: (( ربنـا تقبـل منـا إنـك أنـت السـميع العليـم )).
قـال محمـد بـن إسـحاق عـن مجاهـد وغيـره مـن أهـل العلـم: إن الله لمـا بـوأ إبراهيـم مكـان البيـت، خـرج إليـه مـن الشـام وخـرج معـه إسـماعيل وأمـه هاجـر، وإسـماعيل طفـل صغيـر يرضـع، ومعـه جبريـل يدلـه علـى موضـع البيـت ومعالـم الحـرم، فكـان لا يمـر بقريـة إلا قـال: أبهـذه أًمـرتُ يـا جبريـل؟ فيقـول جبريـل: امضـه، حتـى قـدم بـه مكـة وهـي إذ ذاك عضـاه (سـلم وسـمر) وبهـا أنـاس يقـال لهـم العماليـق خـارج مكـة ومـا حولهـا، والبيـت يومئـذ ربـوة حمـراء مـدرة، فقـال إبراهيـم لجبريـل: أههنـا أمـرت أن أضعهمـا؟ قـال: نعـم، فعمـد بهمـا إلـى موضـع الحجـر فأنزلهمـا فيـه، وأمـر (هاجـر) أم إسـماعيل أن تتخـذ فيـه عريشـاً فقـال: (( ربنـا إنـي أسـكنت مـن ذريتـي بـواد غيـر ذي زرع عنـد بيتـك المحـرم )) إلـى قولـه: (( لعلهـم يشـكرون )).
وقـال عبـد الـرزاق عـن مجاهـد: خلـق الله موضـع هـذا البيـت قبـل أن يخلـق شـيئاً بألفـي سـنة وأركانـه فـي الأرض السـابعة.
وقـال البخـاري رحمـه الله قولـه تعالـى (( وإذ يرفـع إبراهيـم القواعـد مـن البيـت وإسـماعيل )) الآيـة، القواعـد أسـاسـه، واحدهـا قاعـدة، والقواعـد مـن النسـاء واحدتهـا قاعـدة.
عـن عائشـة زوج النبـي صلـى الله عليـه وسـلم، أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ ألـم تـريْ أن قومـك حيـن بنـوا البيـت اقتصـروا عـن قواعـد إبراهيـم؟ }} فقلـت: يـا رسـول الله ألا تردهـا علـى قواعـد إبراهيـم؟ قـال: {{ لـولا حدثـان قومـك بالكفـر }} ، فقـال عبـد الله بـن عمـر: لئـن كانـت عائشـة سـمعت هـذا مـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم مـا أرى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم تـرك اسـتلام الركنيـن اللذيـن يليـان الحجـر، إلا أن البيـت لـم يتمـم علـى قواعـد إبراهيـم عليـه السـلام.
ورواه مسـلم أيضـاً مـن حديـث نافـع عـن عائشـة عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لـولا أن قومـك حديثـو عهـد بجاهليـة _ أو قـال بكفـر _ لأنفقـت كنـز الكعبـة فـي سـبيل الله ولجعلـت بابهـا بالأرض، ولأدخلـت فيهـا الحِجْـر }}.

( ذكـر بنـاء قريـش الكعبـة بعـد إبراهيـم الخليـل عليـه السـلام وقبـل مبعـث رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بخمـس سـنين )
وقـد نقـل معهـم الحجـارة ولـه مـن العمـر خمـس وثلاثـون سـنة صلـوات الله وسـلامه عليـه دائمـاً إلـى يـوم الديـن.
قـال محمـد بـن إسـحاق فـي السـيرة: ولمـا بلـغ رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم خمسـاً وثلاثيـن سـنة، اجتمعـت قريـش لبنيـان الكعبـة وكانـوا يهابـون هدمهـا، وإنمـا كانـت رضمـاً فـوق القامـة، فـأرادوا رفعهـا وتسـقيفها، وذلـك أن نفـراً سـرقوا كنـز الكعبـة.
وكـان البحـر قـد رمـى بسـفينة إلـى جـدة لرجـل مـن تجـار الـروم فتحطمـت، فأخـذوا خشـبها فأعـدوه لتسـقيفها، وكـان بمكـة رجـل قبطـي نجـار فهيـأ لهـم فـي أنفسـهم بعـض مـا يصلحهـا، وكانـت حيـة تخـرج مـن بئـر الكعبـة فتشـرف علـى جـدار الكعبـة وكانـت ممـا يهابـون. ذلـك أنـه كـان لا يدنـو منهـا أحـد إلا إحزألـت (ارتفعـت واسـتعدت للوثـوب) وكشـت وفتحـت فاهـا فكانـوا يهابونهـا، فبينـا هـي يومـاً تشـرف علـى جـدار الكعبـة كمـا كانـت تصنـع، بعـث الله إليهـا طائـراً فاختطفهـا فذهـب بهـا، فقالـت قريـش: إنَّـا لنرجـو أن يكـون الله قـد رضـي مـا أردنـا، عندنـا عامـل رفيـق وعندنـا خشـب وقـد كفانـا الله الحيـة، فلمـا رجـع إلـى موضعـه، فقـال: يـا معشـر قريـش لا تدخلـوا فـي بنيانهـا مـن كسـبكم إلا طيبـاً، لا يدخـل فيهـا مهـر بغـي، ولا بيـع ربـا، ولا مظلمـة أحـد مـن النـاس.
ثـم إن قريشـاً تجـزأت الكعبـة فكـان شـق البـاب لبنـي عبـد منـاف وزهـرة، وكـان مـا بيـن الركـن الأسـود والركـن اليمانـي لبنـي مخـزوم وقبائـل مـن قريـش انضمـوا إليهـم، وكـان ظهـر الكعبـة لبنـي جمـح وسـهم، وكـان شـق الحجـر لبنـي عبـد الـدار ابـن قصـي ولبنـي أسـد بـن عبـد العـزى بـن قصـي ولبنـي عـدي بـن كعـب بـن لـؤي وهـو الحطيـم، ثـم إن النـاس هابـوا هدمهـا وفرقـوا منـه، فقـال الوليـد بـن المغيـرة: أنـا أبدؤكـم فـي هدمهـا، فأخـذ المعـول ثـم قـام عليهـا وهـو يقـول: اللهـم لـم تـرع، اللهـم إنـا لا نريـد إلا الخيـر، ثـم هـدم مـن ناحيـة الركنيـن، فتربـص النـاس تلـك الليلـة وقالـوا: ننظـر فـإن أصيـب لـم نهـدم منهـا شـيئاً، ورددناهـا كمـا كانـت، وإن لـم يصبـه شـيء فقـد رضـي الله مـا صنعنـا، فأصبـح الوليـد مـن ليلتـه غاديـاً علـى عملـه. فهـدم، وهـدم النـاس معـه حتـى إذا انتهـى الهـدم بهـم إلـى الأسـاس _ أسـاس إبراهيـم عليـه السـلام _ أفضـوا إلـى حجـارة خضـر كالأسـنة آخـذ بعضهـا بعضـاً.
قـال: فحدثنـي بعـض مـن يـروي الحديـث: أن رجـلاً مـن قريـش ممـن كـان يهدمهـا أدخـل عتلـة بيـن حجريـن منهـا ليقلـع بهـا أيضـاً أحدهمـا فلمـا تحـرك الحجـر انتفضـت مكـة بأسـرها فانتهـوا عـن ذلـك الأسـاس.
