بسـم الله الرحمـن الرحيـم
أخواتـي... صديقاتـي...
لا أعـرف إن كانـت كلمـات الأسـف والاعتـذار تكفـي لأكفـر عـن تقصيـري...
سـرقتني الامتحانـات... كنـت حبيسـة المحاضـرات والكتـب...
إن شـاء الله أعـوض مـا تأخـرت فيـه...
********************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( قُـل إن كانَـت لَكُـمُ الـدارُ الآخِـرَةُ عِنـدَ اللهِ خالِصَـةً مِـن دونِ النَّـاسِ فَتَمَنَّـوا المَـوتَ إن كُنتُـم صادِقيـنَ ولَـن يَتَمنَّونَـهُ أبَـداً بِمـا قدَّمَـت أيديهِـم وَاللهُ عليـمٌ بِالظالِميـنَ وَلَتَجِدَنَّهُـم أحـرَصَ النَّـاسِ علـى حَيـاةٍ وَمِـنَ الذيـنَ أشـرَكوا يَـوَدُّ أحَدُهُـم لَـو يُعمَّـرُ ألـفَ سَـنَةٍ وَمَـا هُـوَ بِمُزَحزِحِـهِ مِـنَ العـذابِ أن يُعَمَّـرَ وَاللهُ بَصيـر بِمـا يَعمَلـونَ )) / 96 /
يقـول الله تعالـى لنبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: (( قـل إن كانـت لكـم الـدار الآخـرة عنـد الله خالصـة مـن دون الله فتمنـوا المـوت إن كنتـم صادقيـن )) أي ادعـوا بالمـوت علـى أي الفريقيـن أكـذب، فأبـوا ذلـك علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم (( ولـن يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن )) أي يعلمهـم بمـا عندهـم مـن العلـم بـل والكفـر بذلـك ولـو تمنـوه يـوم قـال لهـم ذلـك مـا بقـي علـى الأرض يهـودي إلا مـات.
وقـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: (( فتمنـوا المـوت )) فسـلوا المـوت.
قـال ابـن عبـاس: { لـو تمنـى يهـود المـوت لماتـوا ولـو تمنـوا المـوت لشـرق أحدهـم بريقـه }.
وقـال ابـن جريـر: وبلغنـا أن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لـو أن اليهـود تمنـوا المـوت لماتـوا ولرأوا مقاعدهـم مـن النـار، ولـو خـرج الذيـن يباهـون رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لرجعـوا لا يجـدون أهـلاً ولا مـالاً }}.
ونظيـر هـذه الآيـة قولـه تعالـى فـي سـورة الجمعـة: (( قـل يـا أيهـا الذيـن هـادوا إن زعمتـم أنكـم أوليـاء الله مـن دون النـاس فتمنـوا المـوت إن كنتـم صادقيـن . ولا يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن )) فهـم _ عليهـم لعائـن الله تعالـى _ لمـا زعمـوا أنهـم أبنـاء الله وأحبـاؤه وقالـوا: (( لـن يدخـل الجنـة إلا مـن كـان هـوداً أن نصـارى )) دعـوا إلـى المباهلـة والدعـاء علـى أكـذب الطائفتيـن منهـم أو مـن المسـلمين، فمـا نكلـوا عـن ذلـك علـم كـل أحـد أنهـم ظالمـون، لأنهـم لـو كانـوا جازميـن بمـا هـم فيـه لكانـوا أقدمـوا علـى ذلـك، فلمـا تأخـروا علـم كذبهـم.
وهـذا كمـا دعـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وفـد نجـران مـن النصـارى بعـد قيـام الحجـة عليهـم فـي المناظـرة، وعتوهـم وعنادهـم إلـى المباهلـة، فقـال تعالـى: (( فقـل تعالـوا نـدع أبناءنـا وأبناؤكـم ونسـاءنا ونسـاءكم وأنفسـنا وأنفسـكم ثـم نبتهـل فنجعـل لعنـة الله علـى الكاذبيـن )).
فلمـا رأوا ذلـك قـال بعـض القـول لبعـض: والله لئـن باهلتـم هـذا النبـي لا يبقـى منكـم عبـن تطـرف، فعنـد ذلـك جنحـوا للسـلم وبذلـوا الجزيـة عـن يـد وهـم صاغـرون.
والمعنـى إن كنتـم تعتقـدون أنكـم أوليـاء الله مـن دون النـاس، وأنكـم أبنـاء الله وأحبـاؤه، وأنكـم مـن أهـل الجنـة ومـن عداكـم مـن أهـل النـار، فباهلـوا علـى ذلـك وادعـوا علـى الكاذبيـن منكـم أو مـن غيركـم، وأعلمـوا أن المباهلـة تسـتأصل الكـاذب لا محالـة، فلمـا تيقنـوا ذلـك وعرفـوا صدقـه نكلـوا عـن المباهلـة، لمـا يعلمـون مـن كذبهـم وافتراءهـم، وكتمانهـم الحـق مـن صفـة الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم ونعتـه، وهـم يعرفونـه كمـا يعرفـون أبناءهـم ويتحققونـه، فعلـم كـل أحـد باطلهـم وخزيهـم وضلالهـم وعنادهـم، عليهـم لعائـن الله المتتابعـة إلـى يـوم القيامـة.
//// المباهلـة: الملاعنـة، وباهـل بعضهـم بعضـاً: اجتمعـوا فتداعـوا فاسـتنزلوا لعنـة الله علـى الظالـم منهـم. ////
وسـميت هـذه مباهلـة تمنيـاً لأن كـل محـق يـود لـو أهلـك الله المبطـل المناظـر لـه، ولاسـيما إذا كـان فـي ذلـك حجـة بـه فـي بيـان حقـه وظهـوره، وكانـت المباهلـة بالمـوت، ولهـذا قـال تعالـى: (( ولـن يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن . ولتجدنهـم أحـرص النـاس علـى حيـاة )) أي علـى طـول العمـر لمـا يعلمـون مـن مآلهـم السـيئ وعاقبتهـم عنـد الله الخاسـرة لأن الدنيـا سـجن المؤمـن وجنـة الكافـر، فهـم يـودون لـو تأخـروا عـن مقـام الآخـرة بكـل أمكنهـم ومـا يحـاذرون منـه واقـع بهـم لا محالـة، حتـى وهـم أحـرص مـن المشـركين الذيـن لا كتـاب لهـم، وهـذا مـن بـاب عطـف الخـاص علـى العـام.وقـال الحسـن البصـري: (( ولتجدنهـم أحـرص النـاس علـى حيـاة )) المنافـق أحـرص النـاس، وأحـرص مـن المشـرك علـى الحيـاة.
(( يـود أحدهـم )) أي يـود أحـد اليهـود لـو يعمـر ألـف سـنة.
(( ومـا هـو بمزحزحـه مـن العـذاب أن يعمـر )) أي ومـا هـو بمنجيـه مـن العـذاب، وذلـك أن المشـرك لا يرجـوا بعثـاً بعـد المـوت، فهـو يحـب طـول الحيـاة، وأن اليهـودي قـد عـرف مـا لـه فـي الآخـرة مـن الخـزي بمـا ضيـع مـا عنـده مـن العلـم فمـا ذلـك بمغيثـه مـن العـذاب ولا منجيـه منـه.
(( والله بصيـر بمـا يعملـون )) أي خبيـر بصيـر بمـا يعمـل عبـاده مـن خيـر وشـر، وسـيجازي كـل عامـل بعملـه.
(( قُـل مَـن كـانَ عَـدوَّاً لِجِبريـلَ فَإِنَّـهُ نزَّلَـهُ علـى قَلبِـكَ بِـإذنِ اللهِ مُصدِّقـاً لِمـا بَيـنَ يَديـهِ وَهـدىً وَبشـرى لِلمؤمِنيـنَ مَـن كـانَ عَـدوَّاً للهِ وَملائِكَتِـهِ وَرُسُـلِهِ وَجِبريـلَ وَميكـالَ فَـإنَّ اللهَ عَـدوٌّ لِلكافرِيـنَ )) / 98 /
قـال أبـو جعفـر الطبـري رحمـه الله: أجمـع أهـل العلـم بالتأويـل جميعـاً أن هـذه الآيـة نزلـت
جوابـاً لليهـود مـن بنـي إسـرائيل إذ زعمـوا أن جبريـل عـدو لهـم، وأن ميكائيـل ولـي لهـم، ثـم اختلفـوا فـي السـبب الـذي مـن أجلـه قالـوا ذلـك، فقـال بعضهـم: إنمـا كـان سـبب قيلهـم ذلـك مـن أجـل مناظـرة جـرت بينهـم وبيـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي أمـر نبوتـه.
عـن ابـن عبـاس قـال: أقبلـت يهـود علـى رسـول صلـى الله عليـه وسـلم فقالـوا: يـا أبـا القاسـم أخبرنـا عـن خمسـة أشـياء فـإن أنبأتنـا بهـن عرفنـا أنـك نبـي واتبعنـاك، فأخـذ عليهـم مـا أخـذ إسـرائيل علـى نبيـه إذ قـال: (( والله علـى مـا نقـول وكيـل )).
قـال: {{ هاتـوا }}.
قالـوا: فأخبرنـا عـن علامـة النبـي ؟
قـال: {{ تنـام عينـاه ولا ينـام قلبـه }} .
قالـوا: أخبرنـا كيـف تؤنـث المـرأة وكيـف تذكـر ؟
قـال: {{ يلتقـي المـاء فـإذا عـلا مـاء الرجـل مـاء المـرأة أذكـرت، وإذا عـلا مـاء المـرأة مـاء الرجـل أنثـت }}.
قالـوا: أخبرنـا مـا حـرم إسـرائيل علـى نفسـه ؟
قـال: {{ كـان يشـتكي عـرق النسـاء فلـم يجـد شـيئاً يلائمـه إلا ألبـان كـذا }}، قـال أحمـد، قـال بعضهـم: يعنـي الإبـل فحـرم لحومهـا.
قالـوا: صدقـت. قالـوا: أخبرنـا مـا هـذا الرعـد ؟
قـال: {{ ملـك مـن الملائكـة الله عـز وجـل موكـل بالسـحاب بيديـه أو فـي يديـه مخـراق مـن نـار يزجـر بـه السـحاب يسـوقه حيـق أمـره الله تعالـى }}.
قالـوا: فمـا هـذا الصـوت الـذي نسـمع ؟
قـال: {{ صوتـه }}.
قالـوا: صدقـت. قالـوا: إنمـا بقيـت واحـدة وهـي التـي نتابعـك إن أخبرتنـا بهـا، إنـه ليـس مـن نبـي إلا ولـه ملـك يأتيـه بالخبـر فأخبرنـا مـن صاحبـك ؟
قـال: {{ جبريـل عليـه السـلام }}.
قالـوا: جبريـل ذاك الـذي ينـزل بالحـرب والقتـال والعـذاب عدونـا، لـو قلـت ميكائيـل الـذي ينـزل بالرحمـة والقطـر والنبـات لكـان، فأنـزل الله تعالـى: (( قـال مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) إلـى آخـر الآيـة.
وفـي الروايـة: إن يهـود سـألوا النبـي صلـى الله عليـه وسـلم عـن صاحبـه الـذي ينـزل عليـه بالوحـي.
قـال: {{ جبريـل }}.
قالـوا: فإنـه عـدو لنـا ولا يأتـي إلا بالحـرب والشـدة والقتـال.
فنزلـت: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل )) الآيـة.
وأخـرج البخـاري: عـن أنـس بـن مالـك قـال: سـمع ( عبـد الله بـن سـلام ) بمقـدم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وهـو فـي أرض يختـرف فأتـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: إنـي سـائلك عـن ثـلاث لا يعلمهـن إلا نبـي: مـا أول أشـراط السـاعة، ومـا أول طعـام أهـل الجنـة، ومـا ينـزع الولـد إلـى أبيـه أو إلـى أمـه ؟ فقـال: {{ أخبرنـي بهـذا جبريـل آنفـاً }}.
قـال: جبريـل ؟
قـال: {{ نعـم }}.
قـال: ذاك عـدو اليهـود مـن الملائكـة فقـرأ هـذه الآيـة: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فأنـه نزلـه علـى قلبـك )).
{{ وأمـا أول أشـراط السـاعة فنـار تحشـر النـاس مـن المشـرق إلـى المغـرب، وأمـا أول أول طعـام يأكلـه أهـل الجنـة فزيـادة كبـد الحـوت، وإذا سـبق مـاء الرجـل مـاء المـرأة نـزع الولـد وإذا سـبق مـاء المـرأة نزعـت }}.
قـال: أشـهد أن لا إلـه إلا الله وأنـك رسـول الله، يـا رسـول الله إن اليهـود قـوم بُهْـتٌ وإنهـم إن يعلمـوا بإسـلامي قبـل أن تسـألهم يبهتونـي، فجـاءت اليهـود فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ أي رجـل عبـد الله بـن سـلام فيكـم؟ }}
قالـوا: خيرنـا وابـن خيرنـا وسـيدنا وابـن سـيدنا.
قـال: {{ أرأيتـم إن أسـلم }}.
قالـوا: أعـاذه الله مـن ذلـك. فخـرج عبـد الله فقـال: أشـهد أن لا إلـه إلا الله وأشـهد أن محمـداً رسـول الله.
فقالـوا: هـو شـرنا وابـن شـرنا وانتقصـوه.
فقـال: هـذا الـذي كنـت أخـاف يـا رسـول الله.
وقـال آخـرون: بـل كـان سـبب ذلـك مـن أجـل مناظـرة جـرت بينهـم وبيـن عمـر بـن الخطـاب فـي أمـر النبـي صلـى الله عليـه وسـلم.
قـال عمـر: كنـت أشـهد اليهـود يـوم مدراسـهم، فأعجـب مـن التـوراة كيـف تصـدق القـرآن ومـن القـرآن كيـف يصـدق التـوراة فبينمـا أنـا عندهـم ذات يـوم قالـوا: يـا ابـن الخطـاب مـا مـن أصحابـك أحـد أحـب إلينـا منـك، ( قلـت ): ولـم ذلـك؟ قالـوا: لأنـك تغشـانا وتأتينـا، فقلـت: إنـي آتيكـم فأعجـب مـن القـرآن كيـف يصـدق التـوراة، ومـن التـوراة كيـف تصـدق القـرآن، قالـوا: ومـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فقالـوا: يـا ابـن الخطـاب ذاك صاحبكـم فالحـق بـه، قـال: فقلـت لهـم عنـد ذلـك: نشـدتكم بالله الـذي لا إلـه إلا هـو ومـا اسـتودعكم مـن كتابـه، هـل تعلمـون أنـه رسـول الله ؟ قـال: فسـكتوا، فقـال: لهـم عالمهـم وكبيرهـم: إنـه قـد غلَّـظ عليكـم فأجيبـوه، قالـوا: فأنـت عالمنـا وكبيرنـا فأجبـه أنـت، قـال: أمـا إذا نشـدتنا بمـا نشـدتنا فإنـا نعلـم أنـه رسـول الله، قلـت: ويحكـم إذاً هلكتـم، قالـوا: إنـا لـم نهلـك، قلـت: كيـف تعلمـون أنـه رسـول الله ولا تتبعونـه ولا تصدقونـه !! قالـوا: إن لنـا عـدواً مـن الملائكـة، وسِـلماً مـن الملائكـة، وإنـه قـرن بنبوتـه عدونـا مـن الملائكـة، قلـت ومـن عدوكـم ومـن سِـلمكم؟ قالـوا: عدونـا جبريـل، وسِـلمنا ميكائيـل، قالـوا: إن جبريـل ملـك الفظاظـة والغلظـة والإعسـار والتشـديد والعـذاب ونحـو ذلـك، وإن ميكائيـل ملـك الرحمـة والرأفـة، والتخفيـف ونحـو هـذا، قـال، قلـت: ومـا منزلتهمـا مـن ربهمـا عـز وجـل؟ قالـوا: أحدهمـا عـن يمينـه والآخـر عـن يسـاره، قـال، فقلـت: فـوالـذي لا إلـه إلا هـو إنهمـا _ والـذي بينهمـا _ لعـدو لمـن عاداهمـا وسِـلمٌ لمـن سـالمهما، ومـا ينبغـي لجبريـل أن يسـالم عـدو ميكائيـل، ومـا ينبغـي لميكائيـل أن يسـالم عـدو جبريـل، قـال: ثـم قمـت فاتبعـت النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فلحقتـه وهـو خـارج مـن خوخـة لنبـي فـلان، فقـال: {{ يـا بـن الخطـاب إلا أقرئـك آيـات نزلـن قبـل }} فقـرأ علـي: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) حتـى قـرأ الآيـات. قـال، قلـت: بأبـي أنـت وأمـي يـا رسـول الله والـذي بعثـك بالحـق لقـد جئـت أنـا أريـد أن أخبـرك وأنـا أسـمع اللطيـف الخبيـر قـد سـبقني إليـك بالخبـر.
وقـال ابـن جريـر: انطلـق عمـر بـن الخطـاب ذات يـوم إلـى اليهـود فلمـا انصـرف رحبـوا بـه، فقـال لهـم عمـر: أمـا والله مـا جئتكـم لحبكـم ولا لرغبـة فيكـم ولكـن جئـت لأسـمع منكـم، فسـألهم وسـألوه، فقالـوا: مـن صاحـب صاحبكـم؟ فقـال لهـم: جبرائيـل، فقالـوا: ذاك عدونـا مـن أهـل السـماء، يطلـع محمـداً علـى سـرنا، وإذا جـاء جـاء بالحـرب والسَـنَة (القحـط والجـدب)، ولكـن صاحـب صاحبنـا ميكائيـل إذا جـاء جـاء بالخصـب والسـلم، فقـال لهـم عمـر: هـل تعرفـون جبرائيـل وتنكـرون محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم، ففارقهـم عمـر عنـد ذلـك وتوجـه نحـو النبـي صلـى الله عليـه وسـلم ليحدثـه حديثهـم فوجـده قـد أنزلـت عليـه هـذه الآيـة: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) الآيـات.
وقـال ابـن جريـر عـن ابـن أبـي ليلـى فـي قولـه تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل )) قـال: قالـت اليهـود للمسـلمين: لـو أن (ميكائيـل) كـان هـو الـذي ينـزل عليكـم اتبعناكـم فإنـه ينـزل بالرحمـة والغيـث، وإن (جبرائيـل) ينـزل بالعـذاب والنقمـة فإنـه عـدو لنـا، قـال: فنزلـت هـذه الآيـة.
وأمـا تفسـير الآيـة فقولـه تعالـى: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) أي مـن عـادى جبرائيـل فليعلـم أنـه الـروح الأميـن، الـذي نـزل بالذكـر الحكيـم علـى قلبـك مـن الله بإذنـه لـه فـي ذلـك، فهـو رسـول مـن رسـل الله ملكـي، ومـن عـادى رسـولاً فقـد عـادى رسـولاً فقـد عـادى جميـع الرسـل، كمـا أن مـن آمـن برسـول فإنـه يلزمـه الإيمـان بجميـع الرسـل، وكذلـك مـن عـادى جبرائيـل فإنـه عـدو لله لأنـه لا ينـزل بالأمـر مـن تلقـاء نفسـه وإنمـا ينـزل بأمـر ربـه كمـا قـال: (( ومـا نتنـزل إلا بأمـر ربـك )) ، وقـال تعالـى: (( وإنـه لنتزيـل رب العالميـن . نـزل بـه الـروح الأميـن . علـى قلبـك لتكـون مـن المنذريـن )).
وقـد روى البخـاري فـي صحيحـه عـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن عـادى لـي وليـاً فقـد بارزنـي بالحـرب }} ولهـذا غضـب الله لجبرائيـل علـى مـن عـاداه، فقـال تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله مصدقـاً لمـا بيـن يديـه )) أي مـن الكتـب المتقدمـة (( وهـدى وبشـرى للمؤمنيـن )) أي هـدى لقلوبهـم، وبشـرى لهـم بالجنـة، وليـس ذلـك إلا للمؤمنيـن كمـا قـال تعالـى: (( قـل هـو للذيـن آمنـوا هـدى وشـفاء )) ، وقـال تعالـى: (( وننـزل مـن القـرآن مـا هـو شـفاء ورحمـة للمؤمنيـن )) ، ثـم قـال تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لله وملائكتـه وؤسـله وجبريـل وميكـال فـإن الله عـدو للكافريـن )). يقـول تعالـى: مـن عادانـي وملائكتـي ورسـلي _ ورسـله تشـمل رسـله مـن الملائكـة والبشـر. كمـا قـال تعالـى: (( الله يصطفـي مـن الملائكـة رسـلاً ومـن النـاس )) ، (( وجبريـل وميكـال )) وهـذا مـن بـأب عطـف الخـاص علـى العـام فإنهمـا دخـلا فـي الملائكـة فـي عمـوم الرسـل، ثـم خصصـا بالذكـر لأن السـياق فـي الانتصـار لجبرائيـل، وهـو سـفير بيـن الله وأنبيائـه، وقـرن معـه ميكائيـل فـي اللفـظ لأن اليهـود زعمـوا أن جبرائيـل عدوهـم، وميكائيـل وليهـم، فأعلمهـم الله تعالـى أن مـن عـادى واحـداً منهمـا فقـد عـادى الآخـر، وعـادى الله أيضـاً، ولأنـه أيضـاً ينـزل علـى أنبيـاء الله بعـض الأحيـان كمـا قـرن برسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي ابتـداء الأمـر، ولكـن جبرائيـل أكثـر وهـي وظيفتـه، وميكائيـل موكـل بالنبـات والقطـر. هـذا بالهـدى وهـذا بالـرزق، كمـا أن إسـرافيل موكـل بالنفـخ فـي الصـور للبعـث يـوم القيامـة، ولهـذا جـاء فـي الصحيـح أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان إذا قـام مـن الليـل يقـول: {{ اللهـم رب جبرائيـل وميكائيـل وإسـرافيل، فاطـر السـماوات والأرض، عالـم الغيـب والشـهادة، أنـت تحكـم بيـن عبـادك فيمـا كانـوا فيـه يختلفـون، اهدنـي لمـا اختلـف فيـه مـن الحـق بإذنـك إنـك تهـدي مـن تشـاء إلـى صـراط مسـتقيم }}.
عـن ابـن عبـاس قـال: إنمـا كـان قولـه جبرائيـل كقولـه عبـد الله وعبـد الرحمـن.
وقيـل جبـر: عبـد، وإيـل: الله.
وقولـه تعالـى: (( فـإن الله عـدو للكافريـن )) فيـه إيقـاع المظهـر مكـان المضمـر حيـث لـم يقـل (فإنـه عـدو) بـل قـال: (( فـإن الله عـدو للكافريـن )).
وإنمـا أظهـر الله هـذا الاسـم ههنـا تقريـر هـذا المعنـى وإظهـاره، وإعلامهـم أن مـن عـادى وليـاً لله فقـد عـادى الله، ومـن عـادى الله فـإن الله عـدو لـه، ومـن كـان الله عـدوه فقـد خسـر الدنيـا والآخـرة، كمـا تقـدم الحديـث: {{ مـن عـادى لـي وليـاً فقـد آذنتـه بالمحاربـة }} ، وفـي الحديـث الصحيـح: {{ مـن كنـت خصمـه خصمتـه }}.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 90 ، 91 ، 92 ، 93 ، 94 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
أخواتـي... صديقاتـي...
لا أعـرف إن كانـت كلمـات الأسـف والاعتـذار تكفـي لأكفـر عـن تقصيـري...
سـرقتني الامتحانـات... كنـت حبيسـة المحاضـرات والكتـب...
إن شـاء الله أعـوض مـا تأخـرت فيـه...
********************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( قُـل إن كانَـت لَكُـمُ الـدارُ الآخِـرَةُ عِنـدَ اللهِ خالِصَـةً مِـن دونِ النَّـاسِ فَتَمَنَّـوا المَـوتَ إن كُنتُـم صادِقيـنَ ولَـن يَتَمنَّونَـهُ أبَـداً بِمـا قدَّمَـت أيديهِـم وَاللهُ عليـمٌ بِالظالِميـنَ وَلَتَجِدَنَّهُـم أحـرَصَ النَّـاسِ علـى حَيـاةٍ وَمِـنَ الذيـنَ أشـرَكوا يَـوَدُّ أحَدُهُـم لَـو يُعمَّـرُ ألـفَ سَـنَةٍ وَمَـا هُـوَ بِمُزَحزِحِـهِ مِـنَ العـذابِ أن يُعَمَّـرَ وَاللهُ بَصيـر بِمـا يَعمَلـونَ )) / 96 /
يقـول الله تعالـى لنبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: (( قـل إن كانـت لكـم الـدار الآخـرة عنـد الله خالصـة مـن دون الله فتمنـوا المـوت إن كنتـم صادقيـن )) أي ادعـوا بالمـوت علـى أي الفريقيـن أكـذب، فأبـوا ذلـك علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم (( ولـن يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن )) أي يعلمهـم بمـا عندهـم مـن العلـم بـل والكفـر بذلـك ولـو تمنـوه يـوم قـال لهـم ذلـك مـا بقـي علـى الأرض يهـودي إلا مـات.
وقـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: (( فتمنـوا المـوت )) فسـلوا المـوت.
قـال ابـن عبـاس: { لـو تمنـى يهـود المـوت لماتـوا ولـو تمنـوا المـوت لشـرق أحدهـم بريقـه }.
وقـال ابـن جريـر: وبلغنـا أن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لـو أن اليهـود تمنـوا المـوت لماتـوا ولرأوا مقاعدهـم مـن النـار، ولـو خـرج الذيـن يباهـون رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لرجعـوا لا يجـدون أهـلاً ولا مـالاً }}.
ونظيـر هـذه الآيـة قولـه تعالـى فـي سـورة الجمعـة: (( قـل يـا أيهـا الذيـن هـادوا إن زعمتـم أنكـم أوليـاء الله مـن دون النـاس فتمنـوا المـوت إن كنتـم صادقيـن . ولا يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن )) فهـم _ عليهـم لعائـن الله تعالـى _ لمـا زعمـوا أنهـم أبنـاء الله وأحبـاؤه وقالـوا: (( لـن يدخـل الجنـة إلا مـن كـان هـوداً أن نصـارى )) دعـوا إلـى المباهلـة والدعـاء علـى أكـذب الطائفتيـن منهـم أو مـن المسـلمين، فمـا نكلـوا عـن ذلـك علـم كـل أحـد أنهـم ظالمـون، لأنهـم لـو كانـوا جازميـن بمـا هـم فيـه لكانـوا أقدمـوا علـى ذلـك، فلمـا تأخـروا علـم كذبهـم.
وهـذا كمـا دعـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وفـد نجـران مـن النصـارى بعـد قيـام الحجـة عليهـم فـي المناظـرة، وعتوهـم وعنادهـم إلـى المباهلـة، فقـال تعالـى: (( فقـل تعالـوا نـدع أبناءنـا وأبناؤكـم ونسـاءنا ونسـاءكم وأنفسـنا وأنفسـكم ثـم نبتهـل فنجعـل لعنـة الله علـى الكاذبيـن )).
فلمـا رأوا ذلـك قـال بعـض القـول لبعـض: والله لئـن باهلتـم هـذا النبـي لا يبقـى منكـم عبـن تطـرف، فعنـد ذلـك جنحـوا للسـلم وبذلـوا الجزيـة عـن يـد وهـم صاغـرون.
والمعنـى إن كنتـم تعتقـدون أنكـم أوليـاء الله مـن دون النـاس، وأنكـم أبنـاء الله وأحبـاؤه، وأنكـم مـن أهـل الجنـة ومـن عداكـم مـن أهـل النـار، فباهلـوا علـى ذلـك وادعـوا علـى الكاذبيـن منكـم أو مـن غيركـم، وأعلمـوا أن المباهلـة تسـتأصل الكـاذب لا محالـة، فلمـا تيقنـوا ذلـك وعرفـوا صدقـه نكلـوا عـن المباهلـة، لمـا يعلمـون مـن كذبهـم وافتراءهـم، وكتمانهـم الحـق مـن صفـة الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم ونعتـه، وهـم يعرفونـه كمـا يعرفـون أبناءهـم ويتحققونـه، فعلـم كـل أحـد باطلهـم وخزيهـم وضلالهـم وعنادهـم، عليهـم لعائـن الله المتتابعـة إلـى يـوم القيامـة.
//// المباهلـة: الملاعنـة، وباهـل بعضهـم بعضـاً: اجتمعـوا فتداعـوا فاسـتنزلوا لعنـة الله علـى الظالـم منهـم. ////
وسـميت هـذه مباهلـة تمنيـاً لأن كـل محـق يـود لـو أهلـك الله المبطـل المناظـر لـه، ولاسـيما إذا كـان فـي ذلـك حجـة بـه فـي بيـان حقـه وظهـوره، وكانـت المباهلـة بالمـوت، ولهـذا قـال تعالـى: (( ولـن يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن . ولتجدنهـم أحـرص النـاس علـى حيـاة )) أي علـى طـول العمـر لمـا يعلمـون مـن مآلهـم السـيئ وعاقبتهـم عنـد الله الخاسـرة لأن الدنيـا سـجن المؤمـن وجنـة الكافـر، فهـم يـودون لـو تأخـروا عـن مقـام الآخـرة بكـل أمكنهـم ومـا يحـاذرون منـه واقـع بهـم لا محالـة، حتـى وهـم أحـرص مـن المشـركين الذيـن لا كتـاب لهـم، وهـذا مـن بـاب عطـف الخـاص علـى العـام.وقـال الحسـن البصـري: (( ولتجدنهـم أحـرص النـاس علـى حيـاة )) المنافـق أحـرص النـاس، وأحـرص مـن المشـرك علـى الحيـاة.
(( يـود أحدهـم )) أي يـود أحـد اليهـود لـو يعمـر ألـف سـنة.
(( ومـا هـو بمزحزحـه مـن العـذاب أن يعمـر )) أي ومـا هـو بمنجيـه مـن العـذاب، وذلـك أن المشـرك لا يرجـوا بعثـاً بعـد المـوت، فهـو يحـب طـول الحيـاة، وأن اليهـودي قـد عـرف مـا لـه فـي الآخـرة مـن الخـزي بمـا ضيـع مـا عنـده مـن العلـم فمـا ذلـك بمغيثـه مـن العـذاب ولا منجيـه منـه.
(( والله بصيـر بمـا يعملـون )) أي خبيـر بصيـر بمـا يعمـل عبـاده مـن خيـر وشـر، وسـيجازي كـل عامـل بعملـه.
