

قضيت عمري تائهة ما بين الغربة و الوطن حتى تلاشت الفوارق بينهما و أصبح لهما معنى واحد بداخلي يختلط فيه الحب بالوحشة و الشوق بالألم. ما بين تلافيف الغربة أصبحت أجد الوطن, و في حضن الوطن ذقت طعم غربة من نوع آخر. سنون عديدة مضت ما بين هذا و ذاك حتى ضيعت نفسي بينهما و لمست ضياع أبنائي كذلك.
هنا في هذه الغربة أفنيت شبابي و حفرت ذكريات عمري ما بين زواج و أمومة.
هنا أمسكت بيد ابني أول مرة لمست قدماه ثرى هذه الأرض. و هنا دمعت عيني يوم تخرج ابنتي.
هنا عشت أسعد أيام حياتي كعروس و هنا بكيت الليالي بعيداً عن أمي.
و شيئاً فشيئاً تمحور عالمي في هذه الغربة فأصبح لي صديقات و مجتمع. و انخرط أبنائي في مدارسهم و أصبح لهم أصدقاء و حياة.
أصبحنا نزور وطننا كالغرباء كل عام فلا أعرف أحداً بعد كل هذه المدة. حتى أقرب أقربائي أصبحت أجد صعوبة في التعرف على ملامحهم بعدما اشتعل الراس شيباً.
عشرون عاماً بين أحضان وطني و عشرون عاماً بين أحضان غربتي.. ترى لأي منهما الغلبة؟ و أي منهما يستحق أن أفضله على الآخر؟
و أبنائي الذين لم يعيشوا في وطنهم سوى شهور معدودة كل عام. ما هو احساسهم بهذا الوطن؟ و هل يشتاقون له و يحنون للعودة إلى ترابه؟ ام أنه مجرد خانة في جواز السفر؟

غزت هذه الأفكار رأسي هذا الصباح عندما أتت ابنتي الكبرى و همست في أذني " سيتقدم لي عريس من العمل يا ماما و لكنه من جنسية أخرى, هل ستقابلونه؟"
نظرت إليها ملياً و لمحت ألماً في عينيها أعرف مصدره تماماً.. فقد رفضنا أكثر من عريس تقدم لها لأنه من جنسية أخرى و لا نريدها أن تتزوج شخصاً قد يأخذها لبلده في أي لحظة و يبعدها عنا. نريده من جنسيتنا لنضمن أن يكون مآله إلينا. و لكن المشكلة بأن الاختيار صعب في هذه الغربة فعدد الشبان من جنسيتنا محدود جداً و ليسوا جميعهم بالأخلاق التي نرضاها.
لم أعلق على سؤالها و اكتفيت بالأيماء برأسي بأننا سنقابله و أسررت في نفسي بأن والدها لن يعجبه هذا العريس أيضاً.
الزواج في الغربة بحد ذاته مغامرة كبيرة. فالاختيار صعب في ظل قلة الشبان العرب أساساً و شح الشبان من جنسيتنا. و بسبب هذا الاختيار المحدود يجد العرب أنفسهم مرغمون على القبول بصفات قد لا يقبلونها لو كانوا في بلدهم و من هنا تنبثق مشاكل عدة. فتجد الفتاة نفسها زوجة لرجل أقل بكثير من أحلامها فقط لأنه عربي و مسلم و يعيش في نفس بلد الاغتراب و قد ينتهي الوضع بطلاق مرير و تشرد أبنائهما.
أما المحظوظات ممن استطعن أن يتزوجن في أوطانهن في إحدى العطلات, فتبرز لديهن مشاكل مختلفة. فاختلاف البيئة يؤثر جذرياً على علاقتهن بأزواجهن و قد يكن تربين في بيئة متحررة الأفكار و يصدمن بأفكار متزمتة أو العكس.
و قد يجدن صعوبة في التأقلم مع عادات وطنهن بعدما قضين كل عمرهن في بلد الاغتراب.
هذا عدا عن صائدو الجوائز الذين يتصيدن بنات الغربة للفوز بجنسية بلد الاغتراب أو للهرب إلى بلد آخر و الفوز هذه المرة بعمل و دعم من أهل الزوجة.
في كلا الحالتين الاختيار صعب جداً و الخوف كبير. لا أستطيع أن أرمي ابنتي لأي طالب و أغامر بحياتها و سعادتها و أنا أرى بنات صديقاتي يعانين من التعجل بقرار الزواج في الغربة.
لا بد من التروي و دراسة كل الاحتمالات حتى لا أظلمها و لا أشعر بأنني أنا من ضيعها.
و للحديث بقية…

و القصة ليست قصتي و لكنها أحداث أعايشها من حولي
و لا زال لدي الكثير من الشجون فانتظروني