قـال ابـن إسـحاق: ثـم إن القبائـل مـن قريـش جمعـت الحجـارة لبنائهـا، كـل قبيلـة تجمـع علـى حـدة، ثـم بنوهـا حتـى بلـغ البنيـان موضـع الركـن (يعنـي الحجـر الأسـود) فاختصمـوا فيـه، كـل قبيلـة تريـد أن ترفعـه إلـى موضعـه دون الأخـرى، حتـى تحـاوروا وتخالفـوا وأعـدوا للقتـال، فقربـت بنـو عبـد الـدار جفنـة مملـوءة دمـاً، ثـم تعاقـدوا هـم وبنـو عـدي ابـن كعـب بـن لـؤي علـى المـوت وأدخلـوا أيديهـم فـي ذلـك الـدم فـي تلـك الجفنـة فسـموا "" لَعَقـةَ الـدم ""، فمكثـت قريـش علـى ذلـك أربـع ليـال أو خمسـاً، ثـم إنهـم اجتمعـوا فـي المسـجد فتشـاوروا وتناصفـوا، فزعـم بعـض أهـل الروايـة أن أبـا أميـة بـن المغيـرة _ وكـان عامئـذ أسـنَّ قريـش كلهـم _ قـال: يـا معشـر قريـش اجعلـوا بينكـم فيمـا تختلفـون فيـه أول مـن يدخـل مـن بـاب هـذا المسـجد، يقضـي بينكـم فيـه ففعلـوا، فكـان أول داخـل رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فلمـا رأوه قالـوا: هـذا الأميـن رضينـا.. هـذا محمـد، فلمـا انتهـى إليهـم وأخبـروه الخبـر قـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ هلـمَّ إلـيَّ بثـوب، فأتـي بـه، فأخـذ الركـن _ يعنـي الحجـر الأسـود _ فوضعـه فيـه بيـده ثـم قـال: {{ لتأخـذ كـل قبيلـة بناحيـة مـن الثـوب قـم ارفعـوه جميعـاً، ففعلـوا حتـى إذا بلغـوا بـه موضعـه، وضعـه هـو بيـده صلـى الله عليـه وسـلم، ثـم بنـى عليـه، وكانـت قريـش تسـمي رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قبـل أن ينـزل الوحـي (الأميـن).
قـال ابـن إسـحاق: وكانـت الكعبـة علـى عهـد النبـي صلـى الله عليـه وسـلم ثمانـي عشـر ذراعـاً، وكانـت تكسـى القباطـي، ثـم كسـيت بعـدُ البـرود، وأول مـن كسـاها الديبـاج الحجّـاج بـن يوسـف.
(قلـت): ولـم تـزل علـى بنـاء قريـش حتـى احترقـت فـي أول إمـارة عبـد الله بـن الزبيـر بعـد سـنة سـتين وفـي آخـر ولايـة يزيـد بـن معاويـة لمـا حاصـروا ابـن الزبيـر، فحينئـذ نقضهـا (ابـن الزبيـر) إلـى الأرض وبناهـا علـى قواعـد إبراهيـم عليـه السـلام، وأدخـل فيهـا الحجـر وجعـل لهـا بابـاً شـرقياً وبابـاً غربيـاً ملصقيـن بـالأرض كمـا سـمع ذلـك مـن خالتـه عائشـة أم المؤمنيـن عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
ولـم تـزل كذلـك مـدة إمارتـه حتـى قتلـه الحجّـاج، فردّهـا إلـى مـا كانـت عليـه بأمـر عبـد الملـك بـن مـروان لـه بذلـك، كمـا قـال مسـلم عـن عطـاء: { لمّـا احتـرق البيـت زمـن (يزيـد بـن معاويـة) حيـن غزاهـا أهـل الشـام فكـان مـن أمـره مـا كـان تركـه ابـن زبيـر، حتـى قـدم النـاس الموسـم يريـد أن يحزبهـم أو يجيروهـم علـى أهـل الشـام، فلمـا صـدر النـاس قـال: يـا أيهـا النـاس أشـيروا علـيّ فـي الكعبـة أنقضهـا ثـم أبنـي بناءهـا أو أصلـح مـا وهَـى منهـا؟ قـال ابـن عبـاس: إنـه قـد خـرق لـي رأي فيهـا أرى أن تصلـح مـا وهَـى منهـا وتـدع بيتـاً أسـلم النـاس عليـه، وأحجـاراً أسـلم النـاس عليهـا وبعـث عليهـا النبـي صلـى الله عليـه وسـلم. فقـال ابـن الزبيـر: لـو كـان أحدكـم احتـرق بيتـه مـا رضـي حتـى يجـدِّده فكيـف بيـت ربكـم عـزَّ وجـلّ؟ إنـي مسـتخير ربـي ثلاثـاً ثـم عـازم علـى أمـري. فلمـا مضـت ثـلاث أجمـع رأيـه علـى أن ينقضهـا، فتحاماهـا النـاس أن ينـزل بـأول النـاس يصعـد فيـه أمـر مـن السـماء حتـى صعـده رجـل فألقـى منـه حجـارة. فلمـا لـم يـره النـاس أصابـه شـيء تتابعـوا فنقضـوه حتـى بلغـوا بـه الأرض. فجعـل ابـن الزبيـر أعمـدة يسـتر عليهـا السـتور حتـى ارتفـع بنـاؤه. وقـال ابـن الزبيـر: إنـي سـمعت عائشـة رضـي الله عنهـا تقـول: إن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لـولا أن النـاس حديـثٌ عهدهـم بكفـر وليـس عنـدي مـن النفقـة مـا يقوينـي علـى بنائـه لكنـت أدخلـت فيـه مـن الحجـر خمـس أذرع ولجعلـت لـه بابـاً يدخـل النـاس منـه، وبابـاً يخرجـون منـه }}، قـال: فأنـا أجـد مـا أنفـق ولسـت أخـاف النـاس. قـال: فـزاد فيـه خمسـة أذرع مـن الحجـر حتـى أبـدى لـه أسـاً فنظـر النـاس إليـه فبنـى عليـه البنـاء، وكـان طـول الكعبـة ثمانيـة عشـر ذراعـاً، فلمـا زاد فيـه اسـتقصره فـزاد فـي طولـه عشـرة أذرع وجعـل لـه بابيـن أحدهمـا يدخـل منـه، والآخـر يخـرج منـه.
فلمـا قُتِـل ابـن الزبيـر كتـب الحجّـاج إلـى عبـد الملـك يسـتجيزه بذلـك، ويخبـره أن ابـن الزبيـر أسٍّ نظـر إليـه العـدول مـن أهـل مكـة. فكتـب إليـه عبـد الملـك: إنـا لسـنا مـن تلطيـخ ابـن الزبيـر فـي شـيء، أمـا مـا زاده فـي طولـه فأقـره، وأمـا مـا زاد فيـه مـن الحِجْـر فـرده إلـى بنائـه وسـد البـاب الـذي فتحـه، فنقضـه وأعـاده إلـى بنائـه }.
وقـد كانـت السُـنَّة إقـرار مـا فعلـه عبـد الله بـن الزبيـر رضـي الله عنهمـا لأنـه هـو الـذي وده رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، ولكـن خشـي أن تنكـره قلـوب بعـض النـاس لحداثـة عهدهـم بالإسـلام وقـرب عهدهـم مـن الكفـر، ولكـن خفيـت هـذه السـنة علـى (عبـد الملـك بـن مـروان) ولهـذا لمـا تحقـق ذلـك عـن عائشـة أنهـا روت ذلـك عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: وددنـا أنـا تركنـاه ومـا تولـى. فـدل هـذا علـى صـواب مـا فعلـه ابـن الزبيـر، فلـو تـرك لكـان جيـداً.
ولكـن بعدمـا رجـع الأمـر إلـى هـذا الحـال فقـد كـره بعـض العلمـاء أن يغيَّـر عـن حالـه، كمـا ذكـر عـن أميـر المؤمنيـن هـارون الرشـيد أو أبيـه المهـدي، أنـه سـأل الإمـام مالكـاً عـن هـدم الكعبـة وردهـا إلـى مـا فعلـه ابـن الزبيـر، فقـال لـه مالـك: يـا أميـر المؤمنيـن لا تجعـل كعبـة الله ملعبـة للملـوك لا يشـاء أحـد أن يهدمهـا إلا هدمهـا!! فتـرك ذلـك الرشـيد، نقلـه عيـاض والنـووي.
ولا تـزال _ والله أعلـم _ هكـذا إلـى آخـر الزمـان إلـى أن يخربهـا (ذو السـويقتين) مـن الحبشـة كمـا ثبـت ذلـك فـي الصحيحيـن عـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ يخـرب الكعبـة ذو السـويقتين مـن الحبشـة }}.
وعـن ابـن عبـاس عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ كأنـي بـه أسـود أفحـج يقلعهـا حجـراً حجـراً }}.
وعـن مجاهـد عـن عبـد الله بـن عمـرو بـن العـاص رضـي الله عنهمـا قـال: سـمعت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ يخـرب الكعبـة ذو السـويقتين مـن الحبشـة ويسـلبها حليتهـا ويجردهـا مـن كسـوتها، ولكأنـي أنظـر إليـه أُصَيْلـع، أُفَيْـدع، يضـرب عليهـا بمسـحاته ومعولـه }}. (الفَـدْع): زيـغٌ بيـن القـدم وعظـم السـاق.