(( قُـل مَـن كـانَ عَـدوَّاً لِجِبريـلَ فَإِنَّـهُ نزَّلَـهُ علـى قَلبِـكَ بِـإذنِ اللهِ مُصدِّقـاً لِمـا بَيـنَ يَديـهِ وَهـدىً وَبشـرى لِلمؤمِنيـنَ مَـن كـانَ عَـدوَّاً للهِ وَملائِكَتِـهِ وَرُسُـلِهِ وَجِبريـلَ وَميكـالَ فَـإنَّ اللهَ عَـدوٌّ لِلكافرِيـنَ )) / 98 /
قـال أبـو جعفـر الطبـري رحمـه الله: أجمـع أهـل العلـم بالتأويـل جميعـاً أن هـذه الآيـة نزلـت
جوابـاً لليهـود مـن بنـي إسـرائيل إذ زعمـوا أن جبريـل عـدو لهـم، وأن ميكائيـل ولـي لهـم، ثـم اختلفـوا فـي السـبب الـذي مـن أجلـه قالـوا ذلـك، فقـال بعضهـم: إنمـا كـان سـبب قيلهـم ذلـك مـن أجـل مناظـرة جـرت بينهـم وبيـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي أمـر نبوتـه.
عـن ابـن عبـاس قـال: أقبلـت يهـود علـى رسـول صلـى الله عليـه وسـلم فقالـوا: يـا أبـا القاسـم أخبرنـا عـن خمسـة أشـياء فـإن أنبأتنـا بهـن عرفنـا أنـك نبـي واتبعنـاك، فأخـذ عليهـم مـا أخـذ إسـرائيل علـى نبيـه إذ قـال: (( والله علـى مـا نقـول وكيـل )).
قـال: {{ هاتـوا }}.
قالـوا: فأخبرنـا عـن علامـة النبـي ؟
قـال: {{ تنـام عينـاه ولا ينـام قلبـه }} .
قالـوا: أخبرنـا كيـف تؤنـث المـرأة وكيـف تذكـر ؟
قـال: {{ يلتقـي المـاء فـإذا عـلا مـاء الرجـل مـاء المـرأة أذكـرت، وإذا عـلا مـاء المـرأة مـاء الرجـل أنثـت }}.
قالـوا: أخبرنـا مـا حـرم إسـرائيل علـى نفسـه ؟
قـال: {{ كـان يشـتكي عـرق النسـاء فلـم يجـد شـيئاً يلائمـه إلا ألبـان كـذا }}، قـال أحمـد، قـال بعضهـم: يعنـي الإبـل فحـرم لحومهـا.
قالـوا: صدقـت. قالـوا: أخبرنـا مـا هـذا الرعـد ؟
قـال: {{ ملـك مـن الملائكـة الله عـز وجـل موكـل بالسـحاب بيديـه أو فـي يديـه مخـراق مـن نـار يزجـر بـه السـحاب يسـوقه حيـق أمـره الله تعالـى }}.
قالـوا: فمـا هـذا الصـوت الـذي نسـمع ؟
قـال: {{ صوتـه }}.
قالـوا: صدقـت. قالـوا: إنمـا بقيـت واحـدة وهـي التـي نتابعـك إن أخبرتنـا بهـا، إنـه ليـس مـن نبـي إلا ولـه ملـك يأتيـه بالخبـر فأخبرنـا مـن صاحبـك ؟
قـال: {{ جبريـل عليـه السـلام }}.
قالـوا: جبريـل ذاك الـذي ينـزل بالحـرب والقتـال والعـذاب عدونـا، لـو قلـت ميكائيـل الـذي ينـزل بالرحمـة والقطـر والنبـات لكـان، فأنـزل الله تعالـى: (( قـال مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) إلـى آخـر الآيـة.
وفـي الروايـة: إن يهـود سـألوا النبـي صلـى الله عليـه وسـلم عـن صاحبـه الـذي ينـزل عليـه بالوحـي.
قـال: {{ جبريـل }}.
قالـوا: فإنـه عـدو لنـا ولا يأتـي إلا بالحـرب والشـدة والقتـال.
فنزلـت: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل )) الآيـة.
وأخـرج البخـاري: عـن أنـس بـن مالـك قـال: سـمع ( عبـد الله بـن سـلام ) بمقـدم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وهـو فـي أرض يختـرف فأتـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: إنـي سـائلك عـن ثـلاث لا يعلمهـن إلا نبـي: مـا أول أشـراط السـاعة، ومـا أول طعـام أهـل الجنـة، ومـا ينـزع الولـد إلـى أبيـه أو إلـى أمـه ؟ فقـال: {{ أخبرنـي بهـذا جبريـل آنفـاً }}.
قـال: جبريـل ؟
قـال: {{ نعـم }}.
قـال: ذاك عـدو اليهـود مـن الملائكـة فقـرأ هـذه الآيـة: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فأنـه نزلـه علـى قلبـك )).
{{ وأمـا أول أشـراط السـاعة فنـار تحشـر النـاس مـن المشـرق إلـى المغـرب، وأمـا أول أول طعـام يأكلـه أهـل الجنـة فزيـادة كبـد الحـوت، وإذا سـبق مـاء الرجـل مـاء المـرأة نـزع الولـد وإذا سـبق مـاء المـرأة نزعـت }}.
قـال: أشـهد أن لا إلـه إلا الله وأنـك رسـول الله، يـا رسـول الله إن اليهـود قـوم بُهْـتٌ وإنهـم إن يعلمـوا بإسـلامي قبـل أن تسـألهم يبهتونـي، فجـاءت اليهـود فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ أي رجـل عبـد الله بـن سـلام فيكـم؟ }}
قالـوا: خيرنـا وابـن خيرنـا وسـيدنا وابـن سـيدنا.
قـال: {{ أرأيتـم إن أسـلم }}.
قالـوا: أعـاذه الله مـن ذلـك. فخـرج عبـد الله فقـال: أشـهد أن لا إلـه إلا الله وأشـهد أن محمـداً رسـول الله.
فقالـوا: هـو شـرنا وابـن شـرنا وانتقصـوه.
فقـال: هـذا الـذي كنـت أخـاف يـا رسـول الله.
وقـال آخـرون: بـل كـان سـبب ذلـك مـن أجـل مناظـرة جـرت بينهـم وبيـن عمـر بـن الخطـاب فـي أمـر النبـي صلـى الله عليـه وسـلم.
قـال عمـر: كنـت أشـهد اليهـود يـوم مدراسـهم، فأعجـب مـن التـوراة كيـف تصـدق القـرآن ومـن القـرآن كيـف يصـدق التـوراة فبينمـا أنـا عندهـم ذات يـوم قالـوا: يـا ابـن الخطـاب مـا مـن أصحابـك أحـد أحـب إلينـا منـك، ( قلـت ): ولـم ذلـك؟ قالـوا: لأنـك تغشـانا وتأتينـا، فقلـت: إنـي آتيكـم فأعجـب مـن القـرآن كيـف يصـدق التـوراة، ومـن التـوراة كيـف تصـدق القـرآن، قالـوا: ومـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فقالـوا: يـا ابـن الخطـاب ذاك صاحبكـم فالحـق بـه، قـال: فقلـت لهـم عنـد ذلـك: نشـدتكم بالله الـذي لا إلـه إلا هـو ومـا اسـتودعكم مـن كتابـه، هـل تعلمـون أنـه رسـول الله ؟ قـال: فسـكتوا، فقـال: لهـم عالمهـم وكبيرهـم: إنـه قـد غلَّـظ عليكـم فأجيبـوه، قالـوا: فأنـت عالمنـا وكبيرنـا فأجبـه أنـت، قـال: أمـا إذا نشـدتنا بمـا نشـدتنا فإنـا نعلـم أنـه رسـول الله، قلـت: ويحكـم إذاً هلكتـم، قالـوا: إنـا لـم نهلـك، قلـت: كيـف تعلمـون أنـه رسـول الله ولا تتبعونـه ولا تصدقونـه !! قالـوا: إن لنـا عـدواً مـن الملائكـة، وسِـلماً مـن الملائكـة، وإنـه قـرن بنبوتـه عدونـا مـن الملائكـة، قلـت ومـن عدوكـم ومـن سِـلمكم؟ قالـوا: عدونـا جبريـل، وسِـلمنا ميكائيـل، قالـوا: إن جبريـل ملـك الفظاظـة والغلظـة والإعسـار والتشـديد والعـذاب ونحـو ذلـك، وإن ميكائيـل ملـك الرحمـة والرأفـة، والتخفيـف ونحـو هـذا، قـال، قلـت: ومـا منزلتهمـا مـن ربهمـا عـز وجـل؟ قالـوا: أحدهمـا عـن يمينـه والآخـر عـن يسـاره، قـال، فقلـت: فـوالـذي لا إلـه إلا هـو إنهمـا _ والـذي بينهمـا _ لعـدو لمـن عاداهمـا وسِـلمٌ لمـن سـالمهما، ومـا ينبغـي لجبريـل أن يسـالم عـدو ميكائيـل، ومـا ينبغـي لميكائيـل أن يسـالم عـدو جبريـل، قـال: ثـم قمـت فاتبعـت النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فلحقتـه وهـو خـارج مـن خوخـة لنبـي فـلان، فقـال: {{ يـا بـن الخطـاب إلا أقرئـك آيـات نزلـن قبـل }} فقـرأ علـي: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) حتـى قـرأ الآيـات. قـال، قلـت: بأبـي أنـت وأمـي يـا رسـول الله والـذي بعثـك بالحـق لقـد جئـت أنـا أريـد أن أخبـرك وأنـا أسـمع اللطيـف الخبيـر قـد سـبقني إليـك بالخبـر.
وقـال ابـن جريـر: انطلـق عمـر بـن الخطـاب ذات يـوم إلـى اليهـود فلمـا انصـرف رحبـوا بـه، فقـال لهـم عمـر: أمـا والله مـا جئتكـم لحبكـم ولا لرغبـة فيكـم ولكـن جئـت لأسـمع منكـم، فسـألهم وسـألوه، فقالـوا: مـن صاحـب صاحبكـم؟ فقـال لهـم: جبرائيـل، فقالـوا: ذاك عدونـا مـن أهـل السـماء، يطلـع محمـداً علـى سـرنا، وإذا جـاء جـاء بالحـرب والسَـنَة (القحـط والجـدب)، ولكـن صاحـب صاحبنـا ميكائيـل إذا جـاء جـاء بالخصـب والسـلم، فقـال لهـم عمـر: هـل تعرفـون جبرائيـل وتنكـرون محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم، ففارقهـم عمـر عنـد ذلـك وتوجـه نحـو النبـي صلـى الله عليـه وسـلم ليحدثـه حديثهـم فوجـده قـد أنزلـت عليـه هـذه الآيـة: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) الآيـات.
وقـال ابـن جريـر عـن ابـن أبـي ليلـى فـي قولـه تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل )) قـال: قالـت اليهـود للمسـلمين: لـو أن (ميكائيـل) كـان هـو الـذي ينـزل عليكـم اتبعناكـم فإنـه ينـزل بالرحمـة والغيـث، وإن (جبرائيـل) ينـزل بالعـذاب والنقمـة فإنـه عـدو لنـا، قـال: فنزلـت هـذه الآيـة.
وأمـا تفسـير الآيـة فقولـه تعالـى: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) أي مـن عـادى جبرائيـل فليعلـم أنـه الـروح الأميـن، الـذي نـزل بالذكـر الحكيـم علـى قلبـك مـن الله بإذنـه لـه فـي ذلـك، فهـو رسـول مـن رسـل الله ملكـي، ومـن عـادى رسـولاً فقـد عـادى رسـولاً فقـد عـادى جميـع الرسـل، كمـا أن مـن آمـن برسـول فإنـه يلزمـه الإيمـان بجميـع الرسـل، وكذلـك مـن عـادى جبرائيـل فإنـه عـدو لله لأنـه لا ينـزل بالأمـر مـن تلقـاء نفسـه وإنمـا ينـزل بأمـر ربـه كمـا قـال: (( ومـا نتنـزل إلا بأمـر ربـك )) ، وقـال تعالـى: (( وإنـه لنتزيـل رب العالميـن . نـزل بـه الـروح الأميـن . علـى قلبـك لتكـون مـن المنذريـن )).
وقـد روى البخـاري فـي صحيحـه عـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن عـادى لـي وليـاً فقـد بارزنـي بالحـرب }} ولهـذا غضـب الله لجبرائيـل علـى مـن عـاداه، فقـال تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله مصدقـاً لمـا بيـن يديـه )) أي مـن الكتـب المتقدمـة (( وهـدى وبشـرى للمؤمنيـن )) أي هـدى لقلوبهـم، وبشـرى لهـم بالجنـة، وليـس ذلـك إلا للمؤمنيـن كمـا قـال تعالـى: (( قـل هـو للذيـن آمنـوا هـدى وشـفاء )) ، وقـال تعالـى: (( وننـزل مـن القـرآن مـا هـو شـفاء ورحمـة للمؤمنيـن )) ، ثـم قـال تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لله وملائكتـه وؤسـله وجبريـل وميكـال فـإن الله عـدو للكافريـن )). يقـول تعالـى: مـن عادانـي وملائكتـي ورسـلي _ ورسـله تشـمل رسـله مـن الملائكـة والبشـر. كمـا قـال تعالـى: (( الله يصطفـي مـن الملائكـة رسـلاً ومـن النـاس )) ، (( وجبريـل وميكـال )) وهـذا مـن بـأب عطـف الخـاص علـى العـام فإنهمـا دخـلا فـي الملائكـة فـي عمـوم الرسـل، ثـم خصصـا بالذكـر لأن السـياق فـي الانتصـار لجبرائيـل، وهـو سـفير بيـن الله وأنبيائـه، وقـرن معـه ميكائيـل فـي اللفـظ لأن اليهـود زعمـوا أن جبرائيـل عدوهـم، وميكائيـل وليهـم، فأعلمهـم الله تعالـى أن مـن عـادى واحـداً منهمـا فقـد عـادى الآخـر، وعـادى الله أيضـاً، ولأنـه أيضـاً ينـزل علـى أنبيـاء الله بعـض الأحيـان كمـا قـرن برسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي ابتـداء الأمـر، ولكـن جبرائيـل أكثـر وهـي وظيفتـه، وميكائيـل موكـل بالنبـات والقطـر. هـذا بالهـدى وهـذا بالـرزق، كمـا أن إسـرافيل موكـل بالنفـخ فـي الصـور للبعـث يـوم القيامـة، ولهـذا جـاء فـي الصحيـح أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان إذا قـام مـن الليـل يقـول: {{ اللهـم رب جبرائيـل وميكائيـل وإسـرافيل، فاطـر السـماوات والأرض، عالـم الغيـب والشـهادة، أنـت تحكـم بيـن عبـادك فيمـا كانـوا فيـه يختلفـون، اهدنـي لمـا اختلـف فيـه مـن الحـق بإذنـك إنـك تهـدي مـن تشـاء إلـى صـراط مسـتقيم }}.
عـن ابـن عبـاس قـال: إنمـا كـان قولـه جبرائيـل كقولـه عبـد الله وعبـد الرحمـن.
وقيـل جبـر: عبـد، وإيـل: الله.
وقولـه تعالـى: (( فـإن الله عـدو للكافريـن )) فيـه إيقـاع المظهـر مكـان المضمـر حيـث لـم يقـل (فإنـه عـدو) بـل قـال: (( فـإن الله عـدو للكافريـن )).
وإنمـا أظهـر الله هـذا الاسـم ههنـا تقريـر هـذا المعنـى وإظهـاره، وإعلامهـم أن مـن عـادى وليـاً لله فقـد عـادى الله، ومـن عـادى الله فـإن الله عـدو لـه، ومـن كـان الله عـدوه فقـد خسـر الدنيـا والآخـرة، كمـا تقـدم الحديـث: {{ مـن عـادى لـي وليـاً فقـد آذنتـه بالمحاربـة }} ، وفـي الحديـث الصحيـح: {{ مـن كنـت خصمـه خصمتـه }}.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 90 ، 91 ، 92 ، 93 ، 94 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
أخواتـي... صديقاتـي...
لا أعـرف إن كانـت كلمـات الأسـف والاعتـذار تكفـي لأكفـر عـن تقصيـري...
سـرقتني الامتحانـات... كنـت حبيسـة المحاضـرات والكتـب...
إن شـاء الله أعـوض مـا تأخـرت فيـه...
********************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( قُـل إن كانَـت لَكُـمُ الـدارُ الآخِـرَةُ عِنـدَ اللهِ خالِصَـةً مِـن دونِ النَّـاسِ فَتَمَنَّـوا المَـوتَ إن كُنتُـم صادِقيـنَ ولَـن يَتَمنَّونَـهُ أبَـداً بِمـا قدَّمَـت أيديهِـم وَاللهُ عليـمٌ بِالظالِميـنَ وَلَتَجِدَنَّهُـم أحـرَصَ النَّـاسِ علـى حَيـاةٍ وَمِـنَ الذيـنَ أشـرَكوا يَـوَدُّ أحَدُهُـم لَـو يُعمَّـرُ ألـفَ سَـنَةٍ وَمَـا هُـوَ بِمُزَحزِحِـهِ مِـنَ العـذابِ أن يُعَمَّـرَ وَاللهُ بَصيـر بِمـا يَعمَلـونَ )) / 96 /
يقـول الله تعالـى لنبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: (( قـل إن كانـت لكـم الـدار الآخـرة عنـد الله خالصـة مـن دون الله فتمنـوا المـوت إن كنتـم صادقيـن )) أي ادعـوا بالمـوت علـى أي الفريقيـن أكـذب، فأبـوا ذلـك علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم (( ولـن يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن )) أي يعلمهـم بمـا عندهـم مـن العلـم بـل والكفـر بذلـك ولـو تمنـوه يـوم قـال لهـم ذلـك مـا بقـي علـى الأرض يهـودي إلا مـات.
وقـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس: (( فتمنـوا المـوت )) فسـلوا المـوت.
قـال ابـن عبـاس: { لـو تمنـى يهـود المـوت لماتـوا ولـو تمنـوا المـوت لشـرق أحدهـم بريقـه }.
وقـال ابـن جريـر: وبلغنـا أن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ لـو أن اليهـود تمنـوا المـوت لماتـوا ولرأوا مقاعدهـم مـن النـار، ولـو خـرج الذيـن يباهـون رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم لرجعـوا لا يجـدون أهـلاً ولا مـالاً }}.
ونظيـر هـذه الآيـة قولـه تعالـى فـي سـورة الجمعـة: (( قـل يـا أيهـا الذيـن هـادوا إن زعمتـم أنكـم أوليـاء الله مـن دون النـاس فتمنـوا المـوت إن كنتـم صادقيـن . ولا يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن )) فهـم _ عليهـم لعائـن الله تعالـى _ لمـا زعمـوا أنهـم أبنـاء الله وأحبـاؤه وقالـوا: (( لـن يدخـل الجنـة إلا مـن كـان هـوداً أن نصـارى )) دعـوا إلـى المباهلـة والدعـاء علـى أكـذب الطائفتيـن منهـم أو مـن المسـلمين، فمـا نكلـوا عـن ذلـك علـم كـل أحـد أنهـم ظالمـون، لأنهـم لـو كانـوا جازميـن بمـا هـم فيـه لكانـوا أقدمـوا علـى ذلـك، فلمـا تأخـروا علـم كذبهـم.
وهـذا كمـا دعـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وفـد نجـران مـن النصـارى بعـد قيـام الحجـة عليهـم فـي المناظـرة، وعتوهـم وعنادهـم إلـى المباهلـة، فقـال تعالـى: (( فقـل تعالـوا نـدع أبناءنـا وأبناؤكـم ونسـاءنا ونسـاءكم وأنفسـنا وأنفسـكم ثـم نبتهـل فنجعـل لعنـة الله علـى الكاذبيـن )).
فلمـا رأوا ذلـك قـال بعـض القـول لبعـض: والله لئـن باهلتـم هـذا النبـي لا يبقـى منكـم عبـن تطـرف، فعنـد ذلـك جنحـوا للسـلم وبذلـوا الجزيـة عـن يـد وهـم صاغـرون.
والمعنـى إن كنتـم تعتقـدون أنكـم أوليـاء الله مـن دون النـاس، وأنكـم أبنـاء الله وأحبـاؤه، وأنكـم مـن أهـل الجنـة ومـن عداكـم مـن أهـل النـار، فباهلـوا علـى ذلـك وادعـوا علـى الكاذبيـن منكـم أو مـن غيركـم، وأعلمـوا أن المباهلـة تسـتأصل الكـاذب لا محالـة، فلمـا تيقنـوا ذلـك وعرفـوا صدقـه نكلـوا عـن المباهلـة، لمـا يعلمـون مـن كذبهـم وافتراءهـم، وكتمانهـم الحـق مـن صفـة الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم ونعتـه، وهـم يعرفونـه كمـا يعرفـون أبناءهـم ويتحققونـه، فعلـم كـل أحـد باطلهـم وخزيهـم وضلالهـم وعنادهـم، عليهـم لعائـن الله المتتابعـة إلـى يـوم القيامـة.
//// المباهلـة: الملاعنـة، وباهـل بعضهـم بعضـاً: اجتمعـوا فتداعـوا فاسـتنزلوا لعنـة الله علـى الظالـم منهـم. ////
وسـميت هـذه مباهلـة تمنيـاً لأن كـل محـق يـود لـو أهلـك الله المبطـل المناظـر لـه، ولاسـيما إذا كـان فـي ذلـك حجـة بـه فـي بيـان حقـه وظهـوره، وكانـت المباهلـة بالمـوت، ولهـذا قـال تعالـى: (( ولـن يتمنونـه أبـداً بمـا قدمـت أيديهـم والله عليـم بالظالميـن . ولتجدنهـم أحـرص النـاس علـى حيـاة )) أي علـى طـول العمـر لمـا يعلمـون مـن مآلهـم السـيئ وعاقبتهـم عنـد الله الخاسـرة لأن الدنيـا سـجن المؤمـن وجنـة الكافـر، فهـم يـودون لـو تأخـروا عـن مقـام الآخـرة بكـل أمكنهـم ومـا يحـاذرون منـه واقـع بهـم لا محالـة، حتـى وهـم أحـرص مـن المشـركين الذيـن لا كتـاب لهـم، وهـذا مـن بـاب عطـف الخـاص علـى العـام.وقـال الحسـن البصـري: (( ولتجدنهـم أحـرص النـاس علـى حيـاة )) المنافـق أحـرص النـاس، وأحـرص مـن المشـرك علـى الحيـاة.
(( يـود أحدهـم )) أي يـود أحـد اليهـود لـو يعمـر ألـف سـنة.
(( ومـا هـو بمزحزحـه مـن العـذاب أن يعمـر )) أي ومـا هـو بمنجيـه مـن العـذاب، وذلـك أن المشـرك لا يرجـوا بعثـاً بعـد المـوت، فهـو يحـب طـول الحيـاة، وأن اليهـودي قـد عـرف مـا لـه فـي الآخـرة مـن الخـزي بمـا ضيـع مـا عنـده مـن العلـم فمـا ذلـك بمغيثـه مـن العـذاب ولا منجيـه منـه.
(( والله بصيـر بمـا يعملـون )) أي خبيـر بصيـر بمـا يعمـل عبـاده مـن خيـر وشـر، وسـيجازي كـل عامـل بعملـه.
(( قُـل مَـن كـانَ عَـدوَّاً لِجِبريـلَ فَإِنَّـهُ نزَّلَـهُ علـى قَلبِـكَ بِـإذنِ اللهِ مُصدِّقـاً لِمـا بَيـنَ يَديـهِ وَهـدىً وَبشـرى لِلمؤمِنيـنَ مَـن كـانَ عَـدوَّاً للهِ وَملائِكَتِـهِ وَرُسُـلِهِ وَجِبريـلَ وَميكـالَ فَـإنَّ اللهَ عَـدوٌّ لِلكافرِيـنَ )) / 98 /
قـال أبـو جعفـر الطبـري رحمـه الله: أجمـع أهـل العلـم بالتأويـل جميعـاً أن هـذه الآيـة نزلـت
جوابـاً لليهـود مـن بنـي إسـرائيل إذ زعمـوا أن جبريـل عـدو لهـم، وأن ميكائيـل ولـي لهـم، ثـم اختلفـوا فـي السـبب الـذي مـن أجلـه قالـوا ذلـك، فقـال بعضهـم: إنمـا كـان سـبب قيلهـم ذلـك مـن أجـل مناظـرة جـرت بينهـم وبيـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي أمـر نبوتـه.
عـن ابـن عبـاس قـال: أقبلـت يهـود علـى رسـول صلـى الله عليـه وسـلم فقالـوا: يـا أبـا القاسـم أخبرنـا عـن خمسـة أشـياء فـإن أنبأتنـا بهـن عرفنـا أنـك نبـي واتبعنـاك، فأخـذ عليهـم مـا أخـذ إسـرائيل علـى نبيـه إذ قـال: (( والله علـى مـا نقـول وكيـل )).
قـال: {{ هاتـوا }}.
قالـوا: فأخبرنـا عـن علامـة النبـي ؟
قـال: {{ تنـام عينـاه ولا ينـام قلبـه }} .
قالـوا: أخبرنـا كيـف تؤنـث المـرأة وكيـف تذكـر ؟
قـال: {{ يلتقـي المـاء فـإذا عـلا مـاء الرجـل مـاء المـرأة أذكـرت، وإذا عـلا مـاء المـرأة مـاء الرجـل أنثـت }}.
قالـوا: أخبرنـا مـا حـرم إسـرائيل علـى نفسـه ؟
قـال: {{ كـان يشـتكي عـرق النسـاء فلـم يجـد شـيئاً يلائمـه إلا ألبـان كـذا }}، قـال أحمـد، قـال بعضهـم: يعنـي الإبـل فحـرم لحومهـا.
قالـوا: صدقـت. قالـوا: أخبرنـا مـا هـذا الرعـد ؟
قـال: {{ ملـك مـن الملائكـة الله عـز وجـل موكـل بالسـحاب بيديـه أو فـي يديـه مخـراق مـن نـار يزجـر بـه السـحاب يسـوقه حيـق أمـره الله تعالـى }}.
قالـوا: فمـا هـذا الصـوت الـذي نسـمع ؟
قـال: {{ صوتـه }}.
قالـوا: صدقـت. قالـوا: إنمـا بقيـت واحـدة وهـي التـي نتابعـك إن أخبرتنـا بهـا، إنـه ليـس مـن نبـي إلا ولـه ملـك يأتيـه بالخبـر فأخبرنـا مـن صاحبـك ؟
قـال: {{ جبريـل عليـه السـلام }}.
قالـوا: جبريـل ذاك الـذي ينـزل بالحـرب والقتـال والعـذاب عدونـا، لـو قلـت ميكائيـل الـذي ينـزل بالرحمـة والقطـر والنبـات لكـان، فأنـزل الله تعالـى: (( قـال مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) إلـى آخـر الآيـة.
وفـي الروايـة: إن يهـود سـألوا النبـي صلـى الله عليـه وسـلم عـن صاحبـه الـذي ينـزل عليـه بالوحـي.
قـال: {{ جبريـل }}.
قالـوا: فإنـه عـدو لنـا ولا يأتـي إلا بالحـرب والشـدة والقتـال.
فنزلـت: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل )) الآيـة.
وأخـرج البخـاري: عـن أنـس بـن مالـك قـال: سـمع ( عبـد الله بـن سـلام ) بمقـدم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وهـو فـي أرض يختـرف فأتـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فقـال: إنـي سـائلك عـن ثـلاث لا يعلمهـن إلا نبـي: مـا أول أشـراط السـاعة، ومـا أول طعـام أهـل الجنـة، ومـا ينـزع الولـد إلـى أبيـه أو إلـى أمـه ؟ فقـال: {{ أخبرنـي بهـذا جبريـل آنفـاً }}.
قـال: جبريـل ؟
قـال: {{ نعـم }}.
قـال: ذاك عـدو اليهـود مـن الملائكـة فقـرأ هـذه الآيـة: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فأنـه نزلـه علـى قلبـك )).
{{ وأمـا أول أشـراط السـاعة فنـار تحشـر النـاس مـن المشـرق إلـى المغـرب، وأمـا أول أول طعـام يأكلـه أهـل الجنـة فزيـادة كبـد الحـوت، وإذا سـبق مـاء الرجـل مـاء المـرأة نـزع الولـد وإذا سـبق مـاء المـرأة نزعـت }}.
قـال: أشـهد أن لا إلـه إلا الله وأنـك رسـول الله، يـا رسـول الله إن اليهـود قـوم بُهْـتٌ وإنهـم إن يعلمـوا بإسـلامي قبـل أن تسـألهم يبهتونـي، فجـاءت اليهـود فقـال لهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ أي رجـل عبـد الله بـن سـلام فيكـم؟ }}
قالـوا: خيرنـا وابـن خيرنـا وسـيدنا وابـن سـيدنا.
قـال: {{ أرأيتـم إن أسـلم }}.
قالـوا: أعـاذه الله مـن ذلـك. فخـرج عبـد الله فقـال: أشـهد أن لا إلـه إلا الله وأشـهد أن محمـداً رسـول الله.
فقالـوا: هـو شـرنا وابـن شـرنا وانتقصـوه.
فقـال: هـذا الـذي كنـت أخـاف يـا رسـول الله.
وقـال آخـرون: بـل كـان سـبب ذلـك مـن أجـل مناظـرة جـرت بينهـم وبيـن عمـر بـن الخطـاب فـي أمـر النبـي صلـى الله عليـه وسـلم.