وهـذا _ والله أعلـم _ إنمـا يكـون بعـد خـروج يأجـوج ومأجـوج لمـا جـاء فـي صحيـح البخـاري عـن أبـي سـعيد الخـدري رضـي الله عنـه قـال، قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ ليُحجَـنَّ البيـتُ وليُعتَمـرنَّ بعـد خـروج يأجـوج ومأجـوج }}.
وقولـه تعالـى حكايـة لدعـاء إبراهيـم وإسـماعيل عليهمـا السـلام: {{ ربنـا واجعلنـا مسـلمين لـك ومـن ذريتنـا أمـة مسـلمة لـك )).
قـال ابـن جريـر: يعنيـان بذلـك واجعلنـا مسـتسـلمين لأمـرك، خاضعيـن لطاعتـك، لا نشـرك معـك فـي الطاعـة أحـداً سـواك، ولا فـي العبـادة غيـرك.
وقـال عكرمـة: (( ربنـا واجعلنـا مسـلمين لـك )) قـال الله: قـد فعلـت.
(( ومـن ذريتنـا أمـة مسـلمة لـك )) قـال الله: قـد فعلـت.
وقـال السـدي: (( ومـن ذريتنـا أمـة مسـلمة لـك )) يعنيـان العـرب.
قـال ابـن جريـر: والصـواب أنـه يعـم العـرب وغيرهـم، لأن مـن ذريـة إبراهيـم بنـي إسـرائيل، وقـد قـال الله تعالـى: (( ومـن قـوم موسـى أمـة يهـدون بالحـق وبـه يعدلـون )).
(قلـت): وهـذا الـذي قالـه ابـن جريـر لا ينفيـه السـدي فـإن تخصيصهـم بذلـك لا ينفـي مـن عداهـم، والسـياق إنمـا هـو فـي العـرب، ولهـذا قـال بعـده: (( ربنـا وابعـث فيهـم رسـولاً منهـم يتلـو عليهـم آياتـك ويعلِّمهـم الكتـاب والحكمـة ويزكيهـم )) الآيـة.
والمـراد بذلـك محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، وقـد بعـث فيهـم كمـا قـال تعالـى: (( هـو الـذي بعـث فـي الأمييـن رسـولاً منهـم )) ، ومـع هـذا لا ينفـي رسـالته إلـى الأحمـر والأسـود لقولـه تعالـى: ((قـل يـا أيهـا النـاس إنـي رسـول الله إليكـم جميعـاً )) وغيـر ذلـك مـن الأدلـة القاطعـة، وهـذا الدعـاء مـن إبراهيـم وإسـماعيل عليهمـا السـلام كمـا أخبرنـا الله تعالـى عـن عبـاده المتقيـن المؤمنيـن فـي قولـه: (( والذيـن يقولـون ربنـا هـب لنـا مـن أزواجنـا وذرياتنـا قـرة أعيـن واجعلنـا للمتقيـن إمامـاً )).
وهـذا القـدر مرغـوب فيـه شـرعاً فـإنَّ مـن تمـام محبـة عبـادة الله تعالـى أن يحـب أن يكـون مـن صلبـه مـن يعبـد الله وحـده لا شـريك لـه. ولهـذا قـال الله تعالـى لإبراهيـم عليـه السـلام: (( إنـي جاعلـك للنـاس إمامـاً )) قـال: (( ومـن ذريتـي قـال لا ينـال عهـدي الظالميـن ))، وهو قولـه: (( واجنبنـي وبنـيَّ أن نعبـد الأصنـام )).
وقـد ثبـت عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ إذا مـات ابـن آدم انقطـع عملـه مـن ثـلاث: صدقـة جاريـة، أو علـم ينتفـع بـه، أو ولـدٍ صالـح يدعـو لـه }}.
(( وأرنـا مناسـكنا ))
قـال عطـاء: أخرجهـا لنـا، علمناهـا.
وقـال مجاهـد: (( أرنـا مناسـكنا )) مذابحنـا.
وقـال أبـو داوود الطيالسـي عـن أبـي الطفيـل عـن ابـن عبـاس قـال: { إن إبراهيـم لمـا أُري أوامـر المناسـك عـرض لـه الشـيطان عنـد المسـعى، فسـابقه إبراهيـم، ثـم انطلـق بـه جبريـل حتـى أتـى بـه (منـى) فقـال: هـذا منـاخ النـاس، فلمـا انتهـى إلـى (جمـرة العقبـة) تعـرض لـه الشـيطان، فرمـاه بسـبع حصيـات حتـى ذهـب، ثـم أتـى بـه إلـى (الجمـرة الوسـطى) فعـرض لـه الشـيطان، فرمـاه بسـبع حصيـات حتـى ذهـب، ثـم أتـى بـه إلـى (الجمـرة القصـوى) فعـرض لـه الشـيطان، فرمـاه بسـبع حصيـات حتـى ذهـب، ثـم أتـى بـه جمعـاً فقـال: هـذا المشـعر، ثـم أتـى بـه عرفـة فقـال لـه جبريـل: أعرفـت؟ }.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 119 ، 120 ، 121 ، 122 ، 123 ، 124 ، 125 ، 126 ، 127 ، 128 ، 129 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
وقـد نقـل معهـم الحجـارة ولـه مـن العمـر خمـس وثلاثـون سـنة صلـوات الله وسـلامه عليـه دائمـاً إلـى يـوم الديـن.
قـال محمـد بـن إسـحاق فـي السـيرة: ولمـا بلـغ رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم خمسـاً وثلاثيـن سـنة، اجتمعـت قريـش لبنيـان الكعبـة وكانـوا يهابـون هدمهـا، وإنمـا كانـت رضمـاً فـوق القامـة، فـأرادوا رفعهـا وتسـقيفها، وذلـك أن نفـراً سـرقوا كنـز الكعبـة.
وكـان البحـر قـد رمـى بسـفينة إلـى جـدة لرجـل مـن تجـار الـروم فتحطمـت، فأخـذوا خشـبها فأعـدوه لتسـقيفها، وكـان بمكـة رجـل قبطـي نجـار فهيـأ لهـم فـي أنفسـهم بعـض مـا يصلحهـا، وكانـت حيـة تخـرج مـن بئـر الكعبـة فتشـرف علـى جـدار الكعبـة وكانـت ممـا يهابـون. ذلـك أنـه كـان لا يدنـو منهـا أحـد إلا إحزألـت (ارتفعـت واسـتعدت للوثـوب) وكشـت وفتحـت فاهـا فكانـوا يهابونهـا، فبينـا هـي يومـاً تشـرف علـى جـدار الكعبـة كمـا كانـت تصنـع، بعـث الله إليهـا طائـراً فاختطفهـا فذهـب بهـا، فقالـت قريـش: إنَّـا لنرجـو أن يكـون الله قـد رضـي مـا أردنـا، عندنـا عامـل رفيـق وعندنـا خشـب وقـد كفانـا الله الحيـة، فلمـا رجـع إلـى موضعـه، فقـال: يـا معشـر قريـش لا تدخلـوا فـي بنيانهـا مـن كسـبكم إلا طيبـاً، لا يدخـل فيهـا مهـر بغـي، ولا بيـع ربـا، ولا مظلمـة أحـد مـن النـاس.
ثـم إن قريشـاً تجـزأت الكعبـة فكـان شـق البـاب لبنـي عبـد منـاف وزهـرة، وكـان مـا بيـن الركـن الأسـود والركـن اليمانـي لبنـي مخـزوم وقبائـل مـن قريـش انضمـوا إليهـم، وكـان ظهـر الكعبـة لبنـي جمـح وسـهم، وكـان شـق الحجـر لبنـي عبـد الـدار ابـن قصـي ولبنـي أسـد بـن عبـد العـزى بـن قصـي ولبنـي عـدي بـن كعـب بـن لـؤي وهـو الحطيـم، ثـم إن النـاس هابـوا هدمهـا وفرقـوا منـه، فقـال الوليـد بـن المغيـرة: أنـا أبدؤكـم فـي هدمهـا، فأخـذ المعـول ثـم قـام عليهـا وهـو يقـول: اللهـم لـم تـرع، اللهـم إنـا لا نريـد إلا الخيـر، ثـم هـدم مـن ناحيـة الركنيـن، فتربـص النـاس تلـك الليلـة وقالـوا: ننظـر فـإن أصيـب لـم نهـدم منهـا شـيئاً، ورددناهـا كمـا كانـت، وإن لـم يصبـه شـيء فقـد رضـي الله مـا صنعنـا، فأصبـح الوليـد مـن ليلتـه غاديـاً علـى عملـه. فهـدم، وهـدم النـاس معـه حتـى إذا انتهـى الهـدم بهـم إلـى الأسـاس _ أسـاس إبراهيـم عليـه السـلام _ أفضـوا إلـى حجـارة خضـر كالأسـنة آخـذ بعضهـا بعضـاً.
قـال: فحدثنـي بعـض مـن يـروي الحديـث: أن رجـلاً مـن قريـش ممـن كـان يهدمهـا أدخـل عتلـة بيـن حجريـن منهـا ليقلـع بهـا أيضـاً أحدهمـا فلمـا تحـرك الحجـر انتفضـت مكـة بأسـرها فانتهـوا عـن ذلـك الأسـاس.
قـال ابـن إسـحاق: ثـم إن القبائـل مـن قريـش جمعـت الحجـارة لبنائهـا، كـل قبيلـة تجمـع علـى حـدة، ثـم بنوهـا حتـى بلـغ البنيـان موضـع الركـن (يعنـي الحجـر الأسـود) فاختصمـوا فيـه، كـل قبيلـة تريـد أن ترفعـه إلـى موضعـه دون الأخـرى، حتـى تحـاوروا وتخالفـوا وأعـدوا للقتـال، فقربـت بنـو عبـد الـدار جفنـة مملـوءة دمـاً، ثـم تعاقـدوا هـم وبنـو عـدي ابـن كعـب بـن لـؤي علـى المـوت وأدخلـوا أيديهـم فـي ذلـك الـدم فـي تلـك الجفنـة فسـموا "" لَعَقـةَ الـدم ""، فمكثـت قريـش علـى ذلـك أربـع ليـال أو خمسـاً، ثـم إنهـم اجتمعـوا فـي المسـجد فتشـاوروا وتناصفـوا، فزعـم بعـض أهـل الروايـة أن أبـا أميـة بـن المغيـرة _ وكـان عامئـذ أسـنَّ قريـش كلهـم _ قـال: يـا معشـر قريـش اجعلـوا بينكـم فيمـا تختلفـون فيـه أول مـن يدخـل مـن بـاب هـذا المسـجد، يقضـي بينكـم فيـه ففعلـوا، فكـان أول داخـل رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فلمـا رأوه قالـوا: هـذا الأميـن رضينـا.. هـذا محمـد، فلمـا انتهـى إليهـم وأخبـروه الخبـر قـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ هلـمَّ إلـيَّ بثـوب، فأتـي بـه، فأخـذ الركـن _ يعنـي الحجـر الأسـود _ فوضعـه فيـه بيـده ثـم قـال: {{ لتأخـذ كـل قبيلـة بناحيـة مـن الثـوب قـم ارفعـوه جميعـاً، ففعلـوا حتـى إذا بلغـوا بـه موضعـه، وضعـه هـو بيـده صلـى الله عليـه وسـلم، ثـم بنـى عليـه، وكانـت قريـش تسـمي رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قبـل أن ينـزل الوحـي (الأميـن).
قـال ابـن إسـحاق: وكانـت الكعبـة علـى عهـد النبـي صلـى الله عليـه وسـلم ثمانـي عشـر ذراعـاً، وكانـت تكسـى القباطـي، ثـم كسـيت بعـدُ البـرود، وأول مـن كسـاها الديبـاج الحجّـاج بـن يوسـف.
(قلـت): ولـم تـزل علـى بنـاء قريـش حتـى احترقـت فـي أول إمـارة عبـد الله بـن الزبيـر بعـد سـنة سـتين وفـي آخـر ولايـة يزيـد بـن معاويـة لمـا حاصـروا ابـن الزبيـر، فحينئـذ نقضهـا (ابـن الزبيـر) إلـى الأرض وبناهـا علـى قواعـد إبراهيـم عليـه السـلام، وأدخـل فيهـا الحجـر وجعـل لهـا بابـاً شـرقياً وبابـاً غربيـاً ملصقيـن بـالأرض كمـا سـمع ذلـك مـن خالتـه عائشـة أم المؤمنيـن عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
ولـم تـزل كذلـك مـدة إمارتـه حتـى قتلـه الحجّـاج، فردّهـا إلـى مـا كانـت عليـه بأمـر عبـد الملـك بـن مـروان لـه بذلـك، كمـا قـال مسـلم عـن عطـاء: { لمّـا احتـرق البيـت زمـن (يزيـد بـن معاويـة) حيـن غزاهـا أهـل الشـام فكـان مـن أمـره مـا كـان تركـه ابـن زبيـر، حتـى قـدم النـاس الموسـم يريـد أن يحزبهـم أو يجيروهـم علـى أهـل الشـام، فلمـا صـدر النـاس قـال: يـا أيهـا النـاس أشـيروا علـيّ فـي الكعبـة أنقضهـا ثـم أبنـي بناءهـا أو أصلـح مـا وهَـى منهـا؟ قـال ابـن عبـاس: إنـه قـد خـرق لـي رأي فيهـا أرى أن تصلـح مـا وهَـى منهـا وتـدع بيتـاً أسـلم النـاس عليـه، وأحجـاراً أسـلم النـاس عليهـا وبعـث عليهـا النبـي صلـى الله عليـه وسـلم. فقـال ابـن الزبيـر: لـو كـان أحدكـم احتـرق بيتـه مـا رضـي حتـى يجـدِّده فكيـف بيـت ربكـم عـزَّ وجـلّ؟ إنـي مسـتخير ربـي ثلاثـاً ثـم عـازم علـى أمـري. فلمـا مضـت ثـلاث أجمـع رأيـه علـى أن ينقضهـا، فتحاماهـا النـاس أن ينـزل بـأول النـاس يصعـد فيـه أمـر مـن السـماء حتـى صعـده رجـل فألقـى منـه حجـارة. فلمـا لـم يـره النـاس أصابـه شـيء تتابعـوا فنقضـوه حتـى بلغـوا بـه الأرض. فجعـل ابـن الزبيـر أعمـدة يسـتر عليهـا السـتور حتـى ارتفـع بنـاؤه. وقـال ابـن الزبيـر: إنـي سـمعت عائشـة رضـي الله عنهـا تقـول: إن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لـولا أن النـاس حديـثٌ عهدهـم بكفـر وليـس عنـدي مـن النفقـة مـا يقوينـي علـى بنائـه لكنـت أدخلـت فيـه مـن الحجـر خمـس أذرع ولجعلـت لـه بابـاً يدخـل النـاس منـه، وبابـاً يخرجـون منـه }}، قـال: فأنـا أجـد مـا أنفـق ولسـت أخـاف النـاس. قـال: فـزاد فيـه خمسـة أذرع مـن الحجـر حتـى أبـدى لـه أسـاً فنظـر النـاس إليـه فبنـى عليـه البنـاء، وكـان طـول الكعبـة ثمانيـة عشـر ذراعـاً، فلمـا زاد فيـه اسـتقصره فـزاد فـي طولـه عشـرة أذرع وجعـل لـه بابيـن أحدهمـا يدخـل منـه، والآخـر يخـرج منـه.
فلمـا قُتِـل ابـن الزبيـر كتـب الحجّـاج إلـى عبـد الملـك يسـتجيزه بذلـك، ويخبـره أن ابـن الزبيـر أسٍّ نظـر إليـه العـدول مـن أهـل مكـة. فكتـب إليـه عبـد الملـك: إنـا لسـنا مـن تلطيـخ ابـن الزبيـر فـي شـيء، أمـا مـا زاده فـي طولـه فأقـره، وأمـا مـا زاد فيـه مـن الحِجْـر فـرده إلـى بنائـه وسـد البـاب الـذي فتحـه، فنقضـه وأعـاده إلـى بنائـه }.
وقـد كانـت السُـنَّة إقـرار مـا فعلـه عبـد الله بـن الزبيـر رضـي الله عنهمـا لأنـه هـو الـذي وده رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، ولكـن خشـي أن تنكـره قلـوب بعـض النـاس لحداثـة عهدهـم بالإسـلام وقـرب عهدهـم مـن الكفـر، ولكـن خفيـت هـذه السـنة علـى (عبـد الملـك بـن مـروان) ولهـذا لمـا تحقـق ذلـك عـن عائشـة أنهـا روت ذلـك عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: وددنـا أنـا تركنـاه ومـا تولـى. فـدل هـذا علـى صـواب مـا فعلـه ابـن الزبيـر، فلـو تـرك لكـان جيـداً.