قـال عمـر: كنـت أشـهد اليهـود يـوم مدراسـهم، فأعجـب مـن التـوراة كيـف تصـدق القـرآن ومـن القـرآن كيـف يصـدق التـوراة فبينمـا أنـا عندهـم ذات يـوم قالـوا: يـا ابـن الخطـاب مـا مـن أصحابـك أحـد أحـب إلينـا منـك، ( قلـت ): ولـم ذلـك؟ قالـوا: لأنـك تغشـانا وتأتينـا، فقلـت: إنـي آتيكـم فأعجـب مـن القـرآن كيـف يصـدق التـوراة، ومـن التـوراة كيـف تصـدق القـرآن، قالـوا: ومـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فقالـوا: يـا ابـن الخطـاب ذاك صاحبكـم فالحـق بـه، قـال: فقلـت لهـم عنـد ذلـك: نشـدتكم بالله الـذي لا إلـه إلا هـو ومـا اسـتودعكم مـن كتابـه، هـل تعلمـون أنـه رسـول الله ؟ قـال: فسـكتوا، فقـال: لهـم عالمهـم وكبيرهـم: إنـه قـد غلَّـظ عليكـم فأجيبـوه، قالـوا: فأنـت عالمنـا وكبيرنـا فأجبـه أنـت، قـال: أمـا إذا نشـدتنا بمـا نشـدتنا فإنـا نعلـم أنـه رسـول الله، قلـت: ويحكـم إذاً هلكتـم، قالـوا: إنـا لـم نهلـك، قلـت: كيـف تعلمـون أنـه رسـول الله ولا تتبعونـه ولا تصدقونـه !! قالـوا: إن لنـا عـدواً مـن الملائكـة، وسِـلماً مـن الملائكـة، وإنـه قـرن بنبوتـه عدونـا مـن الملائكـة، قلـت ومـن عدوكـم ومـن سِـلمكم؟ قالـوا: عدونـا جبريـل، وسِـلمنا ميكائيـل، قالـوا: إن جبريـل ملـك الفظاظـة والغلظـة والإعسـار والتشـديد والعـذاب ونحـو ذلـك، وإن ميكائيـل ملـك الرحمـة والرأفـة، والتخفيـف ونحـو هـذا، قـال، قلـت: ومـا منزلتهمـا مـن ربهمـا عـز وجـل؟ قالـوا: أحدهمـا عـن يمينـه والآخـر عـن يسـاره، قـال، فقلـت: فـوالـذي لا إلـه إلا هـو إنهمـا _ والـذي بينهمـا _ لعـدو لمـن عاداهمـا وسِـلمٌ لمـن سـالمهما، ومـا ينبغـي لجبريـل أن يسـالم عـدو ميكائيـل، ومـا ينبغـي لميكائيـل أن يسـالم عـدو جبريـل، قـال: ثـم قمـت فاتبعـت النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فلحقتـه وهـو خـارج مـن خوخـة لنبـي فـلان، فقـال: {{ يـا بـن الخطـاب إلا أقرئـك آيـات نزلـن قبـل }} فقـرأ علـي: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) حتـى قـرأ الآيـات. قـال، قلـت: بأبـي أنـت وأمـي يـا رسـول الله والـذي بعثـك بالحـق لقـد جئـت أنـا أريـد أن أخبـرك وأنـا أسـمع اللطيـف الخبيـر قـد سـبقني إليـك بالخبـر.
وقـال ابـن جريـر: انطلـق عمـر بـن الخطـاب ذات يـوم إلـى اليهـود فلمـا انصـرف رحبـوا بـه، فقـال لهـم عمـر: أمـا والله مـا جئتكـم لحبكـم ولا لرغبـة فيكـم ولكـن جئـت لأسـمع منكـم، فسـألهم وسـألوه، فقالـوا: مـن صاحـب صاحبكـم؟ فقـال لهـم: جبرائيـل، فقالـوا: ذاك عدونـا مـن أهـل السـماء، يطلـع محمـداً علـى سـرنا، وإذا جـاء جـاء بالحـرب والسَـنَة (القحـط والجـدب)، ولكـن صاحـب صاحبنـا ميكائيـل إذا جـاء جـاء بالخصـب والسـلم، فقـال لهـم عمـر: هـل تعرفـون جبرائيـل وتنكـرون محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم، ففارقهـم عمـر عنـد ذلـك وتوجـه نحـو النبـي صلـى الله عليـه وسـلم ليحدثـه حديثهـم فوجـده قـد أنزلـت عليـه هـذه الآيـة: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) الآيـات.
وقـال ابـن جريـر عـن ابـن أبـي ليلـى فـي قولـه تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل )) قـال: قالـت اليهـود للمسـلمين: لـو أن (ميكائيـل) كـان هـو الـذي ينـزل عليكـم اتبعناكـم فإنـه ينـزل بالرحمـة والغيـث، وإن (جبرائيـل) ينـزل بالعـذاب والنقمـة فإنـه عـدو لنـا، قـال: فنزلـت هـذه الآيـة.
وأمـا تفسـير الآيـة فقولـه تعالـى: (( قـل مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله )) أي مـن عـادى جبرائيـل فليعلـم أنـه الـروح الأميـن، الـذي نـزل بالذكـر الحكيـم علـى قلبـك مـن الله بإذنـه لـه فـي ذلـك، فهـو رسـول مـن رسـل الله ملكـي، ومـن عـادى رسـولاً فقـد عـادى رسـولاً فقـد عـادى جميـع الرسـل، كمـا أن مـن آمـن برسـول فإنـه يلزمـه الإيمـان بجميـع الرسـل، وكذلـك مـن عـادى جبرائيـل فإنـه عـدو لله لأنـه لا ينـزل بالأمـر مـن تلقـاء نفسـه وإنمـا ينـزل بأمـر ربـه كمـا قـال: (( ومـا نتنـزل إلا بأمـر ربـك )) ، وقـال تعالـى: (( وإنـه لنتزيـل رب العالميـن . نـزل بـه الـروح الأميـن . علـى قلبـك لتكـون مـن المنذريـن )).
وقـد روى البخـاري فـي صحيحـه عـن أبـي هريـرة قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن عـادى لـي وليـاً فقـد بارزنـي بالحـرب }} ولهـذا غضـب الله لجبرائيـل علـى مـن عـاداه، فقـال تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لجبريـل فإنـه نزلـه علـى قلبـك بـإذن الله مصدقـاً لمـا بيـن يديـه )) أي مـن الكتـب المتقدمـة (( وهـدى وبشـرى للمؤمنيـن )) أي هـدى لقلوبهـم، وبشـرى لهـم بالجنـة، وليـس ذلـك إلا للمؤمنيـن كمـا قـال تعالـى: (( قـل هـو للذيـن آمنـوا هـدى وشـفاء )) ، وقـال تعالـى: (( وننـزل مـن القـرآن مـا هـو شـفاء ورحمـة للمؤمنيـن )) ، ثـم قـال تعالـى: (( مـن كـان عـدواً لله وملائكتـه وؤسـله وجبريـل وميكـال فـإن الله عـدو للكافريـن )). يقـول تعالـى: مـن عادانـي وملائكتـي ورسـلي _ ورسـله تشـمل رسـله مـن الملائكـة والبشـر. كمـا قـال تعالـى: (( الله يصطفـي مـن الملائكـة رسـلاً ومـن النـاس )) ، (( وجبريـل وميكـال )) وهـذا مـن بـأب عطـف الخـاص علـى العـام فإنهمـا دخـلا فـي الملائكـة فـي عمـوم الرسـل، ثـم خصصـا بالذكـر لأن السـياق فـي الانتصـار لجبرائيـل، وهـو سـفير بيـن الله وأنبيائـه، وقـرن معـه ميكائيـل فـي اللفـظ لأن اليهـود زعمـوا أن جبرائيـل عدوهـم، وميكائيـل وليهـم، فأعلمهـم الله تعالـى أن مـن عـادى واحـداً منهمـا فقـد عـادى الآخـر، وعـادى الله أيضـاً، ولأنـه أيضـاً ينـزل علـى أنبيـاء الله بعـض الأحيـان كمـا قـرن برسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فـي ابتـداء الأمـر، ولكـن جبرائيـل أكثـر وهـي وظيفتـه، وميكائيـل موكـل بالنبـات والقطـر. هـذا بالهـدى وهـذا بالـرزق، كمـا أن إسـرافيل موكـل بالنفـخ فـي الصـور للبعـث يـوم القيامـة، ولهـذا جـاء فـي الصحيـح أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم كـان إذا قـام مـن الليـل يقـول: {{ اللهـم رب جبرائيـل وميكائيـل وإسـرافيل، فاطـر السـماوات والأرض، عالـم الغيـب والشـهادة، أنـت تحكـم بيـن عبـادك فيمـا كانـوا فيـه يختلفـون، اهدنـي لمـا اختلـف فيـه مـن الحـق بإذنـك إنـك تهـدي مـن تشـاء إلـى صـراط مسـتقيم }}.
عـن ابـن عبـاس قـال: إنمـا كـان قولـه جبرائيـل كقولـه عبـد الله وعبـد الرحمـن.
وقيـل جبـر: عبـد، وإيـل: الله.
وقولـه تعالـى: (( فـإن الله عـدو للكافريـن )) فيـه إيقـاع المظهـر مكـان المضمـر حيـث لـم يقـل (فإنـه عـدو) بـل قـال: (( فـإن الله عـدو للكافريـن )).
وإنمـا أظهـر الله هـذا الاسـم ههنـا تقريـر هـذا المعنـى وإظهـاره، وإعلامهـم أن مـن عـادى وليـاً لله فقـد عـادى الله، ومـن عـادى الله فـإن الله عـدو لـه، ومـن كـان الله عـدوه فقـد خسـر الدنيـا والآخـرة، كمـا تقـدم الحديـث: {{ مـن عـادى لـي وليـاً فقـد آذنتـه بالمحاربـة }} ، وفـي الحديـث الصحيـح: {{ مـن كنـت خصمـه خصمتـه }}.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 90 ، 91 ، 92 ، 93 ، 94 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
أختـي المـلاك الصغيـر...
أشـكرك علـى كلماتـك الجميلـة...
لطالمـا نـورت كلماتـك صفحاتـي...
سـلمت لـي يـا أختـاه...
***************************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( وَلَقَـد أَنزَلنَـا إِلَيـكَ آيـاتٍ بيّنـاتٍ وَمَـا يَكفُـرُ بِهـا إِلا الفاسِـقونَ (99) أَوَ كُلَّمـا عاهَـدُوا عَهـداً نَّبَـذَهُ فَريـقٌ مِنهُـم بَـل أَكثَرهُـم لا يُؤمِنـونَ (100) ولمَّـا جاءَهُـم رَسـولٌ مِـن عِنـدِ اللهِ مُصَـدِّقٌ لِمـا مَعَهُـم نَبَـذَ فَريـقٌ مِـنَ الّذيـنَ أوتـوا الكِتـابَ كِتـابَ اللهِ وَراءَ ظُهورِهِـم كأنَّهُـم لا يَعلَمـونَ (101) واتَّبعـوا مَـا تَتلـوا الشّـياطينُ علـى مُلـكِ سُـلَيمانَ وَمـا كَفَـرَ سُـليمانُ ولَكِـنَّ الشَـياطينَ كَفَـروا يُعلِّمـونَ النَّـاسَ السِّـحرَ وَمـا أُنـزِلَ علـى المَلَكَيـنِ بِبابِـلَ هـاروتَ وَمـاروتَ وَمـا يُعَلِّمـانِ مِـن أَحَـدٍ حتـى يَقـولا إِنَّمـا نَحْـنُ فِتنَـةٌ فَـلا تَكفُـر فَيتَعلَّمـونَ مِنهُمـا مـا يُفَرِقـون بِـهِ بَيـنَ المَـرءِ وَزَوجِـهِ وَمـا هُـم بِضارّيـنَ بِـهِ مِـن أَحَـدٍ إِلا بِـإِذنِ اللهِ ويَتَعلَّمـونَ مـا يَضُرُّهُـم وَلا يَنفَعُهُـم وَلَقَـد عَلِمـوا لَمَـنِ اشـتَراهُ مـا لَـهُ فـي الآخِـرَةِ مِـن خَـلاقٍ وَلَبِئـسَ مـا شَـرَوا بِـهِ أَنفُسَـهُم لَـو كانـوا يَعلَمـونَ (102) وَلـو أَنَّهُـم آمنـوا وَاتَّقَـوا لَمَثوبَـةٌ مِـن عِنـدِ اللهِ خيـرٌ لَّـو كانـوا يَعلَمـونَ )) / 103 /
قولـه تعالـى: (( ولقـد أنزلنـا إليـك آيـات بينـات )) الآيـة. أي أنزلنـا إليـك يـا محمـد علامـات واضحـات، دالات علـى نبوتـك، وتلـك الآيـات هـي مـن مـا حـواه كتـاب الله مـن خفايـا علـوم اليهـود، ومكنونـات سـرائر أخبارهـم، وأخبـار أوائلهـم مـن بنـي إسـرائيل، والنبـأ عمـا تضمنتـه كتبهـم التـي لـم يكـن يعلمهـا إلا أحبارهـم وعلماؤهـم، ومـا حرفـه أوائلهـم وأواخرهـم وبدلـوه مـن أحكامهـم التـي كانـت فـي التـوراة، فأطلـع الله فـي كتابـه الـذي أنزلـه علـى نبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، فكـان فـي ذلـك مـن أمـره الآيـات البينـات لمـن أنصـف مـن نفسـه، ولـم يدعهـا إلـى هلاكهـا الحسـد والبغـي.
عـن ابـن عبـاس قـال: قـال ابـن صوريـا القطوينـي لرسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: يـا محمـد مـا جئتنـا بشـيء نعرفـه، ومـا أنـزل الله عليـك مـن آيـة بينـة فنتبعـك، فأنـزل الله فـي ذلـك: (( ولقـد أنزلنـا إليـك آيـات بينـات ومـا يكفـر بهـا إلا الفاسـقون )).
وقـال مالـك بـن الصيـف حيـن بعـث رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وذكرهـم مـا أخـذ عليهـم مـن ميثـاق، ومـا عهـد إليهـم فـي محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: والله مـا عهـد إلينـا فـي محمـد، ومـا أُخـذ علينـا الميثـاق، فأنـزل الله تعالـى: (( أو كلمـا عاهـدوا عهـداً نبـذه فريـق منهـم )).
وقـال الحسـن البصـري فـي قولـه: (( بـل أكثرهـم لا يؤمنـون )) قـال: نعـم ليـس فـي الأرض عهـد يعاهـدون عليـه إلا نقضـوه ونبـذوه، يعاهـدون اليـوم وينقضـون غـداً.
وقـال السـدي: لا يؤمنـون بمـا جـاء بـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
وقـال قتـادة: (( نبـذه فريـق منهـم )) أي نقضـه فريـق منهـم.
وقـال جريـر: أصـل النبـذ الطـرح والإلقـاء، ومنـه سـمي اللقيـط المنبـوذ، ومنـه سـمي النبيـذ _ وهـو التمـر والزبيـب _ إذا طرحـا فـي المـاء.
قلـت: فالقـوم ذمهـم الله بنبذهـم العهـود التـي تقـدم الله إليهـم فـي التمسـك بهـا والقيـام بحقهـا، ولهـذا أعقبهـم ذلـك التكذيـب بالرسـول المبعـوث إليهـم وإلـى النـاس كافـة، الـذي فـي كتبهـم نعتـه وصفتـه وأخبـاره، وقـد أمـروا فيهـا باتباعـه ومؤازرتـه ونصرتـه كمـا قـال تعالـى: (( الذيـن يتبعـون الرسـول النبـي الأمـي الـذي يجدونـه مكتوبـاً عندهـم فـي التـوراة والإنجيـل )).
وقـال ههنـا: (( ولمـا جاءهـم رسـولٌ مـن عنـد الله مصدقـاً لمـا معهـم )) الآيـة، أي طـرح طائفـة منهـم كتـاب الله الـذي بأيديهـم ممـا فيـه البشـارة بمحمـد صلـى الله عليـه وسـلم وراء ظهورهـم، أي تركوهـا كأنهـم لا يعلمـون مـا فيهـا وأقبلـوا علـى تعلـم السـحر واتباعـه، ولهـذا أرادوا كيـداً برسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وسـحروه فـي مُشْـط ومُشَـاقة وجُـفّ طلعـت ذَكَـرٍ تحـت راعوفـة ببئـر أروان، وكـان الـذي تولـى ذلـك منهـم رجـل يقـال لـه (لبيـد بـن الأعصـم) لعنـه الله وقبحـه، فأطلـع الله علـى ذلـك رسـوله صلـى الله عليـه وسـلم وشـفاه منـه وأنقـذه، كمـا ثبـت ذلـك مبسـوطاً فـي الصحيحيـن كمـا سـيأتي بيانـه.
قـال السـدي: (( ولمـا جاءهـم رسـول مـن عنـد الله مصـدق لمـا معهـم )) قـال: لمـا جائهـم محمـد صلـى الله عليـه وسـلم عارضـوه بالتـوراة فخاصمـوه بهـا، فاتفقـت التـوراة والقـرآن فنبـذوا التـوراة، وأخـذوا بكتـاب آصـف وسـحر هـاروت ومـاروت فلـم يوافـق القـرآن، فذلـك قولـه: (( كأنهـم لا يعلمـون )).
وقـال قتـادة فـي قولـه: (( كأنهـم لا يعلمـون )) قـال: إن القـوم كانـوا يعملـون ولكنهـم نبـذوا علمهـم وكتمـوه وجحـدوا بـه.
عـن ابـن عبـاس قـال: كـان آصـف كاتـب سـليمان وكـان يعلـم الاسـم الأعظـم، وكـان يكتـب كـل شـيء بأمـر سـليمان ويدفنـه تحـت كرسـيه، فلمـا مـات سـليمان أخرجتـه الشـياطين فكتبـوا بيـن كـل سـطرين سـحراً وكفـراً، وقالـوا هـذا الـذي كـان سـليمان يعمـل بهـا. قـال: فأكفـره جهـال النـاس وسـبّوه، ووقـف علمـاء النـاس، فلـم يـزل جهـال النـاس يسـبّونه حتـى أنـزل الله علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: (( واتبعـوا مـا تتلـوا الشـياطين علـى ملـك سـليمان )) أي علـى عهـد سـليمان، قـال: كانـت الشـياطين تصعـد إلـى السـماء فتقعـد منهـا مقاعـد للسـمع، فيسـتمعون مـن كـلام الملائكـة مـا يكـون فـي الأرض مـن مـوت أو غيـب أو أمـر، فيأتـون الكهنـة فيخبرونهـم فتحـدث الكهنـة النـاس فيجدونـه كمـا قالـوا، فلمـا أمنتهـم الكهنـة كذبـوا لهـم وأدخلـوا فيـه غيـره، فـزادوا مـع كـل كلمـة سـبعين كلمـة فاكتتـب النـاس ذلـك الحديـث فـي الكتـب، وفشـا ذلـك فـي بنـي إسـرائيل أن الجـن تعلـم الغيـب، فبعـث سـليمان فـي النـاس فجمـع تلـك الكتـب فجعلهـا فـي صنـدوق ثـم دفنهـا تحـت كرسـيه، ولـم يكـن أحـد مـن الشـياطين يسـتطيع أن يدنـو مـن الكرسـي إلا احتـرق، وقـال: لا أسـمع أحـداً يذكـر أن الشـياطين يعلمـون الغيـب إلا ضربـت عنقـه، فلمـا مـات سـليمان وذهبـت العلمـاء الذيـن كانـوا يعرفـون أمـر سـليمان، وخلـف مـن بعـد ذلـك خلـف، تمثـل الشـيطان فـي صـورة إنسـان، ثـم أتـى نفـراً مـن بنتي إسـرائيل فقـال لهـم: هـل أدلكـم علـى كنـز لا تأكلونـه أبـداً (أي لا ينفـذ بالأكـل منـه) ، قالـوا: نعـم، قـال: فاحفـروا تحـت الكرسـي، فذهـب معهـم وأراهـم المكـان وقـام ناحيتـه، فحفـروا فوجـدوا تلـك الكتـب، فلمـا أخرجوهـا قـال الشـيطان: إن سـليمان إنمـا كـان يضبـط الإنـس والشـياطين والطيـر بهـذه السـحر ثـم ذهـب، وفشـا فـي النـاس أن سـليمان كـان سـاحراً، واتخـذ بنـو إسـرائيل تلـك الكتـب، فلمـا جـاء محمـد صلـى الله عليـه وسـلم خاصمـوه بهـا فذلـك حيـن يقـول الله تعالـى: (( ومـا كفـر سـليمان ولكـن الشـياطين كفـروا )).
وقـال سـعيد بـن جبيـر: كـان سـليمان يتتبـع مـا فـي أيـدي الشـياطين مـن السـحر فيأخـذه منهـم، فيدفنـه تحـت كرسـيه فـي بيـت خزانتـه، فلـم تقـدر الشـياطين أن يصلـوا إليـه فدنـت إلـى الإنـس فقالـوا لهـم: أتـدرون مـا العلـم الـذي كـان سـليمان يسـخر بـه الشـياطين والريـاح وغيـر ذلـك؟ قالـوا: نعـم، قالـوا: فإنـه فـي بيـت خزانتـه وتحـت كرسـيه، فاسـتخرجوه وعملـوا بـه، فأنـزل الله تعالـى علـى نبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم بـراءة سـليمان عليـه السـلام، فقـال تعالـى: (( واتبعـوا مـا تتلـوا الشـياطين علـى ملـك سـليمان ومـا كفـر سـليمان ولكـن الشـياطين كفـروا )).
لمـا ذكـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فيمـا نـزل عليـه مـن الله (سـليمان بـن داوود) وعـدّه فيمـن عـد مـن المرسـلين، قـال مـن كـان بالمدينـة مـن اليهـود: ألا تعجبـون مـن محمـد؟ يزعـم أن ابـن داوود كـان نبيـاً والله مـا كـان إلا سـاحراً، وأنـزل الله: (( ومـا كفـر سـليمان ولكـن الشـياطين كفـروا )) الآيـة.
وروي أنـه لمـا مـات سـليمان عليـه السـلام قـام إبليـس _ لعنـه الله _ خطيبـاً فقـال: أيهـا النـاس إن سـليمان لـم يكـن نبيـاً إنمـا كـان سـاحراً فالتمسـوا سـحره فـي متاعـه وبيوتـه، ثـم دلهـم علـى المكـان الـذي دفـن فيـه، فقالـوا: والله لقـد كـان سـليمان سـاحراً، هـذا سـحرهُ بهـذا تعبَّدنـا وبهـذا قهرنـا، فقـال المؤمنـون: بـل كـان نبيـاً مؤمنـاً.
فلمـا بعـث الله النبـي محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم وذكـر داوود وسـليمان، فقالـت اليهـود: انظـروا إلـى محمـد يخلـط الحـق الباطـل، بذكـر سـليمان مـع الأنبيـاء إنمـا كـان سـاحراً يركـب الريـح، فأنـزل الله تعالـى: (( واتبعـوا مـا تتلـو الشـياطين علـى ملـك سـليمان ومـا كفـر سـليمان )) الآيـة.
وقولـه تعالـى: (( واتبعـوا مـا تتلـوا الشـياطين علـى ملـك سـليمان )) أي اتبعـت اليهـود الذيـن أوتـوا الكتـاب مـن بعـد إعراضهـم عـن كتـاب الله الـذي بأيديهـم ومخالفتهـم لرسـول الله محمـد صلـى الله عليـه وسـلم مـا تتلـوه الشـياطين أي مـا ترويـه وتخبـر بـه وتحدثـه الشـياطين علـى ملـك سـليمان، وعـدّاه بـ علـى لأنـه تضمـن (( تتلـو )) تكـذب.
وقـال جريـر: (( علـى )) ههنـا بمعنـى فـي، أي تتلـو فـي ملـك سـليمان. ونقلـه عـن ابـن جريـج وابـن إسـحاق.
(قلـت): والمتضمـن أحـن وأولـى، والله أعلـم.
وقـول حسـن البصـري رحمـه الله: _ وكـان السـحر قبـل زمـن سـليمان _ صحيـحٌ لا شـك فيـه، لأن السـحرة كانـوا فـي زمـان موسـى عليـه السـلام وسـليمان بـن داوود بعـده كمـا قـال تعالـى: (( ألـم تـر إلـى المـلأ مـن ينـي إسـرائيل مـن بعـد موسـى )) الآيـة، ثـم ذكـر القصـة بعدهـا، وفيهـا: (( وقتـل داوود جالـوت وآتـاه الله الملـك والحكمـة )).
وقـال قـوم صالـح _ وهـم قبـل إبراهيـم الخليـل عليـه السـلام _ لنبيهـم صالـح إنمـا (( أنـت مـن المسـحّرين )) أي المسـحورين علـى المشـهور.
وقولـه تعالـى: (( ومـا أنـزل علـى الملكيـن ببابـل هـاروت ومـاروت ومـا يعلمـان مـن أحـد حتـى يقـولا إنمـا نحـن فتنـة فـلا تكفـر فيتعلمـون منهمـا مـا يفرقـون بـه بيـن المـرء وزوجـه )) اختلـف النـاس فـي هـذا المقـام، فذهـب بعضهـم إلـى أن "" مـا "" نافيـة أعنـي التـي فـي قولـه: (( ومـا أنـزل علـى الملكيـن )).
قـال القرطبـي: "" مـا "" نافيـة ومعطـوف علـى قولـه (( ومـا كفـر سـليمان ))، ثـم قـال: (( ولكـن الشـياطين كفـروا يعلمـون النـاس السـحر ومـا أنـزل علـى الملكيـن ))، وذلـك أن اليهـود كانـوا يزعمـون أنـه نـزل بـه جبريـل ومكائيـل فأكذبهـم الله وجعـل قولـه: (( هـاروت ومـاروت )) بـدلاً مـن الشـياطين.
قـال: وصـح ذلـك إمـا لأن الجمـع يطلـق علـى الاثنيـن كمـا فـي قولـه تعالـى: (( فـإن كـان لـه إخـوة )) أو لكونهمـا لهمـا أتبـاع، أو ذكـراً مـن بينهـم لتمردهـم.
تقديـر الكـلام عنـده: يعلمـون النـاس السـحر ببابـل هـاروت ومـاروت، ثـم قـال: وهـذا أولـى مـا حملـت عليـه الآيـة وأصـح ولا يلتفـت إلـى مـا سـواه.
وروى ابـن جريـر بإسـناده مـن طريـق العوفـي عـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( ومـا أنـزل علـى الملكيـن ببابـل )) الآيـة، يقـول: لـم ينـزل الله السـحر.
وبإسـناده عـن الربيـع بـن أنـس فـي قولـه: (( ومـا أنـزل علـى الملكيـن )) قـال: مـا أنـزل الله عليهمـا السـحر.
قـال ابـن جريـر: فتأويـل الآيـة علـى هـذا "" واتبعـوا مـا تتلـوا الشـياطين علـى ملـك سـليمان "" مـن السـحر ومـا كفـر سـليمان ولا أنـزل الله السـحر علـى الملكيـن ولكـن الشـياطين كفـروا يعلمـون النـاس السـحر ببابـل هـاروت ومـاروت. فيكـون قولـه (( ببابـل هـاروت ومـاروت )) مـن المؤخـر الـذي معنـاه المقـدم.
قـال: فـإن قـال لنـا قائـل: كيـف وجـه تقديـم ذلـك؟ قيـل: وجـه تقديمـه أن يقـال: ({ واتبعـوا مـا تتلـو الشـياطين علـى ملـك سـليمان مـن السـحر ومـا كفـر سـليمان ومـا أنـزل الله السـحر علـى الملكيـن ولكـن الشـياطين كفـروا يعلمـون النـاس السـحر ببابـل هـاروت ومـاروت }) فيكـون معنيـاً بالملكيـن جبريـل وميكائيـل عليهمـا السـلام، لأن سـحرة اليهـود فيمـا ذكـرت كانـت تزعـم أن الله أنـزل السـحر علـى لسـلن جبريـل وميكائيـل إلـى سـليمان بـن داوود، فأكذبهـم الله بذلـك وأخبـر نبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم أن جبريـل وميكائيـل لـم ينـزلا بسـحر، وبـرأ سـليمان عليـه السـلام ممـا نحلـوه مـن السـحر، وأخبرهـم أن السـحر مـن عمـل الشـياطين، وأنهـا تعلـم النـاس ذلـك ببابـل، وأن الذيـن يعلمونهـم ذلـك رجـلان اسـم أحدهمـا (هـاروت) واسـم الآخـر (مـاروت) فيكـون هـاروت ومـاروت علـى هـذا التأويـل ترجمـة عـن النـاس ورداً عليهـم.
ثـم شـرع ابـن جريـر فـي رد هـذا القـول وإن (مـا) بمعنـى الـذي، وأطـال القـول فـي ذلـك، وادعـى أن هـاروت ومـاروت ملكـان أنزلهمـا الله إلـى الأرض وأذن لهمـا فـي تعليـم السـحر اختبـاراً لعبـاده وامتحانـاً بعـد أن بيـن لعبـاده أن ذلـك ممـا ينهـى عنـه علـى ألسـنة الرسـل، وادعـى أن هـاروت ومـاروت مطيعـان فـي تعليـم ذلـك لأنهمـا امتثـلا مـا أمـرا بـه، وهـذا الـذي سـلكه غريـب جـداً، وأغـرب منـه قـول مـن زعـم أن (( هـاروت ومـاروت )) قبيـلان مـن الجـن كمـا زعمـه ابـن حـزم.
وقـد روي فـي قصـة (هـاروت) و (مـاروت) عـن جماعـة مـن التابعيـن كمجاهـد، السـدي، والحسـن البصـري، وقتـادة، وأبـي العاليـة، والزهـري، والربيـع بـن أنـس، ومقاتـل بـن حيـان، وغيرهـم وقصّهـا خلـق مـن المفسِّـرين مـن المتقدميـن والمتأخريـن، وحاصلهـا راجـع فـي تفصيلهـا إلـى أخبـار بنـي إسـرائيل إذ ليـس فيهـا حديـث مرفـوع صحيـح متصـل الإسـناد إلـى الصـادق المصـدوق المعصـوم الـذي لا ينطـق عـن الهـوى، وظاهـر سـياق القـرآن إجمـال القصـة مـن غيـر بسـط ولا إطنـاب، فنحـن نؤمـن بمـا ورد فـي القـرآن علـى مـا أراده الله تعالـى، والله أعلـم بحقيقـة الحـال.
وقولـه تعالـى: (( ومـا يعلمـان مـن أحـد حتـى يقـولا إنمـا نحـن فتنـة فـلا تكفـر )) .
عـن الحسـين البصـري أنـه قـال فـي تفسـير هـذه الآيـة: نعـم أنـزل الملكـان بالسـحر ليعلمـا النـاس البـلاء الـذي أراد الله أن يبتلـي بـه النـاس، فأخـذ عليهـم الميثـاق أن لا يعلمـا أحـداً حتـى يقـولا إنمـا نحـن فتنـة فـلا تكفـر.
وقـال قتـادة: كـان أخـذ عليهمـا أن لا يعلمـا أحـداً حتـى يقـولا إنمـا نحـن فتنـة: أي بـلاء ابتلينـا بـه فـلا تكفـر.
وقـال ابـن جريـر فـي هـذه الآيـة: لا يجتـرئ علـى السـحر إلا كافـر. وأمـا الفتنـة فهـي المحنـة والاختبـار.
وكذلـك قولـه تعالـى إخبـاراً عـن موسـى عليـه السـلام حيـث قـال: (( إن هـي إلا فتنتـك )) أي ابتـلاؤك واختبـارك وامتحانـك، وقـد اسـتدل بعضهـم بهـذه الآيـة علـى تكفيـر مـن تعلـم السـحر واسـتشـهد لـه بالحديـث الصحيـح: {{ مـن أتـى كاهنـاً أو سـاحراً فصدقـه بمـا يقـول فقـد كفـر بمـا نـزل علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم }}.
وقولـه تعالـى: (( فيتعلمـون منهمـا مـا يفرقـون بـه بيـن المـرء وزوجـه )) أي فيتعلـم النـاس مـن هـاروت ومـاروت مـن علـم السـحر، مـا يتصرفـون بـه فيمـا يتصرفـون مـن الأفاعيـل المذمومـة، مـا إنهـم ليفرقـون بـه بيـن الزوجيـن مـع بينهمـا مـن الخلطـة والائتـلاف، وهـذا مـن صنيـع الشـياطين كمـا رواه مسـلم فـي صحيحـه عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ إن الشـيطان ليضـع عرشـه علـى المـاء قـم يبعـث سـراياه فـي النـاس فأقربهـم عنـده منزلـة أعظمهـم عنـده فتنـة، يجـيء أحدهـم فيقـول: مـا زلـت بفـلان حتـى تركتـه وهـو يقـول كـذا وكـذا، فيقـول إبليـس: لا والله مـا صنعـت شـيئاً! ويجـيء أحدهـم فيقـول: مـا تركتـه حتـى فرقـت بينـه وبيـن أهلـه، قـال: فيقربـه ويدنيـه ويلتزمـه ويقـول: نعـم أنـت }}.
وسـبب التفريـق بيـن الزوجيـن بالسـحر مـا يخيـل إلـى الرجـل أو المـرأة مـن الآخـر مـن سـوء منظـر أو خلـق أو نحـو ذلـك مـن الأسـباب المقتضيـة للفرقـة.
وقولـه تعالـى: (( ومـا هـم بضاريـن بـه مـن أحـد إلا بـإذن الله )).
قـال سـفيان الثـوري: إلا بقضـاء الله.
قـال الحسـن البصـري: مـن شـاء الله سـلطهم عليـه ومـن لـم يشـأ الله لـم يسـلط، ولا يسـتطيعون مـن أحـد إلا بـإذن الله.
وقولـه تعالـى: (( ويتعلمـون مـا يضرهـم ولا ينفعهـم )) أي يضرهـم فـي دينهـم وليـس لـه نفـع يـوازي ضـرره.
(( ولقـد علمـوا لمـن اشـتراه مالـه فـي الآخـرة مـن خـلاق )) أي ولقـد علـم اليهـود الذيـن اسـتبدلوا بالسـحر عـن متابعـة الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم لمـن فعـل فعلهـم ذلـك، أنـه مـا لـه فـي الآخـرة مـن خـلاق.
قـال ابـن عبـاس: مـن نصيـب.
(( ولبئـس مـا شـروا بـه أنفسـهم لـو كانـوا يعلمـون )) .
يقـول تعالـى: (( ولبئـس )) البديـل مـا اسـتبدلوا بـه مـن السـحر عوضـاً عـن الإيمـان ومتابعـة الرسـول، لـو كـان لهـم علـم بمـا وعظـوا بـه (( ولـو أنهـم آمنـوا واتقـوا لمثوبـة مـن الله خيـر )) أي لـو أنهـم آمنـوا بالله ورسـله واتقـوا المحـارم، لكـان مثوبـة الله علـى ذلـك خيـراً لهـم ممـا اسـتخاروا لأنفسـهم ورضـوا بـه، كمـا قـال تعالـى: (( وقـال الذيـن أوتـوا العلـم ويلكـم ثـواب الله خيـر لمـن آمـن وعمـل صالحـاً ولا يلقاهـا إلا الصابـرون )).
وقـد اسـتدل بقولـه: (( ولـو أنهـم أمنـوا واتقـوا )) مـن ذهـب إلـى تكفيـر السـاحر، كمـا هـو روايـة عـن الإمـام أحمـد ابـن حنبـل وطائفـة مـن السـلف.
وقيـل: بـل لا يكفـر ولكـن حـده ضـرب عنقـه، لمـا رواه الشـافعي وأحمـد بـن حنبـل عـن عمـرو بـن دينـار أنـه سـمع بجالـة بـن عبـدة يقـول: كتـب عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه أن اقتلـوا كـل سـاحر وسـاحرة قـال: فقتلنـا ثـلاث سـواحر.
وصـح أن حفصـة أم المؤمنيـن سـحرتها جاريـة لهـا فأمـرت بهـا فقتلـت.
قـال الإمـام أحمـد بـن حنبـل: صـح عـن ثلاثـة مـن أصحـاب النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فـي قتـل السـاحر.
وروي عـن الترمـذي عـن جنـدب الأزدي أنـه قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ حـد السـاحر ضربـه بالسـيف }}.
وقـد روي مـن طـرق متعـددة أن الوليـد بـن عقبـة كـان عنـده سـاحر يلعـب بيـن يديـه فكـان يضـرب رأس الرجـل يـم يصيـح بـه فيـرد إليـه رأسـه، فقـال النـاس: سـبحان الـذي يحيـي الموتـى!! ورآه رجـل مـن صالحـي المهاجريـن، فلمـا كـان الغـد جـاء مشـتملاً علـى سـيفه، وذهـب يلعـب لعبـه ذلـك فاختـرط الرجـل سـيفه فضـرب عنـق السـاحر، وقـال: إن كـان صادقـاً فليحيـي نفسـه، وتـلا قولـه تعالـى: (( أتأتـون السـحر وأنتـم تبصـرون )) فغصـب الوليـد إذ لـم يسـتأذنه فـي ذلـك فسـجنه ثـم أطلقـه، والله أعلـم.
وحمـل الشـافعي رحمـه الله قصـة عمـر وحفصـة علـى سـحر يكـون شـركاً، والله أعلـم.
فصـل
حكـى الـرازي فـي تفسـيره عـن المعتزلـة أنهـم أنكـروا وجـود السـحر، قـال: وربمـا كفَّـروا مـن اعتقـد وجـوده، وأمـا أهـل السـنة فقـد جّـوزوا أن يقـدر السـاحر أن يطيـر فـب الهـواء، ويقلـب الإنسـان حمـاراً والحمـار إنسـاناً، إلا أنهـم قالـوا: إن الله يخلـق الأشـياء عندمـا يقـول السـاحر تلـك الرقـى والكلمـات المعينـة، فأمـا إن يكـون المؤثـر فـي ذلـك هـو الفلـك والنجـوم فـلا، خلافـاً للفلاسـفة والمنجميـن والصابئـة، ثـم اسـتُدل علـى وقـوع السـحر، وأنـه بخلـق الله تعالـى بقولـه تعالـى: (( ومـا هـم بضاريـن بـه مـن أحـد إلا بـإذن الله )).
ومـن الأخبـار بـأن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم سُـحِر وأن السـحر عمـل فيـه، وبقصـة المـرأة مـع عائشـة رضـي الله عنهـا، ومـا ذكـرت مـن إتيانهـا بابـل وتعلمهـا السـحر.
ثـم قـد ذكـر أبـو عبـد الله الـرازي أن أنـواع السـحر ثمانيـة (الأول) : سـحر الكذابيـن والكشـدانيين الذيـن كانـوا يعبـدون الكواكـب السـبعة المتحيـرة وهـي السـيارة وكانـوا يعتقـدون أنهـا مدبـرة العالـم وأنهـا تأتـي بالخيـر والشـر وهـم الذيـن بعـث الله إليهـم إبراهيـم الخليـل صلـى الله عليـه وسـلم مبطـلاً لمقالتهـم ورداً لمذهبهـم.
(والنـوع الثانـي) سـحر أصحـاب الأوهـام والنفـوس القويـة، ثـم اسـتدل علـى أن الوهـم لـه تأثيـر بـأن الإنسـان يمكنـه أن يمشـي علـى الجسـر الموضـوع علـى وجـه الأرض، ولا يمكنـه المشـي عليـه إذا كـان ممـدوداً علـى نهـر ونحـوه، ومـا ذاك إلا لأن النفـوس خلقـت مطيعـة للأوهـام، وقـد اتفـق العقـلاء علـى أن الإصابـة بالعيـن حـق لمـا ثبـت فـي الصحيـح أو رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ العيـن حـق ولـو كـان شـيء سـابق القـدر لسـبقته العيـن }}.
(والنـوع الثالـث) مـن السـحر: الاسـتعانة بالأرواح الأرضيـة وهـم الجـن خلافـاً للفلاسـفة والمعتزلـة وهـم علـى قسـمين: مؤمنـون، وكفـار وهـم الشـياطين، قـال: واتصـال النفـوس الناطقـة بهـا أسـهل مـن اتصالهـا بالأرواح السـماوية لمـا بينهمـا مـن مناسـبة والقـرب، ثـم إن أصحـاب الصنعـة وأربـاب التجربـة شـاهدوا أن الاتصـال بهـذه الأرواح الأرضيـة يحصـل بأعمـال سـهلة قليلـة مـن الرقـي والدخـن والتجريـد، وهـذا النـوع هـو المسـمى بالعـزم وعمـل التسـخير.
(النـوع الرابـع) مـن السـحر: التخيـلات، والأخـذ بالعيـون، والشـعبذة، ومبنـاه علـى أن البصـر قـد يخطـئ ويشـتغل بالشـيء المعيـن دون غيـره، إلا تـرى ذا الشـعبذة الحـاذق يظهـر عمـل شـيء يذهـل أذهـان الناظريـن بـه ويأخـذ عيونهـم إليـه، حتـى إذا اسـتفزعهم الشـغل بذلـك الشـيء بالتحديـق ونحـوه، عمـل شـيئاً آخـر عمـلاً بسـرعة شـديدة، وحينئـذ يظهـر لهـم شـيء آخـر غيـر مـا انتظـروه، فيتعجبـون منـه جـداً، ولـو أنـه سـكت ولـم يتكلـم بمـا يصـرف الخواطـر إلـى ضـد مـا يريـد أن يعملـه، ولـم تتحـرك النفـوس والأوهـام إلـى غيـر مـا يريـد إخراجـه، لفطـن الناظـرون لكـل مـا يفعلـه.
(قلـت) وقـد قـال بعـض المفسـرين: إن سـحر السـحرة بيـن يـدي فرعـون إنمـا كـان مـن بـاب الشـعبذة ولهـذا قـال تعالـى: (( فلمـا ألقـوا سـحروا أعيـن النـاس واسـترهبوهم وجـاؤا بسـحر عظيـم )). وقـال تعالـى: (( يُخيَّـل إليـه مـن سـحرهم أنهـا تسـعى )). قالـوا: ولـم تكـن تسـعى فـي نفـس الأمـر، والله أعلـم.
(والنـوع الخامـس) مـن السـحر: الأعمـال العجبيـة التـي تظهـر مـن تركيـب آلات مركبـة علـى النسـب الهندسـية، كفـارسٍ علـى فـرس فـي يديـه بـوق، كلمـا مضـت سـاعة مـن النهـار ضـرب بالبـوق مـن غيـر أن يمسـه أحـد، ومنهـا الصـور التـي تصورهـا الـروم والهنـد حتـى لا يفـرق الناظـر بينهـا وبيـن الإنسـان حتـى يصورونهـا ضاحكـة وباكيـة إلـى أن قـال: فهـذه الوجـوه مـن لطيـف أمـور التخاييـل، قـال: وكـان سـحر سـحرة فرعـون مـن هـذا القبيـل.
(قلـت) يعنـي مـا قالـه بعـض المفسـرين: إنهـم عمـدوا إلـى تلـك الحبـال والعصـي فحشـوها زئبقـاً فصـارت تتلـوى بسـبب مـا فيهـا مـن ذلـك الزئبـق فيخيـل إلـى الرائـي أنهـا تسـعى باختيارهـا، ومـن هـذا القبيـل حيـل النصـارى علـى عامتهـم بمـا يرونهـا إيـاه مـن الأنـوار، كقضيـة قمامـة الكنيسـة التـي لهـم ببلـد المقـدس، ومـا يحتالـون بـه مـن إدخـال النـار خفيـة إلـى الكنيسـة، وإشـعال ذلـك القنديـل بصنعـة لطيفـة تـروج علـى الطغـام منهـم، وأمـا الخـواص فهـم معترفـون بذلـك ولكـن يتأولـون أنهـم يجمعـون شـمل أصحابهـم علـى دينهـم فيـرون ذلـك سـائغاً لهـم.
(النـوع السـادس) مـن السـحر: الاسـتعانة بخـواص الأدويـة فـي الأطعمـة والدهانـات، قـال: واعلـم إنـه لا سـبيل إلـى إنكـار الخـواص، فـإن تأثيـر المغناطيـس مشـاهد.
(قلـت) يدخـل فـي هـذا القبيـل كثيـر ممـن يدعـي الفقـر ويتحيـل علـى جهلـة النـاس بهـذه الخـواص، مدعيـاً أنهـا أحـوال لـه مـن مخالطـة النيـران ومسـك الحيـات إلـى خيـر ذلـك مـن المحـالات.
(النـوع السـابع) مـن السـحر: التعليـق للقلـب، وهـو لأن يدعـي السـاحر أنـه عـرف الاسـم الأعظـم، وأن الجـن يطيعونـه وينقـادون لـه فـي أكثـر الأمـور، فـإذا اتفـق أن يكـون السـامع لذلـك ضعيـف العقـل قليـل التمييـز اعتقـد أنـه حـق وتعلـق قلبـه بذلـك، وحصـل فـي نفسـه نـوع مـن الرعـب والمخالفـة، فـإذا حصـل الخـوف ضعفـت القـوى الحسـاسـة، فحينئـذ يتمكـن السـاحر أن يفعـل مـا يشـاء.
(قلـت) هـذا النمـط يقـال لـه التَنْبلـة وإنمـا يـروج علـى ضعفـاء العقـول مـن بنـي آدم، وفـي عِلْـم الفِراسـة مـا يرشـد إلـى معرفـة كامـل العقـل مـن ناقصـه، فـإذا كـان النبيـل حاذقـاً فـي علـم الفراسـة عـرف مـن ينقـاد لـه مـن النـاس مـن غيـره.
(النـوع الثامـن) مـن السـحر: السـعي بالنميمـة مـن وجـوه خفيفـة لطيفـة وذلـك شـائع فـي النـاس.
(قلـت) النميمـة علـى قسـمين: تـارة تكـون علـى وجـه التحريـش بيـن النـاس وتفريـق قلـوب المؤمنيـن فهـذا حـرام متفـق عليـه، فأمـا إن كانـت علـى وجـه الإصـلاح بيـن النـاس وائتـلاف كلمـة المسـلمين، أو علـى وجـه التخذيـل والتفريـق بيـن جمـوع الكفـرة، فهـذا أمـر مطلـوب كنـا جـاء فـي الحديـث: {{ الحـرب خدعـة }}. وإنمـا يحـذو علـى مثـل هـذا الذكـاء ذو البصيـرة النافـذة والله المسـتعان.
ثـم قـال الـرازي فهـذه جملـة الكـلام فـي أقسـام السـحر وشـرح أنواعـه وأصنافـه.
(قلـت): وإنمـا أدخـل كثيـراً مـن هـذه الأنـواع المذكـورة فـي فـن السـحر للطاقـة مداركهـا لأن السـحر فـي اللغـة عبـارة عمـا لطـف وخفـي سـببه، ولهـذا جـاء فـي الحديـث: {{ إن مـن البيـان لسـحراً }}.
وسـمي السـحور لكونـه يقـع خفيـاً آخـر الليـل.
والسَّـحْرُ: الرئـة، وسـميت بذلـك لخفائهـا ولطـف مجاريهـا إلـى أجـزاء البـدن، كمـا قـال أبـو جهـل يـوم بـدر لعتبـة: انتفـخ سَـحْره، أي انتفخـت رئتـه مـن الخـوف.
وقالـت عائشـة رضـي الله عنهـا: توفـي رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بيـن سَـحْري ونحـري.
وقـال القرطبـي: وعندنـا أن السـحر حـق، ولـه حقيقـة، يخلـق الله عنـده مـا يشـاء، خلافـاً للمعتزلـة وأبـي إسـحاق الاسـفرايني مـن الشـافعية حيـث قالـوا: إنـه تمويـه وتخيـل.
قـال: ومـن السـحر مـا يكـون بخفـة اليـد كالشـعوذة، ومنـه مـا يكـون كلامـاً يحفـظ ورقـى مـن أسـماء الله تعالـى، وقـد يكـون مـن عهـود الشـياطين، ويكـون أدويـة وأدخنـة وغيـر ذلـك.
قـال: وقولـه عليـه السـلام: {{ إن مـن البيـان لسـحراً }} يحتمـل أن يكـون مدحـاً كمـا تقولـه طائفـة، ويحتمـل أن يكـون ذمـاً للبلاغـة، قـال: وهـذا أصـح، قـال: لأنهـا تصـوِّب الباطـل حتـى توهـم السـامع أنـه حـق، كمـا قـال عليـه الصـلاة والسـلام: {{ فلعـل بعضكـم أن يكـون ألحـن بحجتـه مـن بعـض فأقضـي لـه }} الحديـث.
فصـل
واختلفـوا فيمـن يتعلـم السـحر ويسـتعمله، فقـال أبـو حنيفـة ومالـك أحمـد: يكفـر بذلـك.
ومـن أصحـاب أبـي حنيفـة مـن قـال إن تعلمـه ليتقيـه أو ليجتنبـه فـلا كفـر، ومـن تعلمـه معتقـداً جـوازه أو أنـه ينفعـه كفـر، وكـذا مـن اعتقـد أن الشـياطين تفعـل لـه ممـا يشـاء فهـو كافـر.
وقـال الشـافعي رحمـه الله: إذا تعلـم السـحر قلنـا لـه: صـف لنـا سـحرك، فـإن وصـف مـا يوجـب الكفـر مثـل مـا اعتقـده أهـل بابـل مـن التقـرب إلـى الكواكـب السـبعة وأنهـا تفعـل مـا يلتمـس منهـا فهـو كافـر، وإن كـان لا يوجـب الكفـر فـإن اعتقـد إباحتـه فهـو كافـر. فأمـا إن قتـل بسـحره إنسـاناً فإنـه يقتـل عنـد (مالـك والشـافعي وأحمـد).
وقـال أبـو حنيفـة: لا يقتـل حتـى يتكـرر منـه ذلـك أو يقـر بذلـك فـي حـق شـخص معيـن، وإذا قتـل فإنـه يقتـل حـداً عندهـم إلا الشـافعي فأنـه قـال: يقتـل والحالـة هـذه قصاصـاً.
قـال: وهـل إذا تـاب السـاحر تقبـل توبتـه؟
فقـال مالـك وأبـو حنيفـة أحمـد فـي المشـهور عنهـم: لا تقبـل.
وقـال الشـافعي وأحمـد فـي روايـة أخـرى تقبـل.
وأمـا سـاحر أهـل الكتـاب فعنـد أبـي حنيفـة أنـه يقتـل كمـا يقتـل السـاحر المسـلم.
وقـال مالـك وأحمـد والشـافعي: لا يقتـل لقصـة (لبيـد بـن الأعصـم).
واختلفـوا فـي المسـلمة السـاحرة: فعنـد أبـي حنيفـة أنهـا لا تقتـل ولمـن تحبـس.
وقـال الثلاثـة: حكمهـا حكـم الرجـل، والله أعلـم.
مسْـألة
وهـل يسـأل السـاحر حـلاً لسـحره؟
فأجـازه سـعيد بـن مسـيب فيمـا نقلـه عنـه البخـاري.
وقـال الشـعبي: لا بـأس بالنشـرة.
وكـره ذلـك الحسـن البصـري.
وفـي الصحيـح عـن عائشـة أنهـا قالـت: يـا رسـول الله هـلا تنشـرت، فقـال: {{ أمـا الله فقـد شـفاني وخشـيت أن أفتـح علـى النـاس شـراً }}.
وحكـى القرطبـي عـن وهـب أنـه قـال: يؤخـذ سـبع ورقـات مـن سـدر، فتـدق بيـن حجريـن ثـم نضـرب بالمـاء، ويقـرأ عليهـا آيـة الكرسـي ويشـرب منهـا المسـحور ثـلاث حسـوات، ثـم يغتسـل بباقيـه فإنـه يذهـب مـا بـه، وهـو جيـد للرجـل الـذي يؤخـذ عـن امرأتـه.
(قلـت): أنفـع مـا يسـتعمل لإذهـاب السـحر مـا أنـزل الله علـى رسـوله فـي إذهـاب ذلـك وهمـا المعوذتـان، وفـي الحديـث الشـريف: {{ لـم يتعـوذ المتعـوذ بمثلهـا }} ةكذلـك قـراءة آيـة الكرسـي فإنهـا مطـردة للشـياطين.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 94 ، 95 ، 96 ، 97 ، 98 ، 99 ، 100 ، 101 ، 102 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
أختـي المـلاك الصغيـر...
أشـكرك علـى كلماتـك الجميلـة...
لطالمـا نـورت كلماتـك صفحاتـي...
سـلمت لـي يـا أختـاه...
***************************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( وَلَقَـد أَنزَلنَـا إِلَيـكَ آيـاتٍ بيّنـاتٍ وَمَـا يَكفُـرُ بِهـا إِلا الفاسِـقونَ (99) أَوَ كُلَّمـا عاهَـدُوا عَهـداً نَّبَـذَهُ فَريـقٌ مِنهُـم بَـل أَكثَرهُـم لا يُؤمِنـونَ (100) ولمَّـا جاءَهُـم رَسـولٌ مِـن عِنـدِ اللهِ مُصَـدِّقٌ لِمـا مَعَهُـم نَبَـذَ فَريـقٌ مِـنَ الّذيـنَ أوتـوا الكِتـابَ كِتـابَ اللهِ وَراءَ ظُهورِهِـم كأنَّهُـم لا يَعلَمـونَ (101) واتَّبعـوا مَـا تَتلـوا الشّـياطينُ علـى مُلـكِ سُـلَيمانَ وَمـا كَفَـرَ سُـليمانُ ولَكِـنَّ الشَـياطينَ كَفَـروا يُعلِّمـونَ النَّـاسَ السِّـحرَ وَمـا أُنـزِلَ علـى المَلَكَيـنِ بِبابِـلَ هـاروتَ وَمـاروتَ وَمـا يُعَلِّمـانِ مِـن أَحَـدٍ حتـى يَقـولا إِنَّمـا نَحْـنُ فِتنَـةٌ فَـلا تَكفُـر فَيتَعلَّمـونَ مِنهُمـا مـا يُفَرِقـون بِـهِ بَيـنَ المَـرءِ وَزَوجِـهِ وَمـا هُـم بِضارّيـنَ بِـهِ مِـن أَحَـدٍ إِلا بِـإِذنِ اللهِ ويَتَعلَّمـونَ مـا يَضُرُّهُـم وَلا يَنفَعُهُـم وَلَقَـد عَلِمـوا لَمَـنِ اشـتَراهُ مـا لَـهُ فـي الآخِـرَةِ مِـن خَـلاقٍ وَلَبِئـسَ مـا شَـرَوا بِـهِ أَنفُسَـهُم لَـو كانـوا يَعلَمـونَ (102) وَلـو أَنَّهُـم آمنـوا وَاتَّقَـوا لَمَثوبَـةٌ مِـن عِنـدِ اللهِ خيـرٌ لَّـو كانـوا يَعلَمـونَ )) / 103 /
قولـه تعالـى: (( ولقـد أنزلنـا إليـك آيـات بينـات )) الآيـة. أي أنزلنـا إليـك يـا محمـد علامـات واضحـات، دالات علـى نبوتـك، وتلـك الآيـات هـي مـن مـا حـواه كتـاب الله مـن خفايـا علـوم اليهـود، ومكنونـات سـرائر أخبارهـم، وأخبـار أوائلهـم مـن بنـي إسـرائيل، والنبـأ عمـا تضمنتـه كتبهـم التـي لـم يكـن يعلمهـا إلا أحبارهـم وعلماؤهـم، ومـا حرفـه أوائلهـم وأواخرهـم وبدلـوه مـن أحكامهـم التـي كانـت فـي التـوراة، فأطلـع الله فـي كتابـه الـذي أنزلـه علـى نبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، فكـان فـي ذلـك مـن أمـره الآيـات البينـات لمـن أنصـف مـن نفسـه، ولـم يدعهـا إلـى هلاكهـا الحسـد والبغـي.
عـن ابـن عبـاس قـال: قـال ابـن صوريـا القطوينـي لرسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: يـا محمـد مـا جئتنـا بشـيء نعرفـه، ومـا أنـزل الله عليـك مـن آيـة بينـة فنتبعـك، فأنـزل الله فـي ذلـك: (( ولقـد أنزلنـا إليـك آيـات بينـات ومـا يكفـر بهـا إلا الفاسـقون )).
وقـال مالـك بـن الصيـف حيـن بعـث رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وذكرهـم مـا أخـذ عليهـم مـن ميثـاق، ومـا عهـد إليهـم فـي محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: والله مـا عهـد إلينـا فـي محمـد، ومـا أُخـذ علينـا الميثـاق، فأنـزل الله تعالـى: (( أو كلمـا عاهـدوا عهـداً نبـذه فريـق منهـم )).
وقـال الحسـن البصـري فـي قولـه: (( بـل أكثرهـم لا يؤمنـون )) قـال: نعـم ليـس فـي الأرض عهـد يعاهـدون عليـه إلا نقضـوه ونبـذوه، يعاهـدون اليـوم وينقضـون غـداً.
وقـال السـدي: لا يؤمنـون بمـا جـاء بـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
وقـال قتـادة: (( نبـذه فريـق منهـم )) أي نقضـه فريـق منهـم.
وقـال جريـر: أصـل النبـذ الطـرح والإلقـاء، ومنـه سـمي اللقيـط المنبـوذ، ومنـه سـمي النبيـذ _ وهـو التمـر والزبيـب _ إذا طرحـا فـي المـاء.
قلـت: فالقـوم ذمهـم الله بنبذهـم العهـود التـي تقـدم الله إليهـم فـي التمسـك بهـا والقيـام بحقهـا، ولهـذا أعقبهـم ذلـك التكذيـب بالرسـول المبعـوث إليهـم وإلـى النـاس كافـة، الـذي فـي كتبهـم نعتـه وصفتـه وأخبـاره، وقـد أمـروا فيهـا باتباعـه ومؤازرتـه ونصرتـه كمـا قـال تعالـى: (( الذيـن يتبعـون الرسـول النبـي الأمـي الـذي يجدونـه مكتوبـاً عندهـم فـي التـوراة والإنجيـل )).
وقـال ههنـا: (( ولمـا جاءهـم رسـولٌ مـن عنـد الله مصدقـاً لمـا معهـم )) الآيـة، أي طـرح طائفـة منهـم كتـاب الله الـذي بأيديهـم ممـا فيـه البشـارة بمحمـد صلـى الله عليـه وسـلم وراء ظهورهـم، أي تركوهـا كأنهـم لا يعلمـون مـا فيهـا وأقبلـوا علـى تعلـم السـحر واتباعـه، ولهـذا أرادوا كيـداً برسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم وسـحروه فـي مُشْـط ومُشَـاقة وجُـفّ طلعـت ذَكَـرٍ تحـت راعوفـة ببئـر أروان، وكـان الـذي تولـى ذلـك منهـم رجـل يقـال لـه (لبيـد بـن الأعصـم) لعنـه الله وقبحـه، فأطلـع الله علـى ذلـك رسـوله صلـى الله عليـه وسـلم وشـفاه منـه وأنقـذه، كمـا ثبـت ذلـك مبسـوطاً فـي الصحيحيـن كمـا سـيأتي بيانـه.
قـال السـدي: (( ولمـا جاءهـم رسـول مـن عنـد الله مصـدق لمـا معهـم )) قـال: لمـا جائهـم محمـد صلـى الله عليـه وسـلم عارضـوه بالتـوراة فخاصمـوه بهـا، فاتفقـت التـوراة والقـرآن فنبـذوا التـوراة، وأخـذوا بكتـاب آصـف وسـحر هـاروت ومـاروت فلـم يوافـق القـرآن، فذلـك قولـه: (( كأنهـم لا يعلمـون )).
وقـال قتـادة فـي قولـه: (( كأنهـم لا يعلمـون )) قـال: إن القـوم كانـوا يعملـون ولكنهـم نبـذوا علمهـم وكتمـوه وجحـدوا بـه.
عـن ابـن عبـاس قـال: كـان آصـف كاتـب سـليمان وكـان يعلـم الاسـم الأعظـم، وكـان يكتـب كـل شـيء بأمـر سـليمان ويدفنـه تحـت كرسـيه، فلمـا مـات سـليمان أخرجتـه الشـياطين فكتبـوا بيـن كـل سـطرين سـحراً وكفـراً، وقالـوا هـذا الـذي كـان سـليمان يعمـل بهـا. قـال: فأكفـره جهـال النـاس وسـبّوه، ووقـف علمـاء النـاس، فلـم يـزل جهـال النـاس يسـبّونه حتـى أنـزل الله علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم: (( واتبعـوا مـا تتلـوا الشـياطين علـى ملـك سـليمان )) أي علـى عهـد سـليمان، قـال: كانـت الشـياطين تصعـد إلـى السـماء فتقعـد منهـا مقاعـد للسـمع، فيسـتمعون مـن كـلام الملائكـة مـا يكـون فـي الأرض مـن مـوت أو غيـب أو أمـر، فيأتـون الكهنـة فيخبرونهـم فتحـدث الكهنـة النـاس فيجدونـه كمـا قالـوا، فلمـا أمنتهـم الكهنـة كذبـوا لهـم وأدخلـوا فيـه غيـره، فـزادوا مـع كـل كلمـة سـبعين كلمـة فاكتتـب النـاس ذلـك الحديـث فـي الكتـب، وفشـا ذلـك فـي بنـي إسـرائيل أن الجـن تعلـم الغيـب، فبعـث سـليمان فـي النـاس فجمـع تلـك الكتـب فجعلهـا فـي صنـدوق ثـم دفنهـا تحـت كرسـيه، ولـم يكـن أحـد مـن الشـياطين يسـتطيع أن يدنـو مـن الكرسـي إلا احتـرق، وقـال: لا أسـمع أحـداً يذكـر أن الشـياطين يعلمـون الغيـب إلا ضربـت عنقـه، فلمـا مـات سـليمان وذهبـت العلمـاء الذيـن كانـوا يعرفـون أمـر سـليمان، وخلـف مـن بعـد ذلـك خلـف، تمثـل الشـيطان فـي صـورة إنسـان، ثـم أتـى نفـراً مـن بنتي إسـرائيل فقـال لهـم: هـل أدلكـم علـى كنـز لا تأكلونـه أبـداً (أي لا ينفـذ بالأكـل منـه) ، قالـوا: نعـم، قـال: فاحفـروا تحـت الكرسـي، فذهـب معهـم وأراهـم المكـان وقـام ناحيتـه، فحفـروا فوجـدوا تلـك الكتـب، فلمـا أخرجوهـا قـال الشـيطان: إن سـليمان إنمـا كـان يضبـط الإنـس والشـياطين والطيـر بهـذه السـحر ثـم ذهـب، وفشـا فـي النـاس أن سـليمان كـان سـاحراً، واتخـذ بنـو إسـرائيل تلـك الكتـب، فلمـا جـاء محمـد صلـى الله عليـه وسـلم خاصمـوه بهـا فذلـك حيـن يقـول الله تعالـى: (( ومـا كفـر سـليمان ولكـن الشـياطين كفـروا )).