ولكـن بعدمـا رجـع الأمـر إلـى هـذا الحـال فقـد كـره بعـض العلمـاء أن يغيَّـر عـن حالـه، كمـا ذكـر عـن أميـر المؤمنيـن هـارون الرشـيد أو أبيـه المهـدي، أنـه سـأل الإمـام مالكـاً عـن هـدم الكعبـة وردهـا إلـى مـا فعلـه ابـن الزبيـر، فقـال لـه مالـك: يـا أميـر المؤمنيـن لا تجعـل كعبـة الله ملعبـة للملـوك لا يشـاء أحـد أن يهدمهـا إلا هدمهـا!! فتـرك ذلـك الرشـيد، نقلـه عيـاض والنـووي.
ولا تـزال _ والله أعلـم _ هكـذا إلـى آخـر الزمـان إلـى أن يخربهـا (ذو السـويقتين) مـن الحبشـة كمـا ثبـت ذلـك فـي الصحيحيـن عـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ يخـرب الكعبـة ذو السـويقتين مـن الحبشـة }}.
وعـن ابـن عبـاس عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ كأنـي بـه أسـود أفحـج يقلعهـا حجـراً حجـراً }}.
وعـن مجاهـد عـن عبـد الله بـن عمـرو بـن العـاص رضـي الله عنهمـا قـال: سـمعت رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يقـول: {{ يخـرب الكعبـة ذو السـويقتين مـن الحبشـة ويسـلبها حليتهـا ويجردهـا مـن كسـوتها، ولكأنـي أنظـر إليـه أُصَيْلـع، أُفَيْـدع، يضـرب عليهـا بمسـحاته ومعولـه }}. (الفَـدْع): زيـغٌ بيـن القـدم وعظـم السـاق.
وهـذا _ والله أعلـم _ إنمـا يكـون بعـد خـروج يأجـوج ومأجـوج لمـا جـاء فـي صحيـح البخـاري عـن أبـي سـعيد الخـدري رضـي الله عنـه قـال، قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ ليُحجَـنَّ البيـتُ وليُعتَمـرنَّ بعـد خـروج يأجـوج ومأجـوج }}.
وقولـه تعالـى حكايـة لدعـاء إبراهيـم وإسـماعيل عليهمـا السـلام: {{ ربنـا واجعلنـا مسـلمين لـك ومـن ذريتنـا أمـة مسـلمة لـك )).
قـال ابـن جريـر: يعنيـان بذلـك واجعلنـا مسـتسـلمين لأمـرك، خاضعيـن لطاعتـك، لا نشـرك معـك فـي الطاعـة أحـداً سـواك، ولا فـي العبـادة غيـرك.
وقـال عكرمـة: (( ربنـا واجعلنـا مسـلمين لـك )) قـال الله: قـد فعلـت.
(( ومـن ذريتنـا أمـة مسـلمة لـك )) قـال الله: قـد فعلـت.
وقـال السـدي: (( ومـن ذريتنـا أمـة مسـلمة لـك )) يعنيـان العـرب.
قـال ابـن جريـر: والصـواب أنـه يعـم العـرب وغيرهـم، لأن مـن ذريـة إبراهيـم بنـي إسـرائيل، وقـد قـال الله تعالـى: (( ومـن قـوم موسـى أمـة يهـدون بالحـق وبـه يعدلـون )).
(قلـت): وهـذا الـذي قالـه ابـن جريـر لا ينفيـه السـدي فـإن تخصيصهـم بذلـك لا ينفـي مـن عداهـم، والسـياق إنمـا هـو فـي العـرب، ولهـذا قـال بعـده: (( ربنـا وابعـث فيهـم رسـولاً منهـم يتلـو عليهـم آياتـك ويعلِّمهـم الكتـاب والحكمـة ويزكيهـم )) الآيـة.
والمـراد بذلـك محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، وقـد بعـث فيهـم كمـا قـال تعالـى: (( هـو الـذي بعـث فـي الأمييـن رسـولاً منهـم )) ، ومـع هـذا لا ينفـي رسـالته إلـى الأحمـر والأسـود لقولـه تعالـى: ((قـل يـا أيهـا النـاس إنـي رسـول الله إليكـم جميعـاً )) وغيـر ذلـك مـن الأدلـة القاطعـة، وهـذا الدعـاء مـن إبراهيـم وإسـماعيل عليهمـا السـلام كمـا أخبرنـا الله تعالـى عـن عبـاده المتقيـن المؤمنيـن فـي قولـه: (( والذيـن يقولـون ربنـا هـب لنـا مـن أزواجنـا وذرياتنـا قـرة أعيـن واجعلنـا للمتقيـن إمامـاً )).
وهـذا القـدر مرغـوب فيـه شـرعاً فـإنَّ مـن تمـام محبـة عبـادة الله تعالـى أن يحـب أن يكـون مـن صلبـه مـن يعبـد الله وحـده لا شـريك لـه. ولهـذا قـال الله تعالـى لإبراهيـم عليـه السـلام: (( إنـي جاعلـك للنـاس إمامـاً )) قـال: (( ومـن ذريتـي قـال لا ينـال عهـدي الظالميـن ))، وهو قولـه: (( واجنبنـي وبنـيَّ أن نعبـد الأصنـام )).
وقـد ثبـت عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ إذا مـات ابـن آدم انقطـع عملـه مـن ثـلاث: صدقـة جاريـة، أو علـم ينتفـع بـه، أو ولـدٍ صالـح يدعـو لـه }}.
(( وأرنـا مناسـكنا ))
قـال عطـاء: أخرجهـا لنـا، علمناهـا.
وقـال مجاهـد: (( أرنـا مناسـكنا )) مذابحنـا.
وقـال أبـو داوود الطيالسـي عـن أبـي الطفيـل عـن ابـن عبـاس قـال: { إن إبراهيـم لمـا أُري أوامـر المناسـك عـرض لـه الشـيطان عنـد المسـعى، فسـابقه إبراهيـم، ثـم انطلـق بـه جبريـل حتـى أتـى بـه (منـى) فقـال: هـذا منـاخ النـاس، فلمـا انتهـى إلـى (جمـرة العقبـة) تعـرض لـه الشـيطان، فرمـاه بسـبع حصيـات حتـى ذهـب، ثـم أتـى بـه إلـى (الجمـرة الوسـطى) فعـرض لـه الشـيطان، فرمـاه بسـبع حصيـات حتـى ذهـب، ثـم أتـى بـه إلـى (الجمـرة القصـوى) فعـرض لـه الشـيطان، فرمـاه بسـبع حصيـات حتـى ذهـب، ثـم أتـى بـه جمعـاً فقـال: هـذا المشـعر، ثـم أتـى بـه عرفـة فقـال لـه جبريـل: أعرفـت؟ }.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 119 ، 120 ، 121 ، 122 ، 123 ، 124 ، 125 ، 126 ، 127 ، 128 ، 129 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

الصفحة الأخيرة
(( وَمَـنْ أَظْلَـمُ مِمَّـنْ مَّنَـعَ مَسَـاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَـرَ فِيهـا اسْـمُهُ وَسَـعَى فِـي خَرابِهَـا أُولئِـكَ مَـا كَـانَ لَهُـمْ أَنْ يَدخُلوهَـا إِلا خَائِفِيـنَ لَهُـمْ فـي الدُّنيـا خِـزْيٌّ وَلَهُـمْ فـي الآخِـرَةِ عَـذابٌ عَظِيـمٌ )) / 114 /
واختلـف المفسـرون فـي المـراد مـن الذيـن منعـوا مسـاجد الله وسـعوا فـي خرابهـا علـى قوليـن: أحدهمـا: هـم النصـارى كانـوا يطرحـون فـي بيـت المقـدس الأذى ويمنعـون النـاس أن يصلـوا فيـه.
قـال قتـادة: أولئـك أعـداء الله النصـارى حملهـم بغـض اليهـود علـى أن أعانـوا بختنصـر البابلـي المجوسـي علـى تخريـب بيـت المقـدس.
وقـال السُّـدي: كانـوا ظاهـروا بختنصـر علـى خـراب بيـت المقـدس حتـى خربـه وأمـر أن يطـرح فيـه الجيـف، وإنمـا أعانـه الـروم علـى خرابـه مـن أجـل أن بنـي إسـرائيل قتلـوا يحيـى بـن زكريـا.