وقـال سـعيد بـن جبيـر: كـان سـليمان يتتبـع مـا فـي أيـدي الشـياطين مـن السـحر فيأخـذه منهـم، فيدفنـه تحـت كرسـيه فـي بيـت خزانتـه، فلـم تقـدر الشـياطين أن يصلـوا إليـه فدنـت إلـى الإنـس فقالـوا لهـم: أتـدرون مـا العلـم الـذي كـان سـليمان يسـخر بـه الشـياطين والريـاح وغيـر ذلـك؟ قالـوا: نعـم، قالـوا: فإنـه فـي بيـت خزانتـه وتحـت كرسـيه، فاسـتخرجوه وعملـوا بـه، فأنـزل الله تعالـى علـى نبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم بـراءة سـليمان عليـه السـلام، فقـال تعالـى: (( واتبعـوا مـا تتلـوا الشـياطين علـى ملـك سـليمان ومـا كفـر سـليمان ولكـن الشـياطين كفـروا )).
لمـا ذكـر رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فيمـا نـزل عليـه مـن الله (سـليمان بـن داوود) وعـدّه فيمـن عـد مـن المرسـلين، قـال مـن كـان بالمدينـة مـن اليهـود: ألا تعجبـون مـن محمـد؟ يزعـم أن ابـن داوود كـان نبيـاً والله مـا كـان إلا سـاحراً، وأنـزل الله: (( ومـا كفـر سـليمان ولكـن الشـياطين كفـروا )) الآيـة.
وروي أنـه لمـا مـات سـليمان عليـه السـلام قـام إبليـس _ لعنـه الله _ خطيبـاً فقـال: أيهـا النـاس إن سـليمان لـم يكـن نبيـاً إنمـا كـان سـاحراً فالتمسـوا سـحره فـي متاعـه وبيوتـه، ثـم دلهـم علـى المكـان الـذي دفـن فيـه، فقالـوا: والله لقـد كـان سـليمان سـاحراً، هـذا سـحرهُ بهـذا تعبَّدنـا وبهـذا قهرنـا، فقـال المؤمنـون: بـل كـان نبيـاً مؤمنـاً.
فلمـا بعـث الله النبـي محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم وذكـر داوود وسـليمان، فقالـت اليهـود: انظـروا إلـى محمـد يخلـط الحـق الباطـل، بذكـر سـليمان مـع الأنبيـاء إنمـا كـان سـاحراً يركـب الريـح، فأنـزل الله تعالـى: (( واتبعـوا مـا تتلـو الشـياطين علـى ملـك سـليمان ومـا كفـر سـليمان )) الآيـة.
وقولـه تعالـى: (( واتبعـوا مـا تتلـوا الشـياطين علـى ملـك سـليمان )) أي اتبعـت اليهـود الذيـن أوتـوا الكتـاب مـن بعـد إعراضهـم عـن كتـاب الله الـذي بأيديهـم ومخالفتهـم لرسـول الله محمـد صلـى الله عليـه وسـلم مـا تتلـوه الشـياطين أي مـا ترويـه وتخبـر بـه وتحدثـه الشـياطين علـى ملـك سـليمان، وعـدّاه بـ علـى لأنـه تضمـن (( تتلـو )) تكـذب.
وقـال جريـر: (( علـى )) ههنـا بمعنـى فـي، أي تتلـو فـي ملـك سـليمان. ونقلـه عـن ابـن جريـج وابـن إسـحاق.
(قلـت): والمتضمـن أحـن وأولـى، والله أعلـم.
وقـول حسـن البصـري رحمـه الله: _ وكـان السـحر قبـل زمـن سـليمان _ صحيـحٌ لا شـك فيـه، لأن السـحرة كانـوا فـي زمـان موسـى عليـه السـلام وسـليمان بـن داوود بعـده كمـا قـال تعالـى: (( ألـم تـر إلـى المـلأ مـن ينـي إسـرائيل مـن بعـد موسـى )) الآيـة، ثـم ذكـر القصـة بعدهـا، وفيهـا: (( وقتـل داوود جالـوت وآتـاه الله الملـك والحكمـة )).
وقـال قـوم صالـح _ وهـم قبـل إبراهيـم الخليـل عليـه السـلام _ لنبيهـم صالـح إنمـا (( أنـت مـن المسـحّرين )) أي المسـحورين علـى المشـهور.
وقولـه تعالـى: (( ومـا أنـزل علـى الملكيـن ببابـل هـاروت ومـاروت ومـا يعلمـان مـن أحـد حتـى يقـولا إنمـا نحـن فتنـة فـلا تكفـر فيتعلمـون منهمـا مـا يفرقـون بـه بيـن المـرء وزوجـه )) اختلـف النـاس فـي هـذا المقـام، فذهـب بعضهـم إلـى أن "" مـا "" نافيـة أعنـي التـي فـي قولـه: (( ومـا أنـزل علـى الملكيـن )).
قـال القرطبـي: "" مـا "" نافيـة ومعطـوف علـى قولـه (( ومـا كفـر سـليمان ))، ثـم قـال: (( ولكـن الشـياطين كفـروا يعلمـون النـاس السـحر ومـا أنـزل علـى الملكيـن ))، وذلـك أن اليهـود كانـوا يزعمـون أنـه نـزل بـه جبريـل ومكائيـل فأكذبهـم الله وجعـل قولـه: (( هـاروت ومـاروت )) بـدلاً مـن الشـياطين.
قـال: وصـح ذلـك إمـا لأن الجمـع يطلـق علـى الاثنيـن كمـا فـي قولـه تعالـى: (( فـإن كـان لـه إخـوة )) أو لكونهمـا لهمـا أتبـاع، أو ذكـراً مـن بينهـم لتمردهـم.
تقديـر الكـلام عنـده: يعلمـون النـاس السـحر ببابـل هـاروت ومـاروت، ثـم قـال: وهـذا أولـى مـا حملـت عليـه الآيـة وأصـح ولا يلتفـت إلـى مـا سـواه.
وروى ابـن جريـر بإسـناده مـن طريـق العوفـي عـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( ومـا أنـزل علـى الملكيـن ببابـل )) الآيـة، يقـول: لـم ينـزل الله السـحر.
وبإسـناده عـن الربيـع بـن أنـس فـي قولـه: (( ومـا أنـزل علـى الملكيـن )) قـال: مـا أنـزل الله عليهمـا السـحر.
قـال ابـن جريـر: فتأويـل الآيـة علـى هـذا "" واتبعـوا مـا تتلـوا الشـياطين علـى ملـك سـليمان "" مـن السـحر ومـا كفـر سـليمان ولا أنـزل الله السـحر علـى الملكيـن ولكـن الشـياطين كفـروا يعلمـون النـاس السـحر ببابـل هـاروت ومـاروت. فيكـون قولـه (( ببابـل هـاروت ومـاروت )) مـن المؤخـر الـذي معنـاه المقـدم.
قـال: فـإن قـال لنـا قائـل: كيـف وجـه تقديـم ذلـك؟ قيـل: وجـه تقديمـه أن يقـال: ({ واتبعـوا مـا تتلـو الشـياطين علـى ملـك سـليمان مـن السـحر ومـا كفـر سـليمان ومـا أنـزل الله السـحر علـى الملكيـن ولكـن الشـياطين كفـروا يعلمـون النـاس السـحر ببابـل هـاروت ومـاروت }) فيكـون معنيـاً بالملكيـن جبريـل وميكائيـل عليهمـا السـلام، لأن سـحرة اليهـود فيمـا ذكـرت كانـت تزعـم أن الله أنـزل السـحر علـى لسـلن جبريـل وميكائيـل إلـى سـليمان بـن داوود، فأكذبهـم الله بذلـك وأخبـر نبيـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم أن جبريـل وميكائيـل لـم ينـزلا بسـحر، وبـرأ سـليمان عليـه السـلام ممـا نحلـوه مـن السـحر، وأخبرهـم أن السـحر مـن عمـل الشـياطين، وأنهـا تعلـم النـاس ذلـك ببابـل، وأن الذيـن يعلمونهـم ذلـك رجـلان اسـم أحدهمـا (هـاروت) واسـم الآخـر (مـاروت) فيكـون هـاروت ومـاروت علـى هـذا التأويـل ترجمـة عـن النـاس ورداً عليهـم.
ثـم شـرع ابـن جريـر فـي رد هـذا القـول وإن (مـا) بمعنـى الـذي، وأطـال القـول فـي ذلـك، وادعـى أن هـاروت ومـاروت ملكـان أنزلهمـا الله إلـى الأرض وأذن لهمـا فـي تعليـم السـحر اختبـاراً لعبـاده وامتحانـاً بعـد أن بيـن لعبـاده أن ذلـك ممـا ينهـى عنـه علـى ألسـنة الرسـل، وادعـى أن هـاروت ومـاروت مطيعـان فـي تعليـم ذلـك لأنهمـا امتثـلا مـا أمـرا بـه، وهـذا الـذي سـلكه غريـب جـداً، وأغـرب منـه قـول مـن زعـم أن (( هـاروت ومـاروت )) قبيـلان مـن الجـن كمـا زعمـه ابـن حـزم.
وقـد روي فـي قصـة (هـاروت) و (مـاروت) عـن جماعـة مـن التابعيـن كمجاهـد، السـدي، والحسـن البصـري، وقتـادة، وأبـي العاليـة، والزهـري، والربيـع بـن أنـس، ومقاتـل بـن حيـان، وغيرهـم وقصّهـا خلـق مـن المفسِّـرين مـن المتقدميـن والمتأخريـن، وحاصلهـا راجـع فـي تفصيلهـا إلـى أخبـار بنـي إسـرائيل إذ ليـس فيهـا حديـث مرفـوع صحيـح متصـل الإسـناد إلـى الصـادق المصـدوق المعصـوم الـذي لا ينطـق عـن الهـوى، وظاهـر سـياق القـرآن إجمـال القصـة مـن غيـر بسـط ولا إطنـاب، فنحـن نؤمـن بمـا ورد فـي القـرآن علـى مـا أراده الله تعالـى، والله أعلـم بحقيقـة الحـال.
وقولـه تعالـى: (( ومـا يعلمـان مـن أحـد حتـى يقـولا إنمـا نحـن فتنـة فـلا تكفـر )) .
عـن الحسـين البصـري أنـه قـال فـي تفسـير هـذه الآيـة: نعـم أنـزل الملكـان بالسـحر ليعلمـا النـاس البـلاء الـذي أراد الله أن يبتلـي بـه النـاس، فأخـذ عليهـم الميثـاق أن لا يعلمـا أحـداً حتـى يقـولا إنمـا نحـن فتنـة فـلا تكفـر.
وقـال قتـادة: كـان أخـذ عليهمـا أن لا يعلمـا أحـداً حتـى يقـولا إنمـا نحـن فتنـة: أي بـلاء ابتلينـا بـه فـلا تكفـر.
وقـال ابـن جريـر فـي هـذه الآيـة: لا يجتـرئ علـى السـحر إلا كافـر. وأمـا الفتنـة فهـي المحنـة والاختبـار.
وكذلـك قولـه تعالـى إخبـاراً عـن موسـى عليـه السـلام حيـث قـال: (( إن هـي إلا فتنتـك )) أي ابتـلاؤك واختبـارك وامتحانـك، وقـد اسـتدل بعضهـم بهـذه الآيـة علـى تكفيـر مـن تعلـم السـحر واسـتشـهد لـه بالحديـث الصحيـح: {{ مـن أتـى كاهنـاً أو سـاحراً فصدقـه بمـا يقـول فقـد كفـر بمـا نـزل علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم }}.
وقولـه تعالـى: (( فيتعلمـون منهمـا مـا يفرقـون بـه بيـن المـرء وزوجـه )) أي فيتعلـم النـاس مـن هـاروت ومـاروت مـن علـم السـحر، مـا يتصرفـون بـه فيمـا يتصرفـون مـن الأفاعيـل المذمومـة، مـا إنهـم ليفرقـون بـه بيـن الزوجيـن مـع بينهمـا مـن الخلطـة والائتـلاف، وهـذا مـن صنيـع الشـياطين كمـا رواه مسـلم فـي صحيحـه عـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ إن الشـيطان ليضـع عرشـه علـى المـاء قـم يبعـث سـراياه فـي النـاس فأقربهـم عنـده منزلـة أعظمهـم عنـده فتنـة، يجـيء أحدهـم فيقـول: مـا زلـت بفـلان حتـى تركتـه وهـو يقـول كـذا وكـذا، فيقـول إبليـس: لا والله مـا صنعـت شـيئاً! ويجـيء أحدهـم فيقـول: مـا تركتـه حتـى فرقـت بينـه وبيـن أهلـه، قـال: فيقربـه ويدنيـه ويلتزمـه ويقـول: نعـم أنـت }}.
وسـبب التفريـق بيـن الزوجيـن بالسـحر مـا يخيـل إلـى الرجـل أو المـرأة مـن الآخـر مـن سـوء منظـر أو خلـق أو نحـو ذلـك مـن الأسـباب المقتضيـة للفرقـة.
وقولـه تعالـى: (( ومـا هـم بضاريـن بـه مـن أحـد إلا بـإذن الله )).
قـال سـفيان الثـوري: إلا بقضـاء الله.
قـال الحسـن البصـري: مـن شـاء الله سـلطهم عليـه ومـن لـم يشـأ الله لـم يسـلط، ولا يسـتطيعون مـن أحـد إلا بـإذن الله.
وقولـه تعالـى: (( ويتعلمـون مـا يضرهـم ولا ينفعهـم )) أي يضرهـم فـي دينهـم وليـس لـه نفـع يـوازي ضـرره.
(( ولقـد علمـوا لمـن اشـتراه مالـه فـي الآخـرة مـن خـلاق )) أي ولقـد علـم اليهـود الذيـن اسـتبدلوا بالسـحر عـن متابعـة الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم لمـن فعـل فعلهـم ذلـك، أنـه مـا لـه فـي الآخـرة مـن خـلاق.
قـال ابـن عبـاس: مـن نصيـب.
(( ولبئـس مـا شـروا بـه أنفسـهم لـو كانـوا يعلمـون )) .
يقـول تعالـى: (( ولبئـس )) البديـل مـا اسـتبدلوا بـه مـن السـحر عوضـاً عـن الإيمـان ومتابعـة الرسـول، لـو كـان لهـم علـم بمـا وعظـوا بـه (( ولـو أنهـم آمنـوا واتقـوا لمثوبـة مـن الله خيـر )) أي لـو أنهـم آمنـوا بالله ورسـله واتقـوا المحـارم، لكـان مثوبـة الله علـى ذلـك خيـراً لهـم ممـا اسـتخاروا لأنفسـهم ورضـوا بـه، كمـا قـال تعالـى: (( وقـال الذيـن أوتـوا العلـم ويلكـم ثـواب الله خيـر لمـن آمـن وعمـل صالحـاً ولا يلقاهـا إلا الصابـرون )).
وقـد اسـتدل بقولـه: (( ولـو أنهـم أمنـوا واتقـوا )) مـن ذهـب إلـى تكفيـر السـاحر، كمـا هـو روايـة عـن الإمـام أحمـد ابـن حنبـل وطائفـة مـن السـلف.
وقيـل: بـل لا يكفـر ولكـن حـده ضـرب عنقـه، لمـا رواه الشـافعي وأحمـد بـن حنبـل عـن عمـرو بـن دينـار أنـه سـمع بجالـة بـن عبـدة يقـول: كتـب عمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه أن اقتلـوا كـل سـاحر وسـاحرة قـال: فقتلنـا ثـلاث سـواحر.
وصـح أن حفصـة أم المؤمنيـن سـحرتها جاريـة لهـا فأمـرت بهـا فقتلـت.
قـال الإمـام أحمـد بـن حنبـل: صـح عـن ثلاثـة مـن أصحـاب النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فـي قتـل السـاحر.
وروي عـن الترمـذي عـن جنـدب الأزدي أنـه قـال: قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ حـد السـاحر ضربـه بالسـيف }}.
وقـد روي مـن طـرق متعـددة أن الوليـد بـن عقبـة كـان عنـده سـاحر يلعـب بيـن يديـه فكـان يضـرب رأس الرجـل يـم يصيـح بـه فيـرد إليـه رأسـه، فقـال النـاس: سـبحان الـذي يحيـي الموتـى!! ورآه رجـل مـن صالحـي المهاجريـن، فلمـا كـان الغـد جـاء مشـتملاً علـى سـيفه، وذهـب يلعـب لعبـه ذلـك فاختـرط الرجـل سـيفه فضـرب عنـق السـاحر، وقـال: إن كـان صادقـاً فليحيـي نفسـه، وتـلا قولـه تعالـى: (( أتأتـون السـحر وأنتـم تبصـرون )) فغصـب الوليـد إذ لـم يسـتأذنه فـي ذلـك فسـجنه ثـم أطلقـه، والله أعلـم.
وحمـل الشـافعي رحمـه الله قصـة عمـر وحفصـة علـى سـحر يكـون شـركاً، والله أعلـم.
فصـل
حكـى الـرازي فـي تفسـيره عـن المعتزلـة أنهـم أنكـروا وجـود السـحر، قـال: وربمـا كفَّـروا مـن اعتقـد وجـوده، وأمـا أهـل السـنة فقـد جّـوزوا أن يقـدر السـاحر أن يطيـر فـب الهـواء، ويقلـب الإنسـان حمـاراً والحمـار إنسـاناً، إلا أنهـم قالـوا: إن الله يخلـق الأشـياء عندمـا يقـول السـاحر تلـك الرقـى والكلمـات المعينـة، فأمـا إن يكـون المؤثـر فـي ذلـك هـو الفلـك والنجـوم فـلا، خلافـاً للفلاسـفة والمنجميـن والصابئـة، ثـم اسـتُدل علـى وقـوع السـحر، وأنـه بخلـق الله تعالـى بقولـه تعالـى: (( ومـا هـم بضاريـن بـه مـن أحـد إلا بـإذن الله )).
ومـن الأخبـار بـأن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم سُـحِر وأن السـحر عمـل فيـه، وبقصـة المـرأة مـع عائشـة رضـي الله عنهـا، ومـا ذكـرت مـن إتيانهـا بابـل وتعلمهـا السـحر.
ثـم قـد ذكـر أبـو عبـد الله الـرازي أن أنـواع السـحر ثمانيـة (الأول) : سـحر الكذابيـن والكشـدانيين الذيـن كانـوا يعبـدون الكواكـب السـبعة المتحيـرة وهـي السـيارة وكانـوا يعتقـدون أنهـا مدبـرة العالـم وأنهـا تأتـي بالخيـر والشـر وهـم الذيـن بعـث الله إليهـم إبراهيـم الخليـل صلـى الله عليـه وسـلم مبطـلاً لمقالتهـم ورداً لمذهبهـم.
(والنـوع الثانـي) سـحر أصحـاب الأوهـام والنفـوس القويـة، ثـم اسـتدل علـى أن الوهـم لـه تأثيـر بـأن الإنسـان يمكنـه أن يمشـي علـى الجسـر الموضـوع علـى وجـه الأرض، ولا يمكنـه المشـي عليـه إذا كـان ممـدوداً علـى نهـر ونحـوه، ومـا ذاك إلا لأن النفـوس خلقـت مطيعـة للأوهـام، وقـد اتفـق العقـلاء علـى أن الإصابـة بالعيـن حـق لمـا ثبـت فـي الصحيـح أو رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ العيـن حـق ولـو كـان شـيء سـابق القـدر لسـبقته العيـن }}.
(والنـوع الثالـث) مـن السـحر: الاسـتعانة بالأرواح الأرضيـة وهـم الجـن خلافـاً للفلاسـفة والمعتزلـة وهـم علـى قسـمين: مؤمنـون، وكفـار وهـم الشـياطين، قـال: واتصـال النفـوس الناطقـة بهـا أسـهل مـن اتصالهـا بالأرواح السـماوية لمـا بينهمـا مـن مناسـبة والقـرب، ثـم إن أصحـاب الصنعـة وأربـاب التجربـة شـاهدوا أن الاتصـال بهـذه الأرواح الأرضيـة يحصـل بأعمـال سـهلة قليلـة مـن الرقـي والدخـن والتجريـد، وهـذا النـوع هـو المسـمى بالعـزم وعمـل التسـخير.
(النـوع الرابـع) مـن السـحر: التخيـلات، والأخـذ بالعيـون، والشـعبذة، ومبنـاه علـى أن البصـر قـد يخطـئ ويشـتغل بالشـيء المعيـن دون غيـره، إلا تـرى ذا الشـعبذة الحـاذق يظهـر عمـل شـيء يذهـل أذهـان الناظريـن بـه ويأخـذ عيونهـم إليـه، حتـى إذا اسـتفزعهم الشـغل بذلـك الشـيء بالتحديـق ونحـوه، عمـل شـيئاً آخـر عمـلاً بسـرعة شـديدة، وحينئـذ يظهـر لهـم شـيء آخـر غيـر مـا انتظـروه، فيتعجبـون منـه جـداً، ولـو أنـه سـكت ولـم يتكلـم بمـا يصـرف الخواطـر إلـى ضـد مـا يريـد أن يعملـه، ولـم تتحـرك النفـوس والأوهـام إلـى غيـر مـا يريـد إخراجـه، لفطـن الناظـرون لكـل مـا يفعلـه.
(قلـت) وقـد قـال بعـض المفسـرين: إن سـحر السـحرة بيـن يـدي فرعـون إنمـا كـان مـن بـاب الشـعبذة ولهـذا قـال تعالـى: (( فلمـا ألقـوا سـحروا أعيـن النـاس واسـترهبوهم وجـاؤا بسـحر عظيـم )). وقـال تعالـى: (( يُخيَّـل إليـه مـن سـحرهم أنهـا تسـعى )). قالـوا: ولـم تكـن تسـعى فـي نفـس الأمـر، والله أعلـم.
(والنـوع الخامـس) مـن السـحر: الأعمـال العجبيـة التـي تظهـر مـن تركيـب آلات مركبـة علـى النسـب الهندسـية، كفـارسٍ علـى فـرس فـي يديـه بـوق، كلمـا مضـت سـاعة مـن النهـار ضـرب بالبـوق مـن غيـر أن يمسـه أحـد، ومنهـا الصـور التـي تصورهـا الـروم والهنـد حتـى لا يفـرق الناظـر بينهـا وبيـن الإنسـان حتـى يصورونهـا ضاحكـة وباكيـة إلـى أن قـال: فهـذه الوجـوه مـن لطيـف أمـور التخاييـل، قـال: وكـان سـحر سـحرة فرعـون مـن هـذا القبيـل.
(قلـت) يعنـي مـا قالـه بعـض المفسـرين: إنهـم عمـدوا إلـى تلـك الحبـال والعصـي فحشـوها زئبقـاً فصـارت تتلـوى بسـبب مـا فيهـا مـن ذلـك الزئبـق فيخيـل إلـى الرائـي أنهـا تسـعى باختيارهـا، ومـن هـذا القبيـل حيـل النصـارى علـى عامتهـم بمـا يرونهـا إيـاه مـن الأنـوار، كقضيـة قمامـة الكنيسـة التـي لهـم ببلـد المقـدس، ومـا يحتالـون بـه مـن إدخـال النـار خفيـة إلـى الكنيسـة، وإشـعال ذلـك القنديـل بصنعـة لطيفـة تـروج علـى الطغـام منهـم، وأمـا الخـواص فهـم معترفـون بذلـك ولكـن يتأولـون أنهـم يجمعـون شـمل أصحابهـم علـى دينهـم فيـرون ذلـك سـائغاً لهـم.
(النـوع السـادس) مـن السـحر: الاسـتعانة بخـواص الأدويـة فـي الأطعمـة والدهانـات، قـال: واعلـم إنـه لا سـبيل إلـى إنكـار الخـواص، فـإن تأثيـر المغناطيـس مشـاهد.
(قلـت) يدخـل فـي هـذا القبيـل كثيـر ممـن يدعـي الفقـر ويتحيـل علـى جهلـة النـاس بهـذه الخـواص، مدعيـاً أنهـا أحـوال لـه مـن مخالطـة النيـران ومسـك الحيـات إلـى خيـر ذلـك مـن المحـالات.
(النـوع السـابع) مـن السـحر: التعليـق للقلـب، وهـو لأن يدعـي السـاحر أنـه عـرف الاسـم الأعظـم، وأن الجـن يطيعونـه وينقـادون لـه فـي أكثـر الأمـور، فـإذا اتفـق أن يكـون السـامع لذلـك ضعيـف العقـل قليـل التمييـز اعتقـد أنـه حـق وتعلـق قلبـه بذلـك، وحصـل فـي نفسـه نـوع مـن الرعـب والمخالفـة، فـإذا حصـل الخـوف ضعفـت القـوى الحسـاسـة، فحينئـذ يتمكـن السـاحر أن يفعـل مـا يشـاء.
(قلـت) هـذا النمـط يقـال لـه التَنْبلـة وإنمـا يـروج علـى ضعفـاء العقـول مـن بنـي آدم، وفـي عِلْـم الفِراسـة مـا يرشـد إلـى معرفـة كامـل العقـل مـن ناقصـه، فـإذا كـان النبيـل حاذقـاً فـي علـم الفراسـة عـرف مـن ينقـاد لـه مـن النـاس مـن غيـره.
(النـوع الثامـن) مـن السـحر: السـعي بالنميمـة مـن وجـوه خفيفـة لطيفـة وذلـك شـائع فـي النـاس.
(قلـت) النميمـة علـى قسـمين: تـارة تكـون علـى وجـه التحريـش بيـن النـاس وتفريـق قلـوب المؤمنيـن فهـذا حـرام متفـق عليـه، فأمـا إن كانـت علـى وجـه الإصـلاح بيـن النـاس وائتـلاف كلمـة المسـلمين، أو علـى وجـه التخذيـل والتفريـق بيـن جمـوع الكفـرة، فهـذا أمـر مطلـوب كنـا جـاء فـي الحديـث: {{ الحـرب خدعـة }}. وإنمـا يحـذو علـى مثـل هـذا الذكـاء ذو البصيـرة النافـذة والله المسـتعان.
ثـم قـال الـرازي فهـذه جملـة الكـلام فـي أقسـام السـحر وشـرح أنواعـه وأصنافـه.
(قلـت): وإنمـا أدخـل كثيـراً مـن هـذه الأنـواع المذكـورة فـي فـن السـحر للطاقـة مداركهـا لأن السـحر فـي اللغـة عبـارة عمـا لطـف وخفـي سـببه، ولهـذا جـاء فـي الحديـث: {{ إن مـن البيـان لسـحراً }}.
وسـمي السـحور لكونـه يقـع خفيـاً آخـر الليـل.
والسَّـحْرُ: الرئـة، وسـميت بذلـك لخفائهـا ولطـف مجاريهـا إلـى أجـزاء البـدن، كمـا قـال أبـو جهـل يـوم بـدر لعتبـة: انتفـخ سَـحْره، أي انتفخـت رئتـه مـن الخـوف.
وقالـت عائشـة رضـي الله عنهـا: توفـي رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم بيـن سَـحْري ونحـري.
وقـال القرطبـي: وعندنـا أن السـحر حـق، ولـه حقيقـة، يخلـق الله عنـده مـا يشـاء، خلافـاً للمعتزلـة وأبـي إسـحاق الاسـفرايني مـن الشـافعية حيـث قالـوا: إنـه تمويـه وتخيـل.
قـال: ومـن السـحر مـا يكـون بخفـة اليـد كالشـعوذة، ومنـه مـا يكـون كلامـاً يحفـظ ورقـى مـن أسـماء الله تعالـى، وقـد يكـون مـن عهـود الشـياطين، ويكـون أدويـة وأدخنـة وغيـر ذلـك.
قـال: وقولـه عليـه السـلام: {{ إن مـن البيـان لسـحراً }} يحتمـل أن يكـون مدحـاً كمـا تقولـه طائفـة، ويحتمـل أن يكـون ذمـاً للبلاغـة، قـال: وهـذا أصـح، قـال: لأنهـا تصـوِّب الباطـل حتـى توهـم السـامع أنـه حـق، كمـا قـال عليـه الصـلاة والسـلام: {{ فلعـل بعضكـم أن يكـون ألحـن بحجتـه مـن بعـض فأقضـي لـه }} الحديـث.
فصـل
واختلفـوا فيمـن يتعلـم السـحر ويسـتعمله، فقـال أبـو حنيفـة ومالـك أحمـد: يكفـر بذلـك.
ومـن أصحـاب أبـي حنيفـة مـن قـال إن تعلمـه ليتقيـه أو ليجتنبـه فـلا كفـر، ومـن تعلمـه معتقـداً جـوازه أو أنـه ينفعـه كفـر، وكـذا مـن اعتقـد أن الشـياطين تفعـل لـه ممـا يشـاء فهـو كافـر.
وقـال الشـافعي رحمـه الله: إذا تعلـم السـحر قلنـا لـه: صـف لنـا سـحرك، فـإن وصـف مـا يوجـب الكفـر مثـل مـا اعتقـده أهـل بابـل مـن التقـرب إلـى الكواكـب السـبعة وأنهـا تفعـل مـا يلتمـس منهـا فهـو كافـر، وإن كـان لا يوجـب الكفـر فـإن اعتقـد إباحتـه فهـو كافـر. فأمـا إن قتـل بسـحره إنسـاناً فإنـه يقتـل عنـد (مالـك والشـافعي وأحمـد).
وقـال أبـو حنيفـة: لا يقتـل حتـى يتكـرر منـه ذلـك أو يقـر بذلـك فـي حـق شـخص معيـن، وإذا قتـل فإنـه يقتـل حـداً عندهـم إلا الشـافعي فأنـه قـال: يقتـل والحالـة هـذه قصاصـاً.
قـال: وهـل إذا تـاب السـاحر تقبـل توبتـه؟
فقـال مالـك وأبـو حنيفـة أحمـد فـي المشـهور عنهـم: لا تقبـل.
وقـال الشـافعي وأحمـد فـي روايـة أخـرى تقبـل.
وأمـا سـاحر أهـل الكتـاب فعنـد أبـي حنيفـة أنـه يقتـل كمـا يقتـل السـاحر المسـلم.
وقـال مالـك وأحمـد والشـافعي: لا يقتـل لقصـة (لبيـد بـن الأعصـم).
واختلفـوا فـي المسـلمة السـاحرة: فعنـد أبـي حنيفـة أنهـا لا تقتـل ولمـن تحبـس.
وقـال الثلاثـة: حكمهـا حكـم الرجـل، والله أعلـم.
مسْـألة
وهـل يسـأل السـاحر حـلاً لسـحره؟
فأجـازه سـعيد بـن مسـيب فيمـا نقلـه عنـه البخـاري.
وقـال الشـعبي: لا بـأس بالنشـرة.
وكـره ذلـك الحسـن البصـري.
وفـي الصحيـح عـن عائشـة أنهـا قالـت: يـا رسـول الله هـلا تنشـرت، فقـال: {{ أمـا الله فقـد شـفاني وخشـيت أن أفتـح علـى النـاس شـراً }}.
وحكـى القرطبـي عـن وهـب أنـه قـال: يؤخـذ سـبع ورقـات مـن سـدر، فتـدق بيـن حجريـن ثـم نضـرب بالمـاء، ويقـرأ عليهـا آيـة الكرسـي ويشـرب منهـا المسـحور ثـلاث حسـوات، ثـم يغتسـل بباقيـه فإنـه يذهـب مـا بـه، وهـو جيـد للرجـل الـذي يؤخـذ عـن امرأتـه.
(قلـت): أنفـع مـا يسـتعمل لإذهـاب السـحر مـا أنـزل الله علـى رسـوله فـي إذهـاب ذلـك وهمـا المعوذتـان، وفـي الحديـث الشـريف: {{ لـم يتعـوذ المتعـوذ بمثلهـا }} ةكذلـك قـراءة آيـة الكرسـي فإنهـا مطـردة للشـياطين.
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 94 ، 95 ، 96 ، 97 ، 98 ، 99 ، 100 ، 101 ، 102 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( يـا أيُّهَـا الًّذيـنَ آمَنـوا لا تَقولـوا راعِنـا وَقولـوا انظُرنـا واسْـمَعوا وَلِلكافِريـنَ عَـذابٌ أليـمٌ (104) مـا يَـودُّ الَّذيـنَ كَفَـروا مِـنْ أَهْـلِ الكِتـابِ وَلا المُشـرِكينَ أَنْ يُنَـزَّلَ عَليكُـم مِـنْ خَيـرٍ مِـنْ رَبِّكُـم وَالله يَخْتَـصُ بِرَحْمَتِـهِ مَـنْ يَشـاءُ وَالله ذو الفَضْـلِ العَظيـمِ )) / 105 /
نهـى الله تعالـى عبـاده المؤمنيـن أن يتشـبهوا بالكافريـن فـي مقالهـم وأفعالهـم، وذلـك أن اليهـود كانـوا يعانـون مـن الكـلام مـا فيـه توريـة لمـا يقصدونـه مـن النقيـض _ عليهـم لعائـن الله _ فـإذا أرادوا أن يقولـوا: اسـمع لنـا، يقولـوا (راعنـا) ويـورون بالرعونـة، كمـا قـال تعالـى: (( مـن الذيـن هـادوا يحرفـون الكلـم عـن مواضعـه ويقولـون سـمعنا وعصينـا واسـمع غيـر مسـمع وراعنـا . ليـاً بألسـنتهم وطعنـاً فـي الديـن )).
وكذلـك جـاءت الأحاديـث بالأخبـار عنهـم بأنهـم كانـوا إذا سـلّموا إنمـا يقولـون (السـام عليكـم)، والسـام هـو المـوت، ولهـذا أمرنـا أن نـرد عليهـم بـ (وعليكـم)، والغـرض أن الله تعالـى نهـى المؤمنيـن عـن مشـابهة الكافريـن قـولاً وفعـلاً، فقـال: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا لا تقولـوا راعنـا وقولـوا انظرنـا واسـمعوا وللكافريـن عـذاب أليـم )).
وقـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن تشـبه بقـوم فهـو منهـم }}.
ففيـه دلالـة علـى النهـي الشـديد والتهديـد والوعيـد علـى التشـبه بالكفـار، فـي أقوالهـم وأفعالهـم ولباسـهم وأعيادهـم وعباداتهـم وغيـر ذلـك مـن أمورهـم التـي لـم تشـرع لنـا ولا نقـر عليهـا.
وروي أن رجـلاً أتـى عبـد الله بـن مسـعود فقـال: اعهـد إلـيَّ، فقـال: إذا سـمعت الله يقـول: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا )) فأرعهـا سـمعك فـإن خيـرٌ يأمـر بـه، أو شـر ينهـى عنـه، وقـال الأعمـش عـن خيثمـة مـا تقـرأون فـي القـرآن: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا )) فـإن فـي التـوراة: (يـا أيهـا المسـاكين).
قـال ابـن عبـاس: (راعنـا) أي أرعنـا سَـمعك.
وقـال الضحّـاك: كانـوا يقولـون للنبـي صلـى الله عليـه وسـلم: أرعنـا سـمعك.
قـال عطـاء: كانـت لغـة تقولهـا الأنصـار فنهـى الله عنهـا.
وقـال أبـو صخـر: كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، إذا أدبـر نـاداه مـن كانـت لـه حاجـة مـن المؤمنيـن فيقـول: أرعنـا سـمعك، فأعظـم الله رسـوله صلـى لله عليـه وسـلم أن يقـال ذلـك لـه.
وقـال السُّـدي: كـان رجـل مـن اليهـود مـن بنـي قينقـاع يدعـى (رفاعـة بـن زيـد) يأتـي النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فـإذا لقيـه فكلَّمـه قـال: أرعنـي سـمعك، واسـمع غيـر مسـمع، وكـان المسـلمون يحسـبون أن الأنبيـاء كانـت تُفَخّـم بهـذا، فكـان نـاس منهـم يقولـون: اسـمع غيـر مسـمع، فنهـوا أن يقولـوا راعنـا.
قـال ابـن جريـر: والصـواب مـن القـول فـي ذلـك عندنـا: أن الله نهـى المؤمنيـن أن يقولـوا لنبيـه صلـى الله عليـه وسـلم راعنـا، لأنهـا كلمـة الله تعالـى أن يقولوهـا لنبيـه صلـى الله عليـه وسـلم.
وقولـه تعالـى: (( مـا يـود الذيـن كفـروا مـن أهـل الكتـاب ولا المشـركين أن ينـزل عليكـم مـن خيـر مـن ربكـم )).
يبيّـن بذلـك تعالـى شـدة عـداوة الكافريـن مـن أهـل الكتـاب والمشـركين، الذيـن حـذَّر الله تعالـى مـن مشـابهتهم للمؤمنيـن ليقطـع المـودَّة بينهـم وبينهـم، ونبَّـه تعالـى علـى مـا أنعـم بـه علـى المؤمنيـن، مـن الشـرع التـام الكامـل، الـذي شـرع لنبيهـم محمـد صلـى الله عليـه وسـلم حيـث يقـول تعالـى: ((والله يختـص برحمتـه مـن يشـاء والله ذو الفضـل العظيـم )).
(( مَـا نَنسَـخُ مِـن آيَـةٍ أَو نُنْسِـها نَـأتِ بِخَيـرٍ مِنْهـا أَو مِثْلِهـا أَلَـم تَعلَـم أَنَّ الله عَلـى كُـلِّ شَـيءٍ قديـرٌ (106) أَلَـم تَعلَـم أَنَّ الله لَـهُ مُلـكُ السَّـماواتِ وَالأرضِ وَمـا لَكُـم مِـن دُونِ اللهِ مِـن وَلِـيٍّ وَلا نَصيـرٍ )) / 107 /
قـال ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا: (( مـا ننسـخ مـن آيـة )) مـا نبـدل مـن آيـة.
وقـال مجاهـد: (( مـا ننسـخ مـن آيـة )) أي مـا نمحـو مـن آيـة، مثـل قولـه: "" الشـيخ والشـيخة إذا زنيـا فارجموهمـا البتـة "" ، وقولـه: "" لـو كـان لابـن آدم واديـان مـن ذهـب لابتغـى لهمـا ثالثـاً "".
وقـال ابـن جريـر: (( مـا ننسـخ مـن آيـة )) مـا ننقـل مـن حكـم آيـة إلـى غيـره فنبدلـه ونغيـره، وذلـك أن نحـوّل الحـلال حرامـاً، والحـرام حـلالاً، والمبـاح محظـوراً، والمحظـور مباحـاً، ولا يكـون ذلـك إلا فـي (الأمـر والنهـي والحظـر والإطـلاق والمنـع والإباحـة).
فأمـا الأخبـار فـلا يكـون فيهـا ناسـخ ولا منسـوخ، وأصـل النسـخ: مـن نسـخ الكتـاب وهـو نقلـه مـن نسـخة أخـرى إلـى غيرهـا، فكذلـك معنـى نسـخ الحكـم إلـى غيـره، إنمـا هـو تحويلـه ونقـل عبـارة إلـى غيرهـا، وسـواء نسـخ حكمهـا أو خطهـا إذ هـي فـي كلتـا حالتيهـا منسـوخة، وإمـا علمـاء الأصـول فاختلفـت عباراتهـم فـي حـد النسـخ، والأمـر فـي ذلـك قريـب. لأن معنـى النسـخ الشـرعي معلـوم عنـد العلمـاء، ولحـظ بعضهـم أنـه: رفـع الحكـم بدليـل شـرعي متأخـر، فانـدرج فـي ذلـك نسـخ الأخـف بالأثقـل وعكسـه والنسـخ لا إلـى بـدل. وأمـا تفاصيـل أحكـام النسـخ مذكـر أنواعـه وشـروطه فمبسـوطة فـي أصـول الفقـه.
وقـال الطبرانـي: قـرأ رجـلان سـورة أقرأهمـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فكانـا يقـرآن بهـا، فقامـا ذات ليلـة يصليـان فلـم يقـدرا منهـا علـى حـرف، فأصبحـا غادييـن علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فذكـرا ذلـك لـه، فقـال: رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إنهـا ممـا نسـخ وأنسـي فالهـوا عنهـا }}.
فكـان الزهـري يقرؤهـا: (( مـا ننسـخ مـن آيـة أو نُنْسـها )) بضـم النـون الخفيفـة.
وقولـه تعالـى: (( أو ننسـها )) فقـرئ علـى وجهيـن: (( نَنْسـأها )) ، و (( نُنْسِـها )).
فأمـا مـن قرأهـا بفتـح النـون والهمـزة بعـد السـين فمعنـاه نؤخرهـا.
وقـال مجاهـد عـن أصحـاب ابـن مسـعود (( أو ننسـأها )) نثبـت خطهـا ونبـدل حكمهـا.
وقـال مجاهـد وعطـاء: (( أو ننسـأها )) نؤخرهـا ونرجئهـا.
عـن ابـن عبـاس قـال: خطبنـا عمـر رضـي الله عنـه فقـال: يقـول الله عـز وجـل: (( مـا ننسـخ مـن آيـة أو ننسـأها )) أي نؤخرهـا.
وأمـا علـى قـراءة (( أو نُنْسـها )) فقـال قتـادة: كـان الله عـز وجـل ينسـي نبيـه صلـى الله عليـه وسـلم مـا يشـاء، وينسـخ مـا يشـاء.
وقـال ابـن جريـر عـن الحسـن فـي قولـه: (( أو ننسـها )) قـال: إن نبيكـم صلـى الله عليـه وسـلم قـرأ قرآنـاً ثـم نسـيه.
وعـن ابـن عبـاس قـال: { كـان ممـا ينـزل علـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم الوحـي بالليـل ينسـاه بالنهـار }
وقـال عمـر: أقرؤنـا أبـيّ، وأقضانـا علـي، وإنَّـا لنـدع مـن قـول أبـيّ، وذلـك أن أبيّـاً يقـول: لا أدع شـيئاً سـمعته مـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
وقـد قـال الله: (( مـا ننسـخ مـن آيـة أو ننسـها ))
وقولـه: (( نـأت بخيـر منهـا أو مثلهـا )) أس فـي الحكـم بالنسـبة إلـى مصلحـة المكلفيـن.
كمـا قـال ابـن عبـاس: خيـر لكـم فـي المنفعـة وأرفـق بكـم.
وقـال السـدي: (( نـأت بخيـر منهـا أو مثلهـا )) نـأت بخيـر مـن الـذي نسـخناه أو مثـل الـذي تركنـاه.
وقولـه: (( ألـم تعلـم أن الله علـى كـل شـيء قديـر . ألـم تعلـم أن الله لـه ملـك السـماوات والأرض ومـا لكـم مـن دون الله مـن ولـي ولا نصيـر )).
يرشـد عبـاده تعالـى بهـذا إلـى أنـه المتصـرف فـي خلقـه بمـا يشـاء، فلـه الخلـق والأمـر، وهـو المتصـرف فكمـا خلقهـم كمـا يشـاء، ويسـعد مـن يشـاء ويشـقي مـن يشـاء، ويوفـق مـن يشـاء ويخـذل مـن يشـاء، كذلـك يحكـم فـي عبـاده بمـا يشـاء ويحـرم مـا يشـاء، ويبيـح مـا يشـاء ويحظـر مـا يشـاء، وهـو الـذي يحكـم مـا يريـد لا معقـب لحكمـه، (( لا يُسـأل عمـا يفعـل وهـم يُسـألون )) ويختبـر عبـاده بالنسـخ فيأمـر بالشـيء لمـا فيـه المصلحـة التـي يعلمهـا تعالـى، ثـم ينهـى عنـه لمـا يعلمـه تعالـى، فالطاعـة كـل الطاعـة فـي امتثـال أمـره واتبـاع رسـله فـي تصديـق مـا أخبـروا، وامتثـال مـا أمـروا، وتـرك مـا عنـه زجـروا، وفـي هـذا المقـام رد عظيـم وبيـان بليـغ لكفـر اليهـود وتزييـف شـبهتهم لعنهـم الله فـي دعـوى اسـتحالة النسـخ إمـا عقـلاً كمـا زعمـه بعضهـم جهـلاً وكفـراً، وإمـا نقـلاً كمـا تخرصـه آخـرون منهـم افتـراءً وإفكـاً.
قـال الإمـام أبـو جعفـر بـن جريـر رحمـه الله: فتأويـل الآيـة: ألـم تعلـم يـا محمـد أن لـي ملـك السـماوات والأرض وسـلطانهما دون غيـري أحكـم فيهمـا وفيمـا فيهمـا بمـا أشـاء، وآمـر فيهمـا وفيمـا فيهمـا بمـا أشـاء، وأنهـى عمـا أشـاء وأنسـخ وأبـدل وأغيـر مـن أحكامـي التـي أحكـم بهـا فـي عبـادي بمـا أشـاء إذ أشـاء، وأقـر فيهمـا مـا أشـاء.
ثـم قـال: وهـذا الخبـر وأن كـان خطابـاً مـن الله تعالـى لنبيـه صلـى الله عليـه وسـلم علـى وجـه الخبـر عـن عظمتـه، فـإذا منـه جـل ثنـاؤه تكذيـب لليهـود، الذيـن أنكـروا نسـخ أحكـام التـوراة، وجحـدوا نبـوة عيسـى ومحمـد عليهـا الصـلاة والسـلام، لمجيئهمـا بمـا جـاءا بـه مـن عنـد الله بتغييـر مـا غيّـر الله مـن حكـم التـوراة، فأخبرهـم الله أن لـه ملـك السـماوات وسـلطانهما وأن الخلـق أهـل مملكتـه وطاعتـه، وعليهـم السـمع والطاعـة لأمـره ونهيـه، وأن لـه أمرهـم بمـا يشـاء ونهيهـم عمـا يشـاء، ونسـخ مـا يشـاء، وإنشـاء مـا يشـاء مـن إقـراره وأمـره ونهيـه.
(قلـت): الـذي يحمـل اليهـود علـى البحـث فـي مسـألة النسـخ إنمـا هـو الكفـر والعنـاد، فإنـه ليـس فـي العقـل مـا يـدل علـى امتنـاع النسـخ فـي أحكـام الله تعالـى، لأنـه يحكـم مـا يشـاء كمـا أنـه يفعـل مـا يريـد، مـع أنـه قـد وقـع ذلـك فـي كتبـه المتقدمـة وشـرائعه الماضيـة، كمـا أحـل لآدم تزويـج بناتـه مـن بنيـه ثـم حـرم ذلـك، كمـا أبـاح لنـوح بعـد خروجـه مـن السـفينة أكـل جميـع الحيوانـات ثـم نسـخ حـلَّ بعضهـا، وكـان نكـاح الأختيـن مباحـاً لإسـرائيل وبنيـه وقـد حـرم ذلـك فـي شـريعة التـوراة ومـا بعدهـا، وأمـر إبراهيـم عليـه السـلام بذبـح ولـده ثـم نسـخه قبـل الفعـل، وأشـياء كثيـرة يطـول ذكـرها وهـم يعترفـون بذلـك ويصدفـون عنـه.
ففـي هـذا المقـام بيَّـن تعالـى جـواز النسـخ رداً علـى اليهـود عليهـم لعنـة الله حيـث قـال تعالـى: (( ألـم تعلـم أن الله علـى كـل شـيء قديـر . ألـم تعلـم أن الله لـه ملـك السـماوات والأرض )) الآيـة. فكمـا أن لـه الملـك بـلا منـازع فكذلـك لـه الحكـم بمـا يشـاء (( ألا لـه الخلـق والأمـر )).
والمسـلمون كلهـم متفقـون علـى جـواز النسـخ فـي أحكـام الله تعالـى، لمـا لـه فـي ذلـك مـن الحكمـة البالغـة وكلهـم قـال بوقوعـه.
قـال أبـو مسـلم الأصبهانـي المفسِّـر: لـم يقـع شـيء مـن ذلـك فـي القـرآن، وقولـه ضعيـف مـردود مـرذول، وقـد تعسـف فـي الأجوبـة عمـا وقـع مـن النسـخ، فمـن ذلـك قضيـة العـدة بأربعـة أشـهر وعشـر بعـد الحـول، لـم يجـب عـن ذلـك بشـكل مقبـول، وقضيـة نحويـل القبلـة إلـى الكعبـة عـم بيـت المقـدس لـم يجـب بشـيء، ومـن ذلـك نسـخ مصابـرة المسـلم لعشـرة مـن الكفـرة إلـى مصابـرة الاثنيـن، ومـن ذلـك نسـخ وجـوب الصدقـة قبـل مناجـاة الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم وغيـر ذلـك، والله أعلـم.
(( أَم تُرِيـدُونَ أَن تَسـأَلُوا رَسُـولَكُم كَمَـا سُـئِلَ مُوسَـى مِـن قَبـلُ وَمَـن يَتَبَـدَّلِ الكُفـرَ بِالإيمـانِ فَقَـد ضَـلَّ سَـواءَ السَّـبِيلِ )) / 108 /
نهـى الله تعالـى المؤمنيـن فـي هـذه الآيـة الكريمـة عـن كثـرة عـن كثـرة سـؤال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم عـن الأشـياء قبـل كونهـا كمـا قـال تعالـى: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا لا تسـألوا عـن أشـياء إن تبـد لكـم تسـوءكم وإن تسـألوا عنهـا حيـن ينـزل القـرآن تبـد لكـم ))
أي وإن تسـألوا عـن تفصيلهـا بعـد نزولهـا تبيـن لكـم، ولا تسـألوا عـن الشـيء قبـل كونـه فلعلـه أن يحـرِّم مـن أجـل تلـك المسـألة، ولهـذا جـاء فتي الصحيـح: {{ إن أعظـم المسـلمين جرمـاً مـن سـأل عـن شـيء لـم يحـرم فحُـرِّم مـن أجـل مسـألته }}.
وثبـت فـي الصحيحيـن مـن حديـث المغيـرة ابـن شـعبة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: كـان ينهـى عـن قيـل وقـال، وإضاعـة المـال، وكثـرة السـؤال.
وفـي صحيـح مسـلم: {{ ذرونـي ومـا تركتكـم فإنمـا هلـك مـن قبلكـم بكثـرة سـؤالهم واختلافهـم علـى أنبيائهـم. فـإذا أمرتكـم بأمـر فأتـوا منـه مـا اسـتطعتم، وإن نهيتكـم عـن شـيء فاجتنبـوه }}
وهـذا إنمـا قالـه: بعـد مـا أخبرهـم أن الله كتـب عليهـم الحـج فقـال رجـل: أكـلَّ عـام يـا رسـول الله؟ فسـكت عنـه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم ثلاثـاً، ثـم قـال عليـه السـلام: {{ لا، ولـو قلـت نعـم لوجبـت، ولـو جبـت لمـا اسـتطعتم }}.
ثـم قـال: {{ ذرونـي مـا تركتـم }} الحديـث.
ولهـذا قـال أنـس بـن مالـك: نهينـا أن نسـأل رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـن شـيء، فكـان يعجبنـا أن يأتـي الرجـل مـن أهـل الباديـة فيسـأله ونحـن نسـمع.
وعـن ابـن عبـاس قـال: مـا رأيـت قومـاً خيـراً مـن أصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، مـا سـألوه إلا اثنتـي عشـرة مسـألة كلهـا فـي القـرآن (( يسـألونك عـن الخمـر والميسـر _ و _ يسـألونك عـن الشـهر الحـرام _ ويسـألونك عـن اليتامـى )) يعنـي هـذا وأشـباهه.
وقولـه تعالـى: (( أم تريـدون أن تسـألوا رسـولكم كمـا سـئل موسـى مـن قبـل )) أي بـل تريـدون أو هـي علـى بابهـا فـي الاسـتفهام وهـو (إنكـاري) وهـو يعـمّ المؤمنيـن والكافريـن، كمـا قـال تعالـى: (( يسـألك أهـل الكتـاب أن تنـزل عليهـم كتابـاً مـن السـماء )).
وعـن ابـن عبـاس قـال: قـال رافـع بـن حرملـة ووهـب بـن زيـد: يـا محمـد ائتنـا بكتـاب تنزلـه علينـا مـن السـماء نقـرؤه، وفجـر لنـا أنهـاراً نتبعـك ونصدقـك، فأنـزل الله مـن قولهـم: (( أن تريـدون أن تسـألوا رسـولكم كمـا سـئل موسـى مـن قبـل؟ ومـن يتبـدل الكفـر بالإيمـان فقـد ضـل سـواء السـبيل )).
وقـال مجاهـد: سـألت قريـش محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم أن يجعـل لهـم الصفـا ذهبـاً، فقـال: {{ نعـم وهـو لكـم كالمائـدة لبنـي إسـرائيل }} فأبـوا ورجعـوا.
والمـراد أن الله ذم مـن سـأل الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم عـن شـيء علـى وجـه التعنـت والاقتـراح كمـا سـألت بنـو إسـرائيل موسـى عليـه السـلام تعنتـاً وتكذيبـاً وعنـاداً.
قـال الله تعالـى: (( ومـن يتبـدل الكفـر بالإيمـان )) أي ومـن يشـترِ الكفـر بالإيمـان (( فقـد ضـل سـواء السـبيل )) أي فقـد خـرج عـن الطريـق المسـتقيم إلـى الجهـل والضـلال، وهكـذا حـال الذيـن عدلـوا عـن تصديـق الأنبيـاء واتباعهـم والانقيـاد لهـم، إلـى مخالفتهـم وتكذيبهـم والاقتـراح عليهـم بالأسـئلة التـي يحتاجـون إليهـا علـى وجـه التعنـت والكفـر كمـا قـال تعالـى: (( ألـم تـر إلـى الذيـن بدلـوا نعمـة الله كفـراً وأحلـوا قومهـم دار البـوار . جهنـم يصلونهـا وبئـس القـرار )).
(( وَدَّ كَثيـرٌ مِـنْ أَهـلِ الكِتـابِ لَـو يِرُدُّونَكُـم مِـن بَعـدِ إيمانِكُـم كُفَّـاراً حَسَـدَاً مِـن عِنـدِ أَنفُسِـهِم مِـن بَعـدِ مـا تَبَيَّـنَ لَهُـمُ الحَـقُّ فَاعفـوا وَاصفَحـوا حَتـى يَأتِـيَ الله بِأَمـرِهِ إِنَّ الله عَلـى كُـلِّ شَـيءٍ قَديـرٌ (109) وَأَقيمـوا الصَـلاةَ وَآتُـوا الزَّكـاةَ وَمـا تَقَدَّمـوا لأنفُسِـكُم مِـن خَيـرٍ تَجِـدوهُ عِنـدَ الله إِنَّ الله بِمـا تَعمَلـونَ بَصيـرٌ )) / 110 /
يُحـذِّر تعالـى عبـاده المؤمنيـن عـن سـلوك طريـق الكفـار مـن أهـل الكتـاب، ويعلمهـم بعداوتهـم لهـم فـي الباطـن والظاهـر، ومـا هـم مشـتملون عليـه مـن الحسـد للمؤمنيـن، ومـع علمهـم يفضلهـم وفضـل نبيهـم، ويأمـر عبـاده المؤمنيـن بالصفـح والعفـو أو الاحتمـال حتـى يأتـي أمـر الله مـن النصـر والفتـح، ويأمرهـم بإقامـة الصـلاة وإيتـاء الزكـاة، ويحثهـم علـى ذلـك ويرغبهـم فيـه كمـا قـال ابـن عبـاس: كـان حيـي بـن أخطـب وأبـو ياسـر بـن أخطـب مـن أشـد يهـود العـرب حسـداً، إذ خصمهـم الله برسـوله صلـى الله عليـه وسـلم، وكانـا جاهديـن فـي رد النـاس عـن الإسـلام مـا اسـتطاعا، فأنـزل الله فيهمـا: (( ودَّ كثيـر مـن أهـل الكتـاب لـو يردونكـم )) الآيـة.
وروي أن كعـب بـن الأشـرف اليهـودي كـان شـاعراً وكـان يهجـو النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وفيـه أنـزل الله: (( ودَّ كثيـر مـن أهـل الكتـاب لـو يردونكـم )) إلـى قولـه: (( فاعفـوا واصفحـوا )).
قـال تعالـى: (( كفـاراً حسـداً مـن عنـد أنفسـهم مـن بعـد مـا تبيـن لهـم الحـق )) يقـول مـن بعـد مـا أضـاء لهـم الحـق لـم يجهلـوا منـه شـيئاً، ولكـن الحسـد حملهـم علـى الجحـود فعيَّرهـم ووبخهـم ولامهـم أشـد الملامـة وشـرع لنبيـه وللمؤمنيـن مـا هـم عليـه مـن التصديـق والإيمـان والإقـرار بمـا أنـزل الله عليهـم ومـا أنـزل مـن قبلهـم بكرامتـه وثوابـه الجزيـل ومعونتـه لهـم.
وقـال الربيـع بـن أنَـس: (( مـن عنـد أنفسـهم )) مـن قِبَـل أنفسـهم.
وقـال أبـو العاليـة: (( مـن بعـد مـا تبيـن لهـم الحـق )) مـن بعـدم مـا تبيـن أن محمـداً رسـول الله يجدونـه مكتوبـاً عندهـم فـي التـوراة والإنجيـل فكفـروا بـه حسـداً وبغيـاً.
قـال ابـن عبـاس فـي قولـه (( فاعفـوا واصفحـوا حتـى يأتـي الله بأمـره )): نسـخ ذلـك قولـه: (( فاقتلـوا المشـركين حيـث وجدتموهـم ))، وقولـه: (( قاتلـوا الذيـن لا يؤمنـون بالله واليـوم الآخـر )).
وكـذا قـال أبـو العاليـة وقتـادة والسـدي: إنهـا منسـوخة بآيـة السـيف، ويرشـد إلـى ذلـك قولـه تعالـى: (( حتـى يأتـي الله بأمـره )).
وقولـه تعالـى: (( وأقيمـوا الصـلاة وآتـوا الزكـاة ومـا تقدمـوا لأنفسـكم مـن خيـر تجـدوه عنـد الله )).
يحثهـم تعالـى علـى الاشـتغال بمـا ينفعهـم، وتعـود عليهـم عاقبتـه يـوم القيامـة مـن إقـام الصـلاة وإيتـاء الزكـاة، حتـى يمكِّـن لهـم الله النصـر فـي الحيـاة الدنيـا ويـوم يقـوم الأشـهاد. ولهـذا قـال تعالـى: (( إن الله بمـا تعملـون بصيـر )) يعنـي إنـه تعالـى لا يغفـل عـن عمـل عامـل، ولا يضيـع لديـه سـواء كـان خيـراً أو شـراً، فإنـه سـيجازي كـل عامـل بعملـه.
وقـال ابـن جريـر فـي قولـه تعالـى: (( إن الله لمـا تعملـون بصيـر )) هـذا الخبـر مـن الله للذيـن خاطبهـم بالإحسـان خيـراً وبالإسـاءة مثلهـا، وهـذا الكـلام إن كـان قـد خـرج مخـرج الخبـر فـإن فيـه وعـداً ووعيـداً، وأمـراً وزجـراً وذلـك أنـه أعلـم القـوم أنـه بصيـر بجميـع أعمالهـم ليجـدّوا فـي طاعتـه إذ كـان ذلـك مذخـوراً لهـم عنـده حتـى يثيبهـم عليـه كمـا قـال تعالـى: (( ومـا تقدمـوا لأنفسـكم مـن خيـر تجـدوه عنـد الله )) وليحـذروا معصيتـه.
قـال وأمـا قولـه: (( بصيـر )) فإنـه (مبصـر) صـرف إلـى بصيـر كمـا صـرف (مبـدع) إلـى بديـع و(مؤلـم) إلـى أليـم، والله أعلـم.
وَقَالُـوا لَـن يَدخُـلَ الجَنَّـةَ إِلا مَـن كَـانَ هُـوداً أو نَصـارى تِلـكَ أمانِيُّهُـم قُـل هَاتُـوا بُرهَانَكُـم إِن كُنتُـم صادِقِيـنَ (111) بَلَـى مَـن أَسـلَمَ وَجهَـهُ لله وَهُـوَ مُحسِـنٌ فَلَـهُ أَجـرُهُ عِنـدَ رَبِّـهِ وَلا خَـوفٌ عَلَيهِـم وَلا هُـم يَحزَنُـونَ (112) وَقالَـتِ اليَهـودُ لَيسَـتِ النَّصـارى عَلـى شَـيءٍ وَقالَـتِ النَّصـارى لَيسَـتِ اليَهـودُ عَلـى شَـيءٍ وَهُـم يَتلـونَ الكِتـابَ كَذلِـكَ قـالَ الّذيـنَ لا يَعلَمـونَ مِثـلَ قَولِهِـم فالله يَحكُـمُ بَينَهُـم يَـومَ القِيامَـةِ فِيمـا كانُـوا فيـهِ يَختَلِفـونَ )) / 113 /
يبيـن تعالـى اغتـرار اليهـود والنصـارى بمـا هـم فيـه، حيـث ادعـت كـل طائفـة مـن اليهـود والنصـارى أنـه لـن يدخـل الجنـة إلا مـن كـان علـى ملتهـا فأكذبهـم الله تعالـى كمـا تقـدم مـن دعواهـم أنـه لـن تمسـهم النـار إلا أيامـاً معـدودة ثـم ينتقلـون إلـى الجنـة، ورد عليهـم ذلـك، وهكـذا قـال لهـم فـي هـذه الدعـوى التـي ادعوهـا بـلا دليـل ولا حجـة ولا بينـة (( تلـك أمانيهـم )).