(القـول الثانـي): مـا رواه ابـن جريـر عـن ابـن زيـد قـال: هـؤلاء المشـركون الذيـن حالـوا بيـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يـوم الحديبيـة وبيـن أن يدخلـوا مكـة علـى نحـر هديـه بـذي طـوى وهادنهـم وقـال لهـم: {{ مـا كـان أحـد يصـد عـن هـذا البيـت، وقـد كـان الرجـل يلقـى قاتـل أبيـه وأخيـه فـلا يصـده }}. فقالـوا: لا يدخـل علينـا مـن قتـل آباءنـا يـوم بـدر وفينـا بـاق.
وفـي قولـه: (( وسـعى فـي خرابهـا ))
عـن ابـن عبـاس أن قريشـاً منعـوا النبـي صلـى الله عليـه وسـلم الصـلاة عنـد الكعبـة فـي المسـجد الحـرام فأنـزل الله: (( ومـن أظلـم ممـن منـع مسـاجد الله أن يذكـر اسـمه )).
ثـم اختـار ابـن جريـر القـول الأول واحتـج بـأن قريشـاً لـم تسـع فـي خـراب الكعبـة، وأمـا الـروم فسـعوا فـي تخريـب بيـت المقـدس.
(قلـت): والـذي يظهـر _ والله أعلـم _ القـول الثانـي كمـا قالـه ابـن زيـد فإنـه تعالـى لمـا وجـه الـذم فـي حـق اليهـود والنصـارى، شـرع فـي ذم المشـركين الذيـن أخرجـوا الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم وأصحابـه مـن مكـة ومنعوهـم مـن الصـلاة فـي المسـجد الحـرام، وأمـا اعتمـاده علـى أن قريشـاً لـم تسـع فـي خـراب الكعبـة، فـأي خـراب أعظـم ممـا فعلـوا؟ أخرجـوا عنهـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وأصحابـه واسـتحوذوا عليهـا بأصنامهـم وأندادهـم وشـركهم كمـا قـال تعالـى: (( ومـا لهـم ألا يعذبهـم الله وهـم يصـدون عـن المسـجد الحـرام )).
وقـال تعالـى: (( وهـم الذيـن كفـروا وصدوكـم عـن المسـجد الحـرام والهـدي معكوفـاً أن يبلـغ محلـه )) وليـس المـراد مـن عمارتهـا زخرفتهـا وإقامـة صورتهـا فقـط، إنمـا عمارتهـا بذكـر الله فيهـا وإقامـة شـرعه فيهـا، ورفعهـا عـن الدنـس والشـرك.
وقولـه تعالـى: (( أولئـك مـا كـان لهـم أن يدخلوهـا إلا خائفيـن )) هـذا خبـر معنـاه الطلـب أي لا تمكنـوا هـؤلاء إذا قدرتـم عليهـم مـن دخولهـا إلا تحـت الهدنـة والجزيـة، ولهـذا لمـا فتـح رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم مكـة أمـر مـن العـام القابـل فـي سـنة تسـع أن ينـادى برحـاب مِنـى: {{ ألا لا يحجـنَّ بعـد العـام مشـرك، ولا يطوفـنَّ بالبيـت عريـان، ومـن كـان لـه أجـل فأجلـه إلـى مدتـه }}.
وقـال بعضهـم: مـا كـان ينبغـي لهـم أن يدخلـوا مسـاجد الله إلا خائفيـن علـى حـال التهيـب وارتعـاد الفرائـص مـن المؤمنيـن أن يبطشـوا بهـم، فضـلاً أن يسـتولوا عليهـا ويمنعـوا المؤمنيـن منهـا.
والمعنـى: مـا كـان الحـق والواجـب إلا ذلـك لـولا ظلـم الكفـرة وغيرهـم.
وقيـل: إن هـذا بشـارة مـن الله للمسـلمين أنـه سـيظهرهم علـى المسـجد الحـرام وعلـى سـائر المسـاجد، وأنـه يـذل المشـركين لهـم حتـى لا يدخـل المسـجد الحـرام أحـد منهـم إلا خائفـاً يخـاف أن يؤخـذ فيعاقـب أو يقتـل إن لـم يسـلم، وقـد أنجـز الله هـذا الوعـد كمـا تقـدم مـن منـع المشـركين مـن دخـول المسـجد الحـرام، وأوصـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أن لا يبقـى بجزيـرة العـرب دينـان، وأن يجلـى اليهـود والنصـارى منهـا ولله الحمـد والمنـة، ومـا ذاك إلا تشـريف أكنـاف المسـجد الحـرام، وتطهيـر البقعـة التـي بعـث الله فيهـا رسـوله إلـى النـاس كافـة بشـيراً ونذيـراً صلـوات الله وسـلامه عليـه، وهـذا هـو الخـزي لهـم فـي الدنيـا لأن الجـزاء مـن جنـس العمـل، فكمـا صـدّوا المؤمنيـن عـن المسـجد الحـرام صُـدُّوا عنـه، وكمـا أجلوهـم مـن مكـة أُجلـوا عنهـا (( ولهـم فـي الآخـرة عـذاب عظيـم )) علـى مـا انتهكـوا مـن حرمـة البيـت، وامتهنـوه مـن نصـب الأصنـام حولـه، ودعـاء غيـر الله عنـده، والطـواف بـه عريـاً وغيـر ذلـك مـن أفاعيلهـم التـي يكرههـا الله ورسـوله، وأمـا مـن فسـر بيـت المقـدس فقـال: (كعـب الأحبـار) إن النصـارى لمـا ظهـروا علـى بيـت المقـدس خربـوه، فلمـا بعـث الله محمـداً صلـى الله عليـه و سـلم أنـزل عليـه: (( ومـن أظلـم ممـن منـع مسـاجد الله أن يذكـر فيهـا اسـمه وسـعى فـي خرابهـا أولئـك مـا كـان لهـم أن يدخلوهـا إلا خائفيـن )) الآيـة، فليـس فـي الأرض نصرانـي يدخـل بيـت المقـدس إلا خائفـاً.
وقـال قتـادة: لا يدخلـون المسـاجد إلا مسـارقة.
(( وَللهِ المَشْـرِقُ وَالمَغْـرِبُ فَأَيْنَمَـا تُوَلُّـوا فَثَـمَّ وَجْـهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِـعٌ عَلِيـمٌ )) / 115 /
وهـذا والله أعلـم فيـه تسـلية للرسـول صلـى الله عليـه وسـلم وأصحابـه الذيـن أخرجـوا مـن
مكـة وفارقـوا مسـجدهم ومصلاهـم وقـد كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يصلّـي بمكـة إلـى بيـت المقـدس والكعبـة بيـن يديـه، فلمـا قـدم المدينـة وجـه إلـى بيـت المقـدس سـتة عشـر شـهراً أو سـبعة عشـر شـهراً ثـم صرفـه الله إلـى الكعبـة بعـد، ولهـذا يقـول تعالـى: (( ولله المشـرق والمغـرب فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )).
قـال علـي بـن أبـي طلحـة عـن ابـن عبـاس قـال: كـان أول مـا نسـخ مـن القـرآن القبلـة. وذلـك أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لمـا هاجـر إلـى المدينـة وكـان أهلهـا اليهـود أمـره الله أن يسـتقبل بيـت المقـدس ففرحـت اليهـود، فاسـتقبلها رسـول الله صلـى الله عليـه بضعـة عشـر شـهراً، وكـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم يحـب قبلـة إبراهيـم، وكـان يدعـو وينظـر إلـى السـماء فأنـزل الله: (( قـد نـرى تقلـب وجهـك فـي السـماء )) إلـى قولـه: (( فولـوا وجوهكـم شـطره )).
فارتـاب مـن ذلـك اليهـود وقالـوا: (( مـا ولاهـم عـن قبلتهـم التـي كانـوا عليهـا )) ؟
فأنـزل الله (( قـل لله المشـرق والمغـرب )) ، وقـال: (( فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )).
وقـال عكرمـة: عـن ابـن عبـاس: (( فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )) قـال: قبلـة الله أينمـا توجهـت شـرقاً أو غربـاً.
وقـال مجاهـد (( فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )) : حيثمـا كنتـم فلكـم قبلـة تسـتقبلونها الكعبـة.