قـال أبـو العاليـة: أمانـيّ تمنوهـا علـى الله بغيـر حـق، ثـم قـال تعالـى: (( قـل )) أي يـا محمـد (( هاتـوا برهانكـم )) أي حجتكـم (( إن كنتـم صادقيـن )) أي فيمـا تدعونـه.
ثـم قـال تعالـى: (( بلـى مـن أسـلم وجهـه لله وهـو محسـن )) أي مـن أخلـص العمـل لله وحـده لا شـريك لـه، كمـا قـال تعالـى: (( فـإن حاجـوك فقـل أسـلمت وجهـي لله ومـن اتبعـن )) الآيـة.
وقـال سـعيد بـن جبيـر: (( بلـى مـن أسـلم )) أخلـص (( وجهـه )) قـال: دينـه (( وهـو محسـن )) أي اتبـع فيـه الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم، فـإنَّ للعمـل المتقبـل شـرطين: أحدهمـا: أن يكـون خالصـاً لله وحـده، والآخـر: أن يكـون صوابـاً موافقـاً للشـريعة، فمتـى كـان خالصـاً ولـم يكـن صوابـاً لـم يتقبـل، ولهـذا قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن عمـل عمـلاً ليـس عليـه أمرنـا فهـو رد }} ، فعمـل الرهبـان ومـن شـابههم _ وإن فـرض أنهـم مخلصـون فيـه لله _ فإنـه لا يتقبـل منهـم حتـى يكـون ذلـك متابعـاً للرسـول صلـى الله عليـه وسـلم المبعـوث إليهـم وإلـى النـاس كافـة، وفيهـم وأمثالهـم قـال الله تعالـى: (( وقدمنـا إلـى مـا عملـوا مـن عمـل فجعلنـاه هبـاء منثـوراً )) ، وقـال تعالـى: (( والذيـن كفـروا أعمالهـم كسـراب بقيعـة يحسـبه الظمـآن مـاءً حتـى إذا جـاءه لـم يجـده شـيئاً )) ، وقـال تعالـى: (( وجـوه يومئـذ خاشـعة . عاملـة ناصبـة . تصلـى نـاراً حاميـة . تسـقى مـن عيـن آنيـة )).
وروي عـن أميـر المؤمنيـن عمـر رضـي الله عنـه أنـه تأويلهـا فـي الرهبـان كمـا سـيأتي، وأمـا إن كـان العمـل موافقـاً للشـريعة فـي الصـورة الظاهـرة ولكـن لـم يخلـص عاملـه القصـد لله فهـو أيضـاً مـردود علـى فاعلـه وهـذا حـال المرائيـن المنافقيـن، كمـا قـال تعالـى: (( إن المنافقيـن يخادعـون الله وهـو خادعهـم وإذا قامـوا إلـى الصـلاة قامـوا كسـالى يـراءون النـاس ولا يذكـرون الله إلا قليـلاً )) ، وقـال تعالـى: (( فويـل للمصليـن الذيـن هـم عـن صلاتهـم سـاهون الذيـن هـم يـراءون ويمنعـون الماعـون )) ، ولهـذا قـال تعالـى: (( فمـن كـان يرجـو لقـاء ربـه فليعمـل عمـلاً صالحـاً ولا يشـرك بعبـادة ربـه أحـداً )) وقـال فـي هـذه الآيـة الكريمـة: (( بلـى مـن أسـلم وجهـه لله وهـو محسـن ))، وقولـه: (( فلـه أجـره عنـد ربـه ولا خـوف عليهـم ولا هـم يحزنـون )) ضمـن لهـم تعالـى علـى ذلـك تحصيـل الأجـور وآمنهـم ممـا يخافونـه مـن المحـذور (( ولا خـوف عليهـم )) فيمـا يسـتقبلونه، (( ولا هـم يحزنـون )) علـى مـا مضـى ممـا يتركونـه.
وقولـه تعالـى: (( وقالـت اليهـود ليسـت النصـارى علـى شـيء وقالـت النصـارى ليسـت اليهـود علـى شـيء وهـم يتلـون الكتـاب )) بيَّـن بـه تعالـى تناقضهـم وتباغضهـم وتعاديهـم وتعاندهـم، كمـا قـال محمـد بـن إسـحاق عـن ابـن عبـاس: لمـا قـدم أهـل نجـران مـن النصـارى علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، أتتهـم أحبـار يهـود فتنازعـوا عنـد رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فقـال رافـع بـن حرملـة: مـا أنتـم علـى شـيء وكفـر بعيسـى وبالإنجيـل، وقـال رجـل مـن أهـل نجـران مـن النصـارى لليهـود: مـا أنتـم علـى شـيء وجحـد نبـوة موسـى وكفـر بالتـوراة، فأنـزل الله فـي ذلـك مـن قولهمـا: (( وقالـت اليهـود ليسـت النصـارى علـى شـيء وقالـت النصـارى ليسـت اليهـود علـى شـيء وهـم يتلـون الكتـاب )) قـال: إن كـلاً يتلـو فـي كتابـه تصديـق مـن كفـر بـه، أن يكفـر اليهـود بعيسـى وعندهـم التـوراة فيهـا مـا أخـذ الله عليهـم علـى لسـان موسـى بالتصديـق بعيسـى، وفـي الإنجيـل مـا جـاء بـه عيسـى بتصديـق موسـى ومـا جـاء مـن التـوراة مـن عنـد الله وكـل يكفـر بمـا فـي يـد صاحبـه. وهـذا القـول يقتضـي إن كـلاً مـن الطائفتيـن صدقـت فيمـا رمـت بـه الطائفـة الأخـرى، ولكـن ظاهـر سـياق الآيـة يقتضـي ذمهـم فيمـا قالـوه مـع علمهـم بخـلاف ذلـك، ولهـذا قـال تعالـى: (( وهـم يتلـون الكتـاب )) أي هـم يعلمـون شـريعة التـوراة والإنجيـل، كـل منهمـا قـد كانـت مشـروعة فـي وقـت، ولكنهـم تجاحـدوا فيمـا بينهـم عنـاداً وكفـراً ومقابلـة للفاسـد بالفاسـد.
وقولـه: (( كذلـك قـال الذيـن لا يعلمـون مثـل قولهـم )) بيَّـن بهـذا جهـل اليهـود والنصـارى فيمـا تقابلـوا بـه مـن بـاب الإيمـاء والإشـارة.
وقـد اختلـف فيمـن عنـى بقولـه تعالـى: (( الذيـن لا يعلمـون ))
قـال ابـن جريـج: قلـت لعطـاء: مَـن هـؤلاء الذيـن لا يعلمـون؟ قـال: أمـم كانـت قبـل اليهـود والنصـارى وقبـل التـوراة والإنجيـل.
وقـال السُّـدي: (( كذلـك قـال الذيـن لا يعلمـون )) هـم العـرب قالـوا ليـس محمـد علـى شـيء.
واختـار أبـو جعفـر بـن جريـر أنهـا عامـة تصلـح للجميـع وليـس ثَـمَّ دليـل قاطـع يعيـن واحـداً مـن هـذه الأقـوال والحمـل علـى الجميـع الأولـى، والله أعلـم.
وقولـه تعالـى: (( فالله يحكـم بينهـم يـوم القيامـة فيمـا كانـوا فيـه يختلفـون )) أي أنـه تعالـى يجمـع بينهـم يـوم المعـاد ويفصـل بينهـم بقضائـه العـدل الـذي لا يجـور فيـه ولا يظلـم مثقـال ذرة.
وهـذه الآيـة الكريمـة كقولـه تعالـى فـي سـورة الحـج: (( إن الذيـن آمنـوا والذيـن هـادوا والصابئيـن والنصـارى والمجـوس والذيـن أشـركوا إن الله يفصـل بينهـم يـوم القيامـة إن الله علـى كـل شـيء شـهيد )) ، وكمـا قـال تعالـى: (( قـل يجمـع بيننـا ربنـا ثـم يفتـح بيننـا بالحـق وهـو الفتـاح العليـم )).
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 102 ، 103 ، 104 ، 105 ، 106 ، 107 ، 108 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
(( يـا أيُّهَـا الًّذيـنَ آمَنـوا لا تَقولـوا راعِنـا وَقولـوا انظُرنـا واسْـمَعوا وَلِلكافِريـنَ عَـذابٌ أليـمٌ (104) مـا يَـودُّ الَّذيـنَ كَفَـروا مِـنْ أَهْـلِ الكِتـابِ وَلا المُشـرِكينَ أَنْ يُنَـزَّلَ عَليكُـم مِـنْ خَيـرٍ مِـنْ رَبِّكُـم وَالله يَخْتَـصُ بِرَحْمَتِـهِ مَـنْ يَشـاءُ وَالله ذو الفَضْـلِ العَظيـمِ )) / 105 /
نهـى الله تعالـى عبـاده المؤمنيـن أن يتشـبهوا بالكافريـن فـي مقالهـم وأفعالهـم، وذلـك أن اليهـود كانـوا يعانـون مـن الكـلام مـا فيـه توريـة لمـا يقصدونـه مـن النقيـض _ عليهـم لعائـن الله _ فـإذا أرادوا أن يقولـوا: اسـمع لنـا، يقولـوا (راعنـا) ويـورون بالرعونـة، كمـا قـال تعالـى: (( مـن الذيـن هـادوا يحرفـون الكلـم عـن مواضعـه ويقولـون سـمعنا وعصينـا واسـمع غيـر مسـمع وراعنـا . ليـاً بألسـنتهم وطعنـاً فـي الديـن )).
وكذلـك جـاءت الأحاديـث بالأخبـار عنهـم بأنهـم كانـوا إذا سـلّموا إنمـا يقولـون (السـام عليكـم)، والسـام هـو المـوت، ولهـذا أمرنـا أن نـرد عليهـم بـ (وعليكـم)، والغـرض أن الله تعالـى نهـى المؤمنيـن عـن مشـابهة الكافريـن قـولاً وفعـلاً، فقـال: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا لا تقولـوا راعنـا وقولـوا انظرنـا واسـمعوا وللكافريـن عـذاب أليـم )).
وقـال صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن تشـبه بقـوم فهـو منهـم }}.
ففيـه دلالـة علـى النهـي الشـديد والتهديـد والوعيـد علـى التشـبه بالكفـار، فـي أقوالهـم وأفعالهـم ولباسـهم وأعيادهـم وعباداتهـم وغيـر ذلـك مـن أمورهـم التـي لـم تشـرع لنـا ولا نقـر عليهـا.
وروي أن رجـلاً أتـى عبـد الله بـن مسـعود فقـال: اعهـد إلـيَّ، فقـال: إذا سـمعت الله يقـول: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا )) فأرعهـا سـمعك فـإن خيـرٌ يأمـر بـه، أو شـر ينهـى عنـه، وقـال الأعمـش عـن خيثمـة مـا تقـرأون فـي القـرآن: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا )) فـإن فـي التـوراة: (يـا أيهـا المسـاكين).
قـال ابـن عبـاس: (راعنـا) أي أرعنـا سَـمعك.
وقـال الضحّـاك: كانـوا يقولـون للنبـي صلـى الله عليـه وسـلم: أرعنـا سـمعك.
قـال عطـاء: كانـت لغـة تقولهـا الأنصـار فنهـى الله عنهـا.
وقـال أبـو صخـر: كـان رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، إذا أدبـر نـاداه مـن كانـت لـه حاجـة مـن المؤمنيـن فيقـول: أرعنـا سـمعك، فأعظـم الله رسـوله صلـى لله عليـه وسـلم أن يقـال ذلـك لـه.
وقـال السُّـدي: كـان رجـل مـن اليهـود مـن بنـي قينقـاع يدعـى (رفاعـة بـن زيـد) يأتـي النبـي صلـى الله عليـه وسـلم فـإذا لقيـه فكلَّمـه قـال: أرعنـي سـمعك، واسـمع غيـر مسـمع، وكـان المسـلمون يحسـبون أن الأنبيـاء كانـت تُفَخّـم بهـذا، فكـان نـاس منهـم يقولـون: اسـمع غيـر مسـمع، فنهـوا أن يقولـوا راعنـا.
قـال ابـن جريـر: والصـواب مـن القـول فـي ذلـك عندنـا: أن الله نهـى المؤمنيـن أن يقولـوا لنبيـه صلـى الله عليـه وسـلم راعنـا، لأنهـا كلمـة الله تعالـى أن يقولوهـا لنبيـه صلـى الله عليـه وسـلم.
وقولـه تعالـى: (( مـا يـود الذيـن كفـروا مـن أهـل الكتـاب ولا المشـركين أن ينـزل عليكـم مـن خيـر مـن ربكـم )).
يبيّـن بذلـك تعالـى شـدة عـداوة الكافريـن مـن أهـل الكتـاب والمشـركين، الذيـن حـذَّر الله تعالـى مـن مشـابهتهم للمؤمنيـن ليقطـع المـودَّة بينهـم وبينهـم، ونبَّـه تعالـى علـى مـا أنعـم بـه علـى المؤمنيـن، مـن الشـرع التـام الكامـل، الـذي شـرع لنبيهـم محمـد صلـى الله عليـه وسـلم حيـث يقـول تعالـى: ((والله يختـص برحمتـه مـن يشـاء والله ذو الفضـل العظيـم )).
(( مَـا نَنسَـخُ مِـن آيَـةٍ أَو نُنْسِـها نَـأتِ بِخَيـرٍ مِنْهـا أَو مِثْلِهـا أَلَـم تَعلَـم أَنَّ الله عَلـى كُـلِّ شَـيءٍ قديـرٌ (106) أَلَـم تَعلَـم أَنَّ الله لَـهُ مُلـكُ السَّـماواتِ وَالأرضِ وَمـا لَكُـم مِـن دُونِ اللهِ مِـن وَلِـيٍّ وَلا نَصيـرٍ )) / 107 /
قـال ابـن عبـاس رضـي الله عنهمـا: (( مـا ننسـخ مـن آيـة )) مـا نبـدل مـن آيـة.
وقـال مجاهـد: (( مـا ننسـخ مـن آيـة )) أي مـا نمحـو مـن آيـة، مثـل قولـه: "" الشـيخ والشـيخة إذا زنيـا فارجموهمـا البتـة "" ، وقولـه: "" لـو كـان لابـن آدم واديـان مـن ذهـب لابتغـى لهمـا ثالثـاً "".
وقـال ابـن جريـر: (( مـا ننسـخ مـن آيـة )) مـا ننقـل مـن حكـم آيـة إلـى غيـره فنبدلـه ونغيـره، وذلـك أن نحـوّل الحـلال حرامـاً، والحـرام حـلالاً، والمبـاح محظـوراً، والمحظـور مباحـاً، ولا يكـون ذلـك إلا فـي (الأمـر والنهـي والحظـر والإطـلاق والمنـع والإباحـة).
فأمـا الأخبـار فـلا يكـون فيهـا ناسـخ ولا منسـوخ، وأصـل النسـخ: مـن نسـخ الكتـاب وهـو نقلـه مـن نسـخة أخـرى إلـى غيرهـا، فكذلـك معنـى نسـخ الحكـم إلـى غيـره، إنمـا هـو تحويلـه ونقـل عبـارة إلـى غيرهـا، وسـواء نسـخ حكمهـا أو خطهـا إذ هـي فـي كلتـا حالتيهـا منسـوخة، وإمـا علمـاء الأصـول فاختلفـت عباراتهـم فـي حـد النسـخ، والأمـر فـي ذلـك قريـب. لأن معنـى النسـخ الشـرعي معلـوم عنـد العلمـاء، ولحـظ بعضهـم أنـه: رفـع الحكـم بدليـل شـرعي متأخـر، فانـدرج فـي ذلـك نسـخ الأخـف بالأثقـل وعكسـه والنسـخ لا إلـى بـدل. وأمـا تفاصيـل أحكـام النسـخ مذكـر أنواعـه وشـروطه فمبسـوطة فـي أصـول الفقـه.
وقـال الطبرانـي: قـرأ رجـلان سـورة أقرأهمـا رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم فكانـا يقـرآن بهـا، فقامـا ذات ليلـة يصليـان فلـم يقـدرا منهـا علـى حـرف، فأصبحـا غادييـن علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فذكـرا ذلـك لـه، فقـال: رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ إنهـا ممـا نسـخ وأنسـي فالهـوا عنهـا }}.
فكـان الزهـري يقرؤهـا: (( مـا ننسـخ مـن آيـة أو نُنْسـها )) بضـم النـون الخفيفـة.
وقولـه تعالـى: (( أو ننسـها )) فقـرئ علـى وجهيـن: (( نَنْسـأها )) ، و (( نُنْسِـها )).
فأمـا مـن قرأهـا بفتـح النـون والهمـزة بعـد السـين فمعنـاه نؤخرهـا.
وقـال مجاهـد عـن أصحـاب ابـن مسـعود (( أو ننسـأها )) نثبـت خطهـا ونبـدل حكمهـا.
وقـال مجاهـد وعطـاء: (( أو ننسـأها )) نؤخرهـا ونرجئهـا.
عـن ابـن عبـاس قـال: خطبنـا عمـر رضـي الله عنـه فقـال: يقـول الله عـز وجـل: (( مـا ننسـخ مـن آيـة أو ننسـأها )) أي نؤخرهـا.
وأمـا علـى قـراءة (( أو نُنْسـها )) فقـال قتـادة: كـان الله عـز وجـل ينسـي نبيـه صلـى الله عليـه وسـلم مـا يشـاء، وينسـخ مـا يشـاء.
وقـال ابـن جريـر عـن الحسـن فـي قولـه: (( أو ننسـها )) قـال: إن نبيكـم صلـى الله عليـه وسـلم قـرأ قرآنـاً ثـم نسـيه.
وعـن ابـن عبـاس قـال: { كـان ممـا ينـزل علـى النبـي صلـى الله عليـه وسـلم الوحـي بالليـل ينسـاه بالنهـار }
وقـال عمـر: أقرؤنـا أبـيّ، وأقضانـا علـي، وإنَّـا لنـدع مـن قـول أبـيّ، وذلـك أن أبيّـاً يقـول: لا أدع شـيئاً سـمعته مـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم.
وقـد قـال الله: (( مـا ننسـخ مـن آيـة أو ننسـها ))
وقولـه: (( نـأت بخيـر منهـا أو مثلهـا )) أس فـي الحكـم بالنسـبة إلـى مصلحـة المكلفيـن.
كمـا قـال ابـن عبـاس: خيـر لكـم فـي المنفعـة وأرفـق بكـم.
وقـال السـدي: (( نـأت بخيـر منهـا أو مثلهـا )) نـأت بخيـر مـن الـذي نسـخناه أو مثـل الـذي تركنـاه.
وقولـه: (( ألـم تعلـم أن الله علـى كـل شـيء قديـر . ألـم تعلـم أن الله لـه ملـك السـماوات والأرض ومـا لكـم مـن دون الله مـن ولـي ولا نصيـر )).
يرشـد عبـاده تعالـى بهـذا إلـى أنـه المتصـرف فـي خلقـه بمـا يشـاء، فلـه الخلـق والأمـر، وهـو المتصـرف فكمـا خلقهـم كمـا يشـاء، ويسـعد مـن يشـاء ويشـقي مـن يشـاء، ويوفـق مـن يشـاء ويخـذل مـن يشـاء، كذلـك يحكـم فـي عبـاده بمـا يشـاء ويحـرم مـا يشـاء، ويبيـح مـا يشـاء ويحظـر مـا يشـاء، وهـو الـذي يحكـم مـا يريـد لا معقـب لحكمـه، (( لا يُسـأل عمـا يفعـل وهـم يُسـألون )) ويختبـر عبـاده بالنسـخ فيأمـر بالشـيء لمـا فيـه المصلحـة التـي يعلمهـا تعالـى، ثـم ينهـى عنـه لمـا يعلمـه تعالـى، فالطاعـة كـل الطاعـة فـي امتثـال أمـره واتبـاع رسـله فـي تصديـق مـا أخبـروا، وامتثـال مـا أمـروا، وتـرك مـا عنـه زجـروا، وفـي هـذا المقـام رد عظيـم وبيـان بليـغ لكفـر اليهـود وتزييـف شـبهتهم لعنهـم الله فـي دعـوى اسـتحالة النسـخ إمـا عقـلاً كمـا زعمـه بعضهـم جهـلاً وكفـراً، وإمـا نقـلاً كمـا تخرصـه آخـرون منهـم افتـراءً وإفكـاً.
قـال الإمـام أبـو جعفـر بـن جريـر رحمـه الله: فتأويـل الآيـة: ألـم تعلـم يـا محمـد أن لـي ملـك السـماوات والأرض وسـلطانهما دون غيـري أحكـم فيهمـا وفيمـا فيهمـا بمـا أشـاء، وآمـر فيهمـا وفيمـا فيهمـا بمـا أشـاء، وأنهـى عمـا أشـاء وأنسـخ وأبـدل وأغيـر مـن أحكامـي التـي أحكـم بهـا فـي عبـادي بمـا أشـاء إذ أشـاء، وأقـر فيهمـا مـا أشـاء.
ثـم قـال: وهـذا الخبـر وأن كـان خطابـاً مـن الله تعالـى لنبيـه صلـى الله عليـه وسـلم علـى وجـه الخبـر عـن عظمتـه، فـإذا منـه جـل ثنـاؤه تكذيـب لليهـود، الذيـن أنكـروا نسـخ أحكـام التـوراة، وجحـدوا نبـوة عيسـى ومحمـد عليهـا الصـلاة والسـلام، لمجيئهمـا بمـا جـاءا بـه مـن عنـد الله بتغييـر مـا غيّـر الله مـن حكـم التـوراة، فأخبرهـم الله أن لـه ملـك السـماوات وسـلطانهما وأن الخلـق أهـل مملكتـه وطاعتـه، وعليهـم السـمع والطاعـة لأمـره ونهيـه، وأن لـه أمرهـم بمـا يشـاء ونهيهـم عمـا يشـاء، ونسـخ مـا يشـاء، وإنشـاء مـا يشـاء مـن إقـراره وأمـره ونهيـه.
(قلـت): الـذي يحمـل اليهـود علـى البحـث فـي مسـألة النسـخ إنمـا هـو الكفـر والعنـاد، فإنـه ليـس فـي العقـل مـا يـدل علـى امتنـاع النسـخ فـي أحكـام الله تعالـى، لأنـه يحكـم مـا يشـاء كمـا أنـه يفعـل مـا يريـد، مـع أنـه قـد وقـع ذلـك فـي كتبـه المتقدمـة وشـرائعه الماضيـة، كمـا أحـل لآدم تزويـج بناتـه مـن بنيـه ثـم حـرم ذلـك، كمـا أبـاح لنـوح بعـد خروجـه مـن السـفينة أكـل جميـع الحيوانـات ثـم نسـخ حـلَّ بعضهـا، وكـان نكـاح الأختيـن مباحـاً لإسـرائيل وبنيـه وقـد حـرم ذلـك فـي شـريعة التـوراة ومـا بعدهـا، وأمـر إبراهيـم عليـه السـلام بذبـح ولـده ثـم نسـخه قبـل الفعـل، وأشـياء كثيـرة يطـول ذكـرها وهـم يعترفـون بذلـك ويصدفـون عنـه.
ففـي هـذا المقـام بيَّـن تعالـى جـواز النسـخ رداً علـى اليهـود عليهـم لعنـة الله حيـث قـال تعالـى: (( ألـم تعلـم أن الله علـى كـل شـيء قديـر . ألـم تعلـم أن الله لـه ملـك السـماوات والأرض )) الآيـة. فكمـا أن لـه الملـك بـلا منـازع فكذلـك لـه الحكـم بمـا يشـاء (( ألا لـه الخلـق والأمـر )).
والمسـلمون كلهـم متفقـون علـى جـواز النسـخ فـي أحكـام الله تعالـى، لمـا لـه فـي ذلـك مـن الحكمـة البالغـة وكلهـم قـال بوقوعـه.
قـال أبـو مسـلم الأصبهانـي المفسِّـر: لـم يقـع شـيء مـن ذلـك فـي القـرآن، وقولـه ضعيـف مـردود مـرذول، وقـد تعسـف فـي الأجوبـة عمـا وقـع مـن النسـخ، فمـن ذلـك قضيـة العـدة بأربعـة أشـهر وعشـر بعـد الحـول، لـم يجـب عـن ذلـك بشـكل مقبـول، وقضيـة نحويـل القبلـة إلـى الكعبـة عـم بيـت المقـدس لـم يجـب بشـيء، ومـن ذلـك نسـخ مصابـرة المسـلم لعشـرة مـن الكفـرة إلـى مصابـرة الاثنيـن، ومـن ذلـك نسـخ وجـوب الصدقـة قبـل مناجـاة الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم وغيـر ذلـك، والله أعلـم.
(( أَم تُرِيـدُونَ أَن تَسـأَلُوا رَسُـولَكُم كَمَـا سُـئِلَ مُوسَـى مِـن قَبـلُ وَمَـن يَتَبَـدَّلِ الكُفـرَ بِالإيمـانِ فَقَـد ضَـلَّ سَـواءَ السَّـبِيلِ )) / 108 /
نهـى الله تعالـى المؤمنيـن فـي هـذه الآيـة الكريمـة عـن كثـرة عـن كثـرة سـؤال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم عـن الأشـياء قبـل كونهـا كمـا قـال تعالـى: (( يـا أيهـا الذيـن آمنـوا لا تسـألوا عـن أشـياء إن تبـد لكـم تسـوءكم وإن تسـألوا عنهـا حيـن ينـزل القـرآن تبـد لكـم ))
أي وإن تسـألوا عـن تفصيلهـا بعـد نزولهـا تبيـن لكـم، ولا تسـألوا عـن الشـيء قبـل كونـه فلعلـه أن يحـرِّم مـن أجـل تلـك المسـألة، ولهـذا جـاء فتي الصحيـح: {{ إن أعظـم المسـلمين جرمـاً مـن سـأل عـن شـيء لـم يحـرم فحُـرِّم مـن أجـل مسـألته }}.
وثبـت فـي الصحيحيـن مـن حديـث المغيـرة ابـن شـعبة أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: كـان ينهـى عـن قيـل وقـال، وإضاعـة المـال، وكثـرة السـؤال.
وفـي صحيـح مسـلم: {{ ذرونـي ومـا تركتكـم فإنمـا هلـك مـن قبلكـم بكثـرة سـؤالهم واختلافهـم علـى أنبيائهـم. فـإذا أمرتكـم بأمـر فأتـوا منـه مـا اسـتطعتم، وإن نهيتكـم عـن شـيء فاجتنبـوه }}
وهـذا إنمـا قالـه: بعـد مـا أخبرهـم أن الله كتـب عليهـم الحـج فقـال رجـل: أكـلَّ عـام يـا رسـول الله؟ فسـكت عنـه رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم ثلاثـاً، ثـم قـال عليـه السـلام: {{ لا، ولـو قلـت نعـم لوجبـت، ولـو جبـت لمـا اسـتطعتم }}.
ثـم قـال: {{ ذرونـي مـا تركتـم }} الحديـث.
ولهـذا قـال أنـس بـن مالـك: نهينـا أن نسـأل رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم عـن شـيء، فكـان يعجبنـا أن يأتـي الرجـل مـن أهـل الباديـة فيسـأله ونحـن نسـمع.
وعـن ابـن عبـاس قـال: مـا رأيـت قومـاً خيـراً مـن أصحـاب محمـد صلـى الله عليـه وسـلم، مـا سـألوه إلا اثنتـي عشـرة مسـألة كلهـا فـي القـرآن (( يسـألونك عـن الخمـر والميسـر _ و _ يسـألونك عـن الشـهر الحـرام _ ويسـألونك عـن اليتامـى )) يعنـي هـذا وأشـباهه.
وقولـه تعالـى: (( أم تريـدون أن تسـألوا رسـولكم كمـا سـئل موسـى مـن قبـل )) أي بـل تريـدون أو هـي علـى بابهـا فـي الاسـتفهام وهـو (إنكـاري) وهـو يعـمّ المؤمنيـن والكافريـن، كمـا قـال تعالـى: (( يسـألك أهـل الكتـاب أن تنـزل عليهـم كتابـاً مـن السـماء )).
وعـن ابـن عبـاس قـال: قـال رافـع بـن حرملـة ووهـب بـن زيـد: يـا محمـد ائتنـا بكتـاب تنزلـه علينـا مـن السـماء نقـرؤه، وفجـر لنـا أنهـاراً نتبعـك ونصدقـك، فأنـزل الله مـن قولهـم: (( أن تريـدون أن تسـألوا رسـولكم كمـا سـئل موسـى مـن قبـل؟ ومـن يتبـدل الكفـر بالإيمـان فقـد ضـل سـواء السـبيل )).
وقـال مجاهـد: سـألت قريـش محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم أن يجعـل لهـم الصفـا ذهبـاً، فقـال: {{ نعـم وهـو لكـم كالمائـدة لبنـي إسـرائيل }} فأبـوا ورجعـوا.
والمـراد أن الله ذم مـن سـأل الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم عـن شـيء علـى وجـه التعنـت والاقتـراح كمـا سـألت بنـو إسـرائيل موسـى عليـه السـلام تعنتـاً وتكذيبـاً وعنـاداً.
قـال الله تعالـى: (( ومـن يتبـدل الكفـر بالإيمـان )) أي ومـن يشـترِ الكفـر بالإيمـان (( فقـد ضـل سـواء السـبيل )) أي فقـد خـرج عـن الطريـق المسـتقيم إلـى الجهـل والضـلال، وهكـذا حـال الذيـن عدلـوا عـن تصديـق الأنبيـاء واتباعهـم والانقيـاد لهـم، إلـى مخالفتهـم وتكذيبهـم والاقتـراح عليهـم بالأسـئلة التـي يحتاجـون إليهـا علـى وجـه التعنـت والكفـر كمـا قـال تعالـى: (( ألـم تـر إلـى الذيـن بدلـوا نعمـة الله كفـراً وأحلـوا قومهـم دار البـوار . جهنـم يصلونهـا وبئـس القـرار )).