وقـال ابـن جريـر: وقـال آخـرون: بـل أنـزل الله هـذه الآيـة قبـل أن يفـرض التوجيـه إلـى الكعبـة، وإنمـا أنزلهـا ليعلـم نبيـه صلـى الله عليـه وسـلم وأصحابـه إن لهـم التوجيـه بوجوههـم للصـلاة حيـث شـاءوا مـن نواحـي المشـرق والمغـرب، لأنهـم لا يوجهـون وجوههـم وجهـاً مـن ذلـك وناحيـة إلا كـان جـل ثنـاؤه فـي ذلـك الوجـه وتلـك الناحيـة، لأن لـه تعالـى المشـارق والمغـارب وأنـه لا يخلـو منـه مكـان كمـا قـال تعالـى: (( ولا أدنـى مـن ذلـك ولا أكثـر إلا هـو معهـم أينمـا كانـوا )).
قالـوا: ثـم نسـخ ذلـك بالفـرض الـذي فـرض عليهـم التوجـه إلـى المسـجد الحـرام كهـذا قـال، وفـي قولـه: وأنـه تعالـى لا يخلـو منـه مكـان، إن أراد علمـه تعالـى فصحيـح، فـإن علمـه تعالـى محيـط بجميـع المعلومـات، وأمـا ذاتـه تعالـى فـلا تكـون محصـورة فـي أي شـيء مـن خلقـه، تعالـى الله عـن ذلـك علـواً كبيـراً.
وقـال آخـرون: بـل نزلـت هـذه الآيـة علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم إذنـاً مـن الله أن يصلـي (المتطـوع) حيـث توجـه مـن شـرق أو غـرب فـي سـفره لمـا روي عـن ابـن عمـر أنـه كـان يصلـي حيـث توجهـت بـه راحلتـه.
ويذكـر أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان يفعـل ذلـك ويتـأول هـذه الآيـة: (( فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )).
وقـال آخـرون: بـل نزلـت هـذه الآيـة فـي قـوم عميـت عليهـم القبلـة فلـم يعرفـوا شـطرها، فصلُّـوا علـى أنحـاء مختلفـة، فقـال الله تعالـى: لـي المشـارق والمغـارب، فأينمـا وليتـم وجوهكـم فهنـاك وجهـي وهـو قبلتكـم فيعلمكـم بذلـك أن صلاتكـم ماضيـة، لمـا روي عـن عامـر بـن ربيعـة عـن أبيـه قـال: كنـا مـع رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي ليلـة سـوداء مظلمـة فنزلنـا منـزلاً فجعـل الرجـل يأخـذ الأحجـار فيعمـل مسـجداً يصلـي فيـه، فلمـا أن أصبحنـا إذا نحـن قـد صلينـا إلـى غيـر القبلـة، فقلنـا: يـا رسـول الله لقـد صلينـا ليلتنـا هـذه لغيـر القبلـة فأنـزل الله تعالـى: (( والله المشـرق والمغـرب فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )) الآيـة.
عـن ابـن عبـاس أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بعـث سـرية فأخذتهـم ضبابـة فلـم يهتـدوا إلـى القبلـة فصلـوا لغيـر القبلـة ثـم اسـتبان لهـم بعـد مـا طلعـت الشـمـس أنهـم صلـوا لغيـر القبلـة، فلمـا جـاءوا إلـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم حدثـوه فأنـزل الله تعالـى هـذه الآيـة: (( ولله المشـرق والمغـرب فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )).
قـال ابـن جريـر: ويحتمـل فأينمـا تولـوا وجوهكـم فـي دعائكـم لـي فهنالـك وجهـي أسـتجب لكـم دعاءكـم.
قـال مجاهـد: لمـا نزلـت (( ادعونـي أسـتجب لكـم )) قالـوا: إلـى أيـن؟ فأنزلـت (( فأينمـا تولـوا فثـم وجـه الله )).
ومعنـى قولـه: (( إن الله واسـع عليـم )) يسـع خلقـه كلهـم بالكفايـة والجـود والإفضـال، وأمـا قولـه: (( عليـم )) فإنـه يعنـي عليـم بأعمالهـم مـا يغيـب عنـه منهـا شـيء، ولا يعـزب عـن علمـه بـل هـو بجميعهـا عليـم.
(( وَقَالُـوا اتَّخَـذَ اللهُ وَلَـداً سُـبحَانَهُ بَـل لَّـهُ مَـا فِـي السَّـمَاواتِ وَالأرضِ كُـلٌّ لَـهٌ قَانِتُـونَ (116) بَدِيـعُ السَّـمَاوَاتِ وَالأرضِ وَإذَا قَضَـى أَمـراً فَإنَّمَـا يَقُـولُ لَـهُ كُـنْ فَيَكُـونُ )) / 117 /
اشـتملت هـذه الآيـة الكريمـة والتـي تليهـا علـى الـرد علـى النصـارى عليهـم لعائـن الله، وكـذا مـن أشـبههم مـن اليهـود ومـن مشـركي العـرب ممـن جعـل الملائكـة بنـات الله، فأكـذب الله جميعهـم فـي دعواهـم وقولهـم إن لله ولـداً فقـال تعالـى: (( سـبحانه )) أي تعالـى وتقـدّس وتنـزه عـن ذلـك علـواً كبيـراً: (( بـل لـه مـا فـي السـماوات والأرض )) أي ليـس الأمـر كمـا افتـروا، وإنمـا لـه ملـك السـماوات والأرض ومـن فيهـن، وهـو المتصـرف فيهـم وهـو خالقهـم ورازقهـم، ومقدرهـم ومسـخِّرهم ومسـيّرهم ومصرفهـم كمـا يشـاء، والجميـع عبيـد لـه وملـك لـه، فكيـف يكـون لـه ولـد منهـم، والوالـد إنمـا يكـون متولـداً مـن شـيئين متناسـبين، وهـو تبـارك وتعالـى ليـس لـه نظيـر ولا مشـارك فـي عظمتـه وكبريائـه ولا صاحبـة لـه فكيـف يكـون لـه ولـد؟ كمـا قـال تعالـى: (( بديـع السـماوات والأرض أنّـى يكـون لـه ولـد ولـم تكـن لـه صاحبـة وخلـق كـل شـيء وهـو بكـل شـيء وهـو بكـل شـيء عليـم ))، وقـال تعالـى: (( وقالـوا اتخـذ الرحمـن ولـداً لقـد جئتـم شـيئاً إدّاً ))، وقـال تعالـى: (( قـل هـو الله أحـد . الله الصمـد . لـم يلـد ولـم يولـد . ولـم يكـن لـه كفـواً أحـد ))، فقـرر تعالـى فـي هـذه الآيـات الكريمـة أنـه السـيد العظيـم الـذي لا نظيـر لـه ولا شـبيه لـه، وأن جميـع الأشـياء غيـره مخلوقـة لـه مربوبـة، فكيـف يكـون لـه منهـا ولـد؟
ولهـذا قـال البخـاري عـن ابـن عبـاس عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ قـال الله تعالـى كذبنـي ابـن آدم ولـم يكـن لـه ذلـك، وشـتمني ولـم يكـن لـه ذلـك، فأمـا تكذيبـه إيـاي فيزعـم أنـي لا أقـدر أن أعيـده كمـا كـان، وأمـا شـتمه إيـاي فقولـه إن لـي ولـداً، فسـبحاني أن أتخـذ صاحبـة أو ولـداً }}.
وفـي الصحيحيـن عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم أنـه قـال: {{ لا أحـد أصبـر علـى أذى سـمعه مـن الله، إنهـم يجعلـون لـه ولـداً وهـو يرزقهـم ويعافيهـم }}.
وقولـه: (( كـل لـه قانتـون )) مقّـرون لـه بالعبوديـة.
وقـال السـدي: أي مطيعـون يـوم القيامـة.
وقـال مجاهـد: (( كـل لـه قانتـون )) مطيعـون.
قـال: طاعـة الكافـر فـي سـجوده ظلـه وهـو كـاره، وهـذا قـول _ وهـو اختيـار ابـن جريـر _ يجمـع الأقـوال كلهـا، وهـو أن القنـوت الطاعـة والاسـتكانة إلـى الله وهـو شـرعي وقـدري كمـا قـال تعالـى: (( ولله يسـجد مـن فـي السـماوات ومـن فـي الأرض طوعـاً وكرهـاً وظلالهـم بالغـدو والآصـال )).