(( وَدَّ كَثيـرٌ مِـنْ أَهـلِ الكِتـابِ لَـو يِرُدُّونَكُـم مِـن بَعـدِ إيمانِكُـم كُفَّـاراً حَسَـدَاً مِـن عِنـدِ أَنفُسِـهِم مِـن بَعـدِ مـا تَبَيَّـنَ لَهُـمُ الحَـقُّ فَاعفـوا وَاصفَحـوا حَتـى يَأتِـيَ الله بِأَمـرِهِ إِنَّ الله عَلـى كُـلِّ شَـيءٍ قَديـرٌ (109) وَأَقيمـوا الصَـلاةَ وَآتُـوا الزَّكـاةَ وَمـا تَقَدَّمـوا لأنفُسِـكُم مِـن خَيـرٍ تَجِـدوهُ عِنـدَ الله إِنَّ الله بِمـا تَعمَلـونَ بَصيـرٌ )) / 110 /
يُحـذِّر تعالـى عبـاده المؤمنيـن عـن سـلوك طريـق الكفـار مـن أهـل الكتـاب، ويعلمهـم بعداوتهـم لهـم فـي الباطـن والظاهـر، ومـا هـم مشـتملون عليـه مـن الحسـد للمؤمنيـن، ومـع علمهـم يفضلهـم وفضـل نبيهـم، ويأمـر عبـاده المؤمنيـن بالصفـح والعفـو أو الاحتمـال حتـى يأتـي أمـر الله مـن النصـر والفتـح، ويأمرهـم بإقامـة الصـلاة وإيتـاء الزكـاة، ويحثهـم علـى ذلـك ويرغبهـم فيـه كمـا قـال ابـن عبـاس: كـان حيـي بـن أخطـب وأبـو ياسـر بـن أخطـب مـن أشـد يهـود العـرب حسـداً، إذ خصمهـم الله برسـوله صلـى الله عليـه وسـلم، وكانـا جاهديـن فـي رد النـاس عـن الإسـلام مـا اسـتطاعا، فأنـزل الله فيهمـا: (( ودَّ كثيـر مـن أهـل الكتـاب لـو يردونكـم )) الآيـة.
وروي أن كعـب بـن الأشـرف اليهـودي كـان شـاعراً وكـان يهجـو النبـي صلـى الله عليـه وسـلم وفيـه أنـزل الله: (( ودَّ كثيـر مـن أهـل الكتـاب لـو يردونكـم )) إلـى قولـه: (( فاعفـوا واصفحـوا )).
قـال تعالـى: (( كفـاراً حسـداً مـن عنـد أنفسـهم مـن بعـد مـا تبيـن لهـم الحـق )) يقـول مـن بعـد مـا أضـاء لهـم الحـق لـم يجهلـوا منـه شـيئاً، ولكـن الحسـد حملهـم علـى الجحـود فعيَّرهـم ووبخهـم ولامهـم أشـد الملامـة وشـرع لنبيـه وللمؤمنيـن مـا هـم عليـه مـن التصديـق والإيمـان والإقـرار بمـا أنـزل الله عليهـم ومـا أنـزل مـن قبلهـم بكرامتـه وثوابـه الجزيـل ومعونتـه لهـم.
وقـال الربيـع بـن أنَـس: (( مـن عنـد أنفسـهم )) مـن قِبَـل أنفسـهم.
وقـال أبـو العاليـة: (( مـن بعـد مـا تبيـن لهـم الحـق )) مـن بعـدم مـا تبيـن أن محمـداً رسـول الله يجدونـه مكتوبـاً عندهـم فـي التـوراة والإنجيـل فكفـروا بـه حسـداً وبغيـاً.
قـال ابـن عبـاس فـي قولـه (( فاعفـوا واصفحـوا حتـى يأتـي الله بأمـره )): نسـخ ذلـك قولـه: (( فاقتلـوا المشـركين حيـث وجدتموهـم ))، وقولـه: (( قاتلـوا الذيـن لا يؤمنـون بالله واليـوم الآخـر )).
وكـذا قـال أبـو العاليـة وقتـادة والسـدي: إنهـا منسـوخة بآيـة السـيف، ويرشـد إلـى ذلـك قولـه تعالـى: (( حتـى يأتـي الله بأمـره )).
وقولـه تعالـى: (( وأقيمـوا الصـلاة وآتـوا الزكـاة ومـا تقدمـوا لأنفسـكم مـن خيـر تجـدوه عنـد الله )).
يحثهـم تعالـى علـى الاشـتغال بمـا ينفعهـم، وتعـود عليهـم عاقبتـه يـوم القيامـة مـن إقـام الصـلاة وإيتـاء الزكـاة، حتـى يمكِّـن لهـم الله النصـر فـي الحيـاة الدنيـا ويـوم يقـوم الأشـهاد. ولهـذا قـال تعالـى: (( إن الله بمـا تعملـون بصيـر )) يعنـي إنـه تعالـى لا يغفـل عـن عمـل عامـل، ولا يضيـع لديـه سـواء كـان خيـراً أو شـراً، فإنـه سـيجازي كـل عامـل بعملـه.
وقـال ابـن جريـر فـي قولـه تعالـى: (( إن الله لمـا تعملـون بصيـر )) هـذا الخبـر مـن الله للذيـن خاطبهـم بالإحسـان خيـراً وبالإسـاءة مثلهـا، وهـذا الكـلام إن كـان قـد خـرج مخـرج الخبـر فـإن فيـه وعـداً ووعيـداً، وأمـراً وزجـراً وذلـك أنـه أعلـم القـوم أنـه بصيـر بجميـع أعمالهـم ليجـدّوا فـي طاعتـه إذ كـان ذلـك مذخـوراً لهـم عنـده حتـى يثيبهـم عليـه كمـا قـال تعالـى: (( ومـا تقدمـوا لأنفسـكم مـن خيـر تجـدوه عنـد الله )) وليحـذروا معصيتـه.
قـال وأمـا قولـه: (( بصيـر )) فإنـه (مبصـر) صـرف إلـى بصيـر كمـا صـرف (مبـدع) إلـى بديـع و(مؤلـم) إلـى أليـم، والله أعلـم.
وَقَالُـوا لَـن يَدخُـلَ الجَنَّـةَ إِلا مَـن كَـانَ هُـوداً أو نَصـارى تِلـكَ أمانِيُّهُـم قُـل هَاتُـوا بُرهَانَكُـم إِن كُنتُـم صادِقِيـنَ (111) بَلَـى مَـن أَسـلَمَ وَجهَـهُ لله وَهُـوَ مُحسِـنٌ فَلَـهُ أَجـرُهُ عِنـدَ رَبِّـهِ وَلا خَـوفٌ عَلَيهِـم وَلا هُـم يَحزَنُـونَ (112) وَقالَـتِ اليَهـودُ لَيسَـتِ النَّصـارى عَلـى شَـيءٍ وَقالَـتِ النَّصـارى لَيسَـتِ اليَهـودُ عَلـى شَـيءٍ وَهُـم يَتلـونَ الكِتـابَ كَذلِـكَ قـالَ الّذيـنَ لا يَعلَمـونَ مِثـلَ قَولِهِـم فالله يَحكُـمُ بَينَهُـم يَـومَ القِيامَـةِ فِيمـا كانُـوا فيـهِ يَختَلِفـونَ )) / 113 /
يبيـن تعالـى اغتـرار اليهـود والنصـارى بمـا هـم فيـه، حيـث ادعـت كـل طائفـة مـن اليهـود والنصـارى أنـه لـن يدخـل الجنـة إلا مـن كـان علـى ملتهـا فأكذبهـم الله تعالـى كمـا تقـدم مـن دعواهـم أنـه لـن تمسـهم النـار إلا أيامـاً معـدودة ثـم ينتقلـون إلـى الجنـة، ورد عليهـم ذلـك، وهكـذا قـال لهـم فـي هـذه الدعـوى التـي ادعوهـا بـلا دليـل ولا حجـة ولا بينـة (( تلـك أمانيهـم )).
قـال أبـو العاليـة: أمانـيّ تمنوهـا علـى الله بغيـر حـق، ثـم قـال تعالـى: (( قـل )) أي يـا محمـد (( هاتـوا برهانكـم )) أي حجتكـم (( إن كنتـم صادقيـن )) أي فيمـا تدعونـه.
ثـم قـال تعالـى: (( بلـى مـن أسـلم وجهـه لله وهـو محسـن )) أي مـن أخلـص العمـل لله وحـده لا شـريك لـه، كمـا قـال تعالـى: (( فـإن حاجـوك فقـل أسـلمت وجهـي لله ومـن اتبعـن )) الآيـة.
وقـال سـعيد بـن جبيـر: (( بلـى مـن أسـلم )) أخلـص (( وجهـه )) قـال: دينـه (( وهـو محسـن )) أي اتبـع فيـه الرسـول صلـى الله عليـه وسـلم، فـإنَّ للعمـل المتقبـل شـرطين: أحدهمـا: أن يكـون خالصـاً لله وحـده، والآخـر: أن يكـون صوابـاً موافقـاً للشـريعة، فمتـى كـان خالصـاً ولـم يكـن صوابـاً لـم يتقبـل، ولهـذا قـال رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم: {{ مـن عمـل عمـلاً ليـس عليـه أمرنـا فهـو رد }} ، فعمـل الرهبـان ومـن شـابههم _ وإن فـرض أنهـم مخلصـون فيـه لله _ فإنـه لا يتقبـل منهـم حتـى يكـون ذلـك متابعـاً للرسـول صلـى الله عليـه وسـلم المبعـوث إليهـم وإلـى النـاس كافـة، وفيهـم وأمثالهـم قـال الله تعالـى: (( وقدمنـا إلـى مـا عملـوا مـن عمـل فجعلنـاه هبـاء منثـوراً )) ، وقـال تعالـى: (( والذيـن كفـروا أعمالهـم كسـراب بقيعـة يحسـبه الظمـآن مـاءً حتـى إذا جـاءه لـم يجـده شـيئاً )) ، وقـال تعالـى: (( وجـوه يومئـذ خاشـعة . عاملـة ناصبـة . تصلـى نـاراً حاميـة . تسـقى مـن عيـن آنيـة )).
وروي عـن أميـر المؤمنيـن عمـر رضـي الله عنـه أنـه تأويلهـا فـي الرهبـان كمـا سـيأتي، وأمـا إن كـان العمـل موافقـاً للشـريعة فـي الصـورة الظاهـرة ولكـن لـم يخلـص عاملـه القصـد لله فهـو أيضـاً مـردود علـى فاعلـه وهـذا حـال المرائيـن المنافقيـن، كمـا قـال تعالـى: (( إن المنافقيـن يخادعـون الله وهـو خادعهـم وإذا قامـوا إلـى الصـلاة قامـوا كسـالى يـراءون النـاس ولا يذكـرون الله إلا قليـلاً )) ، وقـال تعالـى: (( فويـل للمصليـن الذيـن هـم عـن صلاتهـم سـاهون الذيـن هـم يـراءون ويمنعـون الماعـون )) ، ولهـذا قـال تعالـى: (( فمـن كـان يرجـو لقـاء ربـه فليعمـل عمـلاً صالحـاً ولا يشـرك بعبـادة ربـه أحـداً )) وقـال فـي هـذه الآيـة الكريمـة: (( بلـى مـن أسـلم وجهـه لله وهـو محسـن ))، وقولـه: (( فلـه أجـره عنـد ربـه ولا خـوف عليهـم ولا هـم يحزنـون )) ضمـن لهـم تعالـى علـى ذلـك تحصيـل الأجـور وآمنهـم ممـا يخافونـه مـن المحـذور (( ولا خـوف عليهـم )) فيمـا يسـتقبلونه، (( ولا هـم يحزنـون )) علـى مـا مضـى ممـا يتركونـه.
وقولـه تعالـى: (( وقالـت اليهـود ليسـت النصـارى علـى شـيء وقالـت النصـارى ليسـت اليهـود علـى شـيء وهـم يتلـون الكتـاب )) بيَّـن بـه تعالـى تناقضهـم وتباغضهـم وتعاديهـم وتعاندهـم، كمـا قـال محمـد بـن إسـحاق عـن ابـن عبـاس: لمـا قـدم أهـل نجـران مـن النصـارى علـى رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، أتتهـم أحبـار يهـود فتنازعـوا عنـد رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم، فقـال رافـع بـن حرملـة: مـا أنتـم علـى شـيء وكفـر بعيسـى وبالإنجيـل، وقـال رجـل مـن أهـل نجـران مـن النصـارى لليهـود: مـا أنتـم علـى شـيء وجحـد نبـوة موسـى وكفـر بالتـوراة، فأنـزل الله فـي ذلـك مـن قولهمـا: (( وقالـت اليهـود ليسـت النصـارى علـى شـيء وقالـت النصـارى ليسـت اليهـود علـى شـيء وهـم يتلـون الكتـاب )) قـال: إن كـلاً يتلـو فـي كتابـه تصديـق مـن كفـر بـه، أن يكفـر اليهـود بعيسـى وعندهـم التـوراة فيهـا مـا أخـذ الله عليهـم علـى لسـان موسـى بالتصديـق بعيسـى، وفـي الإنجيـل مـا جـاء بـه عيسـى بتصديـق موسـى ومـا جـاء مـن التـوراة مـن عنـد الله وكـل يكفـر بمـا فـي يـد صاحبـه. وهـذا القـول يقتضـي إن كـلاً مـن الطائفتيـن صدقـت فيمـا رمـت بـه الطائفـة الأخـرى، ولكـن ظاهـر سـياق الآيـة يقتضـي ذمهـم فيمـا قالـوه مـع علمهـم بخـلاف ذلـك، ولهـذا قـال تعالـى: (( وهـم يتلـون الكتـاب )) أي هـم يعلمـون شـريعة التـوراة والإنجيـل، كـل منهمـا قـد كانـت مشـروعة فـي وقـت، ولكنهـم تجاحـدوا فيمـا بينهـم عنـاداً وكفـراً ومقابلـة للفاسـد بالفاسـد.
وقولـه: (( كذلـك قـال الذيـن لا يعلمـون مثـل قولهـم )) بيَّـن بهـذا جهـل اليهـود والنصـارى فيمـا تقابلـوا بـه مـن بـاب الإيمـاء والإشـارة.
وقـد اختلـف فيمـن عنـى بقولـه تعالـى: (( الذيـن لا يعلمـون ))
قـال ابـن جريـج: قلـت لعطـاء: مَـن هـؤلاء الذيـن لا يعلمـون؟ قـال: أمـم كانـت قبـل اليهـود والنصـارى وقبـل التـوراة والإنجيـل.
وقـال السُّـدي: (( كذلـك قـال الذيـن لا يعلمـون )) هـم العـرب قالـوا ليـس محمـد علـى شـيء.
واختـار أبـو جعفـر بـن جريـر أنهـا عامـة تصلـح للجميـع وليـس ثَـمَّ دليـل قاطـع يعيـن واحـداً مـن هـذه الأقـوال والحمـل علـى الجميـع الأولـى، والله أعلـم.
وقولـه تعالـى: (( فالله يحكـم بينهـم يـوم القيامـة فيمـا كانـوا فيـه يختلفـون )) أي أنـه تعالـى يجمـع بينهـم يـوم المعـاد ويفصـل بينهـم بقضائـه العـدل الـذي لا يجـور فيـه ولا يظلـم مثقـال ذرة.
وهـذه الآيـة الكريمـة كقولـه تعالـى فـي سـورة الحـج: (( إن الذيـن آمنـوا والذيـن هـادوا والصابئيـن والنصـارى والمجـوس والذيـن أشـركوا إن الله يفصـل بينهـم يـوم القيامـة إن الله علـى كـل شـيء شـهيد )) ، وكمـا قـال تعالـى: (( قـل يجمـع بيننـا ربنـا ثـم يفتـح بيننـا بالحـق وهـو الفتـاح العليـم )).
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 102 ، 103 ، 104 ، 105 ، 106 ، 107 ، 108 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************
الصفحة الأخيرة
أشـكرك مـن أعمـاق قلبـي علـى كلماتـك ومشـاعرك الرائعـة...
وإن شـاء الله... طلبـك علـى رأسـي ومـن ثـم عينـي...
*************
صديقتـي نـور...
فرحتـي بعودتـي إلـى هـذه الصفحـات أكبـر مـن فرحتـك...
وجمـال اللـون القرمـزي لا يكتمـل إلا ببقيـة الألـوان...
معـك... ومـع أخواتنـا...
***************************
بسـم الله الرحمـن الرحيـم
(( وَقالـوا قُلوبُنَـا غُلُـف بَـل لَعنَهُـمُ اللهُ بِكُفرِهِـم فَقَليـلاً مـا يُؤمِنـونَ )) / 88 /
(( وقالـوا قلوبنـا غلـف )) أي فـي أكنـة.
وقـال ابـن عبـاس: أي لا تفقـه، وهـي القلـوب المطبـوع عليهـا.
وقـال مجاهـد: عليهـا غشـاوة.
وقـال السـدي: عليهـا غـلاف وهـو الغطـاء فـلا تعـي ولا تفقـه.
(( بـل لعنهـم الله بكفرهـم )) أي طردهـم الله وأبعدهـم مـن كـل خيـر.
(( فقليـلاً مـا يؤمنـون )) معنـاه: لا يؤمـن منهـم إلا القليـل.
وقـال عبـد الرحمـن بـن زيـد فـي قولـه: (( غلـف )) تقـول قلبـي فـي غـلاف فـلا يخلـص إليـه ممـا تقـول شـيء، وقـرأ: (( قلوبنـا فـي أكنـة ممـا تدعونـا إليـه )).
وهـذا مـا رجحـه ابـن جريـر واسـتشـهد بمـا روي عـن حذيفـة قـال: { القلـوب أربعـة } فذكـر منهـا: { وقلـبٌ أغلـف مغضـوب عليـه وذاك قلـب الكافـر }.
ولهـذا قـال تعالـى: (( بـل لعنهـم الله بكفرهـم فقليـلاً مـا يؤمنـون )) أي ليـس الأمـر كمـا ادعـوا بـل قلوبهـم ملعونـة مطبـوع عليهـا كمـا قـال تعالـى: (( وقولهـم قلوبنـا غلـف بـل طبـع الله عليهـا بكفرهـم فـلا يؤمنـون إلا قليـلاً )).
وقـد اختلفـوا فـي معنـى قولـه (( فقليـلاً مـا يؤمنـون )) ، وقولـه: (( فـلا يؤمنـون إلا قليـلاً ))
فقـال بعضهـم: فقليـل مـن يؤمـن منهـم.
وقيـل: فقليـل إيمانهـم بمعنـى أنهـم يؤمنـون بمـا جاءهـم بـه موسـى مـن أمـر المعـاد والثـواب والعقـاب ولكنـه إيمـان لا ينفعهـم لأنـه مغمـور بمـا كفـروا بـه مـن الـذي جاءهـم بـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
وقـال بعضهـم: إنمـا كانـوا غيـر مؤمنيـن بشـيء، إنمـا قـال: (( فقليـلاً مـا يؤمنـون )) وهـم بالجميـع كافـرون كمـا تقـول العـرب: قلمـا رأيـت مثـل هـذا قـط. تريـد مـا رأيـت مثـل هـذا قـط، والله أعلـم.
(( وَلمَّـا جَاءَهُـم كِتـابٌ مِـن عِنـدِ اللهِ مُصَـدِّقٌ لِمـا مَعَهُـم وَكانـوا مِـن قَبـلُ يَسـتَفتِحونَ علـى الذيـنَ كَفـروا بِـهِ فَلَعنَـةُ اللهِ علـى الكافريـنَ )) / 89 /
يقـول تعالـى: (( ولمـا جاءهـم )) يعنـي اليهـود (( كتـاب مـن عنـد الله )) وهـو القـرآن الـذي أنـزل علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم (( مصـدق لمـا معهـم )) يعنـي مـن التـوراة.
وقولـه: (( وكانـوا مـن قبـل يسـتفتحون علـى الذيـن كفـروا )) أي وقـد كانـوا قبـل مجـيء هـذا الرسـول بهـذا الكتـاب يسـتنصرونه بمجيئـه علـى أعدائهـم مـن المشـركين إذا قاتلوهـم، ويقولـون إنـه سـيبعث نبـي فـي آخـر الزمـان نقتلكـم معـه قتـل عـاد وإرم، فلمـا بعـث الله رسـوله مـن قريـش كفـروا بـه.
قـال الضحّـاك عـن ابـن عبـاس فـي قولـه: (( وكانـوا مـن قبـل يسـتفتحون علـى الذيـن كفـروا )) قـال يسـتنصرون: يقولـون نحـن نعيـن محمـداً عليهـم وليسـوا كذلـك بـل يكذبـون.
وقـال محمـد بـن إسـحاق عـن ابـن عبـاس: إن يهـود كانـوا يسـتفتحون علـى الأوس والخـزرج برسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قبـل مبعثـه، فلمـا بعثـه الله مـن العـرب كفـروا بـه وجحـدوا مـا كانـوا يقولـون فيـه.
فقـال لهـم معـاذ بـن جبـل: يـا معشـر يهـود اتقـوا الله وأسـلموا فقـد كنتـم تسـتفتحون علينـا بمحمـد صلـى الله عليـه وسـلم ونحـن أهـل شـرك وتخبروننـا بأنـه مبعـوث وتصفونـه بصفتـه، فقـال ( سـلام بـن مشـكم ) أخـو بنـي النضيـر: مـا جاءنـا بشـيء نعرفـه ومـا هـو بالـذي كنـا تذكـر لكـم، فأنـزل الله فـي ذلـك قولهـم: (( ولمـا جاءهـم كتـاب مـن عنـد الله مصـدق لمـا معهـم )) الآيـة.
وقـال العوفـي عـن ابـن عبـاس: (( وكانـوا مـن قبـل يسـتفتحون علـى الذيـن كفـروا )) يقـول: يسـتنصرون بخـروج محمـد صلـى الله عليـه وسـلم علـى مشـركي العـرب، يعنـي بذلـك أهـل الكتـاب، فلمـا بعـث محمـداً صلـى الله عليـه وسـلم _ ورأوه مـن غيرهـم _ كفـروا بـه وحسـدوه.
قـال مجاهـد: (( فلعنـة الله علـى الكافريـن )) هـم اليهـود.
(( بِئسـمَا اشـتَرَوا بِـهِ أنفُسَـهُم أن يَكفُـروا بِمـا أنـزَلَ اللهُ بَغيـاً أن يُنَـزِلَ اللهُ مِـن فَضلِـهِ علـى مَـن يَشـاءُ مِـن عِبَـادِه فَبـاءوا بِغَضَـبٍ علـى غَضَـبٍ ولِلكافِريـنَ عـذابٌ مُهيـنٌ )) / 90 /
قـال السـدي: (( بئسـما اشـتروا بـه أنفسـهم )) باعـوا بـه أنفسـهم، يقـول: بئسـما اعتاضـوا لأنفسـهم فرضـوا بـه وعدلـوا إليـه مـن الكفـر بمـا أنـزل الله علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم عـن تصديقـه ومؤازرتـه ونصرتـه، وإنمـا حملهـم علـى ذلـك البغـي والحسـد الكراهيـة لـ (( أن ينـزل الله مـن فضلـه علـى مـن يشـاء مـن عبـاده )) ولا حسـد أعظـم مـن هـذا.
ومعنـى ( بـاءوا ) اسـتوجبوا واسـتحقوا واسـتقروا بغضـب علـى غضـب.
وقـال أبـو العاليـة: غضـب الله عليهـم بكفرهـم بالإنجيـل وعيسـى، ثـم غضـب الله عليهـم بكفرهـم بمحمـد صلـى الله عليـه وسـلم وبالقـرآن.
قـال السـدي: أمـا الغضـب الأول فهـو حيـن غضـب عليهـم فـي العجـل، وأمـا الغضـب الثانـي فغضـب عليهـم حيـن كفـروا بمحمـد صلـى الله عليـه وسـلم.
وعـن أبـن عبـاس مثلـه.
وقولـه تعالـى: (( وللكافريـن عـذاب مهيـن )) لمـا كـان كفرهـم سـببه البغـي والحسـد ومنشـأ ذلـك التكبـر قوبلـوا بالإهانـة والصغـار فـي الدنيـا والآخـرة كنـا قـال تعالـى: (( إن الذيـن يسـتكبرون عـن عبادتـي سـيدخلون جهنـم داخريـن )) أي صاغريـن حقيريـن ذليليـن.
وعـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم قـال: {{ يحشـر المتكبـرون يـوم القيامـة أمثـال الـذر فـي صـور النـاس يعلوهـم كـل شـيء مـن الصغـار حتـى يدخلـوا سـجناً فـي جهنـم يقـال لـه ( بولـس ) تعلوهـم نـار الأنيـار يسـقون مـن طينـة الخبـال عصـارة أهـل النـار }}.
(( وإذا قِيـلَ لَهُـم آمِنـوا بِمـا أنـزَلَ اللهُ قالـوا نُؤمِـنُ بِمـا أنـزَلَ علَينـا ويَكفُـرونَ بِمـا وَراءَهُ وهُـوَ الحَـقُ مُصَدِقـاً لِمـا مِعهُـم قُـل فَلِـمَ تقتُلـونَ أَنبيـاءَ اللهِ مِـن قَبـلُ إِن كُنتُـم مُؤمِنيـنَ - وَلَقَـد جَاءَكُـم موسـى بِالبيّنـاتِ ثُـمَّ اتَّخَذتُـمُ العِجـلَ مِـن بَعـدِهِ وَأنتُـم ظالِمـونَ )) / 92 /
يقـول تعالـى: (( وإذا قيـل لهـم )) أي لليهـود وأمثالهـم مـن أهـل الكتـاب (( آمنـوا بمـا أنـزل الله )) علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم وصدقـوه واتبعـوه، (( قالـوا بمـا أنـزل علينـا )) أي يكفينـا الإيمـان بمـا أنـزل علينـا مـن التـوراة والإنجيـل ولا نقـر إلا بذلـك (( ويكفـرون بمـا وراءه )) يعنـي بمـا بعـده، (( وهـو الحـق مصدقـاً لمـا معهـم )) أي وهـم يعلمـون أن مـا أنـزل علـى محمـد صلـى الله عليـه وسـلم (( الحـق مصدقـاً لمـا معهـم )) مـن التـوراة والإنجيـل، فالحجـة قائمـة عليهـم بذلـك كمـا قـال تعالـى: (( فلـم تقتلـون أنبيـاء الله مـن قبـل إن كنتـم صادقيـن فـي دعواكـم الإيمـان بمـا أنـزل إليكـم، فلـم قتلتـم الأنبيـاء الذيـن جاءوكـم بتصديـق التـوراة التـي بأيديكـم، والحكـم بهـا وعـدم نسـخها وأنتـم تعلمـون صدقهـم؟
قتلتـم بغيـاً وعنـاداً واسـتكباراً علـى رسـل الله فلسـتم تتبعـون إلا مجـرد الأهـواء والآراء والتشـهي، كمـا قـال تعالـى: (( أفكلمـا جاءكـم رسـول بمـا لا تهـوى أنسـكم اسـتكبرتم ففريقـاً كذبتـم وفريقـاً تقتلـون )).
وقـال ابـن جريـر: قـل يـا محمـد ليهـود بنـي إسـرائيل إذا قلـت لهـم: آمنـوا بمـا أنـزل الله قالـوا نؤمـن بمـا أنـزل علينـا _ لـم تقتلـون _ إن كنتـم مؤمنيـن بمـا أنـزل الله _ أنبيـاء الله العشـر اليهـود، وقـد حـرم الله فـي الكتـاب الـذي أنـزل عليكـم قتلهـم، بـل أمركـم بإتباعهـم وطاعتهـم وتصديقهـم، وذلـك مـن الله تكذيـب لهـم فـي قولهـم (( نؤمـن بمـا أنـزل علينـا )) وتعييـر لهـم.
(( ولقـد جاءكـم موسـى بالبينـات )) أي بالآيـات الواضحـات والدلائـل القاطعـات علـى أنـه رسـول الله وأنـه لا إلـه إلا الله، والآيـات البينـات هـي: (الطوفـان، والجـراد، والقُمّـل، والضفـادع، والـدم، والعصـا، واليـد، وفـرق البحـر، وتظليلهـم بالغمـام، والمـن، والسـلوى، والحجـر) وغيـر ذلك مـن الآيـات التـي شـاهدوهـا (( ثـم اتخذتـم العجـل )) أي معبـوداً مـن دون الله فـي زمـان موسـى وأيامـه.
وقولـه: (( مـن بعـده )) أي مـن بعـد مـا ذهـب عنكـم إلـى الطـور لمناجـاة الله عـز وجـل كمـا قـال تعالـى: (( واتخـذ قـوم موسـى مـن بعـده مـن حليهـم عجـلاً جسـداُ لـه خـوار )).
(( وأنتـم ظالمـون )) أي وأنتـم ظالمـون فـي هـذا الصنيـع الـذي صنعتمـوه مـن عبادكـم العجـل، وأنتـم تعلمـون أنـه لا إلا الله كمـا قـال تعالـى: (( ولمـا سـقط فـي أيديهـم ورأوا أنهـم قـد ضلـوا قالـوا لئـن لـم يرحمنـا ربنـا ويغفـر لنـا لنكونـن مـن الخاسـرين )).
(( وإذ أخَذنـا مِيثاقَكُـم وَرَفعنـا فَوقَكُـمُ الطُـورَ خُـذوا مـا أتَيناكُـم بِقُـوَّةٍ وَاسـمَعوا قالـوا سَـمِعنا وَعَصَينـا وَأشـرِبوا فـي قُلُوبِهِـمُ العِجـلَ بِكُفرِهِـم قُـل بِئسَـما يَأمُرُكُـم بِـهِ إيمانُكُـم إِن كُنتُـم مُؤمِنيـنَ )) / 93 /
يعـدد سـبحانه وتعالـى عليهـم خطأهـم ومخالفتهـم للميثـاق، وعتوهـم وإعراضهـم عنـه حتـى رفـع الطـور عليهـم حتـى قبلـوه ثـم خالفـوه ولهـذا قالـوا: (( سـمعنا وعصينـا )) وقـد تقـدم تفسـير ذلـك.
(( وأشـربوا فـي قلوبهـم العجـل بكفرهـم ))
عـن قتـادة قـال: أشـربوا حبـه حتـى خلـص ذلـك إلـى قلوبهـم.
وعـن النبـي صلـى الله عليـه وسـلم: {{ حبـك الشـيء يعمـي ويصـم }}.
وعـن علـي رضـي الله عنـه قـال: (( عمـد موسـى إلـى العجـل فوضـع عليـه المبـارد فبـرده بهـا وهـو علـى شـاطئ نهـر، فمـا شـرب أحـد مـن ذلـك المـاء ممـن كـان يعبـد العجـل إلا اصفـر وجهـه مثـل الذهـب.
وقولـه: (( قـل بئسـما يأمركـم بـه إيمانكـم إن كنتـم مؤمنيـن )) أي بئسـما تعتمدونـه فـي قديـم الدهـر وحديثـه مـن كفرهـم بمحمـد صلـى الله عليـه وسـلم وهـذا أكبـر ذنوبكـم وأشـد الأمـور عليكـم، إذ كفرتـم بخاتـم الرسـل وسـيد الأنبيـاء والمرسـلين المبعـوث إلـى النـاس أجمعيـن، فكيـف تدعـون لأنفسـكم الإيمـان وقـد فعلتـم هـذه الأفاعيـل القبيحـة مـن نقضكـم المواثيـق، وكفركـم بآيـات الله، وعبادتكـم العجـل مـن دون الله ؟
مختصـر ابـن كثيـر / الصفحـة 87 ، 88 ، 89 ، 90 /
يتبـع بـإذن الله تعالـى...
****************************