وقولـه تعالـى: (( بديـع السـماوات والأرض )) أي خالقهمـا علـى غيـر مثـال سـبق وهـو مقتضـى اللغـة، ومنـه يقـال للشـيء المحـدث بدعـة كمـا جـاء فـي صحيـح مسـلم "" فـإن كـل محدثـة بدعـة "" والبدعـة علـى قسـمين: تـارة تكـون بدعـة شـرعية، كقولـه: "" فـإن كـل محدثـة بدعـة وكـل بدعـة ضلالـة ""، وتـارة تكـون بدعـة لغويـة كقولـه أميـر المؤمنيـن عمـر بـن الخطـاب عـن جمعـه إياهـم علـى صـلاة التراويـح واسـتمرارهم: "" نعمـت البدعـة هـذه "".
وقـال ابـن جريـر: (( بديـع السـماوات والأرض )) مبدعهمـا وإنمـا هـو (مُفْعِـل) فصـرف إلـى فعيـل كمـا صـرف المؤلـم إلـى الأليـم، ومعنـى المبـدع المنشـئ والمحـدث مـا لا يسـبقه إلـى إنشـاء مثلـه وإحداثـه أحـد. قـال: ولذلـك سـمي المبتـدع فـي الديـن مبتدعـاً لإحداثـه فيـه مـا لـم يسـبق إلـى غيـره.
قـال ابـن جريـر: فمعنـى الكـلام: سـبحان الله أن يكـون لـه ولـد وهـو مالـك مـا فـي السـماوات والأرض، وتشـهد لـه جميعهـا بدلالتهـا عليـه بالوحدانيـة، وتقـر لـه بالطاعـة، وهـو بارئهـا وخالقهـا وموجدهـا مـن غيـر أصـل ولا مثـال احتذاهـا عليـه، وهـذا إعـلامٌ مـن الله لعبـاده أن ممـن يشـهد لـه بذلـك (المسـيح) الـذي أضافـوا إلـى الله بنوتـه، وإخبـار منـه لهـم أن الـذي ابتـدع السـماوات والأرض مـن غيـر أصـل وعلـى غيـر مثـال، هـو الـذي ابتـدع المسـيح عيسـى مـن غيـر والـد بقدرتـه، وهـذا عـن ابـن جريـر كـلام جيـد وعبـارة صحيحـة.
وقولـه تعالـى: (( إذا قضـى أمـراً فإنمـا يقـول لـه كـن فيكـون )) يبيّـن بذلـك كمـال قدرتـه وعظيـم سـلطانه، وأنـه إذا قـدّر أمـراً وأراد كونـه فإنمـا يقـول لـه (( كـن )) أي مـرة واحـدة (( فيكـون )) أي فيوجـد علـى وفـق مـا أراد، كمـا قـال تعالـى: (( إنمـا أمـره إذا أراد شـيئاً أن يقـول لـه كـن فيكـون ))، وقـال تعالـى: (( إنمـا قولنـا لشـيء إذا أردنـاه أن نقـول لـه كـن فيكـون ))، وقـال تعالـى: (( ومـا أمرنـا إلا واحـدة كلمـح بالبصـر )).
(( وَقَـالَ الَّذِيـنَ لا يَعْلَمُـونَ لَـوْلا يُكَلِّمُنـا اللهُ أَو تَأتِينَـا آيَـةٌ كَذَلِـكَ قَـالَ الَّذيـنَ مِـنْ قَبْلِهِـم مِثْـلَ قَوْلِهِـمْ تَشَـابَهَتْ قُلُوبُهُـمْ قَـدْ بَيَّنَّـا الآيَـاتِ لِقَـوْمٍ يُوقِنُـونَ )) / 118 /
وقـال ابـن عبـاس: قـال رافـع بـن حرملـة لرسـول صلـى الله عليـه وسـلم: يـا محمـد إن كنـت رسـولاً مـن الله كمـا تقـول، فقـل لله فيكلمنـا حتـى نسـمع كلامـه. فأنـزل الله فـي ذلـك مـن قولـه: (( وقـال الذيـن لا يعلمـون لـولا يكلمنـا الله أو تأتينـا آيـة )).
وقـال مجاهـد: النصـارى تقولـه.
وقـال قتـادة والسُّـدي: وهـذا قـول كفّـار العـرب.
(( كذلـك قـال الذيـن مـن قبلهـم مثـل قولهـم )) قـال: هـم اليهـود والنصـارى.
ويؤيـد هـذا القـول وأن القائليـن ذلـك هـم مشـركو العـرب قولـه تعالـى: (( وإذ جاءتهـم آيـة قالـوا لـن نؤمـن حتـى نؤتـى مثـل أوتـي رسـل الله )) الآيـة.
وقولـه تعالـى: (( وقالـوا لـن نؤمـن لـك حتـى تفجـر لنـا مـن الأرض ينبوعـاً )) إلـى قولـه: (( قـل سـبحان ربـي هـل كنـت إلا بشـراً رسـولاً )).
وقولـه تعالـى: (( وقـال الذيـن لا يرجـون لقاءنـا لـولا أنـزل علينـا الملائكـة أو نـرى ربنـا )) الآيـة، إلـى غيـر ذلـك مـن الآيـات الدالـة علـى كفـر مشـركي العـرب وعتوهـم وعنادهـم وسـؤالهم مـا لا حاجـة لهـم بـه إنمـا هـو الكفـر والمعانـدة كمـا قـال مـن قبلهـم مـن الأمـم الخاليـة مـن أهـل الكتابيـن وغيرهـم.
وقولـه تعالـى: (( تشـابهت قلوبهـم )) أي أشـبهت قلـوب مشـركي العـرب قلـوب مـن تقدمهـم فـي الكفـر والعنـاد والعتـو كمـا قـال تعالـى: (( كذلـك مـا أتـى الذيـن مـن قبلهـم مـن رسـول إلا قالـوا سـاحر أو مجنـون أتواصـوا بـه )) الآيـة.
وقولـه تعالـى: ((قـد بينـا الآيـات لقـوم يوقنـون )) أي قـد أوضحنـا الـدلالات علـى صـدق الرسـل بمـا لا يحتـاج معهـا إلـى سـؤال آخـر، وزيـادة أخـرى لمـن أيقـن وصـدق واتبـع الرسـل وفهـم مـا جـاءوا بـه عـن الله تبـارك وتعالـى، وأمـا مـن ختـم الله علـى قلبـه وسـمعه وجعـل علـى بصـره غشـاوة فأولئـك قـال الله فيهـم: (( إن الذيـن حقـت عليهـم كلمـة ربـك لا يؤمنـون لـو جاءتهـم كـل آيـة حتـى يـروا العـذاب الأليـم )).
(( إِنَّـا أَرْسَـلْناكَ بِالحَـقِّ بَشِـيراً وَنَذِيـراً وِلا تُسْـأَلُ عَـنْ أَصْحَـابِ الجَحِيـمِ )) / 119 /
عـن ابـن عبـاس قـال: ، وقولـه: (( ولا تسـأل عـن أصحـاب الجحيـم )) قـراءة أكثرهـم (( ولا تسـأل )) بضـم التـاء علـى الخبـر.
وفـي قـراءة ابـن مسـعود (( ولـن تسـأل )) عـن أصحـاب الجحيـم أي لا نسـألك عـن كفـر مـن كفـر بـك، كقولـه: (( فإنمـا عليـك البـلاغ وعلينـا الحسـاب )).
عـن عطـاء بـن يسـار قـال: لقيـت عبـد الله بـن عمـرو بـن العـاص فقلـت: أخبرنـي عـن صفـة رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي التـوراة فقـال: أجـل والله إنـه لموصـوف فـي التـوراة بصفتـه فـي القـرآن ( يـا أيهـا النبـي إنـا أرسـلناك شـاهداً ومبشـراً ونذيـراً وحـرزاً للأمييـن، أنـت عبـدي ورسـولي سـميتك المتوكـل، ولا فـظ لا غليـظ، ولا سـخَّاب فـي الأسـواق، ولا يدفـع بالسـيئة السـئية، ولكـن يعفـو ويغفـر ولـن يقبضـه حتـى يقيـم بـه الملـة العوجـاء، بـأن يقولـوا لا إلـه إلا الله، فيفتـح بـه أعينـاً عميـاً وآذانـاً صمـاً وقلوبـاً غلفـاً ).
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 109 ، 110 ، 111 ، 112 ، 113 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************